يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } (1) والتحريف قد فسر بتحريف التأويل ، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة ، وبتحريف التنزيل، وقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم { وكلم الله موسى تكليماً } (2).
9.الغلو في المخلوقين: قال الله تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته } (3) ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين وقع فيه طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيراً منهم ما هو أقبح من قول النصارى.
ح .طاعة المخلوقين في مخالفة أحكام الله : قال الله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } (4) فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم في ذلك(5)وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال.
خ.الرهبانية: قال الله تعالى: { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } (1) وقد ابتلي طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم.
10/د - بناء المساجد على القبور: قال الله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } (2)ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم حتى في وقت مفارقته الدنيا(3).(105/4)
ذ - التدين بالأصوات المطربة والصور الجميلة : فإن الضالين عامة دينهم يقوم بذلك فلا يهتمون في دينهم بأكثر من تلحين الأصوات ثم تجد هذه الأمة ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد والصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
ر- تضليل كل طائفة للأخرى: قال الله تعالى: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } (4)وتجد كثيراً من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يعدهم إلا جهالاً ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، وترى كثيراً من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئاً، وأن المتمسك بهما منقطع عن الله عز وجل، والصواب أن ما جاء به
الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل.
وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة ما لا يخفى على عليم بالإسلام وما حدث فيه.
1- 1- الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك، وبين هذه الأمور الباطنة والظاهرة ارتباط ولابد، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والأحوال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم .. فكان من الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة، لأمور منها:
أ - أ - أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.(105/5)
ب - ب - أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة تقتضي الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال .. ومتى كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام.. كان إحساسه بمفارقة اليهود
والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ج - أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. هذا إذا لم يكن الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم.
12 12 - لأمر بموافقة قوم في شيء: إما أن يكون من أجل أن ذلك الشيء مصلحة في نفسه، وإما أن يكون من أجل أن قصد موافقتهم فيه مصلحة، وإن لم يكن في الشيء نفسه مصلحة.
13 13 - الأول مقصود في نفسه والتعبير عنه بالموافقة من باب الدلالة والتعريف بمعنى أن موافقتهم فيه دليل على المصلحة.
والثاني مقصود لغيره فإننا نعلم انتفاعنا بنفس متابعتنا للرسول صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما لا يكون لنا فيها منفعة، لكن متابعتنا لهم فيها تورث محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وتدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى.
وقد يكون الأمر بالموافقة من أجل الأمرين جميعاً مصلحة الشيء في نفسه، ومصلحة قصد اتباعهم فيه وهذا هو الغالب على ما أمر بالموافقة فيه.
والأمر بمخالفة قوم في شيء له نفس التقسيم السابق فإننا قد نتضرر بموافقة الكافرين في أعمال لولا أنهم فعلوها لم يكن علينا ضرر بها.(105/6)
14-قال الله تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } (1) وقد دخل في ( الذين لا يعلمون ) كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوون وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو بذلوا مالاً عظيماً ليحصل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها.
19- المعروف: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح،
والمنكر: اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه.
20- 20- الزكاة: وإن كانت قد صارت حقيقة عرفية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي.
الصلاة: تعم المفروضة والتطوع، وقد يدخل فيها كل ذكر لله تعالى قلت : بناء على أنها من الصلة، وكل ذكر لله تعالى فهو صلة به قال ابن مسعود: "ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة".
21- 21- وقد قيل: إن قوله: { ولهم عذاب مقيم } (1) إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية: غماً وحزناً وقسوة وظلمة قلب وجهلاً، فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم، ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك.
25- 25- فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به كالبدع ونحوها، وإما أن يقع بالعمل بخلاف الاعتقاد الحق كفسق الأعمال ونحوها.
36- 36- والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان:
*أحدهما:يذم الطائفتين جميعاً كما في قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين .إلا من رحم ربك } (2).(105/7)
37- 37- وهذا الاختلاف يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو ونحو ذلك، وتارة جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما اآأخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق.
الاختلاف (3)في الأصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد، واختلاف التنوع على وجوه:
أ- أن يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً كاختلاف القراءات وصفة الأذان والإقامة وغيرها مما شرع جميعه، وإن كان قد يقال : إن بعض أنواعه أفضل، ثم نجد لكثير من الأمة من الاختلاف مما أوجب اقتتال طوائف منهم وهذا عين المحرم، ومن لم يبلغ مبلغ الاقتتال فإن في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
38/ب - أن يكون كل واحد من القولين هو معنى القول الآخر لكن اختلفا في العبارة: كالاختلاف في ألفاظ المدود والتعريفات ونحوها ولكن الجهل والظلم يحمل إحدى الطائفتين على ذم الأخرى.
22/ج - أن يكون كل واحد من القولين غير الآخر في المعنى لكن لا ينافيه ثم يحصل الاختلاف و النزاع الكثير.
38/د - أن تكون طريقتان كلتاهما مشروعة حسنة في الدين لكن سلك رجل أو قوم طريقة وسلك رجل أو قوم الطريقة الأخرى ثم يحصل الاختلاف والنزاع.
والجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية.
39- 39- وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى فيه على الآخر وفي (ص40) أن أكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الاختلاف بين الأمة وإلى العداوة والبغضاء وسفك الدماء واستباحة الأموال من هذا القسم.(105/8)
38- أما اختلاف التضاد فهو أن يكون كل واحد من القولين منافياً للآخر.. فهذا الخطب فيه أشد، فإنك تجد كثيراً من هؤلاء المتنازعين يكون في قول منازعه حق وباطل فيرد القول كله، فيصير مبطلاً في
بعض رده كما كان منازعه مبطلاً في بعض قوله كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، ولكثير من الفقهاء في مسائل الفقه، أما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر.
39 - القسم الثاني من الاختلاف الذي ذكره في القرآن فهو ما حمدت فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذمت الأخرى كما في قوله تعالى : { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } (1) .
41- ثم الاختلاف قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( يعني السابق في الأصل ( ص 35) حين سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بخلافها فأخذ بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فعرف في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا )(2).
وقد يكون الاختلاف في التأويل وفي (ص43) وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه.
44- فعلم أن مشابهة هذه الأمة لليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمّه الله ورسوله، ولا يقال : فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه ؟
*( والجواب) أن الكتاب والسنة أيضاً قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة وتثبيتها وزيادة إيمانها، وأيضاً لو فرض أن الناس وقعوا في هذه المشابهة لكان فائدة النهي عنها العلم بكراهة الله لها والإيمان بذلك،
وهذا خير وإن لم يعمل به وفي (ص45) فإن الرجل قد يستغفر من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه أو تقلل منه أو تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر.(105/9)
45- ثم لو فرض أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر فليس هذا مانعاً من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول كثير من أهل العلم، ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله (1). وليس هذا من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر أخبر الصادق بوقوعه.
50-والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع ما من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات، فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً قال: مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } (2) ألا اتخذت ولياً ؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه.
قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله (1).
51- الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم ، فلابد أن يكون ما منه الاشتقاق أمراً مطلوباً وذلك لوجوه:
51/أ - أن الأمر إذا تعلق باسم مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة الحكم كما في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } (2)فعلة القتل الشرك، لأن المشركين اسم مشتق منه.
51/ ب - أن جميع الأفعال مشتقة فإذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمراً مطلوباً للآمر كما في قوله تعالى: { وأحسنوا } (3) فالإحسان أمر مطلوب للآمر.(105/10)
55/ج - أن العدول عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه في المعنى لابد أن يكون له فائدة : كالعدول عن لفظ: فاصبغوا إلى فخالفوهم وإلا لكان مطابقة اللفظ الخاص أولى من إطلاق لفظ عام يراد به الخاص.
55/د- أن العلم بالعام يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام يوجب قصد المعنى الخاص فإذا علمت الأمر بمخالفة الكفار وعلمت أنهم لا يصبغون علمت الأمر بالصبغ لدخوله في المعنى العام وهو المخالفة.
56/هـ - أنه رتب الحكم على الوصف بالفاء ( فخالفوهم ) فدل على أنه علة الحكم، يوضحه أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا اكتفى بقوله اصبغوا.
وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فإنه لا ينفي أن يكون في نفس المخالفة مصلحة مقصودة مع مصلحة مخالفتهم وذلك أن هنا شيئين:
· · أحدهما: أن نفس مخالفتهم مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما فيها من المجانبة والمباعدة التي توجب النفور من أعمال أهل الجحيم، ولا يظهر شيء من هذه المصلحة إلا لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.
· · الثاني : أن نفس ما هم عليه من المنهج والخلق قد يكون ضاراً أو منقصاً فيُنهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من النفع والكمال فليس شيء من أمورهم إلا وهو ضار أو ناقص.. ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط.
57 57- تى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون ضاراً بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيها صلاح لنا.(105/11)
57 57 - الكفر مرض القلب ومتى كان القلب مريضاً لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض في ذلك العضو فإنه يكفيك أن تعلم أن فساد الأصل لابد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، ومن في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته.
52 - (1) فإن قيل : الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه، بل تكفي فيه المخالفة بأمر ما قلت : هذا سؤال يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها، ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين:
· · أحدهما: أن المخالفة ونحوها قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه، فإن العموم ثلاثة أقسام:
1- 1- عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه في الأعيان والأفعال والصفات مثل: الوجه فإنه عام لأجزائه من العينين والخدين والفم والأنف ولا يصدق اسم الوجه على واحد منها، ومثل إذا قيل : أكرم زيداً فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلاً لأن الإكرام المطلق يقتضي أن لا يسوءه بشيء وإذا قيل : خالفوهم فإن المخالفة المطلقة تقتضي أن لا يوافقهم في شيء.
54-2- عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده مثل (المسلمين) فإن فرده وهو مسلم يصدق على كل واحد من المسلمين.
3- عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه الاسم العام على أفراده مثل قوله تعالى: { والله خلق كل دابة من ماء } (2) فإن الدابة والماء يصدقان على كل فرد من أفراد الدواب والماء وقد مثل له المؤلف
بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مسلم بكافر"(1) فإنه يعم جميع أنواع القتل والمسلم والكافر.(105/12)
· · الوجه الثاني: العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة وإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة.
55- فإن قيل : هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وقصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخافة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه.
قلنا: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلاً في كل فرد من أفراده، ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي.
58- وإذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن يُنهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرماً بخلاف الأول.
62- ثم المخالفة تارة تكون في أصل الحكم وتارة تكون في وصفه فمجانبة الحائض مثلاً مخالفة في الوصف لا في الحكم.
64- ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك فنهي عن السجود لله بين يدي الرجل، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله.
66- ونهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها.
67- الحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة، فلابد أن يكون غيرها
ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها، أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال.
70- لكن ليس كل من قامت به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة"(1) وبين كفر منكر في الإثبات مثل: " اثنتان في الناس هما بهم كفر "(2).
72- وعن سراقة بن مالك قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم " رواه أبو داود (3)، وروى أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي تردى فهو ينزع بذنبه " (4).(105/13)
72- الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره ألا ترى إلى ما رواه أبو داود عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً فضربت رجلاً من المشركين فقلت : خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلا قلت : خذها وأنا الغلام الأنصاري"(5).
76- ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية بخلاف الشهر الحرام.
77- إذا قال خلاف الحق عالماً بالحق أو غير عالم فهو جاهل، وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحق وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلابد من غفلة القلب عنه أو ضعفه عن مقاومة ما يعارضه.
79- وقوله في الحديث: ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو غيرها فإن جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
82- ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم.
ذكر ما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم " (1)وذكر إسناده ثم قال : وهذا إسناد جيد، وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } (2). فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر.
83- والتشبه يعم من فعل الشيء لأنهم فعلوه، وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير،(105/14)
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة.
84- قال حرب الكرماني: قلت لأحمد: هذه النعال الغلاظ قال: " هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس " (1) وكأنه كره أن يمشي بها في الأزقة، وفي رواية المر وذي: قال: وأما من أراد الزينة فلا، ورأى على باب المخرج نعلاً سندياً فقال: تتشبه بأولاد الملوك؟
87- وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تكون بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضاً في صومهم وعبادتهم، ولكنهم بدلوا قلت: ويؤيده قوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } (2)والناس كلمة عامة وقوله تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } (3) وقوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } (4) وقد أجمعوا على أن المراد الأشهر الهلالية.
89- فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون، إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة ذلك، أو يكون تركه حسماً لمادة ما عذبوا عليه، لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع، كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع.(105/15)
93- وما ذكره أنس من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة، فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والاعتدال عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في غالب الأوقات، ولعل أكثر الأئمة أو كثيراً منهم كانوا يفعلون كذلك.
94-95 وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه في تمام. كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر رضي الله عنه متقاربة، فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الفجر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قام حتى نقول: قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم" (1).. فجمع أنس في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وإتمامها.. فيشبه والله أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام، والإتمام إلى الركوع والسجود.. فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تكون الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها.
97- ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن ، فإنه صلى الله عليه وسلم: ( قرأ في المغرب بطولى الطوليين)، وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما في بكاء الصبي ونحوه.(105/16)
99- ذكر أن التخفيف قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وأمره ثم قال: وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات، والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافاً متبايناً لا ضبط له ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالف لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله، حيث قال : صلوا كما رأيتموني أصلي.
ولم يقل : كما يسميه أهل أرضكم خفيفاً أو كما يعتادونه وما أعلم أحداً من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص.
102- وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بأواسط المفصل
ويقرأ في الصبح بطوال المفصل(1). رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم.(105/17)
103- وأما ما في حديث أنس رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " (2) ففيه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع، والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وفيه تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله ، إما بالشرع وإما بالقدر فأما الشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم ( يعني بسبب أسئلة من الناس أو فعل منهم ) وأما القدر فكثيراً ما رأينا وسمعنا من يتنطع في أشياء فيُبتلى بأسباب تشدد الأمور عليه مثل كثير من الموسوسين في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة.
105- وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير قصد معين فليست من عمل هذه الأمة، ولهذا قال الإمام أحمد: "ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين".
والغرض بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء.
106- ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا عن مشابهة من كان قبلنا أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وإن كثيراً من ذوي الرأي والسياسة، قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة.(105/18)
109- ثم من المعلوم ما ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة.
111- تحت سياق فوائد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة(1) قال: فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات، ولا يدخل فيه ما كانوا عليه من الجاهلية وأقره الله تعالى في الإسلام كالمناسك والدية والقسامة، لأن أمر الجاهلية معناه المفهوم منه ما كانوا عليه مما لا يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه.
113- نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالظفر معللاً بأنها مُدى الحبشة، كما علل السن بأنه عظم، فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بهما يشبه الخنق أو هو مظنته والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح
بهما إذا كانا منزوعين والجمهور منعوا من ذلك مطلقاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهما مما أنهر الدم، ولأن العلة التي ذكروها مخالفة لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه في الحديث.
116- فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين، كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم، ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين.
118- وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال: إن أصله مأخوذ عن موسى عليه الصلاة والسلام، وإنه كان يضرب بالبوق في عهده، وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم.(105/19)
120- وفي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: " كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد يا عتبة: إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، وقال: إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما " (1).
121- شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره من الأئمة على أهل الذمة فيما شرطه أهل الذمة على أنفسهم ( أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا
نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كان وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صليباً ولا كتباً من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين) (1)رواه حرب بإسناد جيد، وفي رواية أخرى رواها الخلال زيادة ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج باعثاً، (والبعوث أن يخرجوا مجتمعين كما نخرج يوم الأضحى والفطر) ولا شعانينا وأن لا نجاوزهم (أي المسلمين بالجنائز) ولا نبيع الخمور ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم.(105/20)
122- وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة وهي أصناف، فمنها ما مقصوده التميز عن المسلمين في الشعور واللباس والأسماء والمراكب ونحوها، ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر، ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز بل بالتمييز في عامة الهدى على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع. وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهراً.
123-وروى أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر رضي الله عنه كتب أن لا تكاتبوا أهل الذمة فيجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم .. وروى أيضاً بإسناده: دخل ناس من بني تغلب قال : أو لستم من أواسط العرب؟ قالوا : نحن نصارى قال : علي بجلم – والجلم المقص – فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق من رداء كل واحد شبراً يحتزم به ، وقال : لا تركبوا السروج واركبوا على الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد.
124- ومن الشروط ما يعود بإخفاء منكرات دينهم كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس والنيران والأعياد ونحو ذلك.
ومنها ما يعود بإخفاء شعائر دينهم كأصواتهم بكتابهم. فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعده ومن وفقه الله من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا بدار الإسلام شيئاً مما يختصون به مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم.
ومنها ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى.
ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها هو نوع من إكرامهم فإنهم يفرحون بذلك ويسرون به.(105/21)
124- في قصة المرأة التي سألت أبا بكر رضي الله عنه قالت : " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت عليه أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومكم
رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم ؟ قالت : بلى قال : فهم أولئك على الناس" (1)رواه البخاري في صحيحه.
125- كل ما اتخذ من عبادة مما كان عليه أهل الجاهلية ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام، وإن لم ينوه عنه بعينه كالمكاء والتصدية فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام بخلاف السعي بين الصفا والمروة وغيره من شعائر الحج فإن ذلك من شعائر الله، وإن كان أهل الجاهلية قد يفعلون ذلك في الجملة قلت: وبهذا علم أن ما اتخذه الكفار عبادة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما نوه الله بذمه أو رسوله كالمكاء والتصدية فأمره واضح. الثاني: ما ثبت كونه من شعائر الله كالسعي بين الصفا والمروة فهو من شرع الله ولا يبطله تعبد الكفار به. الثالث: ما لم يكن من القسمين فيلحق بالقسم الأول المنهي عنه لما فيه من مشابهة الكفار.
126- وروى الإمام أحمد في المسند (2)( وذكر السند ) عن عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ ( يعني في المسجد الأقصى) قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر : ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة فصلى.. فعمر رضي الله عنه عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة لمشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها، وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية، فإنه رضي(105/22)
الله عنه هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غرباً فلم يفر عبقري فريه حتى صدر الناس بعطن، فأعز الله به الإسلام وأذل الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف، ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عٌرا الإسلام مطيعاً في ذلك لله ورسوله .. مشاوراً في أموره السابقين الأولين .. حتى إن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه، وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على أمر الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله .. في خصوص أعياد الكفار من النهي عن الدخول عليهم فيها وعن تعلم رطانة الأعاجم ما يتبين به ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم.
129- هل عمل الراوي بخلاف روايته يقدح في روايته؟ المشهور عن أحمد وأكثر العلماء لا يقدح لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث(1).
131- وأما ما في الحديث من النهي عن تغطية الفم فقد علله بعضهم بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها، فعلى هذا تظهر مناسبة الجمع بين النهي عن السدل وعن تغطية الفم بما في كل منهما من مشابهة الكفار، مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين.
132- عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: دخلت مع ابن عمر مسجداً بالجحفة فنظر إلى شرفات فخرج في موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر(1).
133- وعن عبيد بن أبي الجعد قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد يعني الطاقات(2).
وما علمنا أحداً خالف ما ذكرناه عن الصحابة من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة، وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل، وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل.(105/23)
135- مما ذكره عن مذهب مالك أنه يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب ويوم السبت والأحد. وذكر كراهته للقيام للرجل وأنه ليس من فعل الإسلام.
136- وبالغ طائفة منهم أي الشافعية فنهوا عن التشبه بأهل البدع مما كان شعاراً لهم، وإن كان في الأصل مسنوناً كما في تسنيم القبور، فإن الأفضل تسطحبها عندهم فقالوا : ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات
لأن شعار الرافضة اليوم تسطيحها، ففي تسطيحها تشبه بهم فيما هو شعار لهم وقالت طائفة: بل نسطحها حتى لا يكون التسطيح شعاراً للرافضة قلت: وهذه المبالغة من بعض أصحاب الشافعي فيها نظر فالصواب أن لا تترك السنة من أجل أن بعض أهل البدع أو أهل الكفر عملوا بها لأن مصلحة العمل بها باقية وإن عمل بها هؤلاء.
137- وكره أي الإمام أحمد تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية وعد الفقهاء من أصحابه وغيرهم من اللباس المكروه ما خالف زي العرب وأشبه زي الأعاجم وعادتهم.
138- وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام، وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة لتعارض الأدلة فيها أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة.
139- ومثل هذا هل يجعل قولاً له أي للإمام أحمد إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة؟ في ذلك لأصحابه وجهان: أحدهما: نعم لأنه لولا موافقته له لكان قد أجابه بغيره، لأنه إنما سأله عن قوله ولم يسأله أن يحكي له مذاهب الناس.
الثاني: لا لأنه إنما حكاه فقط، ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة.
142- وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: والأعراب تقول : هي العشاء(1) ، ولمسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا(105/24)
يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء،فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل(1)
واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقاً يجب اعتباره، وذلك أن نفس الكفر والشيطنة مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء وأهل إيمان وبر وكذلك العجم وهم من سوى العرب ينقسمون إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر.
145- ذكر الأحاديث الواردة في فضل بعض الفرس وما يشهد له من الواقع، وأن في بقية العجم من الحبشة والترك وغيرهم من هوسابق في العلم والدين ثم قال: وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل وذلك أن الله سبحانه جعل سُكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب، مالا يقتضيه سُكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام ما لا يكون في القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى.
147- والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية
أفضل من أكثر الحاضرة مثلاً، ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه.
148- والذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم وأن قريشاً أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم .. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل، وبهذا ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفساً ونسباً وإلا لزم الدور.(105/25)
149- وذهبت فرقة من الناس إلى أنه لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل : القبائل للعرب والشعوب للعجم، ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب، والغالب أن هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق، إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك.
152- لما ذكر الأحاديث الواردة في فضل العرب قال: وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب.
154- وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلوم أن ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب.
155- ذكر حديثين: أحدهما: " فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم " (1) الثاني: " يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت : يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال : تبغض العرب فتبغضني " (2).. ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيهاً لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله تعالى من أن الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا.
156- وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر.
157- وكان أحمد – رحمه الله – على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث رجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين "(3).
158- "أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي" (4) قال السلفي : حديث حسن فما أدري أراد حسن إسناده على
طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج ابن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات.(105/26)
160- وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع أو العمل الصالح، والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم وله تمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة ( ثم ذكر كلاماً حاصله أن العرب في ذلك أقوى من غيرهم ) ثم قال: وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم.. لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ولا هم مشتغلون أيضاً ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو الحروب، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل أعظم قدراً منه .. فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزله الله إليهم.
162- فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم، قلت: ظاهره أن التابعين لهم بإحسان أفضل حتى ممن صحبوا أنبياءهم من الأمم، وفي النفس من ذلك شيء فإن الظاهر أن أصحاب الأنبياء الذين أدركوهم أفضل ممن بعد
الصحابة في هذه الأمة، وإن كان التابعون من هذه الأمة من حيث كمال الدين أفضل ممن صحبوا الأنبياء السابقين، فإن أصحاب الأنبياء قاموا بما كلفوا به من الكمال في أديانهم مع صحبة أنبيائهم. والله أعلم.(105/27)
فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما كان عليه الأعاجم الكفار قديماً وحديثاً، وما كان عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها.
وأيضاً فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب والحكمة باللسان العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين واعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم.
163- العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله ويكرهه، ولذا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة، فحاصله أن النهي عن التشبه بهم إنما كان لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم.
164- وإنما يتم الكلام بأمرين: أحدهما : أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه الخير ويتحراه جهده وليس غرضه أن يفتخر على أحد ولا الغمط من أحد.
165- الثاني: أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه واسم العرب في الأصل كان اسماً لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف:
1. 1. أن لسانهم كان باللغة العربية.
2. 2. أنهم كانوا من أولاد العرب.
3. 3. أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام.(105/28)
169- فإن قيل:ما ذكرتموه من الأدلة(يعني القاضية بالنهي عن مشابهتهم ) معارض بما يدل على خلافه ، وذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه لقوله تعالى: { فبهداهم اقتده } (1)، وبحديث عاشوراء الذي كان يصومه اليهود فصامه النبي صلى الله عليه وسلم (2)، وبحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء متفق عليه.
172- قيل: أما المعارضة بالأول فهو مبني على مقدمتين كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم: إحداهما: أن يثبت بنقل موثوق به أن ذلك شرع لهم فأما مجرد الرجوع إلى قولهم أو ما في كتبهم فلا يجوز بالاتفاق.
الثانية : أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك فإن كان فيه بيان خاص بالموافقة أو المخالفة استغني به.
173- وأما صيام عاشوراء فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخبار اليهود وكانت قريش تصومه.
174- وأما الجواب عن كونه يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فمن وجوه:
1- 1- أحدها أنه منسوخ ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ، وسببه أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع لهم المخالفة، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدى الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب أو يجب للرجل أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.(105/29)
177-2- الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه الله تعالى أما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئاً من الدين عنهم.
3- الوجه الثالث: أن نقول بموجبه : كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه.
177- والكلام إنما هو في أننا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه أما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه فإنا لا نترك ما أمر الله به من أجل أن الكفار تفعله، قلت: ومن ذلك ما يبرر به كثير من حالقي لحاهم فعلهم بأن الكفار أو كثيراً منهم الآن يعفون لحاهم فإذا أعفيناها كنا متشبهين بهم هكذا يقولون وجوابهم أن إعفاء اللحية مما أمر الله ورسوله به فلا نتركه من أجل أن الكفار يفعلونه.
177- وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله به ورسوله من مخالفتهم مشروع سواء كان الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أم لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أم لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب.
178- أعمالهم يعني الكفار ثلاثة أقسام: قسم مشروع في ديننا مع كونه مشروعاً لهم أو لا نعلم أنه مشروع لكنهم يفعلونه الآن.. وقسم كان مشروعاً ثم نسخه شرع القرآن. وقسم لم يكن مشروعاً بحال لكنهم أحدثوه. وهذه الأقسام إما تكون في العبادات المحضة أو في العادات المحضة وهي الآداب أو تجمع العبادات والعادات، فأما القسم الأول وهو ما كان مشروعاً في الشريعتين أو ما كان مشروعاً لنا وهم يفعلونه: فمثل صيام عاشوراء ودفن الموتى والصلاة في النعلين فالمخالفة في هذا القسم تكون في صفة ذلك العمل.(105/30)
179- القسم الثاني: ما كان مشروعاً ثم نسخ بالكلية كالسبت، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجباً عليهم فيكون عبادة، أو محرماً عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك أو مركباً من العبادات والعادات كالأعياد فإن العيد المشروع يجمع عبادة وعادة، فإنه يشرع فيها وجوباً أو استحباباً من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ مالا يكون في غيرها، ولهذا وجب فطر يوم العيدين. فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كليهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع في الأصل، ولهذا كانت موافقتهم في هذا محرمة وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة.
179- القسم الثالث: ما لم يكن مشروعاً ولكن أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح.
182- وبإسناده يعني أبا الشيخ الأصفهاني عن عطاء بن يسار قال : قال عمر : [ إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم ] .
189- فإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهياً عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم.
العيد: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك.
192- وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم منع أمته منعاً قوياً من أعياد الكفار وسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل.
202- قال حرب: قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة، وروي عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذر ماه وذى ماه. قال : وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل آذار ماه وذي ماه قال : إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو.(105/31)
وكراهة أحمد لهذه الأسماء لها وجهان: أحدهما: أنه إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرماً فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه. والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.
204- بعد أن ذكر التفصيل في حكم ترجمة الأذكار في الصلاة وغيرها قال: وأما الخطاب بها أي بغير العربية من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضاً فإنه كره آذار ماه ومعناه ليس محرماً.
206- وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً أو قد اعتاد العجمية يريدون تقريب الإفهام عليه. . وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه.
210- الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإن اليهود والنصارى حرفوا الشرائع.
211- وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله.
212- كل ما عظم بالباطل من زمان أو مكان أو حجر أو شجر أوبنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار.(105/32)
215- وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة إلى هذه القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله تعالى من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية أو قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة اليهودية والنصرانية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله تعالى والتدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك.
216- المشابهة يعني مشابهة الكفار تفضي إلى كفر أو معصية غالباً أو تفضي إليهما في الجملة، وليس في هذا المفضي مصلحة وما أفضى إلى ذلك كان محرماً.
217- فالعبد إذا أخذ منه غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم به دينه
ويكمل إسلامه، وذكر لذلك أمثلة ثم قال: ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها). رواه أحمد. ذكر وجوه تحريم مشابهة الكفار من حيث النظر والاعتبار ( ص 207-222) ونحن نذكرها مجملة:
207- الوجه الأول: أن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج التي قال الله تعالى فيها: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } (1) فلا فرق بين مشاركتهم في العيد ومشاركتهم في سائر المناهج.
208- الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله، لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ فأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس.
209- الوجه الثالث: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة بل عيداً فيضاهى بعيد الله بل يزيد عليه.(105/33)
216- الوجه الرابع: أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم وقد شرع الله على لسان خاتم النبيين ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه.. فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره. ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه.
219- الوجه الخامس: أن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل .. وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء.
219- الوجه السادس: أن ما يفعلونه في أعيادهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، والتمييز بين هذا وهذا قد يخفى على كثير من العامة.
219- الوجه السابع: أن الله جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المساوقة والتدريج الخفي.
221- الوجه الثامن: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان(1).
223- ليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمون من الزمان والمكان الذي لا أصل له في الإسلام داخل في ذلك.(105/34)
227- وكما لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل يُنهى عن ذلك التشبه.. ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان به على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد .. وكذلك لا يُهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم.
ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلم على مشابهتهم في العيد من الطعام وغيره لأن في ذلك إعانة على المنكرات.
فأما مبايعتهم ما يستعينون على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها فكلام أحمد في الشراء منهم من غير دخول كنائسهم يدل على الجواز، أما في البيع فمحتمل هذا خلاصة ما نقله الشيخ عنه ثم قال: وقد كان المسلمون يشهدون أسواقاً في الجاهلية وشهد بعضها النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام .. وأما حمل التجارة إلى أرض الحرب ففيه روايتان منصوصتان وأكثر نصوصه تقتضي المنع لكن هل هو منع تنزيه أو تحريم.
232- وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاد في ثمن الدار ترى له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي قال : لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر فيها بالله يبيعها من مسلم أحب إلي فهذا نص على المنع.
236- لما ذكر اختلاف الأصحاب في الإجارة للذمي ووجه الفرق بينها وبين البيع عند من فرق بينهما وهل منع البيع والإجارة من باب التحريم أو الكراهة قال : وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو فيما إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لبيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولاً واحداً.(105/35)
237- معاصي الذمي قسمان: أحدهما: ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها الثاني: ما اقتضى منعه منها أو من إظهارها وهذا لا ريب أنه لا يجوز على أصلنا أن يؤاجر أو يبايع الذمي عليه إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك. وأما الأول فعلى ما قاله أبو موسى يكره ثم علله وقال: وعلى ما قاله القاضي لا يجوز ثم ذكر علته.
244- ذكر في هذه الصفحة وما بعدها كلاماً يفيد أن من استؤجر لحمل خمر ونحوها أنه يحرم عليه ذلك ويقضى له بالأجرة ثم تحرم عليه الأجرة لحق الله تعالى لا لحق المستأجر، فالأجرة صحيحة بالنسبة للمستأجر بمعنى أنه يجب عليه الأجرة، فاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة قال: ولهذا في الشريعة نظائر.
247- البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا تابوا هل يتصدقون بما أعطوا من أجرة أو يردونها على من أعطاهم على قولين: أصحهما يتصدقون بها وتصرف في مصالح المسلمين.
249- بيع الكفار ما يقيمون به أعيادهم كبيع العقار للسكنى حرام وبيع ما يفعلون به نفس المحرم كالصليب لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمراً وبناء الكنيسة لهم وبيع ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس فأصول أحمد تقتضي كراهته والأشبه أنها كراهة تحريم ثم علل ذلك.
259- عبادة الله تعالى بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور لو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه : باسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ممن يتقربون إلى الأولياء، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا ما يفعله بعض الجهال من الذبح للجن.
262- فأما صوم أعياد الكفار مفردة بالصوم فقد اختلف في ذلك من أجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل.(105/36)
ثم ذكر حديث " النهي عن صوم يوم السبت" (1) إلا فيما افترض وقال : لا يقال : يحمل النهي على إفراده يعني من أجل الاستثناء قال :وعلى هذا فالحديث إما شاذ غير محفوظ وإما منسوخ وفي ( ص 264) قال أبو داود: قال مالك: "هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة".
265- اختلف القائلون بكراهة إفراد صوم السبت فقيل : إنه يوم عيد لأهل الكتاب فقصده بالصوم دون غيره تعظيم له، وهذا التعليل قد
يعارض بيوم الأحد وقد يقال : إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم، ثم استدل له.
267- ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه فأعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين: المشابهة وكونها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين:
أحدهما: أنه داخل في مسمى البدع والمحدثات (1) ثم ذكر الأحاديث المحذرة من ذلك ودلالة الكتاب والسنة والإجماع على هذه القاعدة وقال:
268- من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن تبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله.
نعم قد يكون متأولاً في هذا الشرع فيغفر له إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضاً على اجتهاده لكن لا يجوز اتباعه في ذلك.
268- ويلحق الذم من يُبَين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه فلم يتبين له أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو كسل أو نحو ذلك.
269- فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. وفي العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
وهذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عظيمة.(105/37)
270- ومن الناس من يقول : البدع تنقسم إلى قسمين حسنة وقبيحة بدليل قول عمر في التراويح: " نعمت البدعة" (1) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مكروهة أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس وهؤلاء يقولون : ليس كل بدعة ضلالة ثم لهم هاهنا مقامان: أحدهما: أن يقولوا : إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح فالقبيح ما نهى عنه الشارع وما سكت عنه فليس بقبيح بل قد يكون حسناً. المقام الثاني: أن يقولوا عن بدعة سيئة هذه بدعة حسنة : لأن فيها من المصلحة كيت وكيت.
والجواب عن المقام الأول: أن القول بأن كل بدعة ضلالة هو نص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
ويقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع أو مخصوص من هذا العموم.
والمخصص هو الكتاب والسنة والإجماع نصاً أو استنباطاً وأما عادة بعض البلاد أو قول كثير من العلماء فلا يصلح أن يكون معارضاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يخصص به . . لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين.
272- وأيضاً لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم : (كل بدعة ضلالة)، على البدعة التي نهي عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة الحديث فإن ما نهي عنه قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم سواء كان بدعة أم لا وحمل
الحديث على هذا من نوع التحريف والإلحاد وفيه من المفاسد أشياء:
· · أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث.
· · الثاني: أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسماً عديم التأثير.
· · الثالث: أنه إذا لم يقصد بهذا الخطاب إلا المنهي عنه كان كتماناً لما يجب بيانه وبياناً لما لم يُقصد ظاهره وتلبيساً محضاً لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلساً.(105/38)
· · الرابع: أنه لو أريد به ما فيه نهي خاص لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحالهم في معرفة المراد به على ما لا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة وهذا لا يجوز بحال.
· · الخامس: أنه لو أريد به ما فيه نهي خاص من البدع لكان أقل مما فيه نهي خاص واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة.
274- وأما المقام الثاني/ فيقال : هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا لا يمنع أن يكون الحديث دالاً على قبح الجميع وأكثر ما يقال : إذا ثبت أن هذا حسن فهو مستثنى من العموم لدليل كذا وكذا أو يقال : إن ثبت أنه حسن فليس ببدعة فأما ما يظن أنه حسن ولم يثبت حسنه أو ما يجوز أن يكون حسناً وأن يكون غير حسن فلا يعارض به الحديث.
275- فأما صلاة التراويح فليست بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في الجماعة في أول رمضان ليلتين أو ثلاثاً وصلاها في العشر الأواخر في جماعة مرات.
276- وتسمية عمر لها بدعة تسمية لغوية لأن البدعة لغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق. والبدعة الشرعية: (كل ما لم يدل عليه دليل شرعي). فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقاً ولم يعمل به إلا بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة.
277-278- ذكر أمثلة من البدع كجمع القرآن ونفي عمر ليهود خيبر ونصارى نجران ورد العطاء من أولي الأمر وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة.(105/39)
278- والضابط في هذا والله أعلم أن يقال : إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا يرونه مصلحة فما رأوه مصلحة فلينظر إلى السبب المحوج إليه فإن كان أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم وليس لتفريط منا فقد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه . ولذلك إن كان المقتضي لفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قائماً لكن تركه لمعارض زال بموته أي فإنه يجوز فعله مثل كتابة القرآن وقيام رمضان جماعة فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً ولا معارض له في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز إحداثه مثل الأذان لصلاة العيدين. وكذلك ما أحدث بتفريط من الناس كتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون فاعتذر من أحدثه بأن الناس ينفضون قبل سماع الخطبة بخلافهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم لتبليغهم وهدايتهم ونفعهم وأنت تقصد إقامة رئاستك فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق إلى ذلك أن تتوب إلى الله تعالى وتتبع سنة نبيه،
فيستقيم الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله تعالى إلا عن عملك لا عن عملهم.
281- بين ما يحصل للأمراء والعلماء والعباد بإقامة الشرع واتباع السنة.
282- الوجه الثاني/ في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين فمن ذلك:
1- 1- أن من أحدث عملاً خص به زماناً أو مكاناً فلا بد أن يصحب ذلك اعتقاد وهذا الاعتقاد إذا لم يكن له أصل يثبت به كان مفسدة، ثم استدل لذلك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم " عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ويومها بالصيام"(1) ثم قال : ومعلوم أن مفسدة هذا العمل بالتخصيص وإلا لنهى عنه مطلقاً أو لم ينه عنه كيوم عرفة فظهر أن المفسدة تحصل من تخصيص مالا خصيصة له.
288- العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين وإما لعمل دين لغير الله تعالى والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو لغير الله لا يجوز.(105/40)
289- ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضاً باطلة ليست من دين الله تعالى.
فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل فيما جاؤوا به عن الله تعالى وتورث القلب نفاقاً، وإن كان خفيفاً. فمن تدبر هذا علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان.
290- فإن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم فعلها قوم من أولي العلم والفضل وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من رقة القلب وإجابة الدعاء ونحوه، قلنا: لا ريب أن من فعلها متأولاً مجتهداً ومقلداً كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من البدعة مغفوراً له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين لكن هذا لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه.
291- ثم يقال: إذا فعلها قوم فقد تركها قوم معتقدين كراهتها وأنكرها آخرون وهم ليسوا دون الفاعلين في الفضل ومعهم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين. وما فيها من المنفعة يعارضه مفاسد البدعة الراجحة على منفعتها فمنها:
1- 1- المفسدة الحالية أو الاعتقادية.
2- 2- أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن.
3- 3- أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالسنن والفرائض وتفتر رغبتهم فيها.
4- 4- أن المعروف يصير منكراً والمنكر معروفاً.
5- 5- اشتمالها على كثير من المكروهات في الشريعة.
6- 6- مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع.
292- العيد يكون اسماً للمكان والزمان والاجتماع: أما الزمان فثلاثة أنواع:
* أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب
وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث بعد المئة الرابعة وفيه حديث موضوع باتفاق العلماء.(105/41)
293- النوع الثاني: ما جرى فيه حادثة ولم توجب أن يكون موسماً ولم يعظمه السلف كثامن عشر ذي الحجة الذي " خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم مرجعه من حجة الوداع أوصى فيها باتباع كتاب الله وبأهل بيته" (1) .. فزاد فيه بعض أهل الأهواء وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى علي بالخلافة بالنص الجلي.. وأن الصحابة تمالؤوا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفراً قليلاً فاتخاذ ذلك اليوم عيداً محدث لا أصل له.
294- وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان.
296- عليك بأدبين: أحدهما: حرصك على اتباع السنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان.
298- فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد.. بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتعزو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإن هذا خاصة العلماء بهذا الدين.
299- فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهراً في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين.(105/42)
· · النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء فهذا قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة كما أحدث بعض أهل الأهواء فيه التعطش والتحزن والتجمع .. وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه.. وقد روي في التوسع به على العيال آثار معروفة .. والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإن هؤلاء أعدو يوم عاشوراء مأتماً فوضع أولئك آثاراً تقتضي التوسع فيه وكلاهما باطل.
301- وهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذباً وأسوأ حالاً.
302- ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان روي في فضلها أحاديث ومن السلف من يخصها بالقيام ومن العلماء من السلف وغيرهم من أنكر فضلها وطعن في الأحاديث الواردة فيها، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم على تفضيلها. فأما صوم يوم النصف مفرداً فلا أصل له، بل إفراده مكروه وكذلك اتخاذه موسماً تصنع فيه
الأطعمة. وما أحدث ليلة النصف من الاجتماع للصلاة الألفية فإن هذا الاجتماع مكروه لم يشرع.
308- فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني مثل قصد قبر من يحسن الظن به يوم عرفة للاجتماع عند قبره والسفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه.. فأما قصد الرجل مسجد بلده للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف فيه العلماء وذكر خلافهم وتعليلهم.(105/43)
312- وأما ما أحدث في الأعياد من ضرب البوقات والطبول فإن هذا مكروه في العيد وغيره … فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها من الصلاة والخطبة المشروعة والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال ثم النساء.. ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة إلى أمور أخر من غير السنة فإن الدين فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه.
312- والأعياد المكانية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا خصوص له في الشريعة فلا فضل له ولا فيه ما يوجب تفضيله فقصده أو قصد الاجتماع به لصلاة أو غيرها ضلال بين ثم إن كان فيه بعض آثار الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم كان أقبح وأقبح.
314- فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء أكانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلاً أو مغارة وقد ذكر من ( ص 316-319) أمثلة كثيرة ثم قال:
320- وأما إجابة الدعاء ( يعني لمن دعا عند هذه المشاهد) فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه أو مجرد رحمة الله تعالى له أو يكون أمراً قضاه الله تعالى لا لأجل دعائه أو يكون لأسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي.
321- النوع الثاني: ماله خصيصة لكن لا تقتضي اتخاذه عيداً ولا صلاة ونحوها من العبادات عنده مثل قبور الأنبياء والصالحين فقد نهي عن اتخاذها عيداً.
325- قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة إذ هو بيت المسلم الميت فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس ولا يتكأ عليه ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل كان حقه آكد.(105/44)
328- وهذا النهي ( يعني النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة) يعم السفر إلى المساجد والمشاهد وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب والعبادة.
336- ليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المفاسد وإنما عليه طاعتهم.
347- كانت طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يأمروا الخلق بما فيه صلاحهم وينهوهم عما فيه فسادهم ولا يشغلوهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر.
348- على أن الكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختلط عقله فيتوله إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين.
352- وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السابقون الأولون.
353- الكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة.
365- قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلم ويمضي، لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه.. ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها معظمه الصالح سواء أكانت في الشرق أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح.
366- كره مالك وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء ويسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفراً ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها فأما قصده دائماً للصلاة والسلام فما علمت أحداً رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً .. وأيضاً فإن ذلك بدعة فقد كان(105/45)
المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون ولا يأتون إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وبما نهاهم عنه وأنه يسلمون عليه عند دخول المسجد والخروج منه وفي التشهد.
367- كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره.
370- المنقول عن السلف كراهة الوقوف عند القبر للدعاء وهو أصح.
376- اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد.
378- الناس على قولين معروفين: أحدهما: أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة ونحوهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالإجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الوضع.
والثاني: أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك.
379- فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق .. ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثاراً أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي.
383- واعلم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى به.
384- ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسول بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره .. فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه من يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه.(105/46)
لما ذكر ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتتبع المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم والتي صلى فيها اتفاقاً لا قصداً فيسلكها ويصلي فيها قال:
387- لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار يعني أنه يفعل ذلك قال: والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره وفي فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإنما الأعمال بالنيات.
391- والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركاً فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن
الجمع والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها(1).
400- كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل : زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص يريد أنه أمر بزيارة قبر مخصوص أما هو بنفسه فقد زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم.
410- إذا سئل الله تعالى بما جعله سبباً للمطلوب من التقوى والأعمال الصالحة فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سبباً، وأما إذا سئل بشيء ليس سبباً للمطلوب فإما أن يكون إقساماً به عليه فلا يقسم على الله بمخلوق وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة.(105/47)
416- قد يراد بالخطاب والنداء استحضار المنادى بالقلب فيخاطب لشهوده بالقلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.
421- يفرق بين قول القائل : ( الصفات غير الذات ) وقوله: ( صفات الله غير الله ) فإن الثاني باطل لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال : صفات الله الزائدة عليه وإن قيل : الصفات زائدة على الذات.
422- التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم وإما بدعائهم وشفاعتهم أما مجرد دعاء الداعي وتوسله بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له فلا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى.
423- الكلام هنا في ثلاث مسائل:
· · الأولى: أن يتأسى به ( أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ) في صورة الفعل الذي فعله من غير أن يعلم قصده فيه أو مع عدم السبب الذي فعله من أجله ففيه نزاع مشهور، وابن عمر رضي الله عنهما مع الآخذين بالتأسي به فيه.
· · الثانية: أن يتحرى تلك البقعة ليصلي عندها من غير أن يكون وقتاً لصلاة بل ينشىء الصلاة لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره.
· · الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها أويسافر إليها سفراً طويلاً أو قصيراً كمن يذهب إلى جبل حراء أو ثور أو الطور ليصلي فيه أو يدعو، فهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه يفعلونه، وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم في حراء كان قبل المبعث أما بعده فلم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إليه.. فمن جعل قصد ذلك عبادة فقد اتبع غير سبيلهم وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
429- المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه.(105/48)
430- لما ذكر السفر للمساجد الثلاثة قال: وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم.
433- وليس في المدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء.
433-435- كلام جيد عن بيت المقدس وصخرته.
436- كلام عن كعب الأحبار وفضائل الشام.
437- عن الحديث المرسل والمعلق وما يروى عن أهل الكتاب.
438- أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان .. أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه.
454- لفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص.
459- غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل العبادة والإرادة، فطائفة ظنت أن التوحيد نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضاً وسموا أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات وموجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح المعقول الموافق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان.
460- وطائفة ظنوا أن التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خلق كل شيء .. وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع .. ولم يعلموا أن مشركي العرب كانوا يقرون بهذا التوحيد.. ولا يخلص بمجرده من الإشراك الذي هو أكبر الكبائر.
461- والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال.
وطائفة ممن تكلم في التوحيد على طريقة أهل التصوف ظنوا أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد.(105/49)
463- أولئك المبتدعون الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر، إذا حققوا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد... الذين يقول عرافهم: السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية أي نظراً إلى الأمر ثم يرى طاعة بلا معصية أي نظراً إلى القدر ثم لا طاعة ولا معصية أي نظراً إلى أن الوجود واحد ولا يفرق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود.. مع العلم الضروري أنه ليس عين وجود هذا الإنسان هو عين وجود هذا الفرس.. لكن بينهما قدر مشترك تشابها فيه قد يسمى كلياً مطلقاً وقدراً مشتركاً ونحو ذلك.
465- والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية فجاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، يقولون : ليس كذا ليس كذا ليس كذا، فإذا أرادوا إثباته قالوا: وجود مطلق بشرط النفي أو بشرط الإطلاق، وهم يقرون في منطقهم اليوناني أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج.
466- وأما الرسل فطريقتهم طريقة القرآن قال الله تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين } (1).
467- فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والإيمان وليتخذ الله هادياً ونصيراً وحاكماً وولياً فإنه نعم المولى ونعم النصير وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وإلى هنا انتهى ما أردنا نقله من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) متحرين نقل كلامه بلفظه غالباً وربما سقناه بالمعنى أسأل الله تعالى أن يجعل فيما نقلناه بركة وأن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفقنا والمسلمين لما فيه الخير والصلاح، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(105/50)
تم نقله يوم الاثنين الموافق للثامن والعشرين
من شهر الله المحرم سنة 1400 أربعمائة وألف
مجموع فتاوى و رسائل - 7
الإخلاص
محمد بن صالح العثيمين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } (1) { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (2).
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } . (3)
أما بعد: أيها الإخوة فإننا في هذا المكان مسجد قباء الذي هو كما وصفه الله بقوله: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } (4).
هذا المسجد، الذي قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : { أحق أن تقوم فيه } هذا المسجد الذي ينبغي لكل من أتى إلى المدينة أن يخرج إليه متطهراً من بيته ويصلي فيه ركعتين وما تيسر.(105/51)
هذا المسجد الذي قام من قام من المنافقين، وأشباه المنافقين من أجل أن يقيموا مسجداً آخر يكون مضاراً له { اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون } (1) إنه يجب علينا أن نتأمل كيف وبخ الله غاية التوبيخ الذين اتخذوا مكاناً من أجل أن يفرقوا بين المؤمنين وأن يضاروا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؟ ولأجل أن يكون ذلك إرصاداً لمن حارب الله ورسوله إذا كان هذا توبيخ الله عز وجل لمن اتخذوا مكاناً يكون مشتملاً على هذه الأوصاف فما بالكم بمن اتخذوا أفكاراً وآراء يضادون بها العقيدة السليمة الصحيحة التي تلقاها السلف الصالح عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ رحيقاً زلالاً صافياً حتى ابتدعوا في دين الله تعالى ما ليس منه وصاروا يجلبون الناس حولهم من أجل أن يصدوهم عن الصراط المستقيم فإذا كان هذا توبيخ الله عز وجل لمن اتخذوا مكاناً في الأرض فما بالكم بمن حاولوا أن يتخذوا مكاناً في القلوب؟ لذلك أدعو جميع المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين أن يتحدوا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الكلمة لا يمكن تحقيقها، ولا يصدق من ادعى تحقيقها حتى يأتي بالبرهان، وهو الإخلاص التام لله عز وجل لا يشرك بعبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا من دونهم بل يخلص العبادة لله عز وجل ومن أعظم العبادة الدعاء فإن الدعاء من العبادة يقول الله عز وجل: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (2).(105/52)
وإننا مع الأسف نرى كثيراً من المسلمين اليوم لم يحققوا هذا الإخلاص لم يحققوا هذه الشهادة التي يقولونها بألسنتهم ويطلقون بها في كل مكان كلهم يقولون : أشهد أن لا إله إلا الله ولكن نجدهم يقومون بضد هذه الشهادة لأنهم يدعون غير الله إما من الملائكة، أو المرسلين أو الأولياء الصالحين أو من الأولياء المدعين.
إذاً هل حققوا لا إله إلا الله؟ والله عز وجل يقول: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } . فدل هذا على أن الدعاء عبادة وكذلك جاء في الحديث المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: " الدعاء هو العبادة"(1) إذا كان كذلك فإننا نقول لهؤلاء القوم الذين يدعون مع الله غيره ليفرج لهم الكربات ويحصل لهم المطلوبات نقول لهم : يا قوم هؤلاء الذين تدعون من دون الله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا شك أننا وإياكم نعتقد ونعلم علم اليقين أنه لا أحد أعظم جاهاً عند الله عز وجل من أنبيائه ورسله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وخاتمهم وأنه خليل الرحمن كما أن إبراهيم خليل الرحمن لا نشك في هذا أبداً ومع ذلك أمره الله أن يقول: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } (2) { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما(105/53)
مسني السوء إن أنا إلا بشير ونذير لقوم يؤمنون " (1) { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } (2). حتى لو أراده الله بما يريده منه ما أحد يملك أن يدفع ما أراد الله { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } هذا الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام وهو خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات، ولا نبي بعده هو الذي أمر به أول الرسل أيضاً إذ قال الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام: { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما فيه أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين } (3).
إذا كان كذلك فمن الخطأ الفادح أن يتجه إنسان إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ليسأل الله، أو لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته، أو يدفع ضرورته، إنه إذا كان على الأمر الثاني يتجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقضي حاجته أو يفرج كربته إن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل والذي قال الله فيه: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (4).
والذي قال الله فيه: { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } (5).
أما إذا كان يدعو الله عز وجل ولكنه يتجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر ولكنه خطأ إن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع. إذا كنت تدعو رب السموات
جلَّ وعلا فاتجه إلى أمر بالاتجاه إليه اتجه إلى بيته الحرام ولا تتجه إلى بيت الرسول اتجه إلى بيت من تدعو وهو الله عز وجل لا إلى بيت من لا يملك لك نفعاً ولا ضراً وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.(105/54)
والحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نسكت على هذا الأمر ولا ينبغي لنا أن نعالجه إلا بالحكمة، العنف لا يجدي شيئاً . لكن الحكمة واللين يجدي الإرشاد والدعوة بالمنقول والمعقول هذا الذي يثمر كثيراً فلو أننا شاهدنا أحداً يقول هكذا أو يفعل هكذا ، في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم دعوناه بلطف ، ولين وبينا له وقلنا له : من تدعو فإما أن يدعو الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يدعو الله فإذا كان يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مشرك لأن الله تعالى يقول { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } (1) ما قال : ادعوا النبي محمداً عليه الصلاة والسلام ولا أي أحد من الناس { ادعوني استجب لكم } هذا أمر الله سيقول : نعم وإذا كان لم يقرأ القرآن نخبره بما في القرآن فإذا اقتنع بذلك واعترف به فيقال له : أكمل الآية: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (1) فسمى الله الدعاء عبادة، فإذا دعا الرسول عليه الصلاة والسلام فقد عبده ولم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ولم يحقق ما ينطق به في كل ركعة: { إياك نعبد } (2) فإن هذه الجملة كما يفهم منها قولك : " لا نعبد إلا إياك " فهي تقابل لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود بحق إلا الله سبحانه ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل فكل ما عبد من دون الله فهو باطل قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } (3) فيقال لهذا الرجل : أنت لم تحقق شهادة لا(105/55)
إله إلا الله ولم تحقق ما كنت تنطق به في كل ركعة من صلاتك { إياك نعبد } لأنك عبدت الرسول عليه الصلاة والسلام مع الله حين دعوته فبهذا اللطف والإرشاد يمكن أن يقبل عليك بعض الشيء، وإذا فرضنا أن عنده بعض العناد فإنه سوف يناقش نفسه بِنَفْسِه ثم يرجع وأنت يا أخي لا تحتقر كلمة الحق كلمة الحق مؤثرة مهما قال لك الشيطان : إنها لا تؤثر وإن هذا سوف يركب رأسه فلا تطع الشيطان موسى عليه الصلاة والسلام جمع له السحرة المهرة الذين وضعوا العصا والحبال فكانت هذه العصا والحبال يخيل إلى الناس أنها حيات تسعى حتى موسى عليه الصلاة والسلام مع إيمانه وقوته أوجس في نفسه خيفة لكنه قال كلمة بسيطة قال لهم: { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى } (1) هذه الكلمة أثرت تأثيراً عظيماً { فتنازعوا أمرهم بينهم } (2) وإذا حصل النزاع حصل الفشل قال الله تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } (3) تنازعوا أمرهم بينهم وأخيراً آمن السحرة فكلمة الحق تؤثر إذا صدرت من إنسان مخلص وأن الإنسان لا يريد أن يفرض قوله على غيره، إنما يريد أن يهدي غيره للحق الذي هو مراد الجميع فإنه سيؤثر بإذن الله عز وجل ولهذا لا تحقرن كلمة الحق ولا تقل إنها لا تنفع " فما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء " (4).
أما إذا قال: إنه يدعو الله ويتجه إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام(105/56)
فنقول له: لماذا؟ هل بيت الرسول أحب إليك من بيت الله إن قال : نعم فهو على خطر، وإن قال: بيت الله أحب إلي ، قلنا له : اتجه إلى بيت الله عز وجل إلى قبلته التي فرض الله على المسلمين أن يتجهوا إليها في اليوم خمس مرات هذا هو أحق أن يتجه إليه من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إذاً اتجاهك إلى القبر من أجل أنه قبر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا أمر مرجوح وطرف راجح فهو قد أقر بأن بيت الله أحب إليه من بيت الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا كان كذلك فاتجه إلى بيت الله لأنك تسأل الله فاتجه إلى بيت الله لا إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال: أنا أتجه إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون وسيلة لي عند الله سبحانه وتعالى.
قلنا له: الرسول عليه الصلاة والسلام قد انقطع عن أعمال التكليف ولا يستطيع أن يدعو لأحد أبداً لأن الدعاء عمل وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام نفسه.
" أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " (1) فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يشفع لك عند الله عز وجل لأن عمله قد انقطع أما في حياته فيستشفع به عند الله كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة فقال : يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فأدع الله أن يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" قال أنس راوي الحديث: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع وما بيننا وبين
سلع من بيت ولا دار إذ خرجت سحابة من وراء سلع وانتشرت ورعدت وبرقت فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته (1).(105/57)
وبقي المطر أسبوعاً كاملاً ثم دخل ذلك الرجل أو غيره فقال : يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله أن يمسكها عنا فرفع يديه وقال : اللهم حوالينا ولا علينا وجعل يشير بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وخرجوا يمشون في الشمس الله أكبر.
هذا من آيات الله الدالة على سمعه للدعاء، وعلى قربه من الداعي وعلى قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى وهو في نفس الوقت آية للرسول عليه الصلاة والسلام حيث استجاب الله دعاءه لأنه رسول فأيد بإجابة الدعاء فيكون هذا من آياته الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وعلى صحة رسالته، فأما بعد موته فلا يمكن ولهذا أعلم الناس بهذا الأمر من هذه الأمة هم الصحابة، ومع ذلك لما قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2) هل قال : يا رسول الله ادع الله لنا أن يغيثنا؟ كلا والله ولا يمكن أن يقول ذلك لأن هذا ليس بالشرع ولا بالعقل أن تقول لميت ادع الله ولكنه قال للعباس بن عبد المطلب : قم يا عباس ادع الله فدعا فأغيثوا والعباس حي وكل إنسان يرجى قبول دعوته فلا حرج عليك أن تقول: يا فلان ادع الله لي وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام في أعظم موقف من مواقف الخلق في المقام المحمود الذي يبعثه فيه الله عز وجل لا يمكن أن يتكلم
بكلمة إلا بإذن الله، إذا لحق الناس من الكرب والهم والغم ما الله به عليم ذهبوا إلى آدم يسألونه أن يشفع إلى الله ليريحهم من الموقف فيعتذر، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى حتى تصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام(1) ولكنها إذا وصلت إليه لا يمكن أن يشفع إلا بعد إذن الرب عز وجل بعد إذن الرب الذي هو ملك الملوك والذي سلطانه لا نظير له ولا مداني له { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2).(105/58)
( من ) اسم استفهام بمعنى النفي، والاستفهام إذا جاء بمعنى النفي كان أعظم وأبلغ لأنه يكون مشرباً بالتحدي فإن قولك : ولا يشفع أحد نفي بـ لا لكن قوله : ( من ذا الذي يشفع ) أبلغ في التحدي وامتناع هذا الأمر، فإذاً لا يمكن أن يشفع لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الخلق إلا بعد إذن ملك الملوك ذي السلطان الأعظم وهو الله تبارك وتعالى. فإذا كان كذلك فلا وجه لكونك تتجه إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام ليكون وسيلة لك أن يقبل دعاءك اتجه إلى بيت الله عز وجل فهو أقرب وسيلة.
في هذا البلد الطيب الذي كان هذا المسجد مسجد قباء لما بني مسجد الضرار حوله نهى الله نبيه أن يقوم فيه لأنه يراد به التفريق بين المؤمنين والمضارة لهذا المسجد الذي أسس على التقوى، والتفريق والإرصاد لمن حارب الله ورسوله فإذاً نقول : كل شيء يضاد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يشبه مسجد الضرار بل إن مضارة المزاحمة في القلوب أشد من
المضارة في المزاحمة في الأماكن علينا أن نكون أمة واحدة يدعو بعضنا بعضاً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وشهادة أن محمداً رسول الله من أكبر مقتضياتها اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهراً وباطناً ومن لا يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ولو أخلص لله فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله لم يحققها ولا يقبل منه حتى مع الإخلاص يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1)، وفي لفظ " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2).(105/59)
إذا كان كذلك فالإخلاص ليس كل شيء لابد مع الإخلاص أن ينضم إليه المتابعة، المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام بحيث لا يجعل الإنسان أحداً شريكاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في التشريع للخلق ولو كان من أكبر أئمة المسلمين لو كان أبا بكر وعمر فلا يجوز أن نجعله شريكاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في التشريع قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون : قال أبو بكر وعمر وقال الله عز وجل : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (3) .
قال الإمام أحمد: ( أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) وهو كذلك لأنه إذا رد بعض قول الرسول عليه الصلاة والسلام فلابد أن يكون عن هوى وإذا كان عن هوى فالهوى شرك { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } (1).
إذاً من لم يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وعدم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام على نوعين:
أحدهما: أن يقدم قول غيره عليه يعلم هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه يقدم قول غيره عليه، وهذا يوجد كثيراً في المتعصبين للمذاهب سواء كانت المذاهب مذاهب فقهية علمية أو مذاهب فكرية اعتقادية فإن بعض المتعصبين تعرض عليه هدي الرسول عليه الصلاة والسلام واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ولكن يقول : قال فلان كذاوقال فلان كذا ، يقول الإمام أحمد رحمه الله يقول مستنكراً : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (2) فما بالك بمن يذهبون إلى رأي من دون سفيان ويدعون هدي الرسول عليه الصلاة والسلام؟.(105/60)
إذا قيل لهم هذا هدي الرسول عليه الصلاة والسلام. قالوا : لكن قال
فلان كذا وكذا من الذي أرسل إليكم أفلان أم رسول الله محمد؟ إن قال فلان كفر وأعلن بكفره وإن قال محمد نقول : ما قيمة الرسالة عندك وأنت تقدم هدي غيره على هديه إذا كان رسولك محمد صلى الله عليه وسلم فلتكن متبعاً له متأدباً بين يديه.
أما النوع الثاني: من المخالفة لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام فأن يشرع في دين الله ما ليس فيه، يفعل شيئاً يتقرب به إلى الله، ولكن الرسول ما شرعه فهذا لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله لو حقق شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذهب يبتدع في دين الله ما ليس منه لأن ابتداع الإنسان في دين الله ما ليس منه يتضمن الاستدراك على الله ورسوله فإن هذا استدراك على الله متضمن لتكذيب هذه الجملة العظيمة { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (1).
أين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر الذي تدين لله به وتتعبد لله به أين كان؟ أكان جاهلاً به؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالجهل، أكان مخالفاً له؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالمخالفة أكان كاتماً له عن أمته؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالكتمان، فإذا كان الأمر كذلك وكل اللوازم باطلة، فإنه يلزم من ذلك أن يقول : كل بدعة يتدين بها الإنسان إلى الله من عقيدة في القلب أو نطق باللسان أو عمل بالأركان فإنها عقيدة باطلة وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام " كل بدعة ضلالة " (2). وهذه جملة مسورة بكلمة "كل" التي هي أدل ألفاظ العموم على العموم ليس فيها تخصيص، والله لو وقعت هذه في كتاب واحد من الذين يقلدون لكان كل(105/61)
من أخرج بدعة من هذه الكلية يقال له : أين الدليل؟ ولكن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام المحكم البين الواضح يحرف ويقال : هذا عام يراد به الخاص، نحن نستحسن أن نعبد الله بهذا لأن قلوبنا ترق عنده ولأن هذا ينشطنا ولكن نقول : والله لو كان خيراً لشرعه الله لعباده، ترقيق القلب لهذه البدعة يوجب أن يقسو عن السنة لأن القلب وعاء إن ملأته بخير امتلأ به وإن دخل على هذا الخير شر فلابد أن يضايق الخير فيخرج، لو كان عندك إناء مملوء بماء ثم صببت عليه ماء آخر هل يجمع الجميع لابد أن يخرج فإما سنة وإما بدعة، ولهذا نقول لكل من في قلبه إخلاص وحب للدين وحب للرسول عليه الصلاة والسلام نقول له: جزاك الله خيراً على هذه المحبة وعلى هذا الإخلاص، ولكن من تمام الإخلاص أن تعتقد بأنه لا خير للإنسان فيما يتعبد به الله إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلماذا تطلب الخير في غيرهما؟، فيما جاء في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادات، كفاية لصلاح القلوب والأبدان والأفراد والجماعات ولكن أين القلوب التي تتلقى هذا؟ من القلوب ما هو كالزجاجة أي شيء يرد عليه ينكسر، ومن القلوب ما هو كالإسفنجة يقبل ولكنه صامد لا يتجزأ ولا يتكسر إلا أنه يميز الحق من الباطل فنقول لمن ابتدع بدعة في دين الله سواء كانت قولاً باللسان أو عقيدة بالجنان، أو عملاً بالأركان نقول : كتاب الله موجود وسنة الرسول عليه والصلاة والسلام موجودة
مهذبة قد بين صحيحها من سقيمها وطريق السلف الصالح موجود والحمد لله فلماذا نبتدع في عقيدتنا ؟ لماذا نبتدع أذكاراً ما أنزل الله بها من سلطان؟!(105/62)
لو كان كل من راق له شيء أو زين في قلبه شيء مما يتعبد لله به، تعبد الله به أتكون الأمة واحدة؟ أبداً تتفرق لكن هناك ميزان { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } (1). هناك ميزان { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } (2) إن اتفقتم على شيء فهو الحق.. وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.
فالحاصل أيها الإخوة أننا في هذه البلدة الطيبة طيبة مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام مهاجر الرسول عليه الصلاة والسلام أول عاصمة إسلامية في هذه الشريعة العامة الكاملة الشاملة هذه البلدة الطيبة التي فيها هذا المسجد " مسجد قباء " وفيها المسجد الذي هو خير منه مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (3)، في هذا البلد الطيب يجب أن تكون طريقة المسلمين عامة هي ما كان عليه السلف الصالح ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون ولا سيما أبو بكر وعمر اللذين قال فيهما عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذان من
بعدي أبي بكر وعمر" (1)، وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" (2).(105/63)
" إن " شرطية، فعلها " يطيعوا " وجوابها " يرشدوا " إذاً ففي طاعة هذين الرجلين رشد لأنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه رضي الله عنهما وأرضاهما أقول : في هذا البلد ينبغي أن نكون أمة واحدة ندعو إلى الحق بإذن الله على صراط مستقيم، وإذا رأينا شيئاً لا نحقر أنفسنا ونقول : لا نستطيع هؤلاء معاندون هذا خطأ هؤلاء الذي يظهر لنا من حالهم أنهم يريدون الخير لكن ما كل من أراد شيئاً وفق له ما كل ما يتمنى المرء يدركه علينا أن نصبر وأن نصابر وأن ندعو بالتي هي أحسن بقدر ما نستطيع، لا نصمت على منكر أو على بدعة، لكننا لا نعنف، لأن الأهواء في هذا الزمان كثرت وكل إنسان يقول : الحق عندي أو عند متبوعي، ولكن إذا أتينا بالحكمة وباللين وبالسهولة وبالبيان المبني على المنقول والمعقول، وإنني بهذه المناسبة أقول : إن تعظيم الناس الآن للمعقول ليس كل الناس ولكن كثيراً منهم يعظمون الدليل العقلي أكثر مما يعظمون الدليل النقلي أو يرجعون بالأصح إلى الدليل العقلي أكثر، ونحن نعلم علم اليقين أن كل ما جاءت به الشريعة فإنه مبني على العقل لكن أي عقل هو؟ العقل الصريح أي السالم من الشبهات والشهوات وليس العقل المشوب بشبهة أو شهوة، بشبهة التبس عليه الحق أو بشهوة ظهر له ولكن لا يريده فكل ما جاءت به الشريعة فإنه موافق لصريح المعقول ولا شك ولا يمكن أبداً أن يخالفه حتى إني رأيت في كتاب [ درء تعارض النقل والعقل ] لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو كتاب عظيم قال فيه ابن القيم في النونية :
وله كتاب العقل والنقل الذي
ما في الوجود له نظير ثاني(105/64)
ويريد بما في الوجود من الكتب المؤلفة في بابه رأيته يقول: " أنا مستعد لكل من أتى بدليل من كتاب الله أو من صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من أتى بدليل يستدل به على باطل فأنا مستعد أن أجعله دليلاً عليه لا له" انظر القدرة والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء فكل ما يستدل به أهل الباطل من كتاب الله أو صحيح السنة فإنه دليل عليهم وليس دليلاً لهم وهذه قدرة في معرفة المعاني وكيف يرد الشيء أو كيف يرد الخنجر في صدر من عدا به إذا كان عدوانه على باطل وهذا من توفيق الله للعبد أن يجعل الله تعالى في قلبه حفظاً ووعياً وعقلاً نسأل الله تعالى أن يتولانا برعايته، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجعلنا ممن جاهدوا في الله حق جهاده ودعوا إلى الله على بصيرة إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
(1) البخاري: كتاب المناقب (3437) مسلم : كتاب الإمارة (1921).
(2) البقرة : 109.
(3) النساء :37.
(1) البقرة : 91.
(2) البقرة : 89.
(3) النساء : 46 .
(1) آل عمران ( 78 ) .
(2) النساء ( 164 ) .
(3) النساء ( 171 ).
(4) التوبة ( 31 ) .
(5) الترمذي: كتاب تفسير القرآن: التوبة: حديث (3095).
(1) الحديد (27).
(2) الكهف (21 ) .
(3) ذكر ذلك الكهف (21 ) .
(3) ذكر ذلك في عدد من الأحاديث الصحيحة، انظر صحيح مسلم: كتاب المساجد (532) والبخاري : كتاب الصلاة: ( 425 ) .
(4) البقرة ( 113 ).
(1) الجاثية ( 18-19).
(1) التوبة ( 68).
(2) هود(118-119).
(3) يعني هذا القسم الذي يذم فيه الطرفان.
(1) البقرة (253).
(2) البخاري: كتاب الخصومات (2279).
(1) تقدم ص130 .
(2) المائدة (51) .(105/65)
(1) 50 - وقد جاء الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بمخالفتهم وترك التشبه بهم ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم.
(2) التوبة ( 5).
(3) البقرة ( 195).
(1) الشيخ – رحمه الله تعالى- ذكر هذه الفائدة من الصفحة نفسها والترقيم صحيح، وإنما رجع الشيخ لينقل هذه الفائدة.
(2) النور (45).
(1) البخاري: كتاب العلم (111).
(1) مسلم: كتاب الإيمان : (82).
(2) مسلم : كتاب الإيمان: (67).
(3) سنن أبي داود : كتاب الأدب : باب في العصبية.
(4) أبو داود: كتاب الأدب: باب في العصبية.
(5) أبو داود: كتاب الأدب: باب في العصبية.
(1) الإمام أحمد جـ2 ص 50 وأبو داود: كتاب اللباس: باب في لبس الشهرة، وقد حسنه شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) والفتاوى جـ 25 ص 321.
(2) المائدة (51).
(1) مسائل الإمام أحمد للنيسابوري جـ 2 ( ص 145-147).
(2) البقرة (189).
(3) يونس (5).
(4) التوبة (36).
(1) مسلم : كتاب الصلاة حديث رقم ( 473).
(1) النسائي: كتاب الافتتاح : باب تخفيف القراءة والقيام: وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة / رقم ( 82-87)
(2) سنن أبي داود : كتاب الأدب : باب في الحسد.
(1) صحيح مسلم: كتاب الحج (12182) .
(1) البخاري: كتاب اللباس: باب لبس الحرير للرجال: ومسلم : كتاب اللباس: رقم(2069).
(1) انظر أحكام أهل الذمة / للعلامة ابن القيم جـ 2 ص . 66 .
(1) البخاري: كتاب مناقب الأنصار: (3834).
(2)المسند جـ ا ص 37 .
(1) 130- وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقاً، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد وعنه إنما يكره فوق الإزار دون القميص توفيقاً بين الآثار في ذلك. وحملاً للنهي على لباسهم المعتاد قال صالح: سألت أبي عن السدل في الصلاة فقال: يلبس الثوب فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر فهو السدل، وهذا الذي عليه عامة العلماء.(105/66)
(1) مصنف ابن أبي شيبة جـ 1 ص 309.
(2) مصنف عبد الرزاق جـ 2 ص 412.
(1) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة ( 563).
(1) الحاكم في المستدرك جـ 4 ص 83 رقم (2551).
(2) الترمذي: المناقب: رقم ((3927)) والإمام أحمد جـ 5 ص 440 والحاكم جـ 4 ص 95 وقال:" حديث صحيح الإسناد" .
(3) مسلم : المقدمة : ( جـ 1 ص 9) .
(4) أخرجه الحاكم في ( المستدرك ) جـ 4 ص 97: والهيثمي في ( المجمع ) جـ 10 ص 52 : والشوكاني في الفوائد ص 413 والسيوطي في ( اللآلىء ) جـ 2 ص 442 قال الحاكم: " حديث يحيى بن زيد حديث صحيح " وتعقبه الذهبي بقوله: " بل يحيى بن زيد ضعفه أحمد وغيره " وقال الهيثمي : " فيه العلاء بن عمرو الحنفي مجمع على ضعفه " .
(1) الأنعام ( 90 ) .
(2) البخاري : كتاب الصوم: باب صيام يوم عاشوراء: ومسلم: كتاب الصيام: (1130).
(1) المائدة (48) .
(1) مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان: أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل من خصائص دينهم فيفعله موافقة لهم أو لشهوة تتعلق بذلك العمل أو لتخيل منفعة فيه ولا شك في تحريم ذلك كله وقد يبلغ أن يكون كبيرة أو كفراً حسب الأدلة الشرعية. الثاني: أن يفعله من غير علم أنه من عملهم وهو نوعان: أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم إما على الوجه الذي يفعلونه وإما مع نوع تغيير في الفعل أو زمانه أو مكانه فيعرف الفاعل بأصله فإن انتهى وإلا كان من القسم الأول.. النوع الثاني : ما كان غير مأخوذ عنهم لكنهم يفعلونه فهذا ليس فيه محذور المشابهة لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة، قلت: ولا يرد على ذلك إعفاء اللحية لأنه من شرعنا.
(1)الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في صوم يوم السبت: وابن ماجه كتاب الصيام / باب ما جاء في صيام السبت: وأبو داود : كتاب الصوم: والحاكم جـ 21 ص 601 وقال: " حديث صحيح على شرط البخاري " قال الذهبي " عارضه خبر قتادة ".
(1) ذكر الوجه الثاني ( ص 282).(105/67)
(1)البخاري: كتاب صلاة التراويح: باب فضل من قام رمضان.
(1) مسلم : كتاب الصيام : باب كراهة صيام الجمعة منفرداً.
(1) مسلم : كتاب فضائل الصحابة ( 2408).
(1) وفي (ص 439) والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة.
(1) الصافات ( 180-182) .
(1) آل عمران : 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70-71.
(4) التوبة: 108.
(1) التوبة: 107.
(2) غافر: 60.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 4 ، ص 271 ، وأبو داود: كتاب الصلاة: باب الدعاء، والترمذي: كتاب التفسير: سورة غافر (61)، وابن ماجه : كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء.
(2) الأنعام: 50 .
(1) الأعراف: 188.
(2) الجن : 21-22.
(3) هود، الآية :: 31.
(4) المائدة: 72.
(5) التوبة: 28.
(1) غافر: 60.
(2) سورة الفاتحة: 5.
(3) الحج:62.
(1) طه: 61.
(2) سورة طه، الآية :: 62.
(3) الأنفال: 46.
(4) مسلم: كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء.
(1) مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(1) البخاري: كتاب الجمعة: باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء : باب الدعاء في الاستسقاء.
(2) البخاري : كتاب الاستسقاء : باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.
(1) البخاري: كتاب التوحيد: باب كلام الله تعالى مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم: كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلاً.
(2) سورة البقرة،الآية: 255 .
(1) مسلم : كتاب الأقضية : باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) البخاري: كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: ومسلم : كتاب الأقضية.
(3) النور: 63.
(1) الجاثية : 23.
(2) سورة النور، الآية: 63.
(1) المائدة: 3.
(2) تقدم تخريجه.
(1) الحديد: 25.
(2) النساء: 59.
(3) البخاري : كتاب التطوع: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، ومسلم : كتاب الحج: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة.(105/68)
(1) أخرجه الترمذي: كتاب المناقب: باب مناقب أبي بكر وعمر، وابن ماجه في المقدمة: باب فضل أبي بكر الصديق.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة.(105/69)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
فوائد في العقيدة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد كنت أقيد بعض المسائل المهمة التي تمر بي حرصاً على حفظها، وعدم نسيانها، في دفتر وسميتها " فرائد الفوائد".
وقد انتقيت منها ما رأيته أكثر فائدة وأعظم أهمية، وسميت ذلك: - " المنتقى من فرائد الفوائد".
أسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل لطلبة العلم فيه أسوة. ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
القسم الأول: فوائد في العقيدة:
[ فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من " كتاب الإيمان " ] .
فائدة:
الإسلام: هو الاستسلام لله وحده، بشهادة أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فهو الخضوع لله تعالى، والعبودية له وحده فمن استكبر عن عبادته وأشرك معه غيره فغير مسلم.
فإن قيل: ما أوجبه الله تعالى من الأعمال أكثر من الخمسة المذكورة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم، هي أركان الإسلام، أو هي الإسلام؟
فالجواب هو: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي يجب على كل مكلف بلا قيد، وأما ما سواه فإما أنه يجب على الكفاية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه، أو لأسباب كصلة الرحم، إذ ليس كل أحد له قرابة تجب صلتهم.
كذا ذكر الشيخ الجواب لكن يرد على هذا الزكاة والحج إذ ليس كل أحد عنده مال حتى يجب عليه الزكاة والحج، ولعل الجواب أن هذه الخمس المذكورة هي أكبر أجناس الأعمال، فإن الأعمال على ثلاثة أقسام:(106/1)
قسم أعمال بدنية ظاهرة كالصلاة، وباطنة كالشهادتين، وهما أيضاً من الأقوال.
وقسم أعمال مالية كالزكاة.
وقسم مركب من النوعين كالحج.
فذكر النبي صلى الله عليه وسلم، الأصول وأن المرء إذا قام بأصل من هذه الأجناس فهو مسلم، وأيضاً فإن صلة الرحم قد يكون الداعي فيها قوياً ليس من جهة الشرع بل من جهة الإنسانية، بخلاف الزكاة والحج!!
فائدة:
الناس في تفاضل الإيمان وتبعضه على قولين:
أحدهما : إثبات ذلك وهو الصواب الذي تدل عليه الأدلة العقلية والنقلية، وهو قول المحققين من أهل السنة. وتفاضله بأمرين:
الأول من جهة العامل. وذلك نوعان: الأول في الاعتقاد، ومعرفة الله تعالى، فإن كل أحد يعرف تفاضل يقينه في معلوماته، بل في المعلوم الواحد وقتاً يرى يقينه فيه أكمل من الوقت الآخر.
النوع الثاني: في القيام بالأعمال الظاهرة كالصلاة، والحج والتعليم، وإنفاق المال، والناس في هذا على قسمين:
أحدهما: الكامل وهم الذين أتوا به على الوجه المطلوب شرعاً.
الثاني: ناقصون، وهم نوعان:
النوع الأول، ملومون، وهم من ترك شيئاً منه مع القدرة وقيام أمر الشارع، لكنهم إن تركوا واجباً أو فعلوا محرماً فهم آثمون، وإن فعلوا مكروهاً أو تركوا مستحباً فلا إثم.
النوع الثاني: ناقصون غير ملومين، وهم نوعان:
الأول: من عجز عنه حساً، كالعاجز عن الصلاة قائماً.
الثاني: العاجزون شرعاً مع القدرة عليه حساً. كالحائض تمتنع من الصلاة، فإن هذه قادرة عليه، لكن لم يقم عليها أمر الشارع. ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم، ناقصة الإيمان بذلك فإن من لم يفعل المأمور ليس كفاعله. ومثل ذلك من أسلم ثم مات قبل أن يصلي لكون الوقت لم يدخل، فإن ذلك كامل الإيمان لكنه من جهة أخرى ناقص، ولا يكون كمن فعل الصلاة وشرائع الإسلام، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خيركم من طال عمره وحسن عمله" (1).(106/2)
الأمر الثاني: من جهة العمل، فكلما كان العمل أفضل كانت زيادة الإيمان به أكثر.
القول الثاني: نفي التفاضل والتبعض، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين.
إحداهما: قالت: إن من فعل محرماً أو ترك واجباً فهو مخلد في النار، وهؤلاء هم المعتزلة. وقالوا: هو لا مسلم ولا كافر منزلة بين منزلتين. وأما الخوارج فكفروه.
الطائفة الثانية : مقابلة لهذه قالت : كل موحد لا يخلد في النار والناس في الإيمان سواء، وهم المرجئة. وهم ثلاثة أصناف. صنف قالوا: الإيمان مجرد ما في القلب وهما نوعان.
الأول : من يدخل أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة.
والثاني: من لا يدخلها وهم الجهمية وأتباعهم كالأشعري، لكن الأشعري يثبت الشفاعة في أهل الكبائر.
والصنف الثاني: قالوا: الإيمان مجرد قول اللسان. وهم الكرامية، ولا يعرف لأحد قبلهم، وهؤلاء يقولون: إن المنافق مؤمن، ولكنه مخلد في النار.
الثالث: قالوا: إنه تصديق القلب وقول اللسان. وهم أهل الفقه والعبادة من المرجئة، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه.
فائدة:
مراد النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (1)، أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، لا أن من لم ينكر ذلك بقلبه لم يكن معه من الإيمان حبة خردل.
قلت: ومن رضي بالذنب واطمأن إليه فهو كفاعله لا سيما مع فعل ما يوصل إليه وعجز وقد قال الشيخ رحمه الله : [ إن من ترك إنكار كل منكر بقلبه فهو كافر].
فائدة:
الإسلام عبادة الله وحده، فيتناول من أظهره ولم يكن معه إيمان، وهو المنافق، ومن أظهره وصدق تصديقاً مجملاً، وهو الفاسق، فالأحكام الدنيوية معلقة بظاهر الإيمان لا يمكن تعليقها بباطنه لعسره أو تعذره، ولذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم، عقاب أناس، منافقين مع علمه بهم، لأن الذنب لم يكن ظاهراً.
أ.هـ . ما أردنا نقله من " كتاب الإيمان" على نوع من التصرف لا يخل بالمعنى .(106/3)
ومن كلام الشيخ الإسلام في شرح عقيدة الأصفهاني.
فائدة:
الله جل جلاله لا يدعى إلا بأسمائه الحسنى خاصة، فلا يدعى ولا يسمى بالمريد والمتكلم، وإن كن معناهما حقاً، فإنه يوصف بأنه مريد متكلم، ولا يسمى بهما، لأنهما ليسا من الأسماء الحسنى ، فإن من الكلام ما هو محمود ومذموم، كالصدق والكذب، ومن الإرادة كذلك كإرادة العدل والظلم.
فائدة:
كل صفة لابد لها من محل تقوم به، وإذا قامت الصفة بمحل فإنه يلزم منها أمران:
الأول: عود حكمها علي ذلك المحل دون غيره.
الثاني: أن يشتق منها لذلك المحل اسم دون غيره.
مثال ذلك: الكلام فإنه يلزم من أثبت كونه من صفات الله تعالى أن
يشتق منه اسم دون غيره، لكن لا يلزم من ذلك أن نثبت له اسماً بأنه متكلم كما سبق، ويلزم أن لا يجعله مخلوقاً في غيره خلافاً للجهمية، حيث زعموا أنهم أثبتوا الكلام وجعلوه مخلوقاً فإنه يلزم من كلامهم نفي الكلام عن الله، كما نفاه متقدموهم.
فائدة:
قال في ص 138 :فألتزموا (أي المعتزلة) لذلك أن لا يكون لله علم، ولا قدرة، وأن لا يكون متكلماً قام به الكلام، بل يكون القرآن وغيره من كلامه تعالى مخلوقاً خلقه في غيره، ولا يجوز أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولا هو مباين للعالم، ولا مجانبه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، ثم قالوا أيضاً: لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ولا أن يخلق أفعال عباد ولا يقدر أن يهدي ضالاً أو يضل مهتدياً، لأنه لو كان قادراً على ذلك وقد أمر به، ولم يعن عليه لكان قبيحاً منه، فركبوا عن هذا الأصل التكذيب بالصفات والقدرة، إلى أن قال: وأصل ضلالهم في القدر أنهم شبهوا المخلوق بالخالق سبحانه، فهم مشبهة الأفعال.(106/4)
وأما أصل ضلالهم في الصفات، فظنهم أن الموصوف الذي تقوم به الصفات لا يكون إلا محدثاً. وقولهم من أبطل الباطل فإنهم يسلمون أن الله حي عليم قدير، ومن المعلوم أن حياً بلا حياة وعليماً بلا علم وقديراً بلا قدرة، مثل متحرك بلا حركة، وأبيض بلا بياض، وأسود بلا سواد، وطويل بلا طول، وقصير بلا قصر، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة التي يدعى فيها نفي المشتق منه وهذه مكابرة للعقل، والشرع، واللغة.
فائدة:
ليس ما علم إمكانه جوز وقوعه! فإنا نعلم قدرة الله على قلب الجبال ذهباً ونحو ذلك، لكن نعلم أنه لا يفعله إلى غير ذلك من الأمثلة.
فائدة:
دليل النبوة يحصل بالمعجزات، وقيل : باستواء ما يدعو إليه وصحته وسلامته من التناقض، وقيل لا يحصل فيهما، والأصح أن المعجزة دليل، وثم دليل غيرها. فإن للصدق علامات، وللكذب علامات.
فمن العلامات سوى المعجزة النظر إلى نوع ما يدعو إليه، بأن يكون من نوع شرع الرسول قبله، فإن الرسالة من لدن آدم إلى وقتنا هذا لم تزل آثارها باقية، وذكر منها علامات كثيرة يرحمه الله رحمة واسعة والمسلمين.
فائدة:
إذا وجب عليه الإيمان فآمن، ولم يدرك أن يأتي بشرائع الإيمان كان كامل الإيمان، بالنسبة إلى الواجب عليه. وإن كان ناقصاً بالنسبة لمن هو أعلى منه.
مثاله من آمن فمات قبل الزوال مثلاً مات مؤمناً كامل الإيمان الواجب عليه. لكنه من دخلت عليه الأوقات وصلى أكمل إيماناً منه.
فمن ذلك علم أن نقصان الإيمان على نوعين:
أحدهما: ما يلام عليه.
الثاني: ما لا لوم فيه. كهذا المثال.(106/5)
قلت: وأما من عجز عن إكمال عمل بعد أن أتى بما قدر عليه منه، فالظاهر أنه كمن فعله، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من مرض أو سافركتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً (1) وأما إن عجز عنه أصلاً فيحتمل أن يكون له أجر فاعله، لقصة الفقير الذي قال: لو أن عندي مال فلان لعملت فيه مثل عمله، وكان يصرفه في مرضاة الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فهما في الأجر سواء" ويحتمل عكسه، لأن فقراء الصحابة رضي الله عنهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " ذهب أهل الدثور بالأجور" لم يقل لهم : إن نيتكم تبلغكم ذلك فتمنوا، وإنما أخبرهم بعمل بدله، ولكن يقال: إن الذي لا يقدر علي عمل معين، إما أن يكون لذلك العمل بدل يقدر عليه، فهذا لا يثاب على العمل إذا لم يأت ببدله، لأنه لو كان صحيح النية لعمل ذلك البدل، فعلى هذا يكون حصول الأجر مشروطاً بعدم وجود بدله المقدور عليه، على أنا نقول: إن من نفع الناس بماله فله أجران.
الأول: بحسب ما قام بقلبه من محبة الله ومحبة ما يقرب إليه، فهذا الأجر يشركه فيه الفقير إذا نوى نية صحيحة.
والأجر الثاني: دفع حاجة المدفوع له، فهذا لا يحصل للفقير والله أعلم.
وبذلك انتهى ما أردنا نقله من شرح الشيخ رحمه الله على عقيدة الأصفهاني.
فائدة:
من الجزء الأول من " بدائع الفوائد " لابن القيم ص 159 ما ملخصه:
ما يجري صفة أو خبراً عن الرب تعالى. أقسام:
الأول: ما يرجع إلى الذات نفسها كالشيء، والموجود.
الثاني: ما يرجع لصفات معنوية، كالسميع العليم.
الثالث: يرجع إلى أفعاله كالخالق.
الرابع: يرجع للتنزيه المحض المتضمن كالقدوس السلام.
الخامس: الاسم الدال على أوصاف عديدة كالمجيد العظيم الصمد.
السادس: ما يحصل باقتران الاسمين أو الوصفين كالغني الحميد، فإن الغنى صفة مدح، وكذلك الحمد فله ثناء من غناه، وثناء من حمده وثناء منهما.
ويجب أن يعلم هنا أمور:(106/6)
الأول: ما يدخل في باب الإخبار أوسع مما في أسمائه، وصفاته، فيخبر عنه بالموجود والشيء، ولا يسمى به (قلت : وقد تقدم في كلام الشيخ تقي الدين معنى ذلك).
الثاني: الصفة إذا انقسمت إلى كمال ونقص فلا تدخل بمطلقها في أسمائه، كالصانع والمريد ونحوهما،فلذا لم يطلق على نفسه من هذا إلا أكمله فعلاً وخبراً، كقوله { : فعال لما يريد } (1).
الثالث: لا يلزم من الإخبار عنه بفعل مقيد أن يشتق له منه اسم، ولذا غلط من سماه بالماكر والفاتن والمستهزئ ونحو ذلك.
الرابع: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، دون ما يطلق من الأخبار.
الخامس: الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل إن كان متعدياً كالسميع والعليم. وإلا فلا كالحي.
السادس: أسماؤه كلها حسنى ، وأفعاله صادرة عنها، فالشر ليس إليه فعلاً ولا وصفاً، وإنما يدخل في مفعولاته البائنة عنه دون فعله الذي هو وصفه.
إحصاء أسماء الله تعالى مراتب:
الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
الثانية: فهم معانيها ومدلولها.
الثالثة: دعاؤه بها وهو مرتبتان:
الأولى: دعاء ثناء وعبادة فلا يكون إلا بها.
الثانية: دعاء مسألة فلا يسأل إلا بها ، ولا يجوز يا شيء يا موجود ونحوهما.
السابع: أسماء الله الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا عد، كقوله صلى الله عليه وسلم، " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك.. " الخ. فجعل أسماءه ثلاثة أقسام : ما سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته وغيرهم، وما أنزل به كتابه، وما استأثر به تبارك وتعالى.
الثامن: من أسمائه ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره وهو غالبها كالسميع والبصير ونحوهما، فيسوغ أن يدعى ويثنى عليه ويخبر عنه مفرداً ومقروناً، ومنها ما لا يطلق إلا مقروناً بغيره، لكون الكمال لا يحصل إلا به، كالضار، والمنتقم، والمانع، فلا تطلق إلا مقرونة بمقابلها. كالضار النافع والمنتقم العفو والمانع المعطي، إذ كمال التصرف لا يحصل إلا به.(106/7)
قلت: لكن لو أطلق عليه من ذلك اسم مدح لم يمتنع فيسوغ أن يقال : العفو من دون المنتقم، كما ورد في القرآن الكريم، ومثله النافع والمعطي فإن هذه الأسماء تستلزم المدح والثناء المطلق، بخلاف المانع والمنتقم والضار
على أن شيخ الإسلام رحمه الله ينكر تسمية الله بالمنتقم. ويقول: إن هذا لم يرد إلا مقيداً، كقوله تعالى: { إنا من المجرمين منتقمون } (1)، { فانتقمنا منهم } (2)، { والله عزيز ذو انتقام } (3).
التاسع: الصفات أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي واحداً منهما وصفات تقتضيهما باعتبارين، والرب تعالى منزه عن هذه الثلاثة، موصوف بالأول، وهكذا أسماؤه أسماء كمال، فلا يقوم غيرها مقامها من صفات الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه ، السميع البصير، دون السامع الباصر والناظر. ومن صفات الإحسان البر الرحيم، الودود دون ( الرفيق ) والشفيق ونحوهما. وهكذا سائر الأسماء الحسنى.
العاشر: الإلحاد في أسمائه أنواع.
الأول: أن يسمى به غيره من الأصنام.
الثاني: أن يسمى بما لا يليق بجلاله كتسميته أباً أو علة فاعلة. قلت : ومنه أن يسمى بغير ما سمى به نفسه.
الثالث: وصفه بما ينزه عنه، كقول أخبث اليهود: إنه فقير.
الرابع: تعطيلها عن معانيها وجحد حقائقها، كقول الجهمية: إنها ألفاظ مجردة لا تدل على أوصاف سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا.
الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً.
فائدة
قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس قال: صدقوا وما يصنع الشيطان بقلب خراب؟!
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في الفتاوى ج 2 ص 21:(106/8)
والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله بذكر أو غيره لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف كيد الشيطان عنه، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. وكلما أراد العبد توجهاً إلى الله تعالى بقلبه جاءه من الوسواس أمور أخرى فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله قطع الطريق عليه.
وقال في كتاب الإيمان ص 147 في الطبعة الهندية: وكثيراً ما يعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب الله عليه وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق ويدفعه الله عنه. والمؤمن يبتلى بوسواس الشيطان وبوسواس الكفر التي يضيق بها صدره إلى أن قال: ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً، أو منافقاً، ومن الناس من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يجربها إلا إذا طلب الدين، ولهذا يعرض للمصلين من الوساوس ما لا يعرض لغيرهم، لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد أن ينيب إلى ربه ويتصل به ويتقرب إليه ويعرض للخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة. ويوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم، لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه وهذا هو مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله. أ. هـ. كلامه ملخصاً رحمه الله ونسأل الله تعالى أن يعيذنا من عدونا عدو الإنس والجن إنه سميع عليم.
فائدة:(106/9)
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال(1): خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كأن هذا الراكب إياكم يريد فانتهى إلينا الرجل فسلم فرددنا عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أقبلت؟ قال : من أهلي وولدي وعشيرتي قال: فأين تريد؟ قال أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أصبته قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت. قال: قد أقررت قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شكة جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علي بالرجل. فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقالا: يا رسول الله قبض الرجل، قال: فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول الله عليه وسلم: أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنه مات جائعاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من الذين قال الله فيهم: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } (2) الآية ثم قال: دونكم أخاكم فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شفير القبر فقال: الحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا. رواه أحمد بن حنبل عن إسحق بن يوسف حدثنا أبو جناب عن زادان عن جرير.
وفي الحديث دليل على أن الإيمان يطلق على الأعمال الظاهرة التي هي الإسلام. اللهم توفنا على الإيمان، وأحينا على سنة المصطفى من بني الإنسان، يا كريم يا رحمن يا حي يا قيوم.
فائدة:(106/10)
قال شيخ الإسلام في كتاب النبوات ص 172-173 مفرقاً بين النبي والرسول: إن النبي ينبئه الله وهو ينبىء بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول.
وأما إذا كان إنما كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول.
فائدة:
قال في [ مختصر الصواعق] أثناء كلامه على حديث النزول ص 381 مطبعة الإمام:
الحادي عشر: أن الخبر وقع عن نفس ذات الله تعالى لا عن غيره فإنه قال : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، فهذا خبر عن معنى لا عن لفظ، والمخبر عنه هو مسمى هذا الاسم العظيم، فإن الخبر يكون عن اللفظ تارة وهو قليل ويكون عن مسماه ومعناه وهو الأكثر.
فإذا قلت : زيد عندك وعمرو قائم فإنما أخبرت عن الذات لا عن
الاسم فقوله تعالى: { الله خالق كل شيء } (1) هو خبر عن ذات الرب تعالى فلا يحتاج المخبر أن يقول : خالق كل شيء بذاته، وقوله: { الله ربكم } قد علم أن الخبر عن ذاته نفسها. وقوله: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } (2) وكذلك جميع ما أخبر الله به عن نفسه إنما هو خبر عن ذاته لا يجوز أن يخص من ذلك إخبار واحد البتة، فالسامع قد أحاط علماً بأن الخبر إنما هو عن ذات المخبر عنه ويعلم المتكلم بذلك لم يحتج أن يقول : إنه بذاته فعل وخلق واستوى ، فإن الخبر عن مسمى اسمه وذاته وهذا حقيقة الكلام ولا ينصرف إلى غير ذلك إلا بقرينة ظاهرة تزيل اللبس وتعين المراد، فلا حاجة بنا أن نقول: استوى على العرش بذاته وينزل إلى السماء بذاته، كما لا يحتاج أن نقول : خلق بذاته وقدر بذاته وسمع وتكلم بذاته، وإنما قال الأئمة ذلك إبطالاً لقول المعطلة أ.هـ.
وقوله: فإن الخبر يكون عن اللفظ تارة، مثاله قول المعربين في: زيد قائم، زيد مبتدأ، وقائم خبره.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين ص 180 ج 12 من مجموع الفتاوى:(106/11)
وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجع على سيئاته،
فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مبتدع ولا مخطئ ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً بل ولا فاسقاً بل ولا عاصياً أ.هـ.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين 307ج 11 من مجموع الفتاوى: والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال:
(أ) من كان يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله ويأمر الإنس بذلك فهومن أفضل أولياء الله.
(ب) من كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في ذلك.
(ج) من كان يستعملهم فيما نهى الله عنه ورسوله كالشرك وقتل المعصوم والعدوان عليه بما دون القتل فإن استعان بهم على الكفر فهو كافر وعلى المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق. أ. هـ. ملخصاً.
وقال ص 62 ج 19 من المجموع: وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فإن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول فحرام، وإن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز صدقه من كذبه فهذا جائز، وذكر أدلة ذلك ثم قال : وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، ثم ذكر أنه روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة.
وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشاً فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم(106/12)
انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام. أ. هـ.
وقال في كتاب النبوات ص 260 : والجن الذين يطيعون الإنس وتستخدمهم الإنس ثلاثة أصناف:
أعلاها أن يأمرهم بما أمر الله به ورسله. وذكر كلاماً ثم قال:
ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الإنس والجن إلا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهمأو يعينوهم على بعض مقاصدهم، وإلا فليس أحد من الإنس والجن يفعل شيئاً إلا لغرض، والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجرمن الله وإلا طلبوه منه إما دعاؤه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك.
والقسم الثالث: أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة وذكر أن هذا من السحر، وذكر كلاماً كثيراً.
ثم قال ص 267: والجن المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيء من الخوارق كما يعين الإنس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة أ.هـ.
فائدة:
قول السفاريني في عقيدته عند ذكر الاستواء : ( قد تعالى أن يحد ) .
الحد لفظ مجمل يراد به تارة معنى صحيح، وأخرى معنى باطل.
ومن ثم قال الإمام أحمد: " وهو على العرش بلا حد"، ومرة أخرى قيل له ما يذكر عن ابن المبارك أنه قيل له : كيف نعرف ربنا عز وجل؟ فقال:
بأنه على عرشه بائن من خلقه بحد قال : قد بلغني ذلك عنه وأعجبه وقال: هكذا هو عندنا.
وذلك أن الحد تارة يراد به أن الله محدود يدرك العقل حده وتحيط به المخلوقات فهذا باطل.(106/13)
وتارة يراد به أنه بائن من خلقه غير حال فيهم فهذا صحيح. ولذلك رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي في نفيه الحد وقال: إنه لا معنى لنفيك، إلا أن الله لا شيء، لأنه ما من شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، لكن الباري جل وعلا لا يعلم كيفية صفته إلا هو قال: فنحن نؤمن بالحد ونكل علمه إلى الله تعالى أ.هـ.
وبذلك تعرف أن نفي الحد وإثباته على وجه الإطلاق لا ينبغي على أن السلامة هي أن يقال: إن الحد لا يضاف إلى الله إطلاقاً لا على سبيل وجه النفي ولا على وجه الإثبات، لكن معناه يستفصل فيه، ويثبت الحق منه ويبطل الباطل. والله أعلم.
فائدة:
في كتاب العقل والنقل ص 60 ج2 مفرد نقلاً عن أبي حامد: وكان عبد الله بن سعيد بن كلاب يقول: هي حكاية عن الأمر فخالفه أبو الحسن الأشعري، بأن الحكاية تحتاج أن تكون مثل المحكي، ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس.
فائدة:
سؤال الملكين يعم كل ميت، وقال بعض الحفاظ والمحققين : الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف وبه جزم غير واحد من أئمة
الشافعية ولم يستحبوا تلقينه إذاً وجزم الترمذي بأن المعلن في كفره لا يسأل، ووافقه ابن عبد البر وخالفه القرطبي وابن القيم لقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين } (1) ولحديث البخاري "وأما الكافر والمنافق " ورجحه ابن حجر وجزم ابن عبد البر والترمذي باختصاص السؤال بهذه الأمة، وخالفهما ابن القيم وجماعة وتوقف آخرون وظاهر الأحاديث أن السؤال بالعربية كما أنه لسان أهل الجنة والله أعلم.
فائدة:
في تاريخ الجهمية والمعتزلة نقلاً عن مجلة المنار في مواضع متعددة بطريقة مختصرة.
انقسام التجهم ص 745 مج 16 .(106/14)
قال الشيخ تقي الدين: ليس الناس في التجهم على درجة واحدة بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، ولذلك يتستر الزنادقة بهاتين البدعتين اللتين هم أعظم أو من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام.
فالرافضة القدماء ليسوا جهمية بل مثبتو صفات، وغالبهم يصرح بلفظ الجسم، كما أن الجهمية ليسوا رافضة بل كان الاعتزال فاشياً فيهم، والمعتزلة ضد الرافضة وهما إلى النصب أقرب، ولكن في عهد بني بويه فشا التجهم في الرافضة والشيعة ثلاث درجات.
شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئاً من الألوهية أو النبوة.
والدرجة الثانية الرافضة المعروفة كالإمامية وغيرهم يعتقدون أن علياً
الإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنص جلي أو خفي، ولكنه ظلم ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما وهذا أعني بغضهما وشتمهما سيما الرافضة.
الثالثة: المفضلة يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، لكن يتولونهما ويعتقدون عدالتهما وإمامتهما كالزيدية وهؤلاء أقرب إلى أهل السنة منهم إلى الرافضة.
وكذلك الجهمية ثلاث درجات:
غالية: ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه قالوا: هو مجاز فهو عندهم ليس بحي ولا عالم .. الخ، فهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون التشنيع بما يقرون به في العلانية. وقد قال أبو الحسن الأشعري: إن هؤلاء أخذوا عن إخوانهم المتفلسفة الذين زعموا أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر.. الخ. غير أن هؤلاء لم يظهروا المعنى فقالوا: إن الله عالم من طريق التسمية من غير أن نثبت له علماً أو قدرة.. الخ. وهذا القول، قول القرامطة الباطنية ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة والفلاسفة.
الدرجة الثانية: تجهم المعتزلة يقرون بالأسماء الحسنى في الجملة ويجعلون كثيراً منها على المجاز، لكنهم ينفون صفاته وهؤلاء هم الجهمية المشهورون.(106/15)
والثالثة: الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها. ومنهم من يقر بما جاء في القرآن الكريم دون الحديث ومنهم من يقر بالجميع، لكن مع نفي وتعطيل للبعض وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب إلى الجهمية المحضة. بيد أن متأخريهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر فخالفوا أوليهم أ. هـ.
وقد أشار إلى أن كلام الشيخ هذا في التسعينية. انتهى الكلام على الجهمية.
أما الكلام على المعتزلة فيلخص فيما يلي:
1. 1. من هم المعتزلة؟
ص 749 ج 16 هي فرقة إسلامية كبيرة جداً إذ إنه انتحلها رجال كثيرون فشيعة العراق قاطبة، والأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية والزيدية في اليمن، كل هؤلاء الذين يعدون بالملايين على مذهب المعتزلة.
أما في نجد فقد انتشر مذهب السلف الأثرية، كما يوجد ذلك في طوائف من الهند وفي جماعات قليلة في العراق والحجاز والشام.
أما السواد الأعظم من البلاد الإسلامية فعلى المذهب المنسوب إلى الأشعري أي الذي تداوله المتأخرون إذ إن مذهب الأشعري بنفسه هو مذهب أحمد بن حنبل كما صرح بذلك في كتابه الإبانة.
2. 2. تلقيب المعتزلة بالجهمية ص 751 مج 16.
كان مذهب الجهمية سابقاً بزمن قريب مذهب المعتزلة غير أنهما اتفقا على أصول كبيرة في مذهبهما وهي نفي الصفات والرؤية وخلق الكلام، فصاروا كأهل المذهب الواحد وإن اختلفوا في بعض الفروع، ومن ثم أطلق أئمة الأثر ( الجهمية) على المعتزلة فالإمام أحمد والبخاري في كتابيهما "الرد على الجهمية" ومن بعدهما يعنون بالجهمية المعتزلة لأنهم بهذه المسائل أشهر من الجهمية خصوصاً في المتأخرين.
وأما المتقدمون فيعنون بالجهمية الجهمية لأنها الأم السابقة لغيرها من مذاهب التأويل ( أي التعطيل ). كما سبق عن الشيخ تقي الدين.(106/16)
قال رشيد: وبما ذكر يزول الاشتباه الذي يراه البعض من ذكر الجهمية في هذه المسائل، مع أنها في عرفهم مضافة إلى المعتزلة وذلك أن
تلقيبهم بالجهمية لما وجد من موافقتهم إياهم في هذه المسائل، ومن ثم قال الشيخ تقي الدين: كل معتزلي جهمي ولا عكس، لكن جهم أشد تعطيلاً لأنه ينفي الأسماء والصفات.
فائدة:
قال ابن مفلح في الفروع: لم يبعث إليهم ( أي الجن ) نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم،: " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " (1).
فأما قوله تعالى، عن الجن: { يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } (2). فظاهره أنهم كانوا يتعبدون بشريعة موسى، وكذا هو ظاهر حال الجن المسخرين لسليمان أي إن الظاهر أنهم كانوا يتعبدون بشريعة سليمان، وكان يتعبد بشريعة موسى، هكذا قيل : إنه ظاهر حالهم وفيه نظر ولكن يكفينا ظاهر الآية.
والجواب أن الظاهر أنه لم يكلف بالرسالة إليهم، وإن كانوا قد يتعبدون بها والله أعلم.
فائدة:
حديث عمران بن حصين: " كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض " (1).
وقد روى الترمذي بإسناد صححه في موضع وحسنه في آخر، والبيهقي، وأحمد وابن ماجه، ومحمد بن الصباح، من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟
قال: "كان الله في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء. ثم خلق العرش ثم استوى عليه" (2). هذا لفظ البيهقي.
العماء: هو السحاب الكثيف المطبق.
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 8 ج 1 ما ملخصه: واختلف في أيها خلق أولاً، فقال قائلون: خلق الله القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي وغيرهما، قال ابن جرير: وبعد القلم السحاب الرقيق.(106/17)
واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً " إن أول ما خلق الله القلم" (3). رواه أحمد، وأبو داود والترمذي.
والذي عليه الجمهور: أن العرش قبل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه في الماء" (1)، وحملوا إن أول ما خلق الله القلم ( أي من هذا العالم ) قال ابن جرير: وقال آخرون : بل خلق الله الماء قبل العرش. ثم حكى عن محمد بن إسحاق أن أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، ثم قال: وقد قيل: إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء والظلمة، ثم الماء، فوضع عرشه على الماء. والله أعلم.
فائدة:
أفعال العباد:
اعلم أن الناس في أفعال العباد على ثلاثة أقسام:
طرفين، ووسط.
فأما الطرفان فهما الجبرية والقدرية النفاة.
فالجبرية زعموا أن العبد مجبور على فعله مقهور لا تأثير له فيه البتة، حتى بالغ غلاتهم بأن فعل العبد هو عين فعل الله، ولا ينسب إلى العبد إلا على سبيل المجاز وأن الله يلوم العبد ويعاقبه على مالا صنع له فيه، ولا إرادة، ولا اختيار، بل هو مضطر إليه لا فرق بينه وبين حركة المرتعش.
واستدل هؤلاء بأنه قد تقرر عقلاً وشرعاً ، بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومدبره ، لا يشذ عن هذا الأصل العظيم شيء،لا كلي ولا جزئي لا من أفعال العباد ولا غيرها. كما قال تعالى: { الله خالق كل شيء } (2). { الخالق البارئ المصور } (1). { والله خلقكم وما تعملون } (2). وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة على عموم خلق الله.
وبأن العباد في ملكه وكيف يكون في ملكه مالا يريد؟!
وهذه الطائفة نبغت مقابلة للطائفة الثانية القدرية التي هي:
الطرف الثاني قالوا: إن العبد قادر على أفعاله مخترع لها على وجه الاستقلال، ولا تعلق لقدرة الله بها أصلاً.(106/18)
قال ابن القيم في [ شفاء العليل ] ص 51: [ وكلهم متفقون على أن الله غير فاعل لأفعال العباد، واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها، ومبدعها، وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها ] أ. هـ. كلامه.
وهؤلاء استدلوا بالأدلة الدالة على أن العمل مضاف إليه، والأصل في الإضافة أنها للحقيقة، ومن المعلوم امتناع معمول واحد من عاملين على وجه الاستقلال من كل منهما.
ولأنه لو كان الله خالقاً أفعالهم لكان عقابه إياهم على المعصية ظلماً لهم.
ولأننا نجد الفرق ضرورة بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية، كالارتعاش وبأنه لو اعتدى شخص على بدن أو مال أو عرض ثم احتج بالقدر، وأن ذلك بغير اختيار منه، لرده جميع العقلاء.
لكن هؤلاء ألغوا جميع النصوص الدالة على أن خلق الله عام والتزموا أن يكون في ملكه مالا يريد، وغلوا في النصوص والأدلة الدالة على أن فعل العبد يضاف إليه، حيث زعموا أنه لا تعلق لإرادة الله وخلقه فيما يفعله العبد من الطاعات وغيرها، وجفوا عن النصوص الدالة على عموم خلق الله.
وأولئك غلوا في النصوص الدالة على عموم خلق الله لكل شيء وجفوا عن النصوص الدالة على أن للعبد فعلاً يضاف إليه ويقع باختياره.(106/19)
ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه، ولذلك كان أسعد الناس به هم أهل السنة والجماعة القائلون بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا يشذ عن هذا الأصل العظيم شيء وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة قبل ظهور مجوسها القدرية النفاة، وهم مع ذلك يقولون: [ إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة تضاف إليهم ويجازون عليها بالعدل والإحسان، وهذا لا ينافي أن يكون الله خالقاً لأفعالهم، فإن أفعال العباد تضاف إلى الله خلقاً وتكويناً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة، وفرق بين مخلوق الله، وبين فعله، فأفعالهم مخلوقة بائنة عنه لا تنسب إليه على أنها فعله وهي فعل العباد الموصوفين فيها حقيقة، فهي من صفاتهم العائد حكمها إليهم، والعقلاء كلهم يعلمون أن فعل الفاعل ناشئ عن قدرته وإرادته الجازمة، لا يتخلف عنها البتة، ولا يمكن وجوده مع عدمه أو عدم إحداهما، والله تعالى هو الذي خلق الآدمي بما فيه من قدرة وإرادة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، فالرب جعل إرادة العبد وقدرته سبباً لإيجاد فعله بمنزلة إحراق النار لما وقع فيها مما يقبل الاحتراق. فإن إحراق النار يضاف إليها على وجه المباشرة، ويضاف إلى من أوقدها على أنه هو فاعل السبب.
قال ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل ص 130 بعد أن أطال رحمه الله في الكلام على الكسب والجبر: فالطوائف كلها متفقة على الكسب، ومختلفون في حقيقته، فالقدرية قالوا: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالاً، وليس للرب فيه صنع ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريد له.
وقالت الجبرية: اقتران الفعل بالقدرة الحادثة من غير أن يكون لها فيه أثر.
ثم ذكر أن الأشعري في عامة كتبه، فسر الكسب بأن يكون الفعل بقدرة محدثة، فمن وقع الفعل منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، ومن وقع منه بقدرة قديمة فهو فاعل خالق.(106/20)
وقال بعض المعتزلة: من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق، ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب، ثم قال: ونحن نقول: هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته.
وسر المسألة أن العبد فاعل متفعل باعتبارين.
ثم قال ص 131: قلت: هاهنا ألفاظ، وهي فاعل، وعامل، ومكتسب، وكاسب، وصانع، ومحدث، وجاعل، ومؤثر، ومنشىء، وموجد، وخالق، وبارئ، ومصور، وقادر، ومريد.
وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام:
قسم لم يطلق إلا على الرب، كالبارىء، والبديع، والمبدع.
وقسم لا يطلق إلا على العبد، كالكاسب، والمكتسب.
وقسم وقع إطلاقه على العبد والرب، كاسم صانع، وفاعل وعامل ومنشىء، ومريد، وقادر.
وأما الخالق المصور فإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد، كما يقال لمن قدر في نفسه شيئاً: إنه خلقه.
وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد، في قوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } (1) قلت : ووجه ذلك أن الخالقين جمع مفضل عليهم بإضافة اسم التفضيل، ومن المعلوم أنه لا ثم سوى خالق أو مخلوق فإذا كان الخالق أحسن الخالقين كان المفضل عليهم مخلوقين وسماهم الله هنا خالقين. فدل على صحة إطلاق الخالق على المخلوق.
قلت: ومن ذلك قوله تعالى: { وتخلقون إفكاً } (2)وقوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث القدسي : إن الله قال: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " (3) وقوله في الحديث الآخر: يقال للمصورين: " أحيوا ما خلقتم " (4).
هذا وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الكتاب المذكور ص 121 – 122 عن الإسفرائيني كلاماً، قال ابن القيم بعده : قلت : مراده أي الإسفرائيني أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده. أ. هـ. فتأمل ما في قوله : إطلاق لفظ الخلق فإنه يوافق كلامه هنا والله أعلم.
فائدة:(106/21)
مراتب القضاء والقدر أربع: من شفاء العليل ص 29 ما ملخصه.
الأولى: علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها.
الثانية: كتابته لها قبل كونها.
الثالثة: مشيئته لها.
الرابعة: خلقه لها. أ. هـ.
فأما المرتبة الأولى: فقد اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى خاتمهم، وهذه المرتبة كان ينكرها طائفتان:
الأولى: من ينفي علمه بالجزئيات، وهم الفلاسفة.
الثانية: غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها، ولم يكتبها أو يقدرها فضلاً عن أن يخلقها.
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وهي أن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وهذه المرتبة هي مرتبة التقدير والتقادير خمسة أنواع:
النوع الأول: التقدير العام، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ الذي كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء قال شيخ الإسلام رحمه الله: علم الله تعالى السابق ثابت لا يتغير وأما الصحف التي بأيدي الملائكة فيلحقها المحو والإثبات وأما اللوح المحفوظ فهل يلحقه ذلك؟ على قولين:
النوع الثاني: تقدير أرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم قبل أن يخلقهم.
النوع الثالث: تقدير ما ذكر على الجنين في بطن أمه.
قال ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل ص 22: فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته، وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا ففي حديث ابن مسعود أنه بعد مائة وعشرين يوماً من حصول النطفة في الرحم (1)وحديث أنس غير مؤقت(2) وحديث حذيفة بن أسيد وقِّت فيه التقدير بأربعين يوماً ، وفي لفظ بأربعين ليلة، وفي لفظ باثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة. وهو حديث تفرد به مسلم(3).
ثم قال في وجه الجمع بينهما: إن هناك تقديرين:
أحدهما: سابق لنفخ الروح وهو المتعلق بشأن النطفة إذا بدأت بالتخليق وهو العلق.
والثاني: حين نفخ الروح: وهو المتعلق بشأنها حين تتعلق بالجسد.(106/22)
أي فصار التقدير معلقاً بمبدأ الجسد ومبدأ الروح.
النوع الرابع: التقدير السنوي ، وهو ما يكون ليلة القدر.
النوع الخامس: التقدير اليومي.
فالتقديرات خمسة: يومي، وحولي، وعمري، عند تعلق النفس بالبدن وعند تخليقه، وتقدير قبل وجود ابن آدم بعد خلق السموات والأرض، وتقدير قبل خلق السموات والأرض، وكل هذه تفاصيل للتقدير السابق.
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، وهي عموم مشيئة الله تعالى.
وقد نفى المشيئة إطلاقاً طوائف من الفلاسفة وأتباعهم، ونفاها القدرية المعتزلة بالنسبة إلى أفعال العباد فقط.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق وهي عموم خلق الله لكل ما سواه، وقد سبق الكلام عليها.
فائدة:
الرضا بالقضاء الذي هو وصف الله وفعله واجب مطلقاً، لأنه من تمام الرضا بالله رباً.
وأما القضاء الذي هو المقضي فالرضا به مختلف.
فإن كان المقضي دينياً وجب الرضا به مطلقاً.
وإن كان كونياً فإما أن يكون نعماً أو نقماً أو طاعات أو معاصي.
فالنعم يجب الرضا بها لأنه من تمام شكرها، وشكرها واجب.
وأما النقم كالفقر والمرض ونحوهما، فالرضا بها مستحب عند الجمهور وقيل بوجوبه.
وأما الطاعات فالرضا بها طاعة واجبة إن كانت الطاعة واجبة ومستحبةإن كانت مستحبة . وأما المعاصي فالرضا بها معصية،والمكروهات الرضا بها مكروه،والمباحات مباح والله أعلم.
فائدة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه أقوم ما قيل ص 141 من القسم الثالث من مجموعة رسائله قال:(106/23)
ومن توهم منهم أي من القدرية أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقها فيه، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم ويعني بالآية قوله تعالى: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (1) إلى قوله : فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله أ. هـ.
ورأيت في تفسير ابن كثير رحمه الله ص 267 ج 4 عند قوله تعالى:
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر فقال : دلوني عليه وهو أعمى، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات هذا أول شرك هذه الأمة والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً " (3) رواه أحمد.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ص 96 ج 4 : والناس في المعاد على أربعة أقوال:
أحدها إثبات معاد الروح والبدن وهو مذهب المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
الثاني أن المعاد للأبدان فقط قاله كثير من المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.(106/24)
الثالث أن المعاد للروح وحدها وهو قول الفلاسفة المشركين لم يقله أحد من أهل الملل لا المسلمون ولا اليهود ولا النصارى، فإنهم كلهم متفقون على إعادة الأبدان وعلى القيامة الكبرى، وأهل هذا القول منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ إما في أبدان الآدميين أو أبدان الحيوان مطلقاً أو في جميع الأجسام النامية أو أن التناسخ في الأنفس الشقية فقط، وكثير من محققيهم ينكر التناسخ.
القول الرابع إنكار المعادين جميعاً كما قاله أهل الكفر من العرب واليونان والهند والترك وغيرهم.
فائدة:
قال الشيخ تقي الدين في الجزء الأول من الرسائل ص 59:
وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة أو الإجماع يقال: هي كفر قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه. مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ذلك وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله تعالى (1) ونحو ذلك.
فإنهم لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال تعالى: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2). وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان رحمةٌ الله رحمة كبيرة.
فائدة:
وجدت في مجلة التمدن الإسلامي الصادرة في رمضان سنة 1378هـ 756 تحت عنوان: "سد يأجوج ومأجوج" ما نصه:(106/25)
توجد في العتبة الواقعة بين بحر الخزر والبحر الأسود سلسلة جبال توقان، كأنها جدار طبيعي وقد سد هذا الجدار الجبلي الطريق الموصلة بين الشمال والجنوب إلا طريقاً واحداً بقي مفتوحاً، هو مضيق دار بال، بين ولايتي كيوكز وتفليس حيث يوجد الآن جدار حديدي من قديم الأزمان.
أ.هـ. وذكر أنه منقول من كتاب شخصية ذي القرنين من منشورات دار البصري في بغداد.
فائدة:
الأنبياء المذكورون في القرآن الكريم هم المذكورون في الأبيات، وهم خمسة وعشرون نبياً.
حتم على كل ذي التكليف معرفة بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وعد ذي الكفل منهم، فيه خلاف مشهور بين العلماء، فقيل : رجل صالح وقيل : نبي، وتوقف ابن جرير في ذلك والله أعلم.
فائدة:
إن قيل : ما الفائدة في قص إهلاك الأمم علينا مع أن هذه الأمة لن تهلك كما هلكوا على سبيل العموم؟
فالجواب أن لذلك فائدتين:
إحداهما: بيان نعمة الله علينا برفع العذاب العام عنا وأننا مستحقون لذلك لولا منة الله.
الثاني: أن مثل عذابهم قد يكون لمن عمل عملهم في يوم القيامة إذا لم تحصل العقوبة في الدنيا، ولعله يفهم من قوله تعالى: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد . إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } (1). فلعل ظاهره أن مثل هذا العذاب يكون في الآخرة والله أعلم.
فائدة:
لسوء التصرف سببان:
أحدهما: نقص العلم وهو الجهل.
والثاني: نقص الحكمة وهو السفه المنافي للرشد.
ولذلك وصف الله نفسه بالحكمة والخبرة في قوله تعالى: { كتابأحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } (1)وفي هذا دليل على أن القرآن الكريم جامع بين العلم والحكمة.
فائدة:(106/26)
من المنتقى في باب ما جاء في الأجرة على القرب عن خارجة بن الصلت عن عمه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل راجعاً من عنده فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد فقال أهله: إنا قد حدثنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير فهل عندك شيء نداويه؟ قال: فرقيته بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل يوم مرتين فبرأ فأعطوني مائتي شاة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: " خذها فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق" (2) رواه أحمد وأبو داود، قال في نيل الأوطار : رجاله رجال الصحيح إلا خارجة المذكور وقد وثقه ابن حبان أ.هـ.
قلت وفيه دليل على جواز قول الرجل : لعمري.
فائدة:
روى مسلم عن عطاء عن جابر في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم العيد وأنه أتى النساء فوعظهن، فقيل لعطاء : أحقاً على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي لعمري إن ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟ ذكره مسلم في صلاة العيدين.
ففيه إفراد النساء بالموعظة وجواز قول : لعمري على رأي عطاء رحمه الله.
فائدة:(106/27)
في صحيح مسلم ص 197 ج 5: أن نجدة كتب لابن عباس يسأله عن خمس خلال هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتي ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، فكتب إليه، كتبت تسألني هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة. وأما بسهم فلم يضرب لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو ؟ وإنا كنا نقول : هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك أ.هـ. فيه دليل على جواز قول لعمري.
فائدة:
إذا أضاف الإنسان الشيء إلى سببه الصحيح المعلوم من غير واو العطف الدالة على التشريك فلا بأس به.
ويدل عليه ما رواه البخاري: أن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمل أبي طالب فإنه كان يحوطك ويغضب لك. قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار (1)ورواه مسلم بهذا اللفظ.
وقريب من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار" (1).
فائدة:
اتفق العلماء على أن كراهة عبدي وأمتي للتنزيه حتى أهل الظاهر ، ويستدل بقوله تعالى : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } (2). على أن المنهي هو السيد خشية التطاول. أما غيره فلا لأنه إنما يقصد التعريف غالباً.
وقد زاد مسلم في حديث النهي، ولا يقل : مولاي فإن مولاكم الله.
وهذه الزيادة قد بين مسلم الاختلاف فيها على الأعمش، فمنهم من ذكرها ومنهم من حذفها. وقال عياض: حذفها أصح. وقال القرطبي: المشهور حذفها.(106/28)
أما كلمة الرب فقد قال الخطابي: إن غير العاقل لا يكره إضافتها إليه كرب الدار ونحوه وقال ابن بطال : لا يجوز أن يقال لأحد غير الله : رب كما لا يجوز إله.أ.هـ.
هذا وقد ورد في الحديث إذا ولدت الأمة ربتها فدل على أن النهي عن الإطلاق. ويحتمل أنه للتنزيه. وما ورد فلبيان الجواز.
وقيل : إن الجواز خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : إن النهي عن الإكثار من ذلك، ولعل هذا أقرب الاحتمالات،
لقوله: " لا يقل أحدكم : أطعم ربك، وضىء ربك" (1) لأن الطعام والوضوء يكثر تكررهما.
ولا ريب أنه إذا خشي المحذور من استعمال الكلمتين قوي النهي والكراهة، وربما وصلت إلى التحريم وكلما بعد المحذور بعدت الكراهة وربما زالت إذا زال والله أعلم.
تم بحمد الله
---
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الزهد: باب ما جاء في طول العمر وقال : " حديث حسن صحيح".
(1) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق : باب رفع الأمانة، ومسلم: كتاب الإيمان: باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب.
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجهاد: باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.
(1) سورة البروج، الآية :: 16.
(1) سورة السجدة، الآية :: 22.
(2) سورة الأعراف، الآية :: 136.
(3) سورة آل عمران، الآية :: 4.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 4 ص 3، وأبو داود : كتاب الجنائز : باب في اللحد، والنسائي: كتاب الجنائز: باب اللحد والشق، وابن ماجه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في استحباب اللحد، والترمذي: كتاب الجنائز: باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " اللحد لنا والشق لغيرنا" والبيهقي في " السنن الكبرى " جـ 4 ص 403، والطبراني في " المعجم الكبير" جـ 2 ص 360 وابن أبي شيبة في " المصنف " جـ 3 ص 322.
(2) سورة الأنعام، الآية :: 82.
(1) سورة الزمر، الآية :: 62.
(2) سورة الأنعام، الآية :: 124.
(1) سورة إبراهيم، الآية ::27.
(1) أخرجه البخاري: كتاب التيمم، ومسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة.(106/29)
(2) سورة الأحقاف، الآية :: 30.
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند جـ4 ص 11، والترمذي: كتاب التفسير " سورة هود" جـ 5 ص 288، وابن ماجه: المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية، والطبراني في" المعجم الكبير" جـ 19 ص 207، وابن أبي عاصم في " السنة " جـ1 ص 272، والبيهقي في " الأسماء والصفات" جـ 2 ص 150، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنن " ج 2 ص 243.
(3) أخرجه الإمام أحمد ج5 ص 317، وأبو داود : كتاب السنة: باب في القدر، والترمذي: كتاب التفسير: باب " 66" والطيالسي (577)، والآجري في " الشريعة " ص 177 وابن أبي عاصم في " السنة " جـ1 ص 48، والبيهقي في " الأسماء والصفات" جـ 2 ص 117، وأبو نعيم ج 5، ص 248.
(1) أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه" " 2653".
(2) سورة الزمر، الآية :: 62.
(1) سورة الحشر، الآية :: 24.
(2) سورة الصافات، الآية :: 96.
(1) سورة المؤمنون، الآية :: 14.
(2) سورة العنكبوت، الآية :: 17.
(3) أخرجه البخاري: كتاب اللباس: باب نقض الصور، ومسلم: كتاب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(4) أخرجه البخاري: كتاب اللباس: باب من كره القعود على الصور، ومسلم: كتاب اللباس: باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(1) أخرجه البخاري: كتاب القدر، ومسلم: كتاب القدر : باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه.
(2) البخاري: كتاب القدر، ومسلم : كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي.
(3) اخرجه مسلم / كتاب القدر/ باب كيفية الخلق الآدمي.
(1) سورة النساء، الآية :: 79.
(2) سورة القمر، الآية :: 49.
(3) أخرجه الإمام أحمد جـ 1 ص، 330 ، والهيثمي في " المجمع" ج 7 ص 204.
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء: باب حديث الغار، ومسلم: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.
(2) سورة النساء، الآية :: 165.
(1) سورة هود، الآيتان :102- 103.
(1) سورة هود، الآية :: 1.(106/30)
(2) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 211، وأبو داود: كتاب الطب : باب كيف الرقي، وانظر نيل الأوطار جـ 5، ص 335.
(1) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة: باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.
(1) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة: باب لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ومسلم: كتاب الزكاة: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.
(2) سورة النور، الآية :: 32.
(1) أخرجه البخاري / كتاب العتق / باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله : عبدي أو أمتي ، ومسلم كتاب الأدب / باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة .(106/31)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
الوصايا العشر
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ سورة آل عمران: الآية: 102]، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ سورة النساء: الآية 1].
أما بعد:
إخواني الكرام:
موضوع المحاضرة هو الكلام على الوصايا العشر التي في آخر سورة الأنعام وقبل الكلام عليها أحب أن أنبه على ثلاث مسائل تفعل في النصف من هذا الشهر أو يذكرها العامة في النصف من هذا الشهر – شهر شعبان.
المسألة الأولى:
أن كثيراً من العامة يظنون أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر وأنه يكتب فيها ما يكون في السنة، ومن المعلوم أن ليلة القدر في رمضان ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [سورة القدر، الآية: 1].(107/1)
وفي قوله تعالى: { حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم } . [سورة الدخان، الآيات:1- 4] فهذا نص في أن القرآن نزل في ليلة القدر التي يفرق فيها ويفصل كل أمر حكيم ثم قوله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدي والفرقان } [ سورة البقرة، الآية: 185]. وهذا يدل دلالة أكيدة على أن ليلة القدر في رمضان بل هي في العشر الأواخر من رمضان.
المسألة الثانية:
وهي أن بعض الناس يخص ليلته بقيام ويومه بصيام بناء على أحاديث ضعيفة وردت في ذلك، ولكن حيث لا تصح هذه الأحاديث الضعيفة فإن ليلة النصف من شعبان لا تخص بقيام. ولكن إن كان الإنسان قد اعتاد أن يقوم الليل، فليقم ليلة النصف كغيرها من الليالي، وإن كان لم يعتد ذلك فلا يخصها بقيام كذلك في الصوم لا يخص النصف من شعبان بصوم، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لو صام الأيام الثلاثة البيض وهي اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر لو صامها فإن صيامها من السنة لكن ليس باعتقاد أن لهذا مزية على سائر الشهور وإن "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان أكثر من غيره من الشهور حتى كان يصومه كله أو إلا قليلاً منه" (1) .
المسألة الثالثة: -
أن بعض الناس يصنع الطعام في اليوم الخامس عشر من شعبان ويدعو إليه الناس، أو يوزعه على الجيران والأقارب معتقداً أن لذلك مزية وفضلاً ولكني أقول : ليس الأمر كذلك، فلا يشرع فيه صنع الطعام ولا الدعوة ولا الصدقة، بل هو كغيره من الأيام، يصنع فيه من الطعام ما يصنع في غيره وليس له مزية.
هذه ثلاث بدع يعتادها بعض الناس فأحببت التنبيه عليها.
والآن نشرع في موضوع المحاضرة.(107/2)
يمكن القول إن جميع الدين وصية من الله عز وجل كل الدين وصية من الله كما قال الله تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ سورة الشورى، الآية: 13] هذه وصية عامة { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } كلمتان اشتملتا على الدين الإسلامي كله وعلى توجيه المجتمع الإسلامي أن يقيم الدين وأن لا يتفرق فيه ومن ذلك قوله تعالى: { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } . [ سورة النساء، الآية: 131].
لكن سميت هذه الوصايا بالوصايا العشر لأن الله تعالى جمعها في مكان واحد وكان يختم كل وصية منها أو كل آية منها بقوله تعالى : { ذلكم وصاكم به } [ سورة الأنعام، الآية : 151].
إن الوصية هي العهد بالشيء عهداً مؤكداً، فكأن الله تعالى عهد إلينا بهذه الأشياء عهداً مؤكداً محتماً علينا فبدأ:-
بقوله عز وجل: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } . [ سورة الأنعام، الآية: 151] . والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم وأمره الله تعالى أن يقول هذا القول للناس عموماً. وأمر الله عز وجل لرسوله أن يقول للناس هذا هو أمر خاص وإلا فإن الله تعالى قد أمر نبيه على وجه عام أن يبلغ القرآن لكل الأمة.
{ ما حرم ربكم عليكم } أي ما حرم ربكم عليكم مخالفته، فهذه الأشياء التي سيوصي بها الله قد حرم الله علينا مخالفتها، فلابد أن نقوم بها على الوجه الأكمل وفي قوله تعالى: { ما حرم ربكم عليكم } ولم يقل : ما حرم الله لأن الرب هو الذي له التصرف المطلق في المربوب فالرب هو الرب ويقابله العبد كما قال الله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } . [ سورة الفاتحة، الآية:1] فوصف الله نفسه بأنه رب للعالمين كلهم، والرب هو الذي يملك أن يتصرف فيهم بما شاء من الأمر الكوني والأمر الشرعي.
الوصية الأولى(107/3)
{ أن لا تشركوا به شيئاً }
أي أن لا تجعلوا معه شريكاً والنهي عن الشرك بالله يشمل ثلاثة أقسام: -
القسم الأول النهي عن الشرك به في ربوبيته.
القسم الثاني النهي عن الشرك به في ألوهيته.
القسم الثالث النهي عن الشرك به في أسمائه وصفاته.
القسم الأول: الشرك في الربوبية:
من المعلوم أن الله عز وجل هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور { هل من خالق غير الله } . [سورة فاطر، الآية: 3] أبداً الخالق هو الله وحده ولهذا حرم الله عز وجل أن يخلق أحد مثله ولو بالصورة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في المصورين : انه يقال لهم : أحيوا ما خلقتم فلا يمكن أن يشرك بالله في خلقه أو ملكه أو تدبيره فمن اعتقد أن لله تعالى مشاركاً في الخلق فقد أشرك به. لو قال : إن هذا بمقتضى الطبيعة وهذا بمقتضى الزمن وهذا بكذا وكذا مما يضاف إلى غير الله فإنه مشرك بالله ومن العجب أن هذا الشرك أعني الشرك في الربوبية لا يذهب إليه، ولا الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. الكفار الذين قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام هل كانوا يشركون في الربوبية؟ الجواب: لا. { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } . [ سورة الزخرف، الآية: 9] . ويقرون بأن الله هو الخالق ولكن يوجد في عهدنا هذا من يكابر وينكر الخالق ويدعي(107/4)
والعياذ بالله أن هذا الكون ليس له مدبر وليس له خالق وإنما هي أشياء تتفاعل ويتولد بعضها من بعض وأرحام تدفع وأرض تبلع وليس هناك خالق. ولكن عجباً لهؤلاء كيف ينكرون أن يكون للعالم خالق وهم يعلمون أنه لا يمكن أن يوجد الشيء بلا موجد هل يمكن أن يوجد الشيء بلا موجد؟ أبداً لأنه إما أن يقال : أوجد نفسه أو وُجد بلا موجد والأول ممتنع لا يمكن أن يوجِد الشي نفسه لأنه قبل الوجود كان عدماً والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يوجِد شيئاً ولا يمكن أن يوجَد بلا موجِد ولهذا قال الله عز وجل: { أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } . [ سورة الطور، الآية: 35]. إذاً فلابد من موجد وهو الله عز وجل هو الذي أوجد هذا الكون وخلقه بقدرته ودبره بحكمته.
من الشرك في الربوبية أن يحلف الإنسان بغير الله لكنه شرك لا يخرج من الملة إلا أن يعتقد الحالف بأن المحلوف به له من العظمة ما لله عز وجل فيكون شركاً أكبر وإلا فهو من الشرك الأصغر ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " (1) وقال عليه الصلاة والسلام : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " (2) لكن لو قال القائل : ورسول الله. وحلف بالرسول عليه الصلاة والسلام وقال: إن رسول الله هو أعظم الخلق فلماذا لا يجوز القسم به ؟
فالجواب: أن أعظم الخلق هو الذي قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (1) فيكون الحلف بالنبي من الشرك.
فإذا قال إنسان: إن بعض الناس يجري على لسانهم هذا القسم يقول : والنبي بدون قصد فالجواب: أن نقول : إذا كان بغير قصد فإنه يلزمه أن يطهر لسانه منه، وأن لا يعود نفسه على هذا القسم المحرم حتى يتخلص منه.(107/5)
من الشرك بالربوبية أن يتخذ الإنسان أنداداً يشرعون تشريعات تخالف شرع الله، فيوافقهم فيها مع علمه بمخالفتها للشريعة، ولهذا ترجم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ترجم على ذلك في كتاب التوحيد بقوله : " باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً" فإذا وجد قوم يتبعون القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية مع علمهم بمخالفتها للشريعة فإننا نقول: هؤلاء قوم مشركون لأنهم اتخذوا حاكماً يحكم بين الخلق غير الله عز وجل ومن المعلوم أن الحكم بين الخلق من مقتضيات الربوبية فقد اتخذوهم أرباباً من دون الله ولهذا يروى من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } قال : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم قال: " أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه" قال: نعم يا رسول الله قال: " فتلك عبادتهم" (2) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا من الشرك ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة ولي الأمر في معصية الله منع من أن يطاع أحد من الخلق في معصية الله. فقال عليه الصلاة والسلام " إنما الطاعة في المعروف" . فقد أرسل سرية وأمر عليهم رجلاً وقال لهم:أطيعوا أميركم فغضب عليهم الأمير ذات يوم وقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا حطباً ثم قال : أوقدوها النار فأوقدوها النار ثم قال : ادخلوا فيها . طاعتهم في جمع الحطب صحيحة، وطاعتهم في إضرام النار صحيحة. لكن لما قال : ادخلوها توقفوا وقالوا : كيف ندخل في النار ونحن لم نؤمن إلا فراراً من النار فامتنعوا ولم يدخلوها فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر قال: " إنهم لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف "(1).(107/6)
إذاً متابعة الكبراء في مخالفة شريعة الله من الشرك بالربوبية لأن الحكم بين الناس من مقتضيات الربوبية والسلطان.
القسم الثاني: الشرك في الألوهية:
وهذا هو الذي يكثر بين الناس، وهو الذي كان عليه المشركون في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. فكيف يكون الشرك في الألوهية؟
يتخذ الإنسان مخلوقاً من المخلوقات يعبده ويتأله إليه كما يعبد الله عز وجل يسجد للصنم يسجد للشمس يسجد للقمر يسجد للقبر يسجد للكبير يسجد لأبيه يسجد لأمه.. وهكذا.
المهم أن يتعبد لمخلوق، نقول: هذا شرك في الألوهية لأنه اتخذ هذا المعبود إلهاً يعبده من دون الله.
ومن ذلك: هؤلاء الذين يذبحون القربان للقبور يذبح عند القبر قرباناً ليتقرب به إلى صاحب القبر يعظمه بالذبح كما يعظم الله تعالى بالذبح هذا أيضاً من الشرك الأكبر المخرج عن الملَّة لأن الله يقول: { أن لا تشركوا
به شيئاً } [ سورة الأنعام، الآية : 151]. وهذا الشرك هو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نبذه. ولما أبوا قاتلهم فاستحل دماءهم وسبى ذريتهم وغنم أموالهم لأنهم مشركون.
هل تعلمون أحداً دعا إلى عبادة نفسه من البشر؟ نعم، فرعون دعا إلى عبادة نفسه وقال لقومه: { يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } [ سورة القصص ، الآية :38] يقول ذلك وهو يكذب فهو يعلم أن هناك إلهاً غيره، ولهذا قال له موسى { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } [ سورة الإسراء ، الآية : 102] ولم ينكر فرعون.
موسى كان يخاطبه بهذا ولم ينكر بل أقر وكان هو وقومه يقرون بذلك كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } . [سورة النمل، الآية: 14].
القسم الثالث: الشرك في أسماء الله وصفاته:(107/7)
الشرك في أسماء الله وصفاته : أن يجعل الإنسان لله مثيلاً فيما وصف به نفسه كلنا نقرأ { الرحمن على العرش استوى } . [ سورة طه، الآية: 5]. والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الله جاء في الحديث: " أن السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة ". إذاً مخلوق عظيم اختصه الله عز وجل بالاستواء عليه.
هل أنت أيها الإنسان تستوي على الفلك؟ تستوي على البعير ؟
تستوي عليه استمع { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم .. } [ سورة الزخرف، الآيتان:12- 13].
وقال الله تعالى لنوح: { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } . [ سورة المؤمنون: الآية: 28].
لو قال قائل: إن استواء الله على عرشه كاستوائنا على الفلك أو على البعير، نقول : هذا مشرك لأنه جعل صفة الخالق كصفة المخلوق فجعل لله تعالى شريكاً في الصفة ولكننا نقول: نحن نؤمن بأن الله استوى على العرش لكن بدون تمثيل لا مثيل لاستوائه كما لا مثيل لذاته عز وجل وهكذا بقية الصفات. إذاً من أثبت الصفات مع التمثيل فهو مشرك لأنه شرك بين الخالق والمخلوق في الصفة.
لكن ما تقولون فيمن نفى حقيقة الصفات هل يكون ممثلاً؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : كل معطل ممثل، كل من عطل فقد مثل.
الذي ينكر الصفات هو منكر وممثل قد يقول قائل : كيف يكون منكراً وممثلاً لأن التمثيل إثبات والإنكار نفي وهل هذا إلا جمع بين النقيضين؟ نقول : استمع، لماذا عطل المعطل صفات الله؟ لأنه اعتقد أن إثباتها يستلزم التمثيل قال: أنا لو أثبت الصفة إذاً أثبت التمثيل إذاً يجب أن أنكر حقيقة الصفة لأسلم من التمثيل فمثل أولاً وعطل ثانياً.
الوصية الثانية:
ثم قال تعالى: { وبالوالدين إحساناً } [ سورة الأنعام، الآية: 151].(107/8)
فجعل الله تعالى حق الوالدين بعد حقه ومن هما الوالدان؟ هما الأم والأب، وحق الأم آكد من حق الأب، ولهذا سئل الرسول عليه الصلاة والسلام: " من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من ؟ قال : أبوك"(1) وذلك لأن الأم تعاني من الولد أشد مما يعاني الأب. قال الله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين } [سورة لقمان، الآية: 14].
والإحسان إلى الوالدين يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالمال. الإحسان بالقول أن يقول لهما قولاً ليناً لطيفاً كريماً بحيث يناديهما مناداة إجلال وتعظيم حتى إن بعض العلماء قال : يكره أن ينادي الإنسان أباه باسمه مثلاً إن كان أبوك اسمه محمد لا تقول : يا محمد قل : يا أبتي، إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه وأبوه كافر يقول له : يا أبتِ لم تعبد لأن هذا من باب الإكرام ، حتى إذا بلغ الوالدان سناً كبيراً يحصل منه شيء من التعب فإن الله تعالى يقول : { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً } [ سورة الإسراء، الآية: 23].
بعض الناس إذا كبر الوالد عنده أو الأم مل منهما وصار ينهرهما وصار يقول لهما قولاً خشناً الله ينهى عن ذلك { فلا تقل لهما أف } معنى ( أف ) يعني أتضجر منكما { ولا تنهرهما } بالقول في الصراخ أو العتاب أو ما أشبه ذلك { وقل لهما قولاً كريماً } ليناً لطيفاً تقر به أعينهما. هذا الإحسان بالقول إننا نرى بعض الناس يلين بقوله مع زوجته ولا يلين بقوله مع أمه، وهذا مشاهد تجده مع الزوجة يلين لها ويخضع لها ولا ينهرها لكنه مع أمه بالعكس بل مع أبيه إن تمكن وهذا خلاف ما أمر الله به.(107/9)
الإحسان بالفعل يكون بالخدمة والقيام بمصالحهما. الخدمة البدنية إذا عجزا ساعدهما حتى عند المنام وعند القيام وعند الجلوس يجب على الإنسان أن يقوم ببر الوالدين عند العجز فيعينهما بكل ما يحتاجان إليه من عون.
الإحسان بالمال يجب أن يحسن إليهما بالمال بأن يبذل لهما كل ما يحتاجان إليه من نفقة، كسوة طعام، شراب، سكن إذا كان يقدر على هذا.
فصار الإحسان إلى الوالدين يتضمن ثلاثة أمور : الإحسان بالقول، الإحسان بالفعل، والإحسان بالمال.
وبر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : " أي العمل أحب إلى الله؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أي؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلت : ثم أي قال : الجهاد في سبيل الله " (1).
واعلم أن البر بالوالدين، كما هو واجب فإن الله تعالى يثيب البار في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا نجد حسب ما علمنا بالسماع والمشاهدة، نجد أن الذي يبر والديه ييسر الله له أولاداً يبرونه وأن الذي لا يبر والديه يسلط عليه أولاده فيعقونه والعياذ بالله، إذاًعرفنا الوصية الثانية الإحسان بالوالدين.
فما ضد الإحسان؟ ضده أمران، إساءة ، وموقف سلبي بين الإحسان والإساءة.(107/10)
أما المسيء: فلا شك في أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب لأنه عاق وأما السلبي الذي لا يبر ولا يسيء فقد ترك واجباً مما أوجب الله عليه وهو الإحسان إلى الوالدين قد يقول قائل : لماذا لم يذكر الله حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن حق الرسول مقدم على حق الوالدين بل مقدم على النفس ولهذا يجب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليك حتى من نفسك وأبيك وأمك وابنك والناس أجمعين فإذا قال قائل: لماذا لم يذكر الله حق رسوله؟ فالجواب أن حق الله متضمن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله جعلهما ركناً واحداً من أركان الإسلام فقال: " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" (1) فيكون حق الرسول مقدماً على حق الوالدين، لأنه متضمن في حق الله.
الوصية الثالثة:
ثم قال عز وجل: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } [ سورة الأنعام، الآية: 151].
الإملاق: يعني الفقر و( من ) هنا سببية أي بسبب الإملاق يعني لا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر، { نحن نرزقكم وإياهم } ، { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ سورة هود، الآية: 6] هل أحد يقتل أولاده؟ لا لكن الجاهلية العمياء كانت تجعل الجاهلين يقتلون أولادهم وقتل الجاهلين لأولادهم له سببان: -
السبب الأول: ما ذكره الله هنا وهو الإملاق أي الفقر.
السبب الثاني: العار.(107/11)
أما الأول الذي سببه الفقر فكانوا يقتلون الذكور والإناث: إذا جاءه ولد وهو فقير قال : هذا سيثقل كاهلي في الإنفاق فيقتله والعياذ بالله، أما الآخر الذي سببه العار فهؤلاء يقتلون الإناث دون الذكور. { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } [ سورة النحل، الآيتان:58- 59].
يقول الله عز وجل:لا تقتلوا أولادكم من الفقر. إذاً يبقون ولو كان الأب فقيراً لأن رزقهم على الله عز وجل { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . فإن قتل ولده فهل يقتل؟ لو أن رجلاً فقيراً جاءه ولد ذكر أو أنثى فقتله لأنه لا يجد ما ينفق عليه فهل يقتل الأب أو لا يقتل؟
قال بعض أهل العلم : إنه يقتل إذا علمنا أنه تعمد القتل يقتل لعموم قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } [ سورة البقرة، الآية: 178]. وقوله تعالى: { وكتبنا عليهم فيها } أي على بني إسرائيل في التوراة، { أن النفس بالنفس } وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " (1).
قالوا : ولأن الرجل إذا قتل ولده جمع بين عدوانين : عدوان القطيعة وعدوان القتل فيقتل وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله.(107/12)
لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن الوالد إذا قتل ولده لا يقتل، واستدلوا بحديث مشهور عند أهل العلم ( لا يقتل والد بولده ) (2) ولكن هذا الحديث ضعفه كثير من العلماء وقالوا أيضاً : إن الوالد سبب وجود الولد فلا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إعدامه ولكن لا شك أن هذه العلة عليلة وذلك أن الأب سبب في وجود الولد لا شك لكن سبب قتله هو عدوان الأب وليس وجود الابن حتى نقول : كيف يكون وجوده سبباً في إعدام من أوجده أو من كان سبباً في وجوده، على كل حال هذه المسألة موضع ذكرها ومناقشتها كتب الفقه لكن ذكرت عرضاً عند حديثنا عن قوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } . [ سورة الأنعام، الآية: 151].
وهنا نقف لننظر الفرق بين هذه الآية وبين آية الإسراء { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } . [ سورة الإسراء الآية: 31]. لماذا قدم الوالدين في سورة الأنعام وقدم الأولاد في سورة الإسراء ما هي الحكمة؟
يجب أن نعلم أن التعبير القرآني لابد أن يكون فيه حكمة لا يمكن أن يختلف التعبير إلا لسبب، في سورة الأنعام قال: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } إذاً فالفقر موجود فبدأ برزق الفقراء فقال : نحن نرزقكم. وفي سورة الإسراء الفقر غير موجود لكنه متخوف { خشية إملاق } فبدأ بذكر المحتاجين وهم الأولاد وهذا من بلاغة القرآن.
الوصية الرابعة:
{ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [ سورة الأنعام، الآية: 151].
الفواحش: جمع فاحشة، والفاحشة كل ما أنكرته العقول واستفحشته واستكبرته واستعظمته من المعاصي فهو فاحشة ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من المعاصي الفواحش عدداً:-
أولاً: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } [ سورة الإسراء، الآية: 32].(107/13)
ثانياً : نكاح زوجات الآباء فقال: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } [ سورة النساء، الآية: 22].
ثالثاً : قال لوط لقومه: { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } [ سورة الأعراف: الآية: 80] ونقتصر على هذه الفواحش الثلاث. هذه الفواحش الثلاث لا شك أن كل ذي عقل سليم يستفحشها ويستعظمها مع أنها من كبائر الذنوب. فالزنى فاحشة لأنه يفسد الأخلاق ويفسد الأنساب ويوجد الأمراض ومصداق هذا ما ظهر في الآونة الأخيرة من المرض الخبيث الذي هو " فقد المناعة" ويسمى " بالإيدز " . هذا سببه الزنى أو أكبر أسبابه الزنى. ولهذا سماه الله فاحشة وساء سبيلاً. لا يمكن أن يكون سبيلاً للمسلمين أبداً لأنه طريق فاسد مرد مهلك.
وتأمل هذه الآيات الثلاث التي ذكرناها ففي الزنى قال الله تعالى: { إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وفي نكاح زوجات الآباء قال: { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } وفي اللواط قال لوط عليه الصلاة والسلام : ( أتأتون الفاحشة ) وكما قلنا آنفاً : لا يمكن أن يختلف التعبير القرآني إلا لسبب. في الزنى قال: { إنه كان فاحشة } هذه نكرة. في فعلة قوم لوط عليه الصلاة والسلام قال: { أتأتون الفاحشة } هذه معرفة، { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً } فاحشة نكرة لكن أضاف إليها { ومقتاً } أي مكروهاً مبغوضاً عند الله وعند الخلق.
يتولد من هذا السؤال التالي: أي هذه الفواحش أعظم؟(107/14)
اللواط أعظمها لأنه عرفها بأل قال : { الفاحشة } فكأنها فاحشة معهودة عند كل ذي فطرة سليمة وعقل قويم فعرفت بأل كأنها هي الفاحشة المشهورة المعلومة التي ينكرها كل أحد ولهذا كان الفرج الذي استبيح بهذه الفعلة القبيحة لا يباح بأي حال من الأحوال وكانت على القول الراجح عقوبة اللوطي الذي يفعل اللواط القتل بكل حال يعني إذا ثبت أن شخصاً تلوط بشخص، وكان المفعول به غير مكره فإنه يجب قتل الاثنين جميعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " (1) حتى وإن كانا لم يتزوجا ـ أي وإن كانا بكرين فإنه يجب قتلهما.
إذا قال قائل : أين الدليل؟ قلنا : الدليل هو هذا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتل الفاعل والمفعول به لكنهم اختلفوا كيف يقتلان فقال بعضهم: يرجمان بالحجارة . وقال بعضهم: بل يرميان من أعلى شيء في البلد ويتبعان بالحجارة. وقال آخرون: بل يحرقان بالنار وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا بكر رضي الله عنه أمر بتحريقهما أي بتحريق الفاعل والمفعول به.(107/15)
إذاً اللواط أشد من الزنى ، لأن عقوبته القتل بكل حال، ولكن كيفية القتل اختلف فيها الصحابة فإذا رأى ولي الأمر أن يقتلهما على إحدى الصفات الواردة فلا بأس، المهم أنه لا مكان لهما في المجتمع لأن بلية اللواط والعياذ بالله بلية لا يمكن التحرز منها إذ إن الذكور كلهم يخرجون في الأسواق ويمشون جميعاً ويأتون جميعاً ويذهبون جميعاً فالتحرز منها غير ممكن فلهذا إذا عوقب الفاعل والمفعول به بالقتل كان هذا أقوى رادع عن هذه الفعلة التي تعتبر من أقبح الفعال، ونكاح زوجة الأب يقع في المرتبة الثانية لأن الله تعالى وصفه بوصفين فقال : { إنه كان فاحشة ومقتاً } ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الرجل إذا زنى بمحارمه وجب قتله بكل حال، يعني لو زنى الإنسان والعياذ بالله بأخته وجب أن يقتل بكل حال، وإن زنى بابنته فكذلك، وإن زنى بزوجة أبيه وجب قتله ولو لم يتزوج يعني ولو كان بكراً لأن هذا أعظم من الزنى بغير ذوات المحارم. وتلك ثلاثة أمثلة لـ "الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
قوله: { ما ظهر منها وما بطن } لها معنيان:-
المعنى الأول: ما ظهر منها بإظهاركم ، وما بطن، ما بطن منها بإخفائكم أي الفواحش سواء أظهرتموها أم أخفيتموها.
وقيل : المعنى بل ما ظهر منها، أي ما كان فحشه ظاهراً لكل أحد وما كان فحشه خفياً لا يظهر لكل أحد. على كل حال الفواحش محرمة ما ظهر منها وما بطن.
الوصية الخامسة:
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . [ سورة الأنعام، الآية: 151 ].
في قوله : ( التي حرم الله ) دليل على أن النفوس تنقسم إلى قسمين:-
1. 1. قسم لم يحرم الله قتلها.
2. 2. قسم حرم الله قتلها.
فما الذي حرم الله قتله من النفوس؟
هم أربعة أصناف: المسلم ـ الذمي ـ المعاهد ـ والمستأمن.
هؤلاء أربعة، المسلم معصوم بإسلامه، والذمي بذمته، والمعاهد بعهده، والمستأمن بأمانه.(107/16)
الذمي هو الذي جرى بينه وبين المسلمين عقد وعهد على أن يبقى في البلاد الإسلامية محترماً ولكن يبذل الجزية دليل ذلك قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ سورة التوبة، الآية: 29] . وإذا فعلوا ذلك وجب علينا حمايتهم وحرم علينا الاعتداء عليهم لا في المال ولا في النفس ولا في العرض.
المعاهد هو الذي عقد بينه وبين المسلمين عهد، " ومثال ذلك ما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش عام الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة " عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، لكنهم نقضوا العهد.. المهم أنه جرى بينه وبينهم عهد، فإذا جرى بين المسلمين وبين غير المسلمين عهد على عدم الاعتداء صار هذا العهد ملزماً ومانعاً من العدوان عليهم. والمستأمن يعني الذي أخذ أماناً منا ودليل ذلك قول الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأ منه } [ سورة التوبة، الآية: 6] . هذه هي النفس التي حرم الله. فالله عز وجل قال: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } إذا قلنا : إن النفوس التي حرمها الله أربع فمن بقي؟
بقي الكافر الذي ليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة هذا مهدر الدم ويجوز للإنسان أن يقتله حيثما وجده.(107/17)
ثم قال الله تعالى : { إلا بالحق } ، فإذا كان قتل النفس بحق فلا مانع من قتلها، من الحقوق التي تبيح قتل النفس المحرمة: منها القصاص ومنها الزنى إذا كان الزاني محصناً ومنها على القول الراجح اللواط فإنه مبيح للقتل، ومنها الردة إذا ارتد الإنسان عن دينه فإنه يدعى إلى دينه فإن أبى قتل، وكذلك الحرابة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا أو يصلبوا } [ سورة المائدة، الآية: 33] وهم الذين يعرضون للناس بالطرق ويقتلونهم ويأخذون أموالهم، المهم أن كلمة ( بالحق ) عامة تشمل كل ما أباح الشارع قتله من النفوس المحرمة.
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } . ( ذلكم ) المشار إليه ما سبق وهن خمس وصايا وصانا الله بها لعلنا نعقل.
ما المراد بالعقل هنا؟
نحن نعلم أن العقل نوعان : عقل إدراك، وعقل رشد، فعقل الإدراك ما يدرك به الإنسان الأشياء، وهذا الذي يمر كثيراً في شروط العبادات، يقول : من شرطها الإسلام والعقل والتمييز، هذا هو عقل الإدراك وضده الجنون.
والثاني عقل رشد. بحيث يحسن الإنسان التصرف ويكون حكيماً في تصرفه وضد هذا السفه لا الجنون.
فالمراد بالعقل بهذه الآية، المراد عقل الرشد لأنه لم يوجه إلينا الخطاب إلا ونحن نعقل عقل إدراك، لكن هل كان من وجه إليه الخطاب، يعقل عقل رشد؟ لا قد لا يعقل عقل الرشد، الكفار كلهم غير عقلاء عقل رشد كما قال الله تعالى في وصفهم : { بكم عمي فهم لا يعقلون } [ سورة البقرة، الآية: 171] لكن ليس معناه ليس عندهم عقل إدراك بل قد يكون عندهم عقل إدراك قوي وذكاء مفرط لكن ليس عندهم عقل رشد.
وما هو العقل النافع للإنسان؟
عقل الرشد لأن عقل الإدراك قد يكون ضرراً عليه إذا كان ذكياً فاهماً ولكنه والعياذ بالله ليس عنده حسن تصرف ولا رشد في تصرفه وقد يكون أعظم من إنسان ذكاؤه دون ذلك وهنا نسأل عن مسألة كثر السؤال عنها هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟(107/18)
قال بعض الناس في القلب وقال بعض الناس : في الدماغ، وكل منهم له دليل، الذين قالوا : إنه في القلب قالوا : لأن الله تعالى يقول: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } . [ سورة الحج، الآية: 46].
قال : { قلوب يعقلون بها } ثم قال: { تعمى القلوب التي في الصدور } . إذاً العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب.
وقال بعضهم : بل العقل في الدماغ لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه ولأننا نشاهد في الزمن الأخير نشاهد الرجل يزال قلبه ويزرع له قلب جديد ونجد عقله لا يختلف عقله وتفكيره هو الأول. نجد إنساناً يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف، ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلاً فكيف يكون العقل في القلب؟ إذاً العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل التصرف، اختل العقل.(107/19)
ولكن بعض أهل العلم قال: إن العقل في القلب ولا يمكن أن نحيد عما قال الله عز وجل لأن الله تعالى وهو الخالق وهو أعلم بمخلوقه من غيره كما قال تعالى: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله" (1). فالعقل في القلب والقلب في الصدر لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب، لينظر أوامره ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ إذاً الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه هذا القلب يوقع، يمضي، أو يرد ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في كتبه، والإمام أحمد أشار إليه إشارة عامة فقال : محل العقل القلب وله اتصال بالدماغ. لكن التفصيل الأول واضح جداً الذي يقبل الأشياء ويتصورها ويمحصها هو الدماغ ثم يرسل النتيجة إلى القلب ثم القلب يأمر إما بالتنفيذ وإما بالمنع لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله.
الوصية السادسة:
ثم قال تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } .[سورة الأنعام، الآية: 152].
اليتيم هو الذي مات أبوه قبل بلوغه سواء أكان ذكراً أو أنثي. ومن ماتت أمه قبل أن يبلغ فليس بيتيم.
هذا اليتيم له مال ورثه من أبيه ولابد أن يكون لليتيم ولي يقوم عليه، إما بوصية من أبيه وإما بتوليه من الحاكم وإما بتولية من الشارع على قول كثيرمن أهل العلم. المهم وليه يقول الله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } .
قربان مال اليتيم له ثلاث درجات:
1. 1. أسوأ.
2. 2. أحسن.
3. 3. لا أحسن ولا أسوأ.(107/20)
فالتصرف بما هو أسوأ في مال اليتيم حرام يعني: لو أنك أردت أن تشتري شيئاً بمال اليتيم وتعرف أن هذا الشيء سيخسر قطعاً ، فذلك حرام لأن هذا لا شك ضرر على اليتيم. وأما إذا تصرفت تصرفاً لا تدري هل هو أحسن أو ليس بأحسن. هذا أيضاً حرام لأن الله يقول: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } .
أردت أن تتصرف فيه تصرفاً حسناً لكن أمامك شيئان، تصرف فيه خير وتصرف فيه خير أكثر، أيهما الواجب؟ الواجب الذي فيه الخير الأكثر لأن الله قال: { إلا بالتي هي أحسن } ولنضرب لهذا مثلاً : جاءك رجل يقول : أقرضني مال اليتيم. وهذا الرجل معروف بالمماطلة وأنه لا يكاد يخرج الحق منه، هل يجوز أن تقرضه؟ لا يجوز لأن في ذلك مغامرة ومخاطرة في مال اليتيم.
جاءك رجل آخر يقول : أقرضني مال اليتيم وهو رجل وفي، لكن إقراضه ليس فيه مصلحة لليتيم هل تقرضه؟ لا لأنه ليس فيه مصلحة.
جاءك رجل ثالث يقول : أقرضني مال اليتيم وأنت تخشى على هذا المال لو بقي عندك أن يسرق، فهل في إقراضه مصلحة؟
هذا الرجل الثالث وفي، ولو طلب منه المال في أي ساعة من ليل أو نهار أعطاه، وأنا أخشى إن بقي المال عندي أخشى عليه من عدوان أو سرقة أو غير ذلك فهنا إذا أقرضته، جائز لأن هذا هو الأحسن، إذاً يجب على ولي اليتيم المتولي لماله أن لا يتصرف إلا بالتي هي أحسن، ومن هنا نأخذ قاعدة، وهي أن كل ولي على كل شيء يجب عليه أن لا يتصرف إلا بما هو أحسن.(107/21)
الإنسان لو تصرف بشيء لنفسه فهو حر، لكن إذا تصرف بشيء لغيره وجب أن يتبع الأحسن، ومن ذلك ما لو تقدم إلى ابنتك رجلان يخطبانها، أحدهما صاحب دين وخلق، والثاني دونه في الدين والخلق، فما الواجب عليك، أتزوج الأول أو الثاني؟ الواجب أن تزوج الأول لأن ذلك أحسن فإن صاحب الخلق والدين إن رضي البنت أمسكها بإحسان وإن فارقها فارقها بمعروف ومن هنا نأخذ أيضاً أنه لا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته برجل تريده، والأب لا يريده إذا كان صاحب خلق ودين لأن هذا خلاف الإحسان بالنسبة للتصرف في حق البنت وكذلك أيضاً إذا أعطاك شخص زكاته لتفرقها على مستحقيها، ووجدت فقيراً ووجدت شخصاً آخر أشد منه فقراً فما الواجب عليك؟ الواجب أن تعطي الذي هو أشد فقراً لأن هذا أنفع لصاحب الزكاة وللمعطى أيضاً. فكل من تصرف لغيره فالواجب عليه أن يتبع ما هو أحسن. قوله :
{ حتى يبلغ أشده } . المراد بالأشد ، الرشد لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً قال الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ سورة النساء، الآية: 6]. فإذا بلغ اليتيم وكان يحسن التصرف في المال وجب علينا أن ندفع إليه المال، ولهذا قال: " فادفعوا إليهم أموالهم"
لأنه الآن ليس لأحد حق في الولاية عليه.
الوصية السابعة:
{ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } [ سورة الأنعام، الآية: 152]
{ أوفوا الكيل } إذا كلتم لأحد فأوفوا الكيل، إذا وزنتم لأحد فأوفوا الوزن يمكن أن نقول: إن هذا من باب ضرب المثل وإن المراد بإيفاء الكيل والميزان إيفاء الحقوق كلها يعني إذا كان عليكم حقوق فأوفوا الحقوق. إن كانت كيلاً فأوفوا الكيل وإن كانت وزناً فأوفوا الوزن.
ولكننا نجد كثيراً من الناس على خلاف هذه الحال إذا كان الشيء عليهم فرطوا فيه وإذا كان الشيء لهم أفرطوا فيه وأضرب لهذا مثلين:-(107/22)
المثل الأول: بعض الناس يكون عليه الطلب، الدين، فيماطل مع قدرته على الوفاء. يأتيه صاحب الحق يا فلان أعطني حقي، يقول : غداً ، أعطني، بعد غد ولا سيما إذا كان الحق للدولة فإن كثيراً من الناس يتهاون به وذلك في مثل وفاء صندوق التنمية العقارية، لأننا نسمع أن كثيراً من الناس عندهم ما يوفون به الصندوق ولكن يماطلون وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظلم" (1) أي القادر على الوفاء. والظلم ظلمات يوم القيامة، إذاً هذا المطلوب الذي يماطل نقول : لم يوف الكيل لأنه لم يوف صاحب الحق حقه.
المثال الثاني: عكس ذلك إذا كان للإنسان حق أراد أن يستوفيه كاملاً حتى إنه إذا كان له غريم فقير قال إما أن توفيني وإما أن أرفعك إلى الجهات المسؤولة فتحبس. فيضطر هذا الفقير المدين إلى أن يذهب ويتدين فيتضاعف عليه الدين أضعافاً مضاعفة.
مثال آخر:-
هؤلاء الكفلاء الذين استقدموا العمال، يريدون من العامل أن يقوم بالعمل كاملاً ولكنهم لا يوفون العامل أجرة عمله، حتى إن بعض العمال يتقدم يشكو يقول: أنا لي ثلاثة، أربعة أشهر عند كفيلي ما أعطاني شيئاً، وهذا ظلم وجور، بل قد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: " قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه حقه " (1) هؤلاء الذين يتعاملون مع الناس هذه المعاملة إذا كان الحق لهم أخذوا به كاملاً، وإذا كان الحق عليهم فرطوا فيه. استمعوا إلى جزائهم يوم القيامة، قال الله تعالى { : ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ سورة المطففين، الآيات : 1-6].(107/23)
ومن ذلك أيضاً أن بعض الأزواج يريد من الزوجة أن تقوم بحقه كاملاً ولكنه يماطلها بحقها تجده يريد أن تقوم بكل خدمة البيت على الوجه الأكمل ولكنه لا يعطيها حقها من النفقة حتى الإنفاق الواجب عليه لا يقوم به، وهذا يدخل في المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وفي هذه الحال يجوز للمرأة إذا امتنع زوجها من إعطائها النفقة الكافية يجوز أن تأخذ من ماله بلا علمه، هكذا أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن هند بنت عتبة جاءت تشكو زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، وولدي بالمعروف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك" (2)، لأنه حق لها فإذا بخل به فلها أن تأخذ من ماله بلا علمه كما أن من النساء من تكون بالعكس تريد من زوجها أن يقوم بحقها كاملاً ولكنها هي تنقصه حقه. هؤلاء داخلون في هذه الآية بالقياس الجلي الواضح.
{ لا نكلف نفساً إلا وسعها } [ سورة الأنعام، الآية : 152].
ما أحسن هذه الجملة بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط.
الإنسان يجب عليه أن يوفي الكيل والميزان بالقسط، لكن ربما يكون هناك تقصير لم يحط به فهل يأثم على ذلك؟(107/24)
لا، ولهذا قال : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } وهذه القاعدة ذكرها الله في عدة آيات فقال تعالى في سورة البقرة: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } . [سورة البقرة، الآية : 286]. وقال تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها } . [ سورة الأعراف، الآية: 42]. وهذا من كرم الله عز وجل أن الإنسان لا يكلف من دين الله إلا ما يطيق، وهو داخل في عموم قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الدين يسر"(1) وقوله صلى الله عليه وسلم "وهو يبعث البعوث فقد بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن وقال : يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا " (2)، فالله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها في جميع الأوامر فما لم تستطع فانتقل إلى بدله إن كان له بدل وإذا عجزت عن البدل سقط عنك واستمعوا إلى القصة التي وقعت من رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال : يا رسول الله هلكت، قال ما أهلكك؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام هل تجد رقبة؟ قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : لا، قال :
هل تجد إطعام ستين مسكيناً ؟ قال : لا، ثم جلس الرجل فجيء بتمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ هذا فتصدق به، قال الرجل : أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:أطعمه أهلك " (1). فأسقط عنه الكفارة بعجزه عنها مع أنها كفارة، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
الوصية الثامنة والتاسعة:-
{ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } [ سورة الأنعام، الآية: 152].(107/25)
فالواجب على العبد إذا قال قولاً أن يعدل في قوله ومن باب أولى وأحرى إذا فعل فعلاً أن يعدل في فعله حتى لو كان مع ذي قربى .
لو أن أباك وهو من أقرب الناس إليك أخطأ على شخص هل تقول لأبيك : إنك أخطأت؟ الجواب نعم هذا هو العدل: " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى".
لو أن صديقك أخطأ هل تقول : أخطأت؟ نعم لأن الله يقول: " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى " .
قوله: { وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به } .
العهد: هو الميثاق، وعهد الله سبحانه وتعالى على الإنسان هو أنه عز وجل أمره ونهاه. وتكفل له سبحانه وتعالى أنه إذا قام بهذه الأوامر والنواهي أنه يثيبه على ذلك كما قال الله تعالى: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [سورة المائدة، الآية: 12] وقال تعالى في هذه الأمة: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } . [ سورة الصف، الآيات: 10-12]. فهذا عهد من الله لمن آمن وجاهد في سبيل الله أن يغفر له ذنوبه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال تعالى في بني إسرائيل: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ سورة البقرة، الآية: 40] .
فأنت الآن قد عاهدت الله عز وجل على القيام بطاعته فأوف بهذا العهد.
الوصية العاشرة:
{ وأن هذا صرا طي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } . [ سورة الأنعام، الآية: 153].(107/26)
وهذه هي الوصية العاشرة، وهي جامعة لكل الشرع فيقول : هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، وصراط الله تعالى هو دينه الذي أرسل به رسله ودين محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأديان، فيجب على كل أحد من الناس أن يتبع هذا الدين وأن لا يتبع السبل فتفرق به عن سبيل الله ويضل ويهلك وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التفرق واتباع السبل ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيماً" وخط عن يمينه وشماله ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (1). وفي الآية وحد الله تعالى سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها وكثرتها.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن أوفى بعهد الله وممن قام بطاعته، وأسأل الله لي ولكم القبول والتوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
---
(1) البخاري: كتاب الصوم: باب: صوم شعبان: ومسلم: كتاب الصيام : باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.
(1) الترمذي: كتاب النذور والأيمان: باب في كراهية الحلف بغير الله: وقال: حديث حسن وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور.
(2) رواه البخاري: كتاب الشهادات: باب كيف يستحلف : ومسلم : كتاب الأيمان : باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(1) تقدم تخريجه.
(2) الترمذي: كتاب التفسير : تفسير ابن كثير سورة التوبة آية :" 31 ".
(1) البخاري: كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة. ومسلم : كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء..
(1) البخاري: كتاب الأدب. باب من أحق الناس بحسن الصحبة ،ومسلم: كتاب البر والصلة: باب بر الوالدين.
(1) البخاري: كتاب المواقيت: باب فضل الصلاة لوقتها. ومسلم: كتاب الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.(107/27)
(1) البخاري: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس : ومسلم / كتاب الإيمان : باب أركان الإسلام ودعائمه العظام.
(1) البخاري: كتاب الديات: باب قوله تعالى: { أن النفس بالنفس .. } ومسلم : كتاب القسامة: باب ما يباح به دم المسلم.
(2) أخرجه الإمام أحمد ج 1 ص 49 / والترمذي: كتاب الديات : وابن ماجه : كتاب الديات.
(1) أبو داود: كتاب الحدود: ( 1456) وابن ماجه : كتاب الحدود: (2561) وأحمد ج 1 ص 300 والحاكم ج 4 ص 395 وقال: حديث صحيح اإاسناد. ووافقه الذهبي. وشرح السنة للبغوي ج 10 ص 308 والبيهقي ج 8 ص 232 ونصب الرآية : ج 3 ص 339 –340.
(1) البخاري: كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم : كتاب المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات.
(1) البخاري: كتاب الحوالات: باب إذا أحال على ملي فليس له رد. ومسلم: كتاب المساقاة: باب تحريم مطل الغني.
(1) البخاري: كتاب البيوع: باب إثم من باع حراً .
(2) البخاري: كتاب البيوع: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم.
(1) البخاري: الإيمان: باب الدين يسر(39).
(2) البخاري: كتاب الجهاد: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب.
(1) البخاري: كتاب الصوم : باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر ومسلم: كتاب الصيام : باب تغليظ الجماع في نهار رمضان.
(1) أخرجه الإمام أحمد ( 4142) وابن ماجه ( المقدمة) باب: اتباع السنة، والدارمي (206) والبغوي في "شرح السنة " جـ1ص 196 ، والحاكم جـ2 ص 318 وصححه ووافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر.(107/28)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
العقيدة وأثرها في انتصار المسلمين
محمد بن صالح العثيمين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (1).
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (2).(108/1)
أيها الإخوة الكرام، يسرني أن ألتقي بكم، في هذه الليلة لأتحدث عن أمر مهم يتعلق بجنود الرحمن وذلك أن موضوع الجيش والقيادة العسكرية موضوع مهم وليس بالأمر الهين، فإن الإنسان في الواقع يرصد نفسه للقتل والمقاتلة إنه يرصد نفسه التي هي أغلى ما يملك من الحياة الدنيا لأجل أن يقوم بالقتال وربما يقتل، هذا الجندي الذي رصد نفسه لهذا الأمر العظيم إما أن يقتل قتلة جاهلية، وإما أن يقتل شهيداً في سبيل الله ينال منزلة الشهداء الذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : " أن أرواحهم تكون في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" (1) لأن هؤلاء الذين خرجت أرواحهم من أجسامهم في سبيل الله أبدلهم الله أجساماً خير منها في جنات النعيم فأهل الجنة من المؤمنين غير الشهداء في سبيل الله لا يحصل لهم هذا الفضل أي لا تكون أرواحهم في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وإذا كان هذا الأمر هو مآل الشهيد في سبيل الله فإنه لابد لنا أن نعرف من هو الشهيد في سبيل الله هل كل من قتل في حرب فهو شهيد في سبيل الله؟ هل من دافع عن هدف هو في سبيل الله؟.(108/2)
لا، لقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم " عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (2)هذا هو الميزان الحقيقي الذي يجب علينا أن نزن به كل مقاتلة يتلبس بها المرء ويواجه بها أعداءه، إذا كان هذا المقاتل يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لأن يكون هو الظاهر أو هو العالي، ولكن ليكون الظاهر دين الله ولتكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الذي يقاتل في سبيل الله وهذا هو الذي إذا قتل فهو شهيد، هذا هو الشهيد حقاً الذي ينال درجة الشهداء، ومع ذلك فإنه لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد حتى لو قتل مظلوماً، أو قتل وهو يدافع عن حق فإنه لا يجوز أن نقول : فلان شهيد وهذا خلافاً لما عليه كثير من الناس اليوم حيث أرخصوا هذه الشهادة وجعلوا كل من قتل حتى ولو كان مقتولاً في عصبية جاهلية يسمونه شهيداً وهذا حرام، لأن قولك عن شخص قتل إنه شهيد يعتبر شهادة سوف تسأل عنها يوم القيامة سوف يقال لك : هل عندك علم أنه قتل شهيداً ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب أو قال : وكلمه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك" (1) فتأمل قول النبي عليه الصلاة والسلام: " والله أعلم بمن يكلم في سبيله" أي بمن يجرح فإن بعض الناس قد يكون ظاهر أمره أنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولكن الله يعلم ما في قلبه وأنه خلاف ما يظهر من فعله، ولهذا بوب البخاري رحمه الله علي هذه المسألة في صحيحه فقال: " باب لا يقال : فلان شهيد" لأن مدار الشهادة على ما في القلب ولا يعلم ما في القلب إلا علام الغيوب جل وعلا.(108/3)
أيها الإخوة: إن أمر النية أمر عظيم وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض وذلك من أجل النية ألم يبلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنياً يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (1) العمل واحد والمظهر واحد وهي الهجرة، لكن بين هذين المهاجرين كما بين السماء والأرض لاختلاف النية، لأن النية عليها مدار عظيم فعلينا أن نخلص النية لله من الأساس نتعلم أساليب الحرب لأجل أن نقاتل حماية لدين الله عز وجل وإعلاءً لكلمته وثقوا بأنه مادامت هذه النية هي النية التي ينويها المقاتل مع صلاح عمله واستقامة حاله فإن الله تعالى سوف يكتب له النصر فإذا نصر الإنسان ربه فإن الله قد ضمن له النصر كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } (2).
وهنا مثلان يجب أن نأخذ منهما عبرة:
المثل الأول: في اعتماد الإنسان على نفسه وقوته فإنه متى اعتمد الإنسان على نفسه وقوته خذل مهما كان انظروا إلى ما وقع من المسلمين في غزوة الطائف " غزوة حنين " خرج الرسول عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً الذين فتحوا مكة وألفان من أهل مكة خرجوا إلى ثقيف وهوازن فقالوا: " لن نغلب اليوم من قلة (3)"، أعجبوا بكثرتهم وأنهم لن يغلبوا بسبب الكثرة فماذا حصل ؟ هزموا بثلاثة آلاف وخمسمائة نفر ولهذا ذكرهم الله عز وجل(108/4)
بهذه الحال حيث قال: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } (1) لما علم المسلمون أن الكثرة لن تغني شيئاً واستقر ذلك في نفوسهم تراجعوا ثم جعل الله لهم النصر في آخر الأمر، إذاً يجب علينا أن نعتقد أننا ما أوتينا من قوة في العدد أو العدد يجب أن نعتقد أنه سبب من الأسباب وأن الأمر بيد الله عز وجل وأن من لا ينصره الله فلا ناصر له حتى لا نعتمد على القوة وحتى لا نركن إلى الدعة والسكون، لأن الإنسان إذا اعتمد على قوته والكثرة في العدد والعدد فإنه لن ينشط على القتال، ولن ينشط على الأهبة والاستعداد، لأنه يرى نفسه غالباً بسبب ما عنده من الكثرة ولهذا يجب علينا أن نكون دائماً معتصمين بالله مستعينين به.(108/5)
المثل الثاني: في غزوة أحد (2) كان النصر في أول الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولكن حصل منهم معصية واحدة وهي مخالفة الرماة جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم، في ثغر من الجبل وقال لهم: " لا تبرحوا مكانكم " لكن القوم لما رأوا أن المسلمين هزموا الكفار ظنوا أن لا رجعة للكافرين فتقدموا يقولون : الغنيمة، الغنيمة فماذا حصل؟ حصل أن استشهد من المؤمنين سبعون رجلاً ، وجرح الرسول صلى الله عليه وسلم في وجنته وكسرت رباعيته وأغمي عليه، وحصل ما حصل من التعب والمشقة والجراح ولكن لله تعالى الحكمة في ذلك، ذكرهم الله بهذا في قوله: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } لعل قائلاً يقول: أين جواب الشرط: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون } (1) ألا تترقبون شيئاً يأتي بعد هذه الجملة؟ بلى نترقب شيئاً أين هذا الشيء ؟ هذا الشيء حذف ليذهب الذهن كل مذهب في تقديره، يعني حصل ما تكرهون وحصل كذا وكذا، مما يمكن الذهن أن يقدره من خلال ما وقع في هذه الغزوة.
أيها الإخوة: إذا كان الأمر كذلك في جند من خير القرون، فإن خير قرون بني آدم: هم الصحابة رضي الله عنهم وحصل أيضاً مع خير رسول أرسله الله عز وجل إلى أهل الأرض بمعصية واحدة فما بالكم إذا كانت المعاصي كثيرة؟ إننا إذا أملنا النصر مع كثرة المعاصي فما هي إلا أمنية مبنية على غير حقيقة، لابد أن نطهر أنفسنا أولاً، وأن نرجع إلى الله عز وجل وأن نعمل عملاً صالحاً حتى نستحق النصر يقول الله سبحانه وتعالى: { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } .(108/6)
فمن الذين ينصرون الله { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } (2) استقاموا في أنفسهم وحاولوا إقامة غيرهم، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة استقامة لأنفسهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها محاولة إصلاح غيرهم، فهل هذا موجود الآن في أكثر الجيوش الإسلامية؟.
الجواب نقولها : وهي مرة لكن ما وافق الحقيقة فهو حلو نقول : هذا غير موجود إلا أن يشاء الله.
كيف كانت حال الرسول عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً مظفراً منصوراً كان عليه الصلاة والسلام خاضعاً الرأس يردد قوله تعالى: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } (1) يردد كلام الله لا يردد أنشودة ولا أغنية ولم يصحب أحداً يغني معه، فيجب علينا مع الإخلاص أن نستقيم في أمرنا { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } (2)فلا لابد من الاستقامة ولا يكفي أن نقول: ربي الله ولا أن تؤمن. ولهذا يقدم الله العمل أحياناً على الإيمان { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } (3). فقدم العمل، وبين أن أساس العمل الإيمان ، وقال عز وجل مقدم الإيمان أحياناً { والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } (4).(108/7)
أيها الإخوة: إن إخلاص النية أمر مهم لا تقاتل لأجل وطنك ولا تقاتل لأجل قومك، ولا تقاتل لأي أحد سوى وجه الله عز وجل حتى تنتصر وحتى تنال الشهادة إن قتلت، حتى ترجع بإحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الظفر والسعادة إن الإنسان الذي يقاتل لغير الله فقد باء بالفشل وخسر الدنيا والآخرة، إن القتال لغير الله سبحانه وتعالى غير مجدٍ شيئاً من أزمنة طويلة وظهرت دعوى الجاهلية دعوى القومية فماذا أنتجت هذه القومية؟ أنتجت تفريق المسلمين، وانضمام غير المسلمين إلى المسلمين بدعوى هذه القومية، بل إن القومية في حد ذاتها لم تجتمع ولا على قوميتها إننا نرى هؤلاء القوم ربما يقاتل بعضهم بعضاً، وربما يعين بعضهم على الآخر عدوه؟ لو كانت الراية راية الإسلام والقتال للإسلام لانضم إلينا أعداد هائلة من المسلمين الذين نعلم أن عندهم من تحقيق الإيمان والعمل الصالح ما يفوق كثيراً من الناس، ولهذا من الممكن أن ينظر الإنسان في أمره ويفكر هل هو على نية سليمة أو على نية غير سليمة ، إذا كان على نية سليمة فليحمد الله ويستمر ، وإذا كان على نية غير سليمة فليعد فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فالقتال لأجل إعلاء كلمة الله هو الذي ينال به الإنسان إحدى الحسنيين إما الظفر وإما الشهادة.
أيها الإخوة : قلت : إن الإنسان لا يقاتل من أجل وطنه ولكن أقول ذلك إذا كان يريد أن يقاتل لأجل الوطن فقط من حيث هو وطنه، أما إذا أراد أن يقاتل دفاعاً عن الوطن لأنه وطن إسلامي فحينئذ تكون نيته سليمة ويكون قتاله لتكون كلمة الله هي العليا لأنه يقول: أنا لا أقاتل لأجل وطني من حيث إنه التراب الذي عشت فوقه، ولكن لأنه وطن إسلامي يشتمل على أمة إسلامية يجب علي أن أدافع عنه، وبهذا تكون نية سليمة لكن يجب أن يركز الإنسان على أن أصل ذلك هو القتال لأجل دين الله، وإذا تأملنا قول الله عز وجل:(108/8)
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } (1) تبين لنا أن الذي يظهر إنما هو الدين، فمن قام بهذا الدين فإنه سوف يظهر على عدوه، لأن كل من تمسك بالدين فإنه لابد أن يظهر على غيره من الذين تمسكوا بدين سواه ولقد قدم أبو سفيان إلى الشام قبل أن يسلم فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة في جماعة له للتجارة فسمع بهم هرقل ملك الروم وكان قد سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم ودعاهم إلى مقره ليسألهم عن حال هذا النبي فسألهم أسئلة ذكرها البخاري في صحيحه فلما أجابه أبو سفيان بما أجابه قال له أي هرقل : [ إن كان ما تقول حقاً فسيملك ما تحت قدمي (2)، هاتين]. تصور هذا الملك في ذلك الوقت ملك ذو سلطان على دولة تعتبر من أقوى الدول في ذلك الزمان الفرس والروم أقوي دولتين في ذلك الزمان في آسيا ، هذا الملك يقول : إن كان ما تقول حقّاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين من يتصور أن هذا الرجل بهذه المكانة يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يستطع أن يرجع إلى مسقط رأسه؟ لكن الرجل عرف أن من هذا دينه فسيملك أقطار الدنيا، فلما خرج أبو سفيان مع قومه قال لهم: " لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر" ومعنى" أمر أمر" أي عظم كما في قوله تعالى: { لقد جئت شيئاً إمراً } (3) . يعني جئت شيئاً عظيماً أمر أمره أي عظم أمره الذي يخافه هذا الملك فهل كان ما توقعه ملك الروم والجواب نعم إن النبي صلى الله(108/9)
عليه وسلم ملك ما تحت قدميه لكنه لم يملكه بشخصه في حياته بل ملكته دعوته ملكته أمته الذين دعوا بدعوته وأصلحوا الناس برسالته حتى ملكوا مشارق الأرض ومغاربها وإني والله واثق كل الثقة أن لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا من صدق المعاملة مع الله ومع عباد الله ليمكنن الله لنا في الأرض وأننا ما خذلنا إلا بأسباب ما نحن عليه من المخالفات في الواجبات والوقوع في المحرمات ليشمل ذلك الذكور والإناث، الصغير والكبير إلا من عصم الله ولكن العبرة بالأمة لا بالفرد الواحد فإن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب.
أيها الإخوة: إني أدعو نفسي، وإياكم إلى الإخلاص في القول، والعمل، والقصد، كما أدعو نفسي، وإياكم إلى إصلاح الأمر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلزام من لنا عليه ولاية بشريعة الله. لا يكفي أن تصلح نفسك ولكن لابد من إصلاح غيرك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" (1) فالله الله في إخلاص النية، وإصلاح العمل، والاستقامة على دين الله عز وجل، وأن نكون دائماً مع الله سبحانه وتعالى في ذكر الله لنكون من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ولتخل بنفسك قليلاً وذكرها ما هي الحياة الدنيا؟ ما فائدتها؟ ما نتيجتها ؟ ما مآلها؟ انظر إلى من حولك هل أحد خلد؟ هل أحد خلدت له رفاهيته ونضارة عيشه؟ وربما يسلب وربما يسلب المال، وربما يسلب الأهل ، ربما يسلب الصحة ما أكثر الذين عندهم أموال طائلة وبنون وأهل ولكن صحتهم مسلوبة والدنيا عليهم أضيق فكر في نفسك لماذا خلقت؟ لماذا أوجدت؟ إلى أي شيء مصيرك حتى يحدوك هذا الأمر إلى الإقبال إلى الله عز وجل والإنابة إليه والإخلاص، والعمل الصالح، حتى تكون مع الركب السابقين { الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } (1).(108/10)
أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
---
(1) الأحزاب: 70، 71.
(2) النساء: 1.
(1) أخرجه مسلم : كتاب الإمارة.
(2) البخاري: كتاب العلم: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، ومسلم: كتاب الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
(1) البخاري: كتاب الذبائح: باب المسك، ومسلم: كتاب الإمارة: باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله تعالى.
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي: باب كيف بدأ الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الإيمان باب 42: وفي العتق باب 6 وذكر في غير هذه الأبواب : ومسلم : كتاب الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية .
(2) محمد آية : 7.
(3) تفسير الطبري جـ 9 ص 99 سورة التوبة: وابن كثير جـ 2 ص 152 : والبدآية : والنهآية : جـ 4 ص 344 .
(1) التوبة: 25-26.
(2) البدآية : والنهآية : جـ 4 ص 10.
(1) آل عمران: 152.
(2) الحج: 40 - 41.
(1) سورة الفتح، الآية :: 1.
(2) سورة فصلت، الآية :: 30.
(3) سورة النحل، الآية :: 97.
(4) سورة العصر، الآيات: 1-3.
(1) سورة الصف: 9.
(2) البخاري : كتاب بدء الوحي ، ومسلم : كتاب الجهاد والسير: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.
(3) سورة الكهف : 71 .
(1) مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
(1) النساء: 69.(108/11)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
المتابعة وقبول العمل
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } (1) { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (2).
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (3).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أيها المؤمنون إنه يسرني في هذه الليلة أن يكون اللقاء بكم في بيت من بيوت الله عز وجل ولا ريب أن أهل العلم يؤدون ما وجب عليهم في مثل هذه اللقاءات ولكني أحببت أن أدلي بدلوي وأشاركهم فيما يحصل في هذه اللقاءات التي أرجو الله تعالى أن تكون مباركة.
أيها الإخوة استمعنا إلى هذه الآيات الكريمة: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وتوجيه الله الخطاب لنا بهذا الوصف يا أيها الذين آمنوا يدل على أن بعده من مقتضيات الإيمان وأن كل مؤمن فلابد أن يكون قائماً بما يلقى إليه بعد هذا النداء بهذا الوصف العظيم ويدل دلالة أخرى على أن مخالفة ما يأتي بعده تكون نقصاً في الإيمان وإلا لما علق الحكم بهذا الوصف ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:(109/1)
إذا سمعت الله يقول : يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه وإن توجيه الخطاب إلينا بلفظ النداء { يا أيها الذين آمنوا } دليل على أن هذا أمر ينبغي أن ننتبه له، لأن النداء من أدوات التنبيه { اتقوا الله حق تقاته } التقوى من أجمع ما قيل فيها وأحسنه ما روي عن طلق بن حبيب رحمه الله قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وهذا أجمع ما قيل في التقوى وهذا التعريف يتضمن أن التقوى أن تعمل بطاعة الله على علم لا عن جهل، لأن الذي يعمل بطاعة الله عن جهل، قد يفسد أكثر مما يصلح، ولكن إذا كان على نور من الله على علم كان على بصيرة من أمره، ويتضمن هذا التعريف أن القائم بطاعة الله يقوم بها وهو مؤمن بالثواب الذي جعله الله تعالى على هذه الطاعة، ولهذا قال : ترجو ثواب الله. وهذا يتضمن الإيمان باليوم الآخر والجزاء على الأعمال، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
يعني تترك ما نهى الله عن علم بأن الله نهاك عن هذا الشيء لا عن عدم رغبة فيه أو عن جهل في هذا الأمر، لأنك إنما تتركه تخشى عقاب الله كثير منا يترك الربا يترك الزنى ، يترك الفواحش، لكن ليس على باله أنه تركها لله فيفوته بذلك خير كثير. لكن إذا كان على باله أنه إنما تركها لله عز وجل نال بذلك أجراً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح " أن من هم بالسيئة فلم يعملها كتبت حسنة كاملة" (1).
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: " لأنه إنما تركها من جراي ".(1) أي من أجلي .(109/2)
وسمي هذا تقوى لأنه وقاية من عذاب الله عز وجل يقيك من عذاب الله الذي توعد به الكافرين، كما قال تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } (2)، وفي قوله تعالى: { اتقوا الله حق تقاته } يعني الحق الذي يجب لله عز وجل عليكم ولكن بقدر الاستطاعة كما قال الله تعالى في آية البقرة : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (3)، فما لا يدخل تحت الوسع فإن الإنسان لا يكلف به رحمة من الله عز وجل وإحساناً إلى عباده ثم قال تعالى: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } يعني لا تموتن إلا على هذه الحال وهي الإسلام لله عز وجل ظاهراً وباطناً. بقلوبكم وجوارحكم والنهي عن الموت إلا على الإسلام يستلزم أن نكون دائماً على الإسلام، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأ الموت، وكم من إنسان قد مد حبال الأمل طويلاً وكان الموت إليه قريباً ، كان أبو بكر رضي الله عنه يتمثل دائماً بقول:
كل أمرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
فإذا كان الله يقول : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } فمعناه أنه يجب علينا أن نكون دائماً على هذا الوصف. لأننا لا ندري متي نموت.
أما الآية الثانية، أمر الله تعالى فيها بالتقوى موجهاً الخطاب إلى عموم الناس: { يا أيها الناس اتقوا ربكم } .(109/3)
وقد قال علماء التفسير: إن الغالب في السور المكية بل في الآيات المكية أن يوجه النداء فيها إلى الناس عموماً بخلاف النداء في الآيات المدنية فإن النداء يكون فيها موجهاً للمؤمنين { يا أيها الذين آمنوا } ، وهذه من العلامات الفارقة بين السور المكية والسور المدنية لكنها ليست دائماً إذ قد وجد في سورة البقرة وهي مدنية { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } (1) المهم أن الله يقول: { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } ما هذه النفس هل المراد بالنفس الجنس أو المراد بالنفس العين إن قلنا : المراد بالنفس العين فهو آدم ولهذا قال: { وخلق منها زوجها } .
وإذا قلنا :المراد بالنفس الجنس كما في قوله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } (2) صار المعنى أننا بني آدم كلنا جنس واحد لا يختلف أحدنا عن الآخر وأياً كان فإن الله تعالى يأمرنا بتقواه منبهاً على أنه يجب ألا يتقى إلا الله لأنه هو الذي خلقنا.
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } ما معنى تساءلون به والأرحام أي تسأل الإنسان بالله، تقول : أسألك بالله كذا وكذا، والأرحام كانوا في الجاهلية يتساءلون بالأرحام فيقول : أسألك بالرحم التي بيني وبينك والقرابة والصلة أن لا تتسلط علي أو ما أشبه ذلك. { إن الله كان عليكم رقيباً } وعلى قراءة النصب " والأرحام " يكون المعنى أن تتقي الأرحام فتقوم بما يلزم لها، من الصلة إن الله كان عليكم رقيباً، أما في الآية الثالثة فإن الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } (3)، اتقوا الله تعالى بجوارحكم وقولوا قولاً سديداً أي صواباً.
{ يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم } فكل من قال قولاً سديداً مع التقوى حصل له هذان الأمران، إصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.(109/4)
أيها الإخوة الكرام : إنه من المعلوم لنا جميعاً أن الله عز وجل خلقنا من عدم كما قال تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } (1)، وأن مآلنا إلى الفناء كما قال الله عز وجل : { كل من عليها فان } (2) . وأن بقاءنا في هذه الدنيا يمر سريعاً ويذهب جميعاً { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } (3)، { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } (4)، وقس هذا الأمر بما مضى من حياتك الذي مضى من حياة الإنسان سواء طال به الزمن أم قصر، كأنه لم يمض كأنه في الحال التي هو عليها الآن. نحن الآن منا من له عشرون سنة، ومنا من له أربعون، ومنا من له ستون ومنا من له فوق ذلك، هذه المدة التي ذهبت كأنها ساعة وقس ما يستقبل من دنياك على ما مضى منها، وحينئذ وبهذه النظرة الثاقبة، يجب علينا أن ننتهز فرص العمر يجب علينا ألا تمضي ساعة من ساعات أوقاتنا إلا ونحن نعرف ماذا عملنا فيها، وماذا حصل من تفريط حتى نتداركه بالتوبة إلى الله عز وجل وإنني أذكر نفسي وإياكم بهذه الحكمة العظيمة التي قال الله فيها : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (5)، ما خلق الله الجن والإنس للتمتع في الدنيا والترف وجمع المال والأولاد والزوجات ولكن لشيء واحد وهو عبادة الله، غير الجن والإنس لأي شيء خلقوا؟ للإنسان . { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } (6)، { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } (7) .
إذاً المعادلة خلق ما في الأرض لنا، وخلقنا لعبادة الله وحينئذ فإن من العقل أن نستخدم ما خلق لنا ليكون عوناً لنا على ما خلقنا له وهو طاعة الله عز وجل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:(109/5)
ينبغي للإنسان أن يجعل المال بمنزلة الحمار الذي يركبه أو بمنزلة الحش الذي يقضي فيه حاجته، الحش الحمام الذي يقضي فيه الإنسان حاجته. يعني لا تجعله هو الغاية المال لكن اجعله موضع قضاء حاجتك.
لأن المال سوف يزول عنك أو تزول عنه، لا يمكن أن يخلد لك ولا يمكن أن تخلد له بل لابد من المفارقة، إما منك أو من المال، وحينئذ فما مقتضى العقل السليم، أن يجعله الإنسان وسيلة، وسيلة ويهتم بالغاية.
وعلى هذا فإنه ينبغي أن نعرف ما معنى العبادة حتى نكون على بصيرة من أمرنا في معرفة كلام الله عز وجل العبادة أيها الإخوة تطلق على معنيين: على التعبد، وعلى المتعبد به، فعلى المعنى الأول يكون معنى العبادة: أن يتذلل الإنسان لربه بامتثال أمره واجتناب نهيه محبة له وتعظيماً.
فيكون هذا الوصف عائداً للإنسان العابد أما على المعنى الثاني أن العبادة تطلق على معنى المتعبد به فقد حدها شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف من أحسن ما يكون من التعاريف فقال: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة " .(109/6)
فالصلاة إذاً عبادة، والزكاة عبادة والصوم عبادة، والحج عبادة لا يريد الله عز وجل منا بهذه العبادات أن يتعبنا فقط { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } (1) ما يريد الله عز وجل أن يحرجنا في هذه العبادات { وما جعل عليكم في الدين من حرج } (2)وإنما أراد بهذه العبادات أراد بها أن نصل إلى سعادة الدنيا والآخرة. وحينئذ نعرف أن هذه العبادات ليست تكليفاً وإشقاقاً علينا. وإنما هي لمصلحتنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة. ولا يمكن أن تستقيم الدنيا إلا بالعبادة ولست أريد بالعبادة مجرد الحقوق الخاصة بالله عز وجل حتى معاملتك مع الناس يمكن أن تتحول إلى عبادة. كيف ذلك إذا عاملتهم بمقتضى أمر الله من النصح والبيان امتثالاً لأمر الله عز وجل صارت المعاملة عبادة حتى لو تبيع سلعة على إنسان وتبين ما فيها من عيوب وتصدق فيما تصفها من الصفات المطلوبة صرت الآن متعبداً لله لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"([1][1]).
الموظف يؤدي وظيفته أحياناً يؤديها من أجل الراتب. وأحياناً يؤديها من أجل القيام بالعمل الذي به صلاح الناس فعلى الأول يكون عادة لا عبادة، لكن على الثاني يكون عبادة ولا يفوته الراتب.
انظر كيف أن النية تجعل العادة عبادة ، وربما يحول الإنسان عبادته إلى عادة مع الغفلة كما لو كان يذهب يصلي لأنه اعتاد أن يتوضأ ويذهب ويصلي لكن ما يشعر حينئذ أنه يذهب امتثالاً لأمر الله عز وجل واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يفوته خير كثير ولهذا قيل : " أهل اليقظة عاداتهم عبادات ، وأهل الغفلة عباداتهم عادت " كل ذلك من أجل النية.(109/7)
قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد عاده في حجة الوداع وهو مريض وخاف رضي الله عنه أن يموت في مكة وقد هاجر منها، فقال : يا رسول الله: إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر قال: لا. قال: فالثلث قال : الثلث والثلث كثيرثم قال وهومحل الشاهد:إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرمن أن تذرهم عالة يتكففون الناس"(1) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخير لرجل ترك الوصية من أجل أن يبقي المال لورثته المحتاجين ، " إنك أن تذرورثتك أغنياء خيراً من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وقال له صلى الله عليه وسلم : " واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك ". لماذا مثل الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجعله الإنسان وقال: " في فيّ امرأتك " ما قال حتى ما تجعله في في أبيك، في في أمك، بل قال في في امرأتك " لأن المرأة إذاً لم ينفق عليها زوجها طالبت بالفراق وإذا طالبت بالفراق وفارقته بقي بلا زوج إذا فإنفاقه على زوجته كأنما يجر به إلى نفسه نفعاً . ومع ذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنك إذا أنفقت نفقة تبتغي بها وجه الله، حصل لك بها الأجر حتى في هذه النفقة التي تكون معاوضة لأن الإنفاق على الزوجة عوض عن الاستمتاع بها ونيل الشهوة منها. ولهذا إذا نشزت الزوجة، فإن نفقتها تسقط.
الحاصل أيها الإخوة أن النية لها تأثير عظيم في العبادة ولهذا نقول : إن العبادة لا تكون عبادة إلا بشرطين أساسين ، أحدهما: الإخلاص لله، والثاني : المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(109/8)
فأما الإخلاص لله. فمعناه ألا يريد الإنسان بهذا التعبد إلا وجه الله والدار الآخرة لا يريد أن ينال مالاً ولا جاهاً ولا أن يسلم من سلطان ولا غير ذلك من أمور الدنيا ما يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، وهذا الشرط له أدلة من كلام الله ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم فمن الأدلة قوله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } (1) أي العبادة لله وقال سبحانه وتعالى: { وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } (2) الشاهد قوله : { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } فبين الله عز وجل أن الزكاة لا تقبل إلا إذا أريد بها وجه الله لأنها إذا قبلت ضوعفت وإذا لم تضاعف فمعناها لم تقبل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (3)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى ثم ضرب مثلاً بالهجرة يهاجر رجلان من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام أحدهما هجرته مقبولة والثاني غير مقبولة من كانت هجرته إلى الله ورسوله هجرته مقبولة.(109/9)
ومن كانت هجرته للدنيا غير مقبولة. هجرته إلى ما هاجر إليه. طيب . يصلي رجلان أحدهما يصلي لله عز وجل. لا يريد بذلك مالاً ولا جاهاً والثاني يصلي للراتب لأنه جعل راتب للإمام فكان يصلي لأجل الراتب فقط فلا يؤجر على إمامته لأنه صار إماماً للراتب ولهذا سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن رجل قال : لا أصلي بكم رمضان يعني التراويح إلا بكذا وكذا، قال الإمام أحمد : نعوذ بالله من يصلي خلف هذا رجل يقول : ما أصلي بكم إلا بفلوس. يقول : من يصلي خلف هذا. ولكن قد يقول قائل:هل معنى ذلك أن الإمام إذا أعطي من بيت المال راتباً هل يبطل أجره؟
الجواب: لا. مادام صار إماماً للناس لله فما أعطيه من الراتب لا ينقص به الأجر " ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عاملاً على الزكاة ثم رجع فأعطاه أجراً على عمله قال : يا رسول الله أعطه من هو أحوج إليه مني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك" (1).
الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتأسى الإنسان في عبادته بالرسول صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: -
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } (2) ، { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (3). وقال: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } (4)، فإن حنفاء بمعنى غير مائلين يميناً ولا شمالاً. هذا هو المتابع ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس:" صلوا كما رأيتموني أصلي " (5)وقال في المناسك: "لتأخذوا عني مناسككم " (6).
وتوضأ وقال : " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين ثم لم يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه" (7).
ولكن بماذا تتحقق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.(109/10)
أقول: لا تتحقق المتابعة حتى تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام في أمور ستة : في سببها، وجنسها، وقدرها وصفتها، وزمانها، ومكانها.
أولاً: سببها:
لابد أن تكون موافقة للشرع في سببها. فمن تعبد لله بعبادة وقرنها بسبب لم يجعله الله سبباً فإنها لا تقبل منه مثال ذلك: لو أن الإنسان أحدث عبادة مقرونة بسبب لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجعله سبباً بل لكنها ليست بسبب لا في الكتاب ولا في السنة. فإنها لا تقبل منه لو كانت هي خيراً ما دام جعلها مربوطة بسبب لم يجعله الله سبباً لها فإنها لا تقبل منه مثال ذلك:
لو أن رجلاً صار كلما تمت له سنة ذبح ذبيحة وتصدق بها ذبح الذبائح والتصدق بها، جائز لكن هذا جعل كلما تمت السنة ذبح هذه الذبيحة. صارت بدعة لا يؤجر عليها بل يأثم عليها. وكذلك لو أحدث احتفالاً بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : أنا أحب الرسول وأحدث احتفالاً للصلاة عليه عليه والثناء عليه الصلاة والسلام بما هو أهله ماذا نقول له، نقول له: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خير. من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله بها عليه عشرة. كيف تقول : هذه بدعة . لأنها غير مربوطة بهذا السبب أنت صل على النبي صلى الله عليه وسلم كل وقت ما نمنعك لكن كونك تجعل هذا السبب سبباً للصلاة عليه والثناء عليه واحتفالاً بالمولد فهذا لا يصح ولا تقبل منك.
الثانى : جنسها: أن تكون موافقة للشرع في جنسها، هذا رجل في عيد الأضحى ضحى بشاة من بهيمة الأنعام على الوجه الشرعي بالطبع تقبل أضحيته لأنها شرعية. الشاة قيمتها ثلاثمائة ريال فجاء رجل آخر وقال : سأضحي بفرس لأن الفرس قيمته ألف ريال والشاة ثلاثمائة ريال فأنا سأضحي بفرس يوم العيد.
هذه غير صحيحة لماذا لأنها ليست من بهيمة الأنعام فخالفت الشرع في الجنس فلا تقبل. يعني لابد أن تكون موافقة للشرع في الجنس.(109/11)
الثالث : قدرها: أن تكون موافقة للشرع في قدرها (مثال) رجل قال : إن الإنسان إذا صلى الظهر أربعاً كل ركعة فيها ركوع وفيها سجودان وأتى بشروطها وأركانها. تقبل إن شاء الله لأنه ماشٍ على ما رسم شرعاً.
لكن آخر قال : سأصليها ستاً أزيد. الله يقول: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" لا تقبل بل ترد عليه لأنها خالفت الشرع في قدرها. رجل آخر قال : الوضوء ثلاثاً سنة لكنه توضأ أربعاً. الغسلة الرابعة لا تقبل لأنها صارت على خلاف الشرع.
الرابع : صفتها: أن تكون موافقة للشرع في صفتها: كيف يتوضأ الإنسان ؟ .
يبدأ بغسل الكفين ثم الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين هكذا الترتيب لكن هذا الرجل عكس فبدأ يغسل الرجلين ثم يمسح الرأس ثم يغسل اليدين ثم يغسل الوجه إن عبادته هذه غير مقبولة لأنها خالفت الشرع في صفتها وكيفيتها.
الخامس : زمانها: أن تكون موافقة للشرع في زمانها.
لو أن رجلاً في عيد الأضحى أصبح فذبح أضحيته قبل الصلاة وأكل منها وذهب وصلى. لا تقبل هذه الأضحية. لأنها ليست في وقت العبادة.
الأضحية ما تكون إلا بعد صلاة الإمام.
مثال آخر: رجل تعمد ألا يصلي الظهر إلا بعد دخول وقت العصر بدون عذر. لا تقبل لأنها مخالفة للشرع في وقتها. أو في زمانها.
السادس : مكانها: أن تكون موافقة للشرع في مكانها.
لو أن رجلاً لما دخل العشر الأخير من رمضان بقي في غرفة من بيته لا يخرج منها وقال : أنا معتكف لله . الاعتكاف غير صحيح لمخالفته للشرع في مكان العبادة لأن الاعتكاف في المساجد.
إذاً أيها الإخوة: كل عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسين : أحدهما الإخلاص لله، والثاني المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا الأدلة لذلك ، وقلنا : إن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت موافقة للشرع في أمور ستة وهي: السبب ، الجنس ،القدر ،الصفة ،الزمان ، المكان.
وذكرنا أمثلة فيما لا تصح فيه العبادة لمخالفة هذه الأمور أو أحدها.(109/12)
ثم اعلم أن أهم ما يتعبد به الإنسان من الأعمال أعمال الجوارح هي الصلاة فالصلاة أوكد من الزكاة وأوكد من الصيام وأوكد من الحج لأن أركان الإسلام كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً .." (1) الشهادتان ركن واحد. لأنه لا تتم العبادة إلا بالإخلاص وهي شهادة ألا إله إلا الله والمتابعة وهي شهادة أن محمداً رسول الله فلهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً.
الصلاة نحن نعلم جميعاً أن لها أوقاتاً معينة فوقت الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس هذا وقت الفجر لأن الفجر فجران كاذب وصادق.
في الأحكام الكاذب ليس له حكم إطلاقاً لا يحرم الطعام على الصائم ولا يبيح الصلاة لمن صلى الفجر، لكن ما الفرق بينهما.
الفروق بينهما ثلاثة :
الفجر الكاذب يظلم الجو بعده، والصادق لا يزداد إلا إسفاراً الفجر الكاذب يكون مستطيلاً. والصادق يكون مستطيراً. الفجر الكاذب بينه وبين الأفق ظلمة فهو كالعمود أبيض لكن أسفله مظلم والصادق ليس بينه وبين الأفق ظلمة.
هذه الفروق ثلاثة فروق طبيعية تشاهد لكننا بواسطة الأنوار ما نشاهد ذلك ، إنما لو كنت في بر وليس حولك أنوار عرفت الفرق، ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.
وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس والضرورة إلى الغروب.
وقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.
فتارة يكون ساعة ونصف بين المغرب والعشاء وتارة ساعة وثلث وتارة ساعة وسبع عشرة دقيقة يختلف.(109/13)
وقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل فقط من نصف الليل إلى الفجر ما ليس وقتاً للصلاة . الدليل على هذه الأوقات قوله تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } . وهذا يدل على أن ما بعد منتصف الليل ليس وقتاً للفرائض وإلا لقال الله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى طلوع الشمس فلما قال : إلى غسق الليل منتهى ظلمته وأشد ما تكون ظلمة الليل عند منتصفه ويؤيد هذا الحديث الثابت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحن وقت العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب إلى مغيب الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس " (1) واضح. الرسول قال : وقت العشاء إلى نصف الليل وقد يقول قائل منكم : أنت ذكرت أن العصر إلى الغروب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ما لم تصفرالشمس من أين أتيت بالوقت الإضافي هذا؟ ، أقول : أتيت به من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"(1) وينبني على هذا مسألة مهمة لو أن امرأة من النساء طهرت من حيضها بعد منتصف الليل وقبل طلوع الفجر لا يجب عليها قضاء العشاء.
لأنها طهرت بعد انتهاء الوقت كما أنها لو طهرت الضحى لم تلزمها صلاة الفجر.
الزوال علامته زيادة الظل بعد تناهي قصره. إذا طلعت الشمس اركز عصاً . له ظل كلما ارتفعت الشمس قصر الظل فإذا انتهى قصره وبدأ يزيد هذا هو علامة زوال الشمس لأنها زالت يعني انصرفت عن كبد السماء. أما بالنسبة للضبط بالساعات فاقسم ما بين طلوع الشمس إلى غروبها نصفين والنصف هذا هو وقت الزوال.(109/14)
لو أن رجلاً صلى إحدى الصلوات بعد خروج وقتها وهو متعمد بدون عذر لا تقبل ولهذا كان القول الراجح أن الإنسان إذا كان في أول عمره لا يصلي ثم من الله عليه بالهداية وتاب إلى الله فإنه لا يلزمه قضاء ما مضى من صلاته. وإنما عليه أن يتوب إلى الله. وكذلك لو أن رجلاً من الناس ترك صيام يوم من رمضان متعمداً يعني قال : إنه لن يصوم غداً فهو بلا شك آثم ولا يلزمه قضاؤه، قد يقول قائل : كيف تقول : لا يلزمه القضاء هذا تخفيف عليه. فجوابي على هذا أنه ليس تخفيفاً عليه بل هو تشديد عليه لأن معنى قولي هذا أنه لا يلزمه قضاء الصلاة التي تعمد فعلها بعد الوقت معناه رفضها وعدم قبولها. وأنها لا تقبل منه لو صلى ألف مرة كذلك لو ترك يوماً من رمضان لم يصمه متعمداً بلا عذر شرعي فإنه لا يقبل منه قضاؤه مدى الدهر. وهذا يوجب للإنسان أن يخاف وأن يتوب ويرجع للوراء أكثر.
ومن المهم في الصلاة أن يعرف الإنسان ما يلزم لها قبلها ، وأوكد ما يلزم لها قبلها الطهارة ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة بغير طهور" (1) .
الطهور بالفتح هو ما يتطهر به. والطهور بالضم هو فعل الطهارة.
وضوء – ووضوء ما الفرق؟
الوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به .
الوضوء بالضم: فعل الوضوء.
سحور – سحور.
سحور: بالفتح ، أكل السحور.
السحور بالضم: فعل السحور. " لا يزال الناس بخير ما أخروا السحور" (2).(109/15)
انتبه أيها الطالب للفرق بين فعول وفعول. فعول للآلة التي يفعل بها، وفعول للفعل. نحن سكتنا أثناء الأذان من أجل أن نقول مثل ما يقول لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (3) نقول مثل قوله إلا في جملتين فقط وهما حي على الصلاة. حي على الفلاح نقول : لا حول ولا قول إلا بالله. وفي صلاة الصبح إذا قال: الصلاة خير من النوم نقول : الصلاة خير من النوم كما قال ولكن أسأل لماذا لم تقل مثل ما يقول في حي على الصلاة حي على الفلاح. لأنه هو يدعونا إذ حي يعني أقبل. فلو قلنا نحن: حي على الصلاة معناه دعوناه أيضاً ونحن في البيت نتابعه تدعوه للبيت هذا ما يستقيم ولهذا كان المشروع في حقنا أن نقول : لا حول ولا قوة إلا بالله. وما معنى لا حول ولا قوة إلا بالله. معناها للاستعانة كأنك تقول في جواب المؤذن : سمعنا وأطعنا ولكننا نسأل الله العون وتقول إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، مثل ما يقول ثم تقول بعد ذلك : رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً . هذا هو محل ذلك يعني قول الإنسان رضيت بالله رباً بعد الشهادتين وبعد انتهاء الأذان تقول : اللهم صل على محمد اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد وإذا قلت ذلك فإنها تحل لك الشفاعة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يدخلون في شفاعته.
أحببت أن أنبه على هذا لأن بعض الناس يتهاونون في متابعة المؤذن مع أن بعض أهل العلم قال: إن متابعة المؤذن واجبة وإن من لم يتابعه فهو آثم. فمتابعة المؤذن سُنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يدعها.
وهنا مسائل:
1. إذا كان يقرأ القرآن هل يدع القراءة ويتابع المؤذن؟ نعم، يقطع القراءة ويتابع المؤذن.(109/16)
2. إذا دخلت المسجد وهو يؤذن هل تصلي تحية المسجد أو تقف وتتابع المؤذن ثم تصلي؟ الثاني إلا أن بعض أهل العلم قال : يستثنى من ذلك أذان الجمعة الثاني فإن الأفضل أن تصلي الركعتين لأجل أن تتفرغ لاستماع الخطبة. قلت : من أهم ما يكون للصلاة الطهارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم.:" لا صلاة بغير طهور" (1) والطهارة ثلاثة أنواع:طهارة من الحدث الأصغر، طهارة من الحدث الأكبر وطهارة بالتيمم عنهما جميعاً. أما الحدث الأصغر فيطهّر أربعة أعضاء الوجه، اليدان، الرأس ، الرجلان. الوجه يجب أن يغسل من الأذن
---
(1) سورة آل عمران، الآية : 102.
(2) سورة النساء، الآية : 1.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان : 70 –71 .
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان : باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(2) سورة آل عمران، الآيتان :131- 132.
(3) سورة البقرة، الآية : 286.
(1) سورة البقرة، الآية :: 21.
(2) سورة آل عمران، الآية :: 164.
(3) سورة الأحزاب، الآية :.7.
(1) سورة الإنسان، الآية ::1.
(2) سورة الرحمن، الآية :: 26.
(3) سورة النازعات، الآية ::46.
(4) سورة الأحقاف، الآية :: 35.
(5) سورة الذاريات ، الآية :: 56.
(6) سورة البقرة، الآية :: 29.
(7) سورة الجاثية ، الآية : 13 .
(1) سورة النساء، الآية ::147.
(2) سورة الحج: الآية :: 78.
([1][1]) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة حديث ( 95) .
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز : رقم ( 1233) ومسلم: كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث رقم(1628).
(1) سورة البينة، الآية :: 5.
(2) سورة الروم، الآية :: 39.
(3) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي: ومسلم : كتاب الإمارة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ".(109/17)
(1) البخاري: كتاب الزكاة: باب من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة ولا إشراف نفس. ومسلم : كتاب الزكاة: باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف.
(2) سورة الأحزاب، الآية :: 21.
(3) سورة آل عمران، الآية :: 31.
(4) سورة البينة، الآية :: 5.
(5) البخاري: كتاب الأذان : باب الأذان للمسافر (605).
(6) مسلم : كتاب الحج: باب استحباب رمي جمرة العقبة(310).
(7) البخاري / كتاب الوضوء : باب الوضوء ثلاثاً ومسلم: كتاب الطهارة باب صفة الوضوء.
(1) تقدم قريباً.
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد: باب أوقات الصلوات الخمس (612).
(1) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة: باب: من أدرك من الفجر ركعة.
(1) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة بلفظ " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " رقم ( 224).
(2) البخاري: كتاب الصوم : ومسلم / كتاب الصوم.
(3) البخاري: كتاب الأذان : باب ما يقول إذا سمع المنادي: ومسلم : كتاب الصلاة: باب استحباب القول مثل قول المؤذن.
(1) تقدم تخريجه.(109/18)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ومولده
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } (1)، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (2)، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (3).
أما بعد:
أيها الإخوة: إن موضوع محاضرتنا في هذه الليلة هو موضوع مهم يهم جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهو التذكير بما أنعم الله به على عباده المؤمنين بما من به عليهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله لا إلى العرب فحسب، ولكن إلى جميع الناس كما قال الله تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } (1) .(110/1)
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن آمن به وعزره ونصره واتبع النور الذي أنزل معه حتى ننال الفلاح وهو السعادة في الدنيا والآخرة، ثم قال جل وعلا: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (2) .
إننا في هذا الشهر شهر ربيع الأول الذي هو الشهر الذي بدئ به الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا كان بالرؤيا الصالحة. كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : "كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد" (3) حتى جاءه الحق ونزل جبريل عليه الصلاة والسلام من الله بالقرآن الكريم في شهر رمضان كما قال الله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } (4) وكانت المدة بين ربيع الأول وشهر رمضان ستة شهور، وهي بالنسبة لمدة الوحي التي نزل فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً لأن زمن الوحي كان ثلاثاً وعشرين سنة. وستة الأشهر
بالنسبة لها جزء من ستة وأربعين جزءاً لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " (1).(110/2)
أيها الإخوة: إننا في هذا الشهر شهر ربيع الأول نذكر إخواننا بما من الله به على عباده المؤمنين من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله عز وجل بالهدى ودين الحق وأنزل عليه هذا الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور لا بنفسه ولكن بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وفي هذه النعمة يقول الله عز وجل : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ سورة آل عمران، الآية: 164].
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وانطماس من السبل بعد أن مقت الله سبحانه وتعالى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فكان الناس في ضرورة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم أشد من ضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء والأمن، كان الناس في جاهلية عمياء يعبدون الأشجار والأصنام ، والأحجار ويتعلقون بالمخلوقين حتى ذكر عن بعضهم أنه إذا نزل أرضاً أخذ أربعة أحجار فاختار منها واحداً يعبده وثلاثة يجعلها رواسيَ للقدر قدر الطبخ فتأمل هذه العقول كيف انحدرت إلى هذه السخافة، يجعل الآلهة حجراً واحداً موازياً تماماً بالأحجار التي تُرس عليها القدور، وذكر عن بعضهم أنه كان يتخذ من التمر يعجنه ويصنعه تمثالاً حسب مزاجه، ثم إذا جاع أكله، ومن سخافتهم أيضاً أنهم يقتلون الأولاد ذكورهم وإناثهم خوفاً من الفقر كما قال الله عز وجل: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً } . [ سورة الإسراء، الآية: 31] .(110/3)
وكان بعضهم يقتل أولاده إذا افتقر بالفعل وفي هذا يقول الله عز وجل: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } [ سورة الأنعام، الآية: 151]. وكان بعضهم غنيّاً لا يخشى الفقر ولا يتوقعه إذا ولد له ابنة فإنه يئدها يدفنها وهي حية حتى قيل عن بعضهم :إن ابنته وهو يحفر الحفرة لها فإذا أصاب التراب لحيته نفضت التراب من لحيته وهو يحفر لها ليرميها والعياذ بالله هذه العقول وهذه النفوس التي هي أقسى من أقسى السباع في الأرض كان الناس عليها حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الظروف التي تدعو الضرورة إلى بعثة مثل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه الله عز وجل من أجل أن ينتشل الناس من رق النفوس والهوى إلى عبودية الخلاق جل وعلا.
أخرجهم من عبودية النفس وعبودية الشيطان إلى عبودية الرحمن سبحانه وتعالى، ونحن نعلم كما ذكر الله تعالى في كتابه أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأن الله هو الرب وأن الله خالق السموات والأرض وأن الله مدبر الكون وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، كل ما يتعلق بتوحيد الربوبية فإنهم كانوا يقرون به ولا ينكرونه ولكنهم كانوا ينكرون توحيد العبادة فلا يوحدون الله تعالى بالعبادة بل يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار وغير ذلك مما يسمح في نفوسهم وتمليه عليهم أفكارهم السيئة حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى توحيد الله في العبادة وقال لهم:
{ إنما الله إله واحد } (1) قالوا: ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } (2).(110/4)
ومن العجب أنهم يقرون بتوحيد الربوبية دون الألوهية ولا ريب أن كل إنسان عاقل يقر بتوحيد الربوبية فإن إقراره ذلك حجة عليه أن يقر بتوحيد الألوهية. لأنه إذا كان يقر بأن الخالق هو الله، المدبر هو الله، والمالك هو الله فكيف يكون هناك معبود مع الله ومن ثم تجدون الله عز وجل، يقرر توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، [ سورة البقرة، الآية: 21] فجعل توحيد الربوبية دليلاً ملزماً بتوحيد الألوهية.
{ اعبدوا ربكم } هذا هو توحيد الألوهية ألوهية بالنسبة لله وعبودية بالنسبة للخلق، { الذي خلقكم والذين من قبلكم } ، هذا هو توحيد الربوبية، فإذا كنتم تؤمنون بذلك فلماذا لا توحدونه بالعبادة، لماذا تعبدون الأصنام والأشجار معه، هذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يحيد عنه ولهذا يذكر الله ذلك ملزماً لهؤلاء المشركين أن يقولوا بأن الله إله واحد وصدق الله عز وجل.
أيها الإخوة : توحيد الألوهية ليس بالأمر الهين الذي يظنه كثير من المعاصرين اليوم أنه على الهامش وأن مجرد إقرار الإنسان برب خالق مدبر للكون حكيم في صنعه كاف في الإيمان والتوحيد، إن هذه النظرة نظرة بلا شك خاطئة، ولو كان التوحيد كما يراه هؤلاء بأنه إفراد الله أو بأنه الإيمان بأن الله وحده هو الخالق الرازق لو كان هذا هو التوحيد لم تكن هناك حاجة إلى إرسال الرسل لأن التكذيب بهذا التوحيد أو إنكار هذا التوحيد لم يقع إلا نادراً ولا سيما فيما سلف من الأزمان، لكن التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه والقتال عليه هو توحيد الألوهية والذي يسمى أحياناً بتوحيد العبادة لأنه إن نظرت إليه من جهة الله فسمه توحيد ألوهية وإن نظرت إليه من جهة الإنسان فسمه توحيد العبادة أو العبودية، المهم أن كثيراً من الناس اليوم من(110/5)
المعاصرين الذين نالوا ما نالوا من الثقافة يركزون كثيراً على توحيد الربوبية، وعندي أن توحيد الربوبية ليس بالأمر الأهم بالنسبة لتوحيد الألوهية، لأن منكريه قليلون وكل إنسان عاقل فإنه لابد أن يدرك أن لهذا الكون العظيم المنظم إلهاً خالقاً حكيماً واستمع إلى قول الله تعالى في سورة الطور: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } .[ سورة الطور، الآية: 35].
هذا استفهام { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } ، وجوابه: ما خلقوا من غير شيء ولا هم الخالقون.
لأنهم قبل أن يوجدوا عدم والعدم ليس بشيء، فضلاً عن أن يوجد شيئاً. وهم أيضاً لم يخلقوا من غير شيء لأن خلق شيء من غير شيء مستحيل في العقل كل حادث فلا بد له من محدث ويذكر أن طائفة من السمنية وهم أناس من الوثنية الذين ينكرون الخالق أتوا إلى أبي حنيفة رحمه الله في العراق وقالوا : من الذي خلق هذا الكون فقال : أمهلوني ثم أمهلوه وجاؤوا إليه وقال لهم : إني أفكر في سفينة جاءت محملة إلى نهر دجلة محملة بالبضائع وإن هذه السفينة نزلت البضائع وانصرفت بعد ذلك، أفكر هل يمكن هذا أم لابد من أناس يشحنونها أولاً ثم ينزلونها ثانياً، فقالوا : كيف تفكر بهذا، هل هذا يحتاج لتفكير؟ هذا غير معقول قال: إذا كان هذا غير معقول، فكيف يعقل أن هذه الشمس والنجوم والقمر والبحار والأنهار والأشجار النامية والإنس وكل ما نشاهده كيف يعقل أن يكون بدون موجد، هل هذا معقول فانقطعوا.
ولهذا جاءت الآية تستدل على أن الخالق هو الله عن طريق السبر والتقسيم فهم إما أن يخلقوا بدون خالق، أو يخلقوا أنفسهم، أو يكون لهم خالق وهو الله عز وجل وهذه الأخيرة هي النتيجة فتوحيد الربوبية أيها الإخوة لا ينكره إلا النادر النادر من الناس حتى من أنكره ممن قص الله علينا(110/6)
من نبأ إنكاره فإنما ينكرونه مكابرة وهم في قرارة أنفسهم يؤمنون به ففرعون قال لقومه حين حشرهم وناداهم قال لهم : ( أنا ربكم الأعلى ) ولم يكن صادقاً في ذلك.
لأن موسى قال له مجابهة { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } . [ سورة الإسراء الآية: 102] لما قال هذا لفرعون هل قال فرعون له: ما علمت ذلك. أبداً ما قال ولا استطاع أن يقول وكان يقول لقومه : { يا أيها الملؤ ما علمت لكم من إله غيري } . [ سورة القصص، الآية: 38] . والخلاصة أن المهم بنا أيها الإخوة أن نحرص على بث روح التوحيد، توحيد الألوهية في نفوس الناس حتى يكون هدف الإنسان وجه الله والدار الآخرة في جميع شؤونه في عبادته وأخلاقه ومعاملاته وجميع شؤونه لأن هذا هو المهم أن يكون الإنسان قصده ورجاؤه وإنابته ورجوعه إلى الله عز وجل وبهذا التوحيد ـ أعني توحيد الألوهية والعبادة ـ ينال العبد سعادة الدنيا والآخرة، لأن قلبه ينسلخ عما سوى الله ويتعلق بالله وحده، لا يدعو إلا الله ولا يرجو إلا الله ولا يستغيث إلا بالله ولا يستعين إلا بالله ولا يؤمل كشف الضر إلا من الله عز وجل ولا جلب الخير إلا من الله عز وجل إن عبد فلله وبالله حتى إن الموفق تكون عاداته عبادات والمخذول تكون عباداته عادات، لأن الموفق يستطيع أن يجعل أكله عبادة وشربه عبادة ولباسه عبادة ودخوله عبادة وخروجه عبادة حتى مخاطبة الناس يمكن يجعلها عبادة.
ويمكن أن نضرب مثلاً بالأكل كيف يكون عبادة؟
أولاً: ينوي به الإنسان امتثال أمر الله في قوله : { وكلوا واشربوا } (1) هذا أمر .(110/7)
ثانياً: ينوي الحفاظ على بقائه وعلى روحه لأن الحفاظ على النفس مأمور به حتى العبادة إذا كان الإنسان مريضاً و يخشى على نفسه إن استعمل هذا الماء أن يتضرر فإنه يتطهر بالتيمم بالتراب كل ذلك حماية للإنسان من أن يتضرر ويضر نفسه، ولهذا قال العلماء ـ وصدقوا فيما قالوا: إن المضطر إلى الطعام والشراب يجب عليه وجوباً أن يأكل حتى من الميتة ولحم الخنزير يجب أن يأكل إذا خاف على نفسه التلف لأنه واجب عليه أن ينقذ نفسه إذاً أنوي بالأكل والشرب الحفاظ على نفسي فيكون ذلك عبادة.
ثالثاً: ينوي بالأكل والشرب التقوي على طاعة الله، فيكون عبادة لأن من القواعد المقررة شرعاً أن للوسائل أحكام المقاصد، فإذا كان هذا الأكل والشرب يعينني على طاعة الله فنويت بهذا الاستعانة على طاعة الله صار عبادة.
رابعاً: أنوي بالأكل التبسط بنعمة الكريم جلا وعلا لأن الكريم يحب أن يتبسط الناس بكرمه وأضرب مثلاً ولله المثل الأعلى لو أن رجلاً من الناس كريماً قدم طعاماً للآكلين هل رغبته أن يرجع الطعام غير مأكول أو أن يأكله الناس؟
يأكله الناس طبعاً لأن هذا مقتضى الكرم فأنا إذا أكلت أنوي التبسط بنعمة الله كان عبادة فانظر يا أخي كيف كان الطعام الذي تدعو إليه الطبيعة وتقتضيه العادة كيف أمكن أن يكون عبادة بحسب الانتباه واليقظة والنية بينما يأتي الغافل إلى الصلاة وإلى المسجد على العادة وإذا أتى على العادة صارت عبادته الآن عادة.
وبهذا يتبين لنا أن توحيد العبادة وتحقيق توحيد العبادة أمر مهم جداً وهذا ما ندعو إليه أن يحقق الناس العبادة لله وحده.
ولو قال قائل: هل يجوز أن أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.(110/8)
الجواب: لا يجوز أن أقول : يا رسول الله أنقذني من الشدة يا رسول الله ارزقني ولداً. لا يجوز بأي حال من الأحوال، بل هو شرك أكبر مخرج من الملة سواء دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعا غيره وغيره أقل منه شأناً وأقل منه وجاهة عند الله عز وجل فإذا كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم شركاً فدعاء غيره أقبح وأقبح والرسول عليه الصلاة والسلام أعظم الناس جاهاً عند الله وقيل له عليه الصلاة والسلام والقائل هو الله : { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً . قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } (1)، أنا لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولو أرادني الله بشيء ما وجدت من دونه ملتحداً يمنعني منه إذاً لمن أتجه بالدعاء؟ إلى الله عز وجل { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (2) وليتضح القول في مسألة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المخلوقين نقول: الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز وهو أن يدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة قال صلى الله عليه وسلم في حقوق المسلم على أخيه : " وإذا دعاك فأجبه " (3) وقال صلى الله عليه وسلم : " وتعين الرجل في دابته " (4) الحديث.
الثاني: أن تدعو مخلوقاً سواء كان حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، لأن هذا من فعل الله لا يستطيعه البشر مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً.
الثالث: أن تدعو مخلوقاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة كدعاء الأموات فهذا شرك أكبر أيضاً لأن هذا لا يقدر عليه المدعو ولابد أن يعتقد فيه الداعي سراً يدبر به الأمور.(110/9)
واعلم: أنك لن تدعو الله بدعاء إلا ربحت في كل حال إما أن يستجيب الله دعاءك، وإما أن يصرف عنك من السوء ما هو أعظم، وإما أن يدخرها لك عنده يوم القيامة ثواباً وأجراً، فألح في الدعاء وكرر لا تقل : دعوت فلم يستجب لي، انتظر، كل دعوة تدعو الله بها فهي عبادة تنال بها أجراً سواء حصل المطلوب أم لم يحصل.
أما توحيد الأسماء والصفات فخلاصته أنه يجب علينا أن نثبت لله كل ما أثبته لنفسه من أسماء أو صفات كل ما أثبته لنفسه من أسماء أو صفات يجب علينا أن نثبتها ولا يحل لنا أن ننكر ذلك بمقتضى أقيسة باطلة وعقول فاسدة نحن نعلم أن الله عز وجل سمى نفسه بأسماء كثيرة منها ما يمكننا علمه ومنها مالا يمكننا علمه. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود المشهور في دعاء الكرب والغم:
" اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك "(1). ومعني الدعاء أي:
كل ما قضيت علي مما أحب أو أكره فهو عدل ليس فيه جور حتى المصائب عدل من الله { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } . [سورة الشورى، الآية: 30] ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام في بقية الحديث:
" أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي"، هنا يقول: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك ". والذي استأثر به في علم الغيب لا يمكن لأحد معرفته لأن الله استأثر به ولم يٌطلع عليه أحداً ، ومع هذا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة " (1).
لكن ليس معنى إحصائها ما نجد بعض الناس يقوله : يا الله يا رحمن يا رحيم يا قدوس يا سميع.. حتى يكمل تسعة وتسعين يقول : أحصيتها وأنا داخل الجنة ولا محالة هذا غير صحيح حتى لو وضعها في مسبحة.(110/10)
لكن إحصاءها يكون بثلاثة أمور:
أولاً: إحصاؤها لفظاً يعني يلتمسها من الكتاب والسنة حتى يحصيها لفظاً.
ثانياً: فهمها معنى وإلا فلا فائدة، ما الفائدة من أن تقول : يا رحمن يا رحيم، وأنت لا تدري معنى رحمن ولا رحيم.
الثالث: التعبد لله بمقتضاها بمعنى أنك إذا علمت أنه سميع تدعوه لأنه يسمع، إذا علمت أنه قريب تدعوه لأنه قريب، إذا علمت أنه مجيب تدعوه لأنه مجيب، ولما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم ـ يعني هونوا عليهاـ إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وهو معكم"(1).
فتأمل كيف بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم معنى هذه الأسماء. قريب سميع بصير. إذا علمت أن الله سميع، هل تقول قولاً يغضبه، لا. إذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته، وهلم جراً، هذا هو معنى إحصاء أسماء الله عز وجل ولابد أن تثبت لله كل ما أثبته لنفسه من وصف وإن شئت فقل : من صفة.
وإن من حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا الذي هو فوق حق الوالدين أن نجرد الاتباع له بمعنى ألا نتقدم بين يديه فلا نشرع في دينه ما لم يشرع ولا نتجاوز ما شرعه أو نقصر فيه قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .[سورة آل عمران،الآية: 31].
وهذه الآية يسميها السلف آية المحنة: معناها الامتحان لأن قوماً زعموا أنهم يحبون الله. فوضع الله هذا الميزان، فكلما كان الإنسان أحب لله كان لرسوله أتبع وكلما ضعف اتباع الرسول فإن محبة الله في القلب ضعيفة.(110/11)
حتى وإن ادعاها مدعيها، نعم هل من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقدم بين يديه ونُحْدِث في دينه ما ليس منه، لا أبداً. ليس هذا من محبة الله وليس هذا من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن محبة الله عنوانها ودليلها وميزانها أن نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من محبة الله فإذا كانت دعوى محبة الله لا تتحقق إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن دعوى محبة الرسول لا تتحقق إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ إذا كان هذا الشهر هو الشهر الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك هو الشهر الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما قاله أهل التاريخ إلا أنه لا تعلم الليلة التي ولد فيها وأحسن ما قيل أنه ولد في الليلة التاسعة من هذا الشهر لا الليلة الثانية عشرة خلافاً لما هو مشهور عند كثير من المسلمين اليوم لأن هذا لا أساس له من الصحة من حيث التاريخ وحسب ما حسبه أهل الفلك المتأخرون فإن ولادته كانت في اليوم التاسع من هذا الشهر لكن هل يعلم اليوم الذي ولد فيه؟(110/12)
الجواب: نعم ولد يوم الاثنين. لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يوم الاثنين. فقال: "ذاك يوم ولدت فيه " (1) لكن اليوم من الشهر لا يعلم يقيناً ولكن أرجح ما قيل فيه هو اليوم التاسع وأياً كان لا يهمنا في التاسع أو الثاني عشر أو غيره، لكن الذي يهمنا أن نكون لله مخلصين ولنبيه صلى الله عليه وسلم متبعين وأن نحقق ذلك الإخلاص وذلك الاتباع لأن دين الإسلام لا يدخل الإنسان فيه إلا إذا قال : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم اتباعه وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع فالذي يهمنا أيها الإخوة : ألا نجعل في هذا الشهر أمراً زائداً على الشهور الأخرى أبداً إذا كنا صادقين في أننا نحب الرسول عليه الصلاة والسلام. فلنتبع شرعه ولا نتعداه لأن أي بدعة تحدث يتقرب بها الإنسان إلى رب العالمين. وليست في دين الله فإنها تتضمن أيها الإخوة الاعتراض على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة رضي الله عنهم. لأن كل إنسان يحدث في دين الله بدعة يتعبد بها ويتقرب إلى الله بها فإن بدعته هذه تستلزم الطعن أو القدح في الله عز وجل وفي الرسول وفي الصحابة، أما(110/13)
في الله فلأنه إذا ابتدع في دين الله ما ليس منه فقد كذب الله لأنه سبحانه وتعالى يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم } فإذا أحدثنا في دين الله شيئاً بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام فمقتضى ذلك التكذيب للآية والقدح في الله عز وجل فإن قيل : كيف يتضمن القدح في الله عز وجل من حيث لا يشعر الإنسان؟ أي إنسان يبتدع في دين الله ما ليس منه من أذكار أو صلوات أو غيرها مما يتقرب به إلى الله. نقول : إذا كنت تتقرب بذلك إلى الله، فإن ذلك دين تدين الله به وترجو به ثوابه والنجاة من عقابه فأين أنت من قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } كيف يكون كمالاً وأنت تأتي بعده بجديد هل يكون كمالاً يحتاج إلى تكميل فيما بعد.
الجواب: لا يكون ذلك، كما أن فيه انتقاصاً للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بكمال الدين وذلك في قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم .. } وكذلك انتقاصاً لله عز وجل لأن الله عز وجل بيّن كمال الدين كما في الآية الكريمة وكذلك فيه انتقاص للصحابة رضوان عليهم من حيث إنهم كتموا شيئاً من الشريعة الإسلامية؟
وكذلك اتهام لهم رضوان الله عليهم بالجهل في دين الله عز وجل.
ومن هذا الكلام يتبين أن من ابتدع في دين الله عز وجل فإن بدعته هذه تتضمن القدح في:
1. الله عز وجل.
2. ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3. وفي الصحابة رضوان الله عليهم.
أيها الإخوة: نحن لا نتهم صانعي هذه البدع أو محدثي هذه البدع كلهم بسوء القصد، قد يكون قصدهم حسناً ولكن هل يكفي في العبادة أن يكون قصد الإنسان حسناً أو لابد من المتابعة؟
لابد من المتابعة، ليس كافياً
أن يكون قصد الإنسان حسناً وإلا ابتدع كل واحد في دين الله ما يريد، ويقول : أنا قصدي حسن، أقول : ليس كل إنسان يحدث بدعة نسيء الظن به.(110/14)
نحن نحسن الظن بكثير منهم لكن ليس كل من كان قصده حسناً يكون فعله صواباً وحسناً ولهذا قال الله تعالى: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } [ سورة فاطر، الآية: 8] نقول للذي يبتدع أي بدعة في دين الله : ماذا تريد؟ قال: أريد التقرب إلى الله عز وجل فنقول: تقرب إلى الله بما شرع، فيه الكفاية، تقرب إلى الله بما درج عليه السلف الصالح والصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين ففيه الكفاية لا تتعب نفسك بأمر لم يشأه الله فيعود عليك بالضرر قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ثم إن البدع في الحقيقة هي انتقاد غير مباشر للشريعة الإسلامية لأن معنى البدع أن الشريعة الإسلامية لم تتم وأن هذا المبتدع أتمها بما أحدث من العبادة التي يتقرب بها إلى الله كما زعم.
وأنا أعجب ممن يقسمون البدع إلى أقسام ويجعلون من البدع بدعاً حسنة، مع أن أعلم الخلق وأنصح الخلق وأفصح الخلق يقول باللسان العربي المبين يقول صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " (1) ولا أعظم من هذا العموم عموم مستوف " كل بدعة ضلالة " ، لا نستطيع بعقولنا القاصرة أن نقول : إن البدعة تنقسم إلى أقسام منها واجب ومنها مستحب ومكروه وحرام.
ليس في الدين بدعة حسنة أبداً، أما السنة الحسنة فهي التي توافق الشرع، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسنة أي يبدأ العمل بها، أو يبعثها بعد تركها، أو يفعل شيئاً يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به فهذه ثلاثة أشياء:
الأول: إطلاق السنة على من ابتدأ العمل ويدل له سبب الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه، صلى الله عليه وسلم،(110/15)
وهم في حاجة وفاقة، فحث على التصدق فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " (1) فهذا الرجل سن سنة، ابتداء عمل لا ابتداء شرع.
الثاني: السنة التي تركت ثم فعلها الإنسان فأحياها فهذا يقال عنه : سنها بمعنى أحياها وإن كان لم يشرعها من عنده.
الثالث: أن يفعل شيئاً وسيلة لأمر مشروع مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته ولكن لأنه وسيلة لغيره فكل هذا داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " .
لكن قد يعترض معترض فيقول: هل أنتم أعلم ممن نطق الكتاب بموافقته كما حصل من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حينما أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس برمضان، بإمام واحد وكان الناس يصلون أوزاعاً ثم جمعهم عمر رضي الله عنه. فخرج ذات ليلة وهم يصلون فقال : نعمت البدعة هذه. والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"(2).
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بأي كلام، لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . [ سورة النور، الآية: 63] قال
الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : " أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك " .أ.هـ.(110/16)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر".
الوجه الثاني: أننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس تعظيماً لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان مشهوراً بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافاً عند كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته ـ إن صحت القصة ـ في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: { وآتيتم إحداهن قنطاراً } . [ سورة النساء، الآية: 20]. فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور(1) لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافاً عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأن يقول عن بدعة : " نعمت البدعة " وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " كل بدعة ضلالة " بل(110/17)
لابد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر : إنها " نعمت البدعة " على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " كل بدعة ضلالة " فعمر رضي الله عنه يشير بقوله: " نعمت البدعة هذه " إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: " إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه، ويقوم الرجل ومعه الرجل، والرجل ومعه الرجلان، والرهط، والنفر في المسجد، فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قَبْل بدعة، فهي بدعة اعتبارية إضافية، وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه، لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه وبهذا التقعيد لا يمكن أبداً أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذاً لما استحسنوه من بدعهم.
من العلماء من قسم البدعة إلى أقسام ومنها بدع حسنة فما الجواب عن ذلك؟
والجواب عن ذلك أن نقول: ما ادعاه العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلو من حالين:
1. أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
2. أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.(110/18)
فكل ما ادعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا . وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) . إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، ولكنه صنع في مصانع النبوة، وصاغه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول : إنها حسنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل بدعة ضلالة) أيها الإخوة: في هذا الشهر يحدث بعض المسلمين احتفالاً يسمونه، عيد المولد، هو والحمد لله في بلادنا ليس بذاك المشهور لكن أقول : إنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية من يحتفل بما يدعونه ليلة المولد لا على المستوى الشعبي فحسب بل حتى على المستوى الرسمي، والحقيقة أن هذا مؤلم، كيف نتلهى بالقشور بل كيف نتلهى بالعظام التي تجرح حلوقنا لنبتلعها، ثم نترك ما هو من أهم المهمات بل هو أهم المهمات وهو أصول الدين، ندعها تجرح الدين أمام هؤلاء ولا أحد منهم ينبض بكلمة إلا من شاء الله، كيف نحتفل ونقيم الأعياد والحلوى والاجتماع والأذكار وليتها أذكار سالمة، إننا نسمع أن بعضهم ينشد القصائد التي والله لا يرضاها الله ولا رسوله، لقد قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام " ما شاء الله وشئت فقال : أجعلتني لله نداً بل قل : ما شاء الله وحده" (1).
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فنقول له بكل بساطة : لك من تلوذ به سوى رسول الله وهو الله عز وجل الذي قال له: { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } [ سورة الجن، الآية: 22].(110/19)
كيف تقول : يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم. ليته الحادث الخاص، الحادث الخاص قد تشكو إلى زيد أو عبيد ويقضي حاجتك، الحادث العمم كالفيضانات الصواعق الزلازل إذا أصابت الرجل عنده من يقول : مالي من ألوذ به سوى الرسول صلى الله عليه وسلم ، هكذا يقول أما من كان على الفطرة، فإنه يلوذ بالله وحده وهذا هو الحق.
ومما تقدم يتبين لنا أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يجوز بل هو أمر مبتدع وذلك لأمرين:
أولاً: ليلة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست معلومة على الوجه القطعي، بل إن بعض العصريين حقق أنها ليلة التاسع من ربيع الأول وليست ليلة الثاني عشر منه، وحينئذ فجعل الاحتفال ليلة الثاني عشر منه لا أصل له من الناحية التاريخية.
ثانياً: من الناحية الشرعية فالاحتفال لا أصل له أيضاً لأنه لو كان من شرع الله لفعله النبي، صلى الله عليه وسلم أو بلغه لأمته ولو فعله أو بلغه لوجب أن يكون محفوظاً لأن الله تعالى يقول: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (1) فلما لم يكن شيء من ذلك علم أنه ليس من دين الله، وإذا لم يكن من دين الله فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد به لله عز وجل ونتقرب به إليه، فإذا كان الله تعالى قد وضع للوصول إليه طريقاً معيناً وهو ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم فكيف يسوغ لنا ونحن عباد أن نأتي بطريق من عند أنفسنا يوصلنا إلى الله؟ هذا من الجناية في حق الله عز وجل أن نشرع في(110/20)
دينه ما ليس منه، كما أنه يتضمن تكذيب قول الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } (1). فنقول : هذا الاحتفال إن كان من كمال الدين فلابد أن يكون موجوداً قبل موت الرسول، عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن من كمال الدين فإنه لا يمكن أن يكون من الدين لأن الله تعالى يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم } ومن زعم أنه من كمال الدين وقد حدث بعد الرسول،صلى الله عليه وسلم فإن قوله يتضمن تكذيب هذه الآية الكريمة، ولا ريب أن الذين يحتفلون بمولد الرسول، عليه الصلاة والسلام إنما يريدون بذلك تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار محبته وتنشيط الهمم على أن يوجد منهم عاطفة في ذلك الاحتفال للنبي، صلى الله عليه وسلم وكل هذا من العبادات، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة بل لا يتم الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، أحب إلى الإنسان من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، من العبادة، كذلك إلهاب العواطف نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الدين أيضاً لما فيه من الميل إلى شريعته، إذاً فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التقرب إلى الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم عبادة وإذا كان عبادة فإنه لا يجوز أبداً أن يحدث في دين الله ما ليس منه، فالاحتفال بالمولد بدعة ومحرم، ثم إننا نسمع أنه يوجد في هذا الاحتفال من المنكرات العظيمة مالا يقره شرع ولا حس ولا عقل فهم يتغنون بالقصائد التي فيها الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه أكبر من الله والعياذ بالله ومن ذلك أيضاً أننا نسمع من سفاهة بعض المحتفلين أنه إذا تلا التالي قصة المولد ثم وصل إلى قوله : " ولد المصطفى " قاموا جميعاً قيام رجل واحد يقولون : إن روح الرسول صلى الله عليه وسلم حضرت فنقوم إجلالاً لها وهذا سفه، ثم إنه ليس من الأدب أن يقوموا لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يكره(110/21)
القيام له
فأصحابه وهم أشد الناس حباً له وأشد منا تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم لا يقومون له لما يرون من كراهيته لذلك وهو حي فكيف بهذه الخيالات ؟ !
وهذه البدعة ـ أعني بدعة المولد ـ حصلت بعد مضي القرون الثلاثة المفضلة وحصل فيها ما يصحبها من هذه الأمور المنكرة التي تخل بأصل الدين فضلاً عما يحصل فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات.
وهؤلاء الذين فعلوا هذه البدعة عند بعضهم حسن نية لكن أرجو منهم أن يتأنوا في الأمر، وأن يتأملوا فيه ، هل فعلوا ذلك عبادة لله فليأتوا ببرهانهم أن ذلك من باب التعبد لله، ولماذا لم يتعبد به الصحابة و التابعون وأئمة الإسلام بعدهم هل أتوا بذلك محبة للرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان كذلك فإن الحبيب يقتدي بحبيبه ولا يتجاوز خطاه. هل أتوا بذلك تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وهو الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد ذلك لنفسه ونهى أمته عن الغلو فيه كما غلت النصارى بعيسى بن مريم (1)هل قالوا ذلك تقليداً للنصارى حيث كانوا يحتفلون بمولد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، إذا كان كذلك فالأمر فادح لحديث " من تشبه بقوم فهو منهم " (2)، والذي يظهر لي والله أعلم أن ذلك من باب مراغمة النصارى لأن النصارى يحدثون احتفالاً بمولد عيسى بن مريم، وقالوا : إذاً نحن نضادهم ونوجد احتفالاً لنبينا صلى الله عليه وسلم ويدل على هذا أنهم جعلوا الاحتفال بالمولد وحقيقة الأمر أن النعمة لم تتم إلا برسالته { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } ، [ سورة آل عمران، الآية: 164] وموضع المنة ( بعث ) وهذا يقرب أن الذي ابتدع هذه البدعة أراد مضادة النصارى، ومشاركتهم في إحداث المولد بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال فإنني أبين ذلك(110/22)
حتى لا تغتر بتلك البدعة لأن الحق ما قام الدليل عليه، وليس الحق فيما عمله الناس، الذين كانوا بعد القرون الثلاثة، لأننا نقول : إن الإجماع قد دل على أن هذا ليس من العبادة في شيء إجماع من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لأن هذه البدعة حدثت في القرن الرابع من الهجرة وانتشرت ومع الأسف أنها لم تُبين للناس على حقيقتها، وإلا فإني أعتقد والعلم عند الله أنها لو بينت على حقيقتها ما كان الناس يتعبون في أمر لا يعود عليهم إلا بالضرر، أبداً الإنسان المؤمن عاقل وحازم وفطن، كل شيء يعود عليه بالضرر لا يمكن أن يفعله أبداً مهما كان، ولذلك أسأل الله تعالى لإخواني هؤلاء أن يوفقني وإياهم للصواب، حتى يتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالعقيدة والقول والعمل.
ثم إننا نحث إخواننا ولا سيما الشباب على أن يحرصوا غاية الحرص على دعوة إخوانهم إلى الحق ولكن ليكن ذلك باللطف واللين وبيان الحق (1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف " (2) وهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى.
جاء مرة يهودي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده عائشة فقال: السام عليكم ـ والسام هو الموت ـ قالت عائشة رضي الله عنها : عليك السام واللعنة . فنهاها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: " إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"(3) إن كانوا قائلين :السام عليكم قلنا : وعليكم يعني عليكم السام عاملناهم بالعدل، إن كانوا قالوا : السلام عليكم قلنا : وعليكم يعني السلام. ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذمة قال : إذا قال اليهودي أو النصراني :(110/23)
السلام عليكم وأظهر اللام قل : عليكم السلام ولا حرج لأنه قال : السلام عليكم. لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قولوا : وعليكم، والواو حرف عطف فيكون المعطوف مماثلاً للمعطوف عليه. إذاً إن كانوا قالوا : السلام يقول : وعليكم السلام وهذا من العدل قال الله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } .
المهم أقول لإخواني الشباب أن يدعوا إلى الله على بصيرة وعلم بالرفق واللين ولا ييأسوا قد تحصل من المدعو نفرة في أول الأمر وكراهية لكن إذا عومل بالتي هي أحسن وبدون عنف وباللين فإن الله عز وجل يقول لموسى وهارون : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولاً ليناً } لماذا؟ { لعله يتذكر أو يخشى } . [ سورة طه، الآيتان: 43-44]، فهكذا ينبغي على كل داعية إلى الخير أن يقابل الناس باللين وبيان الحق وأن يصبر على ما يجد من جفوة قد يجد جفوة أو نفرة فليصبر أليس الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق عند الله يأتي المشركون إليه وهو ساجد تحت الكعبة ويضعون عليه سلا الناقة دم وفرث وسلا وهو ساجد لله رب العالمين؟!.
ومع ذلك صبر عليه الصلاة والسلام فكانت العاقبة له { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } ، [سورة هود، الآية:49] واعلم أنك لا تصاب بمثل هذه النفرة أو الكلام عليك إلا أجرت عليه إذا صبرت.
قال الله تعالى: { واصبروا إن الله مع الصابرين } [سورة الأنفال، الآية: 46] { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [ سورة النحل، الآية: 128] كما أدعوكم أيضاً إلى الاتفاق فيما بينكم لا تكونوا أحزاباً متفرقين أنا أعتقد أن كل واحد من هذا الشباب الصالح لا يريد إلا الحق والخير،(110/24)
إذا كان كذلك لماذا نتفرق في جماعة تبليغ. يأتي ناس يكفرونهم ويضلونهم وفي جماعة إخوان مسلمين وجماعة سلفيين وجماعة، أشياء متعددة، لماذا لا نتفق ونكون جماعة واحدة المخطئ منا يصوبه المصيب والمصيب يحمد الله على الصواب أما أن نتفرق هذا خطأ والواجب أن نكون يداً واحدة وألا تتفرق كلمتنا وأن نكون كما قال الله عز وجل : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } [ سورة الأنبياء، الآية: 92]. وقال : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } ، [ سورة آل عمران، الآية: 105] وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } ، [سورة الأنعام، الآية: 159]. وقال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } .[ سورة الشورى، الآية:13]. أسأل الله تعالى أن يجمع كلمتنا على الحق وأن يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ونسأله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
تم بحمد الله تعالى المجلد السابع
ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الثامن
---
(1) آل عمران : 102.
(2) النساء:1.
(3) الأحزاب: 70-71.
(1) الأعراف الآيتان :156- 157.
(2) الأعراف، آية :: 158.
(2) البخاري: كتاب بدء الوحي "3" مسلم : كتاب الإيمان " 160 " .
(4) البقرة آية :: 185.
(1) أخرجه البخاري بلفظ " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح ..إلخ " وبلفظ" رؤيا المؤمن ..إلخ " ولفظ " الرؤيا الصالحة.. " كتاب التعبير / باب رؤيا الصالحين: وباب الرؤيا الصالحة جزء من ستة.
(1) النساء آية :: 171.(110/25)
(2) ص آية :: 5.
(1) الأعراف آية : 31.
(1) الجن الآيتان :21- 22.
(2) غافر آية : 60.
(3) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز : باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم : كتاب السلام : باب من حق المسلم على المسلم.
(4) أخرجه البخاري كتاب الجهاد: باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ1 ص 452 والحاكم ج 1 ص 690 وقال: " حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فانه مختلف في سماعه من أبيه".وتعقبه الذهبي بقوله:" قلت: وأبو سلمة لا يدرىمن هو ولا روآية : له في الكتب الست " والهيثمي في " المجمع " جـ 10 ص 136 وقال: رواه أحمد وأبو يعلىوالبزار والطبراني" وصححه أحمد شاكر " المسند " [ 3712 ].
(1) البخاري: كتاب الدعوات : باب لله مائة اسم غير واحد، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء : باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها.
(1) البخاري: كتاب الجهاد: باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير " 2830" ومسلم : كتاب الذكر والدعاء: باب استحباب خفض الصوت بالذكر " 2704".
(1) أخرجه مسلم : كتاب الصوم: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
(1) تقدم تخريجه.
(1) مسلم: كتاب الزكاة: باب الحث على الصدقة.
(2) البخاري: كتاب صلاة التراويح " 1906".(110/26)
(1) نص القصة: عن أبي العجفاء السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: " ألا لا تغالوا في صدقات النساء. فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه، ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية" أخرجه الإمام أحمد جـ 1 ص 282 ( تحقيق أحمد شاكر )، وأبو داود: كتاب النكاح: باب الصداق، والنسائي: كتاب النكاح: باب القسط في الأصدقة، والترمذي: كتاب النكاح: باب ما جاء في مهور النساء، وابن ماجه : كتاب النكاح: باب في صداق النساء، والحاكم جـ 2 : ص 192 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر جـ 1 ص 282.وأما قول المرأة التي عارضت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " جـ6 ص 180 ، وابن كثير جـ 1 ص 703 سورة النساء، الآية:: 20 وقال: " إسناد القصة جيد قوي ".
(1) تقدم تخريجه.
(1) سورة الحجر، الآية : " 9 ".
(1) سورة المائدة، الآية : " 3 ".
(1) أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء : باب: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها " سورة مريم "16".
(2) تقدم تخريجه.
(1) انظر كتاب " زاد الداعية إلى الله عز وجل " وكتاب " الاعتدال في الدعوة " لشيخنا العلامة محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى.
(2) مسلم : كتاب البر والصلة : باب فضل الرفق.
(3) البخاري: كتاب الأدب : باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً.(110/27)
مجموع فتاوى و رسائل - 7
الإخلاص
محمد بن صالح العثيمين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون((1) ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً( (2).
) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ( . (3)
أما بعد: أيها الإخوة فإننا في هذا المكان مسجد قباء الذي هو كما وصفه الله بقوله: ) لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ( (4).
هذا المسجد، الذي قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام :) أحق أن تقوم فيه ( هذا المسجد الذي ينبغي لكل من أتى إلى المدينة أن يخرج إليه متطهراً من بيته ويصلي فيه ركعتين وما تيسر.(111/1)
هذا المسجد الذي قام من قام من المنافقين، وأشباه المنافقين من أجل أن يقيموا مسجداً آخر يكون مضاراً له ) اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( (1) إنه يجب علينا أن نتأمل كيف وبخ الله غاية التوبيخ الذين اتخذوا مكاناً من أجل أن يفرقوا بين المؤمنين وأن يضاروا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؟ ولأجل أن يكون ذلك إرصاداً لمن حارب الله ورسوله إذا كان هذا توبيخ الله عز وجل لمن اتخذوا مكاناً يكون مشتملاً على هذه الأوصاف فما بالكم بمن اتخذوا أفكاراً وآراء يضادون بها العقيدة السليمة الصحيحة التي تلقاها السلف الصالح عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ رحيقاً زلالاً صافياً حتى ابتدعوا في دين الله تعالى ما ليس منه وصاروا يجلبون الناس حولهم من أجل أن يصدوهم عن الصراط المستقيم فإذا كان هذا توبيخ الله عز وجل لمن اتخذوا مكاناً في الأرض فما بالكم بمن حاولوا أن يتخذوا مكاناً في القلوب؟ لذلك أدعو جميع المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين أن يتحدوا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الكلمة لا يمكن تحقيقها، ولا يصدق من ادعى تحقيقها حتى يأتي بالبرهان، وهو الإخلاص التام لله عز وجل لا يشرك بعبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا من دونهم بل يخلص العبادة لله عز وجل ومن أعظم العبادة الدعاء فإن الدعاء من العبادة يقول الله عز وجل: ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين( (2).(111/2)
وإننا مع الأسف نرى كثيراً من المسلمين اليوم لم يحققوا هذا الإخلاص لم يحققوا هذه الشهادة التي يقولونها بألسنتهم ويطلقون بها في كل مكان كلهم يقولون : أشهد أن لا إله إلا الله ولكن نجدهم يقومون بضد هذه الشهادة لأنهم يدعون غير الله إما من الملائكة، أو المرسلين أو الأولياء الصالحين أو من الأولياء المدعين.
إذاً هل حققوا لا إله إلا الله؟ والله عز وجل يقول: ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين( . فدل هذا على أن الدعاء عبادة وكذلك جاء في الحديث المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: " الدعاء هو العبادة"(1) إذا كان كذلك فإننا نقول لهؤلاء القوم الذين يدعون مع الله غيره ليفرج لهم الكربات ويحصل لهم المطلوبات نقول لهم : يا قوم هؤلاء الذين تدعون من دون الله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا شك أننا وإياكم نعتقد ونعلم علم اليقين أنه لا أحد أعظم جاهاً عند الله عز وجل من أنبيائه ورسله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وخاتمهم وأنه خليل الرحمن كما أن إبراهيم خليل الرحمن لا نشك في هذا أبداً ومع ذلك أمره الله أن يقول: ) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ( (2) ) قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما(111/3)
مسني السوء إن أنا إلا بشير ونذير لقوم يؤمنون " (1) ) قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ( (2). حتى لو أراده الله بما يريده منه ما أحد يملك أن يدفع ما أراد الله ) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً( هذا الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام وهو خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات، ولا نبي بعده هو الذي أمر به أول الرسل أيضاً إذ قال الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام:)ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما فيه أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين( (3).
إذا كان كذلك فمن الخطأ الفادح أن يتجه إنسان إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ليسأل الله، أو لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته، أو يدفع ضرورته، إنه إذا كان على الأمر الثاني يتجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقضي حاجته أو يفرج كربته إن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل والذي قال الله فيه: )إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار( (4).
والذي قال الله فيه: ) إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ((5).
أما إذا كان يدعو الله عز وجل ولكنه يتجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يصل إلى حد الشرك الأكبر ولكنه خطأ إن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع. إذا كنت تدعو رب السموات
جلَّ وعلا فاتجه إلى أمر بالاتجاه إليه اتجه إلى بيته الحرام ولا تتجه إلى بيت الرسول اتجه إلى بيت من تدعو وهو الله عز وجل لا إلى بيت من لا يملك لك نفعاً ولا ضراً وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.(111/4)
والحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نسكت على هذا الأمر ولا ينبغي لنا أن نعالجه إلا بالحكمة، العنف لا يجدي شيئاً . لكن الحكمة واللين يجدي الإرشاد والدعوة بالمنقول والمعقول هذا الذي يثمر كثيراً فلو أننا شاهدنا أحداً يقول هكذا أو يفعل هكذا ، في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم دعوناه بلطف ، ولين وبينا له وقلنا له : من تدعو فإما أن يدعو الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يدعو الله فإذا كان يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مشرك لأن الله تعالى يقول ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ( (1) ما قال : ادعوا النبي محمداً عليه الصلاة والسلام ولا أي أحد من الناس ) ادعوني استجب لكم ( هذا أمر الله سيقول : نعم وإذا كان لم يقرأ القرآن نخبره بما في القرآن فإذا اقتنع بذلك واعترف به فيقال له : أكمل الآية: ) إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( (1) فسمى الله الدعاء عبادة، فإذا دعا الرسول عليه الصلاة والسلام فقد عبده ولم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ولم يحقق ما ينطق به في كل ركعة: ) إياك نعبد((2) فإن هذه الجملة كما يفهم منها قولك : " لا نعبد إلا إياك " فهي تقابل لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود بحق إلا الله سبحانه ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل فكل ما عبد من دون الله فهو باطل قال تعالى: ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ( (3) فيقال لهذا الرجل : أنت لم تحقق شهادة لا(111/5)
إله إلا الله ولم تحقق ما كنت تنطق به في كل ركعة من صلاتك ) إياك نعبد ( لأنك عبدت الرسول عليه الصلاة والسلام مع الله حين دعوته فبهذا اللطف والإرشاد يمكن أن يقبل عليك بعض الشيء، وإذا فرضنا أن عنده بعض العناد فإنه سوف يناقش نفسه بِنَفْسِه ثم يرجع وأنت يا أخي لا تحتقر كلمة الحق كلمة الحق مؤثرة مهما قال لك الشيطان : إنها لا تؤثر وإن هذا سوف يركب رأسه فلا تطع الشيطان موسى عليه الصلاة والسلام جمع له السحرة المهرة الذين وضعوا العصا والحبال فكانت هذه العصا والحبال يخيل إلى الناس أنها حيات تسعى حتى موسى عليه الصلاة والسلام مع إيمانه وقوته أوجس في نفسه خيفة لكنه قال كلمة بسيطة قال لهم: ) ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ( (1) هذه الكلمة أثرت تأثيراً عظيماً ) فتنازعوا أمرهم بينهم ( (2) وإذا حصل النزاع حصل الفشل قال الله تعالى: )ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ( (3) تنازعوا أمرهم بينهم وأخيراً آمن السحرة فكلمة الحق تؤثر إذا صدرت من إنسان مخلص وأن الإنسان لا يريد أن يفرض قوله على غيره، إنما يريد أن يهدي غيره للحق الذي هو مراد الجميع فإنه سيؤثر بإذن الله عز وجل ولهذا لا تحقرن كلمة الحق ولا تقل إنها لا تنفع " فما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء " (4).
أما إذا قال: إنه يدعو الله ويتجه إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام(111/6)
فنقول له: لماذا؟ هل بيت الرسول أحب إليك من بيت الله إن قال : نعم فهو على خطر، وإن قال: بيت الله أحب إلي ، قلنا له : اتجه إلى بيت الله عز وجل إلى قبلته التي فرض الله على المسلمين أن يتجهوا إليها في اليوم خمس مرات هذا هو أحق أن يتجه إليه من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إذاً اتجاهك إلى القبر من أجل أنه قبر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا أمر مرجوح وطرف راجح فهو قد أقر بأن بيت الله أحب إليه من بيت الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا كان كذلك فاتجه إلى بيت الله لأنك تسأل الله فاتجه إلى بيت الله لا إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال: أنا أتجه إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون وسيلة لي عند الله سبحانه وتعالى.
قلنا له: الرسول عليه الصلاة والسلام قد انقطع عن أعمال التكليف ولا يستطيع أن يدعو لأحد أبداً لأن الدعاء عمل وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام نفسه.
" أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " (1) فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يشفع لك عند الله عز وجل لأن عمله قد انقطع أما في حياته فيستشفع به عند الله كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة فقال : يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فأدع الله أن يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" قال أنس راوي الحديث: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع وما بيننا وبين
سلع من بيت ولا دار إذ خرجت سحابة من وراء سلع وانتشرت ورعدت وبرقت فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته (1).(111/7)
وبقي المطر أسبوعاً كاملاً ثم دخل ذلك الرجل أو غيره فقال : يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله أن يمسكها عنا فرفع يديه وقال : اللهم حوالينا ولا علينا وجعل يشير بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وخرجوا يمشون في الشمس الله أكبر.
هذا من آيات الله الدالة على سمعه للدعاء، وعلى قربه من الداعي وعلى قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى وهو في نفس الوقت آية للرسول عليه الصلاة والسلام حيث استجاب الله دعاءه لأنه رسول فأيد بإجابة الدعاء فيكون هذا من آياته الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وعلى صحة رسالته، فأما بعد موته فلا يمكن ولهذا أعلم الناس بهذا الأمر من هذه الأمة هم الصحابة، ومع ذلك لما قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2) هل قال : يا رسول الله ادع الله لنا أن يغيثنا؟ كلا والله ولا يمكن أن يقول ذلك لأن هذا ليس بالشرع ولا بالعقل أن تقول لميت ادع الله ولكنه قال للعباس بن عبد المطلب : قم يا عباس ادع الله فدعا فأغيثوا والعباس حي وكل إنسان يرجى قبول دعوته فلا حرج عليك أن تقول: يا فلان ادع الله لي وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام في أعظم موقف من مواقف الخلق في المقام المحمود الذي يبعثه فيه الله عز وجل لا يمكن أن يتكلم
بكلمة إلا بإذن الله، إذا لحق الناس من الكرب والهم والغم ما الله به عليم ذهبوا إلى آدم يسألونه أن يشفع إلى الله ليريحهم من الموقف فيعتذر، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى حتى تصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام(1) ولكنها إذا وصلت إليه لا يمكن أن يشفع إلا بعد إذن الرب عز وجل بعد إذن الرب الذي هو ملك الملوك والذي سلطانه لا نظير له ولا مداني له ) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( (2).(111/8)
( من ) اسم استفهام بمعنى النفي، والاستفهام إذا جاء بمعنى النفي كان أعظم وأبلغ لأنه يكون مشرباً بالتحدي فإن قولك : ولا يشفع أحد نفي بـ لا لكن قوله : ( من ذا الذي يشفع ) أبلغ في التحدي وامتناع هذا الأمر، فإذاً لا يمكن أن يشفع لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الخلق إلا بعد إذن ملك الملوك ذي السلطان الأعظم وهو الله تبارك وتعالى. فإذا كان كذلك فلا وجه لكونك تتجه إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام ليكون وسيلة لك أن يقبل دعاءك اتجه إلى بيت الله عز وجل فهو أقرب وسيلة.
في هذا البلد الطيب الذي كان هذا المسجد مسجد قباء لما بني مسجد الضرار حوله نهى الله نبيه أن يقوم فيه لأنه يراد به التفريق بين المؤمنين والمضارة لهذا المسجد الذي أسس على التقوى، والتفريق والإرصاد لمن حارب الله ورسوله فإذاً نقول : كل شيء يضاد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يشبه مسجد الضرار بل إن مضارة المزاحمة في القلوب أشد من
المضارة في المزاحمة في الأماكن علينا أن نكون أمة واحدة يدعو بعضنا بعضاً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وشهادة أن محمداً رسول الله من أكبر مقتضياتها اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهراً وباطناً ومن لا يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ولو أخلص لله فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله لم يحققها ولا يقبل منه حتى مع الإخلاص يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1)، وفي لفظ " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2).(111/9)
إذا كان كذلك فالإخلاص ليس كل شيء لابد مع الإخلاص أن ينضم إليه المتابعة، المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام بحيث لا يجعل الإنسان أحداً شريكاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في التشريع للخلق ولو كان من أكبر أئمة المسلمين لو كان أبا بكر وعمر فلا يجوز أن نجعله شريكاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في التشريع قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون : قال أبو بكر وعمر وقال الله عز وجل : ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( (3) .
قال الإمام أحمد: ( أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) وهو كذلك لأنه إذا رد بعض قول الرسول عليه الصلاة والسلام فلابد أن يكون عن هوى وإذا كان عن هوى فالهوى شرك ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ( (1).
إذاً من لم يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وعدم اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام على نوعين:
أحدهما: أن يقدم قول غيره عليه يعلم هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه يقدم قول غيره عليه، وهذا يوجد كثيراً في المتعصبين للمذاهب سواء كانت المذاهب مذاهب فقهية علمية أو مذاهب فكرية اعتقادية فإن بعض المتعصبين تعرض عليه هدي الرسول عليه الصلاة والسلام واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ولكن يقول : قال فلان كذاوقال فلان كذا ، يقول الإمام أحمد رحمه الله يقول مستنكراً : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول: ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ((2) فما بالك بمن يذهبون إلى رأي من دون سفيان ويدعون هدي الرسول عليه الصلاة والسلام؟.(111/10)
إذا قيل لهم هذا هدي الرسول عليه الصلاة والسلام. قالوا : لكن قال
فلان كذا وكذا من الذي أرسل إليكم أفلان أم رسول الله محمد؟ إن قال فلان كفر وأعلن بكفره وإن قال محمد نقول : ما قيمة الرسالة عندك وأنت تقدم هدي غيره على هديه إذا كان رسولك محمد صلى الله عليه وسلم فلتكن متبعاً له متأدباً بين يديه.
أما النوع الثاني: من المخالفة لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام فأن يشرع في دين الله ما ليس فيه، يفعل شيئاً يتقرب به إلى الله، ولكن الرسول ما شرعه فهذا لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله لو حقق شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذهب يبتدع في دين الله ما ليس منه لأن ابتداع الإنسان في دين الله ما ليس منه يتضمن الاستدراك على الله ورسوله فإن هذا استدراك على الله متضمن لتكذيب هذه الجملة العظيمة ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ( (1).
أين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر الذي تدين لله به وتتعبد لله به أين كان؟ أكان جاهلاً به؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالجهل، أكان مخالفاً له؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالمخالفة أكان كاتماً له عن أمته؟ إن قلت : نعم فقد رميته بالكتمان، فإذا كان الأمر كذلك وكل اللوازم باطلة، فإنه يلزم من ذلك أن يقول : كل بدعة يتدين بها الإنسان إلى الله من عقيدة في القلب أو نطق باللسان أو عمل بالأركان فإنها عقيدة باطلة وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام " كل بدعة ضلالة " (2). وهذه جملة مسورة بكلمة "كل" التي هي أدل ألفاظ العموم على العموم ليس فيها تخصيص، والله لو وقعت هذه في كتاب واحد من الذين يقلدون لكان كل(111/11)
من أخرج بدعة من هذه الكلية يقال له : أين الدليل؟ ولكن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام المحكم البين الواضح يحرف ويقال : هذا عام يراد به الخاص، نحن نستحسن أن نعبد الله بهذا لأن قلوبنا ترق عنده ولأن هذا ينشطنا ولكن نقول : والله لو كان خيراً لشرعه الله لعباده، ترقيق القلب لهذه البدعة يوجب أن يقسو عن السنة لأن القلب وعاء إن ملأته بخير امتلأ به وإن دخل على هذا الخير شر فلابد أن يضايق الخير فيخرج، لو كان عندك إناء مملوء بماء ثم صببت عليه ماء آخر هل يجمع الجميع لابد أن يخرج فإما سنة وإما بدعة، ولهذا نقول لكل من في قلبه إخلاص وحب للدين وحب للرسول عليه الصلاة والسلام نقول له: جزاك الله خيراً على هذه المحبة وعلى هذا الإخلاص، ولكن من تمام الإخلاص أن تعتقد بأنه لا خير للإنسان فيما يتعبد به الله إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلماذا تطلب الخير في غيرهما؟، فيما جاء في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادات، كفاية لصلاح القلوب والأبدان والأفراد والجماعات ولكن أين القلوب التي تتلقى هذا؟ من القلوب ما هو كالزجاجة أي شيء يرد عليه ينكسر، ومن القلوب ما هو كالإسفنجة يقبل ولكنه صامد لا يتجزأ ولا يتكسر إلا أنه يميز الحق من الباطل فنقول لمن ابتدع بدعة في دين الله سواء كانت قولاً باللسان أو عقيدة بالجنان، أو عملاً بالأركان نقول : كتاب الله موجود وسنة الرسول عليه والصلاة والسلام موجودة
مهذبة قد بين صحيحها من سقيمها وطريق السلف الصالح موجود والحمد لله فلماذا نبتدع في عقيدتنا ؟ لماذا نبتدع أذكاراً ما أنزل الله بها من سلطان؟!(111/12)
لو كان كل من راق له شيء أو زين في قلبه شيء مما يتعبد لله به، تعبد الله به أتكون الأمة واحدة؟ أبداً تتفرق لكن هناك ميزان ) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ( (1). هناك ميزان ) فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول( (2) إن اتفقتم على شيء فهو الحق.. وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.
فالحاصل أيها الإخوة أننا في هذه البلدة الطيبة طيبة مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام مهاجر الرسول عليه الصلاة والسلام أول عاصمة إسلامية في هذه الشريعة العامة الكاملة الشاملة هذه البلدة الطيبة التي فيها هذا المسجد " مسجد قباء " وفيها المسجد الذي هو خير منه مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (3)، في هذا البلد الطيب يجب أن تكون طريقة المسلمين عامة هي ما كان عليه السلف الصالح ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون ولا سيما أبو بكر وعمر اللذين قال فيهما عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذان من
بعدي أبي بكر وعمر" (1)، وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" (2).(111/13)
" إن " شرطية، فعلها " يطيعوا " وجوابها " يرشدوا " إذاً ففي طاعة هذين الرجلين رشد لأنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه رضي الله عنهما وأرضاهما أقول : في هذا البلد ينبغي أن نكون أمة واحدة ندعو إلى الحق بإذن الله على صراط مستقيم، وإذا رأينا شيئاً لا نحقر أنفسنا ونقول : لا نستطيع هؤلاء معاندون هذا خطأ هؤلاء الذي يظهر لنا من حالهم أنهم يريدون الخير لكن ما كل من أراد شيئاً وفق له ما كل ما يتمنى المرء يدركه علينا أن نصبر وأن نصابر وأن ندعو بالتي هي أحسن بقدر ما نستطيع، لا نصمت على منكر أو على بدعة، لكننا لا نعنف، لأن الأهواء في هذا الزمان كثرت وكل إنسان يقول : الحق عندي أو عند متبوعي، ولكن إذا أتينا بالحكمة وباللين وبالسهولة وبالبيان المبني على المنقول والمعقول، وإنني بهذه المناسبة أقول : إن تعظيم الناس الآن للمعقول ليس كل الناس ولكن كثيراً منهم يعظمون الدليل العقلي أكثر مما يعظمون الدليل النقلي أو يرجعون بالأصح إلى الدليل العقلي أكثر، ونحن نعلم علم اليقين أن كل ما جاءت به الشريعة فإنه مبني على العقل لكن أي عقل هو؟ العقل الصريح أي السالم من الشبهات والشهوات وليس العقل المشوب بشبهة أو شهوة، بشبهة التبس عليه الحق أو بشهوة ظهر له ولكن لا يريده فكل ما جاءت به الشريعة فإنه موافق لصريح المعقول ولا شك ولا يمكن أبداً أن يخالفه حتى إني رأيت في
كتاب [ درء تعارض النقل والعقل ] لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو كتاب عظيم قال فيه ابن القيم في النونية :
وله كتاب العقل والنقل الذي
ما في الوجود له نظير ثاني(111/14)
ويريد بما في الوجود من الكتب المؤلفة في بابه رأيته يقول: " أنا مستعد لكل من أتى بدليل من كتاب الله أو من صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من أتى بدليل يستدل به على باطل فأنا مستعد أن أجعله دليلاً عليه لا له" انظر القدرة والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء فكل ما يستدل به أهل الباطل من كتاب الله أو صحيح السنة فإنه دليل عليهم وليس دليلاً لهم وهذه قدرة في معرفة المعاني وكيف يرد الشيء أو كيف يرد الخنجر في صدر من عدا به إذا كان عدوانه على باطل وهذا من توفيق الله للعبد أن يجعل الله تعالى في قلبه حفظاً ووعياً وعقلاً نسأل الله تعالى أن يتولانا برعايته، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجعلنا ممن جاهدوا في الله حق جهاده ودعوا إلى الله على بصيرة إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
(1) آل عمران : 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70-71.
(4) التوبة: 108.
(1) التوبة: 107.
(2) غافر: 60.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 4 ، ص 271 ، وأبو داود: كتاب الصلاة: باب الدعاء، والترمذي: كتاب التفسير: سورة غافر (61)، وابن ماجه : كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء.
(2) الأنعام: 50 .
(1) الأعراف: 188.
(2) الجن : 21-22.
(3) هود، الآية :: 31.
(4) المائدة: 72.
(5) التوبة: 28.
(1) غافر: 60.
(2) سورة الفاتحة: 5.
(3) الحج:62.
(1) طه: 61.
(2) سورة طه، الآية :: 62.
(3) الأنفال: 46.
(4) مسلم: كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء.
(1) مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(1) البخاري: كتاب الجمعة: باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء : باب الدعاء في الاستسقاء.
(2) البخاري : كتاب الاستسقاء : باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.(111/15)
(1) البخاري: كتاب التوحيد: باب كلام الله تعالى مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم: كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلاً.
(2) سورة البقرة،الآية: 255 .
(1) مسلم : كتاب الأقضية : باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) البخاري: كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: ومسلم : كتاب الأقضية.
(3) النور: 63.
(1) الجاثية : 23.
(2) سورة النور، الآية: 63.
(1) المائدة: 3.
(2) تقدم تخريجه.
(1) الحديد: 25.
(2) النساء: 59.
(3) البخاري : كتاب التطوع: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، ومسلم : كتاب الحج: باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة.
(1) أخرجه الترمذي: كتاب المناقب: باب مناقب أبي بكر وعمر، وابن ماجه في المقدمة: باب فضل أبي بكر الصديق.
(2) أخرجه مسلم: كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة.(111/16)
مجموع فتاوى ورسائل - 8
شرح الواسطية - القسم الأول
محمد بن صالح العثيمين
مقدمة الشارح
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشده أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فقد من الله تعالى علينا بشرح "العقيدة الواسطية" التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة تقريراً على الطلبة الذين درسوها علينا في المسجد، ومن أجل حرصهم على حفظ التقرير، قاموا بتسجيله ثم تفريغه كتابة من أشرطة التسجيل.
ومن المعلوم أن الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لأن الأول يعتريه من النقص والزيادة مالا يعتري الثاني.
وقد تقدمت عدة مكاتب نشر بطلب طباعته.
ولكن، لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لذا رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمثل من أجل إخراج الشرح على الوجه المرضي، ففعلت ذلك ولله الحمد وحذفت مالا يحتاج إليه، وزدت ما يحتاج إليه.
وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، إنه قريب مجيب.
المؤلف
محمد بن صالح العثيمين
27/3/1415هـ
مجموع فتاوى ورسائل - 8
مجموع فتاوى ورسائل - 8
محمد بن صالح العثيمين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنه هذا الكتاب الذي يسمى "العقيدة الواسطية" ألفه حبر الأمة في زمانه: أبو العباس، شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، المتوفى سنة 728هـ.(112/1)
ولهذا الرجل من المقامات ـ التي يشكر عليها والتي نرجو من الله له المثوبة عليها ـ في الدفاع عن الحق ومهاجمة أهل الباطل ما يعلمه كل من تتبع كتبه وسبرها، والحقيقة أنه من نعم الله على هذه الأمة، لأن الله سبحانه وتعالى كف به أموراً عظيمة خطيرة على العقيدة الإسلامية.
وهذا الكتاب كتاب مختصر، يسمى "العقيدة الواسطية"، ألفه شيخ الإسلام، لأنه حضر إليه رجل من قضاة واسط، شكا إليه ما كان الناس يعانونه من المذاهب المنحرفة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فكتب هذه العقيدة التي تعد زبدة لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خاض الناس فيها بالبدع وكثر فيها الكلام والقيل والقال.
وقبل أن نبدأ الكلام على هذه الرسالة العظيمة نحب أن نبين أن جميع رسالات الرسل، من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، كلها تدعو إلى التوحيد.
قال الله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25].
وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36].
وذلك أن الخلق خلقوا لواحد وهو الله عز وجل، خلقوا لعبادته، لتتعلق قلوبهم به تألهاً وتعظيماً، وخوفاً ورجاء وتوكلاً ورغبة ورهبة، حتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا لا يكون معيناً لهم على توحيد الله عز وجل في هذه الأمور، لأنك أنت مخلوق، لابد أن تكون لخالقك، قلباً وقالباً في كل شيء.
ولهذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم، عبادة الله وحده لا شريك له.(112/2)
ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية كدعوتهم إلى توحيد الألوهية، ذلك أن منكري توحيد الربوبية قليلون جداً وحتى الذين ينكرونه هم في قرارة نفوسهم لا يستطيعون أن ينكروه، اللهم إلا أن يكونوا قد سلبوا العقول المدركة أدنى إدراك، فإنهم قد ينكرون هذا من باب المكابرة.
وقد قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: توحيد الربوبية:
وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة، في الخلق والملك والتدبير".
دليل ذلك قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف، 54] ووجه الدلالة من الآية: أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير، والقاعدة البلاغية: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ (ألا) الدالة على التنبيه والتوكيد: { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 4]، لا لغيره، فالخلق هذا هو، والأمر هو التدبير.
أما الملك، فدليلة مثل قوله تعالى: { ولله ملك السموات والأرض } [الجاثية: 27]، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه وتعالى بالملك، ووجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير.
إذاً، فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير.
فإن قلت: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله، مثل قوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصورين: "يقال لهم أحيوا ما خلقتم } (1)تعالى في الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"(2)، فكيف تجمع بين قولك: أن الله منفرد بالخلق، وبين هذه النصوص؟.(112/3)
فالجواب أن يقال: إن الخلق هو الإيجاد، وهذا خاص بالله تعالى، أما تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، فإنه ليس بخلق حقيقة، وإن سمي خلقاً باعتبار التكوين، لكنه في الواقع ليس بخلق تام، فمثلا: هذا النجار صنع من الخشب باباً، فيقال: خلق باباً لكن مادة هذه الصناعة الذي خلقها هو الله عز وجل، لا يستطيع الناس كلهم مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبداً، ولا أن يخلقوا ذرة ولا أن يخلقوا ذباباً.
واستمع إلى قول الله عز وجل: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } [الحج: 73].
{ الذين } : اسم موصول يشمل كل ما يدعى من دون الله من شجر وحجر وبشر وملك وغيره، كل الذين يدعون من دون الله { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [الحج: 73]، ولو انفرد كل واحد بذلك، لكان عجزه من باب أولى، { وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [الحج: 73]، حتى الذين يدعون من دون الله لو سلبهم الذباب شيئاً، ما استطاعوا أن يستنقذوه من هذا الذباب الضعيف، ولو وقع الذباب على أقوى ملك في الأرض، ومض من طيبه، لا يستطيع هذا الملك أن يستخرج الطيب من هذا الذباب، وكذلك لو وقع على طعامه، فإذاً الله عز وجل هو الخالق وحده.
فإن قلت: كيف تجمع بين قولك: إن الله منفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، مثل قوله تعالى: { أو ما ملكتم مفاتحه } [النور: 61] { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [المؤمنون: 61]؟
فالجواب: أن الجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عاماً شاملاً، لأنني أملك ما تحت يدي، ولا أملك ما تحت يدك والملك ملك الله عز وجل، فمن حيث الشمول: ملك الله عز وجل أشمل وأوسع، وهو ملك تام.(112/4)
الثاني: أن ملكي لهذا الشيء ليس ملكاً حقيقياً أتصرف فيه كما أشاء، وإنما أتصرف فيه كما أمر الشرع، وكما أذن المالك الحقيقي، وهو الله عز وجل، ولو بعت درهماً بدرهمين، لم أملك ذلك، ولا يحل لي ذلك، فإذا ملكي قاصر وأيضاً لا أملك فيه شيئاً من الناحية القدرية، لأن التصرف لله، فلا أستطيع أن أقول لعبدي المريض: ابرأ فيبرأ، ولا أستطيع أن أقول لعبدي الصحيح الشحيح: امرض فيمرض، لكن التصرف الحقيقي لله عز وجل، فلو قال له: ابرأ، برأ، ولو قال: امرض. مرض، فإذا لا أملك التصرف المطلق شرعاً وقدراً، فملكي هنا قاصر من حيث التصرف، وقاصر من حيث الشمول والعموم، وبذلك يتبين لنا كيف كان انفراد الله عز وجل بالملك.
وأما التدبير، فللإنسان تدبير، ولكن نقول: هذا التدبير قاصر، كالوجهين السابقين في الملك، ليس كل شيء أملك تدبيره إلا على وفق الشرع الذي أباح لي هذا التدبير.
وحينئذ يتبين أن قولنا: "إن الله عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير": كلية عامة مطلقة، لا يستثنى منها شيء، لأن كل ما أوردناه لا يعارض ما ثبت لله عز وجل من ذلك.
القسم الثاني: توحيد الألوهية:
وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة، بألا تكون عبداً لغير الله، لا تعبد ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً ولا أماً ولا أباً، لا تعبد إلا الله وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى: توحيد الألوهية، ويسمى: توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية، وباعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة.
والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما المحبة والتعظيم، الناتج عنهما: { إنهم كانوا يسارعون في الخبيرات ويدعوننا رغبا ورهبا } [الأنبياء: 90]، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف.
ولهذا كانت العبادة أوامر ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم.(112/5)
فإذا أحببت الله عز وجل، رغب فيما عنده ورغب في الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصل إليه، وقمت بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمته خفت منه، كلما هممت بمعصية، استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرت، { ولقد عمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } [يوسف: 24]، فهذه من نعمة الله عليك، إذا هممت بمعصية، وجدت الله أمامك، فهبت وخفت وتباعدت عن المعصية، لأنك تعبد الله رغبة ورهبة.
فما معنى العبادة؟
العبادة: تطلق على أمرين، على الفعل والمفعول.
تطل على الفعل الذي هو التعبد، فيقال: عبد الرجل ربه عبادة وتعبداً وإطلاقها على التعبد من باب إطلاق اسم المصدر، ونعرفها باعتبار إطلاقها على الفعل بأنها: "التذلل لله عز وجل حباً وتعظيماً، بفعل أوامره واجتناب نواهيه". وكل من ذل لله عز بالله، { ولله العزة ولرسوله } [المنافقون: 8].
وتطلق على المفعول، أي: المتعبد به وهي بهذا المعنى تعرف بما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"(1).
هذا الشيء الذي تعبدنا الله به يجب توحيد الله به، لا يصرف لغيره، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والنذر والخشية والتوكل.. إلى غير ذلك من العبادات.
فإن قلت: ما هو الدليل على أن الله منفرد بالألوهية؟
فالجواب: هناك أدلة كثيرة، منها:
قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25].
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36].(112/6)
وأيضاً قوله تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [آل عمران: 18]ٍ، لو لم يكن من فضل العلم إلا هذه المنقبة، حيث إن الله ما أخبر أن أحداً شهد بألوهيته إلا أولو العلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } ، بالعدل، ثم قرر هذه الشهادة بقوله: { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } ، فهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنتم تشهدون أن لا إله إلا الله. هذه الشهادة الحق.
إذا قال قائل: كيف تقرونها مع أن الله تعالى يثبت ألوهية غيره، مثل قوله تعالى: { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } [القصص: 88]، ومثل قوله: { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } [المؤمنون: 117]، ومثل قوله: { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } [هود: 101]، ومثل قول إبراهيم: { أئفكاً آلهة دون الله تريدون } [الصافات: 86].. إلى غير ذلك من الآيات، كيف تجمع بين هذا وبين الشهادة بأن لا إله إلا الله؟
فالجواب: أن ألوهية ما سوى الله ألوهية باطلة، مجرد تسمية، { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [النجم: 23]، فألوهيتها باطلة، وهي وإن عبدت وتأله إليها من ضل، فإنها ليست أهلا لأن تعبد، فهي آلهة معبودة، لكنها آلهة باطلة، { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } [لقمان: 30].(112/7)
وهذا النوعان من أنواع التوحيد لا يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام، لأن الله تعالى موحد بالربوبية والألوهية، لكن حصل فيما بعد أن من الناس من ادعى ألوهية أحد من البشر، كغلاة الرافضة مثلاً، الذين يقولون: إن علياً إليه، كما صنع زعيمهم عبدالله بن سبأ، حيث جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: أنت الله حقاً لكن عبدالله بن سبأ أصله يهودي دخل في دين الإسلام بدعوى التشيع لآل البيت، ليفسد على أهل الإسلام دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: "إن هذا صنع كما صنع بولص حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى"(1). هذا الرجل عبدالله بن سبأ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الله حقاً وعلي ابن أبي طالب لا يرضى أن أحداً ينزله فوق منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"(1)، يعلن ذلك في الخطبة، وقد تواتر النقل عنه بذلك رضي الله عنه، والذي يقول هكذا ويقر بالفضل لأهله من البشر كيف يرضي أن يقول له قائل: إنك أنت الله؟ ولهذا عزرهم أبشع تعزير، أمر بالأخاديد فخدت، ثم ملئت حطباً وأوقدت، ثم أتى بهؤلاء فقذفهم في النار وأحرقهم بها، لأن فريتهم عظيمة ـ والعياذ بالله ـ وليست هينة، ويقال: إن عبدالله بن سبأ هرب ولم يمسكوه المهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحر السبئية بالنار، لأنهم ادعوا فيه الألوهية.
فنقول: كل من كان من أهل القبلة لا ينكرون هذين النوعين من التوحيد: وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإن كان يوجد في بعض أهل البدع من يؤله أحداً من البشر.
لكن الذي كثر فيه النزاع بين أهل القبلة هو:
القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات:(112/8)
هذا هو الذي كثر فيه الخوض، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، وهم: ممثل، ومعطل، ومعتدل، والمعطل: إما مكذب أو محرف.
وأول بدعة حدث في هذه الأمة هي بدعة الخوارج، لأن زعيمهم خرج على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ذو الخويصرة من بني تميم، حين قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل: يا محمد اعدل(2) فكان هذا أول خروج خرج به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين علي ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم.
ثم حدثت بدعة القدرية مجوسي هذه الأمة الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر أفعال العباد وليست داخلة تحت مشيئته وليست مخلوقة له، بل كان زعماؤهم وغلاتهم يقولون: إنها غير معلومة لله، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن الله لا يعلم بما يصنع الناس، إلا إذا وقع ذلك ويقولون: إن الأمر أنف، أي: مستأنف وهؤلاء أدركوا آخر عصر الصحابة، فقد أدركوا زمن عبدالله بن عمر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت وجماعة من الصحابة، لكنه في أواخر عصر الصحابة.
ثم حدثت بدعة الإرجاء وأدركت زمن كثير من التابعين، والمرجئة هم الذين يقولون: إنه لا تضر المعصية مع الإيمان تزني وتسرق وتشرب الخمر، وتقتل ما دمت مؤمنا، فأنت مؤمن كامل الإيمان وإن فعلت كل معصية.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلام القدرية والمرجئة حين رده بقايا الصحابة كان في الطاعة والمعصية والمؤمن والفاسق، لم يتكلموا في ربهم وصفاته.(112/9)
فجاء قوم من الأذكياء ممن يدعون أن العقل مقدم على الوحي، فقالوا قولا بين القولين ـ قول المرجئة وقول الخوارج ـ قالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن كما قاله المرجئة، وليس بكافر كما قاله الخوارج، بل هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى أخرى فصار في أثناء الطريق، فلا هو في مدينته ولا في التي ساف إليها، بل في منزلة بين منزلتين، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة، فهو مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في الآخرة، لكن في الدنيا يخالفونهم.
ظهرت هذه البدعة وانتشرت، ثم حدثت بدعة الظلمة والجهمة، وهي بدعة جهم بن صفوان وأتباعه، ويسمون الجهمية، حدثت هذه البدعة، وهي لا تتعلق بمسألة الأسماء، والأحكام، مؤمن أم كافر أم فاسق، ولم في منزلة بين منزلتين، بل تتعلق بذات الخالق. انظر كيف تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلوا إلى الخالق جل وعلا، وجعلوا الخالق بمنزلة المخلوق، يقولون كما شاؤوا، فيقولون: هذا ثابت لله، وهذا غير ثابت، هذا يقبل العقل أن يتصف الله به، وهذا لا يقبل العقل أن يتصف به، فحدثت بدعة الجهمية والمعتزلة، فانقسموا في أسماء الله وصفاته إلى أقسام متعددة:
1- 1- قسم قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في اشر منه.(112/10)
2- 2- وقسم آخر قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقولك ليس بمبيت ولا نقولك عليم، بل نقول: ليس بجاهل... وهكذا. قالوا: لو أثبت له شيئاً شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئاً، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير.
قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: (سميع بصير).
قالوا: هذا من باب الإضافات، بمعنى: نسب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ(سميع)، يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع.
وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة.
3- 3- وقسم قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم... لكن قدير بل قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة.
4- 4- وقسم رابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها لعقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفاً لا تكذيباً، لأنهم لو أنكروه تكذيباً، كفروا، لكن ينكرونه تحريفاً وهو ما يدعون أنه "تأويل".
الصفات السبع هي مجموعة في قوله:
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر
فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض.
فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، "ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"(1).(112/11)
فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون: كيف يتفوه عاقل ـ فضلاً عن مؤمن ـ بمثل هذا الكلام؟! ولكن من لم يجعل الله له نوراً، فما له من نور! الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله بصره، فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله.
ولهذا ينبغي لنا دائماً أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية.
ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9]، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضاً هو مقتضى حكمة الله عز وجل، لأن الله تعالى جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، والرسالة لابد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائماً: احرصوا على العلم، لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة، فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها، فذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى.(112/12)
وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا: إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله مامن بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها.
ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قياماً تاماً بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا في جنات النعيم.
هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومن على الأمة بمثله ألف هذه "العقيدة" كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه "العقيدة" فألفها.
بسم الله(1)....................................................................
(1)* البداءة بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين، اقتداء بكتاب الله، حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستناداً إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وإعراب البسملة ومعناها تكلم فيه الناس كثيراً، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام، فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله اقرأ.
نقدره فعلاً، لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء.
ونقدره متأخراً لفائدتين:
الأولى: الحصر، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلا باسم الله.(112/13)
الثانية: تيمناً بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
ونقدره خاصاً، لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام.
* "الله" علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيماً وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } [الأنعام: 3]، فإن { في السموات } متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو المألوه في السموات وفي الأرض.
الرحمن(1) الرحيم(2)... الحمد لله الذي أرسل رسوله(3).....................
(1)* "الرحمن"، فهو ذو الرحمة الواسعة، لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضباً.
(2)* "الرحيم": اسم يدل على الفعل، لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل.
فيجتمع من "الرحمن الرحيم": أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أوما إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم، لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم: { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } [المؤمنون: 107]، فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم: { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [المؤمنون: 108].(112/14)
(3)* الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضاً لأنه كامل الأنعام والإحسان: { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } [النحل: 53]، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف "الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق".
والمراد بالرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد ختم الله به الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصراً وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه، إلا موضع هذه اللبنة، يقول: "فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"(1)، عليه الصلاة والسلام.
بالهدى(1) ودين الحق(2) ليظهره على الدين كله(3)................................
(1) "بالهدى": الباء هنا للمصاحبة والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق.
(2) "ودين الحق" هو العمل الصالح، لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام } [آل عمران: 19]، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى: { وما أدراك ما يوم الدين } [الانفطار: 17]. والحق ضد الباطل، وهو ـ أي الحق ـ المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار.
(3) "ليظهره على الدين كله": اللام للتعليل ومعنى "ليظهره"، أي: يعليه، لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ماترك على ظهرها من دابة } [فاطر: 45].(112/15)
والهاء في "يظهره" هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائداً على "دين الحق"، فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: "ليظهره"، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى مالا دين له فيظهره عليهم من باب أولى، لأمن لا يدين أخبث ممن يدين بباطل، فإذا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليه ظاهراً، ومن سواهم من باب أولى.
وإن كان عائداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق.
وعلى كلا التقديرين، فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل، لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهراً أو باطناً في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملة وتستقيم الأمة.
وكفى بالله شهيداً(1)..............................................................
(1) قوله "وكفى بالله شهيداً" يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها: "وكفى الله".
و"شهيداً": تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها "وكفت شهادة الله". المؤلف جاء بالآية؟ ولو قال قائل: ما مناسبة "كفى بالله شهيداً"، لقوله: "ليظهره على الدين كله"؟(112/16)
قيل: المناسبة ظاهرة، لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار(1). ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب، فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق وأن دينه حق، لأن كل من افترى على الله كذباً فماله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مالهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.... وغيرهما ممن ادعوا النبوة، لهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله: "ليظهره على الدين كله".
وأشهد(1) أن لا إله إلا الله(2)، وحده(3)، لا شريك له(4)، إقراراً به(5)
(1) "أشهد"، بمعنى: أقر بقلبي ناطقاً بلساني، لأ، الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار، لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء، أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه.
(2) "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفاً، ولفظ الجلالة بدلاً منه.
(3) "وحده" هي من حيث المعنى توكيد للإثبات.
(4) "لا شريك له": توكيد للنفي.(112/17)
(5) "إقراراً به": "إقراراً" هذه مصدر، وإن شئت، فقل: إنه مفعول مطلق، لأنه مصدر معنوي لقوله: "أشهد"، وأهل النحو يقولون: إذا كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه، فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قياماً: مصدر لفظي، و: قمت وقوفاً: مصدر معنوي، و: جلست جلوساً: لفظي، و: جلست قعوداً: معنوي.
وتوحيداً(1) وأشهد(2) أن محمداً عبده(3).........................................
(1) "وتوحيداً" مصدر مؤكد لقوله: "لا إله إلا الله".
(2)نقول في "أشهد" ما قلنا في "أشهد" الأولى.
(3) محمد: هو ابن عبدالله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسباً، عليه الصلاة والسلام.
هذا النبي الكريم عبدالله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقاً لعبادته، كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟"(1).
لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حتى قال عن نوح: { إنه كان عبداً شكوراً } (2).(112/18)
لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حين قال عن نوح: { إنه كان عبداً شكوراً } [الإسراء/ 3]، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبدلله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً وليس له حق ف الربوبية إطلاقاً بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغاً خاصاً بأنه لا يملك شيئاً من هذه الأمور فقال: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [الأعراف: 188] وأمره أن يقول: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي } [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً (22) إلا بلاغا } [الجن: 21-23] { إلا } استثناء منقطع، أي: لكن أبلغ بلاغاً من الله ورسالاته.
فالحاصل أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقاً.
وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا لغيرهم أبداً وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل.
ورسوله(1).........................................................................(112/19)
(1) قوله: "ورسوله": هذا أيضاً لا يكون لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه خاتم النبيين، فهو رسول الله الذي بلغ مكاناً لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام القضاء(1) الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده بالآيات العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبداً، ولهذا قال الله تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت: 50-51]، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين!
الحاصل أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضاً، لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص، لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.
صلى الله عليه(1)وعلى آله وصحبه(2).............................................
(1) معنى "صلى الله عليه": أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال: "صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى".(112/20)
وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف، لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقولك فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضاً، فقد قال الله تعالى: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } [البقرة: 157]، والعطف يقتضي المغايرة، إذاً، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
(2) قوله: "وعلى آله"، و(آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الاتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون: { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46]، أي: أتباعه على دينه.
أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال: "آله وصحبه"، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك.
وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام، لأن الصحبة أخص من مطلق الاتباع.
وسلم(1) تسليماً مزيداً(2)...........................................................
(1) قوله: "وسلم تسليماً مزيداً": (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات ـ وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى ـ وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه.
والجملة في قوله: "صلى" و "سلم" خبرية لفظاً طلبية معنى، لأن المراد بها الدعاء.(112/21)
(2) قوله: "مزيداً"، بمعنى: زائداً أو زيادة، والمراد تسليماً زائداً على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة.
والرسول عند أهل العلم: "من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه".
وقد نبئ - صلى الله عليه وسلم - بـ { اقرأ } وأرسل بالمدثر، فبقوله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } . إلى قوله: { علم الإنسان ما لم يعلم } [العلق: 1-5] كان نبياً، وبقوله: { يا أيها المدثر (1) قم فأنذر } [المدثر: 1،2] كان رسولا عليه الصلاة والسلام.
أما بعد(1): فهذا(2).................................................................
(1) "أما بعد": (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء، قال ابن مالك:
أما كمهايك من شيء وفا لتلو تلوها وجوباً ألفها
فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.
وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون: "أما بعد، فهذا"، أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا، فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة.
(2) "فهذا": الإشارة لابد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا، فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!
أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر، فكأنه يقول: "فهذا الذي بين يديك كذا وكذا".
هذه إذاً ثلاثة أوجه.(112/22)
اعتقاد(1) الفرقة(2) الناجية(3).........................................................
(1) "اعتقاد": افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر، لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.
(2) "الفرقة" بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [التوبة: 122]، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق.
(3) "الناجية": اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار.
ووجه ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"(1).
هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية)، فمن كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، فهو ناج من البدع. و"كلها في النار إلا واحدة": إذا هي ناجية من النار، فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة.
المنصورة(1) إلى قيام الساعة(2).....................................................(112/23)
(1) "المنصورة" عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"(1)، والظهور الانتصار، لقوله تعالى: { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } [الصف: 14]، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه.
(2) "إلى قيام الساعة"، أي: إلى يوم القيامة، فهي منصورة إلى قيام الساعة.
وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة تقوم على شرار الخلق(2)، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: الله الله(3)، فكيف تجمع بين هذا وبين قوله: "إلى قيام الساعة"؟!
والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة، لقوله في الحديث: "حتى يأتي أمر الله"(4)، أو: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهو موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز، لأن الكل من عند الله.
أهل السنة والجماعة(1)..............................................................
(1) "أهل السنة والجماعة": أضافهم إلى السنة، لأنهم متمسكون بها، والجماعة، لأنهم مجتمعون عليها.
فإن قلت: كيف يقول: "أهل السنة والجماعة"، لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟!
فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة يمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه، فيكون معنى أهل السنة والجماعة، أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، لأنهم مجتمعون عليها.(112/24)
ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهلا لبدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به، أي: أن صدورهم تتسع له، وإلا، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والرواح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضاً، بخلاف أهل البدع.
إذاً فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.(112/25)
وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثالثة: سلفيون، وأشعريون، وما تريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلا، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبداً والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقداً، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإنه سلفي.
وهو الإيمان بالله(1)...............................................................
(1) هذه العقيدة أصلها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواب جبريل حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ أما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان ـ قال له ـ: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"(1).(112/26)
"الإيمان بالله": الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق، فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به، بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانا ولا تقول: آمنت فلاناً.
إذا فالإيمان يتضمن معنى زائداً على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزما للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيماناً.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
1- 1- الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.
2- 2- الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية.
3- 3- الإيمان بانفراده بالألوهية.
4- 4- الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.
فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.
الإيمان بوجوده:
إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟
قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع.
ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.
ـ فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟(112/27)
فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً.
ويقال: إن طائفة من السمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
ولهذا قال الله عز وجل: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } [الطور: 35].
فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله.
- وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب الله.(112/28)
فالأعرابي الذي دخل والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جته السحب) من بيت ولا دار.. وبعد دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوراً خرجت سحاباً مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام(1) وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسيية.
وفي القرآن كثير من هذا، مثل: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له } [الأنبياء: 83-84] وغير ذلك من الآيات.
- وأما دلالة الفطرة، فإن كثيراً من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.
فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: { وإذ أخذ ربكم من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 172: 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.(112/29)
- وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
وملائكته(1).........................................................................
(1) الملائكة جمع: ملاك، وأصل ملاك: مألك، لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: { جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى } [فاطر: 1].
فالملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، وعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم:
أولاً: جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.
ثانياً: إسرافيل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.
ثالثاً: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.
وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد.
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحمك بين عباد فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"(1)، هذا الدعاء الذي كان يقوله في قيام الليل متوسلاً بربوبية الله لهم.
كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا.(112/30)
قال تعالى: { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } [الأنعام: 61]. وقال تعالى: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [السجدة: 11]. وقال تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42].
ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } [الحج: 31]، ثم يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين(2) العافية!.
هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفي.
ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذكر، إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا(3).
وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: { وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون (12) } [الانفطار: 10-12] { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18].(112/31)
دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، لأن الله يقول: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18]؟ فجعل أبو عبدالله يتصبر وترك الأنين، لأن كل شيء يكتب { ما يلفظ من قول } : من: زائدة لتوكيد العموم، أي قول تقوله، يكتب لكن قد تجازى عليه بخير أو بشر، هذا حسب القول الذي قيل.
ومنهم أيضاً ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [الرعد: 11].
ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أطت السماء، وحق لها أن تئط" والأطيط: صرير الرحل، أي: إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صرير من ثقل الحمل، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أطت السماء، وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع منها، إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد"(1)، وعلى سعة السماء فيها هؤلاء الملائكة.
ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج، قال: "يطوف به (أو قال: يدخله) سبعون ألف ملك كل يوم، ثم لا يعودون إلى آخر ما عليهم"(2)، والمعنى: كل يوم يأتي إليه سبعون ألف ملك غير الذين أتوه بالأمس، ولا يعودون له أبداً، يأتي ملائكة آخرون غير من سبق، وهذا يدل على كثرة الملائكة، ولهذا قال الله تعالى: { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [المدثر: 31].
ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك يقول أهل النار: { يا مالك ليقض علينا ربك } [الزخرف: 77]، يعنى: ليهلكنا ويمتنا، فهم يدعون الله أن يميتهم، لأنهم في عذاب لا يصبر عليه، فيقول: { إنكم ماكثون } [الزخرف: 77]، ثم يقال لهم: { لقد جئناكم بالحق ولكن أكثر كم للحق كارهون } [الزخرف: 77].
المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة.(112/32)
وكيف الإيمان بالملائكة؟
نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6].
كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما علمنا.
وهم أجساد، بدليل قوله تعالى: { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } [فاطر، 1]، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق(1)، خلافاً لمن قال: إنهم أرواح.
إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقولك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى: { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟! { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [الأنبياء: 20]، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول له!!
وكتبه(1).............................................................................
(1) أي كتب الله التي أنزلها مع الرسل.
ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } [الحديد: 25]، وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة، لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالاً.(112/33)
ورسله(1).........................................................................
(1) أي: رسل الله وهم الذين أوحى الله اليسهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } [النساء: 163]، يعني: وحياً، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله: { ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } [الحديد: 26]: { في ذريتهما } ، أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى: { وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فاسقين } [الذاريات: 46]، قد نقول: إن قوله: { من قبل } : يدل على ما سبق.
إذاً من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: "أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أسله الله إلى أهل الأرض"(1)، وهذا صريح.
أما آدم عليه الصلاة والسلام، فهو نبي، وليس برسول.
وأما إدريس، فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسدين أيضاً إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جداً والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا.
وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [الأحزاب: 40]، ولم يقل: وخاتم المرسلين، لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى.
فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان(2) وهو رسول، فما الجواب؟.
نقول: هو لا ينزل بشريعة جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟
فالجواب: أحد ثلاثة وجود:(112/34)
أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله، لأنه من التنطع، وقد هلك المتنطعون، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى.
الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل، لأن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - باقية إلى يوم القيامة.
فإن قال قائل: كيف يكون تابعاً، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب الجزية؟!.
قلنا: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخاً لما سبق من حكم الإسلام الأول.
والبعث بعد الموت(1).............................................................
(1) البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم.
وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة.
وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يوماً يبعث الناس فيه ويجازون:
- أما القرآن، فيقول الله عز وجل: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } [التغابن: 7] وقال عز وجل: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } [المؤمنون: 15-16].
- وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
- وأجمع المسلمون على هذا إجماعاً قطعياً، وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم، { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [الزلزلة: 7-8].(112/35)
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } [الانشقاق: 6]، فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له، خوفاً من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غداً أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غداً ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى: { بل قلوبهم في غمرة من هذا } [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و { هم لها عاملون } ، وقال تعالى: { قد كنت في غفلة من هذا } [ق: 22]: يعني: يوم القيامة وقال تعالى: { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22].
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبداً.
والإيمان بالقدر(1).................................................................
(1) هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.
القدر هو: "تقدير الله عز وجل للأشياء".
وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة(1)، كما قال الله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } [الحج: 70].
خيره وشره(1).......................................................................(112/36)
(1) وقوله: "خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك"(2).
فمثلاً، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شراً، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها غالى الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [الروم: 41]، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً يعنى: لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.
ولنفض حد الزاني مثلاً إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيراً له هو أيضاً، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.(112/37)
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً، كالمرض مثلاً، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلاً لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى.. هذا أيضاً خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
فالحاصل أننا نقول:
أولاً: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "والشر ليس إليك"(1).
ثانياً: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشرية بالنسبة إليه أمراً إضافياً.
هذا، وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة.
ومن الإيمان بالله(1): الإيمان بما وصف به نفسه(2)..................................
(1) (من): هنا للتبعيض، لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات، يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه.(112/38)
(2) قوله: "بما وصف به نفسه" ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلى غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات.
فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على "ما وصف الله به نفسه"؟
نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام.
في كتابه(1)..........................................................................
(1) "في كتابه": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف، فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه، لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة، فكل حرف منه، فإن الله قد تكلم به وفي هذه الجملة مباحث:
المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه:
ووجه ذلك أن الإيمان بالله ـ كما سبق ـ يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنه ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل، فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبداً، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتاً مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع، أي أن المفروض ليس كالمشهود، فلا يوجد في الخارج ـ أي: في الواقع المشاهد ـ ذات ليس لها صفات أبداً.
فالذهن قد يفرض مثلاً شيئاً له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر.... وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع، لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة.(112/39)
لهذا، كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا، فلا بد أن يكون له صفة.
المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص.
قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث".
يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ويدل لذلك القرآن والعقل:
ففي القرآن: يقول الله عز وجل: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناُ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [الأعراف، 33]، فإذا وصفت الله بصفة لم يصف الله بها نفسه، فقد قلت عليه مالا تعلم وهذا محرم بنص القرآن.
ويقول الله عز وجل: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } [الإسراء: 36]، ولو وصفنا الله بما لم يصف به نفسه، لكنا قفونا ما ليس لنا به علم، فوقعنا فيما نهى الله عنه.
وأما الدليل العقلي، فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن.
نحن الآن لا تدرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } [السجدة: 17]، ولقوله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"(1).(112/40)
فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟!
مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبداً مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ" أن الروح إذا قبض، تبعه البصر"(2)، فالإنسان يرى نفسه وهي مقبوضة، ولهذا تبقى العين مفتوحة عند الموت تشاهد الروح وهي قد خرجت، وتؤخذ هذه الروح وتجعل في كفن ويصعد بها إلى الله ومع ذلك ما يستطيع أن يصفها وهي بين جنبيه، فكيف يحاول أن يصف الرب بأمر لم يصف به نفسه! ولا بد إذاً تحقق ثبوت الصفات لله.
المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.
ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل:
ذكرنا من السمع آيتين.
وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين.
المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها.
مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عيناً، هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه.
ولما وصف الله نفسه بأن له يدين: { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]، لو قلنا: إن الله تعالى ليس له يد حقيقة، بل المراد باليد ما يسبغه من النعم على عباده، فهل وصفنا الله بما وصف به نفسه؟ لا!
المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية.
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية:(112/41)
فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة... وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.
والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين... وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا.
فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً... وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله في لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة.
واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها.
والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان:
صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفار وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر: 7].
وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتباري، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعال.
اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى.(112/42)
ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: { وجاء ربك والملك صفاً صفا } [الفجر: 22]، { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [الأنعام: 158]، { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [المائدة: 119]، { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } [التوبة: 46]، { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } [المائدة: 80].
وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد.
وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب.. ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل.
المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات:
لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبداً، فالمدار إذاً على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنها من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها، لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف!
فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل.
فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وصف الله به، وصف الله به وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.(112/43)
ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلاً ولو أنكروا إنكار جحد، لكفروا، لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلاً وهو عندنا تحريف.
والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن، لأن الله يقول: { ومن أحسن من الله حكماً } [المائدة: 50] والتفضيل بين شيء وآخر مرجعه إلى العقل وقال عز وجل { ولله المثل الأعلى } [النحل: 60] وقال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [النحل: 17] وأشباه ذلك مما يحيل الله به على العقل فيما يثبته لنفسه وما ينفيه عن الآلهة المدعاة؟
فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فمثلاً: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالماً من النقص.
فمثلاً: يدرك بأنه لابد أن يكون الرب سميعاً بصيراً، قال إبراهيم: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [مريم: 42].
ولابد أن يكون خالقاً، لأن الله قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [النحل: 17] { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً } [النحل: 20].
يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثاً بعد العدم، لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجاً على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } [النحل: 20]، إذاً يمتنع أن يكون الخالق حادثاً بالعقل.(112/44)
العقل أيضاً يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله، لأن الرب لابد أن يكون كاملاً فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه الحجز، لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزاً وعصي وأراد أن يعاقبل الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن!
إذاً، العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصم كذلك والجهل كذلك.... وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع.
سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالاً في حق الله، وهل كل ما هو نقص فينا يكون نقصاً في حق الله؟
الجواب: لا، لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان، لظهور الفق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابته لله سبحانه وتعالى.
فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص، لأن سببهما الحاجة، والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلاً بمرض أو نحوه هذا نقص.
والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق.
التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق، لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه.. ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال: "من نازعني واحداً منهما عذبته"(1).
فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالاً في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصاً في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتبارياً.
هذه ستة مباحث تحت قوله: "ما وصف به نفسه" وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة، لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وبما وصف به رسوله(1)............................................................
(1) قوله: "وبما وصفه به رسوله": ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار.(112/45)
أ-أما القول ، مثل "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء والأرض"(2) وقوله في يمينه: "لا ومقلب القلوب"(3).
ب- وأما الفعل، فهو أقل من القول، مثل إشارته إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، وهذا في حجة الوداع في عرفة، خطب الناس، وقال: "ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم ثلاث مرات. قال "اللهم! أشهد" يرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إلى الناس(4). فرفع إصبعه إلى السماء، هذا وصف الله تعالى بالعلو عن طريق الفعل.
وجاءه رجل وهو يخطب الناس يوم الجمعة، قال: يا رسول الله! هلكت الأموال.. فرفع يديه(5) وهذا أيضاً وصف لله بالعلو عن طريق الفعل.
وغير ذلك من الأحاديث التي فيها فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر صفة من صفات الله.
وأحياناً يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام من صفات الله بالقول ويؤكدها بالفعل، وذلك حينما تلا قوله تعالى: { إن الله كان سميعاً بصيراً } [النساء: 58] فوضع إبهامه على
أذنه اليمنى، والتي تليها على عينه وهذا إثبات للسمع والبصر بالقول والفعل(1).
وحينئذ نقول: إن إثبات الرسول عليه والسلام للصفات يكون بالقول ويكون بالفعل، مجتمعين ومنفردين.
جـ- أما الإقرار، فهو قليل بالنسبة لما قبله، مثل: إقراره الجارية التي سألها: "أين الله؟" قالت: في السماء. فأقرها وقال: "أعتقها"(2).
وكإقراره الحبر من اليهود الذي جاء وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: إننا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والثرى على إصبع.. آخر الحديث، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً لقوله(2)، وهذا إقرار.
إذا قال قائل: ما وجه وجوب الإيمان بما وصف الرسول به ربه أو: ما دليله؟(112/46)
نقول: دليله قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136]، وكل آية فيها ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ، فهي دالة على وجوب قبول ما أخبر به من صفات الله، لأنه أخبر بها وبلغها إلى الناس، وكل ما أخبر به، فهو تبليغ من الله، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله وأنصح الناس لعباد الله وأصدق الناس فيما قال، وأفصح الناس في التعبير، فاجتمع في حقه من صفات القبول أربع: العلم والنصح، والصدق، والبيان، فيجب علينا أن نقبل كل ما أخبر به عن ربه، وهو ـ والله ـ أفصح وأنصح وأعلم من أولئك القوم الذين تبعهم هؤلاء من المناطقة والفلاسفة، ومع هذا يقول: "سبحان لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"(4).
من غير تحريف(1)..................................................................
(1) في هذه الجملة بيان صفة إيمان أهل السنة بصفات الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بها إيماناً خالياً من هذه الأمور الأربعة: التحريف والتعطيل، والتكييف، والتمثيل.
فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل، فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال، إلا إذا كان جاهلاً.. هذا الغالب!
لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس.
فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى.(112/47)
وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم.
ولهذا عبر المؤلف رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: { يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى.
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحمد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"(1)، وقال الله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمال، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.(112/48)
(أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه.
مثاله في الخبر قوله تعالى { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومال ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق.
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه وإخوته سجداً قال: { هذا تأويل رءياي من قبل } [يوسف: 100]: هذا وقوع رؤياي، لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له.
ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1]، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يتأول القرآن(1). أي: يعمل به.
(جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب باب التحريف، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل.(112/49)
مثاله قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى { استوى } : استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله.
فأما قوله تعالى { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [النحل: 1]، فمعنى: { أتى أمر الله } ، أي سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: { فلا تستعجلوه } .
وكذلك قوله تعالى: { فإذا قرآن القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعني: إذا أكملت القراءة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح.
وكذلك قول أنس بن مالك: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء، قال: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث"(1)، فمعنى "إذا دخل": إذاً أراد أن يدخل، لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله "إذا دخل" على: إذ أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه صحيح، ولا يدوا ، يكون تفسيراً.
ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه.
ولا تعطيل(1).........................................................................
(1) التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: { وبئر معطلة } [الحج: 45]، أي: مخلاة متروكة.(112/50)
والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً.
فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً.
فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟
قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً:
إذا قال قائل: معنى قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بل يداه مبسوطتان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.
أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: { بل يداه } ، أي: يداه الحقيقيتان { مبسوطتان } ، وهما غير القوة والنعمة.
فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل.
وبهذا تعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز، لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ.
وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض، أنهم أخطأوا، لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية.
وليعلم أن القول بالتفويض ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ من شر أقوال أهل البدع والإلحاد!(112/51)
عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلاً وسطاً وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - واستطالة للفلاسفة.
تكذيب للقرآن، لأن الله يقول: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [النحل: 89]، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟ وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبياناً لكل شيء؟ أين البيان؟
إن هؤلاء يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري، فغيره من باب أولى.
وأعجب من ذلك يقولون: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول: "ربنا الله الذي في السماء"(1)، وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري وكذلك في قوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا"(2) وإذا سئل ما معنى "ينزل ربنا"؟ قال: لا أدري.... وعلى هذا، فقس.
وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هذا من أكبر القدح رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله.
فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول.(112/52)
وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئاً، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئاً وذهبوا يتكلمون بما يريدون من معنى كلام الله وصفاته!! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم، لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله، فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة: "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"!.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "هذه قالها بعض الأغبياء" وهو صحيح، أن القائل غبي.
هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقاً ومدلولاً، "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبداً! فالذي لا يدري عن الطريق، لا يسلم، لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة، لسلم، فلا سلامة إلا بعلم وحكمة.
إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصاً.
إذاً، فالعبارة الصحيحة: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم"، وهذا معلوم.
وطريقة الخلف ما قاله القائل:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرد إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعاً كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعاً سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً.
والرازي وهو من كبرائهم يقول:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(112/53)
ثم يقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] { إليه يصعد الكلم الطيب } [الشورى: 11]، { ولا يحيطون به علما } [طه: 110]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي" أهؤلاء نقول: إن طريقتهم أعلم وأحكم؟!
الذي يقول: "إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور" والعجائز من عوام الناس، يتمنى أن يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم وأحكم؟!
أين العلم الذي عندهم؟!
فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ، لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعني ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح.
أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله: { ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54]، بمعنى: علا عليه وليس معناه: استولى. { بيده } : يد حقيقية وليست القوة ولا نعمة، فلا تحريف عندهم ولا تعطيل.
ومن غير تكييف(1)..................................................................
(1) "تكييف": لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها.
التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيف يكيف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة.
التكييف يسأل عنه بـ(كيف)، فإذا قلت مثلاً: كيف جاء زيدا؟ تقول: راكباً. إذاً: كيفت مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون.
أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:(112/54)
أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منه وما بضن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 33]، والشاهد في قوله { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .
فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله مالا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.
ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة.
دليل آخر من السمع: قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } [الإسراء: 36]: لا تتبع ما ليس لك به علم، { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } [الإسراء: 36].
وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلا صفتها كذا وكذا.. ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن.
ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً: إن معنى قولنا: "بدون تكييف": ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفى علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن مامن موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.(112/55)
سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: "الاستواء غير مجهول"، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها { استوى } معداة بـ(على) معناها العلو فقال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، "والإيمان به واجب"، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، "والسؤال عن بدعة"(1): السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من أهم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: { استوى على العرش } [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.
وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عن بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.
والإمام مالك رحمه الله قال: "ما أراك إلا مبتدعاً" ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.(112/56)
فأنت يا أخي عليك هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!
وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سألعنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً!
وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: "أمروها كما جاءت بلا كيف"، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:
أولاً: أنهم قالوا: "أمروها كما جاءت" ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمر رناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.
ثانياً: قوله: "بلا كيف" لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.
إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.
ولا تمثيل(1).......................................................................(112/57)
(1) يعنى: ومن غير تمثيل، فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة.
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا.... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:
أ- الأدلة السمعية:
تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.
- فمن الخبر قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: { هل تعلم له سمياً } [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: { ولم يكن له كفواً أحد } [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
- وأما الطلب، فقال الله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً } [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال { فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74].
فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: "من شبه الله بخلقه، فقد كفر"(1)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.
وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:(112/58)
أولاً: أن نقولك لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.
ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.
وأنزل الله قوله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } [المجادلة: 1]، تقول عائشة: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى على بعض حديثها"(2)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.
ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: { وسع كرسيه السموات والأرض } [البقرة: 255]، { والأرض جميعاً قبضته } [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق.(112/59)
رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى.... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أولي يداً كيد الذرة، أول يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال.
ربما نقول أيضاً: هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق.
فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعاً وعقلاً وفطرة.
فإن قال قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:
- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليل لبدر، لا تضامون في رؤيته"(1)، فقال: "كما" والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث؟
نقول: نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل.(112/60)
فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً، لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء: 82]، فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك، فأعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك، فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة، فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت، لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية، بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق، كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه.
ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم، لأن هذه الطريق الراسخين في العلم، قال الله تعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً.
وأما الجواب المفصل، فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول:
إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية، "سترون... كما ترون"، فالكاف في: "كما ترون": داخله على مصدر مؤول، لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: "لا تضامون في رؤيته" أو: "لا تضارون في رؤيته" فزال الإشكال الآن.(112/61)
- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله خلق آدم على صورته"(1)، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: "إن الله خلق آدم على صورته": الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، فإن يسر الله لك الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل: { آمنا به كل من عند ربنا } [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أما الله عز وجل.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول: هذا نفي للماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصل، فنقول: إن الذي قال: "إن الله خلق آدم على صورته" رسول الذي قال: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطلق بما يكذب المرسل والذي قال: "خلق آدم على صورته": هو الذي قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر"(1)، فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمل واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.(112/62)
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: "على صورته"، مثل قوله عزوجل في آدم: { ونفخت فيه من روحي } [ص: 72]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
فقوله: "خلق آدم على صورته"، يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [الأعراف: 11]، والمصور أدم إذاً، فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [التين: 4]، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك، لا تضرب الوجه، فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى، فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبدالله، لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه، فهو من المخلوقات، فحينئذ يزول الإشكال.
ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.(112/63)
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون أدم عليها؟
قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
نسمع كثيراً من الكتب الني نقرأها يقولون: تشبيه، يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل، فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟
نقول: بالتمثيل أولى.
أولاً: لأن القرآن عبر به: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، { فلا تجعلوا لله أنداداً } [البقرة: 22].. وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن، فهو أولى من غيره، لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإ، موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.
ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة، فإن قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى.
ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.(112/64)
مثلاً: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.
وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن اصل وجود السمع المشترك.
فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال.
وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه.
فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟
فالجواب: الفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذلك الصفة غير مقيدة بمماثل، مثل أن تقول: كيفية يد فلا كذا وكذا.
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد، كما في قوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12]، أي: في العدد.
بل يؤمن بأن الله سبحانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1)................
(1) أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11]، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال، لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية. فنفي العيوب يبدأ به أولاً، ثم يذكر إثبات الكمال.
وكلمة { شيء } نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم، فليس مماثلاً لله عز وجل، لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(112/65)
فهنا لو قلنا: إن لله مثيلاً، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين، لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب، لأن المخلوق ناقص، وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصاً، إلا إذا كان في مقام التحدي، كما في قوله تعالى: { الله خير أما يشركون } [النمل: 59]، وقوله: { قل أأنتم أعلم أم الله } [البقرة: 140].
وفي قوله: { ليس كمثله شيء } : رد صريح على الممثلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل.
وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، وإذا كان عربياً، فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهاً وإن له عيناً، وإن له يدين... وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما تشاهد، وعلى هذا، فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلاً لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه... وهكذا، فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلاً.
ولا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق ما بيان أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد، فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة.
هذا وهو في المخلوقات، فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟ فإن التباين يكون أظهر وأجلى.
وعلى هذا، فيكون قول هؤلاء الممثلة مردوداً بالعقل كما أنه مردود بالسمع.(112/66)
قال الله تعالى: { وهو السميع البصير } ، فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر، لبيان كمال، ونقص الأصنام التي تعبد من دونه، فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا، ما استجابوا، ولا يبصرون، كما قال الله عز وجل: { والذين يدعون دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } [النحل: 20-21]، فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك، ما استجابوا: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } [الأحقاف: 5].
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله، لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11].
وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم، لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا، لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه { ليس كمثله شيء } .
إذا آمنت بأنه سميع، فإنك سوف تحترز عن كل قول يغضب الله، لأنك تؤمن بأنه سميع، وإذا لم يحدث لك هذا الإيمان هذا الشيء، فاعلم أن إيمانك بأن الله سميع إيمان ناقص بلا شك.
إذا آمنت بأن الله سميع، فلن تتكلم إلا بما يرضيه ولا سيما إذا كنت تتكلم معبراً عن شرعه، وهو المفتي والمعلم، فإن هذا أشد، والله سبحانه يقول { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [الأنعام: 144]، فإن هذا من أظلم الظلم ولهذا قال { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [الأحقاف: 10] وهذا من عقوبه من يفتي بلا علم، أنه لا يهدى، لأنه ظالم.
فحذار يا أخي المسلم أن تقول قولاً لا يرضي الله، سواء قلته على الله، أو على غير هذا الوجه.(112/67)
وثمرة الإيمان بأن الله بصير أن لا تفعل شيئاً يغضب الله، لأنك تعلم أنك لو تنظر نظرة محرمة لا يفهم الناس أنها نظرة محرمة، فإن الله تعالى يرى هذه النظرة، ويعلم ما في قلبك، { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } [غافر: 19].
إذا آمنت بهذا، لا يمكن أن تفعل فعلاً لا يرضاه أبداً.
استحي من الله كما تستحيي من أقرب الناس إليك وأشدهم تعظيماً منك.
إذاً، إذا آمنا بأن الله بصير، فسوف نتحاشى كل فعل يكون سبباً لغضب الله عز وجل، وإلا، فإن إيماننا بذلك ناقص. لو أن أحداً أشر بأصبعه أو شفته أو بعينه أو برأسه لأمر محرم، فالناس الذين حوله لا يعلمون عنه، لكن الله تعالى يراه، فليحذر هذا من يؤمن به، ولو أننا نؤمن بما تقتضيه أسماء الله وصفاته، لوجدت الاستقامة كاملة فينا فالله المستعان.
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه(1).................................................
(1)، أي: لا ينفي أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه، لأنهم متبعون للنص نفياً وإثباتاً، فكل ما وصف الله به نفسه يثبتونه على حقيقته، فلا ينفون عن الله ما وصف الله به نفسه، سواء كان من الصفات الذاتية أو الفعلية (أو الخبرية).(112/68)
الصفات الذاتية، كالحياة والقدرة، والعلم... وما أشبه ذلك، وتنقسم إلى: ذاتية معنوية، وذاتية خبرية، وهي التي مسماها أبعاض لنا وأجزاء، كاليد والوجه، والعين، فهذه يسميها العلماء: ذاتية خبرية، ذاتية: لأنها لا تنفصل ولم يزل الله ولا يزال متصفاً بها. خبرية: لأنه متلقاة بالخبر، فالعقل لا يدل على ذلك، لولا أن الله أخبرنا أن له يداً، ما علمنا بذلك، لكنه أخبرنا بذلك، بخلاف العلم والسمع والبصر، فإن هذا ندركه بعقولنا مع دلالة السمع، لهذا نقول في مثل هذه الصفات اليد والوجه وما أشبهها: إنها ذاتية خبرية، ولا تقول: أجزاء وأبعاض، بل نتاحشى هذا اللفظ لكن مسماها لنا أجزاء وأبعاض، لأن الجزء والبعض ما جاز انفصاله عن الكل، فالرب عز وجل لا يتصور أن شيئاً من هذه الصفات التي وصف بها نفسه ـ كاليد ـ أن تزول أبداً، لأنه موصوف بها أزلاً وأبداً ولهذا لا نقول: إنه أبعاض وأجزاء.
والصفات الفعلية: هي المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وقد ذكرنا أن هذه الصفات الفعلية: منها ما يكون له سبب، ومنها ما ليس له سبب ومنها ما يكون ذاتياً فعلياً.
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه(1)...................................................
(1) (الكلم): اسم، جمع كلمة ويراد به كلام الله وكلام رسوله.(112/69)
لا يحرفونه عن مواضعه، أي: عن مدلولاته، فمثلاً قوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]، يقولون: هي يد حقيقية ثابتة لله من غير تكييف ولا تمثيل. والمحرفون يقولون: قوته، أو نعمته أما أهل السنة، فيقولون: القوة شيء واليد شيء آخر، والنعمة شيء واليد شيء آخر، فهم لا يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن التحريف من دأب اليهود، { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء: 46]، فكل من حرف نصوص الكتاب والسنة، ففيه شبه من اليهود، فأحذر هذا، ولا تتشبه بالمغضوب عليهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لا تحرف، بل فسر الكلام على ما أراد الله ورسوله.
ومن كلام الشافعي ما يذكر عنه: "آمنت بالله وبما جاء عن الله 7على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته(1).................................................
(1) قوله: "ولا يلحدون" أي: أهل السنة والجماعة.
والإلحاد في اللغة: الميل، ومنه سمي اللحد في القبر، لأنه مائل إلى جانب منه وليس متوسطاً والمتوسط يسمى شقاً واللحد أفضل من الشق.
فهم لا يلحدون في أسماء الله، ولا يلحدون أيضاً في آيات الله، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الإلحاد يكون في موضعين: في الأسماء وفي الآيات.
هذا الذي يفيده كلام المؤلف قد دل عليه القرآن قال الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } [الأعراف: 180]، فأثبت الله الإلحاد في الأسماء، وقال تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [فصلت: 40]، فأثبت الله الإلحاد في الآيات.
- فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع:(112/70)
النوع الأول: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى: أباً، وعيسى: الابن، فهذا إلحاد في الأسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله.
ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب.
وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقة، لأنه لو أن أحداً دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟!
إذاً، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله.
النوع الثاني: أن ينكر شيئاً من أسمائه، عكس الأول، فالأول سمى الله بما لم يسم به نفسه، وهذا جرد الله مما سمى به نفسه، فينكر الاسم، سواء أنكر كل الأسماء أو بعضها التي تثبت لله، فإذا أنكرها، فقد ألحد فيها.
ووجه الإلحاد فيها: أنه لما أثبتها الله لنفسه، وجب علينا أن نثبتها له، فإذا نفيناها، كان إلحاداً وميلاً بها عما يجب فيها.
وهناك من الناس من أنكر الأسماء، كغلاة الجهمية، فقالوا: ليس لله اسم أبداً! قالوا: لأنك لو أثبت له اسماً، شبهته بالموجودات، وهذا معروف أنه باطل مردود.
النوع الثالث: أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمنها هذا الاسم، مثل أن يقول: إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة... وهذا معروف عن المعتزلة، وهو غير معقول!
ثم هؤلاء يجعلون الأسماء أعلاماً محضة متغايرة، فيقولوا: السميع غير العلم، لكنها كلن ليس لها معنى! السميع لا يدل على السمع! والعليم لا يدل على العلم! لكن مجرد أعلام!!
ومنهم آخرون يقولون: هذه الأسماء شيء واحد، فهي عليم وسميع وبصير كلها واحد، لا تختلف إلا بتركيب الحروف فقط، فيجعل الأسماء شيئاً واحداً!!(112/71)
وكل هذا غير معقول، ولذلك نحن نقول: إنه لا يمكن الإيمان بالأسماء حتى تثبت ما تضمنته من الصفات.
ولعلنا من هنا نتكلم على دلالة الاسم، فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام:
1- فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم.
2- ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من دلالة التضمن.
3- ودلالة الالتزام: دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه: دلالة الالتزام.
مثل كلمة الخالق: اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق.
إذاً، فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت: الخالق، فإنك تفهم خالقاً وخلقاً.
- وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام.
وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحداً من هذه الدلالة، فهو ملحد في الأسماء.
ولو قال: أنا أؤمن بدلالة الخالق على الذات، ولا أؤمن بدلالته على الصفة، فهو ملحد في الاسم.
لو قال: أنا أؤمن بأن (الخالق) تدل على ذات الله وعلى صفة الخلق، لكن لا تدل على صفة العلم والقدرة. قلنا: هذا إلحاد أيضاً، فلازم علينا أن نثبت كل ما دل عليه هذا الاسم، فإنكار شيء مما دل على الاسم من الصفة إلحاد في الاسم سواء كانت دلالته على هذه الصفة دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام.(112/72)
ولنضرب مثلاً حسياً تتبين فيه أنواع هذه الدلالات: لو قلت: لي بيت. فكلمة (بيت) فيها الدلالات الثلاث، فتفهم من (بيت) أنها تدل على كل البيت دلالة مطابقة. وتدل على مجلس الرجال وحده، وعلى الحمامات وحدها، وعلى الصالة وحدها، دلالة تضمن، لأن هذه الأشياء جزء من البيت ودلالة اللفظ على جزء معناه دلالة تضمن. وتدل على أن هناك بانياً بناه دلالة التزام، لأنه ما من بيت، إلا وله بان.
النوع الرابع من أنواع الإلحاد في الأسماء: أن يثبت الأسماء لله والصفات، لكن يجعلها دالة على التمثيل، أي دالة على بصر كبصرنا وعلم كعلمنا، ومغفرة كمغفرتنا... وما أشبه ذلك، فهذا إلحاد، لأنه ميل بها عما يجب فيها، إذ الواجب إثباتها بلا تمثيل.
النوع الخامس: أن ينقلها إلى المعبودات، أو يشتق أسماء منها للمعبودات، مثل أن يسمي شيئاً معبوداً بالإله، فهذا إلحاد، أو يشتق منها أسماء للمعبودات مثل: اللات من الإله، والعزى والعزيز، ومناة من المنان، فنقول: هذا أيضاً إلحاد في أسماء الله، لأن الواجب عليك أن تجعل أسماء الله خاصة به، ولا تتعدى وتتجاوز فتشتق للمعبودات منها أسماء. هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله.
فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسماء الله أبداً بل يجرونها على ما أراد الله بها سبحانه وتعالى ويثبتون لها جميع أنواع الدلالات، لأنهم يرون أن ما خالف ذلك، فهو إلحاد.
- - وأما الإلحاد في آيات الله تعالى، فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات لا بالمعجزات، لهذا كان التعبير بالآيات أحسن من التعبير بالمعجزات:
أولاً: لأن الآيات هي التي يعبر بها في الكتاب والسنة.
ثانياً: أن المعجزات قد تقع من ساحر ومشعوذ وما أشبه ذلك تعجز غيره.(112/73)
ثالثاً: أن كلمة (آيات) أدل على المعنى المقصود من كلمة معجزات، فآيات الله عز وجل هي الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصة به ولولا أنها خاصة، ما صارت آية له.
وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية:
فالآيات الكونية: ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله: { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } [فصلت: 37] { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } [الروم: 20] { ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذ دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [الروم: 22-25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية.(112/74)
والإلحاد فيها أن ينسبها إلى غير الله استقلالاً أو مشاركة أو إعانة، فيقول: هذا من الولي الفلاني، أو: من النبي الفلاني، أو: شارك فيه النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو: أعان الله فيه، قال الله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } [سبأ: 22]، فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئاً في السماوات والأرض استقلالاً أو مشاركة ولا معينة لله عز وجل، ثم بالرابع: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23]، لما كان المشركون قد يقولون: نعم، هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك ولم تعاون، لكنها شفعاء، قال: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } ، فقطع كل سبب يتعلق به المشركون.
القسم الثاني من الآيات: الآيات الشرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي، كالقرآن العظيم وهو آيه، لقوله تعالى: { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } [البقرة: 252] { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين(50) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت: 50-51]، فجعله آيات.
ويكون الإلحاد فيها إما بتكذيبها أو تحريفها أو مخالفتها: فتكذيبها: أن يقول: ليست من عند الله، فيكذب بها أصلاً، أو يكذب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلاً: قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة والله لم يرسل عليهم طيراً أبابيل.
وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول: استوى على العرش، أي: استولى، أو: ينزل إلى السماء الدنيا، أي: ينزل أمره.
وأما مخالفتها، فبترك الأوامر أو فعل النواهي.(112/75)
قال الله تعالى في المسجد الحرام: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب آليم } [الحج: 25]، فكل المعاصي إلحاد في الآيات الشرعية، لأنه خروج بها عما يجب لها، إذ الواجب علينا أن نتمثل الأوامر وأن نجتنب النواهي، فإن لم نقم بذلك، فهذا إلحاد.
ولا يكيفون(1) ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه(2) لأنه سبحانه(3).....................
(1) أي: أهل السنة والجماعة، وسبق أن التكييف ذكر كيفية الصفة، سواء ذكرتها بلسانك أو بقلبك، فأهل السنة والجماعة لا يكيفون أبداً، يعنى: لا يقولون: كيفية يده كذا وكذا، ولا: كيفية وجهه كذا وكذا، فلا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضاً، يعني: نفس الإنسان لا يتصور كيف استوى الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده، ولا يجوز أن يحاول ذلك أيضاً، لأن هذا يؤدي إلى أحد أمرين: إما التمثيل، وإما التعطيل.
ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله على العرش، أو يقوله بلسانه، بل ولا يسأل عن الكيفية، لأن الإمام مالكاً رحمه الله قال: "السؤال عن بدعة"، لا تقل: كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ كيف وجهه؟ إن فعلت ذلك، قلنا: إنك مبتدع.. وقد سبق ذكر الدليل على تحريم التكييف، وذكرنا الدليل على ذلك من السمع والعقل.
(2) "ولا يمثلون"، أي: أهل السنة والجماعة: "صفاته بصفات خلقه"، وهذا معنى قوله فيما سبق: "من غير تمثيل" وسبق لنا امتناع التمثيل سمعاً وعقلاً، وأن السمع ورد خبراً وطلباً في نفي التمثيل، فهم لا يكيفون ولا يمثلون.
(3) (سبحان): اسم مصدر سبح والمصدر تسبيح، فـ (سبحان) بمعنى تسبيح، لكنها بغير اللفظ، وكل ما دل على معنى المصدر وليس بلفظه، فهو اسم مصدر، كـ : سبحان من سبح، وكلام من كلم وسلام من سلم، وإعرابها مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، وعاملها محذوف دائماً.(112/76)
ومعنى (سبح)، قال العلماء: معناها: نزه، أصلها من السبح وهو البعد، كأنك تبعد صفات النقص عن الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص.
لا سمي له(1)، ولا كفء له(2)، ولا ند له(3)..........................................
(1) دليل ذلك قوله تعالى: { رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [مريم: 65]: { هل } استفهام، لكنه بمعنى النفي ويأتي النفي بصيغة الاستفهام لفائدة عظيمة، وهي التحدي، لأن هناك فرقاً بين أن أقول: لا سمي له، و: { هل تعلم له سمياً } ، لأن { هل تعلم له سمياً } متضمن للنفي وللتحدي أيضاً، مشرب معنى التحدي، وهذه قاعدة مهمة: كلما كان الاستفهام بمعنى النفي، فهو مشرب معنى التحدي، كأني أقول: إن كنت صادقاً، فأتني بسمي له وعلى هذا، فـ { هل تعلم له سمياً } : أبلغ من: "سمي له".
والسمي: هو المسامي، أي: المماثل.
(2) الدليل قوله تعالى: { ولم يكن له كفواً أحد } [الإخلاص: 4].
(3) الدليل قوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنت تعلمون } [البقرة: 22]، أي: تعلمون أنه لا ند له والند بمعنى النظيري.
وهذه الثلاثة ـ السمي والكفء والند ـ معناها متقارب جداً، لأن معنى الكفء: الذي يكافئه، ولا يكفائ الشيء الشيء إلا إذا كان مثله، فإن لم يكن مثله، لم يكن مكافئاً، إذاً: لا كفء له، أي: ليس له مثيل سبحانه وتعالى.
وهذا النفي المقصود منه كمال صفاته، لأنه لكما صفاته لا أحد يماثله.
ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى(1)...................................................
(1) القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية، فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول:(112/77)
1- 1- قياس الشمول: هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده، بحيث يكون كل فرد منه داخلاً في مسمى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلاً: إذا قلنا: الحياة، فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم (حي).
2- 2- وقياس التمثيل: هو أن يلحق الشيء مثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق.
3- 3- وقياس الأولوية: هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل، ولهذا يقول العلماء: إنه مستعمل في حق الله، لقوله تعالى { ولله المثل الأعلى } [النحل: 60]، بمعنى كل صفة كمال، فلله تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات، لكن لله أعلاها وأكملها.
ولهذا أحياناً نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى، فمثلاً: نقول: العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائماً نجده في كلام العلماء.
فقول المؤلف رحمه الله: "ولا يقاس بخلقه"، بعد قوله: "لا سمي ولا كفء له، ولا ند له"، يعني القياس المقتضي للمساواة وهو قياس الشمول وقياس التمثيل.
إذاً، يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز، أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
لو قال لك قائل: الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس.
فنقول: لا يصح، لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن.
فلو قال: أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق.
نقول: لا يمكن، سمع الخالق واجب له، لا يعتريه نقص، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكن، إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم، والمولود سميعاً يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود.
إذاً، لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لايمكن أن تقاس بصفات خلقه، لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق.(112/78)
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه(1).............
(1) قال المؤلف هذا تمهيداً وتوطئة لوجوب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه الخبر إذا اجتمعت فيه أوصاف أربعة:
الأول: أن يكون صادراً عن علم، وإليه الإشارة بقوله: "فإنه أعلم بنفسه وبغيره".
الثاني: الصدق، وأشار إليه بقوله: "وأصدق قيلاً".
الوصف الثالث: البيان والفصاحة، وأشار إليه بقوله: "وأحسن حديثاً".
الوصف الرابع: سلامة القصد والإرادة، بأن يريد المخبر هداية من أخبرهم.
فدليل الأول ـ وهو العلم ـ: قوله تعالى: { وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فصلنا بعض النبيين على بعض } [الإسراء: 55]، فهو أعلم بنفسه وبغيره من غيره، فهو أعلم بك من نفسك، لأنه يعلم ما سيكون لك في المستقبل، وأنت لا تعلم ماذا تكسب غداً؟
وكلمة { أعلم } هنا اسم تفضيل، وهو يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه، وهذا لا يجوز بالنسبة لله، لكن (عالم) اسم فاعل وليس فيه مقارنة ولا تفضيل.
فنقول له: هذا غلط، فالله يعبر عن نفسه ويقول: { أعلم } وأنت تقولك عالم! وإذا فسرنا { أعلم } بـ(عالم)، فقد حططنا من قدر علم الله، لأن (عالم) يشترك فيه غير الله على سبيل المساواة، لكن { أعلم } مقتضاه أن لا يساويه أحد في هذا العلم، فهو أعلم من كل عالم، وهذا أكمل في الصفة بلا شك.
ونقول له: إن اللغة العربية بالنسبة لاسم الفاعل لا تمنع المساواة في الوصف، لكن بالنسبة لاسم التفضيل تمنع المشاركة فيما دل عليه.(112/79)
ونقول أيضاً: في باب المقارنة لا بأس أن نقول: أعلم، بمعنى: أن تأتي باسم التفضيل، ولو فرض خلو المفضل عليه من ذلك المعنى، كما قال الله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [الفرقان: 24]، فجاء باسم التفضيل، مع أن المفضل عليه ليس فيه خير، وقال يوسف: { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } ]يوسف: 39]، والأرباب ليس فيها خير.
فالحاصل أن نقول: إن { أعلم } الواردة في كتاب الله يراد بها معناها الحقيقي، ومن فسرها بـ(عالم)، فقد أخطأ من حيث المعنى ومن حيث اللغة العربية.
ودليل الوصف الثاني ـ الصدق ـ: قوله تعالى: { ومن أصدق من الله قيلاً } ، أي: لا أحد أصدق منه، والصدق مطابقة الكلام للواقع، ولا شيء من الكلام يطابق الواقع كما يطابقه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل ما أخبر الله به، فهو صدق، بل أصدق من كل قول.
ودليل الوصف الثالث ـ البيان والفصاحة ـ: قوله تعالى: { ومن أصدق من الله حديثاً } وحسن حديثه يتضمن الحسن اللفظي والمعنوي.
ودليل الوصف الرابع ـ سلامة القصد والإرادة ـ: قوله تعالى:
{ يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء: 176]، { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [النساء: 26].
فاجتمع في كلام الله الأوصاف الأربعة التي توجب قبول الخبر.
وإذا كان كذلك، فإنه يجب أن نقبل كلامه على ما هو عليه، وأن لا يلحقنا شك في مدلوله، لأن الله لم يتكلم بهذا الكلام لأجل إضلال الخلق، بل ليبين لهم ويهديهم، وصدر كلام الله عن نفسه أو عن غيره من أعلم القائلين، ولا يمكن أن يعتريه خلاف الصدق، ولا يمكن أن يكون كلاماً عيياً غير فصيح، وكلام الله لو اجتمعت هذه الأمور الأربعة في الكلام، وجب عل المخاطب القبول بما دل عليه.(112/80)
مثال ذلك: قوله تعالى مخاطباً إبليس: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75]، قال قائل: في هذه الآية إثبات يدين لله عز وجل يخلق بهما من شاء فنثبتهما، لأن كلام الله عزوجل صادر عن علم وصدق، وكلامه أحسن الكلام وأفصحه وأبينه، ولا يمكن أن لا يكون له يدان لكن أراد من الناس أن يعتقدوا ذلك فيه، ولو فرض هذا، لكان مقتضاه أن القرآن ضلال، حيث جاء بوصف الله بما ليس فيه، وهذا ممتنع، فإذا كان كذلك، وجب عليك أن تؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين خلق بهما آدم.
وإذا قلت: المراد بهما النعمة أو القدرة.
قلنا: لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، إلا إذا اجترأت على ربك ووصفت كلامه بضد الأوصاف الأربعة التي قلنا، فنقول: هل الله عز وجل حينما قال: { بيدي } : عالم بأن له يدين؟ فسيقول: هو عالم. فنقول: ÷ل هو صادق؟ فسيقول: هو صادق بلا شك. ولا يستطيع أن يقول: هو غير عالم، أو: غير صادق، ولا أن يقول: عبر بهما وهو يريد غيرهما عياً وعجزاً، ولا أن يقول: أراد من خلقه أن يؤمنوا بما ليس فيه من الصفات إضلالاً لهم! فنقول له: إذاً، ما الذي يمنعك أن تثبت لله اليدين؟! فاستغفر ربك وتب إليه، وقل: آمنت بما أخبر الله به عن نفسه، لأنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره وأتم إرادة من غيره أيضاً.
ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأوصاف الثلاثة ونحن زدنا الوصف الرابع، وهو: إرادة البيان للخلق وإرادة الهداية لهم، لقوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [النساء: 26].
هذا حكم ما أخبر الله به عن نفسه بكلامه الذي هو جامع للكمالات الأربع في الكلام، أما ما أخبرت به الرسل فقال المؤلف: "ثم رسله صادقون مصدقون....".
ثم رسله صادقون(1)................................................................(112/81)
(1) الصادق: المخبر بما طابق الواقع، فكل الرسل صادقون فيما أخبروا به ولكن: لابد أن يثبت السند إلى الرسل عليهم السلام، فإذا قالت اليهود: قال موسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة سنده إلى موسى. وإذا قالت النصارى: قال عيسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعم صحة السند إلى عيسى. وإذا قال قائل: قال محمد رسول الله كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى محمد.
فرسله صادقون فيما يقولون، فكل ما يخبرون به عن الله وعن غيره من مخلوقاته، فهم صادقون فيه، لا يكذبون أبداً.
ولهذا أجمع العلماء على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكذب.
مصدوقون(1)........................................................................
(1) "مصدقون" أو : "مصدقون": نسختان: أما على نسخة "مصدوقون"، فالمعنى أن ما أوحي إليهم، فهو صدق، والمصدوق: الذي أخبر بالصدق والصادق: الذي جاء بالصدق، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة حين قال له الشيطان: إنك إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى قال له: "صدقك وهو كذوب"(1)، يعني: أخبرك بالصدق. فالرسل مصدوقون، كل ما أوحي إليهم، فهو صدق، ما كذبهم الذي أرسلهم ولا كذبهم الذي أرسل إليهم، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، { إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين } [التكوير: 19-21].
وأما على نسخة: { مصدقون } ، فالمعنى أنه يجب على أممهم تصديقهم، وعلى هذا يكون معنى "مصدقون"، أي: شرعاً، يعني: يجب أن يصدقوا شرعاً، فمن كذب بالرسل أو كذبهم، فهو كافر، ويجوز أن يكون "مصدقون" له وجه آخر، أي: أن الله تعالى صدقهم، ومعلوم أن الله تعالى صدق الرسل، صدقهم بقوله وبفعله:(112/82)
أما بقوله: فإن الله قال لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } [النساء: 166]، { والله يعلم إنك لرسوله } [المنافقون: 1]، فهذا تصديق بالقول.
أما تصديقه بالفعل، فبالتمكين له، وإظهار الآيات، فهو يأتي للناس يدعوهم إلا الإسلام، فإن لم يقبلوا، فالجزية، فإن لم يقبلوا، استباح دمائهم ونساءهم وأموالهم، والله تعالى يمكن له، ويفتح عليه الأرض أرضاً بعد أرض، وحتى بلغت رسالته مشارق الأرض ومغاربها، فهذا تصديق من الله بالفعل، كذلك أيضاً ما يجريه الله على يديه من الآيات هو تصديق له سواء كانت الآيات شرعية أم كونية، فالشرعية كان دائماً يسأل عن الشيء وهو لا يعلمه، فينزل الله الجواب: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85](1)، إذاً هذا تصديق بأنه رسول ولو كان غير رسول، ما أجاب الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } [البقرة: 217]. فالجواب: { قل قتال فيه } .. إلخ، فهذا تصديق من الله عز وجل.
والآيات الكونية ظاهرة جداً وما أكثر الآيات الكونية التي أيد الله بها رسوله، سواء جاءت لسبب أو لغير سبب، وهذا معروف في السيرة.
ففهمنا من كلمة: "مصدقون": أنهم مصدقون من قبل الله بالآيات الكونية والشرعية، مصدقون من قبل الخلق، أي: يجب أن يصدقوا وإنما حملنا ذلك على التصديق شرعاً، لأن من الناس من صدق ومن الناس من لم يصدق، لكن الواجب التصديق.
بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون(1)...........................................
(1) فهؤلاء كاذبون أو ضالون، لأنهم قالوا مالا يعلمون.
وكأن المؤلف يشير إلى أهل التحريف، لأن أهل التحريف قالوا على الله مالا يعلمون من وجهين: قالوا: إنه لم يرد كذا وأراد كذا! فقالوا في السلب والإيجاب لما لا يعلمون.(112/83)
مثلاً: قالوا: لم يرد بالوجه الحقيقي! فهنا قالوا على الله مالا يعلمون بالسلب، ثم قالوا: والمراد بالوجه الثواب! فقالوا على الله ملا يعلمون في الإيجاب.
وهؤلاء الذين يقولون على الله مالا يعلمون لا يكونون صادقين ولا مصدوقين ولا مصدقين بل قامت الأدلة على أنهم كاذبون مكذوبون بما أوحى إليهم الشيطان.
ولهذا(1) قال سبحانه وتعالى: { سبحان(2) ربك(3) رب العزة(4) عما يصفون(5) وسلام على المرسلين(6) والحمد لله رب العالمين(7) } ...............................................
(1) أي: لأجل كمال كلامه وكلام رسله.
(2) سبق معنى التسبيح وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به.
(3) أضاف الربوبية إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي ربوبية خاصة، من باب إضافة الخالق إلى المخلوق.
(4) من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن المعروف أن كل مربوب مخلوق وهنا قال: { رب العزة } ، وعزه الله غير مخلوقة، لأنها من صفاته، فنقول: هذه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة وعلى هذا، فـ { رب العزة } هنا معناها: صاحب العزة، كما يقال: رب الدار، أي: صاحب الدار.
(5) يعني: عما يصفه المشركون، كما سيذكره المؤلف.
(6) أي: على الرسل.
(7) حمد الله نفسه عز وجل بعد أن نزهها، لأن في الحمد كمال الصفات، وفي التسبيح تنزيه عن العيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح، وإثبات الكمال بالحمد.
فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب(1). وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات(2)..................................................................................
(1) معنى هذه الجملة واضح، وبقي أن يقال: وحمد نفسه لكمال صفاته بالنسبة لنفسه وبالنسبة لرسله، فإنه سبحانه محمود على كمال صفاته وعلى إرسال الرسل، لما في ذلك من رحمة الخلق والإحسان إليهم.(112/84)
(2) بين المؤلف رحمه الله في هذه الجملة أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذلك لأن تمام الكمال لا يكون إلا بثبوت صفات الكمال وانتفاء ما يضادها من صفات النقص، فأفادنا رحمه الله أن الصفات قسمان:
1- صفات مثبتة: وتسمى عندهم: الصفات الثبوتية.
2- وصفات منفية: ويسمونها: الصفات السلبية، من السلب وهو النفي، ولا حرج من أن نسميها سلبية، وإن كان بعض الناس توقف وقال: لا نسميها سلبية، بل نقول: منفية.
فنقول: ما دام السلب في اللغة بمعنى النفي، فالاختلاف في اللفظ ولا يضر.
فصفات الله عز وجل قسمان: ثبوتية وسلبية، أو إن شئت، فقل: مثبتة ومنفية، والمعنى واحد.
فالمثبتة: كل ما أثبته الله لنفسه، ولكها صفات كمال، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، لأن المماثلة للمخلوق نقص.
وإذا فهمنا هذه القاعدة، عرفنا ضلال أهل التحريف، الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل، ثم أخذوا ينفونها فراراً من التمثيل.
ومثاله: قالوا: لو أثبتنا لله وجهاً، لزم أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين، وحينئذ يجب تأويل معناه إلى معنى آخر لا إلى الوجه الحقيقي.
فنقول لهم: كل ما أثبت الله لنفسه من الصفات، فهو صفة كمال ولا يمكن أبداً أن يكون فيما أثبته الله لنفسه من الصفات نقص.
ولكن، إذا قال: هل الصفات توقيفية كالأسماء، أو هي اجتهادية، لمعنى أن يصح لنا أن نصف الله سبحانه وتعالى بشيء لم يصف به نفسه؟.
فالجواب أن نقول: إن الصفات توقيفية على المشهور عند أهل العلم، كالأسماء، فلا تصف الله إلا بما وصف به نفسه.
وحينئذ نقول: الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفة كمال مطلق، وصفة كمال مقيد، وصفة نقص مطلق.
أما صفة الكمال على الإطلاق، فهي ثابتة لله عز وجل، كالمتكلم، والفعال لما يريد، والقادر.. ونحو ذلك.(112/85)
وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيداً، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء.. وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة.
وأما صفة النقص على الإطلاق، فهذه لا يوصف الله بها بأي حال من الأحوال، كالعاجز والخائن والأعمى والأصم، لأنها نقص على الإطلاق، فلا يوصف الله بها وانظر إلى الفرق بين خادع وخائن، قال الله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [النساء: 142]، فأثبت خداعه لمن خادعه لكن قال في الخيانة: { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } [الأنفال: 71] ولم يقل: فخانهم، لأن الخيانة خداع في مقام الائتمان، والخداع في مقام الائتمان نقص، وليس فيه مدح أبداً.
فإذاً، صفات النقص منفية عن الله مطلقاً.
والصفات المأخوذة من الأسماء هي كمال بكل حال ويكون الله عز وجل قد أتصف بمدلولها، فالسمع صفة كمال دل عليها اسمه السميع، فكل صفة دلت عليها الأسماء، فهي صفة كمال مثبته لله على سبيل الإطلاق، وهذه تجعلها قسماً منفصلاً، لأنه ليس فيها تفصيل، وغيرها تنقسم إلى الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها، ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنه يتكلم، لأن الكلام قد يكون خيراً، وقد يكون شراً، وقد لا يكون خيراً ولا شراً، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنه سفه، والخير ينسب إليه، ولهذا لم يسم نفسه بالمتكلم، لأن الأسماء كما وصفها الله عز وجل: { ولله الأسماء الحسنى } [الأعراف: 180]، ليس فيها أي شيء من النقص ولهذا جاءت باسم التفضيل المطلق.(112/86)
إذا قال قائل: فهمنا الصفات وأقسامها، فما هو الطريق لإثبات الصفة مادمنا نقول: إن الصفات توقيفية؟
فنقول: هناك عدة طرق لإثبات الصفة:
الطريق الأول: دلالة الأسماء عليها، لأن كل اسم، فهو متضمن لصفة ولهذا قلنا فيما سبق: إن كل اسم من أسماء الله دال على ذاته وعلى الصفة التي اشتق منها.
الطريق الثاني: أن ينص على الصفة، مثل الوجه، واليدين، والعينين.. وما أشبه ذلك، فهذه بنص من الله عز وجل، ومثل الانتقام، فقال عنه تعالى: { إن الله عزيز ذو انتقام } [إبراهيم: 47]، ليس من أسماء الله المنتقم، خلافاً لما يوجد في بعض الكتب التي فيها عد أسماء الله، لأن الانتقام ما جاء إلا على سبيل الوصف أو اسم الفاعل مقيداً، كقوله: { إنا من المجرمين منتقمون } [السجدة: 22].
الطريق الثالث: أن تؤخذ من الفعل، مثل: المتكلم، فأخذها من { وكلم الله موسى تكليماً } [النساء: 164].
هذه هي الطرق التي تثبت بها الصفة وبناء على ذلك نقول: الصفات أعم من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم.
وأما الصفات المنفية عن الله عز وجل، فكثيرة ولكن الإثبات أكثر، لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، ولكما تعددت وتنوعت، ظهر من كمال الموصوف ما هو أكثر، وصفات النفي قليلة، ولهذا نجد أن صفات النفي تأتي كثيراً عامة، غير مخصصة بصفة معينة، والمخصص بصفة لا يكون إلا لسبب، مثل تكذيب المدعين بأن الله اتصف بهذه الصفة التي نفاها عن نفسه أو دفع توهم هذه الصفة التي نفاها.
فالقسم الأول العامة، كقوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11]، قال { ليس كمثله شيء } في علمه وقدرته وسمعه وبصره وعزته وحكمته ورحمته.. وغير ذلك من صفاته، فلم يفصل، بل قال: { ليس كمثله شيء } في كل كمال.(112/87)
أما إذا كان مفصلاً، فلا تجده إلا لسبب، كقوله { ما اتخذ الله من ولد } [المؤمنون: 91]، رداً لقول من قال: إن لله ولداً وقوله: { لم يلد ولم يولد } [الإخلاص: 3] كذلك وقوله تعالى: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ق: 38]، لأنه قد يفرض الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره أن هذه السماوات العظيمة والأرض العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام، فسيلحقه التعب، فقال: { وما مسنا من لغوب } [ق: 38]، أي: من تعب وإعياء.
فتبين بهذا أن النفي لا يرد في صفات الله عز وجل إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب، لأن صفات السلب لا تتضمن الكمال إلا إذا كانت متضمنة لإثبات، ولهذا نقول: الصفات السلبية التي نفاها الله عن نفسه متضمنة لثبوت كمال ضدها، فقوله { وما مسنا من لغوب } : متضمن كمال القوة والقدرة وقوله: { ولا يظلم ربك أحداً } [الكهف: 49]: متضمن لكمال العدل وقوله: { وما الله بغافل عما تعملون } [البقرة: 85]: متضمن لكمال العلم والإحاطة.. وهلم جراً، فلا بد أن تكون الصفة المنفية متضمنة لثبوت، وذلك الثبوت هو كمال ضد ذلك المنفي وإلا، لم تكن مدحاً.
لا يوجد في الصفات المنفية عن الله نفي مجرد لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء، فلا يتضمن مدحاً ولا ثناء، ولأنه قد يكون للعجز عن تلك الصفة فيكون ذماً، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يكون مدحاً ولا ذماً.
مثال الأول الذي للعجز قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
ومثال الثاني الذي لعدم القابلية: أن تقول: إن جدرانا لا يظلم أحداً. والواجب علينا نحو هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه والتي نفاها أن نقول: سمعنا وصدقنا وآمنا.
هذه هي الصفات فيها مثبت وفيها منفي، أما الأسماء فكلها مثبتة.(112/88)
لكن أسماء الله تعالى المثبتة منها ما يدل على معنى إيجابي، ومنها ما يدل على معني سلبي، وهذا هو مورد التقسيم في النفي والإثبات بالنسبة لأسماء الله.
فمثال التي مدلولها إيجابي كثير.
ومثال التي مدلولها سلبي: السلام. ومعنى السلام، قال العلماء: معناه: السالم من كل عيب. إذاً، فمدلوله سلبي، بمعنى: ليس فيه نقص ولا عيب، وكذلك القدوس قريب من معنى السلام، لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب.
فصارت عبارة المؤلف سليمة وصحيحة وهو لا يريد بالنسبة للأسماء أن هناك أسماء منفية، لأن الاسم المنفي ليس باسم لله، لكن مراده أن مدلولات أسماء الله ثبوتية وسلبية.
فلا عدول لأهل السنة والجماعة(1) عما جاء به المرسلون(2)........................
(1) العدول: معناه الانصراف والانحراف، فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل.
وإنما جاء المؤلف بهذا النفي، ليبين أنهم لكمال اتباعهم رضي الله عنهم لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل، فهم مستمسكون تماماً، وغير منحرفين إطلاقاً، عما جاءت به الرسل، بل طريقتهم أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا في الأحكام وسمعنا وصدقنا في الأخبار.
(2) ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام والواضح أننا لا نعدل عنه، لأنه خاتم النبيين، وواجب على جميع العباد أن يتبعوه، لكن ما جاء عن غيره، هل لأهل السنة والجماعة عدول عنه؟ لا عدول لهم عنه، لأن ما جاء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في باب الأخبار لا يختلف، لأنهم صادقون ولا يمكن أن ينسخ، لأنه خبر، فكل ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، فهو مقبول وصدق ويجب الإيمان به.(112/89)
مثلاً: قال موسى لفرعون لما قال له: { قال فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } [طه: 51-52]، فنفى عن الله الجهل والنسيان، فنحن يجب علينا أن نصدق بذلك، لأنه جاء به رسول من الله { قال فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 49-50]، فلو سألنا سائل: من أين علمنا أن الله أعطى كل شيء خلقه؟ فنقول: من كلام موسى، فنؤمن بذلك، ونقول: أعطى كل شيء خلقه اللائق به، فالإنسان على هذا الوجه، والبعير على هذا الوجه، والبقرة على هذا الوجه، والضأن على هذا الوجه، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه ومنافعه، فكل شيء يعرف مصالحه ومنافعه، فالنملة في أيام الصيف تدخر قوتها في جحورها، ولكن لا تدخر الحب كما هو، بل تقطم رؤوسه، لئلا ينبت، لأنه لو نبت، لفسد عليها، وإذا جاء المطر وابتل هذا الحب الذي وضعته في الجحور، فإنها لا تبقيه يأكله العفن والرائحة، بل تنشره خارج جحرها حتى ييبس من الشمس والريح، ثم تدخله!
لكن يجب التنبيه إلى أن ما نسب للأنبياء السابقين يحتاج فيه إلى صحة النقل، لاحتمال أن يكون كذباً، كالذي نسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولى وقوله رحمه الله: "عما جاء به المرسلون" هل يشمل هذا الأحكام أو أن الكلام الآن في باب الصفات، فيختص بالأخبار؟
إن نظرنا إلى عموم اللفظ، قلنا: يشمل الأخبار والأحكام.
وإن نظرنا إلى السياق، قلنا: القرينة تقتضي أن الكلام في باب العقائد وهي من باب الأخبار.
ولكن نقول: إن كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله خاصاً بالعقائد، فهو خاص، وليس لنا فيه كلام. وإن كان عاماً، فهو يشمل الأحكام.
والأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيها العلماء: هل هي أحكام لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أو ليست أحكاماً لنا؟(112/90)
والصحيح أنها أحكام لنا، وأن ما ثبت عن الأنبياء السابقين من الأحكام، فهو لنا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه، فهو على خلافه، فمثلاً: السجود عند التحية جائز في شريعة يوسف ويعقوب وبنيه، لكن في شريعتنا محرم، كذلك الإبل حرام على اليهود: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [الأنعام: 146] ولكن هي في شريعتنا حلال.
فإذاً، يمكن أن نحمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أنه عام في الأخبار والأحكام، وأن نقول: ما كان في شرع الأنبياء من الأحكام، فهو لنا، إلا بدليل.
ولكن يبقى النظر: كيف نعرف أن هذا من شريعة الأنبياء السابقين؟
نقول: لنا في ذلك طريقان: الطريق الأول: الكتاب، والطريق الثاني: السنة. فما حكاه الله في كتابه عن الأمم السابقين، فهو ثابت وما حكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه، فهو أيضاً ثابت.
والباقي لا نصدق ولا نكذب، إلا إذا ورد شرعنا بتصديق ما نقل أهل الكتاب، فإننا نصدقه، لا لنقلهم، ولكن لما جاء في شريعتنا. وإذا ورد شرعنا بتكذيب أهل الكتاب، فإننا نكذبه، لأن شرعنا كذبه. فالنصارى يزعمون بأن المسيح ابن الله، فنقول: هذا كذب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فنقول: هذا كذب.
فإنه(1) الصراط المستقيم(2)..........................................................
(1) (فإنه): الضمير يعود على ما جاءت به الرسل ويمكن أن يعود على طريق أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة: هو الصراط المستقيم.(112/91)
(2) (صراط): على وزن فعال، بمعنى: مصروط، مثل: فراش، بمعنى: مفروش، وغراس، بمعنى: مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول. والصراط إنما يقال للطرق الواسع المستقيم مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة بسرعة، لأن الطريق إذا كان واسعاً، لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه، فالصراط يقولون في تعريفه: كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج.
إذاً، الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم، الذي ليس فيه عوج ولا أمت، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يميناً ولا شمالاً: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [الأنعام: 153].
وعليه، فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه، لأن هذا هو المستقيم أو يقال: إنها صفة مقيدة، لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى { فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسئولون } [الصافات: 23-24]، وهذا الصراط غير مستقيم.
صراط الذين أنعم الله عليهم(1).......................................................
(1) "صراط الذين أنعم الله عليهم"، أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحياناً: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } [الشورى: 52-53]، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده، وأنه موصل إليه، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد، صراط الله باعتبارين هما: أنه وضعه لعباده، وأنه موصل إليه وصراط المؤمنين، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم.
وقوله: "الذين أنعم الله عليهم": النعمة: كل فضل وإحسان من الله عز وجل على عباده، فهو نعمة وكل ما بنا من نعمة، فهو من الله، ونعم الله قسما: عامة وخاصة، والخاصة أيضاً قسمان خاصة، وخاصة أعم.
فالعامة: هي التي تكون للمؤمنين وغير المؤمنين ولهذا، لو سألنا سائل: هل لله على الكافر نعمة؟(112/92)
قلنا: نعم ، لكنها نعمة عامة وهي نعمة ما تقوم به الأبدان لا ما تصلح به الأديان، مثل الطعام والشراب والكسوة والمسكن وما أشبه ذلك، فهذه يدخل فيها المؤمن والكافر.
والنعمة الخاصة: ما تصلح به الأديان من الإيمان والعلم والعمل الصالح، فهذه خاصة بالمؤمنين، وهي عامة للنبيين والصديقين، كالشهداء والصالحين.
ولكن نعمة الله على النبيين والرسل نعمة هي أخص النعم، واستمع إلى قوله تعالى { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } [النساء: 113]، فهذه النعمة التي هي أخص لا يلحق المؤمنين فيها النبيين، بل هم دونهم.
وقوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم": هي كقوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 6-7].
فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟
قسرها تعالى بقوله: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } [النساء: 69]، فهؤلاء أربعة أصناف.
من النبيين(!).........................................................................
(1) النبيون: وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم فهو داخل في هذه الآية: فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً وعلى هذا فيكون النبيون شامالً للرسل أولي العزم وغيرهم شاملاً أيضاً للنبيين الذين لم يرسلوا وهؤلاء أعلى أصناف الخلق.
والصديقين(1)........................................................................
(1) الصديقون: جمع صديق على وزن فعيل صيغة مبالغة.
فمن هو الصديق؟
أحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدق به } [الزمر: 33]، وقال تعالى { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } [الحديد: 19]، فمن حقق الإيمان ـ ولا يتم تحقيق الإيمان إلا بالصدق والتصديق ـ فهو صديق:(112/93)
الصدق في العقيدة: بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء حتى قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، فلا بد من الصدق في المقصد ـ وهو العقيدة ـ والإخلاص لله عز وجل.
الصدق في المقال: لا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته.. وغيرهم.
الصدق في الفعال: وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صدق الفعال أن تكون تابعة عن إخلاص، فإن لم تكن نابعة عن إخلاص، لم تكن صادقة لأن فعله يخالف قوله.
فالصديق إذاً من صدق في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي مقاله وفي فعاله.
وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه.
والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم: { وأمه صديقة } [المائدة: 75]، ويقال: الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده.
والشهداء(1) والصالحين(2)..........................................................
(1) الشهداء قيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله: { وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء } وقيل: العلماء، لقوله تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [آل عمران: 18]، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ ولو قال قائل: الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملاً للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت.(112/94)
(2) الصالحون يشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص.
والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا على المرتبة السابقةـ النبوة والصديقية والشهادة ـ، فهم دونهم في المرتبة.
هذا الصراط الذي جاءت به الرسل هو صراط هؤلاء الأصناف الأربعة، فغيرهم لا يمشون على ما جاءت به الرسل.
وقد دخل في هذه الجملة(1) ما وصف الله به نفسه في سورة(2) الإخلاص(3) التي تعدل ثلث القرآن(4).........................................................................
(1) قوله: "دخل في هذه الجملة" يحتمل أنه يريد بها قوله: "وهو قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات" ويحتمل أن يريد ما سبق من أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله، وأياً كان، فإن هذه السورة وما بعدها داخلة في ضمن ما سبق، من أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وأن أهل السنة يؤمنون بذلك.
(2): (السورة): هي عبارة عن آيات من كتاب الله مسورة، أي منفصلة عما قبلها وعما بعدها، كالبناء الذي أحاط به السور.
(3) إخلاص الشيء، بمعنى: تنقيته، يعني: التي نقيت ولم يشبهها شيء وسميت بذلك، قيل: لأنها تتضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمناً بها، فقد أخلص لله عز وجل وقيل لأنها مخلصة ـ بفتح اللام ـ، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئاً من الأحكام ولا شيئاً من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة بالله والوجهان صحيحان، ولا منافاة بينهما.
(4) الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلية؟". فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن"(1).(112/95)
فهذه السورة تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، وذلك كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فكأنما أعتق أربع أنفس من بني إسماعيل"(2)، فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال هذا الذكر عشر مرات؟ فنقول: لا يجزئ. أما في الجزاء، فتعدل هذا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء. ولهذا، لو قرأ سورة الإخلاص في الصلاة ثلاث مرات، لم تجزئه عن قراءة الفاتحة.
قال العلماء: ووجه كونها تعدل ثلث القرآن: أن مباحث القرآن خبر عن الله وخبر عن المخلوقات، وأحكام، فهذه ثلاثة:
1- خبر عن الله: قالوا: إن سورة: { قل هو الله أحد } تتضمنه.
2- خبر عن المخلوقات، كالإخبار عن الأمم السابقة، والإخبار عن الحوادث الحاضرة، وعن الحوادث المستقبلة.
3- والثالث: أحكام، مثل: أقيموا، آتوا، لا تشركوا.. وما أشبه ذلك.
وهذا هو أ حسمن ما قيل في كونها تعدل ثلث القرآن.
حيث يقول { قل(1) هو(2) الله(3) أحد(4) الله الصمد(5) ..................................
(1) { قل } : الخطاب لكل من يصح خطابه.
وسبب نزول هذه السورة: أن المشركين قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة(1)، وقيل: بل اليهود هم الذين زعموا أن الله خلق من كذا ومن كذا مما يقولون من المواد، فأنزل الله هذه السورة(2). سواء صح السبب أم لم يصح، فعلينا إذا سئلنا أي سؤال عن الله نقول: { الله أحد (1) الله الصمد } .
(2) { هو } : ضمير وأين مرجعه؟ قيل: إن مرجعه المسؤول عنه، كأنه يقول: الذي سألتم عنه الله وقيل: هو ضمير الشأن و { الله } : مبتدأ ثان و { أحد } : خبر المبتدأ الثاني، وعلى الوجه الأول تكون { هو } : مبتدأ، { الله } خبر المبتدأ، { أحد } : خبر ثان.(112/96)
(3) { الله } : هو العلم على ذات الله، المختص بالله عز وجل، لا يتسمى به غيره وكل ما يأتي بعده من أسماء الله فو تابع له إلا نادراً، ومعنى { الله } : الإله، وإله بمعنى مألوه أي: معبود، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وكما في (الناس)، وأصلها: الأناس، وكما في: هذا خير من هذا، وأصله: أخير من هذا لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فالله عز وجل { أحد } .
(4) { أحد } : لا تأتي إلا في النفي غالباً أو في الإثبات في أيام الأسبوع، يقال: الأحد، الإثنين.. لكن تأتي في الإثبات موصوفاً بها الرب عز وجل لأنه سبحانه وتعالى أحد، أي: متوحد فيما يختص به في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، { أحد } ، لا ثاني له ولا نظير له ولا ند له.
(5) { الله الصمد } : هذه جملة مستأنفة بعد أن ذكر الأحدية ذكر الصمدية، وأتى بها بجملة معرفة في طرفيها، لإفادة الحصر، أي: الله وحده الصمد.
فما معنى الصمد؟
قيل: إن { الصمد } : هو الكامل، في علمه في قدرته، في حكمته، في عزته، في سؤدده، في كل صفاته. وقيل: { الصمد } : الذي لا جوف له، يعني لا أمعاء ولا بطن، ولهذا قيل: الملائكة صمد، لأنهم ليس لهم أجواف، لا يأكلون ولا يشربون. هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما(1) ولا ينافي المعنى الأول، لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه، وقيل { الصمد } يمعنى المفعول، أي: المصمود إليه، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، بمعنى: تميل إليه وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها، فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد.
هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضاً فيما يتعلق بالله عز وجل، ولهذا نقول: إن المعاني كلها ثابتة، لعدم المنافاة فيما بينها.
ونفسره بتفسير جامع فنقول: { الصمد } : هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهي صامدة إليه.(112/97)
وحينئذ يتبين لك المعنى العظيم في كلمة { الصمد } : أنه مستغن عن كل ما سواه، كامل في كل ما يوصف به، وأن جميع ما سواه مفتقر إليه.
فلو قال لك قائل: إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط؟ فالجواب: لا، كلا، لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسماوات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها فنأخذه من كلمة { الصمد } .
لو قال قائل: هل الله يأكل أو يشرب؟ أقول: كلا، لأن الله صمد.
وبهذا نعرف أن { الصمد } كلمة جامعة لجميع صفات الكمال لله وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات وأنها محتاجة إلى الله عز وجل.
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } (1)............................................
(1) هذا تأكيد للصمدية والوحدانية، وقلنا: توكيد، لأننا نفسهم هذا مما سبق فيكون ذكره توكيداً لمعنى ما سبق وتقريراً له، فهو لأحديته وصمديته لم يلد، لأن الولد يكون على مثل الوالد في الخلقة، في الصفة وحتى الشبه.
لما جاء مجزز المدلجي إلى زيد بن حارثة وابنة أسامة، وهما ملتحفان برداء، قد بدت أقدامها، نظر إلى القدمين. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض(2). فعرف ذلك بالشبه.
فلكمال أحديته وكمال صمديته { لم يلد } والوالد محتاج إلى الولد بالخدمة والنفقة ويعينه عند العجز ويبقي نسله.
{ ولم يولد } ، لأنه لو ولد، لكان مسبوقاً بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف يولد؟
وإنكار أنه ولد أبلغ من العقول من إنكار أنه والد ولهذا لم يدع أحد أن لله ولداً.(112/98)
وقد نفى الله هذا وهذا وبدأ ينفي الولد، لأهمية الرد على مدعيه بل قال: { ما اتخذ الله من ولد } [المؤمنون: 91]، حتى ولو بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولداً، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولداً وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والداً ولا مولوداً لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال: { ولم يكن له كفواً أحد } ، وإذا انتفى أن يكون له كفواً أحد، لزم أن لا يكون متولداً { ولم يكن له كفواً أحد } ، أي: لا يكافئه أحد في جميع صفاته.
في هذه السورة: صفات ثبوتية وصفات سلبية:
الصفات الثبوتية: { الله } التي تتضمن الألوهية، { أحد } تتضمن الأحدية { الصمد } تتضمن الصمدية.
والصفات السلبية: { لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفواً أحد } .
ثلاثة إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية.
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله(1)....................................
(1) قوله: { وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله" وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي: { وسع كرسيه السموات والأرض } [البقرة: 255]، وهي أعظم آية في كتاب الله.
والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أبي بن كعب، قال: "أي آية في كتاب الله أعظم؟" فقال له: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب على صدره، وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر"(1).
يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أبي في كتاب الله عز وجل.(112/99)
وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، فإنه لا يتفاضلن لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلاً قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [البقرة: 282].. إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } [آل عمران: 185]، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب، ليست كآية الدين مثلاً مع أن آية الدين أطول منها.
حيث يقول: { الله لا إله إلا هو(1) الحي(2) القيوم(3)...................................
(1) { الله لا إله إلا هو } في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله: { لا إله إلا هو } ، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.
(2) أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.(112/100)
و { الحي } من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى: { يخرج الحي من الميت } [الأنعام: 95]، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى.
(3) { القيوم } على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي مأخوذة من القيام.
ومعنى { القيوم } ، أي: أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده.
ومن معنى { القيوم } كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [الرعد: 33]، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائماً على غيره، لزم أن يكون غيره قائماً به، قال الله تعالى: { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [الروم: 25]، فهو إذاً كامل الصفات وكامل الملك والأفعال.
وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول: يا حي! يا قيوم! وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 2]، والثالث سورة طه: { وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً } [طه: 111].
هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله: { الحي } والسلطاني في قوله: { القيوم } ، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء.
لا تأخذه سنة ولا نوم(1)............................................................
(1) السنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل: لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر.
والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام:(112/101)
"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"(1) لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار.
لكن لو قال قائل: النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عد مريضاً. فنقول: كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضاً لكن هو ك مال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص.
إذاً ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالاً للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالاً في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه: { وهو يطعم ولا يطعم } [الأنعام: 14].
له ما في السموات وما في الأرض(1)................................................
(1) قوله: { له ما في السموات وما في الأرض } : { له } : خبر مقدم. { وما } : مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقة التأخير وهو الخبر. { له } : اللام هذه للملك. ملك تام، بدون معارض. { ما في السموات } : من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه { وما في الأرض } : من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان.
وقوله: { السموات } : تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } [المؤمنون: 86].
والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12]، مثلهن في العدد دون الصفة وفي السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"(1).(112/102)
من ذا(1) الذي يشفع(2) عنده(3) إلا بإذنه(4)..........................................
(1) { من ذا } اسم استفهام أو نقول: { من } اسم استفهام، و { ذا } : ملغاة، ولا يصح أن تكون { ذا } : اسماً موصولاً في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة: من الذي الذي! وهذا لا يستقيم.
(2) الشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعاً، قال تعالى: { والشفع والوتر } [الفجر: 3]. وفي الاصطلاح: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلاً: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف أن يقضى بينهم: هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة.
(3) أي: عند الله.
(4) أي: إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله { إلا بإذنه } : لغواً لا فائدة فيه.
وذكرها بعد قوله: { له ما في السموات... } يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام ربوبيته وسلطانه عز وجل.
وتفيد هذه الجملة أن له إذناً والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى: { وأذان من الله ورسوله } [التوبة: 3]، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى { بإذنه } ، أي: إعلامه بأنه راض بذلك.
وهناك شروط أخرى للشفاعة: منها: أن يكون راضياً عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28]، وقال: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } [طه: 109].
وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } [النجم: 26]، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم.
إذا قال قائل: ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو؟(112/103)
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم(1) ولا يحيطون بشيء(2)..............................
(1) العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، والله عز وجل { يعلم ما بين أيديهم } المستقبل، { وما خلفهم } الماضي، وكلمة { ما } من صيغ العموم تشمل كل ماض وكل مستقبل، وتشمل أيضاً ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق.
(2) الضمير في { يحيطون } يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله: { له ما في السموات وما في الأرض } ، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء.
من علمه(1) إلا بما شاء(2) وسع كرسيه(3) السموات والأرض(4)......................
(1) يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئاً عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن (علم) هنا بمعنى معلوم، يعني: لا يحيطون بشيء من معلومه، أي: مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول: إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك.
(2) يعني إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [الإسراء: 85].
(3) بمعنى شمل، يعني: أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها.
(4) الكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما(1): "إنه موضع قدمي الله عز وجل"، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أن السماوات والسبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة"(1).(112/104)
هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.
ولا يؤوده حفظهما(1) وهو العلي(2)..................................................
(1) يعني: لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض.
وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة.
(2) { العلي } على وزن فعيل، وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف.
وعلو الله عز وجل قسمان: علو ذات، وعلو صفات:
فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء.
وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى: { ولله المثل الأعلى } [النحل: 60]، يعني: أن صفاته كلها علياً، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه.
العظيم(1).............................................................................
(1) { العظيم } ، أيضاً صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة.
وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم.
وتتضمن من صفات الله ستاً وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء.
السادسة: انفراده بالألوهية.
السابعة: انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته.
الثامنة: عموم ملكه، لقوله: { له ما في السموات وما في الأرض } .
التاسعة: انفارد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر.
العاشرة: قوة السلطان وكماله، لقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } .
الحادية عشرة: إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية.
الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: { إلا بإذنه } .
الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى لقوله: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } .(112/105)
الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله: { وما خلفهم } ولا يجهل ما يستقبل، لقوله { ما بين أيديهم } .
السادسة عشرة: كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به.
السابعة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين.
التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله: { وسع كرسيه السموات والأرض } ، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.
الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله: { ولا يئوده حفظهما } .
الخامسة والعشرون: إثبات علو الله لقوله: { وهو العلي } ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عال بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية.
وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان: طائفة قالوا: إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا: إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل.
والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى: { وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } [المجادلة: 7]، واستدلوا بقوله تعالى: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } [الحديد: 4]، وعلى هذا، فليس عالياً بذاته، بل العلو عندهم علو صفة.
أما الذين قالوا: إنه لا يوصف بجهة، فقالوا: لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسماً، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة.
ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين:
الوجه الأول: إبطال احتجاجهم.
والثاني: إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة.(112/106)
1- أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل:
- أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبداً، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحياناً: هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول: إذا حمل متاعه معه: متاعي معي وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقة تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء.
- وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه:
أولاً: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك، وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم.
ثانياً: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس.
ثالثاً: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل.
فتبين بهذا أن قولهم مناف للسمع ومناف للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبداً.
2- أما الآخرون، فنقول لهم:(112/107)
أولاً: إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئاً لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفاً للعدم من هذا الوصف.
ثانياً: قولكم: إثبات الجهة يستلزم التجسيم! نحن نناقشكم في كلمة الجسم:
ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله؟!
أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى بعض لا يمكن أن يقوم إلى باجتماع هذه الأجزاء؟! فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول: إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال: إن إثبات علوه يستلزم هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول: لا قبول.
أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول: إن لله تعالى ذاتاً، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان.
وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقولك هو على عرشه استوى عز وجل.
أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
- أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك.
- أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراراه.
- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق خلقه.(112/108)
قال شيخ الإسلام: "ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء".
وأما العقل، فإننا نقول: كل يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتاً لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقولك إما أن يكون الله في أعلى أو في أسف أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي.
- وأما الفطرة، فإننا نقول: ما من إنسان يقول: يارب! إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو.
فتطابقت الأدلة الخمسة.
وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام.
السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله: { العظيم } .
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح(1)، وقوله سبحانه(2)............................................................
(1) هذا طرف من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة استحفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه على الصدقة، وأخذ الشيطان منها وقوله لأبي هريرة: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فأخبر أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "إنه صدقك، وهو كذوب"(1).
(2) هذا معطوف على (سورة) في قول المؤلف: "ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص".
{ هو الأول والآخر والظاهر والباطن(1)...............................................(112/109)
(1) { الأول والآخر والظاهر والباطن } : هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولاً وآخراً وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية.
{ الأول } : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس قبله شيء"(2).
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
{ والآخر } : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس بعده شيء"، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى { الآخر } أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته.
{ والظاهر } : من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } [التوبة: 33]، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عال عليها، ومنه قوله تعالى: { فما اسطاعوا أن يظهروه } [الكهف: 97]، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها: "الذي ليس فوقه شيء"، فهو عال على كل شيء.
{ والباطن } : فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الذي ليس دونه شيء" وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب.(112/110)
تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابله، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلاً: { وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد } [البروج: 14-16]: هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحياناً تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها:
أولاً: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلاً، والأصل ثابت.
ثانياً: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى } [الأعلى: 1-3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى.
فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.
فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على ان التغاير قد يكون لفظياً غير معنوي مثل قول الشاعر:
فألقى قولها كذباً ومينا
فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، لاتغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي.
واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن.
واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم.
واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمناً ومكاناً، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة.
فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلابد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة.(112/111)
{ وهو بكل شيء عليم(1).............................................................
(1) هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبداً، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه باواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا } [الأنبياء: 22]، وقوله: { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [الحج: 73]، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: { يعلم ما تسرون وما تعلنون } [النحل: 19].
إذاً، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء.
والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
وقوله سبحانه: { وتوكل(1)...........................................................
(1) التوكل: مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه.
وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة.
وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتماداً صادقاً، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به وعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه.(112/112)
فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم } ، حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، { فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها } [التوبة: 25-26].
ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله.
والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، { فاعبده وتوكل عليه } [هود: 123].
ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أولاً: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضاً كاملاً في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حياً أو ميتاً، لأن هذا التفويض لا يصح إلا الله.
ثانياً: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
ثالثاً: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.
على الحي الذي لا يموت } (1) وقوله: { وهو العليم(2) الحكيم(3) } ......................(112/113)
(1) قوله: { على الحي الذي لا يموت } : يقولون: إن الحكم إذا علق بوصف، دل على عليه ذلك الوصف.
لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو؟!
فالجواب: أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات: كما قال تعالى: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } [النحل: 20-21]، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى { وتوكل على العزيز الرحيم } [الشعراء: 217]، لأن العزة أنسب في هذا السياق.
ووجه آخر: أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه.
وقوله { لا يموت } ، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يحلقها فناء.
في هذه الآية من أسماء الله: الحي، وفيها من صفاته: الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم.
(2) سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء.
(3) { الحكيم } هذه المادة (ح ك م): تدل على حكم وإحكام، فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذاً: يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه. ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة:
فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي:
فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين.
وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها.
دليل الحكم الشرعي: قوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } [الممتحنة: 10].(112/114)
ودليل الحكم الكوني: قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } [يوسف: 80].
وأما قوله تعالى: { أليس الله بأحكم الحاكمين } ، فشامل للكوني والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضاً محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة.
لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة مالا نعلمه، لأن الله تعالى يقول: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } .
ثم الحكمة نوعان:
الأول: حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها، كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالباً لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم.
النوع الثاني: حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة.
فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس المصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [الروم: 41]، ففيها رد لقول من يقول: إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته.
وفي هذه الآية من أسماء الله: العليم، والحكيم. ومن صفاته: العلم والحكمة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره.
وقوله: { وهو العليم(1) الخبير(2) } ...................................................
(1) العليم: سبق الكلام فيه.(112/115)
(2) الخبير: هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفاً أخص بعد وصف أعم، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكوراً مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر.
وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلاً: { نزل الملائكة والروح فيها } [القدر: 4]: الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول: الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفاً له ويكون النص عليه مرتين: مرة بالعموم، ومرة بالخصوص.
وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى: العليم، والخبير ومن صفاته: العلم، والخبرة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفاً من الله وخشية، سراً وعلناً.
{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } [سبأ: 2].
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [الأنعام: 59].
وقوله: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [فاطر: 11].
وقوله: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } [الطلاق: 12]"(1)...........................................................................
(1) هذه الآيات في تفصيل صفة العلم:
الآية الأولى: قوله: { يعلم ما يلح في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } [سبأ: 2]:
هذه تفصيل لما سبق من عموم علمه تعالى.
{ ما } : اسم موصول يفيد العموم، كل ما يلج في الأرض مثل المطر والحب يبذر في الأرض والموتى والدود والنمل وغيره { وما يخرج منها } ، كالماء والزروع.. وما أشبه ذلك { وما ينزل من السماء } ، مثل المطر والوحي والملائكة وأمر الله عز وجل، { وما يعرج فيها } ، كالأعمال الصالحة والملائكة والأرواح والدعاء.(112/116)
وهنا قال { وما يعرج فيها } ، فعدى الفعل بـ(في) وفي سورة المعارج قال: { تعرج الملائكة والروح إليه } [المعارج: 4]، فعداه بـ إلى، وهذا هو الأصل، فما وجه ونه عدى بـ (في) في قوله: { يعرج فيها } ؟
فالجواب: اختلف نحاة البصرة والكوفة في مثل هذا، فقال نحاة البصرة: إن الفعل يضمن معنى يتلائم مع الحرف، وقال نحاة الكوفة: بل الحرف يضمن معنى يتلائم مع الفعل.
فعلى الرأي الأول: يكون قوله: { يعرج فيها } : مضمناً معنى (يدخل)، فيصير المعنى: وما يعرج فيدخل فيها، وعليه يكون في الآية دلالة على أمرين: على عروج ودخول.
أما على الرأي الثاني، فنقول: (في) بمعنى (إلى) ويكون هذا من باب التناوب بين الحروف.
لكن على هذا القول لا تجد أن في الآية معنى جديداً وليس فيها إلا اختلاف لفظ (إلى) لفظ (في) ولهذا كان القول الأول أصح وهو أن تضمن الفعل معنى يتناسب مع الحرف.
ولهذا نظير في اللغة العربية، قال الله تعالى: { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً } [الإنسان: 6]، والعين يشرب منها والذي يشرب به الإناء، فعلى رأي أهل الكوفة نقول: { يشرب بها } الباء بمعنى (من)، أي: منها، وعى رأي أهل البصرة يضمن الفعل { يشرب } معنى يتلائم مع حرف الباء والذي يتلائم معها يروى ومعلوم أنه لا ري إلا بعد شرب، فيكون هذا الفعل ضمن معنى غايته وهو الري.
وكذلك نقول في { وما يعرج فيها } : لا دخول في السماء إلا بعد العروج إليها، فيكون الفعل ضمن معنى الغاية.
ففي الآية ذكر الله عز وجل عموم علمه في كل شيء بنوع من التفصيل، ثم فصل في آية أخرى تفصيلاً آخر:
الآية الثانية: قوله: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلى في كتاب مبين } [الأنعام: 59].
{ عنده } : أي: عند الله وهو خبر مقدم { مفاتح } مبتدأ مؤخر.(112/117)
ويفيد هذا التركيب الحصر والاختصاص، عنده لا عند غيره مفاتح الغيب وأكد هذا الحصر بقوله: { لا يعلمها إلا هو } ، ففي الجملة حصر بأن علم هذه المفاتح عند الله بطريقتين: إحداهما: بطريقة التقديم والتأخير والثانية: طريقة النفي والإثبات.
كلمة { مفاتح } ، قيل: أنه جمع مفتح، بكسر الميم وفتح التاء: المفتاح، أو أنها جمع مفتاح لكن حذفت منها الياء وهو قليل، ونحن نعرف أن المفتاح ما يفتح به الباب وقيل: جميع مفتح، بفتح الميم والكسر التاء وهي الخزائن، فـ { مفاتح الغيب } خزانته، وقيل: { مفاتح الغيب } ، أي: مبادئه، لأن مفتح كل شيء يكون في أوله، فيكون على هذا: { مفاتح الغيب } ، أي: مبادئ الغيب، فإن هذه المذكورات مبادئ لما بعدها.
{ الغيب } : مصدر غاب يغيب غيباً، والمراد بالغيب: ماكان غائباً والغيب أمر نسب، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله.
هذه المفاتح سواء قلنا إن المفاتح: هي المبادئ، أو: هي الخزائن، أو: المفاتيح، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يعلمها ملك، ولا يعلمها رسول، حتى إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل ـ سأل أشرف الرسل ابشري ـ وهو محمد عليه الصلاة والسلام ـ قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"(1)، والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضاً. فمن ادعى علم الساعة، فهو كاذب كافر، ومن صدقه، فهو أيضاً كافر، لأنه مكذب للقرآن.
وهذه المفاتح؟ فسرها أعلم الخلق بكلام الله محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } [لقمان: 34](2)، فهي خمسة أمور:
الأول علم الساعة: فعلم الساعة مبدأ مفتاح لحياة الآخرة، وسميت الساعة بهذا، لأنها ساعة عظيمة، يهدد بها جميع الناس، وهي الحاقة والواقعة، والساعة علمها عند الله لا يدري أحد متى تقوم إلا الله عز وجل.(112/118)
الثاني: تنزيل الغيث: لقوله: { وينزل الغيث } : { الغيث } : مصدر ومعناه: إزالة الشدة والمراد به المطر، لأنه بالمطر نزول شدة القحط والجدب وإذا كان هو الذي ينزل الغيث، كان هو الذي يعلم وقت نزوله.
والمطر نزوله مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد.
وهنا نقطة: قال: { وينزل الغيث } ، ولم يقل: وينزل المطر، لأن المطر أحياناً ينزل ولا يكون فيه نبات، فلا يكون غيثاً، ولا تحيا به الأرض، ولهذا ثبت في "صحيح مسلم": "ليست السنة إلا تمطروا، إنما السنة أ، تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً"(3)، والسنة القحط.
الثالث: علم ما في الأرحام: لقوله: { ويعلم ما في الأرحام } ، أي: أرحام الإناث، فهو عز وجل يعلم ما في الأرحام، أي: ما في بطون الأمهات من بني آدم وغيرهم، ومتعلق العلم عام بكل شيء، فلا يعلم ما في الأرحام إلا من خلقها عز وجل.
فإن قلت: يقال الآن: إنهم صاروا يعلمون الذكر من الأنثى في الرحم، فهل هذا صحيح؟
نقول: إن هذا الأمر وقع ولا يمكن إنكاره، لكنهم لا يعلمون ذلك إلا بعد تكوين الجنين وظهور ذكورته أو أنوثته، وللجنين أحوال أخرى لا يعلمونها، فلا يعلمون متى ينزل، ولا يعلمون إذا نزل إلى متى يبقى حياً ولا يعلمون هل يكون شقياً أو سعيداً، ولا يعلمون هل يكون غنياً أم فقيراً.. إلى غير ذلك من أحواله المجهولة.
إذاً أكثر متعلقات العلم فيما يتعلق بالأجنة مجهول للخلق، فصدق العموم في قوله: { ويعلم ما في الأرحام } .
الرابع: علم ما في الغد: وهو ما بعد يومك: لقوله: { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } وهذا مفتاح الكسب في المستقبل، وإذا كان الإنسان لا يعلم ما يكسب لنفسه، فعدم علمه بما يكسبه غيره أولى.
لكن لو قال قائل: أنا أعلم ما في الغد، سأذهب إلى المكان الفلاني، أو أقرأ، أو أزور أقاربي فنقول: قد يجز بأنه سيعمل ولكن يحول بينه وبين العمل مانع.(112/119)
الخامس: علم مكان الموت: لقوله: { وما تدري نفس بأي أرض تموت } ، ما يدري أي أحد هل يموت في أرضه أو في أرض أخرى؟ في أرض إسلامية أو أرض كافر أهلها؟ ولا يدري هل يموت في البر أو في البحر أو في الجو؟ وهذا شيء مشاهد.
ولا يدري بأي ساعة يموت، لأنه إذا كان لا يمكنه أن يدري بأي أرض يموت وهو قد يتحكم في المكان، فكذلك لا يدري بأي زمن وساعة يموت.
فهذه الخمسة هل مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وسميت مفاتح الغيب، لأن علم ما في الأرحام مفتاح للحياة الدنيا، { ماذا تكسب غداً } مفتاح للعمل المستقبل { وما تدري نفس بأي أرض تموت } مفتاح لحياة الآخرة، لأن الإنسان إذا مات، دخل عالم الآخرة، وسبق بيان علم الساعة وتنزيل الغيث، فتبين أن هذه المفاتح كلها مبادئ لكل ما وراءها، { إن الله عليم خبير } .
ثم قال عز وجل: { ويعلم ما في البر والبحر } [الأنعام: 59]: هذا إجمال، فمن يحصي أجناس ما في البر؟ كم فيها من عالم الحيوان والحشرات والجبال والأشجار والأنهار أمور لا يعلمها إلا الله عز وجل والبحر كذلك فيه من العوالم مالا يعلمه إلا خالقه عز وجل، يقولون: إن البحر يزيد على البر ثلاثة أضعاف من الأجناس، لأن البحر أكثر من اليابس.
قال { وما تسقط من ورقة إلى يعلمها } :
هذا تفصيل، فأي ورقة في أي شجرة صغيرة أو كبيرة قريبة أو بعيدة تسقط، فالله تعالى يعلمها، ولهذا جاءت { ما تسقط } النافية و { من } الزائدة، ليكون ذلك نصاً في العموم، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى، لأن عالم ما يسقط عالم بما يخلق عز وجل.
انظر إلى سعة علم الله تعالى كل شيء يكون، فهو عالم به، حتى الذي لم يحص وسيحصل، فهو تعالى عالم به.
قال: { ولا حبة في ظلمات الأرض } : حبة صغيرة لا يدركها الطرف في ظلمات الأرض يعلمها عز وجل.(112/120)
{ ظلمات } : جمع ظلمة ولنفرض أن حبة صغيرة غائصة في قاع البحر، في ليلة مظلمة مطيرة، فالظلمات: أولاً: طين البحر. ثانياً: ماء البحر. ثالثاً: المطر. رابعاً: السحاب. خامساً: الليل، فهذه خمس ظلمات من ظلمات الأرض ومع ذلك هذه الحبة يعلمها الله سبحانه وتعالى ويبصرها عز وجل.
قال: { ولا رطب ولا يابس } : هذا عام، فما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس.
{ إلا في كتاب مبين } : { كتاب } ، بمعنى مكتوب. { مبين } أي: مظهر وبين، لأن (أبان) تستعمل متعدياً ولازماً فيقال: أبان الفجر، بمعنى ظهر الفجر ويقال: أبان الحق بمعنى أظهره والمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ.
كل هذه الأشياء معلومة عند الله سبحانه وتعالى ومكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، لأن الله تعالى "لما خلق القلم، قال له: اكتب قال القلم: ماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"(1)، فكتب في تلك اللحظة ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم جعل سبحانه في أيدي الملائكة كتباً تكتب ما يعمله الإنسان، لأن الذي في اللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كان يريد الإنسان أن يفعل، والكتاب التي تكتبها الملائكة هي التي يجزى عليها الإنسان ولهذا يقول الله عز وجل: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [محمد: 31]، أما علمه بأن عبده فلاناً سيصبر أو لا يصبر، فهذا سابق من قبل، لكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب.
الآية الثالثة: قوله: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [فاطر: 11].
{ ما } : نافية.
{ أنثى } فاعل { تحمل } لكنه معرب بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وهنا إشكال: كيف تقول زائد وليس في القرآن زائد؟
فالجواب: أنه زائد من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فهو مفيد وليس في القرآن شيء زائد لا فائدة منه، ولهذا نقول: هو زائد، زائد بمعنى أنه لا يخل بالإعراب إذا حذف، زائد من حيث المعنى يزيد فيه.(112/121)
وقوله: { من أنثى } : يشمل أي أنثى، سواء آدمية أو حيوانية أخرى الذي يحمل حيواناً واضح أنه داخل في الآية، كبقرة، وبعير، وشاة.. وما أشبه ذلك، ويدخل في ذلك الذي يحمل البيض، كالطيور، لأن البيض في جوف الطائر حمل.
{ ولا تضع إلا بعلمه } ، فابتداء الحمل بعلم الله، وانتهاؤه وخروج الجنين بعلم الله عز وجل.
الآية الرابعة: قوله: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } [الطلاق: 12].
{ لتعلموا } : اللام للتعليل، لأن الله قال: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير } [الطلاق: 12]، فقد خلق هذه السماوات السبع والأرضين السبع، وأعلمنا بذلك، لنعلم { أن الله على كل شيء قدير } .
القدرة وصف يتمكن به الفاعل من الفعل بدون عجز، فهو على كل شيء قدير، يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل وأوجدها على هذا النظام البديع.
{ وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } : كل شيء، الصغير والكبير، والمتعلق بفعله أو بفعل عباده والماضي واللاحق والحاضر، كل ذلك قد أحاط الله سبحانه به علماً.
وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق، لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة، ودلالة الخلق على العلم والقدرة من باب دلالة التلازم وقد سبق أن دلالات الأسماء على الصفات ثلاثة أنواع.
تنبيه: ذكر في "تفسير الجلالين" ـ عفا الله عنا وعنه ـ في آخر سورة المائدة ما نصه "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"!
ونحن نناقش هذا الكلام من وجهين:(112/122)
الوجه الأول: أنه لا حكم للعقل فيما يتعلق بذات الله وصفاته، بل لا حكم له في جميع الأمور الغيبية، ووظيفة العقل فيها التسليم التام، وأن نعلم أن ما ذكره الله من هذه الأمور ليس محالاً، ولهذا يقال: إن النصوص لا تأتي بمحال، وإنما تأتي بمحار، أي: بما يحير العقول، لأنها تسمع ما لا تدركه ولا تتصوره.
والوجه الثاني: قوله: "فليس عليها بقادر": هذا خطأ عظيم، كيف لا يقدر على نفسه وهو قادر على غيره، فكلامه هذا يستلزم أنه لا يقدر أن يستوى ولا أن يتكلم ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يفعل شيئاً أبداً وهذا خطير جداً!!
لكن لو قال قائل: لعله يريد: "خص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"، يعني: لا يقدر عل أن يلحق نفسه نقصاً قلنا: إن هذا لم يدخل في العموم حتى يحتاج إلى إخراج وتخصيص، لأن القدرة إنما تتعلق بالأشياء الممكنة، لأن غير الممكن ليس بشيء، لا في الخارج ولا في الذهن" فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل، بخلاف العلم.
فينبغي للإنسان أن يتأدب فيما يتعلق بجانب الربوبية، لأن المقام مقام عظيم، والواجب على المرء نحوه أن يستسلم ويسلم.
إذاً، نحن نطلق ما أطلقه الله، ونقول إن الله على كل شيء قدير، بدون استثناء.
وفي هذه الآيات من صفات الله تعالى: إثبات عموم علم الله على وجه التفصيل، وإثبات عموم قدرة الله تعالى.
والفائدة المسلكية من الإيمان بالعلم والقدرة: قوة مراقبة الله والخوف منه.
وقوله: { إن الله هو الرزاق (1)......................................................
(1) في هذه الآية إثبات صفة القوة لله عز وجل.
جاءت هذه الآية بعد قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون } [الذاريات: 56-57]، فالناس يحتاجون إلى رزق الله، أما الله تعالى، فإنه لا يريد منهم رزقاً ولا أن يطعموه.(112/123)
* { الرازق } : صيغة مبالغة من الرزق، وهو العطاء، قال تعالى { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فأرزقوهم منه } [النساء: 8]، أي: أعطوهم، والإنسان يسأل الله تعالى في صلاته، ويقول: اللهم ارزقني.
وينقسم إلى قسمين: عام وخاص.
فالعالم: كل ما ينتفع به البدن، سواء كان حلالاً أو حراماً، وسواء كان المرزوق مسلماً أو كافراً، ولهذا قال السفاريني:
والرزق ما ينفع من حلال أو ضده فحل عن المحال
لأنه رازق كل الخلق وليس مخلوق بغير رزق
لأنك لو قلت: إن الرزق هو العطاء الحلال. لكان كل الذين يأكلون الحرام، لم يرزقوا، مع أن الله أعطاهم ما تصلح به أبدانهم، لكن الرزق نوعان: طيب وخبيث، ولهذا قال الله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [الأعراف: 32]، ولم يقل: والرزق، أما الخبائث من الرزق، فهي حرام.
أما الرزق الخاص، فهو ما يقوم به الدين من العلم النافع والعمل الصالح والرزق الحلال المعين على طاعة الله، ولهذا جاءت الآية الكريمة: { الرزاق } ولم يقل: الرازق، لكثره رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن آحاده، لأن الله تعالى يقول: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } [هود: 6]، ويعطي الله الرزق بحسب الحال.
ولكن إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى لطلب الرزق: أو أبق في بيتي ويأتيني الرزق؟
فالجواب نقول: اسع لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة.
أما قول الشاعر:
جنون من أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
فهذا القول باطل. وإما استشهاده بالجنين، فالجواب: أن يقال الجنين لا يمكن أن يوجه إليه طلب الرزق، لأنه غير قادر، بخلاف القادر.(112/124)
ولهذا قال الله تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [الملك: 15]، فلابد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع.
ذو القوة(1) المتين(2)................................................................
(1) القوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بدون ضعف، والدليل على قوله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة } [الروم: 54]، وليست القوة هي القدرة، لقوله تعالى: { وما كان الله ليعجزه من شيء من السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً } [فاطر: 44]، فالقدر يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانياً: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر، وتقول: الحديد قوي، ولا تقول: قادر، لكن ذو الشعور تقول: إنه قوي، وإنه قادر.
ولما قالت عاد: { من أشد منا قوة } قال الله تعالى: { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [فصلت: 15].
(2) المتين قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشديد. أي الشديد في قوته، والشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي.
ويجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين، لأن الله سمى نفسه بذلك.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق، والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي الرزق، والقوة، وما تضمنه اسم المتين.
والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق، أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى.
وقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1)..................................(112/125)
(1) هذه الآية ساقها المؤلف إثبات اسمين من أسماء الله وما تضمناه من صفة، وهما السميع والبصير، ففيها رد على المعطلة.
* قوله: { ليس كمثله شيء } : هذا نفي، فهو من الصفات السلبية، والمقصود به إثبات كماله، يعني لكماله لا يماثله شيء من مخلوقاته، وفي هذه الجملة رد على أهل التمثيل.
* قوله: { وهو السميع البصير } : { السميع } له معنيان أحدهما: بمعنى المجيب. والثاني: بمعنى السامع للصوت.
أما السميع بمعنى المجيب، فمثلوا له بقوله تعالى عن إبراهيم: { إن ربي لسميع الدعاء } [إبراهيم: 39]، أي: لمجيب الدعاء.
وأما السميع بمعنى إدراك الصوت، فإنهم قسموه إلى عدة أقسام:
الأول: سمع يراد به بيان عموم إدراك سمع الله عز وجل، وأنه ما من صوت إلا ويسمعه الله.
الثاني: سمع يراد به النصر والتأييد.
الثالث: سمع يراد به الوعيد والتهديد.
مثال الأول: قوله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } [المجادلة: 1]، فهذا فيه بيان إحاطة سمع الله تعالى بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لفي الحجرة، وإن حديثها ليخفى على بعضه"(1).
ومثال الثاني: كما في قوله تعالى لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى } [طه: 46].
ومثال الثالث: الذي يراد به التهديد والوعيد: قوله تعالى: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [الزخرف: 80]، فإن هذا يراد به تهديدهم ووعيدهم، حيث كانوا يسرون ما لا يرضى من القول.
والسمع بمعنى إدراك المسموع من الصفات الذاتية، وإن كان المسموع قد يكون حادثاً.
والسمع بمعنى النصر والتأييد من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب.
والسمع بمعنى الإجابة من الصفات الفعلية أيضاً.(112/126)
* وقوله: { البصير } ، يعني: المدرك لجميع المبصرات، ويطلق البصير بمعنى العليم، فالله سبحانه وتعالى بصير، يرى كل شيء وإن خفي، وهو سبحانه بصير بمعنى: عليم بأفعال عباده، قال تعالى: { والله بصير بما تعملون } [الحجرات: 18]، والذي نعمل بعضه مرئي وبعضه غير مرئي، فبصر الله إذاً ينقسم إلى قسمين، وكله داخل في قوله: { البصير } .
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: السميع، والبصير. وثلاث صفات، هي: كمال صفاته من نفي المماثلة، والسمع، والبصر.
وفيها من الفوائد المسلكية: الكف عن محاولة تمثيل الله بخلقه، واستشعار عظمته وكماله، والحذر من أن يراك على معصيته أو يسمع منك مالا يرضاه.
واعلم أن النحاة خاضوا خوضاً كثيراً في قوله: { كمثله } ، حيث قالوا: الكاف داخلة على (المثل)، وظاهره أن لله مثلاً ليس له مثل، لأنه لم يقل: ليس كهو، بل قال: { ليس كمثله } ، فهذا ظاهرها من حيث المعنى، لكان ظاهر القرآن كفراً، وهذا مستحيل، ولهذا اختلفت عبارات النحويين في تخريج هذه الآية على أقوال:
القول الأول: الكاف زائدة، وأن تقدير الكلام: ليس مثله شيء، وهذا القول مريح، وزيادة الحروف في النفي كثيرة، كما في قوله: تعالى { وما تحمل من أنثى } [فاطر: 11]، فيقولون: إن زيادة الحروف في اللغة العربية للتوكيد أمر مطرد.
والقول الثاني: قالوا العكس، قالوا: إن الزائد (مثل)، ويكون التقدير: ليس كهو شيء، لكن هذا ضعيف، يضعفه أن الزيادة في الأسماء في اللغة العربية قليلة جداً أو نادرة، بخلاف الحروف، فإذا كنا لا بد أن نقول بالزيادة، فليكن الزائد الحرف، وهي الكاف.
والقول الثالث: أن (مثل) بمعنى: صفة، والمعنى: "ليس كصفته شيء"، وقالوا: إن المثل والشبه والشبه في اللغة العربية بمعنى واحد، وقد قال الله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون } [محمد: 15]، أي: صفة الجنة، وهذا ليس ببعيد من الصواب.(112/127)
القول الرابع: أنه ليس في الآية زيادة، لكن إذا قلت: { ليس كمثله شيء } ، لزم من ذلك نفي المثل، وإذا كان ليس للمثل مثل، صار الموجود واحداً، وعلى هذا، فلا حاجة إلى ان نقدر شيئاً. قالوا: وهذا قد وجد في اللغة العربية، مثل قوله: ليس كمثل الفتى زهير.
والحقيقة أن هذه البحوث لو لم تعرض لكم، لكان معنى الآية واضحاً، ومعناها أن الله ليس له مثيل، لكن هذا وجد في الكتب، والراجح: أن نقول، إن الكاف زائدة لكن المعنى الأخير لمن تمكن من تصوره أجود.
وقوله: { إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سمعياً بصيراً } (1)........................
(1) هذه الآية تكملة لقوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 57]، فأمر عز وجل بأن نؤدي الأمانات إلى أهلها، ومنها الشهادة للإنسان له أو عليه، وأن نحكم إذا حكمنا بين الناس بالعدل، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يأمرنا بالقيام بالواجب في طريق الحكم وفي الحكم نفسه، وطريق الحكم الذي هو الشهادة تدخل في عموم قوله: { أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ، والحكم: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحمكوا بالعدل } ، ثم قال سبحانه: { إن الله نعما يعظكم به } ، أصلها: نعم ما ولكن ادغمت الميم بالميم من باب الإدغام الكبير، لأن الإدغام لا يكون بين جنسين إلا إذا كان الأول ساكناً، وهنا صار الإدغام مع أن الأول مفتوح.
* وقوله: { نعما يعظكم به } : جعل الله سبحانه الأمر بهذين الشيئين ـ أداء الأمانة والحكم بالعدل ـ موعظة، لأنه تصلح به القلوب، وكل ما يصلح القلوب، فهو موعظة، والقيام بهذه الأوامر لا شك أن يصلح القلب.(112/128)
* ثم قال: { إن الله كان سميعاً بصيراً } ، وقوله: { كان } : هذه فعل، لكنها مسلوبة الزمن، فالمراد به الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالتها الزمانية، فالمراد بها الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالاتها الزمانية، لكان هذا الوصف قد انتهى، كان في الأول سميعاً بصيراً، أما الآن فليس كذلك، ومعلوم أن هذا المعنى فاسد باطل، وإنما المارد أنه متصف بهذين الوصفين السمع والبصر على الدوام، و(كان) في مثل هذا السياق يراد به التحقيق.
* قوله: { سميعاً بصيراً } : نقول فيها كما قلنا في الآية التي قبلها: فيها إثبات السمع لله بقسميه، وإثبات البصر بقسميه.
قرأ أبو هريرة هذه الآية، وقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضع إبهامه وسبابته على عينه وأذنه(1). والمراد بهذا الوضع تحقيق السمع والبصر، لا إثبات العين والأذن، فإن ثبوت العين جاءت في أدلة أخرى، والأذن عند أهل السنة والجماعة لا تثبت لله ولا تنفى عنه لعدم ورود السمع بذلك.
فإن قلت: هل ليل أن أفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
فالجواب: من العلماء من قال: نعم، افعل كما فعل الرسول، لست أهدى للخلق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولست أشد تحرزاً من أن يضاف إلى الله ما لا يليق من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومنهم من قال: لا حاجة إلى أن تفعل ما دمنا نعلم أن المقصود هو التحقيق فهذه الإشارة إذاً غير مقصودة بنفسها، إنما هي مقصودة لغيرها، وحينئذ، لا حاجة إلى أن تشير، لا سيما إذا كان يخشي من هذه الإشارة توهم الإنسان التمثيل، كما لو كان أمامك عامة من الخلق لا يفهمون الشيء على ما ينبغي، فهذا ينبغي التحرز منه، ولكل مقام مقال.(112/129)
وكذلك ما ورد في حديث ابن عمر كيف يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأخد الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله"، ويقبض أصابعه ويبسطها(1). فيقال فيه ما قيل في حديث أبي هريرة.
والفائدة المسلكية من الإيمان بصفتي السمع والبصر: أن نحذر مخالفة الله في أقوالنا وأفعالنا.
وفي الآية من أسماء الله إثبات اسمين هما: السميع، والبصير. ومن الصفات: إثبات السمع، والبصر، والأمر، والموعظة.
وقوله: { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } (1)...................
(1) هذه آيات في إثبات صفتي المشيئة والإرادة:
فالآية الأولى: قوله تعالى: { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } [الكهف: 39].
* { ولولا } : بمعنى: هلا، فهي للتحضيض، والمراد بها هنا التوبيخ، بمعنى أنه يوبخه على ترك هذا القول.
* { إذ دخلت } : حين دخلت.
· · { جنتك } : الجنة، بفتح الجيم هي البستان الكثير الأشجار، سميت بذلك لأن من فيها مستتر بأشجارها وغصونها، فهو مستجن فيها، وهذه المادة (الجيم والنون) تدل على الاستتار، ومنه: الجنة ـ بضم الجيم ـ التي يتترس بها الإنسان عند القتال، ومنها: الجنة ـ بكسر الجيم ـ، يعني، الجن، لأنهم مستترون.
* وقوله: { جنتك } : هذه مفرد، والمعلوم من الآيات أن له جنتين، فما هو الجواب حيث كانت هنا مفردة مع أنهما جنتان؟
الجواب: أن يقال: إن المفرد إذا أضيف يعم فيشمل الجنتين. أو أن هذا القائل أراد أن يقلل من قيمة الجنتين، لأن المقام مقام وعظ وعدم إعجاب بما رزقه الله، كأنه يقول: هاتان الجنتان جنة واحدة، تقليلاً لشأنهما، والوجه الأول أقرب إلى قواعد اللغة العربية { قلت } : جواب { لولا } .(112/130)
* وقوله: { ما شاء الله لا قوة إلى بالله } : { ما } : يحتمل أن تكون موصولة، ويحتمل أن تكون شرطية: فإن جعلتها موصولة، فهي خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا ما شاء الله، أي: ليس هذا بإرادتي وحولي وقوتي، ولكنه بمشيئة الله، أي: هذا الذي شاءه الله. وإن جعلتها شرطية، ففعل الشرط { شاء } ، وجوابه محذوف، والتقدير: ما شاء الله كان، كما نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والمراد: كان ينبغي لك أن تقول حين دخلت جنتك: { ما شاء الله } ، لتتبرأ من حولك وقوتك لا تعجب بجنتك.
* وقوله: { لا قوة إلا بالله } : { لا } : نافية للجنس. و { قوة } : نكرة في سياق النفي، فتعم، والقوة صفة يتمكن بها الفاعل من فعل ما يريد بدون ضعف.
فإن قيل: ما الجمع بين عموم نفي القوة إلا باله، وبين قوله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعض ضعف قوة } [الروم: 54]، وقال عن عاد: { وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [فصلت: 15]، ولم يقل: لا قوة فيهم، فأثبت للإنسان قوة.
فالجواب: أن الجمع بأحد الوجهين:
الأول: أن القوة التي في المخلوق كانت من الله عز وجل، فلولا أن الله أعطاه القوة، لم يكون قوياً، فالقوة التي عند الإنسان مخلوقة لله، فلا قوة في الحقيقة إلا بالله.
الثاني: أن المراد بقوله: { لا قوة } ، أي: لا قوة كاملة إلا بالله عز وجل.
وعلى كل حال، فهذا الرجل الصالح أرشد صاحبه أن يتبرأ من حوله وقوته، ويقول: هذا بمشيئة الله وبقوة الله.
في هذه الآية: إثبات اسم من أسماء الله، وهو: الله، وإثبات ثلاث صفات: الألوهية، والقوة، والمشيئة.
ومشيئة الله: هي إرادته الكونية، وهي نافذة فيما يحبه وما لا يحبه، ونافذة على جميع العباد بدون تفصيل، ولابد من وجود ما شاءه بكل حال، فكل ما شاء الله وقع ولا بد، سواء كان فيما يحبه ويرضاه أم لا.(112/131)
وقوله: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (1)..........................
(1) الآية الثانية: قوله: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } [البقرة: 253]:
{ لو } : حرف امتناع لامتناع، وإذا كان جوابه منفياً بـ(ما)، فإن الأفصح حذف اللام، وإذا كان مثبتاً، فالأكثر ثبوت اللام، كما قال تعالى: { لو نشاء لجعلناه حطاما } [الواقعة: 65]. فنقول: الأكثر، ولا نقول: الأفصح، لأنه ورد إثبات اللام وحذفها في القرآن الكريم: { لو نشاء جعلناه أجاجا } [الواقعة: 70]. وقولنا: إن الأفصح حذف اللام في المنفي، لأن اللام تفيد التوكيد، والنفي ينافي التوكيد، ولهذا كان قول الشاعر:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لا خيار مع الليالي
خلاف الأفصح، والأفصح: لو نعطى الخيار ما افترقنا
* قوله: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } : الضمير يعود على المؤمنين والكافرين، لقوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا } [البقرة: 253].
وفي هذا رد واضح على القدرية الذي ينكرون تعلق فعل العبد بمشيئة الله، لأن الله قال: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ، يعني: ولكنه شاء أن يقتتلوا فاقتتلوا. ثم قال: { ولكن الله يفعل ما يريد } ، أي: يفعل الذي يريده، والإرادة هنا إرادة كونية.
* وقوله: { يفعل ما يريد } : الفعل باعتبار ما يفعله سبحانه وتعالى بنفسه فعل مباشر. وباعتبار ما يقدره على العباد فعل غير مباشر، لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا صام وصلى وزكى وحج وجاهد، فالفاعل الإنسان بلا شك، ومعلوم أن فعله هذا بإرادة الله.
ولا يصح أن ينسب فعل العبد إلى الله على سبيل المباشرة، لأن المباشر للفعل والإنسان، ولكن يصح أن ينسب إلى الله على سبيل التقدير والخلق.(112/132)
أما ما يفعله الله بنفسه، كاستواءه على عرشه، وكلامه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وضحكه... وما أشبه ذلك، فهذا ينسب إلى الله تعالى فعلاً مباشرة.
في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: المشيئة، والفعل، والإرادة.
وقوله: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنت حرم إن الله يحكم ما يريد(1).........................................................................
(1) الآية الثالثة: قوله: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا منا يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } [المائدة: 1].
* { أحلت لكم } : المحل هو الله عز وجل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام يحل ويحرم، لكن بإذن من الله عز وجل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان"(1)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "إن الله يحرم عليكم"، كذا يخبر أنه حرم، وربما يحرم تحريماً يضفيه إلى نفسه، لكنه بإذن الله.
* { بهيمة الانعام } : هي الإبل والبقر والغنم، والأنعام جمع نعم، كأسباب جمع سبب.
* { إلا ما يتلى } : إلا الذي يتلى عليكم في هذه السورة، وهي المذكورة في قوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } [المائدة، 3]، فالاستثناء هنا فيه منقطع وفيه متصل، فبالنسبة للميتة من بهيمة الأنعام متصل، وبالنسبة للحم الخنزير منقطع، لأنه ليس من بهيمة الأنعام.
* وقوله: { غير محلي الصيد وأنت حرم } : { غير } : حال من الكاف في { لكم } ، يعني: حال كونكم لا تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا الاستثناء منقطع أيضاً، لأن الصيد ليس من بهيمة الأنعام.
وقوله: { غير محلي الصيد } ، يعني: قاتليه في الإحرام، لأن الذي يفعل الشيء يصير كالمحل له، و { الصيد } : هو الحيوان البري المتوحش المأكول، هذا هو الصيد الذي حرم في الإحرام.(112/133)
* وقوله: { إن الله يحكم ما يريد } : هذه الإرادة شرعية، لأن المقام مقام تشريع، ويجوز أن تكون إرادة شرعية كونية، ونحمل الحكم على الحكم الكوني والشرعي، فما أراده كوناً، حكم به وأوقعه، وما أراده شرعاً، حكم به وشرعه لعباده.
في هذه الآية من الأسماء: الله. والمن الصفات: التحليل، والحكم، والإرادة.
وقوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } (1)...........................................................
(1) الآية الرابعة: قوله { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } [الأنعام: 125].
* قوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } : المراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية، والمراد بالهداية هداية التوفيق، فتجده منشرح الصدر في شرائع الإسلام وشعائره، يفعلها بفرح وسرور وانطلاق.
فإذا عرف من نفسك هذا، فاعلم أن الله أراد بك خيراً وأراد لك هداية، أما من ضاق به ذرعاً والعياذ بالله فإن هذا علامة على الله لم يرد له هداية، وإلا لا نشرح صدره.
ولهذا تجدون الصلاة التي هي أثقل ما يكون على المنافقين قرة عيون المخلصين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبب إلى ما دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"(1)، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس إيماناً، فانشرح صدره بالصلاة وصارت قرة عينه.
فإذا قيل للشخص: إنه يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المسجد، فانشرح صدره، وقال الحمد لله الذي شرع لي ذلك، ولولا أن الله شرعه، لكان بدعة، وأقبل إليه، ورضي به، فهذا علامة على أن الله أراد أن يهديه وأراد به خيراً.(112/134)
* قال: { يشرح صدره للإسلام } : { يشرح صدره } : بمعنى يوسع، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله إلى فرعون: { رب اشرح لي صدري } [طه: 25]، يعني: وسع لي صدري في مناجاة هذا الرجل ودعوته، لأن فرعون كان جباراً عنيداً.
وقوله: { للإسلام } : هذا عام لأصل الإسلام وفروعه وواجباته، وكلما كان الإنسان بالإسلام وشرائعه أشرح صدراً، كان أدل على إرادة الله به الهداية.
* وقوله: { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حجراً كأنما يصعد في السماء } : من يرد أن يضله: { كأنما يصعد في السماء } ، يعني: كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء، ولهذا جاءت الآية: { يصعد } ، بالتشديد، ولم يقل: يصعد، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم.
ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلاً رفيعاً وصعباً، فإذا قام يصعد هذا الجبل، سوف يتكلف، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب، لأنه يجد من هذا ضيقاً.
وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن، يقولون: إن الذي يصعد في السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه، كثر عليه الضغط، وصار أشد حرجاً وضيقاً، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء.
ونأخذ من هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله عز وجل.
والإرادة المذكورة هنا إرادة كونية لا غير، لأنه قال: { فمن يرد الله أن يهديه } ، { ومن يرد أن يضله } ، وهذا التقسيم لا يكون إلا في الأمور الكونيات، أما الشرعية، فالله يريد من كل أحد أن يستسلم لشرع الله.
وفيها من السلوك والعبادة أنه يجب على الإنسان أن يتقبل الإسلام كله، أصله وفرعه، وما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد، وأنه يجب عليه أن يشرح صدره لذلك، فإن لم يكن كذلك، فإنه من القسم الثاني الذين أراد الله إضلالهم.(112/135)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين"(1)، والفقه في الدين يقتضي قبول الدين، لأن كل من فقه في دين الله وعرفه، قبله وأحبه.
قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [النساء: 65]، فهذا إقسام مؤكد بـ(لا)، وإقسام بأخص ربوبية من الله عز وجل لعباده ـ وهي ربوبية الله للرسول ـ على نفي الإيمان عمن لم يقم بهذه الأمور:
الأول: تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله: { حتى يحكموك } ، يعني: الرسول: فمن طلب التحاكم إلى غير الله ورسوله، فإنه ليس بمؤمن، فإما كافر كفراً مخرجاً عن الملة، وإما كافر كفراً دون ذلك.
الثاني: انشراح الصدر بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، بل يجدون القبول والانشراح لما قضاه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أن يسلموا تسليماً، وأكد التسليم بمصدر، يعني: تسليماً كاملاً.
فاحذر أيها المسلم أن ينتفي عنك الإيمان.
ولنضرب لهذا مثلاً: تجادل رجلان في حكم مسألة شرعية، فاستدل أحدهما بالسنة، فوجد الثاني في ذلك حرجاً وضيقاً، كيف يريد أن يخرج عن متبوعه إلى ابتاع هذه السنة؟ فهذا الرجل ناقص بلا شك في إيمانه، لأن المؤمن حقاً هو الذي إذا ظفر بالنص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فكأنما ظفر بأكبر غنيمة يفرح بها، ويقول: الحمد لله الذي هداني لهذا. وفلان الذي يتعصب لرأيه ويحاول أن يلوي أعناق النصوص حتى تتجه إلى ما يريده هو لا ما يريده الله ورسوله، فإن هذا على خطر عظيم.
أقسام الإرادة:
الإرادة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية: وهذه الإرادة مرادفة تماماً للمشيئة، فـ(أراد) فيها بمعنى (شاء)، وهذه الإرادة:
أولاً: تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.(112/136)
وعلى هذان فإذا قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ فقل: بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع.
ثانياً: يلزم فيها وقوع المراد، يعني: أن ما أراده الله فلا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.
القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ(أراد) فيها بمعنى (أحب)، فهي:
أولاً: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.
ثانياً: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئاً ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية.
فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين:
1- الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
2- الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه.
فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كوناً ما لا يحبه، بمعنى: كيف يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!
فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية.
ولا مانع من أن يكون الشيء محبوباً مكروها باعتبارين، فها هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط، لقاتله، كل هو يذهب إلى الطبيب ليشقه، وهو ينظر إليه، وهو فرح مسرور، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه، وهو راض بذلك، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك.
ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين:
الأمر الأول: أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل.(112/137)
الأمر الثاني: أن نفعل ما يريده الله شرعاً، فإذا علمت أنه مراد لله شرعاً ومحبوب إليه، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله.
هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية، فالأول باعتبار الإرادة الكونية، والثاني: باعتبار الإرادة الشرعية.(112/138)
مجموع فتاوى ورسائل - 8
شرح الواسطية - القسم الثاني
محمد بن صالح العثيمين
قوله: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } (1)........................................
(1) هذه آيات في إثبات صفة المحبة:
الآية الأولى: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195].
* { وأحسنوا } فعل أمر.
والإحسان قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً مندوباً إليه، فما كان يتوقف عليه أداء الواجب، فهو واجب، وما كان زائداً على ذلك فهو مستحب.
وبناء على ذلك، نقول: { وأحسنوا } : فعل الأمر مستعمل في الواجب والمستحب.
والإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة الخلق، فالإحسان في عبادة الله فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل(1)، فقال: ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه". وهذا أكمل من الذي بعده، لأن الذي يعبد الله كأنه يراه عبادة طلب ورغبة، "فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، أي: فإن لم تصل إلى هذه الحال، فاعلم أنه يراك والذي يعبد الله على هذه المرتبة يعبده عبادة خوف وهرب، لأنه يخاف ممن يراه.
وأما الإحسان بالنسبة لمعاملة الخلق؟ فقيل في تفسيره: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
بذل الندى: أي: المعروف، سواء كان مالياً أو بدنياً أم جاهياً.
كف الأذى: أن لا تؤذي الناس بقولك ولا بفعلك.
وطلاقة الوجه: أن لا تكون عبوساً عند الناس، لكن أحياناً الإنسان يغضب ويعبس، فنقول: هذا لسبب، وقد يكون من الإحسان إذا كان سبباً لصلاح الحال.
ولهذا، إذا رجمن الزاني أو جلدناه، فهو إحسان إليه.
ويدخل في ذلك إحسان المعاملة في البيع، والشراء، والإجارة، والنكاح... وغير ذلك، لأنك إذا عاملتهم بالطيب في هذه الأمور، صبرت على العسر، وأوفيت الحق بسرعة، هذا يعد بذل الندى، فإن اعتديت بالغش والكذب والتزوير، فأنت لم تكف الأذى، لأن هذا أذية. أحسن في عبادة لله وإلى عباد الله.(113/1)
* وقوله: { إن الله يحب المحسنين } : هذا تعليل للأمر، فهذا ثواب المحسن، أن الله يحبهن ومحبة الله مرتبة عالية عظيمة، ووالله إن محبة الله لتشترى بالدنيا كلها، وهي أعلى من أن تحب الله، فكون الله يحبك أعلى من أن تحبه أنت، ولهذا قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، ولم يقل: فاتبعوني، تصدقوا في محبتكم لله. مع أن الحال تقتضي هكذا، ولكن قال: { يحببكم الله } [آل عمران: 31].
ولهذا قال بعض العلماء: الشأن كل الشأن في أن الله يحبك لا أنك تحب الله.
كل يدعي أنه يحب الله، لكن الشأن في الذي في السماء عز وجل، هل يحبك أم لا؟ إذا أحبك الله عز وجل، أحبتك الملائكة في السماء، ثم يوضع لك القبول في الأرض، فيحبك أهل الأرض(2)، ويقبلونك، ويقبلون ما جاء منك وهذه من عاجل بشرى المؤمن.
وفي هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات الألوهية، والمحبة.
{ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } (1).............................................
(1) الآية الثانية: قوله: { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } [الحجرات: 9].
* { وأقسطوا } : فعل أمر، والإقساط ليس هو القسط، بل هو من فعل رباعي، فالهمزة فيه همزة النفي، هذه الهمزة هي همزة النفي، إذا دخلت على الفعل، نفت معناه، فالفعل (قسط)، بمعنى: جار، فإذا أدخلت عليه همزة (أقسط)، صار بمعنى: عدل، أي: أزال القسط، وهو الجور، فيسمون مثل هذه الهمزة همزة السلب، مثل خطئ وأخطأ، خطئ، بمعنى ارتكب الخطأ عن عمد، وأخطأ: ارتكبه عن غير عمد.
* فقوله: { وأقسطوا } ، أي: اعدلوا، وهذا واجب، فالعدل واجب في كل ما تجب فيه التسوية:
يدخل في ذلك العدل في معاملة الله عز وجل، ينعم الله عليك بالنعم، فمن العدل أن تقوم بشكره، يبين الله لك الحق، فمن العدل أن تتبع هذا الحق.(113/2)
ويدخل ف ذلك العدل في معاملات الخلق: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخله الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يجب أن يؤتي إليه } (1).
عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، مثلاً: إذا أردت أن تعامل شخصاً معاملة، فاعرضها أولاً على نفسك: هل إذا عاملك إنسان بها، هل ترضى أم لا؟ إن كنت ترضى، فعامله، وإلا، فلا تدافعه.
ويدخل في ذلك العدل بين الأولاد في العطية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"(2).
ويدخل في ذلك العدل بين الورثة في الميراث، فيعطى كل واحد نصيبه، ولا يوصى لأحد منهم بشيء.
ويدخل في ذلك العدل بين الزوجات، بأن تقسم لكل واحدة مثل ما تقسم للأخرى.
ويدخل في ذلك العدل في نفسك، فلا تكلفها ما لا تطيق من الأعمال، إن لربك عليك حقاً، لنفسك عليك حقاً.
وعلى هذا فقس.
وهنا يجب أن ننبه على أن من الناس من يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يقال: مساواة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين الحكمة تقتضي التفريق بينهما.
ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟! سووا بين الذكور والإناث! حتى إن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد، حتى بين الوالد والوالد، ليس للوالد سلطة على الولد... وهلم جراً.
لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة.
ولهذا، لم يأت في القرآن أبداً: عن الله يأمر بالتسوية! لكن جاء: { إن الله يأمر بالعدل } [النحل: 90]، { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58].(113/3)
وأخطأ على الإسلام من قال: إن دين الإسلام دين المساواة! بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المفترقين، إلا أن يريد بالمساواة: العدل، فيكون أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ.
ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة: { قل هو يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر: 9]، { هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } [الرعد: 16]، { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [الحديد: 10]، { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [النساء: 95].
ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل.
وكلمة (العدل) أيضاً تجدونها مقبوله لدى النفوس.
وأحببت أن أنبه على هذا، لئلا نكون في كلامنا إمعة، لإن بعض الناس يأخذ الكلام على عواهنه، فلا يفكر في مدلوله وفيمن وضعه وفي مغزاه عند من وضعه.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
{ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } (1)..........................
(1) الآية الثالثة: قوله: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } [التوبة: 7].
* { ما } : شرطية، وفعل الشرط: { استقاموا } ، وجوابه: { فاستقيموا } ، أي: مهما استقام لكم المعاهدون الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام بالوفاء بالعهد، فاستقيموا لهم في ذلك.
وهذه الجملة الشرطية تقتضي بمنطوقها، أنهم إذا استقاموا لنا، وجب أن نستقيم لهم، وأن نوفي بعهدهم. وتدل بمفهومها على أنهم إذا لم يستقيموا، لا نستقيم لهم.
والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
قسم استقاموا على عهدهم وأمناهم، فيجب علينا أن نستقيم لهم، لقوله تعالى: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } .(113/4)
وقسم خانوا ونقضوا العهد، فهؤلاء لا عهد لهم، لقوله تعالى: { وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم } [التوبة: 12].
وقسم ثالث يظهرون الاستقامة لنا، لكننا نخاف من خيانتهم، بمعنى أنه توجد قرائن تدل على أنهم يريدون الخيانة، فهؤلاء قال الله فيهم: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58]، أي: انبذ إليهم عهدهم، فقل: لا عهد بيننا وبينكم.
فإذا قال قائل: كيف ينبذ العهد إليهم وهم معاهدون؟!
قلنا: لخوف الخيانة، فهؤلاء لا نأمنهم، لأنه يمكن في يوم من الأيام أن يصبحونا، فهؤلاء ننبذ إليهم على سواء، ولا نخونهم ما دام العهد قائماً، لأنه لو قال المسلمون: نحن نخاف منهم الخيانة، سنبادرهم بالقتال. قلنا: هذا حرام، لا تقاتلوهم حتى تنبذوا إليهم العهد.
* وقوله: { المتقين } : المتقون هم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا من أحسن وأجمع ما يقال في تعريف التقوى.
وفي الآية من الأسماء والصفات كالتي قبلها.
{ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } (1)........................................
(1) الآية الرابعة: قوله: { إن الله يحب التوابين } [البقرة: 222].
* التواب: صيغة مبالغة من التوبة، وهو كثير الرجوع إلى الله، والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته.
وشروطها خمسة:
الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل له على التوبة مخافة الله ورجاء ثوابه.
الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، وعلامة ذلك أن يتمنى أنه لم يقع منه.
الثالث: الإقلاع عن الذنب، بتركه إن كان محرماً، أو تداركه إن كان واجباً يمكن تداركه.
الرابع: العزم على أن لا يعود إليه.(113/5)
الخامس: أن تكون في وقت تقبل فيه التوبة، وهو ما كان قبل حضور الموت وطلوع الشمس من مغربها، فإن كانت بعد حضور الموت أو بعد طلوع الشمس من مغربها، لم تقبل.
فالتواب: كثير التوبة.
ومعلوم أن كثرة التوبة تسلتزم كثرة الذنب، ومن هنا نفهم بأن الإنسان مهما كثر ذنبه، إذا أحدث لكل ذنب توبة، فإن الله تعالى يحبه، والتائب مرة واحدة من ذنب واحد محبوب إلى الله عز وجل من باب أولى، لأن من كثرت ذنوبه وكثرت توبته يحبه الله، فمن قلت ذنوبه، كانت محبة الله له بالتوبة من باب أولى.
* وقوله: { ويحب المتطهرين } : الذين يتطهرون من الأحداث ومن الأنجاس في أبدانهم وما يجب تطهيرة.
وهنا جمع بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن: طهارة الباطن بقوله: { التوابين } ، والظاهر بقوله: { المتطهرين } .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
وقوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1)............................
(1) الآية الخامسة: قوله: { قل إن كنتم تحبو الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31].
يسمى علماء السلف هذه الآية: آية المحنة، يعني الامتحان، لأن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله فأمر الله نبيه أن يقول لهم: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } ، وهذا تحد لكل من ادعى محبة الله، أن يقال له: إن كنت صادقاً في محبة الله، فاتبع الرسول ، فمن أحدث في دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منه، وقال: إنني أحب الله ورسوله بما أحدثته، قلنا له: هذا كذب لو كانت محبتك صادقة، لا تبعت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تتقدم بين يديه بإدخال شيء في شريعته ليس من دينه، فكل من كان أتبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان لله أحب.(113/6)
وإذا أحب الله وقام بعبادته، فإن الله تعلى يحبه، بل إن الله عز وجل يعطيه أكثر مما عمل، يقول تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسهن ذكرته في نفسي"، ونفس الله أعظم من نفوسنا. "ومن ذكرني في ملأ، ذكرته ي ملأ خير منه". وفي الحديث أيضاً: "أن من تقرب إليه شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً، تقرب إليه باعاً، ومن أتى إلى الله يمشي، أتاه الله هرولة"(1) .
إذا فعطاه الله عز وجل وثوابه أكثر من عملك.
وفي الآية من الأسماء والصفات مما سبق في التي قبلها.
وقوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } (1)..................................
(1)* الآية السادسة: قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54].
* الفاء واقعة في جواب الشرط في قوله: { يا أيها الذين ىمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، أي: إذا ارتددتم عن دين الله، فإن ذلك لا يضر الله شيئاً، { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، وهذا كقوله: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38].
* فكل من ارتد عن دين الله، فإن الله لا يعبأ به، لأنه تعالى غني عنه، بل يزيله ويأتي بخير منه، { فسوف يأتي الله بقوم } بدل منهم { يحبهم ويحبونه } ، وإذا كانوا يحبون الله ويحبهم الله فسوف يقومون بطاعته.
* وتمام الآية: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } : أما المؤمنين أذلة، يخفضون أجنحتهم للمؤمنين، ويلينون لهم، ويتطامنون، ومع الكفار أعزة أقوياء، لا يظهرون الذل أمام الكافر أبداً.(113/7)
وقد علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام: "وإذا لقيتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه"(1)، فإذا لاقاكم اليهود والنصاري، ولو كانوا ألفاً وأنتم عشرة، نشق هذا الجمع، ولا نفسح لهم الطريق، بل نلجئهم إلى أضيقه، فنريهم العز بديننا لا بأنفسنا، لأننا نحن بشر وهم بشر، حتى يتبين لهم أن دين الإسلام هو الظاهر، وأن المتمسك به هو العزيز.
* { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } : يجاهدون في سبيل الله، كل من قام ضد دين الله من كافر وفاسق وملحد ومارق يجاهدونه، وكل إنسان يقابلونه من السلام بما يليق به، فمن قاتلهم بالحديد والنار، قاتلوه بالحديد والنار، ومن قاتلهم بالجدال والخصام الكلامي، جادلوه بمثل ذلك، فهم يجاهدون في الله بكل نوع من أنواع الجهاد.
{ ولا يخافون لومة لائم } لا يخافون نقد الناس عليهم، يقولون الحق ولو كان على أنفسهم.
لكنهم يستعملون الحكمة في هذا الجهاد ويرومون الوصول إلى الغاية، فإذا رأوا أن الدعوة تستوجب التأخر في بعض الأمور، تأخروا، وإذا رأوا أن الدعوة تقتضي اللين في بعض الأحوال، استعملوه، لأنهم يريدون الوصول إلى غاية معينة، والوسيلة حسب ما تقتضيه الحال.
* ثم قال الله تعالى: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها، وزيادة أن الله تعالى يكون محبوباً.
وقوله: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } (1)......
(1)* الآية السابعة: قوله: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [الصف: 4].
* هذه الآية في سورة الصف، وسورة الصف في الحقيقة هي سورة الجهاد، لأن الله تعالى بدأها بالثناء على المقاتلين في سبيله، ثم دعا إلى الجهاد في آخرها، ثم ذكر بين ذلك أن الله سيظهر دينه على كل الأديان ولو كره المشركون.(113/8)
* { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } : لا يتقدم أحد على أحد ولا يتأخر، حتى في الجهاد.
والصلاة جهاد مصغر، فيها قائد يجب اتباعه، فإن لم تتبعه، بطلت صلاتك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار"(1)، والصف في الصلاة نظير الصف في الجهاد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصفهم في الجهاد كما يصفهم في الصلاة "كأنهم بنيان" والبنيان كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يشد بعضه بعضاً"(2)، يتماسك بعضه ببعض، ولهذا قال: { كأنهم بنيان مرصوص } ، فليس كالمفرق: فالمرصوص أشد تماسكاً.
فهؤلاء الذين علق الله المحبة لهم بأعمالهم لهم عدة صفات:
أولاً: يقاتلون، فلا يركنون إلى الخلود والخمول والكسل والجمود الذي يضعف الدين والدنيا.
ثانياً: الإخلاص، لقوله: { في سبيله } .
ثالثاً: يشد بعضهم بعضاً، لقوله: { صفاً } .
رابعاً: أنهم كالبنيان، والبنيان حصن منيع.
خامساً: لا يتخللهم ما يمزقهم، لقوله: { مرصوص } .
هذه خمس صفات علق الله المحبة لهؤلاء عليها.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
وقوله: { وهو الغفور الودود } (1)....................................................
(1)* الآية الثامنة: قوله: { وهو الغفور الودود } [البروج: 14].
* { الغفور } : الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها.
* { الودود } مأخوذ من الود، وهو خالص المحبة، وهي بمعنى: واد، وبمعنى: مودود، لأنه عز وجل محب ومحبوب، كما قال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54]، فالله عز وجل واد ومودو، واد لأوليائه، وأولياؤه يودونه يحبونه، يحبون الوصول إليه وإلى جنته ورضوانه.
وفي الآية اسمان من أسماء الله: الغفور، والودود. وصفتان: المغفرة، والود.(113/9)
وأتمنى لو أن المؤلف أضاف آية تاسعة في المحبة، وهي الخلة، لقوله تعالى: { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } [النساء: 125]، والخليل هو من كان في أعلى المحبة، فالخلة أعلى أنواع المحبة، لأن الخليل هو الذي وصل حبه إلى سويداء القلب وتخلل مجاري عروقه، وليس فوق الخلة شيء من أنواع المحبة أبداً.
يقول الشاعر لمعشوقته:
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً
فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب أصحابه كلهم، لكن ما اتخذ واحداً منهم خليلاً أبداً، قال النبي عليه الصلاة وهو يخطب الناس: "لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر"(1)، إذاً، أبو بكر هو أحب الناس إليه، لكن لم يصل إلى درجة الخلة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتخذ أحداً خليلاً، لكن إخوة الإسلام ومودته، وأما الخلة، فهي بينه وبين ربه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"(2).
والخلة لا نعلم أنها ثبتت لأحد من البشر، إلا لاثنين، هما إبراهيم محمد عليهما الصلاة والسلام، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اتخذني خليلاً".
وهذه الخلة صفة من صفات الله عز وجل، لأنها أعلى أنواع المحبة، وهي توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل إلا بدليل، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا هذين الرسولين الكريمين، فهما خليلان لله عز وجل.
وهذه الآية: { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } هي التي استشهد بها من قتل الجعد بن درهم رأس المعطلة الجهمية، أول ما أنكر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً فقتله خالد بن عبدالله القسري رحمه الله، حيث خرج به موثقاً في يوم عيد الأضحى، وخطب الناس، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإن مضح بالجعد بن درهم، لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه.
ويقول ابن القيم في ذلك:(113/10)
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فلدينا الآن محبة وود وخلة، فالمحبة والود مطلقة، والخلة خاصة بإبراهيم ومحمد.
ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية، لإلزام من أنكر أن تكون المحبة ثابتة بالأدلة العقلية، مثل الأشاعرة، يقولون: لا يمكن أن تثبت المحبة بين الله وبين العبد أبداً، لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل عليه العقل، فإنه يجب أن ننزه الله عنه.
فنحن نقول: نثبت المحبة بالأدلة العقلية، كما هي ثابتة عندنا بالأدلة السمعية، احتجاجاً على من أنكر ثبوتها بالعقل، فنقول وبالله التوفيق:
إثابة الطائعين بالجنات والنصر والتأييد وغيره، هذا يدل بلا شك على المحية، ونحن نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا عمن سبق وعمن لحق أن الله عز وجل أيد من أيد من عباده المؤمنين ونصرهم وأثابهم، وهل هذا إلا دليل على المحبة لمن أيدهم ونصرهم وأثابهم عز وجل؟!
وهنا سؤالان:
الأول: بماذا ينال الإنسان محبة الله عز وجل؟ وهذه هي التي يطلبها كل إنسان، والمحبة عبارة عن أمر فطري يكون في الإنسان ولا يملكه، ولهذا يروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في العدل بين زوجاته: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أمرك"(1)؟
فالجواب: أن المحبة لها أسباب كثيرة:
منها: أن ينظر الإنسان: من الذي خلقه؟ ومن الذي أمده بالنعم منذ كان في بطن أمه؟ ومن الذي أجرى إليك الدم في عروقك قبل أن تنزل إلى الأرض إلا الله عز وجل؟ من الذي دفع عنك النقم التي انعقدت أسبابها، وكثيراً ما تشاهد بعينك آفات ونقماً تهلكك، فيرفعها الله عنك؟
وهذا لا شك أنه يجلب المحبة، ولهذا ورد في الأثر: "أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم"(2).(113/11)
واعتقد لو أن أحداً أهدى إليك قلماً، لأحببته، فإذا كان كذلك، فأنت انظر نعمة الله عليك النعم العظيمة الكثيرة التي لا تحصيها، تحب الله.
ولهذا إذا جاءت النعمة وأنت في حاجة شديدة إليها، تجد قلبك ينشرح، وتحب الذي أسداها إليك، بخلاف النعم الدائمة، فأنت تذكر هذه النعم التي أعطاك الله، وتذكر أيضاً أن الله فضلك على كثير من عباده المؤمنين، إن كان الله من عليك بالعلم، فقد فضلك بالعلم، أو بالعبادة، فقد فضلك بالعبادة، أو بالمال: فقد فضلك بالمال، أو بالأهل، فقد فضلك بالأهل، أو بالقوت فقد فضلك بالقوت، وما من نعمة إلا وتحتها ما هو دونها، فأنت إذا رأيت هذه النعمة العظيمة، شكرت الله وأحببته.
ومنها: محبة ما يحبه الله من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، تحب الذي يحبه الله، فهذا يجعلك تحب الله، لأن الله يجازيك على هذا أن يضع محبته في قلبك، فتحب الله إذا قمت بما يحب، وكذلك تحب من يحب، والفرق بينهما ظاهر، الأخيرة من الأشخاص، والأولى من الأعمال، لأننا أتينا بـ(ما) التي لغير العاقل من الأعمال والأماكن والأزمان، وهذه (من) للعاقل من الأشخاص، تحب النبي عليه الصلاة والسلام، تحب إبراهيم، تحب موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تحب الصديقين، كأبي بكر، والشهداء، وغير ذلك ممن يحبهم الله، فهذا يجلب لك محبة الله، وهو أيضاً من أثار محبة الله، فهو سبب وأثر.
ومنها: كثرة ذكر الله، بحيث يكون دائماً على بالك، حتى تكون كلما شاهدت شيئاً، استدللت به عليه عز وجل، حتى يكون قلبك دائماً مشغولاً بالله، معرضاً عما سواه، فهذا يجلب لك محبة الله عز وجل.
وهذه الأسباب الثلاثة هي عندي من أقوى أسباب محبة الله عز وجل.
السؤال الثاني: ما هي الآثار المسلكية التي يستلزمها ما ذكر؟
والجواب:
أولاً: قوله: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195]: يقتضي أن نحسن، وأن نحرص على الإحسان، لأن الله يحبه، وكل شيء يحبه الله، فإننا نحرص عليه.(113/12)
ثانياً: قوله: { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } [الحجرات: 9]: يقتضي أن نعدل ونحرص على العدل.
ثالثاً: قوله: { إن الله يحب المتقين } [التوبة: 7]: يقتضي أن نتقي الله عزوجل، لا نتقي المخلوقين بحيث إذا كان عندنا من نستحي منه من الناس، تركنا المعاصي، وإذا لم يكن، عصينا، فالتقوى أن نتقي الله عز وجل، ولا يهمك الناس. أصلح ما بينك وبين الله، يصلحا لله ما بينك وبين الناس. أنظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، يصلح الله ما بينك وبين الناس. أنظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، ولا يهمك غير ذلك، { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [الحج: 38]. افعل ما يقتضيه الشرع، وستكون لك العاقبة.
رابعاً: يقول الله تعالى: { إن الله يحب التوابين } [البقرة: 222]، وهذه تستوجب أن أكثر التوبة إلى الله عز وجل، أكثر أن أرجع إلى الله بقلبي وقالبي، ومجرد قول الإنسان: أتوب إلى الله. هذا قد لا ينفع، لكن تستحضر وأنت تقول: أتوب إلى الله: أن بين يديك معاصي، ترجع إلى الله منها وتتوب، حتى تنال بذلك محبة الله.
{ ويحب المتطهرين } [البقرة: 222]: إذا غسلت ثوبك من النجاسة، تحس بأن الله أحبك، لأن الله يحب المتطهرين. إذا توضأت، تحس بأن الله أحبك، لأنك تطهرت. إذا اغتسلت، تحس أن الله أحبك، لأن الله يحب المتطهرين....
ووالله، إننا لغافلون عن هذه المعاني، أكثر ما نستعمل الطهارة من النجاسة أو من الأحداث، لأنها شرط لصحة الصلاة، خوفاً من أن تفسد صلاتنا، لكن يغيب عنا كثيراً أن نشعر بأن هذا قربة وسبب لمحبة الله لنا، لو كنا نستحضر عندما يغسل الإنسان نقطة بول أصابت ثوبه أن ذلك يجلب محبة الله له، لحصلنا خيراً كثيراً، لكننا في غفلة.(113/13)
خامساً: قوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } [آل عمران: 31]: هذا أيضاً يستوجب أن نحرص غاية الحرص على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، بحيث نترسم طريقه، لا تخرج منه، وا نقصر عنه، ولا نزيد، ولا ننقص.
وشعورنا هذا يحمينا من البدع، ويحمينا من التقصير، ويحمينا من الزيادة والغلو، ولو أننا نشعر بهذه الأمور، فانظر كيف يكون سلوكنا آدابنا وأخلاقنا وعباداتنا.
سادساً: قوله: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54]، نحذر به من الردة عن الإسلام، التي منها ترك الصلاة مثلاً، فإذا علمنا أن الله يهددنا بأننا إن ارتددنا عن ديننا، أهلكنا الله، وأتى بقوم يحبهم ويحبونه، ويقومون بواجبهم نحو ربهم، فإننا نلازم طاعة الله والابتعاد عن كل ما يقرب للردة.
سابعاً: قوله: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [الصف: 4].
إذا آمنا بهذه المحبة، فعلنا هذه الأسباب الخمسة التي تستلزمها وتوجبها: القتال، وعدم التواني، والإخلاص، بأن يكون في سبيل الله، أن يشد بعضنا بعضاً كأننا بنيان، أن نحكم الرابطة بيننا إحكاماً قوياً كالبنيان المرصوص، أن نصف، وهذا يقتضي التساوي حساً، حتى لا تختلف القلوب، وهو مما يؤكد الألفة، والإنسان إذا رأى واحداً عن يمينه وواحداً عن يساره، يقوى على الإقدام، لكن لو يحيطون به من جميع الجوانب، فستشتد همته.
فصار في هذه الآيات ثلاثة مباحث:
1- إثبات المحبة بالأدلة السمعية.
2- أسبابها.
3- الآثار المسلكية في الإيمان بها.
أما أهل البدع الذين أنكروها، فليس عندهم إلا حجة واهية، يقولون:
أولاً: إن العقل لا يدل عليها.
ثانياً: إن المحبة إنما تكون بين اثنين متجانسين، لا تكون بين رب ومخلوق أبداً، ولا بأس أن تكون بين المخلوقات. ونحن نرد عليهم فنقول:(113/14)
نجيبكم عن الأول ـ وهو أن العقل لا يدل عليها ـ بجوابين: أحدهما: بالتسليم، والثاني: بالمنع.
التسليم: نقول: سلمنا أن العقل لا يدل على المحبة، فالسمع دل عليها، وهو دليل قائم بنفسه، والله عز وجل يقول في القرآن: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } [النحل: 89]، فإذا كان تبياناً، فهو دليل قائم بنفسه، "وانتفاء الدليل المعين، لا يلزم منه انتفاء المدلول"، لأن المدلول قد يكون له أدلة متعددة، سواء الحسيات أو المعنويات:
فالحسيات: مثل بلد له عدة طرق توصل إليه، فإذا انسد طريق، ذهبنا مع الطريق الثاني.
أما المعنويات، فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة وجوب الطهارة للصلاة مثلاً فيه أدلة متعددة.
فإذاً، إذا قلتم: إن العقل لا يدل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، فإن السمع دل عليه بأجلى دليل وأوضح بيان.
الجواب الثاني: المنع: أن نمنع دعوى أن العقل لا يدل عليها، ونقول: بل العقل دل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، كما سبق.
وأما قولكم: إن المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، فيكفي أن نقول: لا قبول لدعواكم، لأن المنع كاف في رد الحجة، إذ أن الأصل عدم الثبوت، فنقول: دعواكم أنها لا تكون إلا بين متجانسين ممنوع، بل هي تكون بين غير المتجانسين، فالإنسان عنده ساعة قديمة ما أتعبته بالصيانة وما فسدت عليه قط فتجده يحبها، وعنده ساعة تأخذ نصف وقته في التصليح فتجده يبغضها. وأيضاً نجد أن البهائم تحب وتحب.
فنحن ـ ولله الحمد ـ نثبت لله المحب بينه وبين عباده.
صفة الرحمة
وقوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } (1)................................................
(1) (1) هذه آيات في إثبات صفة الرحمة:
الآية الأولى: قوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } [النمل: 30].
هذه آية أتى بها المؤلف ليثبت حكماً، وليست مقدمة لما بعدها، وقد سبق لنا شرح البسملة، فلا حاجة إلى إعادته.(113/15)
وفيها من أسماء الله ثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم. ومن صفاته: الألوهية، والرحمة.
{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } (1).............................................
(1) الآية الثانية: قوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } [غافر: 7]. هذا يقوله الملائكة: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } [غافر: 7].
ما أعظم الإيمان وأعظم فائدته
الملائكة حول العرش يحملونه، يدعون الله للمؤمن.
* وقوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة } : يدل على أن كل شيء وصله علم الله، وهو واصل لكل شيء، فإن رحمته وصلت إليه، لأن الله قرن بينهما في الحكم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } .
وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء، فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضاً.
لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يرزق الكافر هو الله الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك.
أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم، لأنهار رحمة إيمانية دينية دنيوية.(113/16)
ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا، لأن الله يقول: { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [النحل: 97]: الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شبع، روث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ هكذا هؤلاء الكفار إن شبعوا، بطروا وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم، لكن المؤمن إن أصابته سراء، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن متفق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء، بل هو متوازن مستقيم معتدل.
فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه.
لكن مع الأسف الشديد أيها الأخوة: إن منا أناساً آلافاً يريدون أن يلحقوا بركب الكفار في الدنيا، حتى جعلوا الدنيا هي همهم، إن أعطوا، رضوا، وإن لم يعطوا، إذا هم يسخطون هؤلاء مهما بلغوا في الرفاهية الدنيوية، فهم في جحيم، لم يذوقوا لذة الدنيا أبداً، إنما ذاقها من آمن بالله وعمل صالحاً. ولهذا قال بعض السلف: والله، لو يعلم الملوك وأبناء لملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. لأنه حال بينهم وبين هذا النعيم ما هم عليه من الفسوق والعصيان والركون إلى الدنيا وأنها أكبر همهم ومبلغ علمهم.
قوله: { رحمة وعلما } : { رحمة } : تمييز محول عن الفاعل، وكذلك { وعلما } ، لأن الأصل: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.
وفي الآية من صفات الله: الربوبية وعموم الرحمة، والعلم.
{ وكان بالمؤمنين رحيماً } (1)......................................................
(1) الآية الثالثة: قوله: { وكان بالمؤمنين رحيماً } [الأحزاب: 43].
* { بالمؤمنين } : متعلق بـ(رحيم)، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيماً.
ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } [غافر: 7]؟!(113/17)
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار، بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا؛ بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكل مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة.
وفي الآية من الصفات: الرحمة.
ومن الناحية المسلكية: الترغيب في الإيمان.
{ ورحمتي وسعت كل شيء } (1). { كتب ربكم على نفسه الرحمة } (2).................
(1) الآية الرابعة: قوله: { ورحمتي وسعت كل شيء } [الأعراف: 156] يقول جل جلاله ممتدحاً مثنياً على نفسه { ورحمتي وسعت كل شيء } ، فأثنى على نفسه عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء من أهل السماء ومن أهل الأرض.
ونقول فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليرجع إليه.
(2) الآية الخامسة: قوله: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } [الأنعام: 54].
* { كتب } : بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، وجعل رحمته سابقه لغضبه، { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [فاطر: 45]، لكن حلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمى.
* ومن رحمته ما ذكره بقوله: { أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [الأنعام: 54] هذه من رحمته.
* { سوءا } : نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سوء، حتى الشرك.
* { بجهالة } : يعني: بسفه، وليسالمراد بها عدم العلم، والسفه عدم الحكمة، لأن كل من عصى الله، فقد عصاه بجهالة وسفه وعدم حكمة.
{ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } : فيغفر ذنبه ويرحمه.
ولم يختم الآية بهذا، إلا سينال التائب المغفرة والرحمة، هذا من رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذه على ذنبه، ويجزيه على عمله الصالح.(113/18)
فلو أن رجلاً أذنب خمسين يوماً، ثم تاب وأصلح خمسين يوماً، فالعدل أن نعذبه عن خمسين يوماً، ونجازيه بالثواب عن خمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً التي ذهبت من السوء تمحى وتزول بساعة، وزد على ذلك: { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [الفرقان: 70]، السيئات الماضية تكون حسنات، لأن كل حسنة عنها توبة، وكل توبة فيها أجر.
فظهر بهذا أثر قوله تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } .
وفي الآية من صفات الله: الربوبية، والإيجاب، والرحمة.
(1) الآية السادسة: قوله: { وهو الغفور الرحيم } [يونس: 107].
* الله عز وجل هو الغفور الرحيم، جمع عز وجل بين هذين الاسمين، لأن بالمغفرة سقوط عقوبة الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب، والإنسان مفقتر إلى هذا وهذا، ومفتقر إلى مغفرة ينجو بها من آثامه، ومفتقر إلى رحمة يسعد بها بحصول مطلوبة.
* فـ { الغفور } : صيغة مبالغة مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية، لأنه مأخوذ من المغفر، والمغفر شيء يوضع على الرأس في القتال يقي من السهام، وهذا المغفر تحصل به فائدتان هما: ستر الرأس والوقاية. فـ { الغفور } : الذي يستر ذنوب عباده، ويقيهم آثامها، بالعفو عنها.
ويدل على هذا ما ثبت في الصحيح: "أن الله عز وجل يخلو يوم القيامة بعبده، ويقرره بذنوبه، يقول: عملت كذا، وعملت كذا.. حتى يقر، فيقول الله عز وجل له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"(1).
{ فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } (1)..........................................(113/19)
(1) الآية السابعة: قوله: { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } [يوسف: 64]، قالها عن يعقوب حين أرسل مع أبنائه أخا يوسف الشقيق، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام قال: لا كيل لكم إذا رجعتم، إلا إذا أتيتم بأخيكم، فبلغوا والدهم هذه الرسالة، ومن أجل الحاجة أرسله معهم، وقال لهم عند وداعه: { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } [يوسف: 64]، يعني: لن تحفظوه، لكن الله هو الذي يحفظه.
* { خير حافظاً } : { حافظاً } : قال العلماء: إنا تمييز، كقول العرب: لله دره فارساً. وقيل: إنها حال من فاعل { خير } في قوله: { فالله خير } ، أي: حال كونه حافظاً.
* الشاهد من الآية هنا قوله: { وهو أرحم الراحمين } ، حيث أثبت الله عز وجل الرحمة، بل بين أنه أرحم الراحمين، لو جمعت رحمة الخلق كلهم، بل رحمات الخلق كلهم، لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
أرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم ولدها، فإن رحمة الأم ولدها لا يساويها شيء من رحمة الناس أبداً، حتى الأب لا يرحم أولاده مثل أمهم في الغالب.
جاءت امرأة في السبي تطلب ولدها وتبحث عنه، فلما رأته، أخذته بشفقة وضمته إلى صدرها أمام الناس وأمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أترون أن هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟". قالوا: لا والله يا رسول الله. قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(1).
جل جلاله، عز ملكه وسلطانه.
كل الراحمين، إذا جمعت رحماتهم كلهم، فليست بشيء عند رحمة الله.
ويدلك على هذا أن الله عز وجل خلق مئة رحمة، وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق في الدنيا(2).(113/20)
كل الخلائق تتراحم، البهائم والعقلاء، ولهذا تجد البعير الجموح الرموح ترفع رجلها عن ولدها مخافة أن تصيبه عندما يرضع حتى يرضع بسهولة ويسر، وكذلك تجد السباع الشرسة تجدها تحن على ولدها وإذا جاءها أحد في جحرها مع أولادها، ترمي نفسها عليه، فتدافع عنهم، حتى ترده عن أولادها.
وقد دل على ثبوت رحمة الله تعالى: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل:
فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة، تارة بالاسم، كقوله: { وهو الغفور الرحيم } [يونس: 107]، وتارة بالصفة، قوله: { وربك الغفور ذو الرحمة } [الكهف: 58]، وتارة بالفعل، كقوله: { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } [العنكبوت: 21]، وتارة باسم التفضيل، كقوله: { وهو أرحم الراحمين } [يوسف: 92].
وبمثل هذه الوجوه.. جاءت السنة.
وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله عز وجل، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله، كله دال على إثبات الرحمة عقلاً.
فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس.. حتى العامي الذي لم يدرس، لو سألته وقلت: هذا من أي شيء؟ فسيقول: هذا من رحمة الله ولا يشك أحد في هذا أبداً.
فرحمة الله عز وجل ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي.
وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفاً بالرحمة، قالوا: لأن العقل لم يدل عليها. وثانياً: لأن الرحمة رقة وضعف وتطامن للمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل، لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة!! وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو: الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم.(113/21)
فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة، التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة الله { إن رجعت الله قريب من المحسنين } [الأعراف: 56]. أنكروا هذا، قالوا: لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة!!
ونحن نرد عليهم قولهم من وجهين: بالتسليم، والمنع:
التسليم أن نقول: هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء: أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، لأنه قد يثبت بدليل آخر. فهب أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة.
أما المنع، فنقول: إن قولكم: إن العقل لا يدل على الرحمة: قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها؟ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا يرحم العباد، ما أعطاهم النعم، ولا دفع عنهم النقم!
وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاص والعام، العامي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة.
والعجيب أن هؤلاء القوم أثبتوا صفة الإرادة عن طريق التخصيص، قالوا: الإرادة ثابتة لله تعالى بالسمع والعقل: بالسمع: واضح. وبالعقل: لأن التخصيص، يدل على الإرادة ومعنى التخصيص يعني تخصيص المخلوقات بما هي عليه يدل على الإرادة، كون هذه السماء سماء، وهذه الأرض أرضاً، وهذه النجوم وهذه الشمس... هذه مختلفة بسبب الإرادة، أراد الله أن تكون السماء سماء، فكانت، وأن تكون الأرض أرضاً، فكانت، والنجم نجماً، فكان.... وهكذا.
قالوا: فالتخصيص يدل على الإرادة، لأنه لولا الإرادة، لكان الكل شيئاً واحداً!(113/22)
نقول لهم: يا سبحان الله العظيم! هذا الدليل على الإرادة بالنسبة لدلالة النعم على الرحمة أضعف وأخفى من دلالة النعم على الرحمة، لأن دلالة النعم على الرحمة يستوي في علمها العام والخاص، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يعرفها إلا الخاص من طلبة العلم، فكيف تنكرون ما هو أجلى وتثبتون ما هو أخفى؟! وهل هذا إلا تناقض منكم؟!
ما نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات:
الأمر المسلكي: هو أن الإنسان ما دام يعرف أن الله تعالى رحيم، فسوف يتعلق برحمة الله، ويكون منتظراً لها، فيحمله هذا الاعتقاد على فعل كل سبب يوصل إلى الرحمة، مثل: الإحسان، قال الله تعالى فيه: { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [الأعراف: 56]، والتقوى، قال تعالى: { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } [الأعراف: 156]، والإيمان، فإنه من أسباب رحمة الله، كما قال تعالى: { وكان بالمؤمنين رحيماً } [الأحزاب: 43]، ولكما كان الإيمان أقوى، كانت الرحمة إلى صاحبه أقرب بإذن الله عز وجل.
صفة الرضى
وقوله: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } (1)..........................................
(1) هذه من آيات الرضى، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالرضى، وهو يرضى عن العمل، ويرضى عن العامل.
يعني: أن رضى الله متعلق بالعمل وبالعامل..
أما بالعمل، فمثل قوله تعالى: { وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر: 7]، أي: يرض الشكر لكم.
وكما في قوله تعالى: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } [المائدة: 3]. وكما في الحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً..."(1).
فهذا الرضى متعلق بالعمل.
ويتعلق الرضى أيضاً بالعامل، مثل هذه الآية التي ساقها المؤلف: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [المائدة: 119].
فرضى الله صفة ثابتة لله عز وجل، وهي في نفسه، وليست شيئاً منفصلاً عنه: كما يدعيه أهل التعطيل.(113/23)
ولو قال لك قائل: فسر لي الرضى. لم تتمكن من تفسيره، لأن الرضى صفة في الإنسان غريزية، والغرائز لا يمكن لإنسان أن يفسرها بأجلي وأوضح من لفظها.
فنقول: الرضى صفة في الله عز وجل، وهي صفة حقيقية، متعلقة بمشيئته، فهي من الصفات الفعلية، يرضى عن المؤمنين وعن المتقين وعن المقسطين وعن الشاكرينن ولا يرضى عن القوم الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يرضى عن المنافقين، فهو سبحانه وتعالى يرضى عن أناس ولا يرضى عن أناس، ويرضى أعمالاً ويكره أعمالاً.
ووصف الله تعالى بالرضى ثابت بالدليل السمعي، كما سبق، وبالدليل العقلي، فإن كونه عز وجل يثيب الطائعين ويجزيهم على أعمالهم وطاعاتهم يدل على الرضى.
فإن قلت: استدلالك بالمثوبة على رضى الله عز وجل قد ينازع فيه، لأن الله سبحانه قد يعطي الفاسق من النعم أكثر مما يعطي الشاكل. وهذا إيراد قوي.
ولكن الجواب عنه أن يقال: إعطاؤه الفاسق المقيم على معصيته استدراج، وليس عن رضى:
كما قال تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن كيدي متين } [الأعراف: 182-183].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته"، وتلا قوله تعالى: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [هود: 102].(1).
وقال تعالى: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [الأنعام: 44-45].
أما إذا جاءت المثوبة والإنسان مقيم على طاعة الله، فإننا نعرف أن ذلك صادر عن رضى الله عنه.
آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض
ذكر المؤلف رحمه الله في هذه الصفات خمس آيات:(113/24)
وقوله: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه } (1)...................................................................................
(1) الآية الأولى: قوله: { ومن يقتل مؤمناً متعمدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه } [النساء: 93].
* { ومن } : شرطية. و(من) الشرطية تفيد العموم.
* { مؤمناً } : هو من آمن بالله ورسوله، فخرج به الكافر والمنافق.
لكن من قتل كافراً له عهد أو ذمة أو أمان، فهو آثم، لكن لا يستحق الوعيد المذكور في الآية.
وأما المنافق، فهو معصوم الدم ظاهراً، ما لم يعلن بنفاقه.
* وقوله { متعمدا } : يدل على إخراج الصغير وغير العاقل، لأن هؤلاء ليس لهم قصد معتبر ولا عمد، وعلى إخراجا لمخطئ، وقد سبق بيانه في الآية التي قبلها.
فالذي يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه هذا الجزاء العظيم.
* { جهنم } : اسم من أسماء النار.
* { خالداً فيها } ، أي: ماكثاً فيها.
* { وغضب الله عليه } : الغضب صفة ثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به، وهي من صفاته الفعلية.
* { ولعنه } : اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
* فهذه أربعة أنواع من العقوبة، والخامس: قوله: { وأعد له عذاباً عظيماً } .
خمس عقوبات، واحدة منها كافية في الردع والزجر لمن كان له قلب.
ولكن يشكل على منهج أهل السنة ذكر الخلود في النار، حيث رتب على القتل، والقتل ليس بكفر، ولا خلود في النار عند أهل السنة إلا بالكفر.
وأجيب عن ذلك بعدة أوجه:
الوجه الأول: أن هذه في الكافر إذا قتل المؤمن.
لكن هذا القول ليس بشيء، لأن الكافر جزاؤه جهنم خالداً فيها وإن لم يقتل المؤمن: { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون ولياً ولا نصيرا } [الأحزاب، 64-65].
الوجه الثاني: أن هذا فيمن استحل القتل، لأن الذي يستحل قتل المؤمن كافر.(113/25)
وعجب الإمام أحمد من هذا الجواب، قال: كيف هذا؟! إذا استحل قتله، فهو كافر وإن لم يقتله، وهو مخلد في النار وإن لم يقتله.
ولا يستقيم هذا الجواب أيضاً.
الوجه الثالث: أن هذه الجملة على تقدير شرط، أي: فجزاؤه جهنم خالداً فيها إن جازاه.
وفي هذا نظر، أي فائدة في قوله: { فجزاؤه جهنم } ، ما دام المعنى إن جازاه؟! فنحن الآن نسأل: إذا جازاه، فهل هذا جزاؤه؟ فإذا قيل: نعم، فمعناه أنه صار خالداً في النار، فتعود المشكلة مرة أخرى، ولا نتخلص.
فهذه ثلاثة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
الوجه الرابع: أن هذا سبب، ولكن إذا وجد مانع، لم ينفذ السبب، كما نقول: القرابة سبب للإرث، فإذا كان القريب رقيقاً، لم يرث، لوجود المانع وهو الرق.
ولكن يرد علينا الإشكال من وجه آخر، وهو: ما الفائدة من هذا الوعيد؟
فنقول: الفائدة أن الإنسان الذي يقتل مؤمناً متعمداً قد فعل السبب الذي يخلد به في النار، وحينئذ يكون وجود المانع محتملاً، قد يوجد، وقد لا يوجد، فهو على خطر جداً، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"(1). فإذا أصاب دماً حراماً والعياذ بالله، فإنه قد يضيق بدينه حتى يخرج منه.
وعلى هذا، فيكون الوعيد هنا باعتبار المال، لأنه يخشى أن يكون هذا القتل سبباً لكفره، وحينئذ يموت على الكفر، فيخلد.
فيكون في هذه الآية على هذا التقدير ذكر سبب السبب، فالقتل عمداً سبب لأن يموت الإنسان على الكفر، والكفر سبب للتخليد في النار.
وأظن هذا إذا تأمله الإنسان، يجد أنه ليس فيه إشكال.
الوجه الخامس: أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد به المكث الدائم، لأن اللغة العربية يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد ف الحبس، والحبس ليس بدائم. ويقولون: فلا خالد خلود الجبار، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً.(113/26)
وهذا أيضاً جواب سهل لا يحتاج إلى تعب، فنقول: إن الله عز وجل لم يذكر التأبيد، لم يقل: خالداً فيها أبداً بل قال: { خالداً فيها } ، والمعنى: أنه ماكث مكثاً طويلاً.
الوجه السادس: أن يقال إن هذا من باب الوعيد، والوعيد يجوز إخلافه، لأنه انتقال من العدل إلى الكرم، والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء وأنشدوا عليه قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
أوعدته بالعقوبة، ووعدته بالثواب، لمخلف إبعادي ومنجز موعدي.
وأنت إذا قلت لابنك: والله، إن ذهبت إلى السوق، لأضربنك بهذا العصا. ثم ذهب إلى السوق، فلما رجع، ضربته بيدك، فهذا العقاب أهون على ابنك، فإذا توعد الله عز وجل القاتل بهذا الوعيد، ثم عفا عنه، فهذا كرم.
ولكن هذا في الحقيقة فيه شيء من النظر، لأننا نقول: إن نفذ الوعيد، فالإشكال باق، وإن لم ينفذ، فلا فائدة منه.
هذه ستة أوجه في الجواب عن الآية، وأقربها الخامس، ثم الرابع.
مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد؟
الجواب: لا يستحق الوعيد بنص القرآن، لقوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [الفرقان: 68-70]، وهذا واضح، أن من تاب ـ حتى من القتل ـ، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات.(113/27)
والحديث الصحيح في قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، فألقى الله في نفسه التوبة، فجاء إلى عابد، فقال له: إن قتل تسعاً وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟! فالعابد استعظم الأمر، وقال: ليس لك توبة! فقتله، فأتم به المائة. فدل على عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن هذه القرية ظالم أهلها، فاذهب إلى القرية الفلانية، فيها أهل خير وصلاة، فسافر الرجل، وهاجر من بلده إلى بلد الخير والصلاة، فوافته المنية في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، حتى أنزل الله بينهم حكماً، وقال: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيتهما كان أقرب، فهو من أهلها، فكان أقرب إلى أهل القرية الصالحة فقبضته ملائكة الرحمة(1).
فأنظر كيف كان من بني إسرائيل فقبلت توبته، مع أن الله جعل عليهم آصاراً وأغلالاً، وهذه الأمة رفع عنها الآصار والأغلال، فالتوبة في حقها أسهل، فإذا كان هذا في بني إسرائيل، فكيف بهذه الأمة؟
فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القاتل ليس له توبة(2)؟
فالجواب: من أحد الوجهين:
1- إما أن ابن عباس رضي الله عنهما استبعد أن يكون للقاتل عمداً توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به.
2- وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول، لأن القاتل عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، والثالث لأولياء المقتول.
أ- أما حق الله، فلا شك أن التوبة ترفع، لقوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } [الزمر: 53]، وهذه في التائبين.(113/28)
ب- وأما حق أولياء المقتول، فيسقط إذا سلم الإنسان نفسه لهم، أتى إليهم وقال: أنا قتلت صاحبكم، واصنعوا ما شئتم فهم غما أن يقتصوا، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا، والحق لهم.
جـ- وأما حج المقتول، فلا سبيل إلى التخلص منه في الدنيا.
وعلى هذا يحمل قول ابن عباس أنه لا توبة له، أي: بالنسبة لحق المقتول.
على أن الذي يظهر لي أنه إذا تاب توبة نصوحاً، فإنه حتى حق المقتول يسقط، لا إهداراً لحقه، ولكن الله عز وجل بفضله يتحمل عن القاتل ويعطي المقتول رفعة درجات في الجنة أو عفواً عن السيئات، لأن التوبة الخالصة لا تبقي شيئاً، ويؤيد هذا عموم آية الفرقان: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق..... } إلى قوله: { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [الفرقان: 70].
وفي هذه الآية من صفات الله: الغضب، واللعن وإعداد العذاب.
وفيها من الناحية المسلكية التحذير من قتل المؤمن عمداً.
وقوله: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } (1)........................
(1)* الآية الثانية: قوله: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } [محمد: 28].
* { ذلك } : المشار إليه ما سبق، والذي سبق هو قوله تعالى: { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } [محمد: 27-28]، يعني: فكيف تكون حالهم في تلك اللحظات إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت؟
* { ذلك } ، أي: ضرب الوجوه والأدبار.
* { بأنهم } ، أي: بسبب، فالباء للسببية.
* { اتبعوا ما أسخط الله } ، أي: الذي أسخط الله، فصاروا يفعلون كل ما به سخط الله عز وجل من عقيدة أو قول أو فعل.(113/29)
* أما ما فيه رضي الله، فحالهم فيه قوله: { وكرهوا رضوانه } ، أي كرهوا ما فيه رضاه، فصارت عاقبتهم تلك العاقبة الوخيمة، أنهم عند الوفاة تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم.
وفي هذه الآية من صفات الله: إثبات السخط والرضى.
وسبق الكلام على صفة الرضى، وأما السخط، فمعناه قريب من معنى الغضب.
وقوله: { لما آسفونا انتقمنا منهم } (1)................................................
(1) الآية الثالثة: قوله: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف: 55].
* { آسفونا } ، يعني: أعضبونا وأسخطونا.
* { فلما } : هنا شرطية، فعل الشرط فيها: { آسفونا } ، وجوابه: { انتقمنا منهم } .
ففيها رد على من فسروا السخط والغضب بالانتقام، لأن أهل التعطيل من الأشعرية وغيرهم يقولون: إن المراد بالسخط والغضب الانتقام، أو إرادة الانتقام، ولا يفسرون السخط والغضب بصفة من صفات الله يتصف بها هو نفسه، فيقولون: غضبه، أي انتقامه، أو بالإرادة لأنهم يقرون بها، ولا يفسرونه بأنه صفة ثابتة لله على وجه الحقيقة تليق به.
ونحن نقول لهم: بل السخط والغضب غير الانتقام، والانتقام نتيجة الغضب والسخط، كما نقول: إن الثواب نتيجة الرضى، فالله سبحانه وتعالى يسخط على هؤلاء القوم ويغضب عليهم ثم ينتقم منهم.
وإذا قالوا: إن العقل يمنع ثبوت السخط والغضب لله عز وجل.
فإننا نجيبهم بما سبق في صفة الرضى، لأن الباب واحد.
ونقول: بل العقل يدل على السخط والغضب، فإن الانتقام من المجرمين وتعذيب الكافرين دليل على السخط والغضب، وليس دليلاً على الرضى، ولا على انتفاء الغضب والسخط.
ونقول: هذه الآية: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف: 55]: ترد عليكم، لأنه جعل الانتقام غير الغضب، لأن الشرط غير المشروط.
مسألة:
بقي أن يقال: { فلما آسفونا } : نحن نعرف أن الأسف هو الحزن والندم على شيء مضى على النادم لا يستطيع رفعه، فهل يوصف الله بالحزن والندم؟(113/30)
الجواب: لا، ونجيب عن الآية بأن الأسف في اللغة له معنيان:
المعنى الأول: الأسف بمعنى الحزن، مثل قول الله تعالى عن يعقوب: { يا أسفى على يوسف واببضت عيناه من الحزن } [يوسف: 84].
الثاني: الأسف بمعنى الغضب، فيقال: أسف عليه باسم، بمعنى: غضب عليه.
والمعنى الأول: ممتنع بالنسبة لله عز وجل. والثاني: مثبت لله، لأن الله تعالى وصف به نفسه، فقال: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } .
وفي الآية من صفات الله: الغضب، والانتقام.
ومن الناحية المسلكية: التحذير مما يغضب الله تعالى.
وقوله: { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } (1)....................................
(1) (1) الآية الرابعة: قوله: { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } [التوبة: 46].
* يعني بذلك المنافقين الذين لم يخرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوات، لأن الله تعالى كره انبعاثهم، لأن عملهم غير خالص له، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، ولأنهم إذا خرجوا، كانوا كما قال الله تعالى: { ولو خرجوا فيكم ما ذادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } [التوبة: 47]، وإذا كانوا غير مخلصين، وكانوا مفسدين، فإن الله سبحانه وتعالى يكره الفساد ويكره الشرك: فـ { كره الله انبعاثهم فثبطهم } ، يعني: جعل هممهم فاترة عن الخروج للجهاد.
{ وقيل اقعدوا مع القاعدين } [التوبة: 46]: قيل: يحتمل أن الله قال ذلك كوناً. ويحتمل أن بعضهم يقول لبعض: اقعد مع القاعدين، ففلان لمع يخرج، وفلان لم يخرج، ممن عذرهم ز وجل، كالمريض والأعمى والأعرج، ويقولون: إذا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتذرنا إليه واستغفر لنا وكفانا.
ويمكن أن جمع بين القولين، لأنه إذا قيل لهم ذلك، وقعدوا، فهم ما قعدوا إلا يقول الله عز وجل.
وفي الآية هنا إثبات أن الله عز وجل يكره، وهذا أيضاً ثابت في الكتاب والسنة:(113/31)
- قال الله تعالى: { وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه..... } إلى قوله: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } [الإسراء: 23-38].
- وكما في هذه الآية التي ذكها المؤلف: { ولكن كره الله انبعاثهم } [التوبة: 46].
- وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كره لكم قيل وقال"(1).
فالكراهة ثابتة بالكتاب والسنة، أن الله تعالى يكره.
وكراه الله سبحانه وتعالى للشيء تكون للعمل، كما في قوله: { ولكن كره الله انبعاثهم } [التوبة: 46]، وكما في قوله: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } [الإسراء: 38].
وتكون أيضاً للعامل، كما جاء في الحديث: "إن الله تعالى إذا أبغض عبداً، نادى جبريل، إني أبغض فلاناً، فأبغضه"(1).
وقوله: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } (1)............................
(1) الآية الخامسة: قوله: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [الصف: 3].
* { كبر } ، بمعنى: عظم.
* { مقتاً } : تمييز محول عن الفاعل، والمقت أشد البغض، وفاعل { كبر } بعد أن حول الفاعل إلى تمييز: (أن) وما دخلت عليه في قوله: { أن تقولوا ما لا تفعلون } .
وهذه الآية تعليل للآية التي قبلها وبيان لعاقبتها: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [الصف: 2-3]، فإن هذا من أكبر الأمور أن يقول الإنسان ما لا يفعل.
ووجه ذلك أن يقال: إذا كنت تقول الشيء ولا تفعلها، فأنت بين أمرين: إما كاذب فيما نقول، ولكن تخوف الناس، فنقول لهم الشيء وليس بحقيقة. وإما أنك مستكبر عما تقول، تأمر الناس به ولا تفعله، وتنهى الناس عنه وتفعله.
وفي الآية من الصفات: المقت، وأنه يتفاوت.
ومن الناحية المسلكية: التحذير من أن يقول الإنسان مالا يفعل.
آيات صفة المجئ والإتيان
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات صفة المجيء والإتيان آيات أربع.(113/32)
قوله: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر } (1).
(1) الآية الأول: قوله: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر } [البقرة: 210].
* قوله: { هل ينظرون } : { هل } : استفهام بمعنى النفي، يعني : ما ينظرون، وكلما وجدت (إلا) بعد الاستفهام، فالاستفهام يكون للنفي. هذه قاعدة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "هل أنت إلا أصبع دميت"(2)، أي: ما أنت.
* ومعنى: { ينظرون } هنا: ينتظرون لأنها لم تتعد بـ(إلى)، فلو تعدت بـ(إلى) لكان معناها النظر بالعين غالباً، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى: ينتظرون. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة.
* { يأتيهم الله في ظلل } : و { في } : هنا بمعنى (مع)، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعاً، لأنها لو كانت للظرفية، لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
* فـ { في ظلل } ، أي: مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده { تشقق السماء بالغمام } : غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى.
* وقوله: { في ظلل من الغمام } الغمام، قال العلماء: إن السحاب الأبيض، كما قال تعالى ممتناً على بني إسرائيل: { وظللنا عليكم الغمام } [البقرة: 57]، والسحاب الأبيض يبقي الجوز مستنيراً، بخلاف الأسود والأحمر، فإنه تحصل به الظلمة، وهو أجمل منظراً.
* وقوله: { والملائكة } : الملائكة بالرفع معطوف على لفظ الجلالة الله، يعني: أو تأتيهم الملائكة، وسبق بيان اشتقاق هذه الكلمة، ومن هم الملائكة.
والملائكة تأتي يوم القيامة، لأنها تنزل في الأرض، ينزل أهل السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة وهكذا... إلى السابعة؟ يحيطون بالناس.(113/33)
وهذا تحذير من هذا اليوم الذي يأتي على هذا الوجه، فهو مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، يحذر الله به هؤلاء المكذبين.
وقوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } (1)
(1) الآية الثانية: قوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } [الأنعام: 158].
* نقول في { هل ينظرون } ما قلناه في الآية السابقة، أي: ما ينتظر هؤلاء إلا واحدة من هذه الأحوال:
أولاً: { إلا أن تأتيهم الملائكة } ، أي: لقبض أرواحهم، قال الله تعالى: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوهم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } [الأنفال: 50].
ثانياً: { أو يأتي ربك } : وهذه طلوع الشمس من مغربها، فسرها بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
وإنما ذكر الله هذه الأحوال الثلاث:
لأن الملائكة إذا نزلت لقبض أرواحهم، لا تقبل منهم التوبة، لقوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [الإنسان: 18].
وكذلك أيضاً إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن التوبة لا تقبل، وحينئذ لا يستطيعون خلاصاً مما هم عليه.
وذكر الحالة الثالثة بين الحالين، لأن وقت الجزاء وثمرة العمل، فلا يستطيعون التخلص في تلك الحال مما عملوه.
والغرض من هذه الآيات والتي قبلها تحذير هؤلاء المكذبين من أن يفوتهم الأوان ثم لا يستطيعون الخلاص من أعمالهم.
{ كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا (21) وجاء ربك والملك صفاً صفا } (1)................
(1) الآية الثالثة: قوله: { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا (21) وجاء ربك والملك صفاً صفا } [الفجر: 21-22].
* { كلا } هنا للتنبيه، مثل (ألا).
* وقوله: { إذا دكت الأرض دكاً دكا } : هذا يوم القيامة.(113/34)
وأكد هذا الدك لعظمته، لأنها تدك الجبال والشعاب وكل شيء يدك، حتى تكون الأرض كالأديم، والأديم هو الجلد، قال الله تعالى: { فيذرها قاعاً صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } [طه: 106-107]. ويحتمل أن يكون تكرار الدك تأسيساً لا تأكيداً، ويكون المعنى: دكاً بعد دك.
* قال { وجاء ربك والملك صفاً صفا } : { وجاء ربك } ، يعني: يوم القيامة، بعد أن تدك الأرض وتسوى ويحشر الناس يأتي الله للقضاء بين عباده.
* وقوله: { والملك } : (الـ) هنا للعموم، يعني: وكل ملك، يعني: الملائكة ينزلون في الأرض.
* { صفاً صفا } ، أي: صفاً من وراء صف، كما جاء في الأثر: "تنزل ملائكة السماء الدنيا فيصفون، ومن ورائهم ملائكة السماء الثانية، ومن ورائهم ملائكة السماء الثالثة"(1) هكذا.
{ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } (1)..............................
(1) الآية الرابعة: قوله: { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } [الفرقان: 25].
* يعني: اذكر يوم تشقق السماء بالغمام.
* و { تشقق } : أبلغ من تنشق، لأن ظاهرها تشقق شيئاً فشيئاً، ويخرج هذا الغمام، يثور ثوران الدخان، ينبعث شيئاً فشيئاً.
تشقق السماء بالغمام، مثل ما يقال: تشقق الأرض بالنبات، يعني: يخرج الغمام من السماء ويثور متتابعاً، وذلك لمجيء الله عز وجل للفضل بين عباه، فهو يوم رهيب عظيم.
* قوله: { ونزل الملائكة تنزيلاً } : ينزلون من السماوات شيئاً فشيئاً، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة... وهكذا.
وهذه الآية في سياقها ليس فيها ذكر مجيء الله، لكن فيها الإشارة إلى ذلك، لأن تشقق السماء بالغمام إنما يكون لمجيء الله تعالى، بدليل الآيات السابقة.
هذه أربع آيات ساقها المؤلف لإثبات صفة من صفات الله، وهي: المجيء والإتيان.(113/35)
وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يأتي بنفسه هو، لأن الله تعالى ذكر ذلك عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً من غيره وأحسن حديثاً، فكلامه مشتمل على أكمل العلم والصدق والبيان والإرادة، فالله عز وجل يريد أن يبين لنا الحق وهو أعلم وأصدق وأحسن حديثاً.
لكن يبقى السؤال: هل نعلم كيفية هذا المجيء؟
الجواب: لا نعلمه، لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه يجيء، ولم يخبرنا كيف يجيء، ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالمشاهدة أو مشاهدة النظير أو الخبر الصادق عنها، وكل هذا لا يوجد في صفات الله تعالى، ولأنه إذا جهلت الذات، جهلت الصفات، أي: كيفيتها، فالذات موجودة وحقيقية ونعرفها ونعرف ما معنى الذات وما معنى الذات وما معنى النفس، وكذلك نعرف ما معنى المجيء، لكن كيفية الذات أو النفس وكيفية المجيء غير معلوم لنا.
فنؤمن بأن الله يأتي حقيقة وعلى كيفية تليق به مجهولة لنا.
مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم:
وخالف أهل السنة والجماعة في هذه الصفة أهل التحريف والتعطيل، فقالوا: إن الله لا يأتي، لأنك إذا أثبت أن الله يأتي، ثبت أنه جسم، والأجسام متماثلة
فنقول: هذه دعوى وقياس باطل، لأنه في مقابلة النص، وكل شيء يعود إلى النص بالإبطال، فهو باطل، لقوله تعالى: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [سبأ: 24].
فإذا قالت: إن هذا الذي عاد النص بالإبطال هو الحق، صار النص باطلاً ولا بد، وبطلان النص مستحيل. وإن قلت: إن النص هو الحق، صار هذا باطلاً ولابد.
ثم نقول: ما المانع من أن يأتي الله تعالى بنفسه على الكيفية التي يريدها؟ يقولون: المانع أنك إذا اثبت ذلك، فأنت ممثل.(113/36)
نقول: هذا خطأ، فإننا نعلم أن المجيء والإتيان يختلف حتى بالنسبة للمخلوق، فالإنسان النشيط الذي يأتي كأنما ينحدر من مرتفع من نشاطه، لكنه لا يمشي مرحاً وإن شئت فقل: إنه يمش مرحاً: هل هذا كالإنسان الذي يمشي على عصا ولا ينقل رجلاً من مكانها إلا بعد تعب.
والإتيان يختلف من وجه آخر، فإتيان إنسان مثلاً من كبراء البلد أو من ولاة الأمور ليس كإتيان شخص لا يحتفى به.
ماذا يقول المعطل في قوله تعالى: { وجاء ربك } ونحوها؟
الجواب: يقول: المعنى: جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك؟ لأن الله تعالى قال: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [النحل: 1]، فيجب أن نفسر كل إتيان أضافة الله إلى نفسه بهذه الآية، ونقول: المراد: أتى أمر الله.
فيقال: إن هذا الدليل الذي استدللت به هو دليل عليك وليس لك لو كان الله تعالى يريد إتيان أمره في الآيات الأخرى، فما الذي يمنعه أن يقول: أمره؟ فلما أراد الأمر، عبر بالأمر، ولما لم يرده، لم يعبر به.
وهذا في الواقع دليل عليك، لأن الآيات الأخرى ليس فيها إجمال حتى نقول: إنها بينت بهذه الآية. فالآيات الأخرى واضحة، وفي بعضها تقسيم يمنع إرادة مجيء الأمر: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي يقول: { يأتي ربك } ، أي: أمره في مثل هذا التقسيم؟
فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى: { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } [المائدة: 52].
فالجواب: أن المراد بذلك إتيان الفتح أو الأمر، لكن أضاف الله الإتيان به إلا نفسه، لأنه من عنده، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، فالإتيان إذا قيد بحرف جر مثلاً، فالمراد به ذلك المجرور، وإذا أطلق وأضيف إلى الله بدون قيد، فالمراد به إتيان الله حقيقة.
الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى:(113/37)
التمرة هي الخوف من هذا المقام وهذا المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عز وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة، ولا يبقى أمامك إلا الرب عز وجل والمخلوقات كلها، فإن عملت خيراً، جوزيت به، وإن عملت سوى ذلك، فإنك ستجزى به، كما قال النبي عليها لصلاة والسلام: "إن الإنسان يخلو به الله عز وجل، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة"(1).
فالإيمان يمثل هذه الأشياء العظيمة لا شك أنه يولد للإنسان رهبة وخوفاً من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه.
صفة الوجه لله سبحانه
وقوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ، { كل شيء هالك إلا وجهه } (1)......
(1) ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات صفة الوجه لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 27].
وهذه معطوفة على قوله تعالى: { كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك } [الرحمن: 26-27]، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: { كل من عليها فان } ، أن تصلها بقوله: { ويبقى وجه ربك } ، حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، هذا فناء وهذا بقاء، { كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 26-27].
* قوله تعالى: { ويبقى وجه ربك } ، أي: لا يفنى.
والوجه: معناه معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا نعلم كيف وجه الله عز وجل، كسائر صفاته، لكننا نؤمن بأن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، وموصوفاً بالبهاء والعظمة والنور العظيم، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: "حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(1).
(سبحان وجهه)، يعني: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره.(113/38)
(ما انتهى إليه بصره من خلقه): وبصره ينتهي إلى كل شيء، وعليه، فلو كشف هذا الحجاب ـ حجاب النور عن وجهه ـ، لاحترق كل شيء.
لهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكن أبداً أن يماثل أوجه المخلوقات.
وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهاً حقيقة، ونأخذه من قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ، ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين، لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، ونجهل كيفية هذا الوجه، لقوله تعالى: { ولا يحيطون به علماً } [طه: 110].
فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا: إنك مبتدع ضال، قائل على الله مالا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه مالا نعلم، قال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 33]، وقال تعالى: { ول تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } [الإسراء: 36].
وهنا قال: { ويبقى وجه ربك } ، أضاف الربوبية إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية، لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك.
* وقوله: { ذو } : صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } [الرحمن: 78]، فلما قال: { ذو الجلال } ، علمنا أنه وصف للوجه.
* { والإكرام } : هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب.(113/39)
فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء.
الآية الثانية: قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88].
* قوله: { كل شيء هالك } ، أي: فان، كقوله: { كل من عليها فان } [الرحمن: 26].
* وقوله: { إلا وجهه } : توازي قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .
فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قل: { له الحكم وإليه ترجعون } [القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية: { كل شيء هالك إلا وجهه } ، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك: { ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88]، كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به، لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقو بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول:
يمكن أن نحمل الآية على المعنيين، إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.
وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفاً، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله، لأن ذلك يوهم نقصاً لله سبحانه وتعالى.
هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله!(113/40)
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعدالله ببقائه، لكان من حيث العقل جائزاً أن يرتفع، أعني: الثواب!.
فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟
إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.
وقولهم مردود بما يلي:
أولاً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصاً عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلاً أبداً.
ثالثاً: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة: { ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 27]؟! لا يمكن. لو قلنا مثلاً جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبداً، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام.
رابعاً: نقول: ما تقولون في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بضره من خلقه"(1). فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟! أبداً، ولا يمكن.
وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام.
فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة (الوجه) مضافاً إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفاته؟
فالجواب: هذا هو الأصلى، كما في قوله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [الأنعام: 52]، { وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى } [الليل: 19-21]... وما أشبهها من الآيات.(113/41)
فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله: تعالى: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } [البقرة: 115]: { فأينما تولوا } ، يعني: إلى أي مكان تولوا وجوهكم عندا لصلاة. { فثم } أي: فهناك وجه الله.
فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة، لقوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها } [البقرة: 148]، فالمراد بالوجه الجهة، أي: فثم جهة الله، أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها.
قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه.
ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون، فثم وجه الله سبحانه وتعالى، لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المصلي إذا قام يصلي، فإن الله قبل وجهه(1)، ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه، لأن الله قبل وجهه.
فإذا صليت في مكان لا تدري أن القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.
والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
إذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضاً وجه الله حقاً. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان.
واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى: { ولا يحيطون به علما } [طه: 110].(113/42)
فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88]؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضاً، وقعت في محظور ـ وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه ـ فماذا تصنع؟!
فالجواب: إن أردت بقولك: إلا ذاته، يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه.
وإن أردت بقولك: الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وغير مقبول.
وعليه فنقول: { إلا وجهه } ، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء، لأن الفرق بين هذا وبين قول أهل التحريف أن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات، لأن له وجهاً، فعبر به عن الذات.
إثبات اليدين لله تعالى
وقوله: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ، { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } (1)..............................
(1) ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات اليدين لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75].
* { ما منعك } : الخطاب لإبليس.
* و { ما منعك } : استفهام للتوبيخ، يعني أي شيء منعك أن تسجد.
* وقوله { لما خلقت بيدي } : ولم يقل: لمن خلقت، لأن المراد هنا آدم، باعتبار وصفه الذي لم يشركه أحد فيه، وهو خلق الله إياه بيده، لا باعتبار شخصه.
ولهذا لما أراد إبليس النيل من آدم وخط قدره، قال: { أأسجد لمن خلقت طينا } [الإسراء: 16].
ونحن قد قررنا أنه إذا عبر بـ(ما) عما يعقل، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لا معنى العين والشخص، ومنه قوله تعالى: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [النساء: 3]، لم يقل: (من)، لأنه ليس المراد عين هذه المرأة، ولكن المراد الصفة.(113/43)
فهنا قال: { لما خلقت } ، أي: هذا الموصوف العظيم الذي أكرمته بأنني خلقته بيدي، ولم يقصد: لمن خلقت، أي: لهذا الآدمي بعينه.
* وقوله: { لما خلقت بيدي } : هي كقول القائل: بريت بالقلم والقلم آلة البري، وتقول: صنعت هذا بيدي، فاليد هنا آلة الصنع.
{ لما خلقت بيدي } ، يعني: أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وهنا قال: { بيدي } ، وهي صيغة تثنية، وحذفت النون من التثنية من أجل الإضافة، كما يحذف التنوين، نحن عندما نعرب المثنى وجمع المذكر السالم، نقول: النون عوض من التنوين في الاسم المفرد. والعوض له حكم المعوض، فكما أن التنوين يحذف عند الإضافة، فنون التثنية والجمع تحذف عند الإضافة.
في هذه الآية توبيخ إبليس في تركه السجود لما خلقه الله بيده، وهو آدم عليه الصلاة والسلام.
وفيها: إثبات صفة الخلق: { لما خلقت } .
وفيها: إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى: اليدين اللتين بهما يفعل، كالخلق هنا. اليدين اللتين بهما يقبض: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } [الزمر: 67]، وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه(1).
وقوله: { لما خلقت بيدي } : فيها أيضاً تشريف لآدم عليه الصلاة والسلام، حيث خلقه الله تعالى بيده.
قال أهل العلم: وكتب الله التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
فهذه ثلاثة أشياء، كلها كانت بيد الله تعالى.
ولعلنا بالمناسبة لا ننسى ما مر من قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله خلق آدم على صورته"(2)، وذكرنا أن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها، ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل.(113/44)
الآية الثانية: قوله: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } [المائدة: 64].
* { اليهود } : هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام.
سموا يهوداً، قيل: لأنهم قالوا: { إن هدنا إليك } [الأعراف: 156]، وبناء على هذا يكون الاسم عربياً، لأن هاد يهود ـ إذا رجع ـ عربي.
وقيل: أن أصله يهوذا، اسم أحد أولاء يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالاً، فقيل: يهود.
وأياً كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا.
ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتواً ونفوراً، لأن عتو فرعون وتسلطه عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب ـ قبحهم الله، وهم أهلها.
* يقولون: { يد الله مغلولة } ، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [الإسراء: 29]، أي: محبوسة عن الإنفاق.
وقالوا: { إن الله فقير } [آل عمران: 181]!
أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو: هذا هو الغل وعدم الإنفاق!!
وقالوا: إن الله فقير، لأن الله قال: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له } [البقرة: 245]، فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!!
وقالت اليهود أيضاً: إن الله عاجز، لأن حين خلق السماوات والأرض، استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!!
* هنا يقول الله عز وجل: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } : { يد } : أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين، ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال: { بل يداه مبسوطتان } .(113/45)
* ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال: { غلت أيديهم } ، أي: منعت عن الإنفاق، ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعاً للمال ومنعاً للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحاً في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلساً، إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهماً، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.
فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: { غلت أيديهم } ، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر.
* { ولعنوا ما قالوا } ، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل، لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين:
1- بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: { غلت أيديهم } .
2- وبإلزامهم بمقتضى قولهم، بإبعادهم عن رحمة الله، حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله.
* { بما قالوا } : الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب).
و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم.
* ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال: { بل يداه مبسوطتان } .
* { بل } : هنا للإضراب الإبطالي.
وانظر كيف اختلف التعبير: { بل يداه مبسوطتان } ، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة.
* { مبسوطتان } : ضد قولهم: { مغلولة } ، فيد الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء:(113/46)
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمينه"(1).
من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد! ومع ذلك لم يغض ما في يمينه.
وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر"(2).
ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته، لا ينقص البحر شيئاً أبداً، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص، لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أم معلوم، مستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضاً أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئاً، لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"، لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثاً ولغواً.
لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.
ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول!
المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى.
وليس إنفاق الله تعالى لما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.
أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: { يد الله مغلولة } ؟!(113/47)
لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى.
لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيداً ولم يعط عمراً؟
قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة، ولهذا قال رداً على شبهتهم: { ينفق كيف يشاء } ، فمن الناس من يعطيه كثيراً، ومنهم من يعطيه قليلاً، ومنهم من يعطيه وسطاً، تبعاً لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلاً ليس محروماً من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعاً وبصراً وعقلاً وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا: { يد الله مغلولة } .
فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل.
ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين، لقوله تعالى: { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } [يس: 71]، فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع، لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟
فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعاً:
أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد العموم، فيشمل كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى: { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34]، فـ { نعمت } : مفرد مضاف، فهي تشمل كثيراً، لقوله: { لا تحصوها } ، إذاً: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين.
{ يد الله } : نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت، لأن المفرد المضاف يفيد العموم.
أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
ففي الكتاب:
في صورة ص قال: { لما خلقت يدي } [ص:57]، والمقام مقام تشريف، ولو كان الله خلقه بأكثر من يدين، لذكره، لأنه كلما ازدادت الصفة التي بها خلق الله هذا الشيء، ازداد تعظيم هذا الشيء.(113/48)
وأيضاً: في سورة المائدة قال: { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]، في الرد على من قالوا: { يد الله } ، بالإفراد، والمقام مقام يقتضي كثرة النعم، وكلما كثرت وسيلة العطاء، كثر العطاء، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهما.
أما السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "يطوي الله تعالى السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى"(1).
قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلتا يديه يمين"(2).
ولم يذكر أكثر من اثنتين.
وأجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة.
فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع: { مما عملت أيدينا } [يس: 71]؟!
فنقول الجمع على أحد الوجهين:
فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ { أيدينا } لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية: { بل يداه مبسوطتان } ، ولا إشكال فيه.
فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟
فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4]، وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط، لقوله تعالى: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } [الأحزاب: 4]ٍ، ولا لامرأة كذلك.
واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } [النساء: 11]، فـ { إخوة } جمع، والمراد به اثنان.
واحتجوا أيضاً بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين.
ولكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة.
وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين.(113/49)
ثم إن المراد باليد هنا نفس الذات التي لها يد، وقد قال الله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41]، أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه.
ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله: { مما عملت أيدينا } ، وبين قوله: { لما خلقت بيدي } ، فـ: { مما عملت أيدينا } ، كأنه قال: مما عملنا، لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ { بيدي } : اليدان دون الذات.
وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد والتثنية والجمع.
فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك أن هذا مفرد مضاف فيعم كل منا ثبت لله من يد.
وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين:
أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه ـ وهو الثلاثة فأكثر ـ بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: { إنا } و { نحن } و { وقلنا } .... وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم.
أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض.
وأما قوله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } [الذاريات: 47]، فالأيد هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قيد، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: { بأيد } ، أي: بقوة.
ونظير ذلك قوله تعالى: { يوم يكشف عن ساق } [القلم: 42]، فإن لعلماء السلف في قوله: { عن ساق } : قولين:
القول الأول: أن المراد به الشدة.
والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل.
فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد(1)، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله. ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: المراد بالساق الشدة.(113/50)
فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يداً حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق.
فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوقين، لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفى مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس:
- أما الشرع، فقوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11].
- وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته، لأن هذا يعد عيباً في الخالق.
- وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير، وضخم ودقيق.. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى لأيدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى.
هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوي، وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة لأن اليد تطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة.
ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: "أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم"(1)، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج.
وأما اليد بمعنى النعمة، كثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر: "لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك"(2)، يعني: نعمة.
وقول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد تحدث أن المانوية تكذب
والمانوية: فرقة من المجوس الذين يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير. فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة التي تدل على أن المانوية تكذب، لأن ليلك يأتي بخير.(113/51)
فالمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية، لأنك لو أثبت لله يداً حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون الله تعالى جسماً، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله: { فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74].
ونحن أسعد بالدليل منك أيها المثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه من الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة.
وجوابنا على هذا من عدة وجوه:
أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية.
فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: إن المراد بيد الله الحقيقية!.
أقوله له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: إن المراد باليد القوة أو النعمة.
فلا يستطيع أن بذلك.
إذاً، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولون به، علم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه إذا لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه، لأنهم الذين نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغتهم، فلا بد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم ينقل عنهم ما يخالفه، كان ذلك قولهم.
ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعم أو القوة في مثل قوله: { لما خلقت بيدي } [ص: 75]، لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونعم الله لا تحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.(113/52)
هب أنه قد يمكن في قوله: { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]: أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يراد بقوله: { لما خلقت بيدي } النعمة أبداً.
أما القوة، فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعاً، في قوله: { بل يداه } وفي قوله: { لما خلقت بيدي } ، لأن القوة لا تتعدد.
رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس، بل ولا على الحمير والكلاب، لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة، ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ إن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟!
خامساً: أن يقال: إن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة، لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.
فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: المراد باليد القوة باطل من عدة أوجه.
وقد سبق أن صفات الله عز وجل من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له.
إثبات العينين لله تعالى
وقوله: { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } ، { وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيينا جزاء لمن كان كفر } ، { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } (1)......
(1) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات العينين لله تعالى ثلاث آيات.
الآية الأولى: { وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } [الطور: 48].
* الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام.
* والصبر: بمعنى الحبس، ومنه قوله: قتل صبراً، أي: قتل وقد حبس للقتل.
فالصبر في اللغة: بمعنى الحبس.
وفي الشرع: قالوا: هو الصبر لأحكام الله، يعني: حبس النفس لأحكام الله.(113/53)
وأحكام الله عز وجل شرعية وكونية: والشرعية: أوامر ونواه، فالصبر على طاعة الله صبر على الأوامر، والصبر عن معصيته صبر عن النواهي. والكونية: أقدار الله تعالى: فيبصر على أقداره وقضائه.
وهذا معنى قول بعضهم الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فقوله تعالى: { واصبر لحكم ربك } : يتناول الأقسام الثلاثة:
1- الصبر على طاعة الله.
2- وعن معصية الله.
3- وعلى أقدار الله.
أي: اصبر لحكم ربك الكوني والشعري.
وبهذا نعرف أن التقسيم الذي ذكره العلماء، وقالوا: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن مصية الله، وصبر على أقدار الله: داخل في هذه الكلمة: { واصبر لحكم ربك } .
ووجه الدخول: أن الحكم إما كوني وإما شرعي، والشرعي أوامر ونواه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمره الله عز وجل بأوامر، ونهاه عن نواهي، وقدر عليه مقدورات:
فالأوامر مثل: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [المائدة: 67]، { ادع إلى سبيل ربك } [النحل: 125]، وهذه أوامر عظيمة، يعني: لو قيل لإنسان: اعبد ربك، فإنه يتمكن من العبادة، لكن الدعوة والتبليغ أمر صعب، لأنه يتعب في معاناة الآخرين وجهادهم، فيكون صعباً.
وأما النواهي، فقد نهاه عن الشرك، قال: { ولا تكونن من المشركين } [الأنعام: 14]، { لئن أشركت ليحبطن عملك } [الزمر: 65]... وما أشبه ذلك.
وأما الأحكام القدرية: فقد حصل عليه أذى من قومه، أذى قولي وأذى فعلي، لا يصبر عليه إلا أمثال الرسول عليه الصلاة والسلام.
آذوه بالقوة: بالسخرية، والاستهزاء، والتهجين، وتنفير الناس عنه.
وأذوه بالفعل: كان ساجداً تحت الكعبة في آمن بقعة من الأرض، ساجداً لربه، فذهبوا، وأتوا بسلى الناقة، ووضعوه على ظهره وهو ساجد(1)!!(113/54)
ليس هناك أبلغ من هذه الأذية مع العلم بأنه لو يدخل كافر مشرك إلى الحرم، لكان عندهم آمناً، لا يؤذونه فيه، بل يكرمونه ويطعمونه النبيذ ويسقونه ماء زمزم!! ومحمد عليه الصلاة والسلام سجداً لله يؤذونه هذا الأذى!!
كانوا يأتون بالعذرة والأنتان والأقذار يضعونه عند عتبة بابه!!
وخرج إلى أهل الطائف، وماذا صار؟! صار الإيذاء العظيم، صف سفهاؤهم وغلمانهم على جانبي الطريق، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه، فلم يفق إلا في فرن الثعالب(2).
* فصبر على حكم الله، ولكنه صبر مؤمن يؤمن بأن العاقبة له، لأن الله قال له: { وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } ... هذا الاعتناء والحفاوة.... أكرم شيء يكون به الإنسان أن تقول له: أنت بعيني، أنت بقلبي... وما أشبه ذلك.
أنت بعيني، معناه: أنا ألاحظك بعيني. وهذا تعبير معروف عند الناس، يكون تمام الحراسة والعناية والحفظ بمثل هذا التعبير: أنت بعيني،.
إذاً، قوله: { فإنك بأعيننا } ، يعني: فإنك محروس غاية الحراسة، محفوظ غاية الحفظ.
{ بأعيننا } : أعيننا معك، نحفظك، ونرعاك، ونعتني بك.
في الآية الكريمة إثبات العين لله عز وجل، لكنها جاءت بصيغة الجمع، لما سنذكر إن شاء الله تعالى.
العين من الصفات الذاتية الخبرية: الذاتية: لأنه لم يزل ولا يزال متصفاً بها، الخبرية: لأن مسماها بالنسبة إلينا أجزاء وأبعاض.
فالعين منا بعض من الوجه، والوجه بعض من الجسم، لكنها بالنسبة لله لا يجوز أن نقول: إنها بعض من الله، لأنه سبق أن هذا اللفظ لم يرد، وأنه يقتضي التجزئة في الخالق، وأن البعض أو الجزء هو الذي يجوز بقاء الكل بفقده، ويجوز أن يفقد، وصفات الله لا يجوز أن تفقد أبداً، بل هي باقية.
وقد دل الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لله عينين اثنتين فقط، حين وصف الدجال وقال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"(1)، وفي لفظ: "أعور العين اليمنى"(2).(113/55)
وقد قال بعض الناس معنى (أعور)، أي: معيب، وليس من عور العين!!
وهذا لا شك أنه تحريف وتجاهل للفظ الصحيح الذي في البخاري وغيره: "أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية"(3) وهذا واضح.
ولا يقال أيضاً: (أعور) باللغة العربية، إلا لعور العين، أما إذا قيل: (عور) أو (عوار)، فربما يراد به مطلق العيب.
وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى عينين اثنتين فقط.
ووجه الدلالة أنه لو كان لله أكثر من اثنتين، لكان البيان به أوضح من البيان بالعور، لأنه لو كان لله أكثر من عينين، لقال: إن ربكم له أعين، لأنه إذا كان له أعين أكثر من ثنتين، صار وضوح أن الدجال ليس برب أبين.
وأيضاً: لو كان الله عز وجل أكثر من عينين، لكان ذلك من كماله، وكان ترك ذكره تفويتاً للثناء على الله، لأن الكثرة تدل على القوة والكمال والتمام، فلو كان لله أكثر من عينين، لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، لئلا يفوتنا اعتقاد هذا الكمال، وهو الزائد على العينين الثنتين.
وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الصواعق المرسلة" حديثاً، لكنه ضعيف لانقطاعه، وهو: "إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن..."(1): "عيني": هذه تثنية، لكن الحديث ضعيف، واعتمادنا في عقيدتنا هذه على الحديث الصحيح، حديث الدجال، لأنه واضح لمن تأمله.
ولقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدرامي رحمه الله في "رده على بشر المريسي"، وكذلك أيضاً ذكره ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وذكر أيضاً إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله وأبو بكر الباقلاني، والأمر في هذا واضح.
فعقيدتنا التي ندين لله بها: أن لله تعالى عينين اثنتين، لا زيادة.
فإن قيل: إن من السلف من فسر قوله تعالى: { بأعيننا } ، بقوله: بمرأى منا. فسره بذلك أئمة سلفيون معروفون، وأنتم تقولون: إن التحريف محرم وممتنع، فما الجواب؟(113/56)
فالجواب: أنهم فسروها باللازم، مع إثبات الأصل، وهي العين، وأهل التحريف يقولون: بمرأى منا، بدون إثبات العين، وأهل السنة والجماعة يقولون: { بأعيننا } : بمرأى منا، ومع إثبات العين.
لكن ذكر العين هنا أشد توكيداً وعناية من ذكر مجرد الرؤية، ولهذا قال: { فإنك بأعيننا } .
قالت المعطلة: أجلبتم علينا بالخيل والرجل في إنكاركم علينا التأويل، وأنتم أولتم فأخرجتم الآية عن ظاهرها، فالله يقول: { فإنك بأعيننا } ، فخذوا بالظاهر، وإذا أخذتم بالظاهر، كفرتم، وإذا لم تأخذوا بالظاهر، تناقضتم، فمرة تقولون: يجوز التأويل، ومرة تقولون: لا يجوز التأويل، وتسمونه تحريفاً، وهل هذا إلا تحكم بدين الله؟
قلنا: نأخذ بالظاهر، وعلى العين والرأس، وهو طريقتنا، ولا نخالفه.
قالوا: الظاهر من الآية أن محمد - صلى الله عليه وسلم - بعين الله، وسط العين، كما تقول: زيد بالبيت. زيد بالمسجد، فالباء للظرفية، فيكون زيد داخل البيت وداخل المسجد، فيكون قوله: { بأعيننا } ، أي: داخل أعيننا وإذا قلتم بهذا كفرتم، لأنكم جعلتم الله محلاً للخلائق، فأنتم حلولية، وإن لم تقولوا به، تناقضتم؟
قلنا لهم: معاذ الله ثم معاذ الله ثم معاذ الله أن يكون ما ذكرتموه ظاهر القرآن، وأنتم إن اعتقدتم أن هذا ظاهر القرآن، كفرتم، لأن من اعتقد أن ظاهر القرآن كفر وضلال، فهو كافر ضال.
فأنتم توبوا إلى الله من قولكم: إن هذا هو ظاهر اللفظ واسألوا جميع أهل اللغة من الشعراء والخطباء: هل يقصدون بمثل هذه العبارة أن الإنسان المنظور إليه بالعين حال في جفن العين؟ اسألوا من شئتم من أهل اللغة أحياء وأمواتاً
فأنت إذا رأيت أساليب اللغة العربية، عرفت أن هذا المعنى الذي ذكروه وألزمونا به لا يرد في اللغة العربية، فضلاً عن أن يكون مضافاً إلى الرب عز وجل، فإضافته إلى الرب كفر منكر، وهو منكر لغة وشرعاً وعقلاً.
فإن قيل: بماذا تفسرون الباء في قوله: { بأعيننا } ؟(113/57)
قلنا: نفسرها بالمصاحبة، إذا قلت: أنت بعين، يعني: أن عيني تصحبك وتنظر إليك، لا تنفك عنك، فالمعنى: أن الله عز وجل بقول لنبيه: أصبر لحكم الله، فإنك محوظ بعنايتنا وبرؤيتنا لك بالعين حتى لا ينالك أحد بسوء.
ولا يمكن أن تكون الباء هنا للظرفية، لأنه يقتضي أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عين الله، وهذا محال.
وأيضاً، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوطب بذلك وهو في الأرض، فإذا قلتم: إنه كان في عين الله كانت دلالة القرآن كذباً.
وهذا وجه آخر في بطلان دعوى أن ظاهر القرآن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عين الله تعالى.
الآية الثانية: قوله تعالى: { وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر } [القمر: 13-14].
* { وحملناه } : الضمير يعود على نوح عليه الصلاة والسلام.
* وقوله: { وحملناه على ذات ألواح ودسر } : أي: على سفينة ذات ألواح ودسر، وهذه السفينة كان عليه الصلاة والسلام يصنعها، وكان يمر به قومه، فيسخرون منه، فيقول: { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } [هود: 38].
صنعها بأمر الله ورعاية الله وعنايته، وقالب الله له: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } [هود: 37] فالله تعالى ينظر إليه وهو يصنع الفلك، ويلهمه كيف يصنعها.
* ووصفها الله هنا في قوله: { ذات ألواح ودسر } : { ذات } : بمعنى: صاحبة. والألواح: الخشب. والدسر: مايربط به الخشب كالمسامير والحبال وما أشبه ذلك، وأكثر المفسرين على أن المراد بها المسامير التي تربط بها الأخشاب.(113/58)
* { تجري بأعيننا } : هذا الشاهد: { بأعيننا } : أي ذات الألواح والدسر بأعين الله عز وجل. والمراد بالأعين هنا عينان فقط، كما مر ومعنى تجري بها، أي: مصحوبة بنظرنا بأعيننا، فالباء هنا للمصاحبة، تجري على الماء الذي نزل من السماء ونبع من الأرض، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام دعا ربه { أني مغلوب فانتصر } [القمر: 10]، قال الله تعالى: { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } (11) وفجرنا الأرض عيوناً } [القمر: 11-12]، فكانت هذه السفينة تجري بعين الله عز وجل.
قد يقول قائل: لماذا لم يقل: وحملناه على السفينة، أو: حملناه على فلك، بل قال: { على ذات ألواح ودسر } ؟
والجواب على هذا أن نقول: عدل عن التعبير بالفلك والسفينة إلى التعبير بذات ألواح ودسر، ولوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: مرعاة للآيات وفواصلها، فلو قال: حملنا على فلك، لم تتناسب هذه الآية مع ما بعدها ولا ما قبلها. ولو قال: على سفينة، كذلك، لكن من أجل تناسب الآيات في فواصلها وفي كلماتها قال: { على ذات ألواح ودسر } .
الوجه الثاني: من أجل أن يتعلم الناس كيف يصنعون السفن، وبيان أنها من الألواح والمسامير، ولهذا قال الله تعالى: { ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [القمر: 15]، فأبقى الله تعالى علمها آية للخلق يصنعون كما ألهم الله تعالى نوحاً.
الوجه الثالث: الإشارة إلى قوتها، حيث كانت من ألواح ودسر، والتنكير هنا للتعظيم.
وروعي التركيز على مادتها، ونظير ذلك في ذكر الوصف دون الموصوف قوله تعالى: { أن اعمل سابغات } [سبأ: 11] ولم يقل: دروعاً، من أجل العناية بفائدة هذه الدروع، وهي أن تكون سابغة تامة، فهذه مثلها.
* وقوله: { تجري بأعيننا } ، نقول فيها ما قلناه في قوله تعالى: { فإنك بأعيننا } [الطور: 48].
الآية الثالثة: قوله: { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } [طه: 39].
* الخطاب لموسى عليه الصلاة والسلام.(113/59)
* فقوله: { وألقيت عليك محبة مني } : اختلف المفسرون في معناها:
فمنهم من قال: { وألقيت عليك محبة مني } ، يعني: أني أحببتك.
ومنهم من قال: ألقيت عليك محبة من الناس، والإلقاء من الله، أي أن: من رآك أحبك، وشاهد هذا أن امرأة فرعون لما رأته أحبته وقالت: { لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [القصص: 9].
ولو قال قائل: أيمكنكم أن تحملوا الآية على المعنيين؟ لقلنا: نعم بناء على القاعدة، وهو أن الآية إذا كانت تحمل معنيين لا منافاة بينهما، فإنها تحمل عليهما جميعاً، فموسى عليه الصلاة والسلام محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الناس، إذا رآه الناس، أحبوه، والواقع أن المعنيين متلازمان، لأن الله تعالى إذا أحب عبداً، ألقى في قلوب العباد محبته.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أحبه الله وحببه إلى خلقه.
* ثم قال: { ولتصنع على عيني } : الصنع: جعل الشيء على صفة معينة، كصنع صفائح الحديد قدوراً، وصنع الأخشاب أبواباً، وصنع شيء بحسبه، فصناعة البيت: بناء البيت، وصناعة الحديد: جعلها أواني مثلاً أو محركات، وصنع الآدمي: معناه التربية البدنية والعقلية: تربيته البدنية بالغذاء، وتربيته العقلية بالآداب والأخلاق وما أشبه ذلك.
وموسى على الصلاة والسلام حصل له ذلك، فإنه ربي على عين الله:
لما التقط آل فرعون، حماه الله عز وجل من قتلهم، مع أنهم كانوا يقتلون أبناء بني إسرائيل، فقضى الله تعالى أن هذا الذي تقتل الناس من أجله ستربى في أحضان آل فعون، فالناس يقتلون من أجله، وهو يتربى آمناً في أحضانهم. وأنظر إلى هذه القدرة العظيمة(113/60)
ومن تربية الله له عرض على المراضع ـ النساء اللاتي يرضعنه ـ، ولكنه ما رضع من أي واحدة: { وحرمنا عليه المراضع من قبل } [القصص: 12]، فما رضع من امرأة قط، وكانت أخته قد انتدبت من قبل أمه، فرأتهم، وقالت: { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } [القصص: 12]، قالوا: نعم، نحن نود هذا. فقالت: اتبعوني. فتبعوها، قال تعالى: { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن } [القصص: 13]، ولم يرضع من امرأة قط، مع أنه رضيع لكن هذا من كمال قدرة الله وصدق وعده، لأن الله عز وجل قال لها: { فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } [القصص: 7].
الأم شفقتها على ابنها لا أحد يتصورها، قيل لها: اجعلي ابنك في صندوق، وألقيه في البحر، وسيأتي إليك.
لولا الإيمان الذي مع هذه المرأة، ما فعلت هذا الشيء تلقي ابنها في البحر لو أن ابنها سقط في تابوته في البحر، لجرته فكيف وهي التي تلقيه؟ لكن لثقتها بالرب عز وجل ووعده ألقته في اليم.
وقوله: { ولتصنع على عيني } ، بالإفراد، هل ينافي ما سبق من ذكرها بالجمع؟!
الجواب: لا تنافي، وذلك لأن المفرد المضاف يعم فيشمل كل ما ثبت لله من عين، وحينئذ لا منافاة بين المفرد وبين الجمع أو التثنية.
إذاً، يبقى النظر بين التثنية والجمع، فكيف نجمع بينهما؟!
الجواب أن نقول: إن كان أقل الجمع اثنين، فلا منافاة، لأننا نقول: هذا الجمع دال على اثنتين، فلا ينافيه. وإن كان أقل الجمع ثلاثة، فإن هذا الجمع لا يراد به الثلاثة، وإنما يراد به التعظيم والتناسب بين ضمير الجمع وبين المضاف إليه.(113/61)
وقد فسر أهل التحريف والتعطيل العين بالرؤية بدون عين، وقالوا: { بأعيننا } : برؤية منا، ولكن لا عين، والعين لا يمكن أن تثبت لله عز وجل أبداً، لأن العين جزء من الجسم، فإذا أثبتنا العين لله، أثبتنا العين لله، أثبتنا تجزئة وجسماً، وهذا شيء ممتنع، فلا يجوز، ولكنه ذكر العين من باب تأكيد الرؤية، يعني: كأنما نراك ولنا عين، والأمر ليس كذلك!!
فنقول لهم: هذا القول خطأ من عدة أوجه:
الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر اللفظ.
الثاني: أنه مخالف لإجماع السلف.
الثالث: أنه لا دليل عليه، أي: أن المراد بالعين مجرد الرؤية.
الرابع: أننا إذا قلنا بأنها الرؤية، وأثبت الله لنفسه عيناً، فلازم ذلك أنه يرى بتك العين، وحينئذ يكون في الآية دليل على أنها عين حقيقية.
صفة السمع والبصر لله تعالى
وقوله: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما كما إن الله سميع بصير } (1).......................................................
(1) ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات صفتي السمع والبصر آيات سبعاً:
الآية الأولى: قوله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } [المجادلة: 1].
* { قد } : للتحقيق.
والمجادلة: هي التي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشتكي زوجها حين ظاهر منها.
والظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كلمة نحوها.
وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً بائناً، فجاءت تشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبين له كيف يطلقها هذا الرجل ذلك الطلاق البائن وهي أم أولاده، وكانت تحاور النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: تراجعه الكلام فأفتاها الله عز وجل بما أفتاها به في الآيات المذكورة.(113/62)
* والشاهد من هذه الآيات قوله: { قد سمع الله قول التي تجادلك } ، ففي هذا إثبات السمع لله سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الأصوات مهما بعدت ومهما خفيت.
قالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك(أو قالت: الحمد لله) الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت، وإني ليخفى على بعض حديثها"(1).
والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
1- سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.
2- وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه، لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه، يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط، لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.
فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقصد به التأييد.
والثاني: ما يقصد به التهديد.
والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.
1- أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } [الزخرف: 80]، وقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181].
2- وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: { قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } [طه: 46]، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.
3- وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } [المجادلة: 1].
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } (1) { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } (2)........................................
(1) الآية الثانية: قوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181].(113/63)
* { لقد } : جملة مؤكدة باللام، و(قد)، والقسم المقدر، تقديره: والله، فهي مؤكدة بثلاث مؤكدات.
والذين قالوا: { إن الله فقير ونحن أغنياء } : هم اليهود قاتلهم الله، فهم وصفوا الله بالعيب، قالوا: { إن الله فقير } .
وسبب قولهم هذا: أنه لما نزل قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له } [البقرة: 245]، قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد! إن ربك افتقر، يسأل القرض منا.
(2) الآية الثالثة: قوله: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [الزخرف: 80].
* { أم } في مثل هذا التركيب، يقولون: إنها متضمنة معنى (بل)، والهمزة، يعني: بل أيحسبون، ففيها إضراب وفيها استفهام، أي: بل أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم.
* والسر: ما يسره الإنسان إلى صاحبه.
والنجوى: ما يناجي به صاحبه ويخاطبه، فهو أعلى من السر.
والنداء: ما يرفع به صوته لصاحبه.
فها هنا ثلاثة أشياء: سر ومناجاة ونداء.
فمثلاً: إذا كان شخص إلى جانب: وساررته، أي: كلمته بكلام لا يسمعه غيره، نسمي هذا مسارة.
وإذا كان الحديث بين القوم يسمعونه كلهم ويتجاذبونه، سمي مناجاة وأما المناداة، فتكون من بعيد لبعيد.
فهؤلاء يسرون ما يقولونه من المعاصي، ويتناجون بها، فيقول الله عز وجل مهدداً إياهم: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } .
* و { بلى } : حرف إيجاب، يعني: بلى نسمع، وزيادة على ذلك: { ورسلنا لديهم يكتبون } ، أي: عندهم يكتبون ما يسرون وما به يتناجون، والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، ففي هذه الآية إثبات أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم.
وقوله: { إنني معكما أسمع وأرى } (1)................................................
(1) الآية الرابعة: قوله: { إنني معكما أسمع وأرى } [طه: 46].(113/64)
* الخطاب لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، يقول الله سبحانه وتعالى لهما: { إنني معكما أسمع وأرى } ، أي: أسمع ما تقولان، وأسمع ما يقال لكما، وأراكما، وأرى أن من أرسلتما إليه، وأرى ما تفعلان، وأرى ما يفعل بكما.
لأنه إما أن يساء إليهما بالقول أو بالفعل، فإن كان بالقول، فهو مسموع عند الله، وإن كان بالفعل، فهو مرئي عند الله.
وقوله: { ألم يعلم بأن الله يرى } (1)..................................................
(1) الآية الخامسة: قوله: { ألم يعلم بأن الله يرى } [العلق: 14].
* الضمير في { ألم يعلم } يعود إلى من يسيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: { أرأيت الذين ينهى (9) عبداً إذا صلى (10) أريت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى } [العلق: 9-14]، وقد ذكر المفسرون أن المراد به أبو جهل(1).
وفي هذه الآية: إثبات صفة الرية لله عز وجل.
والرؤية المضافة إلى الله لها معنيان.
المعنى الأول: العلم.
المعنى الثاني: رؤية المبصرات، يعني: إدراكها بالبصر.
فمن الأول: قوله تعالى عن القيامة: { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [المعارج: 6]، فالرؤية هنا رؤية العلم، لأن اليوم ليس جسماً يرى، وأيضاً هو لم يكن بعد، فمعنى: { ونراه قريباً } ، أي: نعلمه قريباً.
*وأما قوله: { ألم يعلم بأن الله يرى } ، فهي صالحة لأن تكون بمعنى العلم وبمعنى الرؤية البصرية، وإذا كانت صالحة لهما، ولا منافاة بينهما وجب أن تحمل عليهما جميعاً، فيقال: إن الله يرى، أي: يعلم ما يفعله هذا الرجل وما يقوله، ويراه أيضاً.
{ الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم } (1)...............
(1) الآية السادسة: قوله: { الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم } [الشعراء: 218-220].(113/65)
* وقبل هذه الآية قوله: { وتوكل على العزيز الرحيم } [الشعراء: 217].
* والرؤية هنا رؤية البصر، لأن قوله: { الذي يراك حين تقوم } لا تصح أن تكون بمعنى العلم، لأن الله يعلم به حين يقوم وقبل أن يقوم، وأيضاً لقوله: { وتقلبك في الساجدين } وهو يؤيد أن المراد بالرؤية هنا رؤية البصر.
* ومعنى الآية: أن الله تعالى يراه حين يقوم للصلاة وحده وحين يتقلب في الصلاة مع الساجدين في صلاة الجماعة.
* { إنه هو السميع العليم } : { إنه } ، أي: الله الذي يراك حين تقوم: { هو السميع العليم } .
وفي الآية هنا ضمير الفصل { هو } ، من فوائده الحصر، فهل الحصر هنا حقيقي، بمعنى: أنه حصر لا يوجد شيء من المحصور في غير المحصور فيه، أو هو إضافي؟
الجواب: هو إضافي من وجه حقيقي من وجه، لأن المراد بـ { السميع } هنا: ذو السمع الكامل المدرك لكل مسموع، وهذا هو الخاص بالله عز وجل، والحصر بهذا الاعتبار حقيقي، أما مطلق السمع، فقد يكون من الإنسان، كما في قوله تعالى: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } [الإنسان: 2]، فجعل الله تعالى الإنسان سميعاً بصيراً. وكذلك { عليم } ، فإن الإنسان عليم، كما قال الله تعالى: { وبشروه بغلام عليم } [الذاريات: 28]، لكن العلم المطلق ـ أي: الكامل ـ خاص بالله سبحانه وتعالى، فالحصر بهذا الاعتبار حقيقي.
وفي هذه الآية الجمع بين السمع والرؤية.
{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } (1)............................
(1) الآية السابعة: قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } [التوبة: 105].
* والذي قبل هذه الآية: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم } [التوبة: 103-104].(113/66)
* في هذه الآية يقول: { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } .
قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد ـ يعني من الله تعالى ـ للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا.
والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية.
ففي الآية: إثبات الرؤية بمعنييها: الرؤية العلمية، والرؤية البصرية.
وخلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:
أن السمع ينقسم إلى قسمين:
1- سمع بمعنى الاستجابة.
2- وسمع بمعنى إدراك الصوت.
وأن إدراك الصوت ثلاثة أقسام.
وكذلك الرؤية تنقسم إلى قسمين:
1- رؤية بمعنى العلم.
2- ورؤية بمعنى إدراك المبصرات.
وكل ذلك ثابت لله عز وجل.
والرؤية التي بمعنى إدراك المبصرات ثلاثة أقسام:
1- قسم يقصد به النصر والتأييد، كقوله: { إنني معكما أسمع وأرى } [طه: 46].
2- وقسم يقصد به الإحاطة والعلم، مثل قوله: { إن الله نعماً يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً } [البقرة: 271].
3- وقسم يقصد به التهديد، مثل قوله: { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله } [التوبة: 94].
ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية:
- أما الرؤية، فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء: الخوف عند المعصية، لأن الله يرانا. والرجاء عند الطاعة، لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا، فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته.
- وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر، لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفاً ورجاءً: خوفاً، فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء، فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل.
صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى(113/67)
وقوله: { وهو شديد المحال } ، وقوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } ، وقوله: { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } ، وقوله: { إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً } ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال ، والمكر.
الآية الأولى: في المحال ، وهي قوله : { وهو شديد المحال } {سورة الرعد : 13} .
* أي : شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل : إن المحال بمعنى المكر ؛ أي : شديد المكر ، وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة وهي أن يتخيل بخصمه حتى يتوقع به . وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله ؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد.
والمكر ؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم ؛ يعني : أن تفعل أسباباً خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.
والمكر يكون في موضع مدحاً ويكون في ذماً: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة.
ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } {النمل : 50} ، { ويمكرون ويمكر الله } {الأنفال: 30}، ولا يوصف الله سبحانه وتعالى به على الإطلاق ؛ فلا يقال : إن الله ماكر ! لا على سبيل الخبر ، ولا على سبيل التسمية ؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحاً في حال ويكون ذماً في حال ؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.(113/68)
فأما قوله تعالى : { والله خير الماكرين } {آل عمران: 54} ؛ فهذا كمال ؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرينبل قال: { والله خير الماكرين } ؛ فلا يكون مكره إلا خيراً ، ولهذا يصح أن نصفه بذلك ؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة ؛ أي : مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: { ويمكرون ويمكر الله } .
الآية الثانية: في المكر ، وهي قوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } {سورة آل عمران: 54}.
* هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، مكر به اليهود ليقتلوه ، ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكراً ، رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله ، فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل ، وإذا عيسى قد رفع ، فدخل الناس ، فقالوا: أنت عيسى ! قال : لست عيسى ! فقالوا: أنت هو! لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائداً عليه، { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } .
الآية الثالثة: في المكر أيضاً ، وهي قوله : { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } {النمل: 50} .
هذا في قوم صالح ، كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار - { تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله } {النمل: 49} ؛ يعني: لنقتلنه بالليل ، { ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون } {النمل: 49}؛ يعني : أنهم قتلوه بالليل ؛ فما يشاهدونه . لكن مكروا ومكر الله ! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، لجؤوا إلى غار ينتظرون الليل ؛ انطبق عليهم الغار ، فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء ، فيقول الله : { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً } .
* { ومكرا } : في الموضعين منكرة للتعظيم ؛ أي : مكروا مكراً عظيماً، ومكرنا مكراً أعظم.(113/69)
الآية الرابعة: في الكيد ، وهي قوله : { إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً } {الطارق: 15-16}.
* { إنهم } ؛ أي: كفار مكة، { يكيدون } للرسول صلى الله عليه وسلم { كيداً } لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته ، ولكن الله تعالى يكيد كيداً أعظم وأشد.
* { وأكيد كيداً } ؛ يعني : كيداً أعظم من كيدهم .
ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } {الأنفال: 30} : ثلاثة آراء.
1- 1- { ليثبتوك } ؛ يعني: يحبسوك.
2- 2- { يقتلوك } ؛ يعني: يعدموك.
3- 3- { يخرجوك } ؛ يعني: يطردوك
وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس ؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي ، وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش ، وأعطوا كل واحد سيفاً ثم يعمدون إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقتلونه قتلة رجل واحد ، فيضيع دمه في القبائل ؛ فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحداً من هؤلاء الشبان وحينئذ يلجؤون إلى الدية ، فتسلمون منه . فقالوا: هذا الرأي!! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكراً والله تعالى يمكر خيراً منه؛ قال الله تعالى: { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } {الأنفال: 30} ؛ فما حصل لهم الذي يريدون ! بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من بيته، يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ: { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [يس: 9]، فكانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج، فخرج، من بينهم، ولم يشعروا به.
إذاً، صار مكر الله عز وجل أعظم من كرهم، لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر.
*قال هنا: { يكيدون كيدا(15) وأكيد كيدا } [الطارق: 15-16]، والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم.(113/70)
وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى: { كذلك كدنا ليوسف } [يوسف: 76]، يعني: عملنا عملاً حصل به مقصوده دون أن يشر به أحد.
وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به.
فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟ .
فالجواب: تعريفها عند أهل العلم : التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم ؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها. وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها وفي غير محلها صفة نقص يذم عليها.
ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود-والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما أنكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو ؛ صرخ علي : ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو ، فلما التفت؛ ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه
هذا خداع ، لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه ؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله ؛ فكاد له علي بذلك.
والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق ؛ لأنها تكون مدحاً في حال ، وذماً في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحاً ، ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحاً ؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه.
والاستهزاء من هذا الباب ؛ فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق ؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب ، وهو منفي عن الله ؛ قال الله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } {الدخان: 38}، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون كمالاً ؛ كما قال تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } {البقرة: 14} ؛ قال الله: { الله يستهزئ بهم } {البقرة: 15}.(113/71)
فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.
لكن أهل التحريف يقولون : لا يمكن أن يوصف بها أبداً ، لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } {المائدة: 119}.
ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص ، وخلاف إجماع السلف. وقد قلنا سابقاً: إذا قال قائل : أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة
فنقول لهم: نعم ؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به ، وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر ؛ يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع، ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب ، أو الكيد بالعقوبة . . . . ونحو ذلك . وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس ؛ يقولون : أنتم تقولون : هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟
نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع.
ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال:
المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه ، وما أكثر المتحيلين على المحارم فهؤلاء المتحيلون على المحارم، إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكراً، وأسرع منهم مكراً ؛ فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر .
ربما يفعل الإنسان شيئاً فيما يبدوا للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز ، فيخاف ، ويحذر.
وهذا له أمثلة كثيرة جداً في البيوع والأنكحة وغيرهما :(113/72)
مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر ؛ قال : أقرضني عشرة آلاف درهم . قال : لا أقرضك إلا بأثني عشر ألف وهذا رباً وحرام سيتجنبه لأنه يعرف أنه رباً صريح لكن باع عليه سلعة بأثنى عشر آلفاً مؤجلة إلى سنة بيعاً تاماً وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى ، وقال: بعنية بعشرة ألاف نقداً . فقال: بعتك إياه . وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة ؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشر ألفاً ؛ قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقداً بعشرة.
ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيئاً لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء لكنها عند الله تحيل على محارمه ، وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم ، حتى إذا آخذه لم يفلته؛ يعني : يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الرباء لكن إذا أخذه لم يفلته ؛ وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد ، وماله إلى الإفلاس ، ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس : من عاش في الحيلة مات فقيراً.
مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثاً ؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها –يعني: متى جامعها –طلقها ، ولما طلقها ؛ أنت بالعدة ، وتزوجها الأول ؛ فإنها ظاهراً تحل للزوج الأول، لكنها باطناً لا تحل؛ لأن هذه حيلة.
فمتى علمنا أن الله أسرع مكراً ، وأن الله خير الماكرين؛ أو جب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله .
صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة
وقوله: { إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً } . . .
(1) (1) ذكر المؤلف رحمه الله أربع آيات في صفة العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة:(113/73)
الآية الأولى: في العفو والمقدرة : قوله: { إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً } {النساء: 149}.
يعني : إن تفعلوا خيراً ، فتبدوه ؛ أي : تظهروه للناس ، { أو تخفوه } ؛ يعني: عن الناس فإن الله تعالى يعلمه، ولا يخفى عليه شيء.
وفي الآية الثانية: { إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً } {الأحزاب: 54} ، وهذا أعم يشمل الخير والشر وما ليس بخير ولا شر .
ولكل آية مكانها ومناسبتها لمن تأمل .
وقوله : { أو تعفوا عن سوء } : العفو: هو التجاوز عن العقوبة؛
فإذا أساء إليكم إنسان فعفوت عنه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك. ولكن العفو يشترك للثناء على فاعله أن يكون مقروناً بالإصلاح ؛ لقوله تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } {الشورى : 40} ، وذلك أن العفو قد يكون سبباً للزيادة في الطغيان والعدوان ، وقد يكون سبباً للانتهاء عن ذلك، وقد لا يزيد المعتدي ولا ينقصه.
1-فإذا كان مسباً للزيادة في الطغيان ؛ كان العفو هنا مذموماً ، وربما يكون ممنوعاً ؛ مثل أن نعفوا عن هذا المجرم ، ونعلم - أو يغلب على الظن أنه يذهب فيجرم إجراماً أكبر ؛ فهنا لا يمدح العافي ؛ عنه ، بل يذم.
2-وقد يكون العفو سبباً للانتهاء عن العدوان ؛ بحيث يخجل ويقول : هذا الذي عفا عني لا يمكن أن أعتدي عليه مرة أخرى، ولا على أحد غيره. فيخجل أن يكون هو من المعتدين ، وهذا الرجل من العافين ؛ فالعفو محمود ومطلوب وقد يكون واجباً.
3-وقد يكون العفو لا يؤثر ازدياداً ولا نقصاً ؛ فهو أفضل لقوله تعالى : { وان تعفوا أقرب للتقوى } {البقرة : 237} .(113/74)
وهنا يقول تعالى: { أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً } ؛ يعني: إذا عفوتم عن السوء ؛ عفا الله عنكم ، ويؤخذ هذا الحكم من الجواب: { فإن الله كان عفواً قديراً } ؛ يعني : فيعفو عنكم مع قدرته على الانتقام منكم ، وجمع الله تعالى هنا بين العفو والقدير؛ لأن كمال العفو أن يكون عن قدرة . أما العفو الذي يكون عن عجز ؛ فهذا لا يمدح فاعله ؛ لأنه عاجز عن الأخذ بالثأر . وأما العفو الذي لا يكون مع قدرة ؛ فقد يمدح لكنه ليس عفواً كاملاً، بل العفو الكامل ما كان عن قدرة.
ولهذا جمع الله تعالي بين هذين الاسمين ( العفو) و ( التقدير ) :
فالعفو: هو المتجاور عن سيئات عباده، والغالب أن العفو يكون عن ترك الواجبات، و المغفرة عن فعل المحرمات.
والقدير: ذو القدرة يتمكن بها الفاعل من الفعل بدون عجز.
وهذان الاسمان يتضمنان صفتين، وهما العفو، والقدرة.
{ وليعفوا وليصفحوا آلا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } (1).
(1) (1) الآية الثانية: في المغفرة والرحمة: قوله: { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } [ النور: 22].
· · هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن مسطح بن أثاثه رضي الله عنه كان ابن خالة أبي بكر، وكان ممن تكلموا في الإفك.
وقصة الإفك(1): أن قوماً من المنافقين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها، وليس والله قصدهم عائشة، لكن قصدهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: أن يدنسوا فراشه، وأن يلحقوه العار والعياذ بالله! ولكن الله ولله الحمد فضحهم، وقال: { والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم } [ النور: 11].(113/75)
تكلموا فيها، وكان أكثر من تكلم فيها المنافقون، وتكلم فيها نفر من الصحابة رضي الله عنهم معروفون بالصلاح، ومنهم مسطح بن أثاثة، فلما تكلم فيها، وكان هذا من أكبر القطيعة قطعية الرحم أن يتكلم إنسان في قريبه بما يخدش كرامته، لا سيما وأن ذلك في أم المؤمنين زوجة رسول الله صلي الله عليه وسلم، أقسم أبو بكر إلا ينفق عليه، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقال الله تعالي: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعه أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } وكل هذه الأوصاف ثابتة في حق مسطح، فهو قريب ومسكين ومهاجر { وليعفوا وليصفحوا آلا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } [ النور: 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلي والله، نحب أن يغفر الله لنا! فرد عليه النفقة.
هذا هو ما نزلت فيه الآية:
· · أما تفسيرها، فقوله: { وليعفوا وليصفحوا } : اللام لامر الأمر، وسكنت لأنها أتت بعد الواو، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الواو كما هنا أو بعد الفاء أو بعد ( ثم ) : قال الله تعالي: { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } [ الطلاق: 7] وقال تعالي: { ثم ليقضوا ثفثهم } [ الحج: 29]، هذا إذا كانت لام أمر، أما إذا كانت لام تعليل، فإنها تبقي مكسورة، لا تسكن ، وإن وليت هذه الحروف.
· · قوله: { وليعفوا } ، يعني: يتجاوزوا عن الأخذ بالذنب.
· · { وليصفحوا } ، يعني: يعرضوا عن هذا الأمر، ولا يتكلموا فيه، مأخوذ من صفحة العنق، وهي جانبه، لأن الإنسان إذا أعرض، فالذي يبدو منه صفحة العنق.
والفرق بين العفو والصفح: أن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، بل يذكر هذا العدوان وهذه الإساءة، لكنه لا يأخذ بالندب، فالصفح أبلغ من مجرد العفو.
· · وقوله: { آلا تحبون أن يغفو الله لكم } : { ألا } : للعرض، والجواب: بلي نحب ذلك، فإذا كنا نحب أن يغفر الله لنا، فلتتعرض لأسباب المغفرة.(113/76)
· · ثم قال: { والله غفور رحيم } : { غفور } : هذه إما أن تكون اسم فاعل للمبالغة، وإما أن تكون صفة مشبهة، فإذا كانت صفة مشبهة، فهي دالة على الوصف اللازم الثابت، هذا هو مقتضى الصفة المشبهة، وإن كانت اسم فاعل محولاً إلي صيغة التكثير، كانت دالة على وقوع المغفرة من الله بكثرة.
وبعد هذا نقول: إنها جامعة بين الأمرين، فهي صفة مشبهة، لأن المغفرة صفة دائمة لله عز وجل، وهي أيضاً فعل يقع بكثرة، فما أكثر مغفرة الله عز وجل وما أعظمها.
· · وقوله: { رحيم } : هذه أيضاً اسم فاعل محول إلي صيغة المبالغة، وأصل أسم الفاعل من رحم: راحم، لكن حول إلي رحيم لكثرة رحمة الله عز وجل وكثرة من يرحمهم الله عز وجل.
والله سبحانه وتعالي يقرن بين هذين الاسمين، لأنهما دالان على معني متشابه، ففي المغفرة زوال المكروب و اثار الذنب، وفي الرحمة حصول المطلوب، كما قال الله تعالي للجنة: " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" (1).
وقوله: { ولله العزة ولرسوله والمؤمنين } (1).................................
(1) (1) الآية الثالثة: في العزة، وهي قوله: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون:8].
· · هذه الآية نزلت في مقابلة قول المنافقين: { لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون: 8]، يدون أنهم الأعز، وأن رسول الله والمؤمنين الأذلون، فبين الله تعالي أنه عزة لهم، فضلاً عن أن يكونوا هم الأعزون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
· · ومقتضى قول المنافقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلي آله وسلم والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين، لأنهم أهل العزة، والمنافقين أهل الذلة، ولهذا كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفاً وجبناً، وإذا خلوا إلي شياطينهم ، قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزءون ! وهذا غاية الذل.(113/77)
أما المؤمنون، فكانوا أعزاء بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران:64]، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومه لائم.
· · وفي هذه الآية الكريمة إثبات العزة لله سبحانه وتعالي.
وذكر أهل العلم أن العزة تنقسم إلي ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع:
1. 1. فعزة القدر: معناه أن الله تعالي ذو قدر عزيز، يعني: لا نظير له.
2. 2. وعزة القهر: هي عزة الغلبة، يعني: أنه غالب كل شيء، قاهر كل شيء، ومنه قوله تعالي: { فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } [ ص: 23]، يعني: غلبني في الخطاب. فالله سبحانه عزيز له بل هو غالب كل شيء.
3. 3. وعزة الامتناع: وهي أن الله تعالي يمتنع أن يناله سوء أو نقص، فهو مأخوذ من القوة والصلابة، ومنه قولهم: أرض عزاز، يعني قوية شديدة.
هذه معاني العزة التي أثبتها الله تعالي لنفسه، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلي كمال صفاته، وعلي تمام تنزهه عن النقص.
تدل على كمال قهره وسلطانه في عزة القهر.
وعلى تمام صفاته وكمالها وأنه لا مثيل لها في عزة القدر.
وعلى تمام تنزهه عن العيب والنقص في عزة الامتناع.
· · قوله: { ولرسوله وللمؤمنين } ، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، له عزة، وللمؤمنين أيضاً عزة وغلبة.(113/78)
· · ولكن يجب أن نعلم أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كعزة الله، فإن عزة الرسول عليه الصلاة والمؤمنين قد يشوبها ذلة، لقوله تعالي: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } [ آل عمران: 123]، وقد يغلبون أحياناً لحكمة يريدها الله عز وجل، ففي أحد لم يحصل لهم تمام العزة، لأنهم غلبوا في النهاية لحكم عظيمة، وكذلك في حنين ولوا مدبرين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم، من أثني عشر ألفاً إلا نحو مئة رجل. هذا أيضاً فقد للعزة، لكنه مؤقت. أما عزة الله عز وجل، فلا يمكن أبداً أن تفقد.
وبهذا عرفنا أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كالعزة التي أثبتها لنفسه.
وهذا أيضاً يمكن أن يؤخذ من القاعدة العامة، وهي أنه: لا يلزم من اتفاق الاسمين أن يتماثل المسميان، ولا من اتفاق الصفتين أن يتماثل الموصوفان.
وقوله عن إبليس: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } (1) ............................
(1) (1) الآية الرابعة: في العزة أيضاً، وهي قوله عن إبليس: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } [ ص: 82].
· · الباء هنا للقسم، لكنه اختار القسم بالعزة دون غيرها من الصفات لأن المقام مقام مغالبة، فكأنه قال: بعزتك التي تغلب بها من سواك لأغوين هؤلاء وأسطير عليهم يعني: بني آدم حتى يخرجوا من الرشد إلي الغي.
ويستثني من هذا عباد الله المخلصون، فإن إبليس لا يستطيع أن يغويهم، كما قال تعالي: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر: 42].
ففي هاتين الآيتين إثبات العزة لله.
وفي الآية الثالثة إثبات أن الشيطان يقر بصفات الله!
فكيف نجد من بني آدم من ينكر صفات الله أو بعضها، أيكون الشيطان أعلم بالله وأعقل مسلكاً من هؤلاء النفاة؟!
ما نستفيده من الناحية المسلكية:(113/79)
في العفو والصفح: هو أننا إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائماً، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير في الواجب.
أما العزة أيضاً: نقول: إذا علمنا أن الله عزيز، فإننا لا يمكن أن نفعل فعلاً نحارب الله فيه.
مثلاً الإنسان المرابي معاملته مع الله المحاربة: { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } [ البقرة: 279]. إذا علمنا أن الله ذو عزة لا يغلب، فإنه لا يمكننا أن نقدم على محاربة الله عز وجل.
قطع الطريق محاربة: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } [المائدة: 33]، فإذا علمنا أن قطع الطريق محاربة لله، وأن العزة لله، امتنعنا عن العمل، الله هو الغالب.
ويمكن أن نقول فيها فائدة من الناحية المسلكية أيضاً، وهي أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يكون عزيزاً في دينه، بحيث لا يذل أمام أحد من الناس، كائناً من كان، على المؤمنين، فيكون عزيزاً على الكافرين، ذليلاً على المؤمنين.
إثبات الاسم لله تعالي
إثبات الاسم لله تعالي
وقوله: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والأكرم } (1) ........................
(1) (1) ذكر المؤلف رحمه الله آية في إثبات الاسم لله تعالي، وآيات أخري كثيرة في تنزيه الله تعالي ونفي المثيل عنه.
آية إثبات الاسم: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } [الرحمن: 78].
· · { تبارك } : قال العلماء: معناها: تعالي وتعاظم إن وصف بها الله، كقوله: { فتبارك الله أحسن الخاقلين } [المؤمنين : 14] ، وإن وصف بها اسم الله، معناها: أن البركة تكون باسم الله، أي أن اسم الله إذا صاحب شيئاً، صارت فيه البركة.
ولهذا جاء في الحديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ " بسم الله " فهو أبتر " (1)، أي: ناقص البركة.(113/80)
بل إن التسمية تفيد حل الشيء الذي يحرم بدونها، فإنه إذا سمي الله على الذبيحة صارت حلالاً، وإذا لم يسم صارت حراماً وميتة، وهناك فرق بين الحلال الطيب الطاهر، والميتة النجسة الخبيثة.
وإذا سمي الإنسان على طهارة الحدث، صحت، وإذا لم يسم، لم تصح على أحد القولين.
وإذا سمي الإنسان على طعامه، لم يأكل معه الشيطان، وإن لم يسم، أكل معه.
وإذا سمي الإنسان على جماعه، وقال: " اللهم ! جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا " (2)، ثم قدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً، وإن لم يفعل، فالولد عرضه لضرر الشيطان.
وعليه، فنقول: إن { فتبارك } هنا ليست بمعني: تعالي وتعاظم، بل يتعين أن يكون معناها: حلت البركة باسم الله، أي أن أسمه سبب للبركة إذا صحب شيئاً.
* وقوله: { ذي الجلال والإكرام } : { ذي } : بمعني صاحب، وهي
صفة لـ ( رب )، لا لـ ( اسم )، لو كانت صفة لـ ( اسم )، لكانت، ذو .
· · و { الجلال } ، بمعني: العظمة.
· · و { الإكرام } ، بمعني: التكريم، وهو صالح لأن يكون الإكرام من الله لمن أطاعه، وممن أطاعه له.
فـ { الجلال } : عظمته في نفسه، { والإكرام } : عظمته في المؤمنين، فيكرمونه ويكرمهم.
آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه
وقوله: { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } (1) ……………
(1) (1) قوله: { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [ مريم: 65].
شرع المؤلف رحمه الله بصفات السلبية، أي صفات النفي.
وقد مر علينا فيما سبق أن صفات الله عز وجل ثبوتية وسلبية أي: منفية، لأن الكمال لا يتحقق إلا بالإثبات والنفي، إثبات الكمالات، ونفي النقائض.(113/81)
· · قوله: { فاعبده واصطبر لعبادته } : الفاء مفرعة على ما سبق، وهو قوله: { رب السموات والأرض وما بينهما } [ مريم: 65]، فذكر سبحانه وتعالي الربوبية { رب السموات والأرض وما بينهما } ، وفرع على ذلك وجوب عبادته، لأن كل ما من أقر بالربوبية، لزمه الإقرار بالعبودية والألوهية، وإلا، صار متناقضاً.
· · فقوله: { فاعبده } ، أي: تذلل له من محبة وتعظيماً، والعبادة، يراد بها المتعبد به، ويراد بها التعبد الذي هو فعل العبد، كما سبق في المقدمة.
· · وقوله: { واصطبر } : اصطبر، أصلها في اللغة: اصتبر، فأبدلت التاء طاء لعلة تصريفية. والصبر: حبس النفس. وكلمة ( اصطبر ) أبلغ من ( اصبر )، لأنها تدل على معاناة، فالمعني اصبر، وإن شق عليك ذلك، واثبت القرين لقرينه في القتال.
· · وقوله: { لعبادته } ، قيل: إن اللام بمعني ( علي ) ، أي: اصطبر عليها، كما قال تعالي: { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه: 132].
وقيل: بل اللام على أصلها، أي : اصطبر لها ، أي كن مقابلاً لها بالصبر، كما يقابل القرين قرينه في ميدان القتال.
· · وقوله: { هل تعلم له سميا } : الاستفهام للنفي، وإذا كان الاستفهام بمعني النفي، كان مشرباً معني التحدي، يعني: إن كنت صادقاً، فأخبرنا: { هل تعلم له سمياً } ؟ (السمي) : الشبيه والنظير.
يعني : هل تعلم له مسامياً أو نظيراً يستحق مثل اسمه؟
والجواب: لا.
فإذا كان كذلك، فالواجب أن تعبده وحده.
وفيها من الصفات: قوله: { هل تعلم له سمياً } ، وهي من الصفات السلبية.
فما الذي تتضمنه من صفات الكمال ( لأننا ذكرنا فيما سبق أن الصفات السلبية لابد أن تتضمن ثبوتاً) فما هو الثبوت الذي تضمنه النفي هنا؟
الجواب: الكمال المطلق، فيكون المعني: هل تعلم له سمياً لثبوت كماله المطلق الذي لا يساميه أحد فيه؟
وقوله: { ولم يكن له كفواً أحد } (1) ………………………(113/82)
الآية الثانية: قوله: { ولم يكن له كفواً أحد } [ الأخلاص: 4] .
· · تقدم الكلام عليها، أي: ليس يكافئه أحد، وهو نكره في سياق النفي فتعم.
· · و { كفوا } : فيها ثلاث قراءات: كفواً، وكفئاً، وكفواً، فهي بالهمزه ساكنة الفاء ومضمومتها، وبالواو مضمومة الفاء لا غير، وبهذا نعفرف خطأ الذين يقرؤون بتسكين الفاء مع الواو ( كفوا).
هذه الآية أيضاً فيها نفي الكفء لله عز وجل، وذلك لكمال صفاته، فلا أحد يكافئه، لا في علمه ، ولا سمعه، ولا بصره ، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته، ولا غير ذلك من صفاته.
{ فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } (1)………………………
(1) (1) الآية الثالثة: قوله: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة: 22].
· · هذه مفرع على قوله: { ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذي من قبلكم لعلكم تتقون ، الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } ، وكل هذا من توحيد الربوبية، ثم قال: { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة: 21-22] يعني: في الألوهية، لأن أولئك القوم المخاطبين لم يجعلوا لله أنداداً في الربوبية، إذا، فلا تجعلوا لله أنداداً في الألوهية كما أنكم تقرون أنه ليس له أنداداً في الربوبية.
· · وقوله: { أنداداً } : جمع ند، وند الشيء ما كان مناداً ( أي مكافئاً ) له ومتشابهاً، وما زال الناس يقولون: هذا ند لهذا، أي : مقابل له ومكافىءله.
· · وقوله: { وأنتم تعلمون } : الجملة هنا حالية، وصاحب الحال هي الواو قوله: { فلا تجعلوا } ، والمفعول محذوف، يعني: وأنتم تعلمون أنه لا ند له.
الجملة الحالية هنا صفة كاشفة، والصفة الكاشفة كالتعليل للحكم ، فكأنه قال: لا تجعلوا لله أنداداً، لأنكم تعملون أنه لابد له، فإذا كنتم تعلمون ذلك، فكيف تلجعلونه فتخالفون علملكم؟ !(113/83)
وهذه أيضاً سلبية، وذلك من قوله : { لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ، لأنه لا ند له، لكمال صفاته.
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } (1) ….
(1) (1) الآية الرابعة: قوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة: 165].
* { ومن } : تبعيضية، والميزان لـ ( من ) التبعيضية أن يحل محلها: بعض، يعني: وبعض الناس.
· · { من يتخذ من دون الله أنداداً } : يتخذهم أنداداً، يعني: في المحبة، كما فسره بقوله: { يحبونهم كحب الله } ، ويجوز أن نقول: إن المراد بالأنداد ما هو أعم من المحبة، يعني: أنداداً يعبدونهم كما يعبدون الله، وينذرون لهم كما ينذرون لله، لأنهم يحبونهم كحب الله، يحبون هذه الأنداد كحب الله عز وجل.
وهذا إشراك في المحبة، بحيث تجعل غير الله مثل الله في محبته.
وينطبق ذلك على من أحب رسول الله كحب الله، لأنه يجب أن تحب رسول الله صلي الله عليه وسلم محبة ليست كمحبة الله، لأنك إنما تحب الرسول صلي الله عليه وسلم تبعاً لمحبة الله عز وجل، لا علي أنه مناد لله، فكيف بمن يحبون الرسول صلي الله عليه وسلم أكثر مما يحبون الله؟!
وهنا يجب أن نعرف الفرق بين المحبة مع الله والمحبة لله:
المحبة مع الله: أن تجعل غير الله مثله في محبته أو أكثر. وهذا شرك.
والمحبة في الله أو لله: هي أن تحب الشيء تبعاً لمحبة الله عز وجل.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذا الآيات:
أولا: في قوله: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } : إذا علمنا أن الله تعالي موصوف بالجلال، فإن ذلك يستوجب أن نعظمه، وأن نجله.
وإذا علمنا أنه موصوف بالإكرام فإن ذلك يستوجب أن نرجو كرمه وفضله.
وبذلك نعظمه بما يستحقه من التعظيم والتكريم.(113/84)
ثانياً: قوله: { فاعبده واصطبر لعبادته } ، فالفوائد المسلكية في ذلك هو أن يعبد العبد ربه، ويصطبر للعبادة، لا يمل، ولا يتعب، ولا يضجر، بل يصبر عليها صبر القرين لقرينه في المبارزة في الجهاد.
ثالثاً: قوله: { هل تعلم له سمياً } ، { ولم يكن له كفواً أحد } ، { فلا تجعلوا لله أنداداً } ، ففيها تنزيه لله عز وجل، وأن الإنسان يشعر في قلبه بأن الله تعالي منزه عن كل نقص، وأنه لا مثيل له، ولا ندله، وبهذا يعظمه حق تعظيمه بقدر استطاعته.
رابعاً: قوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } ، فمن فوائدها من الناحية المسلكية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتخذ أحداً من الناس محبوباً كمحبة الله، وهذه تسمي المحبة مع الله.
{ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً } (1) …………………………….
(1) (1) الآية الخامسة: قوله: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره كبيراً } [ الأسراء: 111].
· · { وقل } : الخطاب في مثل هذا: إما خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام لكل من يصح توجيه الخطاب إليه.
فإن كان خاصاً بالرسول صلي الله عليه وسلم، فهو خاص به بالقصد الأول، وأمته تبع له.
وإن كان عاماً، فهو يشمل الرسول صلي الله عليه وسلم وغيره بالقصد الأول.
· · { الحمد الله } : سبق تفسيه هذه الجملة، وأن الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
· · وقوله : { لله } : اللام هنا للاستحقاق والاختصاص:
للاستحقاق، لأن الله تعالي يحمد وهو أهل للحمد.
والاختصاص، لأن الحمد الذي يحمد الله به ليس كالحمد الذي يحمد به غيره، بل هو أكمل وأعظم وأعم وأشمل.(113/85)
* وقوله: { الذي لم يتخذ ولدا } : هذا من الصفات السلبية: { لم يتخذ ولداً } لكمال صفاته وكمال غناه عن غيره، ولأنه لا مثيل له، فلو اتخذ ولداً، لكان الولد مثله، لو كان له ولد، لكان محتاجاً إلي الولد يساعده ويعينه، لو كان له ولد، لكان ناقصاً، لأنه إذا شابهه أحد من خلقه، فهو نقص.
اليهند قالوا: لله ولد، وهو عزير.
والنصارى قالوا: لله ولد، وهو المسيح.
والمشركون قالوا: لله ولد، وهم الملائكة.
* وقوله: { ولم يكن له شريك في الملك } : هذا معطوف على قوله: { لم يتخذ ولداً } ، يعني: والذي لم يكن له شريك في الملك، لا في الخلق، ولا في الملك، ولا في التدبير.
كل ما سوى الله، فهو مخلوق لله، مملوك له، يدبره كما يشاء، ولم يشاركه أحد في ذلك، كما قال تعالى: { قل ادعوا الذين عمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [سبأ: 23] على سبيل التعين، { وما لهم فيهما من شرك } [سبأ: 23] على سبيل الشيوع، { وما له منهم من ظهير } [سبأ: 23]، لم يعاونه أحد في هذه السموات والأرض، { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 22-23]، وبهذا تقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون في آلهتهم.
فالآلهة هذه لا تملك من السماوات والأرض شيئاً معيناً، وليست شريكة لله، ولا معينة، ولا شفاعة، إلا بإذنه، يقول: { ولم يكن له شريك في الملك } [الإسراء: 111].
* وقوله: { ولم يكن له ولي من الذل } : لم يكن له ولي، لكن قيد بقوله: { من الذل } .
* و { من } هنا للتعليل، لأن الله تعالى له أولياء: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 62-63]، وقال تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب.."(1)، ولكن الولي المنفي هو الولي من الذل، لأن الله تعالى له العزة جميعاً، فلا يلحقه الذل بوجه من الوجوه، لكما عزته.(113/86)
* وقوله: { وكبره تكبيرا } ، يعني: كبر الله عز وجل تكبيراً، بلسانك وجنانك: اعتقد في قلبك أن الله أكبر من كل شيء، وأن له الكبرياء في السماوات والأرض، وكذلك بلسانك تكبره، تقولك: الله أكبر!
وكان من هدي النبي وأصحابه أنهم يكبرون كلما علوا نشراً(2)، أي: مرتفعاً، وهذا في السفر، لأن الإنسان إذا علا في مكانه، قد يشعر في قلبه أنه مستعل على غيره، فيقول: الله أكبر. من أجل أن يخفف تلك العلياء التي شعر بها حين علا وارتفع.
وكانوا إذا هبطوا، قالوا: سبحان الله. لأن النزول سفول، فيقول: سبحان الله، أي: أنزهه عن السفول الذي أنا الآن فيه.
* وقوله: { تكبيرا } : هذا مصدر مؤكد، يراد به التعظيم، أي: كبره تكبيراً عظيماً.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآية:
أن الإنسان يشعر بكمال غنى الله عز جل عن كل أحد، وانفراده بالملك، وتمام عزته وسلطانه، وحينئذ يعظم الله سبحانه وتعالى بما يستحق أن يعظم به بقدر استطاعته.
ونستفيد حمد الله تعالى على تنزهه عن العيوب، كما يحمد على صفات الكمال.
{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } (1)..................................................................................
(1) الآية السادسة: قوله تعالى: { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } [التغابن: 1].
* { يسبح } ، بمعنى: ينزه عن كل صفة نقص وعيب، و(سبح) تتعدى بنفسها وتتعدى باللام.
- أما تعهديها بنفسها، فمثل قوله تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } [الفتح: 9].
- وأما تعديها باللام، فهي كثيرة، فكل السور المبدوءة بهذا متعدية باللام.
قال العلماء: وإذا أريد مجرد الفعل، تعدت بنفسها: { وتسبحوه } ، أي: تقولوا: سبحان الله!(113/87)
وإذا أريد بيان القصد والإخلاص، تعدت باللام، { يسبح لله } ، أي: سبحوا إخلاصاً لله واستحقاقاً.
فاللام هنا تبين كمال الإرادة من الفاعل، وكمال الاستحقاق من المسبح، وهو الله.
* وقوله: { ما في السموات وما في الأرض } : عام يشمل كل شيء.
لكن التسبيح نوعان: تسبيح بلسان المقال، وتسبيح بلسان الحال.
- أما التسبيح بلسان الحال، فهو عام: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [الإسراء: 44].
- وأما التسبيح بلسان المقال، فهو عام كذلك، لكن يخرج منه الكافر، فإن الكافر لم يسبح الله بلسانه، ولهذا يقول تعالى: { سبحان الله عما يشركون } [الحشر: 23]، { سبحان الله عما يصفون } [الصافات: 159] فهم لم يسبحوا الله تعالى، لأنهم أشركوا به ووصفوه بما لا يليق به.
فالتسبيح بلسان الحال يعني: أن حال كل شيء في السماوات والأرض تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث وعن النقص، حتى الكافر إذا تأملت حاله، وجتها تدل على تنزه الله تعالى عن النقص والعيب.
وأما التسبيح بلسان المقال، فيعني: أن يقول: سبحان الله.
* وقوله: { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } .
هذه الصفات الأخيرة صفات ثبوتية، وسبق ذكر معناها، لكن { يسبح لله } صفة سلبية، لأن معناها، تنزيهه عما لا يليق به.
{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقدير } (1)........
(1) الآية السابعة والثامنة: وقوله: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً (1) الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً } [الفرقان: 1-2].
* { تبارك } ، بمعنى: تعالى وتعاظم.
* و { الذي نزل الفرقان على عبده } : هو الله عز وجل.(113/88)
* وقوله: { الفرقان، يعني به: القرآن، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وبين البر والفاجر، وبين الضار والنافع، وغير ذلك مما فيه الفرقان، فكله فرقان.
{ على عبده } : محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه بالعبودية في مقام التحدث عن تنزل القرآن عليه، وهذا المقام من أشرف مقامات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وله وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تنزل القرآن عليه، كما هنا، وكما في قوله: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } [الكهف: 1]، ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه والتحدي: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [ البقرة: 23]، ووصفه بالعبودية في مقام تكريمة بالمعراج، فقال : { سبحان الذي أسري بعبده ليلاً من المسجد الحرام } [الأسراء:1] ، وقال في سورة النجم: { فأوحي إلي عبده ما أوحي } [ النجم: 10]، مما يدل على أن وصف الإنسان بالعبودية لله يعد كمالاً، لأن العبودية لله هي حقيقة الحرية، فمن لم يتعبد له، كان عابداً لغيره.
قال ابن القيم رحم الله.
هوبوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان
و" الرق الذي خلقوا له " : عبادة الله عز وجل .
و " بلوا برق النفس والشيطان " : حيث صاروا أرقاء لنفوسهم، وأرقاء للشيطان، فما من إنسان يفر من عبودية الله، إلا وقع في عبودية هواه وشيطانه ، قال الله تعالي: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [ الجاثية: 23] .
* قوله: { ليكون للعالمين نذيراً } : اللام هنا للتعليل، والضمير في { ليكون } عائد على النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله تعالي قال : { لتتذر به } [ الأعراف: 2]، وقال تعالي: { لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : 19] ، فالمنذر: الرسول عليه الصلاة والسلام.
* وقوله: { للعالمين } : يشمل الجن والإنس.(113/89)
* وقوله: { ولم يتخذ ولدا لم يكن له شريك في الملك } : سبق معناهما، وهما صفة سلبية.
* { وخلق كل شىء فقدره تقديراً } : الخلق: الإيجاد على وجه معين.
والتقدير : بمعني التسوية أو بمعني القضاء في الأزل، والأول أصح، ويدل لذلك قوله تعالي: { الذي خلق فسوي } [ الأعلي:2 ]، وبه تكون الآية على الترتيب الذكري والمعنوي، وعلى الثاني تكون الآية على الترتيب الذكري.
ونستفيد من هذه الآيات من الناحية المسلكية:
أنه يجب علينا أن نعرف عظمة الله عز وجل، وننزهه عن كل نقص، وإذا علمنا ذلك، ازددنا محبة له وتعظيماً.
ومن آيتي الفرقان نستفيد بيان هذا القرآن العظيم، وأن مرجع العباد، وأن الإنسان إذا أراد أن تتبين له الأمور، فليرجع إلي القرآن، لأن الله سماه فرقاناً: { نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان: 1].
ونستفيد أيضاً من الناحية المسلكية التربوية: أن تتأكد وتزداد محبتنا لرسول الله صلي الله عليه وسلم حيث كان عبد الله، قائماً بإبلاغ الرسالة وإنذار الخلق.
ونستفيد أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام آخر الرسل، فلا نصدق بأي دعوي للنبوة من بعده، لقوله: { للعالمين } ، ولو كان بعده رسول، لكان تنتهي رسالته بهذا الرسول، ولا كانت للعالمين كلهم.
{ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالي عما يشركون } (1)..
(1) الآية التاسعة والعاشرة: قوله: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، عالم الغيب والشهادة فتعالي عما يشركون } [ المؤمنون:91-92].
* ينفي الله تعالي في هذه الآية أن يكون اتخذ ولداً، أو أن يكون معه إله.(113/90)
ويتأكد هذا النفي بدخول { من } في قوله { من ولد } ، وقوله: { من إله } ، لأن زيادة حرف الجر في سياق النفي ونحو تفيد التوكيد.
* فقوله: { ما اتخذ الله من ولد } ، يعني: ما اصطفي أحداً يكون ولداً له، لا عزير، ولا المسيح، ولا الملائكة ولا غيرهم، لأنه الغني عما سواه.
وإذا انتفي اتخاذه الولد فانتفاء أن يكون والداً من باب أولي.
· · وقوله: { من إله } : { إله } ، بمعني: مألوه، مثل: بناء، بمعني: مبني، وفراش، بمعني: مفروش، فالإله بمعني المألوه، أي: المعبود المتذلل له.
يعني: ما كان معه من إله حق، أما الآلهات الباطلة، فهي موجودة، لكن لكونها باطلة، كانت كالعدم، فصح أن يقال: ما كان مع الله من إله.
* { إذا } ، يعني: لو كان معه إله.
* { لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } : لو كان هناك إله آخر يساوي الله عز وجل ، لكان له ملك خاص ولله ملك خاص، يعني: لا نفرد كل واحد منهم بما خلق، قال: هذا خلقي لي، وكذلك الآخر.
وحينئذ، يريد كل منهما أن يسيطر على الآخر كما جرت به العادة، فملوك الدنيا كل واحد منهم يريد أن يسيطر على الآخر، وتكون المملكة كلها له، وحينئذ:
إما أن يتمانعا، فيعجز كل واحد منهما عن الآخر، وإذا عجز كل واحد منهما عن الآخر، ما صح أن يكون واحد منهما إلهاً، لأن الإله لا يكون عاجزاً.
وإما أن يعلو أحدهما على الآخر، فالعالي هو الإله.
فترجع المسألة إلي أنه لابد أن يكون للعالم إله واحد ، ولا يمكن أن يكون للعالم إلهان أبداً لأن القضية لا تخرج من هذين الاحتمالين.
كما أننا أيضاً إذا شاهدنا الكون علوية وسفلية، وجدنا أنه كون يصدر عن مدبر واحد، وإلا، لكان فيه تناقض، فأحد الإلهين يقول مثلاً: أنا أريد الشمس تخرج من المغرب ! والثاني يقول: أريدها تطلع من المشرق! واتفاق الإرادتين بعيد جداً، ولا سيما أن المقام مقام سلطة، فكل واحد يريد أن يفرض رأيه.(113/91)
ومعلوم أننا لا نشاهد الآن الشمس تطلع يوماً مع هذا ويوماً مع هذا، أو يوماً تتأخر لأن الثاني منعها ويوماً تتقدم لأن الأول أمر الثاني بإخراجها، فلا تجد هذا، نجد الكون كله واحداً متناسباً متناسقاً، مما يدل دلالة ظاهرة على أن المدبر له واحد، وهو الله عز وجل.
فبين الله سبحانه وتعالى بدليل عقلي أنه لا يمكن التعدد، إذ لو أمكن التعدد، لحصل هذا، لا نفصل كل واحد عن الثاني، وذهب كل إله بما خلق، وحينئذ إما أن يعجز أحدهما عن الآخر، وإما أن يعلو أحدهما الآخر، فإن كان الأول، لم يصلح أي واحد منهما للألوهية، وإن كان الثاني، فالعالي هو الإله، وحينئذ يكون الإله واحداً.
فإن قيل: ألا يمكن أن يصطلحا وينفرد كل واحد بما خلق؟
فالجواب: أنه لو أمكن ووقع، لزم أن يختل نظام العالم.
ثم إن اصطلاحهما لا يكون إلا لخوف كل واحد منهما من الآخر، وحينئذ لا تصلح الربوبية ولواحد منهما، لعجزه عن مقاومة الآخر.
* ثم قال تعالى: { سبحان الله عما يصفون } ، أي: تنزيهاً لله عز وجل عما يصفه به الملحدون المشركون الذي يقولون في الله سبحانه مالا يليق به.
* { عالم الغيب والشهادة } : الغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهده الناس.
* { فتعالى عما يشركون } : { فتعالى } ، يعني: ترفع وتقدس.
* { عما يشركون } : عن الأصنام التي جعلوها آلهة مع الله تعالى.
وفي هاتين الآيتين من صفات النفي: تنزه الله تعالى عن اتخاذ الولد الذي وصفه به الكافرون، وعن الشريك له في الألوهية الذي أشرك به المشركون.
وهذا النفي لكمال غناه وكمال ربوبيته وإلهيته.
ونستفيد منهما من الناحية المسلكية: أن الإيمان بذلك يحمل الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
(1) الآية الحادية عشرة: قوله: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النحل: 74].
* يعني: لا تجعلوا لله مثلاً، فتقولون: مثل الله كمثل كذا وكذا أو تجعلوا له شريكاً في العبادة.(113/92)
* يعني { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } ، بمعنى: أنه سبحانه وتعالى يعلم بأنه ليس له مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل له، في قوله: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، وقوله: { ولم يكن له كفواً أحد } [الإخلاص: 4]، وقوله: { هل تعلم له سمياً } [مريم: 65]... وما أشبه ذلك، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
يقال: إن هذه الجملة تتضمن الدليل الواضح على أن الله ليس له مثل، وأنها كضرب المثل في امتناع المثل، لأننا نحن لا نعلم والله يعلم، فإذا انتفى العلم عنا، وثبت لله، فأين المماثلة؟ هل يماثل الجاهل من كان عالماً؟
ويدلك على نقص علمنا: أن الإنسان لا يعلم ما يفعله في اليوم التالي: { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } [لقمان: 34]، وأن الإنسان لا يعلم روحه التي بين جنبيه: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85].
وما زال الفلاسفة والمتفلسفة وغيره يبحثون عن حقيقة هذه الروح، ولم يصلوا إلى حقيقتها، مع أنها هي مادة الحياة، وهذا يدل على نقصان العلم في المخلوق، ولهذا قال تعالى: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [الإسراء: 85].
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية: { فلا تضربوا لله الأمثال أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 22]؟(113/93)
الجواب: أنه هناك يخاطب الذين يشركون به في الألوهية فيقول: { فلا تجعلوا لله أندادا } في العبادة والألوهية { وأنتم تعلمون } أنه لا ند له في الربوبية، بدليل قوله: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } [البقرة: 21-22]. أما هنا: ففي باب الصفات: { فلا تضربوا لله الأمثال } ، فتقولوا: مثلاً: إن يد الله مثل يد كذا! وجه الله مثل وجه كذا! وذات الله مثل الذات الفلانية... وما أشبه هذا، لأن الله تعالى يعلم وأنتم لا تعلمون وقد أخبركم بأنه لا مثيل له.
أو يقال: إن إثبات العلم لهم خاص في باب الربوبية، ونفيه عنهم خاص في باب الألوهية، حيث أشركوا بالله فيها، فنزلوا منزلة الجاهل.
وهذه الآية تتضمن من الكما كمال صفات الله عز وجل، حيث إنه لا مثيل له.
أما الفائدة المسلكية التي تؤخذ من هذه الآية، فهي: كمال تعظيمنا للرب عز وجل، لأننا إذا علمنا أنه لا مثيل له، تعلقنا به رجاءً وخوفاً، وعظمناه، وعلمنا أنه لا يمكن أن يماثله سلطان ولا ملك ولا وزير ولا رئيس، مهما كانت عظمة ملكيتهم ورئاستهم ووزارتهم، لأن الله سبحانه ليس له مثل.
{ قل إنما حرم ربي الواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } (1).....................
(1) الآية الثانية عشرة: قوله: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 33].
* { قل } : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قل معلناً للناس.
* { إنما } : أداة حصر، وذلك لقابلة تحريم من حرم ما أحل الله.(113/94)
* { حرم } ، بمعنى: منع، وأصل هذه المادة (ح ر م) تدل على المنع، ومنه حريم البئر: للأرض التي تحميه حوله: لأنه يمنع من التعدي عليه.
* { الفواحش } : جمع فاحشة، وهي الذنب الذي يستفحش، مثل: الزنى واللواط.
والزنى، قال الله فيه: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } [الإسراء: 32].
وفي اللواط، قال لوط لقومه: { أتأتون الفاحشة } [الأعراف: 80].
ومن الزنى أن يتزوج الإنسان امرأة لا تحل له لقرابة أو رضاع أو مصاهرة، قال الله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } [النساء: 22]، بل إن هذا أشد من الزنى، لأنه وصفه بثلاثة أوصاف: فاحشة، ومقت، وساء سبيلاً، وفي الزنى وصفه الله بوصفين: { إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [الإسراء: 32].
* وقوله: { ما ظهر منها وما بطن } : قيل: إن المعنى ما ظهر فحشه وما خفي، وقيل: المعنى ما ظهر للناس وما بطن عنهم، باعتبار فعل الفاعل، لا باعتبار العمل، أي: ما أظهره الإنسان للإنسان وما أبطنه.
* قوله: { والإثم والبغي بغير الحق } ، يعني: حرم الإثم والبغي بغير الحق.
والإثم: المراد به ما يكون سبباً له من المعاصي.
والبغي: العدوان على الناس، قال الله تعالى: { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } [الشورى: 42].
* وفي قوله: { والبغي بغير الحق } : إشارة إلى أن كل بغي فهو بغير حق، وليس المراد أن البغي ينقسم إلى قسمين: بغي بحق، وبغي بغير حق، لأن البغي كله بغير حق.
وعلى هذا، فيكون الوصف هنا من باب الوصف الكاشف، ويسميها العلماء صفة كاشفة، أي: مبينة، وهي التي تكون كالتعليل لموصوفها.(113/95)
* قوله: { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } : هذه معطوفة على ما سبق، يعني: وحرم ربي أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، يعني: أن تجعلوا له شريكاً لم ينزل به سلطاناً، أي حجة، وسميت الحجة سلطاناً، لأنها سلطة للمحتج بها.
وهذا القيد: { ما لم ينزل به سلطاناً } : نقول فيه كما قلنا في { والبغي بغير الحق } ، أي: أنه قيد كاشف، لأن كل من أشرك بالله، فليس له سلطان بشركه.
* قوله: { وأن تقولوا على الله ما لا تعملون } ، يعني: وحرم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فحرام علينا أن نقول على الله مالا نعلم، سواء كان في ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه.
فهذه خمسة أشياء حرمها الله علينا.
وفيها رد على المرشكين الذين حرموا مالم يحرمه الله.
إذا قال قائل: أين الصفة السلبية في هذه الآية؟
قلنا: هي { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ، فالاثنتان جميعاً من باب الصفات السلبية: { وأن تشركوا } ، يعني: لا تجعلوا لله شريكاً لكماله. { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } كذلك، لكماله، فإنه من تمام سلطانه أن لا يقول عليه أحد ما لا يعلم.
الفائدة المسلكية من هذه الآية هي: أن تتجنب هذه الأشياء الخمسة التي صرح الله تعالى بتحريمها.
وقد قال أهل العلم: إن هذه المحرمات الخمسة مما أجمعت الشرائع على تحريمها.
ويدخل في القول على الله بغير علم تحريف نصوص الكتاب والسنة في الصفات وغيرها، فإن الإنسان إذا حرف نصوص الصفات، مثل أن يقول: المراد باليدين النعمة فقد قال على الله مالا يعلم من وجهين:
الوجه الأول: أنه نفي الظاهر بلا علم.
والثاني: أثبت لله خلافه بغير دليل.
فهو يقول: لم يرد الله كذا، وأراد كذا، فنقول: هات الدليل على أنه لم يرد، وعلى أنه أراد كذا! فإن لم تأت بالدليل فإنك قد قلت على الله ما لا تعلم.
استواء الله على عرشه(113/96)
وقوله: { الرحمن على العرش استوى } ، { ثم استوى على العرش } في سبع مواضع في سورة الأعراف، قوله: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } (1)..................................................................
(1) ذكر المؤلف رحمه الله ثبوت استواء الله على عرشه وأنه في سبعة مواضع في القرآن:
الموضع الأول: قوله في سورة الأعراف: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54].
{ الله } خبر { إن } .
{ خلق السموات والأرض } : أوجدهما من العدم على وجه الإحكام والإتقان.
* { في ستة أيام } : ومدة هذه الأيام كأيامنا التي تعرف، لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها منكرة، فتحمل على ما كان معروفاً.
وأول هذه الأيام يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة.
منها أربعة أيام للأرض، ويومان للسماء، كما فصل الله ذلك في سورة فصلت:
{ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } [فصلت: 9-10]، فصارت أربعة: { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات في يومين } [فصلت: 11-12].
* وقوله: { ثم استوى على العرش } : { ثم } : للترتيب.
* و { العرش } : هو ذلك السقف المحيط بالمخلوقات، ولا نعلم مادة هذا العرش، لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح يبين من أين خلق هذا العرش، لكننا نعلم أنه أكبر المخلوقات التي نعرفها.
وأصل العرش في اللغة: السرير الذي يختص به الملك، ومعلوم أن السرير الذي يختص به الملك سيكون سريراً عظيماً فخماً لا نظير له.
وفي هذه الآية من صفات الله تعالى عدة صفات، لكن المؤلف ساقها لإثبات صفة واحدة، وهي الاستواء على العرش.(113/97)
* وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى مستوى على عرشه استواء يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين.
فإن سألت: ما معنى الاستواء عندهم؟ فمعناه العلو والاستقرار.
وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معاني: الأول: علا، والثاني: ارتفع، والثالث: صعد. والرابع: استقر.
لكن (علا) و (ارتفع) و (صعد) معناها واحد، وأما (استقر)، فهو يختلف عنها.
ودليلهم في ذلك: أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية بـ(على):
قال الله تعالى: { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } [المؤمنون: 28].
وقال تعالى: { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } [الزخرف: 12-13].
* وفسره أهل التعطيل بأن المراد به الاستيلاء، وقالوا: معنى: { ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54]، يعني: ثم استولى عليه.
واستدلوا لتحريفهم هذا بدليل موجب وبدليل سالب:
- أما الدليل الموجب، فقالوا: إننا نستدل بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
(بشر): ابن مروان، (استوى)، يعني: استولى على العراق.
قالوا: وهذا بيت بن رجل عربي، ولا يمكن أن يكون المراد به استوى على العراق، يعني علا على العراق! لا سيما أنه في ذلك الوقت لا طائرات يمكن أن يعلو على العراق بها.
أما الدليل السلبي، فقالوا لو أثبتنا أن الله عز وجل مستو على عرشه بالمعنى الذي تقولون، وهو العلو والاستقرار، لزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى العرش، وهذا مستحيل، واستحالة اللازم تدل على إستحالة الملزوم. ولزم من ذلك أن يكون جسماً، لأن استواء شيء على شيء بمعنى علوه عليه يعني أنه جسم. ولزم أن يكون محدوداً، لأن المستوي على الشيء يكون محدودا، وإذا استويت على البعير، فأنت محدود في منطقة معينة محصور بها وعلى محدود أيضاً.(113/98)
هذه الأشياء الثلاثة التي زعموا أنها تلزم من إثبات أن الاستواء بمعنى العلو والارتفاع.
* والرد عليهم من وجوه:
أولاً: تفسيركم هذا مخالف لتفسير السلف الذي أجمعوا عليه، والدليل على إجماعهم أنه لم ينقل عنهم أنهم قالوا به وخالفوا الظاهر، ولو كانوا يرون خلاف ظاهره، لنقل إلينا، فما منهم أحد قال: إن (استوى) بمعنى (استولى) أبداً.
ثانياً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، لأن مادة الاستواء إذا تعدت بـ(على)، فهي بمعنى العلو والاستقرار، هذا ظاهر اللفظ، وهذه مواردها في القرآن وفي كلام العرب.
ثالثاً: أنه يلزم عليه لوازم باطلة:
1- يلزم أن يكون الله عز وجل حين خلق السماوات والأرض ليس مستولياً على عرشه، لأن الله يقول: { خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54]، و { ثم } تفيد الترتيب، فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله.
2- أن الغالب من كلمة (استولى) أنها لا تكون إلا بعد مغالبة! ولا أحد يغالب الله.
أن المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغال
3- من اللوازم الباطلة أنه يصح أن نقول: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال، لأنه مسئول عليها.
وهذه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
وأما استدلالهم بالبيت، فنقول:
1- أثبتوا لنا سند هذا البيت وثقة رجاله، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
2- من هذا القائل؟ أفلا يمكن أن يكون قاله بعد تغير اللسان؟ لأنه كل قول يستدل به على اللغة العربية بعد تغير اللغة العربية فإنه ليس بدليل، لأن العربية بدأت تتغير حين اتسعت الفتوح ودخل العجم مع العرب فاختلف اللسان، وهذا فيه احتمال أنه بعد تغير اللسان.
3- أن تفسيركم "استوى بشر على العراق" بـ(استولى) تفسير تعضده القرينة، لأنه من المعتذر أن بشراً يسعد فوق العراق فيستوي عليه كما يستوي على السرير أو على ظهر الدابة فلهذا نلجأ إلى تفسيره بـ(استولى).(113/99)
هذا نقوله من باب التنزل، وإلا، فعندنا في هذا جواب آخر:
أن نقول: الاستواء في البيت بمعنى العلو، لأن العلو نوعان:
1- علو حسي، كاستوائنا على السرير.
32- وعلو معنوي، بمعنى السيطرة والغلبة.
فيكون معنى "استوى بشر على العراق" يعني: علا علو غلبة وقهر.
وأما قولكم: إنه يلزم من تفسير الاستواء بالعلو أن يكون الله جسماً.
فجوابه: كل شيء يلزم من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهوحق، ويجب علينا أن نلتزم به، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون هذا من لازم كلام الله ورسوله، لأنه قد يمنع أن يكون لازماً، فإذا ثبت أنه لازم، فليكن، ولا حرج علينا إذا قلنا به.
ثم نقول: ماذا تعنون بالجسم الممتنع؟
إن أردتم به أنه ليس لله ذات تتصف بالصفات اللازمة لها اللائقة بها، فقولكم باطل، لأن لله ذاتاً حقيقية متصفة بالصفات، وأن له وجهاً ويداً وعيناً وقدماً، وقولوا ما شئتم من اللوازم التي هي لازم حق.
وأن أردتم بالجسم الذي قلتم يمتنع أن يكون الله جسماً:
الجسم المركب من العظام واللحم والدم وما أشبه ذلك، فهذا ممتنع على الله، وليس بلازم من القول بأن استواء الله على العرش علوه عليه.
وأما قولهم: إنه يلزم أن يكون محدوداً.
فجوابه أن نقول بالتفصيل: ماذا تعنون بالحد؟
إن أردتم أن يكون محدوداً، أي: يكون مبايناً للخلق منفصلاً عنهم، كما تكون أرض لزيد وأرض لعمر، فهذه محدودة منفصلة عن هذه، فهذا حق ليس فيه شيء من النقص.
وإن أردتم بكونه محدوداً: أن العرش محيط به، فهذا باطل، وليس بلازم، فإن الله تعالى مستوى على العرش، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش، ولا يلزم أن يكون العرش محيطاً به بل لا يمكن أن يكون محيطاً به، لأن الله سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه.
وأما قولهم: يلزم أن يكون محتاجاً إلى العرش.(113/100)
فنقول: لا يلزم، لأن معنى كونه مستوياً على العرش: أنه فوق العرش، لكنه علو خالص، وليس معناه أن العرش يقله أبداً، فالعرش لا يقله، والسماء لا تقله، وهذا اللازم الذي ادعيتموه ممتنع، لأنه نقص بالنسبة إلى الله عز وجل، وليس بلازم من الاستواء الحقيقي، لأننا لسنا نقول: إن معنى { استوى على العرش } ، يعني: أن العرش يقله ويحمله، فالعرش محمول: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [الحاقة: 17]، وتحمله الملائكة الآن، لكنه ليس حاملاً لله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إليه، ولا مفتقراً إليه، وبهذا تبطل حججهم السلبية.
* وخلاصة ردنا لكالمهم من عدة أوجه:
الأول: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص.
ثانياً: مخالف لإجماع الصحابة وإجماع السلف قاطبة.
ثالثاً: أنه لم يرد في اللغة العربية أن (استوى) بمعنى (استولى)، والبيت الذي احتجوا به على ذلك لا يتم به الاستدلال.
رابعاً: أنه يلزم عليه لوازم باطلة منها:
1- أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض، ملكاً لغير الله.
2- أن كلمة (استولى) تعطي في الغالب أن هناك مغالبة بين الله وبين غيره، فاستولى عليه وغلبه.
3- أنه يصح أن نقول ـ على زعمكم ـ: أن الله استوى على الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير، لأنه (استولى) على هذه الأشياء، فإذا صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق (استوى) على ذلك الشيء، لأنهما مترادفان على زعمكم.
فبهذه الأوجه يتبين أن تفسيرهم باطل.
* ولما كان أبو المعالي الجويني ـ عفا الله عنه ـ يقرر مذهب الأشاعرة، وينكر استواء الله على العرش، بل وينكر علو الله بذاته، قال:
"كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وهو الآن على ما كان عليه". وهو يريد أن ينكر استواء الله على العرش، يعني: كان ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، إذاً: لم يستو على العرش. فقال له أبو العلاء الهمذاتي:(113/101)
يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش والاستواء على العرش ـ يعني: لأن دليله سمعي، ولولا أن الله أخبرنا به ما علمناه ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي تجد في نفوسنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو. فبهت أبو المعالي، وجعل يضرب على رأسه: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاتي!وذلك لأن هذا دليل فطري لا أحد ينكره.
وقال في سورة يونس عليه السلام: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } (1)، وقال في سورة الرعد: { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش } (2).....................................................
(1) الموضع الثاني: في سورة يونس، قال الله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [يونس: 3].
نقول فيها ما قلنا في الآية الأولى.
(2) الموضع الثالث: في سورة الرعد قال الله تعالى: { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش } [الرعد: 2] .
· · { رفع السموات بغير عمد } : { بغير عمد } : هل يعني: ليس لها عمد مطلقاً؟ أو لها عمد لكنها غير مرئية لنا؟
فيه خلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: إن جملة { ترونها } صفة لـ { عمد } ، أي: بغير عمد مرئية لكم، ولها عمد غير مرئية. ومنهم من قال: إن جملة { ترونها } جملة مستأنفة، معناها: ترونها كذلك بغير عمد. وهذا الأخير أقرب، فإن السماوات ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية، ولو كان لها عمد، لكانت مرئية في الغالب، وإن كان الله تعالى قد يحجب عنا بعض المخلوقات الجسيمة لحكمة يريدها.
* وقوله: { ثم استوى على العرش } : هذا الشاهد، ويقال في معناها ما سبق.
(1) الموضع الرابع: في سورة طه قال: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5].(113/102)
* قدم { على العرش } وهو معمول لـ { استوى } لإفادة الحصر والتخصيص وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يستو على شيء سوى العرش.
* وفي ذكر { الرحمن } إشارة إلى أنه مع علوه وعظمته موصوف بالرحمة.
(2) الموضع الخامس: في سورة الفرقان قوله: { ثم استوى على العرش الرحمن } [الفرقان: 59].
* { الرحمن } : فاعل { استوى } .
وقال في سورة آلم السجدة : { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } ، وقال في سورة الحديد : { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش } .
(1) (1) الموضع السادس : في سورة آلم السجدة قال: { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } {السجدة: 4} .
نقول فيها مثل ماقلنا في آيتي الأعراف ويونس ، لكن هنا فيه زيادة:
{ وما بينهما } ؛ يعني : بين السماء والأرض ، والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض، والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض وهذه المخلوقات العظيمة منها ما هو معلوم لنا كالشمس والقمر والنجوم والسحاب ومنها ما هو مجهول إلى الآن.
(2)الموضع السابع: في سورة الحديد قال: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } {الحديد:4}.
فهذه سبعة مواضع؛ كلها يذكر الله تعالى فيها الإستواء معدى بـ { على } .
وبعد؛ فقد قال العلماء : إن أصل هذه المادة (س و ي) تدل على الكمال { الذي خلق فسوى } {الأعلى:2} ؛ أي : أكمل ما خلقه ؛ فأصل السين والواو والياء تدل على الكمال.
ثم هي على أربعة أوجه في اللغة العربية: معداة بـ(إلى) ، ومعداة بـ (على) ، ومقرونة بالواو ، ومجردة:
-فالمعداة بـ (على) مثل: { استوى على العرش } {الحديد: 4} ، ومعناها:
علا واستقر(113/103)
والمعداة بـ ( إلى ) : مثل قوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات }
{البقرة : 29} .
فهل معناها كالأولى المعداة بـ(على) ؟
فيها خلاف بين المفسرين:
منهم من قال : إن معناها واحد ، وهذا ظاهر تفسير ابن جرير رحمه الله ؛ فمعنى { استوى إلى السماء } ؛ أي : ارتفع إليها.
ومنهم من قال: بل الاستواء هنا بمعنى القصد الكامل ؛ فمعنى: استوى إليها؛ أي: قصد إليها قصداً كاملاً ، وأيدوا تفسيرهم هذا بأنها عديت بما يدل على هذا المعنى ، وهو (إلى) ، وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله ؛ ففسر قوله: { ثم استوى إلى السماء } ؛ أي: قصد إلى السماء، وإلا ستواء ها هنا مضمن معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بـ(إلى) .أ.هـ كلامه.
والمقرونة بالواو ؛ كقولهم : استوى الماء والخشبة ؛ بمعنى : تساوى الماء والخشبة.
والمجردة ؛ كقوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } {القصص:14} ، ومعناها : كمل.
تنبيه:
إذا قلنا: استوى على العرش ؛ بمعنى : علا ؛ فها هنا سؤال ، وهو: إن الله خلق السماوات ، ثم استوى على العرش؛ فهل يستلزم أنه قبل ذلك ليس عالياً؟
فالجواب: لا يستلزم ذلك؛ لأن الاستواء على العرش أخص من مطلق العلو ؛ لأن الاستواء على العرش علو خاص به، والعلو شامل على جميع المخلوقات ؛ فعلوه عز وجل ثابت له أزلاً وابداً ، لم يزل عالياً على كل شيء قبل أن يخلق العرش ، ولا يلزم من عدم استوائه على العرش عدم علوه، بل هو عال ، ثم بعد خلق السماوات والأرض علا علواً خاصاً على العرش.
فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض علا علواً خاصاً على العرش . فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض ليس مستوياً على العرش ، لكن قبل خلق السماوات والأرض ، هل هو مستو على العرش أولاً؟
فالجواب: الله أعلم بذلك.
فإن قلت: هل استواء الله تعالى على عرشه من الصفات الفعلية أو الذاتية؟(113/104)
فالجواب: أنه من الصفات الفعلية ؛ لأنه يتعلق بمشيئته ، وكل صفة تتعلق بمشيئته ؛ فهي من الصفات الفعلية.
إثبات علو الله على مخلوقاته
وقوله: { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي }
(1) ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات.
الآية الأولى: قوله : { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } {آل عمران: 55}
الخطاب لعيسى بن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب ، ولهذا ينسب إلى أمه ، فيقال : عيسى بن مريم.
يقول الله : { إني متوفيك } : ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: { متوفيك } ؛ بمعنى قابضك ، ومنه قولهم : توفى حقه؛
أي: قبضه.
القول الثاني: { متوفيك } : منيمك ؛ لأن النوم وفاة ؛ كما قال تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثك فيه ليقضي أجل مسمى } {الأنعام : 60}.
القول الثالث: أنه وفاة موت : { متوفيك } : مميتك ، ومنه قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } {الزمر : 43} .
والقول بأن { متوفيك } متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان ؛ قال الله تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته } {النساء: 159} ؛ أي : قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان . وقيل : قبل موت الواحد ؛ يعني : ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة ؛ أمن بعيسى ، حتى وإن كان يهودياً . وهذا القول ضعيف.
بقى النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم ، فنقول : إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضاً له حال نومه ؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه ، ولا منافاة بين الأمرين.
قوله: { ورافعك إلى } : الشاهد هنا ؛ فإن { إلي } تفيد الغاية ، وقوله: { ورافعك إلي }
يدل على أن المرفوع إليه كان عالياً، وهذا يدل على علو الله عز وجل.(113/105)
فلو قال قائل : المراد : رافعك منزلة ؛ كما قال الله تعالى : { وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } {آل عمران: 45}.
قلن هذا لا يستقيم ؛ لأن الرفع هنا عدى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة.
واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو معنوي ، وعلو ذاتي:
1-أما العلو المعنوي ؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة ؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً .
2-وأما العلو الذاتي ؛ فيثبته أهل السنة ، ولا يثبته أهل البدعة ؛ يقولون : إن الله تعالى ليس عالياً علواً ذاتياً.
فنبدأ أولاً بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول : إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعال علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة :
أولاً : فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله ؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر القوقية ، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء. . .
(1) فالعلو مثل قوله: { وهو العلي العظيم } {البقرة : 255} ، { سبح أسم ربك الأعلى } {الأعلى: 1}.
(2) والفوقية: { وهو القاهر فوق عباده } {الأنعام: 18}، { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } {النحل:50} .
(3) ونزول الأشياء منه ؛ مثل قوله: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } {فاطر: 10} ، ومثل قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } {المعارج: 4} .
(4) كونه في السماء ؛ مثل قوله : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } {الملك: 16}.
ثانياً : وأما السنة فقد تواترت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره :
(1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام :(113/106)
فجاء بذكر العلو والفوقية ، ومنه قوله ، صلى الله عليه وسلم "سبحان ربي الأعلى" (1)، وقوله لما ذكر السماوات ؛ قال: "والله فوق العرش"(2) .
وجاء بذكر أن الله في السماء ؛ مثل قوله ، صلى الله عليه وسلم : "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(3).
(2) وأما الفعل ؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء ، وهو يخطب الناس في أكبر جمع ، وذلك في يوم عرفة ، عام حجة الوداع ؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعاً أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف ، والذي مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفاً: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام : "ألا هل بلغت؟" . قالوا : نعم . "ألا هل بلغت؟ ". قالوا : نعم. "ألا هل بلغت؟ وكان يقول : "اللهم أشهد" ؛ يشير إلى السماء بأصبعه ، وينكتها إلى الناس (1)
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات للعلو بالفعل.
(3) وأما التقرير ؛ فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها ، فقال لها النبي ، صلى الله عليه وسلم : "أين الله؟" . قالت: في السماء . فقال : "من أنا؟" . قالت: رسول الله . قال: "أعتقها ؛ فإنها مؤمنة"(2) . فهذه جارية لم تتعلم ، والغالب على الجواري الجهل ، لا سيما أمة غير حرة ، لا تملك نفسها ،تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء ، ويقولون : إما أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال ! أو أنه في كل مكان!!
ثالثاً: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء ، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، إلى يومنا هذا. إن قلت كيف أجمعوا؟
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.(113/107)
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم : إن الله ليس في السماء ، أو : إن الله في الأرض ، أو : إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو : إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه".
رابعاً: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل ، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام فإذا كان السفل مستحيلاً ؛ كان العلو واجباً.
وهناك تقرير عقلي آخر ، وهو أن نقول : إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء ، وإذا كان صفة كمال ؛ وجب أن يكون ثابتاً لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله.
وقولنا : "مطلقة": احترازاً من الكمال النسبي ، الذي يكون كمالاً في حال دون حال؛ فالنوم مثلاً نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامساً : وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة ؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء ، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها. حتى إنهم يقولون : إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس ، فلما خرج ؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم ! إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك" . فقال: "ارجعوا ؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم". وهذا إلهام فطري.(113/108)
فالحاصل أن : كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة. ووالله ؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك ؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب ؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون : لو كان في العلو بذاته ؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدوداً وجسماً ، وهذا ممتنع ! والجواب عن قولهم : "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً" ؛ نقول:
أولاً: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات ، ولو جاز هذا ؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو ، ورسوله ، صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو ؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول : لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات ؛ لكان كذا وكذا.
ثانياً : نقول : إن كان ما ذكرتم لازماً لإثبات العلو لزوماً صحيحاً ؛ فلنقل به ؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق ؛ إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معني فاسداً، لبينه، ولكنها لا تستلزم معني فاسداً.
ثالثاً: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها.
أتريدون بالحد أن شيئاً من المخلوقات يحيط بالله؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعني، ولكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لعدم ورود ذلك.(113/109)
وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتصف عن الله، لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعني، لكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لما سبق.
وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالي له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالي.
{ بل رفعه الله إليه } (1) …………………………………………….
(1) (1) الآية الثانية: قوله: { بل رفعه الله إليه } [ النساء: 158].
· · { بل } : للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم: { إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ، } [ النساء: 157-158]، فكذبهم الله بقوله: { وما قتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه } .
والشاهد قوله: { بل رفعه الله إليه } ، فإنه صريح بأن الله تعالي عال بذاته، إذ الرفع إلي الشيء يستلزم علوه.
{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } (1)، الآية الثالثة: قوله: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر: 10] .
· · { إليه } : إلي الله عز وجل.
· · { يصعد الكلم الطيب } : و { الكلم } هنا اسم جمع، مفرده كلمة، وجمع كلمة كلمات، والكلم الطيب يشمل كل كلمة يتقرب بها إلي الله، كقراءة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل كلمة تقرب إلي الله عز وجل، فهي كلمة طيبة، تصعد إلي الله عز وجل، وتصل إليه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه أيضاً.(113/110)
فالكلمات تصعد إلي الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته، لأن الأشياء تصعد إليه وترفع.
{ يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطلع إلي إله موسي وإني لأظنه كاذباً } (2)..
(2) (2) الآية الرابعة: قوله: { يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلي إله موسي وإني لأظنه كاذباً } [ غافر:36-37].
هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون.
· · { صرحاً } ، أي بناء عالياً.
· · { لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات } ، يعني: لعلي أبلغ الطرق التي توصل إلي السماء.
· · { فأطلع إلي إله موسي } ، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة، لأن موسي قال له: أن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقي عليه ثم يقول: لم أجد أحداً، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسي قال: إلهه في السماء، اجعلونا نرقي لنراه !! تهكماً.
وأيا كان، فقد قال: { وإني لأظنه كاذباً } ، للتمويه على قومه، وإلا، فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسي: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } [ الإسراء: 102]، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و( قد ) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخري: { وجحدوا بها وستيقنتها أنفهسهم ظلماً وعلوا } [ النمل: 14].
· · الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسي يدل على أن موسي صلي الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعال ذاتياً قد جاءت به الشرائع السابقة.
{ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حصاباً فستعلمون كيف نذير } (1)………(113/111)
(1) (1) الآية الخامسة والسادسة: قوله: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير } [الملك: 16-17].
· · والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كني عن نفسه بهذا، لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم، لأن العالي له سلطة على من تحته.
· · { فإذا هي تمور } ، أي: تضطرب.
والجواب: لا تأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض.
والانهيارات التي يسمونها الآن: أنهياراً أرضياً، وانهياراً جبلياً .. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس.
· · { أم أمنتم } ، يعني بل أأمنتم، و ( أم ) هنا بمعني ( بل ) والهمزة.
· · { أن يرسل عليكم حاصباً } : الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت.
فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالي : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذنه الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } [ العنكبوت:40]، أربعة أنواع من العذاب.
وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف.
والشاهد من هذه الآية هو قوله: { من في السماء } .
والذي هاهنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و(في) للظرفيه، فإن الظرف محيط بالمظروف ! أرأيت لو قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء ! فإذا كان الله يقول: { أأمنتم من في السماء } ، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلاً، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد لله، لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلاً.
فما الجواب على هذا الإشكال؟(113/112)
قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
1- 1- فإما أن نجعل السماء بمعني العلو، والسماء معني العلو وارد في اللغة، بل في القرآن ، قال تعالي: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [ الرعد: 17]، والمراد بالسماء العلو، لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالي: { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } [ البقرة: 164].
فيكون معني { من في السماء } ، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شىء، ولا يكون فوقه شىء.
2- أو نجعل ( في ) بمعني ( علي ) ، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الآجرام السماوية، وتأتي ( في ) بمعني ( علي) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } [ طه: 71] ، أي: على جذوع النخل.
فيكون معني { من في السماء } ، أي: من على السماء.
ولا إشكال بعد هذا.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالي: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف: 84]، وقوله: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } [ الأنعام: 3 ] ؟ !
فالجواب: أن نقول:
أما الآية الأولي، فإن الله يقول: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } ، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعاً بإمارته وسلطته، فالله تعالي ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء.(113/113)
أما الآية الثاني: { وهو الله في السموات وفي الأرض } فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: { وهو الله } ، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعني: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض.
فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها.
وقيل المعني: { وهو الله في السموات } ، ثم تقف، ثم تقرأ: { وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } ، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وهذا المعني فيه شيىء من الضعف، لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: { وهو الله في السموات وفي الأرض } ، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخري.
من الفوائد المسلكية في هذه الآيات:
أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالي فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه و يعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.
إثبات معية الله لخلقه
(1) (1) شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو ؛ لأنه قد يبدون للإنسان أن هناك تناقضاً بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جداً أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.
وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث:
المبحث الأول في أقسامها :
معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة.
والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص ، ومقيدة بوصف.
أما العامة ؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر . ودليلها قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } {الحديد: 4} .(113/114)
أما الخاصة المقيدة بوصف ؛ فمثل قوله تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } {النحل: 128}.
وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } {التوبة 40، وقال لموسى وهارون : { إنني معكما أسمع وأرى } {طه : 46}.
وهذه أخص من المقيدة بوصف.
فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص. فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص ، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عاماً. فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد.
المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كتابة عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟
أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون : إنها كتابة عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك ، فيجعلون معنى قوله: { وهو معكم } أي: وهو عالم بكم سميع لأقوالكم ، بصير بأعمالكم ، قادر عليكم حاكم بينكم . . . . وهكذا ، فيفسرونها بلازمها.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها ، وأن كونه معنا حق على حقيقته ، لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه ؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه ؛ فهو معنا وهو عال على عرشه فوق كل شيء ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي نحن فيها.
وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو.
والمؤلف عقد لها فصلاً خاصاً سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه.(113/115)
وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلاً بالقمر، قال: إنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟!
وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل الصسنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تؤولون في المعبة، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما اشبه ذلك.
فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه تفسير باللازم.
*المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو منا لصفات الفعلية؟
فيه تفصيل:
- - أما المعية العامة، فهي ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال محيطاً بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته.
- - وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية، لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه.
*المبحث الرابع في المعية: هل هي حقيقة أو لا؟
ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به.
وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل!
*المبحث الخامس في المعية: هل بينها وبين العلو تناقض؟
الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة:(113/116)
الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلاً، إذ من الممكن أن يكون الشيء عالياً وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى.
أرأيت لو أن إنساناً على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم، لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟!
الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذراً في حق الخالق، لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في سفره: "اللهم أنت الصاحب فىالسفر، والخليفة في الأهل"(1)، فجمع بين كونه صاحباً له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحباً لك في السفر وخليفة لك في أهلك.
وثبت في الحديث الصحيح(2): أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلى: { الحمد لله رب العالمين } : "حمدني عبدي". كم من مصل يقول: { الحمد لله رب العالمين } ؟ لا يحصون، وكم من مصليين، أحدهما يقول: { الحمد لله رب العالمين } ، والثاني يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول: { الحمد لله رب العالمين } : يقول الله له: "حمدني عبدي". والذي يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } : يقول الله له: "هذا بيني وبين عبدي نصفين".....(113/117)
إذاً، يمكن أن يكون الله معنا حقاً وهو على عرشه في السماء حقاً، ولا يفهم أحداً أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق.
ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكراً ذلك!
إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسؤولهم أعلم من مسؤولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليماً.
تنبيه:
تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى: { خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى } ، { يعلم ما يلج في الأرض } ، فكذلك ضمير { وهو معكم } ، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش. هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"(1).
أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد والذين في السوق الله معهم فىالسوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات!!
ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!
المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أكنتنا والرد عليهم:
شبهتهم : يقولون : هذا ظاهر اللفظ : { وهو معكم } ؛ لأن كل الضمائر تعود على الله : { هو الذي خلق } ، { ثم استوى } ، { يعلم } ، { وهو معكم } ، وإذا كان معنا ؛ فنحن لأنفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!!
والرد عليهم من وجوه:(113/118)
أولاً: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم ؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستوياً على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان ! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل .
ثانياً : قولكم : "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع ؛ فالمعية في اللغة العربية أسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولاً مما زعمتم ؛ فقد تقتضصي الإختلاط ، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان ؛ هذه ثلاثة أشياء:
1-مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبناً مع ماء ؛ أي : مخلوطاً بماء.
2-ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلاناً مع فلان يمشيان جميعاً وينزلان جميعاً.
3-ومثال المعية التي تقتضي الإختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال :
فلان مع جنوده . وإن كان في غرفة القيادة ، لكن يوجههم . فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان.
ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه. فإذا قيل : { إن الله مع الذين اتقوا }
{النحل : 128} ؛ فلا يقتضي ذلك لا اختلاطاً ولا مشاركة في المكان ، بل هي معية لائقة بالله ، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثاً: نقول: وصفكم الله بهذا ! من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل ، والله عز وجل ذكرها هنا عن نفسه متمدحاً ؛ أنه مع علوه على عرشه ؛ فهو مع الخلق ، وإن كانوا أسفل منه ، فإذا جعلتم الله في الأرض ؛ فهذا نقص. إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان ، وأنتم تدخلون الكنيف ؛ هذا أعظم النقص ، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف ! لكن كيف تقوله لله عز وجل ؟!(113/119)
رابعاً : يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما ، وكلاهما ممتنع : إما أن يكون الله متجزئاً ، كل جزء منه في مكان.
وإما أن يكون متعدداً ؛ يعني : كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامساً: أن نقول : قولكم هذا أيضاً يستلزم أن يكون الله حالاً في الخلق ؛ فكل مكان في الخلق ؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلماً لقول أهل وحدة الوجود. فأنت ترى أن هذا القول باطل ، ومقتضى هذا القول الكفر.
ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض ؛ فهو كافر؛ يستتاب ، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا ؛ وجب قتله.
وهذه آيات المعية:
الآية الأولى: قوله تعالى: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } {الحديد: 4} : والشاهد فيها قوله: { وهو معكم أين ما كنتم } ، وهذه من المعية العامة؛ لأنها تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وسمعاً وبصراً وغير ذلك من معاني الربوبية.
(1)الآية الثانية: قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } {المجادلة: 7}.
{ ما يكون } : { يكون } ؛ تامة يعني: ما يوجد.
وقوله : { من نجوى ثلاثة } : قيل: إنها من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، وأصلها : من ثلاثة نجوى ، ومعنى { نجوى } ؛ أي: متناجين.(113/120)
وقوله: { إلا هو رابعهم } ولم يقل : إلا هو ثالثهم ؛ لأنه من غير الجنس ، وإذا كان من غير الجنس ، فإنه يؤتى بالعدد التالي، أما إذا كان من الجنس؛ فإنه يؤتى بنفس العدد، أنظر قوله تعالى عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } {المائدة: 73} ، ولم يقولوا : ثالث أثنين ؛ لأنه من الجنس على زعمهم فعندهم كل الثلاثة آلهة ، فلما كان من الجنس على زعمهم ؛ قالوا فيه : ثالث ثلاثة.
قوله : { ولا خمسة هو سادسهم } ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله : { ولا أدنى من ذلك } : الأدنى من ثلاثة أثنان ، { ولا أكثر } من خمسة ، ستة فما فوق.
ما من أثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض ؛ إلا والله عز وجل معهم.
وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن ، والكافر، والبر، والفاجر ، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك.
وقوله: { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } ؛ يعني : أن هذه المعية تقتضي إحصاء ما عملوه ؛ فإذا كان يوم القيامة ؛ نبأهم بما عملوا ؛ يعني: أخبرهم به وحاسبهم عليه ؛ لأن المراد بالإنباء لازمه ، وهو المحاسبة ، لكن إن كانوا مؤمنين ؛ فإن الله تعالى يحصي أعمالهم ، ثم يقول : "سترتها وقوله : { لا تحزن إن الله معنا }
عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"(1).
وقوله عز وجل : { إن الله بكل شيء عليم } : كل شيء موجود أو معدوم ، جائز أو واجب أو ممتنع ، كل شيء ؛ فالله عليم به. وقد سبق لنا الكلام على صفة العلم ، وأن علم الله يتعلق بكل شيء، حتى بالواجب والمستحيل والصغير والكبير ، والظاهر والخفي.
(1)الآية الثالثة: { لا تحزن إن الله معنا } {التوبة: 40}.(113/121)
الخطاب لأبي بكر من النبي ، صلى الله عليه وسلم : ؛ قال الله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } {التوبة:40}.
أولاً: نصره حين الإخراج و { إذ أخرجه الذين كفروا } .
ثانياً: وعند المكث في الغار { إذ هما في الغار } .
ثالثاً: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } .
فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه ، صلى الله عليه وسلم .
وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم ؛ يقول أبو بكر : "يا رسول الله ! لو نظر أحدهم إلى قدمه ؛ لأبصرنا"(2) ؛ يعني : إننا على خطر ؛ كقول أصحاب موسى لما وصلوا إلى البحر : { إنا لمدركون } {الشعراء: 61}، وهنا قال
النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لأبي بكر رضي الله عنه : { لا تحزن إن الله معنا } . فطمأنه وأدخل الأمن في نفسه ، وعلل ذلك بقوله: { إن الله معنا } .
وقوله : { لا تحزن } : نهي يشمل الهم مما وقع وما سيقع؛ فهو صالح للماضي والمستقبل.
والحزن: تألم النفس وشدة همها.
{ إن الله معنا } : وهذه المعية خاصة، مقيدة بالنبي ، صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وتقتضي مع الإحاطة التي هي المعية العامة النصر والتأييد. ولهذا وقفت قريش على الغار ، لوم يبصروهما ! أعمى الله أبصارهم. وأما قول من قال : فجاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار ، والحمامة وقعت على باب الغار، فلما جاء المشركون ، وإذا على الغار ، حمامة وعش عنكبوت ، فقالوا: ليس فيه أحد؛ فانصرفوا . فهذا باطل!! الحماية الإلهية والآية البالغة أن يكون الغار مفتوحاً صافياً ؛ ليس فيه مانع حسي ، ومع ذلك لا يرون من فيه، هذه هي الآية!!
أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش ؛ فهذا بعيد ، وخلاف قوله: "لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا".(113/122)
المهم أن بعض المؤرخين –عفا الله عنهم –يأتون باشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل.
(1) (1) الآية الرابعة: قوله: { إنني معكما أسمع وأرى } {طه: 46}.
هذا الخطاب موجه لموسى وهارون ، لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون ؛ قال: { إذهبا إلى فرعونإنه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } {طه:43-46}.
فقوله : { أسمع وأرى } : جملة استئنافية لبيان مقتضى هذه المعية الخاصة، وهو السمع والرؤية، وهذا سمع ورؤية خاصان تقتضيان النصر والتأييد والحماية من فرعون الذي قالا عنه: { إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } .
(1) (1) الآية الخامسة: قوله: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } {النحل: 128}.
هذه جاءت بعد قوله : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عرفتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } {النحل: 126-127}.
عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى ، وأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان ، ولهذا قال: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } .
والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين المحسنين؛ فالله معه.
وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية : الحرص على الإحسان والتقوى ؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه.
(2)الآية السادسة: قوله: { واصبروا إن الله مع الصابرين } {الأنفال:46}.
سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله ، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله ؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح.(113/123)
وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله لأن فيهما اختياراً : إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل ، وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه ، ثم على أقدار الله ؛ لن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه ، أما من فرشت له الأرض وروداً ، وصار الناس ينظرون إلى مايريد ؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفس أو البدني الداخلي أو الخارجي.
ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر.
فالشكر ؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه ، فيقول : "افلا أكون عبداً شكوراً؟" (1)
والصبر : صبر على ما أوذي ، فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر.
(1)الآية السابعة : قوله: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } {البقرة:249} .
{ كم } : خبرية ، تفيد التكثير ؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله ، أي: بإرادته وقدرته.
ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين.
أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان ، وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخاً إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. فيها أرزاق كثيرة لقريش، فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة ، حتى قال أبو جهل: والله ؛ لا ترجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثاً ؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب ؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً.
فالحمد لله ، غنوا عل قتله هو ومن معه!(113/124)
كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعاً إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ، معهم سبعون بعيراً وفرسان فقط يتعاقبونها ، ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة.
فـ { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ؛ لأن الفئة القليلة صبرت، { والله مع الصابرين } ؛ صبرت كل أنواع الصبر؛ على طاعة الله ، وعن معصية الله، وعلى ما أصابها من الجهد والتعب والمشقة في تحمل أعباء الجهاد، { والله مع الصابرين } .
انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في تقريزها.
فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟
أولاً: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء ، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبداً.
ثانياً: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته ؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا ، ولا يجدنا حيث نهانا ، وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية.(113/125)
مجموع فتاوى ورسائل - 8
شرح الواسطية - القسم الثالث
محمد بن صالح العثيمين
إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن من كلامه تعالى
(1)ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على كلام الله تعالى وأن القرآن من كلامه تعالى.
الآية الأولى والثانية: قوله: { ومن أصدق من الله حديثاً } {النساء: 87} { ومن أصدق من الله قيلاً } {النساء: 122}.
{ ومن } : اسم استفهام بمعنى النفي ، وإتيان النفي بصيغة الإستفهام أبلغ من إتيان النفي مجرداً ؛ لأنه يكون بالاستفهام مشرباً معنى التحدي؛ كأنه يقول : لا أحد أصدق من الله حديثاً ، وإذا كنت تزعم خلاف ذلك؛ فمن اصدق من الله؟
وقوله: { حديثاً } و { قيلاً } : تمييز لـ { اصدق } .
وإثبات الكلام في هاتين الآيتين يؤخذ من: قوله: { أصدق } ؛ لأن الصدق يوصف به الكلام ، وقوله: { حديثاً } لأن الحديث هو الكلام، ومن قوله في الآية الثانية: { قيلاً } ؛ يعني : قولاً ، والقول لا يكون إلا باللفظ.
ففيهما إثبات الكلام لله عز وجل، وأن كلامه حق وصدق ، ليس فيه كذب بوجه من الوجوه.
(1)الآية الثالثة: قوله: { وإذ قال الله عيسى ابن مريم } {المائدة: 116}.
قوله : { يا عيسى } : مقول القول، وهي جملة من حروف : { يا عيسى ابن مريم } .
ففي هذا إثبات أن الله يقول : وأن قوله مسموع، فيكون بصوت ، وأن قوله كلمات وجمل ، فيكون بحرف.
ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة : أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء ، كيف شاء، بما شاء ، بحرف وصوت، لا يماثل أصوات المخلوقين.
"متى شاء" : باعتبار الزمن.
"بما شاء" :باعتبار الكلام؛ يعني: موضوع الكلام من أمر أو نهي أو غير ذلك.
"كيف شاء" : يعني على الكيفية والصفة التي يريدها سبحانه وتعالى. قلنا: إنه بحرف وصوت لا يشبه أصوات المخلوقين.
الدليل على هذا من الآية الكريمة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم } : هذا حروف.(114/1)
وبصوت؛ لأن عيسى يسمع ما قال.
لا يماثل أصوات المخلوقين ؛ لأن الله قال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } {الشورى: 11}.
(1)الآية الرابعة: قوله: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } {الأنعام: 115} .
{ كلمة } ؛ بالإفراد، وفي قراءة (كلمات) ؛ بالجمع ، ومعناها واحد؛ لأن { كلمة } مفرد مضاف فيعم.
تمت كلمات الله عز وجل على هذين الوصفين: الصدق والعدل، والذي يوصف بالصدق الخبر، والذي يوصف بالعدل الحكم، ولهذا قال المفسرون : صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
فكلمات الله عز وجل في الأخبار صدق لا يعتريها الكذب بوجه الوجوه ، وفي الأحكام عدل لا جور فيها بوجه من الوجوه.
هنا وصفت الكلمات بالصدق والعدل . إذا ؛ فهي أقوال ؛ لأن القول هو الذي يقال فيه : كاذب أو صادق.
(2)الآية الخامسة : قوله: { وكلم الله موسى تكليماً } {النساء:164}.
{ الله } : فاعل ؛ فالكلام واقع منه.
{ تكليماً } : مصدر مؤكد ، والمصدر المؤكد –بكسر الكاف-؛ قال العلماء: إنه ينفي احتمال المجاز. فدل على أنه كلام حقيقي؛ لأن المصدر المؤكد ينفي احتمال المجاز.
أرأيت لو قلت : جاء زيد. فيفهم أنه جاء هو نفسه، ويحتمل أن يكون المعنى جاء خبر زيد، وإن كان خلاف الظاهر ، لكن إذا أكدت فقلت: جاء زيد نفسه. أو : جاء زيد. انتفى أحتمال المجاز.
فكلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي ، بحرف وصوت سمعه ، ولهذا جرت بينهما محاورة ؛ كما في سورة طه وغيرها. { منهم من كلم الله } {البقرة:253}.
{ منهم } ؛أي: من الرسل
{ من كلم الله } : الاسم الكريم { الله } فاعل كلم، ومفعولها محذوف يعود على { من } ، والتقدير: كلمه الله.
(2)الآية السابعة: قوله: وقوله: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } .
{الأعراف:143}.(114/2)
أفادت هذه الآية أن الكلام يتعلق بمشيئته ، وذلك لأن الكلام صار حين المجيئ. ، لا سابقاً عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته. فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس ، وإنه لا يتعلق بمشيئته ، وذلك لأن الكلام صار حين المجيئ، لا سابقاً عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته.
فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس ، وإنه لا يتعلق بمشيئته ؛ كما تقوه الأشاعرة.
وفي هذه الآية إبطال زعم من زعم أن موسى فقط هو الذي كلم الله ، وحرف قوله تعالى: { وكلم الله موسى تكليماً } إلى نصب الأسم الكريم؛ لأنه في هذه الآية لا يمكنه زعم ذلك ولا تحريفها.
(3)الآية الثامنة: قوله: وقوله: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } .{مريم:52}.
{ وناديناه } : ضمير الفاعل يعود إلى الله ، وضمير المفعول يعود إلى موسى؛ أي: نادى الله موسى.
{ نجياً } : حال ، وهو فعيل بمعنى مفعول ؛ أي : مناجي.
والفرق بين المناداة والمناجاة أن المناداة تكون للبعيد ، والمناجاة تكون للقريب وكلاهما كلام.
وكون الله عز وجل يتكلم مناداة ومناجاة داخل في قول السلف: "كيف شاء".
فهذه الآية مما يدل على أن الله يتكلم كيف شاء مناداة كان الكلام أو مناجاة.
(1)الآية التاسعة: قوله: { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين } {الشعراء:10}.
{ وإذ نادى } ؛ يعني: واذكر إذ نادى.
والشاهد قوله: { ربك موسى } : فسر النداء بقوله: { أن ائت القوم الظالمين } .
فالنداء يدل على أنه بصوت، و { أن ائت القوم الظالمين } : يدل على أنه بحرف.
(2)الآية العاشرة: قوله: { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } {الأعراف:22}.
{ وناداهما } : ضمير المفعول يعود على آدم وحواء.(114/3)
{ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } : يقرر أنه نهاهما عن تلكما الشجرة ، وهذا يدل على أن الله كلمهما من قبل، وأن كلام الله بصوت وحرف، ويدل على أنه يتعلق بمشيئته ؛ لقوله: { ألم أنهكما } ؛ فإن هذا القول بعد النهي، فيكون متعلقاً بالمشيئة.
(1)الآية الحادية عشرة: قوله: { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } {القصص:65}.
يعني : واذكر يوم يناديهم، وذلك يوم القيامة ، والمنادي هو الله عز وجل: { فيقول } .
وفي هذه الآية إثبات الكلام من وجهين: النداء والقول.
وهذه الآيات تدل بمجموعها على أن الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء ، بما شاء ، بحرف وصوت مسموع، لا يماثل أصوات المخلوقين.
وهذه هي العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة.
إثبات أن القرآن كلام الله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله. وهذه المسألة وقع فيها النزاع الكثير بين المعتزلة وأهل السنة ، وحصل بها شر كثير على أهل ، وممن أوذي في الله في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، الذي قال فيه بعض العلماء: "إن الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام (أو قال: نصره) بأبي بكر يوم الردة، وبالإمام أحمد يوم المحنة".
والمحنة: هو أن المأمون عفا الله عنا وعنه أجبر الناس على أن يقولوا بخلق القرآن ، حتى إنه صار يمتحن العلماء ويقتلهم إذا لم يجيبوا ، وأكثر العلماء رأوا أنهم في فسحة من الأمر، وصاروا يتأولون:
إما بأن الحال حال إكراه ، والمكره إذا قال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه معفو عنه.
وإما بتنزيل اللفظ على غير ظاهره؛ يتأولون، فيقولون مثلاً: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؛ هذه مخلوقة . وهو يتأول أصابعه.(114/4)
أما الإمام أحمد ومحمد بن نوح (1) رحمهما ؛ فأبيا ذلك، وقالا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق . ورايا أن الإكراه في هذا المقام لا يسوغ لهما أن يقولا خلاف الحق؛ لأن المقام مقام جهاد ، والإكراه يقتضي العفو إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه، أما إذا كانت المسألة شخصية ؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه ، أما إذا كانت المسألة لحفظ شريعة الله عز وجل.
لو قال الإمام أحمد في ذلك الوقت : إن القرآن مخلوق ، ولو بتأويل أو لدفع الإكراه ؛ لقال الناس كلهم : القرآن مخلوق! وحينئذ يتغير المجتمع الإسلامي من أجل دفع الإكراه، لكنه صمم ، فصارت العاقبة له، ولله الحمد.
المهم أن القول في القرآن جزء من القول في كلام الله على العموم ، لكن لما وقعت فيه المحنة، وصار محك النزاع بين المعتزلة وأهل السنة ؛ صار الناس يفردون القول في القرآن بكلام خاص، والمؤلف رحمه الله من الآن ساق الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله في آيات متعددة.
الآية الأولى : قوله: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } {التوبة:6}.
{ أحد } : هذه اسم ، و { وإن } : أداة الشرط ، والأسم إذا ولي أداة الشرط ؛ فقد ولي أداة لا يليها إلا الفعل، فاختلف النحويون في هذا: فقال بعضهم: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، وعليه يكون { أحد } فاعل لفعل محذوف ، والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين؛ فأجره، ومثلها: { إذا السماء انشقت.
القول الثاني: وهو قول الكوفيين وهم في الغالب أسهل من البصريين: أن { أحد } فاعل مقدم، والفعل استجارك مؤخر ، ولا حاجة للتقدير.
القول الثالث: أن ورود الأسماء بعد أدوات الشرط في القرآن كثيراً يدل على عدم امتناعه، وعلى هذا القول يكون الإسم الواقع بعد أداة الشرط مبتدأ إذا كان مرفوعاً، فيكون { أحد } : مبتدأ ، و { استجارك } : خبر المبتدأ.(114/5)
والقاعدة عندي أن ما كان أسهل من أقوال النحويين؛ فهو المتبع، حيث لا مانع شرعاً من ذلك.
قوله : { استجارك } ؛ أي: طلب جوارك، والجوار: بمعنى العصمة والحماية.
{ حتى يسمع } : { حتى } : للغاية ؛ والمعنى: إن أحد استجارك ليسمع كلام الله ؛ فأجره حتى سمع كلام الله ؛ أي: القرآن، وهذا بالاتفاق.
وإنما قال: { فأجره حتى يسمع كلام الله } ؛ لأن سماع كلام الله عز وجل مؤثر ولا بد كما قال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } {ق:37}، وكم من إنسان سمع كلام الله فآمن ، لكن بشرط أن يكون يفهمه تماماً.
وقوله : { كلام الله } : أضاف الكلام إلى نفسه ، فقال: { كلام الله } ، فدل هذا على أن القرآن كلام الله، وهو كذلك.
وعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن ؛ يقولون : إن القرآن كلام الله ، منزل ، غير مخلوق منه بدأ ، وإليه يعود.
قولهم : "منزل": دليلة قوله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } {البقرة:185} ، وقوله: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } {القدر: 1} ، وقوله: { وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً } {الإسراء:106}.
وقولهم: "غير مخلوق" : دليله: قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } {الأعراف:54} ؛ فجعل الخلق شيئاً والأمر شيئاً آخر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، والقرآن من الأمر؛ بدليل قوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } {الشورى:52}؛ فإذا كان القرآن أمراً ، وهو قسيم للخلق؛ صار غير مخلوق ؛ لأنه لو كان مخلوقاً؛ ما صح التقسيم. وهذا دليل سمعي.(114/6)
أما الدليل العقلي؛ فنقول: القرآن كلام الله، والكلام ليس عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله ؛ لقلنا: إنه مخلوق ، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة.
وأيضاً ؛ لو كان مخلوقاً ؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار ؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها.
وقولهم: "منه بدأ"؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولاً. والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد ، صلى الله عليه وسلم .
مثال الأول: قول الله عز وجل: { فأجره حتى يسمع كلام الله } {التوبة:6} ، فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله ، ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص.
ومثال الثاني-إضافته إلى جبريل-: قوله تعالى: { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين } {التكوير : 19-20} .
ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام -: قوله: { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر } {الحافة: 40-41} ، لكن أضيف إليها لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدأاه.
وقولهم: "وإليه يعود" : في معناه وجهان:
الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار : يسرى عليه في ليلة ، فيصبح الناس ليس بين أيديهم قرآن ؛ لا في صدورهم ، ولا في مصاحفهم ، يرفعه الله عز وجل(1).(114/7)
وهذا-والله أعلم-حينما يعرض عنه الناس إعراضاً كلياً؛ لا يتلونه لفظاً ولا عقيدة ولا عملاً ؛ فإنه يرفع ؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا-والله أعلم-نظير هدم الكعبة في آخر الزمان(2) ؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود ، يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض على الكعبة حجراً حجراً، كلما نقض حجراً ؛ مده للذي يليه . . . . وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله ورجله وفيله فصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد هيبته وعظمته، ولكن آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائياً ؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة ؛ فهذا نظير فع القرآن . والله أعلم.
الوجه الثاني: في معنى قولهم : "وإليه يعود" : أنه يعود إلى الله وصفاً ؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به.
ولا مانع أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح.
هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.
ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله!
ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } {الزمر:62} ، والقرآن شيء ، فيدخل في عموم قوله: { كل شيء } ، ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق ، والله خالق ، وما سواه مخلوق.
والجواب من وجهين:
الأول : أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله ، وصفات الخالق غير مخلوقة.
الثاني: أن مثل هذا التعبير { كل شيء } عام قد يراد به الخاص ؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ : { وأوتيت من كل شيء } {النمل:23}، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان.
فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا : إنه منزل ، وقولنا :إنه مخلوق؟(114/8)
فالجواب : نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد.
فإذا قلنا : إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن ؛ قال الله تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } {الفرقان:1}.
وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك:
أولاً: تكذيب للقرآن ؛ لأن الله يقول: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } {الشورى:52}، فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كان مخلوقاً ؛ ما صح أن يكون موحى ؛ فإذا كان وحياً لزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله هو الذي تكلم به.
ثانياً: إذا قلنا: إنه مخلوق ؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار ؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة ؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها ، والقمر على صورته، والنجم على صورته. . وهكذا ، ولم تكن أمراً ولا نهياً ولا خبراً ولا استخباراً ؛ فمثلاً : كلمة (قل) (لا تقل) (قال فلان) (هل قال فلان) كلها نقوش على هذه الصورة ، فتبطل دلالتها على الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئاً.
ولهذا قال ابن القيم في "النونية" : "إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله ، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار".
ثالثاً: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد ؛ حيث يقول قائلهم:
وكل كلام في الوجوه كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق.
والوجه الرابع : أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا(114/9)
يقوم إلا بمتكلم – مخلوقاً ؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة ؛ إذ لا فرق ؛ ؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق ، وبصره مخلوق. . . . وهكذا.
فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا يسمع منه ولا يرى، بخلاف الكلام ؛ فإنه جائز أن الله يخلق أصواتاً في الهواء فتسمع !! قلنا لكم : لو خلق أصواتاً في الهواء، فسمعت ؛ لكان المسموع وصفاً للهواء ، وهذا أنتم بأنفسكم لا تقولوه ؛ فكيف تعيدون الصفة إلى غير موصوفها ؟!
هذه وجوه أربعة كلها تدل على أن القول بخلق القرآن باطل، ولو لم يكن منه إلى إبطال الأمر والنهي والخبر والاستخبار ؛ لكان ذلك كافياً.
(1)الآية الثانية: قوله: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } {البقرة:75}.
هذا في سياق قوله تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } ؛ يعني: لا تطمعون أن يؤمنوا لكم ؛ أي : اليهود.
{ فريق منهم } : طائفة منهم، وهم علماؤهم.
{ يسمعون كلام الله } : يحتمل أن يراد به القرآن ، وهو ظاهر صنيع المؤلف، فيكون دليلاً على أن القرآن كلام الله . ويحتمل أن يراد به كلام الله تعالى لموسى حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات الله تعالى، فكلمه الله وهم يسمعون ، فحرفوا كلام الله تعالى من بعدما عقلوه وهم يعلمون. ولم أر الاحتمال الأول لأحد من المفسرين.
أيا كان ؛ ففيه إثبات أن كلام الله بصوت مسموع ، والكلام صفة المتكلم ، وليس شيئاً بائناً منه؛ فوجب أن يكون القرآن كلام الله لا كلام غيره.
{ ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } : { يحرفونه } : أي : يغيرون معناه.
وقوله: : { من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } : { يحرفونه } هذا أشد في قبح عملهم وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى: أن يحرفوا الشيء من بعد ما عقلوه ووصل إلى عقولهم وهم يعلمون أنهم محرفون له؛ لأن الذي يحرف المعنى عن جهل أهون من الذي يحرفه بعد العقل والعلم.(114/10)
(1) { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } {الفتح:15}.
في هذه الآية إثبات أن القرآن كلام الله؛ لقوله: { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } .
والضمير يعود على الأعراب الذين قال الله فيهم: { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم } {الفتح: 15}؛ فهؤلاء أرادوا أن يبدلوا كلام الله ، فيخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكن الله تعالى إنما كتب المغانم لقوم معينين ، للذين غزوا في الحديبية ، وأما من تبعوه لأخذ الغنائم فقط؛ فلا حق لهم فيها.
وفي الآية ايضاً إثبات القول لله تعالى ؛ لقوله : { كذلكم قال الله من قبل } .
(1) الآية الرابعة: قوله: { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته } {الكهف: 27}.
قوله: { ما أوحي إليك } ؛ يعني : القرآن ، والوحي لا يكون إلا قولاً ؛ فهو إذا غير مخلوق.
وقوله: { من كتاب ربك } : أضافه إليه سبحانه وتعالى ؛ لأنه هو الذي تكلم به، أنزله على محمد ، صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين.
{ لا مبدل لكلماته } ؛ يعني : لا أحد يبدل كلمات الله ، أما الله عز وجل ؛ فيبدل آية مكان آية ؛ كما قال تعالى: { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون } {النحل: 101}.
وقوله: { لا بمدل لكلماته } : يشمل الكلمات الكونية والشرعية:
أما الكونية: فلا يستثنى منها شيء ، لا يمكن لأحد أن يبدل كلمات الله الكونية: إذا قضي الله على شخص بالموت؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك. إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالجدب؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.(114/11)
وكل هذه الأمور التي تحدث في الكون ؛ فإنها بقوله ؛ لقوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } {يس:82}.
أما الكلمات الشرعية؛ فإنها قد تبدل من قبل أهل الكفر والنفاق، فيبدلون الكلمات: إما بالمعنى، وإما باللفظ إن استطاعوا، أو بهما.
وفي قوله: { لكلماته } دليل على أن القرآن كلام الله تعالى.
(1)الآية الخامسة: قوله: { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } {النمل:76}.
الشاهد قوله: { يقص } ، والقصص لا يكون إلا قولاً ؛ فإذا كان القرآن هو الذي يقص ؛ فهو كلام الله ؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى لأن الله تعالى هو الذي يقص؛ فهو كلام الله ؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى: { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن } {يوسف:3} ، وحينئذ يكون القرآن كلام الله عز وجل.
إثبات أن القرآن منزل من الله تعالى
(2)ذكر المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها أن القرآن منزل من الله تعالى:
الآية الأولى : قوله: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } {الأنعام:155}.
{ وهذا كتاب } ؛ أي: مكتوب ؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة ، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
وقوله: { مبارك } ؛ أي: ذو بركة.
فهو مبارك ؛ لأنه شفاء لما في الصدور ، إذا قرأه الإنسان بتدبر وتفكر ؛ فإنه يشفي القلب من المرض ، وقد قال الله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } {الإسراء:82}.
مبارك في اتباعه ؛ إذ به صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة.(114/12)
مبارك في اثاره العظيمة ؛ فقد جاهد المسلمون به بلاد الكفر ؛ لأن الله يقول : { وجاهدهم به جهاداً كبيراً } {الفرقان:52}، والمسلمون فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها ، ولو رجعنا إليه ؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها ، ولو رجعنا إليه ؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها ؛ كما ملكها أسلافنا ، ونسأل الله ذلك.
مبارك في أن من قرأه ؛ فله بكل حرف عشر حسنات ؛ فكلمة (قال) مثلاً فيها ثلاثون حسنة ، وهذا من بركة القرآن ؛ فنحن نحصل خيرات كثيرة لا تحصى بقراءة آيات وجيزة من كلام الله عز وجل.
والحاصل: أن القرآن كتاب مبارك؛ فكل أنواع البركة حاصلة بهذا القرآن العظيم.
والشاهد في قوله: { أنزلناه } .
وثبوت نزوله من الله دليل على أنه كلامه.
(1)الآية الثانية: قوله: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرآيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } {الحشر:21}.
الجبل من أقسى ما يكون ، والحجارة التي منها تتكون الجبال هي مضرب المئل في القساوة ؛ قال الله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد فهي كالحجارة أو أشد قسوة } {البقرة: 74}، ولو نزل هذا القرآن على جبل ؛ لرأيت هذا الجبل خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
{ خاشعاً } ؛ أي: ذليلاً.
ومن شدة خشيته لله يكون { متصدعاً } يتفلق ويتفتق.
وهو ينزل على قلوبنا ، وقلوبنا –إلا أن يشاء الله –تضمر وتقسو لا تتفتح ولا تتقبل.
فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات ؛ زادتهم إيماناً، والذين في قلوبهم مرض ؛ تزيدهم رجساً إلى رجسهم؛ والعياذ بالله!
ومعنى ذلك : أن قلوبهم تتصلب وتقسو أكثر وتزداد رجساً إلى رجسها ، نعوذ بالله من ذلك!
وهذا القرآن لو أنزل على جبل ؛ لتصدع الجبل وخشع ؛ لعظمة ما أنزل عليه من كلام الله.
وفي هذا دليل على أن للجبل إحساساً؛ لأنه يخشع ويتصدع ، والأمر كذلك ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم في أحد: "هذا أحد جبل يحبنا ونحبه"(1) .(114/13)
وبهذا الحديث نعرف الرد على المثبتين للمجاز في القرآن ، والذي يرفعون دائماً علمهم مستدلين بهذه الآية: { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض } {الكهف:77}؛ يقول: كيف يريد الجدار؟!
فنقول : يا سبحان الله ! العليم الخبير يقول: { يريد أن ينقض } ، وأنت تقول : لا يريد ! أهذا معقول؟
فليس من حقك بعد هذا أن تقول : كيف يريد؟!
وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا: هل نحن أوتينا علم كل شيء؟
فنجيب بالقول بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً
فقول من يعلم الغيب والشهادة : { يريد أن ينقض } : لا يسوغ لنا أن نعترض عليه ، فنقول : لا إرادة للجدار ! ولا يريد أن ينقض !
وهذا من مفاسد المجاز ؛ لأنه يلزم منه نفي ما أثبته القرآن.
أليس الله تعالى يقول: { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } {الإسراء:44}؛ هل تسبح بلا إرادة ؟!
يقول: { تسبح له } : اللام للتخصيص ؛ إذا ؛ هي مخلصة ، وهل يتصور إخلاص بلا إرادة؟! إذا؛ هي تريد وكل شيء يريد لأن الله يقول: { وإن من شيء إلا يسبح } ، واظنه لا يخفى علينا جميعاً أن هذا من صيغ العموم ؛ فـ(إن) : نافية بمعنى (ما) ، و { من شيء } : نكرة في سياق النفي ، { إلا يسبح بحمده } ، فيعم كل شيء.
فيا أخي المسلم ! إذا رأيت قلبك لا يتأثر بالقرآن ؛ فاتهم نفسك ؛ لأن الله أخبر أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لتصدع، وقلبك يتلى عليه القرآن ، ولا يتأثر. اسأل الله أن يعينني وإياكم.
(1) الآية الثالثة والرابعة والخامسة : قوله: { وإذ بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون . قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين . ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } {النحل: 101-103} .(114/14)
قوله عز وجل { وإذا بدلنا آية مكان آية } : قوله: { بدلنا } ؛ أي: جعلنا آية مكان آية ، وهذا إشارة إلى النسخ المذكور في قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } {البقرة:106}، فالله سبحانه إذا نسخ آية ؛ جعل بدلها آية ، سواء نسخها لفظاً ، أو نسخها حكماً.
وقوله : { والله أعلم بما ينزل } : هذه جمله اعتراضية ، وهي من أحسن ما يكون في هذا الموضع ، والمعنى أن تبديلنا للآية ليس سفهاً وعبثاً ، بل هو صادر عن علم بما يصلح الخلق، فنبدل آية مكان آية؛ لعلمنا أن ذلك أصلح للخلق وأنفع لهم.
وفيها أيضاً فائدة أخرى، وهي أن هذا التبديل ليس من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو من الله ، أنزله بعلمه ، وأبدل آية مكان آية بعلمه، وليس منك أيها الرسول.
قال تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا أنت بقرآن غير هذا أو بدله } {يونس : 15} ؛ فماذا كان الجواب؟ كان الجواب بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئاً فقال تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } {يونس:15}، ولم يقل : ولا أتي بقرآن غيره . لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده، وإذا كان لا يمكنه تبديله؛ فالإتيان بغيره أولى بالامتناع.
فالمهم : أن الذي يبدل آية مكان آية، سواء لفظها أو حكمها ، هو الله سبحانه.
قوله: { إنما أنت مفتر } : الجملة جواب { وإذا } .
قوله: { إنما أنت } : الخطاب هنا لمحمد ، صلى الله عليه وسلم .
قوله: { مفتر } ؛ أي: كذاب ، بالأمس تقول لنا كذا ، واليوم تقول لنا كذا ، هذا كذب، بالأمس تقول لنا كذا، واليوم تقول لنا كذا، هذا كاذب ، إنما أنت مفتر!!(114/15)
لكن هذا القول الذي يقولونه إزاء إتيانه بآية مكان آية هو قول سفه ، ولو أمعنوا النظر ؛ لعلموا علم اليقين أن الذي يأتي بآية مكان آية هو الله سبحانه، وذلك يدل على صدقه ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الكذاب يحذر غاية الحذر أن يأتي بكلام غير كلامه الأول؛ لأنه يخشى أن يطلع على كذبه، فلو كان كاذباً كما يدعون أن ذلك من علامة الكذب؛ ما أتى بشيء يخالف الأول؛ لأنه إذا أتى بشيء يخالف الأول على زعمهم تبين كذبه بل إتيانه بما يخالف الأول دليل على صدقه بلا شك.
ولهذا قال هنا: { بل أكثرهم لا يعلمون } ، وهذا إضراب إبطالي؛ معناه: بل لست مفترياً ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ولو أنهم كانوا من ذوي العلم لعلموا أنه إذا بدلت آية مكان آية فإنما ذلك دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } : { روح القدس } : هو جبريل، ووصفه بذلك لطهارته من الخيانة عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال في آية أخرى { إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش . مطاع ثم أمين } {التكوير:19-20}.
قوله: { من ربك } قال: { من ربك } ، ولم يقل : من رب العالمين؛
إشارة إلى الربوبية الخاصة ؛ ربوبية الله للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهي ربوبية أخص الخاصة.
وقوله: { بالحق } : إما أن يكون وصفاً للنازل أو للمنزول به.
فإن كان وصفاً للنازل؛ فمعناه : أن نزوله حق، وليس بكذب.
وإن كان وصفاً للمنزول به؛ فمعناه: أن ما جاء به فهو حق.
وكلاهما مراد ؛ فهو حق من عند الله ، ونازل بالحق.
قال الله تعالى: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } {الإسراء:105}.
فالقرآن حق، وما نزل به حق.
قوله: { وهدى وبشرى للمسلمين } ؛ أي : هدى يهتدون به، ومناراً يستنيرون به، وبشارة لهم يستبشرون به.(114/16)
بشارة ؛ لأن من عمل به، واستسلم له كان ذلك دليلاً على أنه من أهل السعادة، قال الله تعالى : { فأما من أعطى وأتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . } {الليل:5-7}.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرح إذا رأى من نفسه الخير والثبات عليه والإقبال عليه، يفرح ؛ لأن هذه بشارة له؛ فإن الرسول ، صلى الله عليه وسلم لما حدث أصحابه ؛ قال "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". قالوا أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: "لا ؛ اعملوا ؛ فكل ميسر لما خلق له"، ثم قرأ : : { فأما من أعطى وأتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى .وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . فسنيسره للعسرى } {الليل:5-10}.(1)
فإذا رأيت من نفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالهداية ، والتوفيق والعمل الصالح ومحبة الخير وأهل الخير ؛ فأبشر؛ فإن في هذا دليلاً على أنك من أهل اليسرى ، الذين كتبت لهم السعادة.
ولهذا قال هنا: { وهدى وبرى للمسلمين } .
قوله: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } ؛ قال: { ولقد نعلم } ، ولم يقل : لقد علمنا ؛ لأن قولهم هذا يتجدد ، فكان التعبير بالمضارع أولى من التعبير بالماضي ؛ لأنه لو قال : لقد علمنا ؛ لتبادر إلى ذهن بعض الناس أن المعنى : علمنا أنهم قالوا ذلك سابقاً ، لا أنهم يستمرون عليه.
وسبب نزول هذه الآية أن قريشاً قالت: إن هذا القرآن الذي يأتي به محمد ليس من عند ربه، وإنما هو من شخص يعلمه ويقص عليه من قصص الأولين، ويأتي ليقول لنا: هذا من عند الله ! أعوذ بالله!!
ادعوا أنه كلام البشر! والعجيب أنهم يدعون أنه كلام بشر، ويقال لهم: ائتوا بمثله ، ولا يستطيعون!!
وقد أبطل الله افتراءهم هذا بقوله تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } ، ومعنى { يلحدون } يميلون ؛ لأن قولهم هذا ميل عن الصواب بعيد عن الحق.(114/17)
والأعجمي : هو الذي لا يفصح بالكلام ، وإن كان عربياً ، والعجمي بدو همزة هو: المنسوب إلى العجم وإن كان يتكلم العربية.
فلسان هذا الذي يلحدون إليه أعجمي لا يفصح بالكلام العربي.
وأما القرآن ؛ فإن الله قال فيه : { وهذا لسان عربي مبين } . بين في نفسه مبين لغيره.
فالقرآن كلام عربي، وهو أفصح الكلام ، كيف يأتي من هذا الرجل الأعجمي، الذي لسانه لا يفصح بالكلام؟!
والشاهد هو قوله: { والله أعلم بما ينزل } ، وقوله : { قل نزله روح القدس من ربك } ، وقوله { وهذا لسان عربي مبين } .
وكل هذه تدل على أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده.
والمؤلف ترك الآية التي بعدها ؛ لأنه ليس فيها شاهد ، ولكنها مفيدة ؛ فنذكرها : قال تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم . إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } {النحل:104-105}.
ومعنى هذه الآية: أن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولا ينتفعون بآياته، والعياذ بالله ؛ فالهداية مسدودة عليهم.
وهذه الحقيقة فيها فائدة كبيرة، وهي: أن من لم يؤمن بآيات الله لا يهديه الله
ومفهوم المخالفة فيها: أن من آمن بآيات الله؛ هداه الله.
مثال ذلك : أننا نجد من لم يؤمن بالآيات ؛ لم يهتد لبيان وجهها ؛ مثل قول بعضهم : يكف ينزل الله إلى السماء الدنيا وهو في العلو؟!
فنقول: آمن تهتد ! فإذا آمنت بأنه ينزل حقيقة علمت أن هذا ليس بمستحيل: لأنه في جانب الله عز وجل، ولا يماثله شيء.
ونجد من يقول في قوله تعالى: { جدارا يريد أن ينقض فاقامه } {الكهف:77}: كيف يريد الجدار؟
فنقول: آمن بأن الجدار يريد أن يتبين لك أن هذا ليس بغريب.
وهذه قاعدة ينبغي أن تكون أساسية عندك، وهي: آمن تهتد!(114/18)
والذين لا يومنون بآيات الله لا يهديهم الله، ويبقى القرآن عليهم عمى-والعياذ بالله – ولا يستطيعون الاهتداء به، نسأل الله لنا ولكم الهداية.
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:
نستفيد أننا إذا علمنا أن هذا القرآن تكلم به رب العالمين ؛ أوجب لنا ذلك تعظيم هذا القرآن ، واحترامه ، وامتثال ما جاء فيه من الأوامر ، وترك ما فيه من المنهيات والمحذورات ، وتصديق ما جاء فيه من الأخبار عن الله تعالى وعن مخلوقاته السابقة واللاحقة.
إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
ذكر المؤلف رحمه الله آيات إثبات رؤية الله تعالى.
(1) الآية الأولى : قوله: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } {القيامة:22-23}.
قوله: { وجوه يومئذ } ؛ يعني بذلك اليوم الآخر.
قوله: { ناضرة } ؛ أي: حسنة، من النضارة ؛ بالضاد ، وهي: الحسن، يدل على ذلك قوله تعالى: { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً } {الإنسان:11} ؛ أي: حسناً في وجوههم ، وسروراً في قلوبهم. قوله: { إلى ربها ناظرة } : { ناظرة } ؛ بالظاء ، من النظر ، وهنا عدي النظر بـ (إلى) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر
من الوجوه يكون بالعين ؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب ؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله: { إلى ربها } .
فنفيد الآية الكريمة: أن هذه الوجوه الناضرة الحسنة تنظر إلى ربها عز وجل، فتزداد حسناً إلى حسنها.
وانظر كيف جعل هذه الوجوه مستعدة متهيئة للنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لكونها نضرة حسنة متهيئة للنظر إلى وجه الله.
ففي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى بالأبصار وهذا هو قول أهل السنة والجماعة.(114/19)
واستدلوا لذلك بالآيات التي ساقها المؤلف ، واستدلوا أيضاً بالأحاديث المتواترة عن النبي ، صلى الله عليه وسلم والتي نقلها عنه صحابة كثيرون ونقلها عن هؤلاء الصحابة تابعون كثيرون ، ونقلها عن التابعين من تابع التابعين كثيرون. وهكذا.
والنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة ؛ لأنها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم المتواترة.
وأنشدوا في هذا المعنى:
مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض
فالمراد بقوله: "ورؤية" رؤية المؤمنين لربهم.
وأهل السنة والجماعة يقولون : إن النظر هنا بالبصر حقيقة.
ولا يلزم منه الإدراك ؛ لأن الله تعالى يقول: { لا تدركه الأبصار } {الأنعام:103} ؛ كما أن العلم بالقلب أيضاً لا يلزم منه الإدراك ؛ قال الله تعالى: { ولا يحيطون به علماً } {طه:110}.
ونحن نعلم ربنا بقلوبنا ، لكن لا ندرك كيفيته وحقيقته ، وفي يوم القيامة نرى ربنا بأبصارنا، ولكن لا تدركه أبصارنا.
(1)الآية الثانية: قوله : { على الأرائك ينظرون } {المطففين:23}.
{ الأرائك } : جمع أريكة، وهي السرير الجميل المغطى بما يشبه الناموسية.
{ ينظرون } : لم يذكر المنظور إليه، فيكون عاماً لكل ما يتنعمون بالنظر إليه.
وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى ؛ لقوله تعالى: { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } {المطففين:24}؛ فسياق الآية يشبه قوله: { وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة } ؛ فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون بالنظر إليه.(114/20)
ومنه النظر إلى قرناء السوء يعذبون في الجحيم ؛ كما قال تعالى: { قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول إنك أنك لمن المصدقين إذا متنا وكنا تراباً وعظماً إنا لمدينون قال } أي : لأصحابه: { هل أنتم مطلعون } : { هل } . للتشويق يطلعون على ماذا ؟! على هذا القري، { فاطلع فرءاه في سواء الجحيم } !! أعوذ بالله! رآه في سوائها أي: في أصلها، وقعرها ، سبحان الله هذا في أعلى عليين ، وهذا في أسفل سافلين ، وينظر إليه مع بعد المسافة العظيمة!
لكن نظر أهل الجنة ليس كنظر أهل الدنيا، هناك ينظر الإنسان في ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه ، من كمال النعيم؛ لأن
الإنسان لو كان نظره كنظره في الدنيا ؛ ما استمتع بنعيم الجنة ؛ لأنه ينظر إلى مدى قريب ، فيخفى عليه شيء كثير منه.
اطلع من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فرآه في سواء الجحيم، قال يخاطبه: { تالله إن كدت لتردين } ؛ وهذا يدل على أنه كان دائماً يحاول أن يضله ، ولهذا قال : { إن كدت } ، وهذا يدل على أنه كان دائماً يحاول أن يضله ، ولهذا قال : { إن كدت } ؛ يعني: إنك قاربت ، و { وإن } هذه المخففة لا الثقيلة ، { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أفما نحن بميتين } إلى آخر الآيات {الصافات: 54-58}.
أقول : إن الناس سابقاً يمارون في مثل هذا ؛ كيف يكون في أعلى مكان ويخاطب من ينظر إليه ويكلمه في أسفل مكان ؟!
ولكن ظهرت الآن أشياء من صنع البشر ؛ كالأقمار الصناعية، والهواتف التليفزيونية . . . . وغير ذلك ؛ يرى الإنسان م خلالها من يكلمه وينظر إليه وهو بعيد.
مع أنه لا يمكن أن نقيس ما في الآخرة على ما في الدنيا.
إذاً ؛ { ينظرون } : عامة: ينظرون إلى الله، وينظرون مالهم من النعيم، وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب.
إذا قال قائل: هذا فيه إشكال!! كيف ينظرون إلى أهل النار ينكتون عليهم ويوبخونهم ؟!(114/21)
فنقول : والله ؛ ما أكثر ما أذاق أهل النار أهل الجنة في الدنيا من العذاب والبلاء والمضايقة ، قال الله تعالى: { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } : يضحكون سواء في مجالسهم ، أو معهم ، { وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } ؛ أي: انقلبوا متنعمين بأقوالهم، { وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون . . . } ! قال الله تعالى: { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . . . } {المطففين: 29-35} ؛ ينظرون إليهم وهم-والعياذ بالله –في سواء الجحيم. إذاً ؛ يكون هذا من تمام عدل الله عز وجل ؛ بأن جعل هؤلاء الذين كانوا يضايقون في دار الدنيا، جعلهم الآن يفرحون بنعمة الله عليهم، ويوبخون هؤلاء الذين في سواء الجحيم.
(1) الآية الثالثة: قوله: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } {يونس: 26} .
قوله: { للذين } : خبر مقدم.
و { الحسنى } : مبتدأ مؤخر ، وهي الجنة.
{ زيادة } : هي النظر إلى وجه الله. هكذا فسره النبي ، صلى الله عليه وسلم : كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم"(1) وغيره. ففي هذه الآية دليلة على ثبوت رؤية الله من تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو أعلم الناس بمعاني القرآن بلا شك ، وقد فسرها بالنظر إلى وجه الله، وهي زيادة على نعيم الجنة.
إذاً ؛ فهي نعيم ليس من جنس النعيم في الجنة؛ لأن جنس النعيم في الجنة نعيم بدن، أنهار ، وثمار ، وفواكه، وأزواج مطهرة . . . . . وسرور القلب فيها تبع، لكن النظر إلى وجه الله نعيم قلب، لا يرى أهل الجنة نعيماً أفضل منه، نسأل الله أن يجعلنا ممن يراه.
(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)(1) ....................
___________________________________________________
وهذا نعيم ماله من نظير أبداً ، لا فواكه ، ولا أنهار ، ولا غيرها أبداً ، ولهذا قال : ( وَزِيَادَةٌ ) ، أي : زيادة على الحسنى .(114/22)
(1) الآية الرابعة : قوله : (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (قّ:35) .
* قوله :( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) ، أي : في الجنة كل ما يشاءون .
وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ! أفي الجنة خيل ؟ فأني أحب الخيل ، فقال : " أن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً ، من ياقوته حمراء ، تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت " .
وقال الأعرابي يا رسول الله ! أفي الجنة إبل ؟ فأني أحب الإبل ، قال : " يا أعرابي ! أن يدخلك الله الجنة ، أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك "(1)
فإذا اشتهى أي شيء ، فإنه يكون ويتحقق ، حتى أن بعض العلماء يقول : لو اشتهى الولد لكان له ولد ، فكل شيء يشتهونه فهو لهم .
قال تعالى : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(الزخرف: من الآية71)
* وقوله : (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ، أي : مزيد على ما يشاؤون .
يعني : أن الإنسان إذا شاء شيئاً ، يعطى إياه ، ويعطى زيادة ، كما جاء في الحديث الصحيح في آخر أهل الجنة خولاً ، يعطيه الله عز وجل نعيماً ،
............................................................................................
ونعيماً .... ويقول : رضيت ، يقول له : " لك مثله وعشرة أمثاله " (1) فهو أكثر مما يشاء .
وفسر المزيد كثير من العلماء بما فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة وهي : النظر إلى وجه الله الكريم .
فتكون الآيات التي ساقها المؤلف لإثبات رؤية الله تعالى أربعاً .
وهناك آية خامسة استدل بها الشافعي رحمه الله ، وهي قوله تعالى في الفجار : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) .(114/23)
ووجه الدلالة أنه ما حجب هؤلاء في الغضب ، إلا رآه أولئك في الرضى ، فإذا كان أهل الغضب محجوببين عن الله ، فأهل الرضى يرون الله عز وجل .
وهذا استدلال قوي جداً ، لأنه لو كان الكل محجوبين ، لم يكن مزية لذكر هؤلاء .
وعلى هذا فنقول : الآيات خمس ، ويمكن أن نلحق بها قول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ )(الأنعام: من الآية103) على ما سنقرره في الرد على النفاة إن شاء الله .
* فهذا قول أهل السنة في رؤية الله تعالى وأدلتهم ، وهي ظاهرة جلية لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر ،
* وخالفهم في ذلك طوائف من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم ، واستدلوا بأدلة سمعية مشابهة ، وأدلة عقلية متداعية :
..........................................................................................
أما الأدلة السمعية :
فالأول : قوله تعالى : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً)(لأعراف: من الآية143)
ووجة الدلالة أن ( لن ) للنفي المؤبد ، والنفي خبر ، وخبر الله تعالى صدق ، ولا يدخله النسخ .
والرد عليهم من وجوه :
- الأول : منع كون ( لن ) للنفي المؤبد ، لأنه مجرد دعوى :
قال ابن مالك في " الكافية " :
ومَنَ رَأى النَّفْيَ بِلََِِنْْ مُؤبَّداً فَقَولَهُ ارادُدْ وَسِوَاهُ فَاعٌضداَ(114/24)
- الثاني : أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يطلب من الله الرؤية في الآخرة ، وإنما طلب رؤية حاضرة ، لقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) ، أي :الآن ، فقال الله تعالى له : (لَنْ تَرَانِي ) ، يعني : لن تستطيع أن تراني الآن ، ثم ضرب الله تعالى له مثلاً بالجبل حيث تجلى الله تعالى له فجعله دكاً ، فقال : (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) ، فلما رأى موسى ما حصل للجبل ، علم أنه هو لا طاقة له برؤية الله ، وخر صعقاً لهول ما رأى .
ونحن نقول : إن رؤية الله في الدنيا مستحيلة ، لأن الحال البشرية لا تستطيع تحمل رؤية الله عز وجل ، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل : ( حجابة النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
.............................................................................................
أما رؤية الله في الآخرة فممكنة ، لأن الناس في ذلك اليوم يكونون في عالم آخر تخلف فيه أحوالهم عن حالهم في الدنيا ، كما يعلم ذلك من نصوص الكتاب والسنة فيما يجري للناس في عرصات القيامة وفي مقرهم في دار النعيم أو الجحيم .
- الوجه الثالث : أن يقال : استحالة رؤية الله في الآخرة عند المنكرين لها مبنية على أن إثباتها يتضمن نقصاً في حق الله تعالى ! كما يعللون نفيهم بذلك ، وحينئذ يكون سؤال موسى لربه الرؤية دائراً بين الجهل بما يجب لله ويستحيل في حقه ، أو الاعتداء في دعائه حين طلب من الله ما لا يليق به أن كان عالماً بأن ذلك مستحيل في حق الله ، وحينئذ يكون هؤلاء النافون أعلم من موسى فيما يجب لله تعالى ويستحيل في حقه !! وهذا غاية الضلال !
وبهذا الوجه يتبين أن في الآية دليلاً عليهم لا دليلاً لهم .(114/25)
وهكذا ، كل ليل من الكتاب والسنة الصحيحة يستدل به على باطل أو نفي حق فسيكون دليلاً على من أورده ، لا دليلاً لهم .
الدليل الثاني لنفاة رؤية الله تعالى : قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103) .
والرد عليهم : أن الآية فيها نفي الإدراك ، والرؤية لا تستلزم الإدراك ، ألا ترى أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط بها إدراكاً ؟!
فإذا أثبتنا أن الله تعالى يرى ، لم يلزم أن يكون يدرك بهذه الرؤية ، لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية .
ولهذا نقول : أن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية ، لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم ، ولو كان الأعم منتفياً ، لوجب نفيه ، وقيل : لا تراه الأبصار ، لأن نفيه يقتضي نفي الأخص ، لا عكس ، ولأنه ، لو كان الأعم منتفياً ، لكان نفي الأخص إيهاماً وتلبيساً ينزه عنه كلام
............................................................................................
الله عز وجل .
وعلى هذا ، يكون في الآية دليل عليهم لا دليل لهم .
* وأما أدلة نفاة الرؤية العقلية ، فقالوا : لو كان الله يرى ، لزم أن يكون جسماً ، والجسم ممتنع على الله تعالى ، لأنه يستلزم التشبه والتمثيل .
والرد عليهم : أنه إن كان يلزم من رؤية الله تعالى أن يكون جسماً ، فليكن ذلك ، لكننا نعلم علم اليقين أنه لا يماثل أجسام المخلوقين ، لأن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11)
على أن القول بالجسم نفياً أو أثباتاً مما أحدثه المتكلمون ، وليس في الكتاب أو السنة إثباته ولا نفيه.
وقد أجاب النفاة عن أدلة أهل الإثبات بأجوبة باردة ، فحرفوها تحريفاً لا يخفى على أحد ، وليس هذا موضوع ذكرها ، وهذه مذكورة في الكتب المطولة .(114/26)
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات :
أما في مسألة الرؤية ، فما أعظم أثرها على الاتجاه المسلكي ، لأن الإنسان إذا وجد أن غاية ما يصل إليه من الثواب هو النظر إلى وجه الله كانت الدنيا كلها رخيصة عنه ، وكل شيء يرخص عنده في جانب الوصول إلى رؤية الله عز وجل ، لأنها غاية كل طالب ، ومنتهى المطالب .
فإذا علمت أنك سوف ترى ربك عياناً بالبصر ، فو الله لا تساوي الدنيا عندك شيئاً .
فكل الدنيا ليست بشيء ، لأن النظر إلى وجه الله هو الثمرة التي يتسابق فيها المتسابقون ، ويسعى إليها الساعون ، وهو غاية المرام من كل شيء .
فإذا علمت هذا ، فهل تسعى إلى الوصول إلى ذلك ؟!
وهذا الباب (1) في كتاب الله كثير (2) ومن تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق(3) ....................................................
والجواب : نعم ، أسعى في الوصول إلى ذلك بدون تردد .
وإنكار الرؤية في الحقيقة حرمان عظيم ، لكن الإيمان بها يسوق الإنسان سوقاً عظيماً إلى الوصول إلى هذه الغاية ، فهو يسير ولله الحمد ، فالدين كله يسر ، حتى إذا وجد الحرج تيسر الدين ، فأصله ميسر ، وإذا وجد الحرج تيسر ثانية ، وإذا لم يمكن القيام به أبداً سقط ، فلا واجب مع العجز ، ولا حرام مع الضرورة .
(1) * وقوله : " وهذا الباب" الإشارة هنا إلى باب الأسماء والصفات .
(2) * وقوله : " في كتاب الله كثير" ولذلك ، ما من آية من كتاب الله إلا وتجد فيها غالباً اسماً من أسماء الله ، أو فعلاً من أفعاله ، أو حكماً من أحكامه ، بل لو شئت لقلت : كل آية في كتاب الله فهي صفة من صفات الله عز وجل .
(3) تدبر الشيء معناه: التفكر فيه ، كأن الإنسان يستدبره مرة ويستقبله أخرى ، فهو يكرر اللفظ ليفهم المعنى .(114/27)
فالذي يتدبر القرآن بهذا الفعل ، وأما النية ، فهي أن يكون " طالباً للهدى منه " فليس قصده بتدبر القرآن أن ينتصر لقوله ، أو أن يتخذ منه مجادلة بالباطل ، ولكن قصده طلب الحق ، فإنه سوف تكون النتيجة قول المؤلف : " تبين له طريق الحق " .
وما أعظمهما من نتيجة !!
لكنها مسبوقة بأمرين : التدبر ، وحسن النية ، بأن يكون الإنسان طالباً للهدى من القرآن ، فحينئذ يتبين له طريق الحق .
والدليل على ذلك عدة آيات منها :
............................................................................................
قوله تبارك وتعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل: من الآية44).
وقال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) .
وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون:68) .
وقال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17) .
.... والآيات في هذا كثيرة ، تدل على أن من تدبر القرآن – لكن بهذه النية ، وهي طلب الهدى منه – لابد أن يصل إلى النتيجة ، وهي تبين طريق الحق .
أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض ، وليجادل بالباطل ، ولينصر قوله ، كما يوجد عند أهل البدع ، وأهل الزيغ فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله .(114/28)
لأن الله يقول : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(آل عمران: من الآية7) .
على تقدير ( إما ) ، أي : وأما الراسخون في العلم ، فـ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا )(آل عمران: من الآية7) ، وإذا قالوا هذا القول ، فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه ، ثم قال : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7)
وقال تعالى : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)(فصلت: من الآية44) .
فصل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)
(1) السنة في اللغة : الطريقة ، ومنه قال - صلى الله عليه وسلم - : (لتركبن سنن من كان قبلكم " يعني : طريقتهم .
* وفي الاصطلاح هي :" قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره " .
فشمل الواجب والمستحب .
* والسنة هي المصدر الثاني في التشريع .
ومعنى قولنا : " المصدر الثاني " : نعني : في العدد ، وليس في الترتيب ، فإن منزلتها إذا صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كمنزلة القرآن .(114/29)
لكن الناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد ، وهو صحة الدلالة على الحكم ، والناظر في السنة يحتاج إلى شيئين : الأول : صحة نسبتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والثاني : صحة دلالتها على الحكم ، فكان المستدل بالسنة يعاني من الجهد أكثر مما يعانيه المستدل بالقرآن ، لأن القرآن قد كفينا سنده ، فسنده متواتر ، ليس فيه ما يوجب الشك ، بخلاف ما ينسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا صحت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت بمنزلة القرآن تماماً في تصديق الخبر والعمل بالحكم ، قال تعالى : ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(النساء: من الآية113) .
فالسنة فسر القرآن (1) وتبينه (2) .......................................................
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ، يقول : لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله ، اتبعناه، إلا وأني أوتيت الكتاب ومثله معه "
ولهذا كان القول الصحيح أن القرآن ينسخ بالسنة إذا صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن ذلك جائز عقلاً وشرعاً ، ولكن ليس له مثال مستقيم .
********
(1) تفسير القرآن يعني : توضح المعنى المراد منه : كما في تفسير قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: من الآية26) ، حيث فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل .
وكما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )(لأنفال: من الآية60) فقال : " ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " .(114/30)
(2) يعني : تبين المجمل منه ، حيث أن في القرآن آيات مجملة ، لكن السنة بينتها ووضحتها ، مثل : قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(البقرة: من الآية 43 ) ، أمر الله بإقامتها ، وبينت السنة كيفيتها.
وقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ )(الإسراء: من الآية78) .
...........................................................................................
(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) ، يعني : من دلوك الشمس إلي غسق الليل ، أي : غاية ظلمته ، وهو نصفه ، لأن أشد ما يكون في ظلمة الليل نصفه .
فظاهر الآية أن هذا وقت واحد ، ولكن السنة فصلت هذا المجمل : فللظهر : من دلوك الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله .
وللعصر : من ذلك إلى اصفرار الشمس في الاختيار ، ثم إلى غروبها في الضرورة .
وللمغرب : من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر .
وللعشاء : من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل ، وليس هناك وقت ضرورة للعشاء ، ولهذا لو طهرت الحائض في منتصف الليل الأخير ، لم يجب عليها صلاة العشاء ولا صلاة المغرب ، لأن صلاة العشاء تنتهي بانتصاف الليل ، ولم يأت في السنة دليل على أن صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.
وللفجر : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
ولهذا قال في نفس الآية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ )(الاسراء: من الآية78) ، ثم فصل وقت الفجر ، فقال : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ )(الاسراء: من الآية78) ، لأن وقت الفجر بينه وبين الأوقات الأخرى فاصل من قبله ومن بعده ، فنصف الليل الثاني قبله ، ونصف النهار الأول بعده ، هذا من بيان السنة حيث بنيت الأوقات .
كذلك : (وَآتُوا الزَّكَاةَ )(البقرة: من الآية43) ، بينت السنة الأنصبة والأموال الزكوية .(114/31)
وتدل عليه (1) وتعبر عنه (2) ...........................................................
(1) : هذه كلمة تعم التفسير والتبيين والتعبير ، فالسنة تفسر القرآن وتبين القرآن .
(2) : يعني : تأتي بمعان جديدة أو بأحكام جديدة ليست في القرآن ، وهذا كثير ، فإن كثيراً من الأحكام الشرعية استقلت بها السنة ، ولم يأت بها القرآن .
لكن دل على أن لها حكم ما جاء في القرآن مثل قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )(النساء: من الآية80) ، وقوله : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) . وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب: من الآية36) .
أما حكم المعين ، فالسنة استقلت بأحكام كثيرة عن القرآن ، ومن ذلك ما سيأتينا في أول حديث ذكره المؤلف في هذا الفضل : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ......" ، فإن هذا ليس في القرآن .
إذاً ، السنة مقامها مع القرآن على هذه الأنواع الأربعة : تفسير مشكل ، وتبين مجمل ، ودلالة عليه ، وتعبير عنه .
******************
" وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول ، وجب الأيمان بها كذلك " (1) .............................................
(1) هذه قاعدة مهمة ساقها المؤلف رحمه الله :
* قوله : " وما " : هذه شرطية ، وفعل الشرط : " وصف " ، " وجب الإيمان بها " : هذا جواب الشرط .
فما وصف الرسول به ربه ، وكذلك ما سمى به ربه ، لأن هناك أسماء مما سمى به الرسول ربه لم كن موجودة في القرآن ، مثل ( الشافي ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك "(114/32)
* " الرب " : لم يأت في القرآن بدون إضافة لكن في السنة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " فأما الركوع فعظموا فيه الرب " .
وقال في السواك : " مطهرة للفم مرضاة للرب ".
وظاهر كلام المؤلف أنه يشترط لقبولها شرطان :
الأول : أن تكون الأحاديث صحيحة ,
الثاني : أن يكون أهل المعرفة يعني بالأحاديث تلقوها بالقبول ، ولكن ليس هذا هو المراد ، بل مراد الشيخ ـ رحمه الله ـ أن الأحاديث الصحاح تلقاها أهل المعرفة بالقبول فتكون الصفة هذه صفة كاشفة لاصقة مقيدة .
* فقوله : " التي تلقاها " : هذا بيان لحال الأحاديث الصحيحة أي أن
.............................................................................................
أهل المعرفة تلقوها بالقبول لأنه من المستحيل أن تكون الأحاديث صحيحة ، ثم يرفضها أهل المعرفة ، بل سيقبلونها .
صحيح أن هناك أحاديث ظاهرها الصحة ، ولكن قد تكون معلولة بعلة ، كانقلاب على الراوي ونحوه ، وهذه لا تعد من الأحاديث الصحيحة .
قال : ( وجب الإيمان بها ) : لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)(النساء: من الآية136) وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(النساء: من الآية59) وقوله :(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:65) وقوله تعالى : ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) (القصص:66)، والنصوص في هذا كثيرة معلومة .
وأعلم أن موقف أهل الأهواء والبدع تجاه الأحاديث المخالفة لأهوائهم يدور على أمرين : إما التكذيب ، وإما التحريف .
فإن كان يمكنهم تكذيبه ، كذبوه ، كقولهم في القاعدة الباطلة : أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة!!(114/33)
وقد رد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة وأبطلها بأدلة كثيرة في آخر " مختصر الصواعق " .
وأن كان لا يمكنهم تكذيبة ، حرفوه ، كما حرفوا نصوص القرآن .
أما أهل السنة ، فقبلوا كل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور العلمية والأمور العملية ، لقيام الدليل على وجوب قبول ذلك .
* وقوله : " كذلك " يعني : كما يجب الإيمان بما في القرآن ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل .
مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة ، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول :من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له " (1) متفق عليه .............................................................................................
فصل
في أحاديث الصفات
(1) هذا الحديث في أثبات نزول الله إلى السماء الدنيا :
وهذا الحديث قال بعض أهل العلم : إنه من الأحاديث المتواترة ، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة .
* وقوله : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " : نزوله تعالى حقيقي ، لأنه كما مر علينا من قبل : أن كل شيء كان الضمير يعود فيه إلى الله ، فهو ينسب إليه حقيقة .
فعلينا أن نؤمن به ونصدق ونقول : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ، وهي أقرب السموات إلى الأرض ، والسموات سبع ، وإنما ينزل عز وجل في هذا الوقت من الليل للقرب من عباده جل وعلا ، كما يقرب منهم عشية عرفة ، حيث يباهي بالواقفين الملائكة .
* وقوله : ( كل ليلة ) يشمل جميع ليالي العام .
* " حين يبقى ثلث الليل الآخر " والليل يبتدئ من غروب الشمس اتفاقاً لكن حصل الخلاف في انتهائه هل يكون بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس والظاهر أن الليل الشرعي ينتهي بطلوع الفجر والليل الفلكي ينتهي بطلوع الشمس .(114/34)
.............................................................................................
* وقوله : " فيقول :من يدعوني " : " من " استفهام للتشويق ، كقولة تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الصف: من الآية10) .
* و " يدعوني " أي : يقول : يا رب !
وقوله : " فأستجيب له " بالنصب ، لأنها جواب الطلب .
* "من يسألني " : يقول : أسالك الجنة ، أو نحوه ذلك .
* " من يستغفرني " : فيقول : اللهم أغفر لي ، أو ، : أستغفرك اللهم !
* " فأغفر له " : والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه .
بهذا يتبين لكل إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد بالنزول هنا نزول الله نفسه ، ولا نحتاج أن نقول : بذاته ، ما دام الفعل أضيف إليه ، فهو له ، لكن بعض العلماء قالوا : ينزل بذاته ، لأنهم لجئوا إلى ذلك ، واضطروا إليه ، لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا : " الذي ينزل أمر الله ، وقال آخرون : بل الذي ينزل رحمة الله !، وقال آخرون : بل الذي ينزل ملك من ملائكة الله ! .
هذا باطل ، فإن نزول أمر الله دائماً وأبداً ، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل ، قال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)(السجدة: من الآية5)وقال تعالى :( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)(هود: من الآية123) .
وأما قولهم : تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ! فسبحان الله ! الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت ! قال تعالى : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(النحل: من الآية53) كل النعم من الله ، وهي من
............................................................................................
آثار رحمته ، وهي تترى كل وقت !!
ثم نقول : أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا !!(114/35)
ثم نقول لمن قال : أنه ملك من ملائكته : هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول : من يدعوني فأستجيب له ......إلخ ؟!
فتبين بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث .
ووالله ليسوا أعلم من رسول الله ، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله ، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ,
يقولون : كيف تقولون : إن الله ينزل ؟ إذا نزل ؟ أين العلو ؟ وإذا نزل ، أين الاستواء على العرش ؟! فالنزول حركة وانتقال !! إذا نزل ، فالنزول حادث ، والحوادث لا تقوم ‘لا بحادث .
فنقول : هذا جدال بالباطل ، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول .
هل أنتم بأعلم بما يستحقه الله عز وجل من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟!
فأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا هذه الاحتمالات أبداً ، قالوا : سمعنا وآمنا وقبلنا وصدقنا .
وأنتم أيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون : كيف ؟! وكيف ؟!
نحن نقول : ينزل ، ولا نتكلم عن استوائه على العرش ، هل يخلو منه العرش أو لا يخلو ؟!
أما العلو ، فنقول : ينزل ، لكنه عال عز وجل على خلقه، لأنه ليس
.........................................................................................
معنى النزول أن السماء تقله ، وأن السموات الأخرى تظله ، إذا أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته .
فنقول : هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة ، وليس كمثله شيء .
أما الاستواء على العرش فهو فعل ، ليس من صفات الذات ، وليس لنا حق ، فيما أرى ، أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو ، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم .
وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال : قول بأنه يخلو ، وقول بأنه لا يخلو ، وقول بالتوقف .(114/36)
وشيخ الإسلام رحمه الله في " الرسالة العرشية " يقول : أنه لا يخلو منه العرش ، لأن أدلة استوائه على العرش محكمة ، والحديث هذا محكم ، والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق ، فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها ، ونص النزول على إحكامه ، ونقول : هو مستو على عرشه ، نازل إلى السماء الدنيا ، والله أعلم بكيفية ذلك ، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل .
القول الثاني : التوقف ، يقولون : لا نقول : يخلو ، ولا : لا يخلو .
والثالث : أنه يخلو منه العرش .
وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالاً ، قالوا : كيف ينزل في ثلث الليل ؟ وثلث الليل إذا أنتقل عن المملكة العربية السعودية ذهب إلى أوربا وما قاربها ، ؟! أفيكون نازلاً دائماً ؟!
.............................................................................................__________________________________________________
فنقول : آمن بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين ، وإذا آمنت ليس عليك شيء، وراء ذلك ، لا تقل : كيف ؟! بل قل : إذا كان ثلث الليل في السعودية فالله نازل ، وإذا كان في أمريكيا ثلث الليل ، يكون نزول الله أيضاً ، وإذا طلع الفجر انتهى وقت النزول بكل مكان بحسبه .
إذا موقفنا أن نقول : أنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بإن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل ، ويقول : " من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له " ؟!
من فوائد هذا الحديث :
أولاً : إثبات العلو لله من قوله : "ينزل " .
ثانياً : إثبات الأفعال الاختيارية التي هي الصفات الفعلية من قوله : " ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، " .
ثالثا : إثبات القول من قوله : " يقول " .(114/37)
رابعاً : إثبات الكرم لله عز وجل من قوله : " من يدعوني .....من يسألني .....من يستغفرني ......." .
وفيه من الناحية المسلكية :
أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الجزء من الليل ، فيسأل الله عز وجل ويدعوه ويستغفره ، ما دام الرب سبحانه يقول : " " من يدعوني ..... من يستغفرني ......." .و " من " للتشويق ، فينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة ،
وقولة - صلى الله عليه وسلم - : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته ........." الحديث(1) متفق عليه.......................................................................................
لأنه ليس لك من العمر إلا ما أمضيته في طاعة الله ، وستمر بك الأيام ، فإذا نزل بك الموت ، فكأنك ولدت تلك الساعة ، وكل ما مضى ليس بشيء .
**********
(1) هذا الحديث في اثبات الفرح " لله أشد فرحاً بتوبة ...."
* " لله " اللام هذه لام الابتتداء " لله " مبتدأ .
* " أشد " خبر المبتدأ .
* " فرحاً " تمييز .
* قال المؤلف : " الحديث " أي : أكمل الحديث .
والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فضلت عنه ، فذهب يطلبها ، فلم يجدها ، فأيس من الحياة ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت ، فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة ، ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح ، إلا من وقع فيه ، فأمسك بخطام الناقة ، وقال : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ، لم يملك كيف يتصرف في الكلام !!
فالله عز وجل أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته ، وليس الله عز وجل بمحتاج إلى توبتنا ، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا ، لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه .
...........................................................................................(114/38)
* في هذا الحديث : إثبات الفرح لله عز وجل ، فنقول في هذا الفرح : إنه فرح حقيقي ،وأشد فرح ، ولكنه ليس كفرح المخلوقين .
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عن حصول ما يسره ، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء ، لكن بالنسبة لله عز وجل لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا ، نقول : هو فرح يليق به عز وجل ، مثل بقية الصفات ، كما أننا نقول : لله ذات ، ولكن لا تماثل ذواتنا ، فله صفات لا تماثل صفاتنا ، لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات .
فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به ، محمد - صلى الله عليه وسلم - و انصح الخلق للخلق ،وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام .
ونحن على خطر إذا قلنا : المراد بالفرح الثواب ، لأن أهل التحريف يقولون : أن الله لا يفرح ، والمراد بفرحه : أثباته التائب ، أو : إرادة الثواب ، لأنهم هم يثبتون إن لله تعالى مخلوقاً بائناً منه هو الثواب ، ويثبتون الإرادة ، فيقولون في الفرح : أنه الثواب المخلوق ، أو : إرادة الثواب .
ونحن نقول : المراد بالفرح : الفرح حقيقة ، مثلما أن المراد بالله عز وجل : نفسه حقيقة ، ولكنا لا نمتثل صفاتنا بصفات الله أبداً .
* ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عز وجل : كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده ، حيث يجب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة ، هارب من الله ، ثم وقف ورجع إلى الله ، يفرح الله به هذا الفرح العظيم .
.............................................................................................
* ومن الناحية المسلكية : يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص كما فعلنا ذنباً ، تبنا إلى الله .(114/39)
قال الله تعالى في وصف المتقين : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)(آل عمران: من الآية135)، أي فاحشة ، مثل : الزنى ، واللواط ، ونكاح ذوات المحارم ...... قال تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) (النساء:22) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء:32)
وقال لوط لقومه : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ )(لأعراف: من الآية80) .
إذاً : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ) ،ذكروا الله تعالى في نفوسهم ، ذكروا عظمته ، وذكروا عقابه ، وذكروا ثوابه للتائبين ، ( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) فعلوا ما فعلوا ، لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم ، واستغفروا لذنوبهم ، فغفر لهم ، والدليل : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) (آل عمران:135) .
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له ، لاشك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة .
وللتوبة شروط خمسة :
ألأول : الإخلاص لله عز وجل ، بأن لا يحملك على التوبة مراءاة الناس ، أو نيل الجاه عندهم ، أو ما أشبه ذلك من مقاصد الدنيا .
الثاني : الندم على المعصية .
الثالث : الإقلاع عنها ، ومن الإقلاع إذا كانت التوبة في حق من حقوق الآدميين : أن ترد الحق إلى صاحبه .
.............................................................................................
الرابع : العزم على إلا تعود في المستقبل .
الخامس : أن تكون التوبة في وقت القبول ، وينقطع قبول التوبة بالنسبة لعموم الناس بطلوع الشمس من مغربها ، وبالنسبة لكل واحد بحضور أجله .(114/40)
قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(النساء: من الآية18) .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زمن التوبة ينقطع إذا طلعت الشمس من مغربها ، والناس يؤمنون حينئذ ، ولكن ، ( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً )(الأنعام: من الآية158)
هذه خمسة شروط ، إذا تمت صحت التوبة .
* ولكن ، هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذنوب ؟!
فيه خلاف ، ولكن الصحيح أنه ليس بشرط ، وإنها تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، لكن هذا التائب لا يصدق عليه وصف التائبين المطلق ، فيقال : تاب توبة مقيدة ، لا مطلقه .
فلو كان أحداً يشرب الخمر ويأكل الربا ، فتاب من شرب الخمر ، صحت توبته من الخمر ، وبقي أثمه في أكل الربا ، ولا ينال منزلة التائبين على الإطلاق ، لأنه مصر على بعض المعاصي .
* رجل تمت الشروط في حقه ، وعاد إلى الذنب مرة أخرى ، فل
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة " متفق عليه (1) .............................................................................................
تنتقض توبته الأولى ، لأنه عزم على إلا يعود ، ولكن سول نفسه ، فعاد ، إنما يجب عليه أن يتوب مرة ثانية ، وهكذا ، كلما أذنب ، يتوب ، وفضل الله واسع .
*****************
(1) هذا الحديث في أثبات الضحك ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - :" يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة " .
وفي بعض النسخ : " يدخلان " وهي صحيحة ، لأن " كلا" يجوز في خبرها – سواء كان فعلاً أو أسماً – مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى ، وقد اجتمعا في قول الشاعر يصف فرسين :(114/41)
كلاهما حين جد الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
* الحديث يخبر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يضحك إلى رجلين ، عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر ، كلاهما يدخلان الجنة ، وأحدهما لم يقتل الآخر إلا لشدة العداوة بينهما ، ثم يدخلان الجنة بعد ذلك ، فتزول تلك العداوة ، لأن أحدهما كان مسلماً ، والآخر كان كافراً ، فقتله الكافر ، فيكون هذا المسلم شهيداً ، فيدخل الجنة ، ثم منَّ الله على هذا الكافر ، فأسلم ، ثم قتل شهيداً ، أو مات بدون قتل ، فإنه يدخل الجنة ، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة ، فيضحك الله إليهما .
* ففي هذا إثبات الضحك لله عز وجل ، وهو ضحك حقيقي ، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين ، ضحك يليق بجلاله وعظمته ، ولا يمكن أن
.............................................................................................
نمثله لأننا لا يجوز أن نقول : أن لله فماً أو أسناناً أو ما أشبه ذلك ، لكن نثبت الضحك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى .
* فإذا قال قائل : يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلاً للمخلوق .
فالواجب : لا يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوق ، لأن الذي قال : " يضحك " هو الذي أنزل عليه قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) .
ومن جه أخرى ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي ، لأنه من أمور الغيب ، ليس من الأمور والاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يقره الله على ذلك أو لا يقره ، ولكنه من الأمور الغيبية التي يتلقاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي .
* لو قال قائل : المراد بالضحك الرضى ،لأن الإنسان إذا رضي عن شيء ، سر به وضحك ، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب ، كما قال ذلك أهل التعطيل .(114/42)
فالجواب أن نقول : هذا تحريف للكلم عن مواضعه ، فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى الثواب؟!
فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين :
الوجه الأول : صرف متم النص عن ظاهره بلا علم .
الوجه الثاني : أثبتم له معنى خلاف الظاهر بلا علم .
ثم نقول لهم : الإرادة ، إذا قلتم : إنها ثابتة لله عز وجل ، فإنه تنتقض
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " عجب ربنا من قنوط عباه وقرب غيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أن فرجكم قريب " (1) حديث حسن .................................................
قاعدتكم ، لأن للإنسان إرادة ، كما قال تعالى : )َ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )(آل عمران: من الآية152) فللإنسان إرادة ، بل للجدار إرادة ، كما قال تعالى : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)(الكهف: من الآية77) .فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عز وجل كما نفيتم ما نفيتم من الصفات ، وإما أن تثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه ، وإن كان للمخلوق نظيرة في الاسم لا في الحقيقة .
* والفائدة المسلكية من هذا الحديث :
هو أننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك ، فإننا نرجو منه كل خير .
ولهذا قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ! أو يضحك ربنا ؟ قال : "نعم" . قال : لن نعدم من رب يضحك خيراً " .
إذا علمنا ذلك ، انفتح لنا الأمل في كل خير ، لأن هناك فرقاً بين إنسان عبوس لا يكاد يُرى ضاحكاً ، وبين إنسان يضحك .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر كثير التبسم - صلى الله عليه وسلم - .
**************
(1) هذا الحديث في إثبات العجب وصفات أخرى .
* العجب : هو استغراب الشيء ، ويكون ذلك لسببين :(114/43)
السبب الأول : خفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجب منه ، بحيث يأتيه بغتة بدون توقع ، وهذا مستحيل على الله تعالى ، لأن الله بكل
............................................................................................
شيء عليم ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
والثاني : أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعما ينبغي أن يكون عليه ، بدون قصور من المتعجب ، بحيث يعمل عملاً مستغرباً لا ينبغي أن يقع من مثله .
وهذا ثابت لله عز وجل ، لأنه ليس عن نقص من المتعجب ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجب منه .
* قوله : " عجب ربنا من قنوط عباه " القنوط :أشد اليأس ، يعجب الرب عز وجل من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد.
" وقرب غيره " : الواو : بمعنى ( مع ) ، يعني : مع قرب غيره .
و" الغير " : اسم جمع غيره ، كطير : اسم جمع طيرة ، وهي أسم بمعنى التغيير ، وعلى هذا فيكون المعنى : وقرب تغييره .
فيعجب الرب عز وجل ، كيف نقنط وهو سبحانه وتعالى قريب التغيير ، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة ، وهي : كن ، فيكون .
* وقوله : " ينظر إليكم أزلين " أي : ينظر الله إلينا بعينه .
* "أزلين قنطين " : الأزل : الواقع في الشدة ، و " قنطين " جمع قانط ، والقانط : اليائس من الفرج وزوال الشدة .
فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الإنسان وحال قلبه ، حال انه واقع في شدة ، وقلبه قانط يائس مستبعد للفرج.
* " فيظل يضحك " : يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة ، كيف تقنط من رحمة أرحم الراحمين الذي يقول للشيء : كن ، فيكون ؟!
...........................................................................................
* " يعلم أن فرجكم قريب " أي : زوال شدتكم قريب .
* في هذا الحديث عدة صفات :
أولاً : العجب ، لقوله : " عجب ربنا من قنوط عباه " .(114/44)
وقد دل على هذه الصفة القرآن الكريم ، قال لله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (الصافات:12)على قراءة ضم التاء .
ثانياً : وفيه أيضاً بيان قرة الله عز وجل ، لقوله : "" وقرب غيره " ، وأنه عز وجل تام القدرة ، إذا أراد غير الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب .
ثالثاً : وفيه أيضاً من أثبات النظر ، لقوله : " " ينظر إليكم " .
رابعاً : وفيه أثبات الضحك ، لقوله : " " فيظل يضحك " .
خامسا ً : وكذالك العلم : "" يعلم أن فرجكم قريب " .
سادساً : والرحمة ، لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعبادة .
وكل هذه الصفات التي دل عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عز وجل حقاً على حقيقتها ، ولا نتأول فيها .
* والفائدة المسلكية في هذا :
إن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى ، حذر من هذا الأمر ، وهو القنوط من رحمة الله ، ولهذا كان القنوط من رحمة الله من الكبائر .
قال تعالى : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول : " هل من مزيد " حتى يضع رب العزة فيها رجله ( وفي رواية : عليها قدمه ) فينزوي بعضها إلى بعض و تقول : قط قط" (1) متفق عليه .............................................................................................
وقال تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: من الآية87) .(114/45)
فالقنوط من رحمة الله ، واستبعاد الرحمة : من كبائر الذنوب ، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه ، أن دعاه أحسن الظن به بأنه سيجيبه ، وإن تعبد له بمقتضى شرعه ، فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعلم أن النصر مع الصبر،وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا " .
بل قد قال الله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح5:6) . ولن يغلب عسر يسرين ، كما يروي عن ابن عباس رضي الله عنه .
****************
(1) هذا الحديث في أثبات الرجل أو القدم :
* وقوله : " لا تزال جهنم يلقى فيها " : هذا يوم القيامة ، يعني : يلقى فيها الناس والحجارة ، لأن الله تعالى يقول : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(البقرة: من الآية24) ، وقد يقال : يلقى فيها الناس فقط ، وأن الحجارة لم تزل موجودة فيها ، والعلم عند الله .
.............................................................................................
* "يلقى فيها" في هذا دليل على أن أهلها – والعياذ بالله – يلقون فيها إلقاء لا يدخلون مكرمين ، بل يدعون إلى نار جهنم دعاً : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)(الملك: من الآية8) .
قوله : " وهي تقول : " هل من مزيد " " : ( هل ) : للطلب ، بمعنى : زيدوا ، وأبعد النجعة من قال : أن الاستفهام هنا للنفي ، والمعنى على زعمه ، لا مزيد على ما في ، والدليل على بطلان هذا التأويل :
* قوله : " حتى يضع رب العزة فيها رجله ( وفي رواية : عليها قدمه " : لأن هذا يدل على أنها تطلب زيادة ، إلا لما وضع الله عليها رجله حتى ينزوي بعضها إلى بعض ، فكأنها تطلب بشوق إلى من يلقي فيها زيادة على ما فيها .(114/46)
* قوله : " حتى يضع رب العزة " : عبر برب العزة ، لأن المقام مقام عزة وغلبة وقهر .
وهنا ( رب ) بمعنى : صاحب ، وليست بمعنى خالق ، لأن العزة صفة من صفات الله وصفات الله تعالى غير مخلوق .
* وقوله : " فيها رجله ( وفي رواية : عليها قدمه " : ( في ) و ( على ) : معناهما واحد هنا ، والظاهر أن ( في ) بمعنى ( على ) ، كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )(طه: من الآية71) . أي : عليها .
أما الرجل والقدم ، فمعناهما واحد ، وسميت رجل الإٌنسان قدماً ، لأنها تتقدم في المشي ، فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدمها .
* وقوله : " فينزوي بعضها إلى بعض " بمعنى : ينضم بعضها إلى بعض من عظمة قدم الباري عز وجل .
...........................................................................................
* وقوله : ( وتقول قط قط ) ، بمعنى : حسبي حسبي ، يعني : لا أريد أحداً .
* في هذا الحديث من الصفات :
أولاً : إثبات القول من الجماد ، لقوله : " وهي تقول " وكذلك : " فنقول : قط قط " ، وهو دليل على قدرة الله الذي أنطق كل شيء .
ثانياً : التحذير من النار ، لقوله : " " لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول : " هل من مزيد " .
ثالثاً : إثبات فضل الله عز وجل ، فإن الله تعالى تكفل للنار بأن يملأها كما قال : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود: من الآية119) . فإذا دخلها أهلها ، وبقي فيها فضل ، وقالت : هل من مزيد ؟ وضع الله عليها رجله ، فانزوى بعضها إلى بعض ، وامتلأت بهذا الانزواء .
وهذا من فضل الله عز وجل ، وإلا فإن الله قادر على أن يخلق أقواماً ويكمل ملأها بهم ، ولكنه عز وجل لا يعذب أحداً بغير ذنب ، بخلاف الجنة ، فيبقى فيها فضل عمن دخلها من أهل الدنيا ، فيخلق الله أقواماً يوم القيامة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته .(114/47)
رابعاً : أن لله رجلاً وقدماً حقيقية ، لا تماثل أرجل المخلوقين ، ويسمى أهل السنة هذه الصفة : الصفة الذاتية الخبرية ، لأنها لم تعلم إلا بالخبر ، لأن مسماها أبعاض لنا وأجزاء ، لكن لا نقول بالنسبة لله : إنها أبعاض وأجزاء ، لأن هذا ممتنع على الله عز وجل .
وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك ، فقالوا :" يضع عليها
...........................................................................................
" رجله " يعني : طائفة من عباده مستحقين للدخول ، والرجل تأتي بمعنى الطائفة ، كما في حديث أيوب علية الصلاة والسلام ، أرسل الله إليه رجل جراد من ذهب ، بمعنى : طائفة من جراد.
وهذا تحريف باطل ، لأن قوله : " عليها " يمنع ذلك .
وأيضاً ، لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه ، لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف .
وقالوا في القدم : قدم ، بمعنى : مقدم ، أي : يضع الله تعالى عليها مقدمه ، أي : من يقدمهم إلى النار .
وهذا باطل أيضا ، فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عز وجل ، ولكنهم : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور:13) . ويلقون فيها إلقاء ، فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شر منه ، فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل ، لكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عز وجل .(114/48)
والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله تعالى قدماً ، وأن شئنا ، قلنا : رجلاً ، على سبيل الحقيقة ، مع عدم المماثلة ، ولا نكيف الرجل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أن لله تعالى رجلاً أو قدماً ، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم ، وقد قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33).
* والفائدة المسلكية من هذا الحديث :
هو الحذر الشديد من عمل أهل النار ، خشية أن يلقى الإنسان فيها كما يلقى غيره .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : يا آدم ! فيقول : لبيك وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ........" (1) متفق عليه ...................................
..........................................................................................
(1) هذا الحديث : في إثبات الكلام والصوت :
* يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه أنه يقول : " يا آدم " ! وهذا يوم القيامة ، فيجيب آم : " لبيك وسعديك " .
* " لبيك " بمعنى : إجابة مع إجابة ، وهو مثنى لفظاً ، ومعناه : الجمع ، ولهذا يعرب على أنه ملحق بالمثنى .
* " وسعديك " ، يعني : إسعاداً بعد إسعاد ، فإنا ألبي قولك وأسألك أن تسعدني وتعينني .
* قال : " فينادي " ، أي : الله فالفاعل هو الله عز وجل .
* وقوله : " بصوت " : هذا من باب التأكيد ، لأن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع ، فهو كقوله تعالى : (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )(الأنعام: من الآية38) ، فالطائر الذي يطير ، إنما يطير بجناحية ، وهذا من باب التأكيد .(114/49)
* وقوله :" أن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار " , ولم يقل : إني آمرك ! وهذا من باب الكبرياء والعظمة ، حيث كنى عن نفسه تعالى بكنية الغائب ، فقال : " أن الله يأمرك " كما يقول الملك لجنوده : إن الملك يأمركم بكذا ، وكذا ، تفاخراً وتعاظماً ، والله سبحانه هو المتكبر وهو العظيم .
وجاء في القرآن مثل هذا: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [النساء: 58]، ولم يقل: إني آمركم.
* وقوله: "أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"؛ أي: مبعوثاً.
* والحديث الآخر؛ قال: "يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون"(1).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان"(1).
(1) هذا الحديث(2) في إثبات الكلام أيضاً:
* قوله: "ما": نافية.
* قوله: "من أحد": مبتدأ؛ دخلت عليه (من) الزائدة للتوكيد؛ يعني: ما منكم من أحد.
* قوله: "إلا سيكلمه ربه"؛ يعني: هذه حاله؛ سيكلمه الله عز وجل؛ "ليس بينه وبينه ترجمان"، وذلك يوم القيامة.
* والترجمان: هو الذي يكون واسطة بين متكلمين مختلفين في اللغة، ينقل إلى أحدهما كلام الآخر باللغة التي يفهمها.
ويشترط في المترجم أربعة شروط: الأمانة، وأن يكون عالماً باللغة التي يترجم منها، وباللغة التي يترجم إليها، وبالموضوع الذي يترجمه.
* وفي هذا الحديث من صفات الله: الكلام، وأنه بصوت مسموع مفهوم.
"الفوائد المسلكية في الحديث الأول: "يقول الله: يا آدم!": فيه بيان أن الإنسان إذا علم بذلك، فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسع مائة والتسعة والتسعين.
وفي الحديث الثاني: يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي يجري بينه وبين ربه عز وجل أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه تعالى بذنوبه فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عز وجل.
* * *(114/50)
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في رقية المريض: "ربنا الله الذي في السماء؛ تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ"(1) حديث حسن رواه أبو داود وغيره..................................................
(1) هذا الحديث(1): في إثبات العلو لله وصفات أخرى:
* قوله: "في رقية المريض": من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ يعني: في الرقية إذا قرأ على المريض.
* قوله: "ربنا الله الذي في السماء": تقدم الكلام على قوله: "في السماء" في الآيات.
* وقوله: "تقدس اسمك"؛ أي: طهر، والاسم هنا مفرد، لكنه مضاف، فيشمل كل الأسماء؛ أي: تقدست أسماؤك من كل نقص.
* "أمرك في السماء والأرض": أمر الله نافذ في السماء والأرض؛ كما قال تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } [السجدة: 5]، وقال: { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 54].
* وقوله: "كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض": الكاف هنا للتعليل، والمراد بها التوسل؛ توسل إلى الله تعالى بجعل رحمته في السماء أن يجعلها في الأرض.
فإن قلت: أليس رحمة الله في الأرض أيضاً؟
قلنا: هو يقرأ على المريض، والمريض يحتاج إلى رحمة خاصة يزول بها مرضه.
* وقوله: "اغفر لنا حوبنا وخطايانا": الغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه. والحوب: كبائر الإثم. والخطايا: صغائره. هذا إذا جمع بينهما، أما إذا افترقا؛ فهما بمعنى واحد؛ يعني: اغفر لنا كبائر الإثم وصغائر؛ لأن في المغفرة زوال المكروب وحصول المطلوب، ولأن الذنوب قد تحول بين الإنسان وبين توفيقه؛ فلا يوفق ولا يجاب دعاؤه.
* قوله: "أنت رب الطيبين": هذه ربوبية خاصة، وأما الربوبية العامة؛ فهو رب كل شيء، والربوبية قد تكون خاصة وعامة.(114/51)
واستمع إلى قول السحرة الذين آمنوا: { قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون } [الأعراف: 121-123]؛ حيث عموا ثم خصوا.
واستمع إلى قوله تعالى: { إنما أمرت أن اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ولها كل شيء } [النمل: 91]؛ فـ { رب هذه البلدة } : خاص، { وله كل شيء } عام.
* والطيبون: هم المؤمنون؛ فكل مؤمن؛ فهو طيب، وهذا من باب التوسل بهذه الربوبية الخاصة، إلى أن يستجيب الله الدعاء ويشفي المريض.
* قوله: "أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع" هذا الدعاء وما سبقه من باب التوسل.
* "أنزل رحمة من رحمتك": الرحمة نوعان:
- رحمة هي صفة الله؛ فهذه غير مخلوقة وغير بائنة من الله عز وجل؛ مثل قوله تعالى: { وربك الغفور ذو الرحمة } [الكهف: 58]، ولا يطلب نزولها.
- ورحمة مخلوقة، لكنها أثر من آثار رحمة الله؛ فأطلق عليها الرحمة؛ مثل قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"(1)ز
* كذلك الشفاء؛ فالله شاف، ومنه الشفاء؛ فوصفه الشفاء، وهو فعل من أفعاله، وهو بهذا المعنى صفة من صفاته، وأما باعتبار تعديه إلى المريض؛ فهو مخلوق من مخلوقاته؛ فإن الشفاء زوال المرض.
* قوله: "فيبرأ": بفتح الهمزة منصوباً؛ لأنه جواب الدعاء: أنزل رحمة؛ فيبرأ. أما إذا قرئ بالضم مرفوعاً؛ فإنه مستأنف، ولا يتبع الحديث، بل يوقف عند قوله: "الوجع"، وتكون "فيبرأ": جملة خبرية تفيد أن الإنسان إذا قرأ بهذه الرقية؛ فإن المريض يبرأ، ولكن الوجه الأول أحسن بالنصب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(1) حديث صحيح..................
(1) هذا الحديث(2): في إثبات العلو أيضاً:
* قوله: "ألا تأمنوني": فيها إشكال لغوي، وهو حذف نون الفعل بدون ناصب ولا جازم!!
والجواب عن هذا: إنه إذا اتصلت نون الوقاية بفعل الأفعال الخمسة؛ جاز حذف نون الرفع.
* "ألا تأمنوني" أي: إلا تعتبروني أميناً.(114/52)
* "وأنا أمين من في السماء": والذي في السماء هو الله عز وجل، وهو أمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، وهو سيد الأمناء عليه الصلاة والسلام، والرسول والذي ينزل عليه جبريل هو أيضاً أمين: { إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين(20) مطاع ثم أمين } .
* وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم ذهبية بعث بها علي من اليمن بين أربعة نفر، فقال له رجل: نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".
* "ألا": للعرض؛ كأنه يقول: ائمنوني؛ فإني أمين من في السماء!
ويحتمل أن تكون الهمزة لاستفهام الإنكار، و(لا): نافية.
* والشاهد قوله: "من في السماء"، ونقول فيها ما قلناه فيما سبق في الآيات.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والعرش فوق الماء، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنت عليه"(1) حديث حسن رواه أبو داود وغيره................................................................
(1) هذا الحديث(1) في إثبات العلو أيضاً:
* لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المسافات التي بين السماوات؛ قال: "والعرش فوق الماء".
ويشهد لهذا قوله تعالى: { وكان عرشه على الماء } [هود: 7].
* قال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه": هو فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أحوالنا وأعمالنا، بل قد قال الله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } [ق:16] يعني: الشيء الذي في ضميرك يعلمه الله؛ مع أنه ما بان لأحد.
* وقوله: "وهو يعلم ما أنتم عليه": يفيد إحاطة علم الله بكل ما نحن عليه.
الفائدة المسلكية في هذا الحديث:
إذا آمنا بهذا الحديث؛ فإننا نستفيد منه فائدة مسلكية، وهي تعظيم الله عز وجل، وأنه في العلو، وأنه يعلم ما نحن عليه، فنقوم بطاعته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولايجدنا حيث نهانا.
* * *(114/53)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا؟" قالت أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة"(1) رواه مسلم...............................................
(1) هذا الحديث: في إثبات العلو أيضاً:
* قوله: "أين الله؟": (أين): يستفهم بها عن المكان.
* "قالت: في السماء"؛ يعني: على السماء، أو: في العلو؛ على حسب الاحتمالين السابقين.
· · قال "من أنا؟ قال: أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة".
وعند أهل التعطيل هي بقولها: "في السماء": إذا أرادت أنه في العلو؛ هي كافرة!! لأنهم يرون أن من أثبت أن الله في جهة؛ فهو كافر؛ إذ يقولون: إن الجهات خالية منه.
واستفهام النبي - صلى الله عليه وسلم - ب(أين) يدل على أن لله مكاناً.
ولكن يجب أن نعلم أن الله تعالى لا تحيط به الأمكنة؛ لأنه أكبر من كل شيء، وأن ما فوق الكون عدم، ما ثم إلا الله؛ فهو فوق كل شيء.
* وفي قوله: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة": دليل على أن عتق الكافر ليس بمشروع، ولهذا لا يجزئ عتقه في الكفارات؛ لأن بقاء الكافر عندك رقيقاً؛ فيه نوع حماية وسلطة وإمرأة وتقريب من الإسلام؛ فإذا أعتقته؛ تحرر؛ وإذا تحرر؛ فيخشى منه أن يرجع إلى بلاد الكفر؛ لأن أصل الرق هو الكفر، ويبقى معيناً للكافرين على المؤمنين.
* * *
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"(1) حديث حسن............
(1) هذا الحديث(1): في إثبات المعية:
* أفاد الحديث معية الله عز وجل، وقد سبق في الآيات أن معية الله لا تستلزم أن يكون في الأرض، بل يمتنع غاية الامتناع أن يكون في الأرض، لأن العلو من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها أبداً، بل هي لازمة له سبحانه وتعالى.
وسبق أيضاً أنها قسمان.(114/54)
* وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الإيمان أن تعلم": يدل على أن الإيمان يتفاضل؛ لأنك أذا علمت أن الله معك حيثما كنت؛ خفت منه عز وجل وعظمته.
لو كنت في حجرة مظلمة ليس فيها أحد؛ فاعلم أن الله معك، لافي الحجرة؛ لكنه سبحانه وتعالى معك؛ لإحاطته بك علماً وقدرة وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته.
فصل
في موقف أهل السنة والجماعة
من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم
ومن أصول أهل السنة والجماعة (1) سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم (2) ……………………………………………………..
(1) (1) أي اسس عقيدتهم.
(2) (2) قوله : " سلامة قلوبهم وألسنهم لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم":
ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتي لو فرض أن أحداً نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.
· · فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
· · فهم يحبون أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:(114/55)
أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "(1).
ثانياً: أنهم هو الواسطة بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثاً: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعاً: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم لله ولرسول صلي الله عليه وسلم.
· · فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، وتري أن لأل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوقة: حق الصحابة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلي الله عليه وسلم.
· · وقوله: " لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم" : سبق أن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمناً به ومات على ذلك، وسمي صاحباً، لأنه إذا اجتمع بالرسول صلي الله عليه وسلم مؤمناً به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول صلي الله عليه وسلم، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحباً له حتي يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحباً.
كما وصفهم الله به في قوله تعالي : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنمك رءوف رحيم } (1)….(114/56)
(1) (1) * استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: " كما وصفهم الله به في قوله تعالي: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } [ الحشر: 10]".
· · هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالي: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } [الحشر: 8]، وعلي رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
· · ففي قوله : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } : إخلاص النية، وفي قوله: { وينصرون الله ورسوله } : تحقيق العمل، وقوله: { أولئك هم الصادقون } ، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.
· · ثم قال في الأنصار: { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [الحشر : 9] ، فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: { يحبون من هاجر إليهم } ، { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } ، { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
· · ثم قال تعالي بعد ذلك: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان … } الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلي يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن يجعل في قلوبهم غلاً لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: { والذين جاءا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا .. } .(114/57)
· · ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون ! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!
· · وقوله: { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } ، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلي يوم القيامة.
· · { ربنا إنك رءوف رحيم } : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقون بالإيمان.
(1) (1) * " طاعة " : معطوف على قوله: " سلامة " ، أي : من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلي الله عليه وسلم … إلخ.
(2) (2) * السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.
أصحابي(1) فو الذي نفسي بيده (2)لو أن أحدكم أنفق مثل أحد (3) ذهباً ما بلغ مد (4) أحدهم ولا نصيفه " (5) ………………………………
(1) (1) * أي: الذين صحبوه، وصحبه النبي صلي الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين يصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل ما المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صلي الله عليه وسلم لخالد: " لا تسبوا أصحابي" ، والعبرة بعموم اللفظ.
ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلي الإسلام، لهذا قال: " لا تسبوا أصحابي"، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.
وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.
(2) (2) * أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم : " لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (1).
(3) (3) * " أحد " : جبل عظيم كبير معروف في المدينة.
(4) (4) * المد: ربع الصاع.(114/58)
(5) (5) * " ولا تصيفه " ، أي نصفه. قال بعضهم: م الطعام ، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب ، بقرينة السياق، لأنه قال: " لو أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" ، يعني : من الذهب.
وعلي كل حال ، فإن قلنا : من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلي جيل أحد من الذهب لا شيء.
· · فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.
· · وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحداً منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم ، كان كافراً، بل لا شك في كفر من شك في كفره ، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خلقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.
***
ويقبلون (1) ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم(2)……….
(1) (1) أي: أهل السنة.
(2) (2) قوله : " ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائهم ومراتبهم":
الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.
· · والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
· · فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:
فمثلاً ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.(114/59)
ويقبلون مثلاً ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (1)، وهذه فضيلة.
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلم في هجرته في الغار.
ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: " إن من أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بك " (2).
وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي على رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.
وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم ، فالخلفاء الراشدين هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.
(1) (1) * دليل ذلك قول تعالي : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسني } [ الحديد: 10].
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي ا لقعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
· · فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟
فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلي " الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر أو " الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر أو غير ذل ك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أ، هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.
· · وقول المؤلف: " وهو صلح الحديبية " :
- - هذا أحد القولين في الآي’، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البخاري(1).(114/60)
- - وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.
(1) (1) المهاجرون: هم الذين هاجروا إلي المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم قبل فتح مكة.
(2) (2) الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلي الله عليه وسلم في المدينة.
· · وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصر فقط.
- - فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أو طانهم، وخرجوا إلي أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلي الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.
- - والأنصار أتاهم النبي صلي الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا صلي الله عليه وسلم ، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.
ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالي: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } [ التوبة : 100]، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } [ التوبة: 117]، فقدم المهاجرين، وقوله في الفىء: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم … } [الحشر: 8]، ثم قال: { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } [ الحشر: 9].
(1) (1) * أهل بدر مرتبتهم أعلي من مراتب الصحابة.
· · وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان ، وسمي الله تعالي يومها يوم الفرقان.
· · وسببها أن النبي صلي الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلي مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالاً، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.(114/61)
· · فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخاً إلي أهل مكة يستنجدهم ، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشراف همه وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل: { بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله } [ الأنفال: 47].
· · وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا باعير، فتأمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتي نقدم بدراً، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
· · وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر علي عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.
قدموا بدراً، والتقت الطائفتان، وأوحي الله تعالي إلي الملائكة: { إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ، ذلك بأنهم شاقوا اله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال: 12-14] .
حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة- ولله الحمد – على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعن رجلاً، وقتلوا سبعين رجلاً، منهم أربعة وعشرون رجلاً من كبرائهم وصناديدهم ، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.(114/62)
· · ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم بعد أنتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: " يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً " . فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " (1)، والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخاً وتقريعاً وتندياً ، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقاً، قال الله تعالي: { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال:14] ، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق ، ولكن أني لهم التناوش من مكان بعيد.
· · فأهل بدر الذين جعل الله علي أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، اطل الله عليهم، وقال: " أعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" (2)، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالي على أيديهم.
· · وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.
- - إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.
- - وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلي الإسلام.
وإيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحداً منهم كفر بعد ذلك.
(1) (1) * أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان(1).(114/63)
· · وسبب هذه البيعة أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج من المدينة إلي مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون ، منعوا رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، { وما كانوا أولياءه إن إولياءه إلا المتقون } [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.
· · وأري الله تعالي من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولي تنازل الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتي قالوا: " خلأت القصواء" ، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صلي الله عليه وسلم مدافعاً عنها: " والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال : " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها" (2) .(114/64)
وجري التفاوض، وأسل النبي صلي الله عليه وسلم عثمان بن عفان، لأن له رهطاً بمكة يحمونه، أرسله إلي أهل مكة، يدعوهم إلي الإسلام، ويخبرهم أن النبي صلي الله عليه وسلم إنما جاء معتمراً للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صلي الله عليه وسلم إلي البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول الله صلي الله عليه وسلم وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلي الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلي الموت. وكان النبي صلي الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذا البيعة المباركة التي قال الله عنها: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } [ الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائباً، فبايع النبي صلي الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمني: " هذه يد عثمان".
ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وقريش، حتي انتهي الأمر على الصلح الذي صار فتحاً مبيناً للرسول عليه الصلاة والسلام.
· · هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيماً } [ الفتح 18-19].
· · وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فوصفهم الله تعالي بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"، فالرضي ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.(114/65)
· · وقوله النبي صلي الله عليه وسلم: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالي: { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً } [مريم:71]؟
فالجمع من أحد وجهين:
الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالي: { ولما ورد ما ء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون } [ القصص: 23]، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريباً منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلاً.
والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". لا يدخلها دخول عذاب وإهانة ، وإنما يدخلها تنفيذاً للقسم: { وإن منكم إلا واردها } ، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.
· · وقوله: " الشجرة ": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صلي الله عليه وسلم تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها – أي: يأتونها – يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.
قال في " الفتح " (1): " وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في " صحيح البخاري" (2) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها".
وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.(114/66)
وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلي الآن، لعبدت من دون الله.
(1) (1) أي أهل السنة والجماعة.
· · والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.
- - أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.
وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالي أخبر به، فقال تعالي: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ، خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم } [لقمان 8-9]، وقال: { وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } [ آل عمران: 133].
- - وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة.
وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صلي الله عليه وسلم، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.
(1) (1) * مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: " كالعشرة "، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صلي الله عليه وسلم جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة ابن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر ابن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.
وقد جمع الستة الزائدة عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدوح
هؤلاء بشرهم النبي صلي الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة …" (1)، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلي الله عليه وسلم بذلك.(114/67)
(2) (2) ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلي الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالي: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات:2]، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاحتفي في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلاً يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وآنتم لا تشعرون } ، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلي الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار !! فأتي الرجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة " (1)، فبشره النبي صلي الله عليه وسلم بالجنة.
وغيرهم من الصحابة (1) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر(2)………….
(1) (1) مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلي الله عليه وسلم، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.
(2) (2) * التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.
· · ففي " صحيح البخاري " (2) وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلي الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.
· · وفي " صحيح البخاري" (3) أيضاً آن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.(114/68)
فإذا كان على رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.
· · قوله: " وغيره "، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.
· · وهذا متفق عليه بين الأئمة.
- - وقال الإمام مالك: ما رأيت أحداً يشك في تقديمهما.
- - وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.
ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
ويثلثون بعثمان (1) ويربعون بعلي (2) رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة(3) …………
(1) (1) * " يثلثون " ، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.
(2) (2) * " ويربعون " بعلي " أي: يجعلون علياً هو الرابع.
· · وعلي هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر ، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
(3) (3) * استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:
الأول: قوله: " كما دلت عليه الآثار " : وقد سبق ذكر شيء منها.
والثاني: قوله: " وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة " :
فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضاً دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبي أن يولي على خير القرون رجلاً وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: " كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم.
مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي (1)، وقدم قوماً علياً (2)، وقوم توقفوا (3).
(1) (1) فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.(114/69)
(2) (2) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.
(3) (3) فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.
· · فالآراء أربعة:
- - الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
- - الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.
- - الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.
- - الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو على، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نري أحداً يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.
لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان (1) وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة (2) ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة(3) وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على (4) ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله(5)……………….
(1) (1) هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، علي ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.
(2) (2) * يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن علياً أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئاً.
(3) (3) * فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي . ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.(114/70)
(4) (4) وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.
(5) (5) * الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه ممن سبقه ! فهو أضل من حمار أهله.
وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهماً، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن الصحابة جميعاً.
· · فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتي لا نقول: إن هناك ظلماً في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.
· · أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره ، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولي عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالي: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } [ الإنعام : 129].
· · واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شىء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.
ويحبون أهل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم(1) …………………………….
(1)* أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، يحبون لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبداً.(114/71)
ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض علياً، وعلى هذا فلا يمكن أن تحب علياً حتي نبغض أبا بكر وعمر، وكأ، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليها على المنبر.
فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.
- - ومن أهل بيت أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالي: { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً ، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ، يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما، يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً ، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطيراً } [ الأحزاب، 28-33]، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.
- - وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.
- - فنحن نحيبهم لقرابتهم من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولا يمانهم بالله.(114/72)
فإن كفروا ، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلي الله عليه وسلم ، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلي الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.
ويتولونهم (1) ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم (2) حيث قال يوم غديرخم : " أذكركم الله في أهل بيتي " (3)……………………………………
(1) (1) أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.
(2) (2) أي: عهده الذي عهد به إلي أمته.
(3) (3) هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلي رجل يسمي ( خم )، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلاً في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال: " أذكركم الله في أهل بيتي"(1) ، ثلاثاً، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.
وقال أيضاً (1) للعباس عمه وقد اشتكي إليه أن بعض قريش يجفو (2) بني هاشم (3) فقال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتي يحبوكم لله ولقرابتي "(4)………………….
(1) (1) * " أيضاً ": مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعني: عوداً على ما سبق.
(2) (2) " يجفو " يترفع ويكره.
(3) (3) * " هاشم " : هو جد أبي الرسول صلي الله عليه وسلم .(114/73)
(4) (4) أقسم صلي الله عليه وسلم أنهم يؤمنون، أي : لا يتم إيمانهم، حتي يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال: " ولقرابتي " : فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.
· · وفي قول العباس: " إن بعض قريش يجفو بني هاشم " : دليل على أن جفاء آل البيت كان موجوداً منذ حياة النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على مأمن الله عليهم من قرابة النبي صلي الله عليه وسلم ، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.
· · فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لأل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية لرسول صلي الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلو فيهم، حتي يوصلوهم إلي حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: آنت الله ! والقصة مشهورة.
وقال صلي الله عليه وسلم : " إن الله اصطفي بن إسماعيل(1) ، واصطفي من بني إسماعيل كنانة (2) ، واصطفي من كنانة قريشاً (3)، واصطفي من قريش هاشم (4) ، واصطفاني من بني هاشم* ويتولون أزواج رسول الله صلي الله عليه وسلم أمهات المؤمنين (5) ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة(6) ……………………….
(1)* " إسماعيل ": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصة في سورة الصافات.
(2)* " كنانة " : هو الأب الرابع عشر الرسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى أله وسلم.
(3)* " قريش " : هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل : الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.
(4) * " هاشم " هو الأب الثالث لرسول الله صلي الله عليه وسلم.(114/74)
(5) قوله: " أمهات المؤمنين " : هذه صفة لـ " أزواج " فأزواج النبي صلي الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالي : { النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب: 6]، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صلي الله عليه وسلم.
وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.
لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالي: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } [ غافر: 7-8] فقال: { وأزوجهم } ، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.
(1) (1) " خصوصاً " : مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصاً.
(2) (2) * " خديجة بنت خويلد" : تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلي الله عليه وسلم انتفاعاً كثيراً، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحداً.
· · فكانت كما قال المؤلف: " أم أكثر أولاده ": البنين والبنات ، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.
· · وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.(114/75)
(3) (3) لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأي في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً. وآمنت به، وذهبت به إلي ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسي (1). "الناموس " أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.
ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.
وعاضده علي أمره (1) وكان لها منه المنزلة العالية (2) والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها(3) التي قال فيها النبي صلي الله عليه وسلم : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (4) ………………………………
(1) (1) أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صلي الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.
(2) (2) قوله: " وكان لها منه المنزلة العالية" : حتي إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلي صديقاتها، ويقول: " إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" (1)، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صلي الله عليه وسلم.
(3) (3) أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذي في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.
وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضاً، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.
(4) (4) قوله: " على النساء ": ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.
وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.(114/76)
لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: " كمال من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر أفضل النساء مطلقاً.
ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب، لأن فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسباً.
وأما منزلة، فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة، لأنه قال: " خصوصاً خديجة … والصديقة " ، ولم يقل : ثم الصديقة.
والعلماء اختلفوا في هذه المسألة:
فقال بعض العلماء: خديجة أفضل، لأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.
وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل، لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.
وفصل بعض أهل العلم، فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها الأخري فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صلي الله عليه وسلم حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة مالم يحصل لخديجة، فلا يصح أن تفضل إحداهما على الأخري تفضيلاً مطلقاً، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل، فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معاً.
ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهمم(1)…………..
(1) (1) الروافض: طائفة غلاوة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهاً للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال، فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم.(114/77)
وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثني عليهما وقال: هما وزيرا جدي.
أما النواصب، فهم الذين ينصبون العداء لأل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم، فهم على النقيض من الروافض.
فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن.
- - ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم، إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.
- - وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون : إنهم ظلمة ويقولون : إنهم ارتدوا بعد النبي صلي الله عليه وسلم إلا قليلاً، إلي غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.
وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحاً في الصحابة رضي اله عنهم فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي صلي الله عليه وسلم وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:
_ أما كونه قدحاً في الصحابة، فواضح.
- - وأما كونه قدحاً في رسول الله صلي الله عليه وسلم، فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله صلي الله عليه وسلم من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.
- - وأما كونه قدحاً في شريعة الله، فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صلي الله عليه وسلم في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم، لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.
- - وأما كونه قدحاً في الله سبحانه، فحيث بعث نبيه صلي الله عليه وسلم في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمتهه.
- - فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبري على سب الصحابة رضي الله عنهم.
- - ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا ولله الحمد مملؤة من محبتهم، لما كانوا عليه من الإيمان والتقوي ونشر العلم ونصرة النبي صلي الله عليه وسلم.(114/78)
ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل (1) ………
(1) (1) يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب.
وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت حتي يخرجوهم عن طور البشرية إلي طور العصمة والولاية.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة (1) ……………………………………
أما النواصب، فقابلوا البدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت، قالوا: إذا، نبغض آل البيت ونسبهم، مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائماً يكون الوسط هو خير الأمور، ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة.
(1) (1) يعني: عما وقع بينهم من النزاع.
· · فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدي إلي القتال.
وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا علياً رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليا على حق.
واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.
ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر " (1)، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.
· · فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولي: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
_ أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جري بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.(114/79)
- - وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.
· · فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جري بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.
(1) (1) قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيراً فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.
القسم الثاني: شيء له أصل، ولكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.
وهذان القسمان كلاهما يجب رده.
القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:
· · " والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون " .
· · والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ،فله أجر واحد، لقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم : " إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر" (1).
· · فما جري بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.
لكن لا شك أن عليا أقرب إلي الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا إن معاوية كان مجتهداً.
· · ويدل على أن عليا أقرب إلي الصواب أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ويح عمارا تقتله الفئة الباغية" (2)، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع على إما قطعناً وإما ظناً.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره(1) ….
(1) (1) وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:(114/80)
· · " وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.
· · لا يعتقدون ذلك، لقوله صلي الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (3) .
ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئاً من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك(1)، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.
بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة (1) ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر (2) ………………………………………………
(1) (1) يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: " ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر".
(2) (2) هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلي الكفر.
· · ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلي قريش يخبرهم عن مسير النبي صلي الله عليه وسلم إليهم، حتي أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يضرب عنق حطب، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " إنه شهد بدراً، وما يدريك ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: أعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"(1).(114/81)
حتي أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم(1)، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه (2)، أو أتي بحسنات تمحوه (3) . أو غفر له بفضل سابقته(4)……………………………………….
(1) (1) وذلك في قوله صلي الله عليه وسلم: " خبر الناس قرني " (2)، وفي قوله: " لا تسبوا أصحابي، فلو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (3).
(2) (2) يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالي: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، … } إلي قوله: { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صاحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما } [ الفرقان: 68-70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، فلا يؤثر عليه.
(3) (3) لقوله تعالي : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود: 114].
(4) (4) لقوله تعالي في الحديث القدسي في أهل بدر: " اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " .
أو بشفاعة محمد صلي الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته (1) أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه (2) فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور(3). ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم (4)…
(1) (1) وقد سبق أن النبي صلي الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.(114/82)
(2) (2) فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلي الله عليه وسلم في قوله: " ما من مسلم يصيبه أذي من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" صلي الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.
(3) (3) سبق دليله، فتكون هذه من باب أولي آلا تكون سبباً للقدح فيهم والعيب.
· · فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:
الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل.
والثاني: عام، وهى التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلي الله عليه وسلم ، والبلاء.
(4) (4) القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جداً نزر أقل القليل، ولهذا قال: " مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم " .
· · ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزني بإحصان وزني بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.
من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح(1) ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء(2) ………………………….
(1) (1) فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.
(2) (2) هذا بالإضافة إلي ما ثبت عن النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم من قوله: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (1).
وعلي هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أجوالهم.(114/83)
فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسي، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالي:
{ كنتم خير أمةة أخرجت للناس } [ آل عمران: 110] ، وخبرنا الصحابة، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم خير الخلق ، فأصحابة خير الأصحاب بلا شك .
هذا عند أهل السنة والجماعة ، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق ، إلا من استثنوا منهم.
(1) (1) أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الناس قرني " فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقاً ولا لاحقاً.
(2) (2) أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالي: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [ ال عمران: 110] وقوله: { وكذلك جلعناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة: 143]، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.
وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلي الله عليه وسلم: " خير الناس قرني" (1)، وفي لفظ : " خير أمتي قرني " (2)، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتي إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية" أ هـ.(114/84)
وكان أخر الصحابة موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (1): " واتفقوا على أن أخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلي حدود العشرين ومئتين".
فصل
في كرامة الأولياء
ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء (1) …………..
(1) (1) كرامات الأولياء مسألة هامة ينبغي أن يعرف الحق فيها من الباطل، هل هي حقيقة ثابتة، أو هي من باب التخيلات؟
فبين المؤلف رحمه الله قول أهل السنة فيها بقوله:
· · " ومن أصول أهل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء".
· · فمن هم الأولياء؟
والجواب: أن الله بينهم بقوله: { إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس: 62،63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من كان مؤمناً تقياً، كان الله ولياً " .
ليست الولاية بالدعوي والتمني، الولاية إنما هي بالإيمان والتقوي، فلو رأينا رجلاً يقول: إنه ولي ولكنه غير متق لله تعالي، فقوله مردود عليه.
· · أما الكرامات، فهي جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالي علي يد ولي، تأييداً له، أو إعانة، أو تثبيتاً، أو نصراً للدين.
- - فالرجل الذي أحيا الله تعالي له فرسه، وهو صلة بن أشيم، بعد أن ماتت، حتي وصل إلي أهله، فلما وصل إلي أهله ، قال لابنه : ألق السرج عن الفرس، فإنها عربة! فلما ألقي السرج عنها، سقطتت ميتة. فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له.
- - أما التي لنصرة الإسلام، فمثل الذي جري للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جري لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، وقصتها مشهورة في التاريخ.
فالكرامة أمر خارق للعادة.
أما ما كان على وفق العادة، فليس بكرامة.(114/85)
· · وهذا الأمر إنما يجربه الله علي يد ولي، احترازاً من أمور السحر والشعوذة، فإنها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله، فلا تكون هذه كرامة.
· · وقد كثرت هذه الكرامات التي تدعي أنها كرامات في هؤلاء المشعوذين الذين يصدون عن سبيل الله ، فالواجب الحذر منهم ومن تلاعبهم بعقول الناس وأفكارهم.
· · فالكرامة ثابتة بالقرآن والسنة، والواقع سابقاً ولاحقاً.
- - فمن الكرامات الثابتة بالقرآن والسنة لمن سبق قصة أصحاب الكهف، الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا أن يغلبوا على آمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلي الله عز وجل، فيسر الله لهم غاراً في جبل، وجه هذا الغار إلي الشمال، فلا تدخل الشمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوه منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات اليمن وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. فهذه كرامة بلا شك، بقوا هكذا حتي بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه.
- - ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث أجاءها المخاض إلي جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطباً جنياً.
- - ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثة، كرامة له، ليتبين له قدرة الله تعالي، ويزداد ثباتاً في إيمانه.
- - أما في السنة ، فالكرامات كثيرة، وراجع ( كتاب الإنبياء، باب ما ذكر عن بن إسرائيل) في " صحيح البخاري"، وكتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لشيخ الإسلام ابن تيمية.(114/86)
- - وأما شهادة الواقع بثبوت الكرامات، فظاهر، يعلم به المرء في عصره، إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة.
فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء.
· · وهناك مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم، حيث إنهم ينكرون الكرامات، ويقولون: إنك لو أثبت الكرامات، لا شتبه الساحر بالولي بالنبي، لأن كل واحد منهم يأتي بخارق.
فيقال: لا يمكن الالتباس، لأن الكرامة على يد ولي، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة، ولو ادعاها، لم يكن ولياً. آية النبي تكون على يد نبي، والشعوذة والسحر على يد عدو بعيد من ولاية الله، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين، فينالها بكسبه، بخلاف الكرامة، فهي من الله تعالي، لا يطلبها الولي يكسبه.
· · قال العلماء: كل كرامة لولي، في آية للنبي الذي اتبعه، لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا الولي طريق صحيح.
وعلي هذا، ما جري من الكرامات للأولياء من هذه الأمة فإنها آيات لرسول الله صلي الله عليه وسلم .
· · ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين، إلا ولرسول الله صلي الله عليه وسلم مثلها.
- - فأورد عليهم أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يلق في النار فيخرج حياً، كما حصل ذلك لإبراهيم.
فأجيب بأنه جري ذلك لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني، وإذا أكرم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بجنس هذا لأمر الخارق للعادة، دل ذلك على أن دين النبي صلي الله عليه وسلم حق ، لأنه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم.
وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي صلي الله عليه وسلم، وقد فلق لموسي!(114/87)
فأجيب بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شىء أعظم مما حصل لموسي، وهو المشي على الماء، كما في قصة العلاء بن الحضرمي، حيث مشوا على ظهر الماء، وهذا أعظم مما حصل لموسي، مشي على أرض يابسة.
وأورد عليهم أن من آيات عيسي إحياء الموتي، ولم يقع ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
فأجيب بأنه حصل وقع لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق، فدعا الله تعالي أن يحييه، فأحياه الله تعالي.
وأورد عليهم إبراء الأكمة والأبرص.
فأجيب بأنه حصل من النبي صلي الله عليه وسلم أن قتادة بن النعمان لما جرح في أحد، ندرت عينه حتي صارت على خده، فجاء النبي صلي الله عليه وسلم، فأخذها بيده، ووضعها في مكانها، فصارت أحسن عينيه. فهذه من أعظم الآيات.
فالآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان م ن جنسها للنبي صلي الله عليه وسلم أو لأمته، ومن أراد المزيد من ذلك، فليرجع إلي كتاب " البداية والنهاية في التاريخ" لابن كثير.
تنبيه:
الكرامات، قلنا: إنها تكون تأييدا أو تثبيتاً إو إعانة للشخص أو نصراً للحق، ولهذا كانت الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة، لأن الصحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات فإن الرسول صلي الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، وأما التابعون، فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييداً لهم وتثبيتاً ونصراً للحق الذي هم عليه.
وما يجري على أيديهم من خوارق العادات (1) …………………..
" خوارق ": جمع خارق.
· · و " العادات ": جمع عادة.
والمراد بـ " خوارق العادات" : ما يأتي على خلاف العادة الكونية.
· · وهذه الكرامات لها أربع دلالات:
أولاً: بيان كمال قدره الله عز وجل، حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله.(114/88)
ثانياً: تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل، لأنه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل، لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة، دل على أن للكون مدبراً وخالقاً.
ثالثا: أنها آية للنبي المتبوع كما أسلفنا قريباً.
رابعاً: أن فيها تثبيتاً وكرامة لهذا الولي.
(1) (1) يعني : أن الكرامة تنقسم إلي قسمي: قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرت.
- - أما العلوم، فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره.
- - وأما المكاشفات، فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره.
- - مثال الأول – العلوم : ما ذكر عن أبي بكر: أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته الحمل، أعلمه الله أنه أنثي (1).
- - ومثال الثاني- المكاشفات - : ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية ! الجبل ! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك ؟
فقال : إنه كشف له عن سارية بن زنيم وهو أحد قواده في العراق ، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلي الجبل، وقال له: يا سارية ! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلي الجبل، وتحصن به(1).
هذه من أمور المكاشفات، لأنه أمر واقع، لكنه بعيد.
- - أما القدرة والتأثيرات، فمثل ما وقع لمرين من هزما لجذع النخل وتساقط الرطب عليها، ومثل ما وقع للذي عنده علم من الكتاب، حيث قال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يريد إليك طرفك.
كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة (1) وهي موجودة فيها إلي يوم القيامة (2)……………(114/89)
(1) (1) الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم، ومنها قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة (2)، وموجودة في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، كقصة أسيد بن حضير (3)، وتكثير الطعام عند بعض الصحابة(4)، وموجودة في التابعين، مثل قصة صلة بن أشيم الذي أحيا الله له فرسه.
يقول شيخ الإسلام في كتاب " الفرقان " : " وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان، فكثير".
(2) (2) الدليل على أنها موجودة إلي يوم القيامة: سمعي وعقلي:
- - أما السمعي، فإن الرسول صلي الله عليه وسلم أخبر في قصة الدجال أنه يدعو رجلاً من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت ! إنما أنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلي الله عليه وسلم، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض ( يعني: بعيد ما بينهما) ، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم ! فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه 1).
فهذه أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب من الكرامات بلا شك.
- - وأما العقلي، فيقال: ما دام سبب الكرامة هي الولاية، فالولاية لا تزال موجودة إلي قيام الساعة(2).
فصل
في طريقة أهل السنة العملية
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلي الله عليه وسلم(1)………….
(1) (1) لما فرغ المؤلف مما يريد ذكره من طريقة أهل السنة العقدية، شرع في ذكر طريقتهم العملية.(114/90)
· · قوله: " اتباع الآثار" : لا اتباع إلا بعلم ، إذاً، فهم حريصون على طلب العلم، ليعرفوا آثار الرسول صلي الله عليه وسلم ثم يتبعونها آثار الرسول صلي الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والأخلاق والدعوة إلي الله تعالي، يدعون عباد الله إلي شريعة الله في كل مناسبة، وكلما اقتضت الحكمة أن يدعوا إلي الله، دعوا إلي الله، ولكنهم لا يخبطون خبط عشواء، وإنما يدعون بالحكمة، يتبعون آثار الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخلاق الحميدة في معاملة الناس باللطف واللين، وتنزيل كل إنسان منزلته، يتبعونه أيضاً في أخلاقه مع أهله، فتجدهم يحرصون على أن يكونوا أحسن الناس لأهليهم، لأ، النبي صلي الله عليه وسلم يقول: " خيركم لأهله، وأنا خيرم لأهلي " (1).
ونحن لا نستطيع أن نحصر آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن نقول على سبيل الإجمال في العقيدة والعبادة والخلق والدعوة: في العبادة لا يتشددون ولا يتهاونون ويتبعون ما هو أفضل.
وربما يشتغلون عن العبادة بمعاملة الخلق للمصلحة، كما كان الرسول يأتيه الوفود يشغلونه عن الصلاة، فيقضيها فيما بعد.
باطناً وظاهراً (1) ……………………………………………
(1) (1) قوله: " باطناً وظاهراً " : الظهور والبطون أمر نسبي: ظاهراً فيما يظهر للناس ، وباطناً فيما يسرونه بأنفسهم. ظاهراً في الأعمال الظاهرة، وباطناً في أعمال القلوب………
فمثلاً، التوكل والخف والرجاء والإنابة والمحبة وما أشبه ذلك، هذا من أعمال القلوب، يقومون بها على الوجه المطلوب، والصلاة فيها القيام والقعود والركوع والسجود والصدقة والحج، والصيام، وهذه من أعمال الجوارح، فهي ظاهرة.
· · ثم أعلم أن آثار الرسول صلي الله عليه وسلم تنقسم إلي ثلاثة أقسام أو أكثر:(114/91)
أولاً: ما فعله على سبيل التعبد، فهذا لا شك أننا مأمورون باتباعه، لقوله تعالي: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه } [ الأحزاب: 21]، فكل شىء لا يظهر فيه أنه فعله تأثراً بعادة أو بمقتضي جبلة وفطرة أو حصل اتفاقاً، فإنه علي سبيل التعبد، ونحن مأمورون به.
ثانياً : ما فعله اتفاقاً ، فهذا لا يشرع لنا التأسي فيه، لأنه غير مقصود ، كما لو قال قائل : ينبغي أن يكون قدومنا إلي مكة في الحج في اليوم الرابع من ذي الحجة ! لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة 1).
فنقول: هذا غير مشروع، لأن قدومه صلي الله عليه وسلم في هذا اليوم وقع اتقافاً.
ولو قائل قال: ينبغي إذا دفعنا من عرفة ووصلنا إلي الشعب الذي نزل فيه صلي الله عليه وسلم وبال أن ننزل ونبول ونتوضاً وضوء خفيفاً كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم ! فنقول: هذا لا يشرع.
وكذلك غيرها من الأمور التي وقعت اتفاقاً، فإنه لا يشرع التأسي فيه بذلك ، لأنه صلي الله عليه وسلم فعله لا علي سبيل القصد للتعبد، والتأسي به تعبد.
ثالثاً: ما فعله بمقتضي العادة، فهل يشرع لنا التأسي به؟
الجواب: نعم، ينبغي لنا أن نتأسي به، لكن بجنسه لا بنوعه.
وهذه المسألة قل من يتفطن لها من الناس، يظنون أن التأسي به فيما هو علي سبيل العادة بالنوع، ثم ينفون التأسي به في ذلك.
ونحن نقول: نتأسي به، لكن باعتبار الجنس، بمعني أن نفعل ما تقتضيه العادة التي كان عليها الناس، إلا أن يمنع ذلك مانع شرعي.(114/92)
رابعاً: ما فعله بمقتضي الجبلة، فهذا ليس من العبادات قطعاً، لكن قد يكون عبادة من وجه، بأن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم، فإنه بمقتضي الجبلة، لكن يسن أن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم، فإنه بمقتضي الجبلة، لكن يسن أن يكون على اليمين، والأكل والشرب جبلة وطبيعة، ولكن قد يكون عبادة من جهة أخري، إذا قصد به الإنسان امتثال أمر الله والتنعم بنعمه والقوة على عبادته وحفظ البدن، ثم إن صفة أيضاً تكون عبادة كالأكل باليمين، والبسملة عند البداءة، والحمدلة عند الانتهاء.
وهنا نسأل: هل اتخاذ الشعر عادة أو عبادة؟
يري بعض العلماء أنه عبادة، وأنه يسن للإنسان اتخاذ الشعر.
ويري آخرون أن هذا من الأمور العادية، بدليل قول الرسول صلي الله عليه وسلم الذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: " احلقوا كله أو ذورا كله " (1)، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا، لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئاً!
وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة، إلا بدليل، لأن الأصل في العبادات المنع، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.
وأتباع (1) سبيل السابقين (2) الأولين (3) من المهاجرين(4) والأنصار(5) ………
(1) (1) أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع … الخ، فهي معطوفة على " اتباع الآثار".
(2) (2) يعني: إلي الأعمال الصالحة.
(3) (3) يعني: من هذه الأمة.
(4) (4) المهاجرون: من هاجروا إلي المدينة.
(5) (5) الأنصار: أهل المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم.
· · وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم أقرب إلي الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة، بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة، قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، كان أقرب إلي الحق.(114/93)
ولهذا تري اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشاراً وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصوراً.
فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها، لأن اتباعها يؤدي إلي محبتهم، مع كونهم أقرب إلي الصواب والحق، خلافاً لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال ! ونحن رجال! لا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كقول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة !! وهذا خطأ وضلال، فالصحابة أقرب إلي الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم التقوي والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول صلي الله عليه وسلم.
واتباع(1) وصية (2) رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ(3) ……
(1) (1) " اتباع " : معطوف على " اتباع الآثار ".
(2) (2) " الوصية " العهد إلي غيره بأمر هام.
(3) (3) معني: " عليكم بسنتي … " إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: " وعضوا عليها بالنواجذ " ، وهي أقصي الأضراس، مبالغة في التمسك بها.
· · والسنة: هي الطريقة ظاهراً وباطناً.
· · والخلفاء الراشدين: هم الذين خلفوا النبي صلي الله عليه وسلم في أمته علماً وعملاً ودعوة.
· · وأول من يدخل في هذا الوصف وأولي من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
· · ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة، لأنه ليس معروفاً على عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، ويجب أن نقتصر على الأذان الثاني فقط !(114/94)
فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم باتباعهم.
ثم إن عثمان رضي الله عنه أعتمد على أصل، وهو أن بلالاً يؤذن قبل الفجر في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة (1)، لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس، لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام، من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام.
· · فأهل السنة والجماع يتبعون ما أوصي به النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم من الحث علي التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، إلا إذا خالف كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه.
وإياكم (1) ومحدثات الأمور (2) ……………………………………….
(1) (1) إياكم للتحذير، أي : أحذركم.
(2) (2) " والأمور ": بمعني : الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا، فلا تدخل في هذا الحديث، لأن الأصل في أمور الدنيا الحل، فما
ابتدع منها، فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر، فما ابتدع منها، فهو حرام بدعة، إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته.
فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (1) …………………………
(1) (1) قال النبي عليه الصلاة السلام: " فإن كل بدعة ضلالة " (1): الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة.(114/95)
هذا كلام عام مسور بأقوي لفظ دال على العموم، وهو لفظ ( كل ) ، فهو تعميم محكم صدر من الرسول صلي الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بياناً، وأصدقهم خبراً، فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله: " كل بدعة ضلالة " .
فعلي هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن من شريعة الله، فهو مبتدع.
فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله، والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.
- - والذين أحدثوا أذكاراً معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
- - والذين أحدثوا أفعالاً يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال، كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة، لأنها مركب، ولأنها أنحراف عن الحق.
· · والبدعة تستلزم محاذير فاسدة:
فأولاً: تستلزم تكذيب قول الله تعالي: { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة:3]، لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبرها ديناً، فمقتضاه أن الدين لم يكمل.
ثانياً: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع.
ثالثاً : تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها، فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير !!
رابعاً:ما لوزام هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة، انشغل عن سنة، كما قال بعض السلف: " ما أحدث قوم بدعة، إلا هدموا مثلها من السنة".
خامساً: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة، لأن هؤلاء المبتدعة يعتقدون أنهم أصحاب الحق، ومن سواهم علي ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال ! فتتفرق قلوبهم.(114/96)
فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب علي البدعة من حيث هي بدعة، مع أنه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين.
· · وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلي ثلاثة أقسام أو خمسة أو ستة، فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين:
- - إما أن لا ينطبق شرعاً وصف البدعة على ما سماه بدعة.
- - وإما أن لا يكون حسناً كما زعم.
فالنبي صلي الله عليه وسلم قال: " كل بدعة ضلالة" ، فقال: " كل "، فما الذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتي نقسم البدع إلي أقسام؟
· · فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلي الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه(1). فأثني عليها، وسماها بدعة؟ !
فالجواب أن نقول: ننظر إلي هذه البدعة التي ذكرها، هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا.
فإذا نظرنا لم يخرج وجدنا أنه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية، فقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم صلي بأصحابه في رمضان ثلاث ليال، ثم تركه خوفاً من أن تفرض عليهم(2)، فثبت أصل المشروعية، وانتفي أن تكن بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول صلي الله عليه وسلم قد صلاها.
وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة، لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعاً، الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم علي إمام واحد، صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولاً من هذا التفرق.
فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد، لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدي عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدي عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه.
إذاً، هي بدعة نسبية، باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخري.
فهذا وجه تسميتها ببدعة.
وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر، فكلاً.(114/97)
وبهذا نعرف أن كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه.
· · فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول صلي الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة " (1)، فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسن في الإسلام؟
فنقول: كلام الرسول صلي الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض، فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروع، ويكون المراد بسنها المبادرة إلي فعلها.
يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي صلي الله عليه وسلم قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة ( يعني: من الدراهم)، ووضعها بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي صلي الله عليه وسلم لما رأي من حالهم، فدعا إلي التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال : " من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة " .
أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلي ما ثبتت مشروعيته، كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك.
وبهذا نعرف أن كلام الرسول صلي الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضاً، بل هو متفق، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوي.
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله (1) ………………………………
(1) (1) هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب، بل هو أصدق الكلام، فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون، فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا، فإن صفته كذا وكذا، فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير، فإنما ظنه خطأ، لقصوره أو تقصيره.
مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، قال: { وإلي الأرض كيف سطحت } [ الغاشية: 20]، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة، فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟(114/98)
فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطىء إما لقصوره أو تقصيره، فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه، حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية.
فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله، ، فلازم ذلك أنه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر به كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته.
وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم (1) ………………………
(1) (1) " الهدي " : هو الطريق التي كان عليها السالك.
والطرق شتي، لكن خيرها طريق النبي صلي الله عليه وسلم، فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد صلي الله عليه وسلم ليس بقاصر، لا في حسنه وتمامه وانتظامه موافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوداث التي لم تزل ولا تزال تقع إلي يم القيامة، فإن هدي محمد صلي الله عليه وسلم كامل تام، فهو خير الهدي، أهدي من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي.
فإذا كنا نعتقد ذلك، فو الله ، لا نبغي به دليلاً.
· · وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله صلي الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كائناً من كان، حتي لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، أخذنا بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم.
· · وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة.
- - قال الله تعالي: { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء: 87].
- - وقال النبي صلي الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر: " خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم " (1).(114/99)
ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول صلي الله عليه وسلم ، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرط ومفرط، وهدي الرسول صلي الله عليه وسلم يكون بين هذا وهذا.
ويؤثرون (1) كلام الله غيره من كلام أصناف الناس(2) ويقدمون هدي محمد صلي الله عليه وسلم(3) علي هدي كل أحد(4).
(1) (1) أي: يقدمون.
(2) (2) أي يقدمون كلام الله على كلام غيره من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم، فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد.
*فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها، فإننا نكذبها.
مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب، لأن القرآن يكذبه، كما قال تعالي: { إنا إوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده } [ النساء: 163]، وإدريس من النبيين، كما قال الله تعالي: { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً } [مريم: 56] إلي أن قال: { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح } [ مريم: 58]، وقال تعالي: { ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } [ الحديد: 26] فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط.
(3) (3) أي: طريقته وسنته التي عليها.
(4) (4) في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء، لقوله تعالي: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام: 153]، وقوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [أل عمران: 31].
ولهذا(1) سموا أهل الكتاب والسنة (2) وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة (3) وإن كان لفظ الجماعة قد صار أسماً لنفس القوم المجتمعين(4)…..(114/100)
(1) (1) قوله: " ولهذا " : اللام في قول: " ولهذا " للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم .
(2) (2) لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرها. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعي أنه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب، لأن من كان من أهل شيء لابد أن يلزمه ويلتزم به.
(3) (3) الجماعة اسم مصدر يجتمع اجتماعاً وجماعة، فالجماعة هي الاجتماع، فمعني أهل الجماعة أهل الاجتماع، لأنهم مجتمعون على السنة، متالفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضاً، ولا يبدع بعضهم بعضاً، بخلاف أهل البدع.
(4) (4) هذا استعمال ثان، حيث صار لفظ ( الجماعة ) عرفاً: اسماً للقوم المجتمعين.
· · وعلي ما قرره المؤلف تكون ( الجماعة ) في قولنا: " أهل السنة والجماعة " : معطوفة على ( السنة )، ولهذا عبر المؤلف بقوله: " سموا أهل الجماعة" ، ولم يقل: سموا جماعة، فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟
نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع، فأهل الجماعة، يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلي القوم المجتمعين نقلاً عرفياً.
والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين (1) …………
(1) (1) * يعني به الدليل الثالث، لأن الأدلة أصول الأحكام، حيث تبني عليها.
· · والأصل الأول: هو الكتاب، والثاني: السنة، والإجماع هو: الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة.
· · فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب والسنة، فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع، فأصل مبني على غيره، إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة.
· · أما كون الكتاب والسنة يرجع إليه، فأدلته كثيرة، منها:
- - قوله تعالي: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول } [ النساء: 59]. وقوله تعالي: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [ المائدة: 92].(114/101)
- - وقوله تعالي: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر: 7] قوله تعالي: { مع يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء: 80].
ومن أنكر أن تكون السنة أصلاً في الدليل، فقد أنكر أن يكون القرآن أصلاً.
ولا شك عندنا في أن من قال: إن السنة لا يرجع إليها في الأحكام الشرعية، أنه كافر مرتد عن الإسلام، لأنه مكذب ومنكر للقرآن، فالقرآن في غير ما موضع جعل السنة أصلاً يرجع إليه.
· · وأما الدليل على أن الإجماع أصل، فيقال:
أولاً: هل الإجماع موجود أو غير موجود؟
قال بعض العلماء: لا إجماع موجود، إلا على ما فيه نص، وحينئذ، يستغني بالنص عن الإجماع.
فمثلاً، لو قال قائل: العلماء مجمعون على أن الصلوات المفروضة خمس، فهذا صحيح، لكن ثبوت فرضيتها بالنص.
ومجمعون على تحريم الزني، فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ومجمعون على تحريم نكاح ذوات المحارم فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعي الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه؟ لعلهم اختلفوا.
· · والمعروف عن عامة العلماء أن الإجماع موجود، وأن كونه دليلاً ثابت بالقرآن والسنة:
- - فمن ذلك قوله تعالي: { فإن تنازعتم في شىء فردوه إلي الله والرسول } [ النساء: 59]، فإن قوله: { إن تنازعتم في شيء فردوه } : يدل على أن ما أجمعنا عليه لا يجب رده إلي الكتاب والسنة، اكتفاء بالإجماع! وهذا الاستدلال فيه شيء!!
- - ومن ذلك قوله: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيراً } [النساء: 115]، فقال { ويتبع غير سبيل المؤمنين } .
- - واستدلوا أيضاً بحديث: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (1).
- - وهذا الحديث حسنه بعضهم وضعفه آخرون، لكن قد نقول: إن هذا، وإن كان ضعيف السند، لكن يشهد لمتنه ما سبق من النص القرآني.(114/102)
فجمهور الأمة على أن الإجماع دليل مستقل، وأننا إذا وجدنا مسألة فيها إجماع، أثبتناها بهذا الإجماع.
وكأن المؤلف رحمه الله يريد من هذه الجملة إثبات أن إجماع أهل السنة حجة.
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين (1) والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذا بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة (2) ……………………………………………
(1) (1) " الأصول الثلاثة" : هي الكتاب والسنة والإجماع.
· · يعني: أن أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من قول أو عمل، باطن أو ظاهر، لا يعرفون أنه حق، إلا إذا وزنوه بالكتاب والسنة والإجماع، فإن وجد له دليل منها، فهو حق، وإن كان على خلافه، فهو باطل.
(2) (2) يعني أن الإجماع الذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم.
· · ثم علل المؤلف ذلك بقوله: " إذ بعدهم كثر الاختلاف وكثرت الأمة " يعني: أنه كثر الاختلاف ككثرة الأهواء، لأن الناس تفرقوا طوائف، ولم يكونوا كلهم يريدون الحق، فاختلفت الآراء، وتنوعت الأقوال، " وانتشرت الأمة ": فصارت الإحاطة بهم من أصعب الأمور.
فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعي الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، وهل يمكن أن يوجد إجماع بعد الخلاف؟ فنقول: لا إجماع مع وجود خلاف سابق ولا عبرة بخلاف بعد تحقق الاجماع.
فصل
في منهج أهل السنة والجماعة
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال
فصل
ثم هم (1) مع هذه الأصول(2) يأمرون بالمعروف(3) وينهون عن المنكر(4) على ما توجبه الشريعة (5)…………………………………
(1) (1) أي: أهل السنة والجماعة.(114/103)
(2) (2) " من هذه الأصول" : السابقة التي ذكرها قبل هذا، وهو اتباع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، واتباع الخلفاء الراشدين وإيثارهم كلام الله وكلام رسوله على غيره واتباع إجماع المسلمين، مع هذه الأصول: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
(3) (3) " المعروف" : كل ما أمر به الشرع ، فهم يأمرون به.
(4) (4) " المنكر " : كل ما نهي عن الشرع، فهم ينهون عنه.
لأن هذا هو ما أمر الله به في قوله: { ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران: 104].
وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً " (1).
فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يتأخرون عن ذلك.
(5) (5) ولكن يشترط للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يكونا على ما توجبه الشريعة وتقتضيه.
· · ولذلك شروط:
الشرط الأول: أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهي عنه، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به: ولا ينهي إلا عما علم أن الشرع نهي عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ولا عادة.
لقوله تعالي لرسوله صلي الله عليه وسلم : { فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } [ المائدة: 48].
وقوله: { ولا تقف ما ليس به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } [الأسراء: 36].
وقوله: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } [ النحل: 116].
فلو رأي شخصاً يفعل شيئاً الأصل فيه الحل، فإنه لا يحل له أن ينهاه عنه حتي يعلم أنه حرام أو منهي عنه.
- - ولو رأي شخصاً ترك شيئاً يظنه الرائي عبادة، فإنه لا يحل له أن يأمره بالتعبد به حتي يعلم أن الشرع أمر به.(114/104)
- - الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأي شخصاً يشك هل هو مكلف أم لا، لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتي يستفصل.
الشرط الثالث: أن يكون عالماً بحال المأمور حال تكليفه، هل قال بالفعل أم لا؟
- - فلو رأي شخصاً دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلي ركعتين، فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتي يستفصل.
ودليل ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل، فجلس، فقال له النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم: " أصليت ؟ " .
قال: لا قال: " قم فصل ركعتين وتجوز فيها" (1).
- - ولقد نقل لي أنه بعض الناس يقول: يحرم أن يسجل القرآن بأشرطه، لأن ذلك إهانة للقرآن على زعمه ! فينهي الناس أن يسجلوا القرآن على هذه الأشرطة، لظنه أنه منكر!!
فنقول له : إن المنكر أن تنهاهم عن شيء لم تعلم أنه منكر!! فلابد أن تعلم أن هذا منكر في دين الله.
وهذا في غير العبادات، أما العبادات، فإننا لو رأينا رجلاً يتعبد بعبادة، لم يعلم أنها مما أمر الله به، فإننا ننهاه، لأن الأصل في العبادات المنع.
الشرط الرابع: أن يكون قادراً على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه، فإن لحقه ضرر، لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به، فهو أفضل، لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة، لقوله تعالي: { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن: 16]، وقوله: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة: 286].
فإذا خاف إذا أمر شخصاً بمعروف أن يقتله، فإنه لا يلزمه أن يأمره، لأنه لا يستطيع ذلك، بل قد يحرم عليه حينئذ. وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الأمر والصبر، وإن تضرر بذلك مالم يصل إلي حد القتل. لكن القول الأول أولي، لأن هذا الأمر إذا لحقه الضرر بحبس ونحوه، فإن غيره قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً مما حصل، حتي في حال لا يخشي منها ذلك الضرر.(114/105)
وهذا ما لم يصل الأمر إلي حد يكون الأمر حد يكون الأمر بالمعروف من جنس الجهاد، كما لو أمر بسنة ونهي عن بدعة، ولو سكت ، لاستطال أهل البدعة على أهل البدعة على أهل السنة، ففي هذه الحال يجب إظهار السنة وبيان البدعة، لأنه من الجهاد في سبيل الله، ولا يعذر من تعين عليه بالخوف على نفسه.
الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك، فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر.
ولهذا قال العلماء: إن إنكار ينتج منه إحدي أحوال أربعة: إما أن يزول المنكر، أو يتحول إلي أخف منه، أو إلي مثله، أو إلي أعظم منه.
- - أما الحالة الأولي والثانية، فالإنكار واجب.
- - أما في الثالثة، فهي في محل نظر.
- - وأما في الرابعة، فلا يجوز الإنكار، لأن المقصود بإنكار المنكر إزالته أو تخفيفه.
- - مثال ذلك: إذا إراد أن يأمر شخصاً بفعل إحسان، لكن يستلزم فعل هذا الإحسان ألا يصلي مع الجماعة، فهنا لا يجوز الأمر بهذا المعروف، لأنه يؤدي إلي ترك واجب من أجل فعل مستحب.
وكذلك في المنكر لو كان إذا نهي عن هذا المنكر، تحول الفاعل له إلي فعل منكر أعظم، فإنه في هذه الحال لا يجوز أن ينهي عن هذا المنكر دفعاً لأعلي المفسدتين بأدناهما.
ويدل لهذا قوله تعالي: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلي ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } [ الأنعام: 108] فإن سب آلهة المشركين، لا شك أنه أمر مطلوب، لكن لما كان يترتب عليه أمر محظور أعظم من المصلحة التي تكون بسب آلهة المشركين، وهو سبهم لله تعالي عدواً بغير علم، نهي الله عن سب آلهة المشركين في هذه الحال.(114/106)
ولو وجدنا رجلاً يشرب الخمر، وشرب الخمر منكر، فلو نهيناه عن شربه، لذهب يسرق أموال الناس ويستحل أعراضهم، فهنا لا ننهاه عن شرب الخمر، لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم.
الشرط السادس: إن يكون هذا الآمر أو الناهي قائماً بما يأمر به منتهياً عما ينهي عنه، وهذا على رأي بعض العلماء، فإن كان غير قائم بذلك، فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر، لأن الله تعالي قال لبني إسرائيل: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [ البقرة: 44]، فإذا كان هذا الرجل لا يصلي، فلا يأمر غيره بالصلاة، وإن كان يشرب الخمر، فلا ينهي غيره عنها، ولهذا قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
فهم استدلوا بالأثر والنظر.
ولكن الجمهور علي خلاف ذلك ، وقالوا: يجب أن يأمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه، وينهي عن المنكر، وإن كان يأتيه، وإنما وبخ الله تعالي بني إسرائيل، لا على أمرهم بالبر، ولكن علي جمعهم بين الأمر بالبر ونسيان النفس.
وهذا القول هو الصحيح، فنقول: أنت الآن مأمور بأمرين: الأول: فعل البر، والثاني: الأمر بالبر. منهي عن أمرين: الأول: فعل المنكر، والثاني: ترك النهي عن فعله. فلا تجمع بين ترك المأمورين وفعل المنهيين، فإن ترك أحدهما لا يستلزم سقوط الآخر.
فهذه ستة شروط ، منها أربعة للجواز، وهي الأول والثاني والثالث والخامس، على تفصيل فيه، واثنان للوجوب، وهما الرابع والسادس.
· · ولا يشترط أن لا يكون من أصول الآمر أو الناهي كأبيه أو أمه أو جده أو جدته، بل ربما نقول: إن هذا يتأكد أكثر، لأن من بر الوالدين أن ينهاهما عن فعل المعاصي ويأمرهما بفعل الطاعات قد يقول: أنا إذا نهيت أبي، غضب علي، وهجرني، فماذا أصنع؟(114/107)
نقول: اصبر على هذا الذي ينالك بغضب أبيك وهجره، والعاقبة للمتقين، وأتبع ملة إبراهيم عليه السلام، حيث عاتب أباه على الشرك، فقال: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } إلي أن قال: { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً ، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ، قال } ، أيك أبوه : { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا } [ مريم: 42-46]. وقال إبراهيم أيضاً لأبيه آزر: { أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } [الأنعام: 74].
ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد، مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً (1)….
(1) (1) الأبرار: جمع بر، وهو كثير الطاعة، والفجار: جمع فاجر وهو العاصي كثير المعصية.
· · فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تماماً، فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله.
· · وكان الناس فيما سبق يجعلون على الحج أميراً، كما جعل النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج في العام التاسع من الهجرة، وما زال الناس على ذلك، يجعلون للحجة أميراً قائداً يدفعون ويقفون بوقوفه، وهذا هو المشروع، لأن المسلمين يحتاجون إلي إمام يقتدون به، أما كون كل إنسان على رأسه، فإنه يحصل به فوضي واختلاف.
فهم يرون إقامة الحج من الأمراء، وإن كانوا فساقاً، حتي وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته، لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقاً، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلي الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الذي دون الكفر مهما بلغ، فإن الولاية لا تزال به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية.(114/108)
خلافاً للخوارج، الذين يرون أنه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصياً، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من المللة.
وخلافاً للرافضة الذين يقولون: إنه إمام إلا المعصوم، وإن الأمة الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلي اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان، لأن الإمام لم يأت بعد.
· · لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نري إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبراراً أو فجاراً، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فساقاً، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحلة.
فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلي فتن عظيمة.
فما الذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الأراء إلا الخروج على الأئمة؟!
فيري أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجاراً.
· · ولكن هذا لا يعني أن أهل السنة والجماعة لا يرون أن فعل الأمير منكر، بل يرون أنه منكر، وأن فعل الأمير للمنكر قد يكون أشد من فعل عامة الناس، لأن فعل الأمير للمنكر يلزم منه زيادة على إثمه محذوران عظيمان:
الأول: اقتداء الناس به وتهاونهم بهذا المنكر.
والثاني: أن الأمير إذا فعل المنكر سيقل في نفسه تغييره على الرعية أو تغيير مثله أو مقاربه.
· · لكن أهل السنة والجماعة يقولون: حتي مع هذا الأمر المستلزم لهذين المحذورين أو لغيرهما، فإنه يجب علينا طاعة ولاة الأمور، وإن كانوا عصاة، فنقيم معهم الحج والجهاد، وكذلك الجمع، نقيمها مع الأمراء، ولو كانوا فجاراً.(114/109)
فالأمير إذا كان يشرب الخمر مثلاً، ويظلم الناس بأموالهم، نصلي خلفه الجمعة، وتصح الصلاة، حتي إن أهل السنة والجماعة يرون صحة الجمعة خلف الأمير المبتدع إذا لم تصل بدعته إلي الكفر، لأنهم يرون أن الاختلاف عليه في مثل هذه الأمور شر، ولكن لا يليق بالأمير الذي له إمامة الجمعة أن يفعل هذه المنكرات.
وكذلك أيضاً إقامة الأعياد مع الأمراء الذي يصلون بهم، أبراراً كانوا أو فجاراً.
· · وبهذه الطريق الهادئة يتبين أن الدين الإسلامي وسط بين الغالي في والجافي عنه.
· · فقد يقول قائل: كيف نصلي خلف هؤلاء ونتابعهم في الحج والجهاد والجمع والأعياد؟ !
فنقول: لأنهم أئمتنا، ندين لهم بالسمع والطاعة: امتثالاً لأمر الله بقوله: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء: 59]. ولأمر النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: " إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: " أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم " (1). وحقهم: طاعتهم في غير معصية الله.
وعن وائل بن حجر، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلي الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا بني الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " (2).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: بايعنا رسول الله صلي الله عليه وعلي آله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " (3).
ولأننا لو تخلفنا عن متابعتهم، لشققنا عصا الطاعة الذين يترتب على شقه أمور عظيمة، ومصائب جسيمة.(114/110)
· · والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور، لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه، مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الأجتهاد، فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام، لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم، فليس من طريق أهل السنة والجماعة.
ويحافظون على الجماعات (1)، ويدينون بالنصيحة للأمة (2) ………………
(1) (1) أي: يحافظ أهل السنة والجماعة على الجماعات، أي: علي إقامة الجماعة في الصلوات الخمس، يحافظون عليها محافظة تامة، بحيث إذا سمعوا النداء، أجابوا وصلوا مع المسلمين، فمن لم يحافظ على الصلوات الخمس، فقد فاته من صفات أهل السنة والجماعة ما فاته من هذه الجماعات.
· · وربما يدخل في الجماعات الاجتماع على الرأي وعدم النزاع فيه، فإن هذا ما أوصي به النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم معاذ بن جبل وأبا موسي حين بعثهما إلي اليمن، فقال: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا " (1).
(2) (2) " يدينون " ، أي: يتعبدون لله عز وجل بالنصيحة للأمة، ويعتقدون ذلك ديناً.
· · والنصح للأمة قد يكون الحامل عليه غير التعبد لله، فقد يكون الحامل عليه الغيرة، وقد يكون الحامل عليه الخوف من العقوبات، وقد يكون الحامل عليه أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة التي يريد بها نفع المسلمين.. إلي غير ذلك من الأسباب.
· · لكن هؤلاء ينصحون للأمة طاعة لله تعالي وتديناً له، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث تميم بن أوس الداري: " الدين النصيحة، الدين النصيحة " . قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1).
- - فالنصيحة لله صدق الطلب في الوصول إليه.(114/111)
- - والنصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام صدق الاتباع له، ويستلزم ذلك الذود عن دين الله عز وجل، الذي جاء به رسول صلي الله عليه وسلم، ولهذا قال " ولكتابه " .
- - فينصح للقرآن ببيان أنه كلام الله، وأنه منزل غير مخلوق، وأنه يجب تصديق خبره وامتثال أحكامه، وهو كذلك يعتقده في نفسه.
- - " وأئمة المسلمين " كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، فهو إمام في ذلك الأمر، فهناك إمام عام كرئيس الدولة، وهناك إمام خاص، كالأمير والوزير والمدير والرئيس وأئمة المساجد وغيرهم.
- - وعامتهم، يعني: عامة المسلمين، وهم التابعون للأئمة.
- - ومن أعظم أئمة المسلمين العلماء، والنصيحة لعلماء المسلمين هي نشر محاسنهم، والكف عن مساوئهم، والحرص على إصابتهم الصواب، بحيث يرشدهم إذا أخطؤوا، ويبين لهم أخطأ على وجه لا يخدش كرامتهم، ولا يحط من قدرهم، لن تخطئة العلماء على وجه يحط من قدرهم ضرر على عموم الإسلام، لأن العامة إذا رأوا العلماء يضلل بعضهم بعضاً سقطوا من أعينهم وقالوا: كل هؤلاء راد مردود عليه. فلا ندري من الصواب معه! فلا يأخذون بقول أي واحد منهم، لكن إذا احترم العلماء بعضهم بعضاً، وصار كل واحد يرشد أخاه سراً إذا أخطأ، ويعلن للناس القول الصحيح ، فإن هذا من أعظم النصيحة لعلماء المسلمين.
· · وقول المؤلف: " للأمة" : يشمل الأئمة والعامة، فأهل السنة والجماعة يدينون بالنصحية للأمة، أئمتهم وعامتهم.
وكان مما يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه: " والنصح لكل مسلم" (1).
فإذا قال قائل: ما هو ميزان النصيحة للأمة؟
· · فالميزان هو ما أشار إلي النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: " لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (2)، فإذا عاملت الناس هذه المعاملة، فهذا هو تمام النصيحة.
فقبل أن تعامل صاحبك بنوع من المعاملة فكر، هل ترضي أن يعاملك شخص بها؟ فإن كنت لا ترضي، فلا تعامله!!(114/112)
ويعتقدون معني قوله صلي الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه صلي الله عليه وسلم (1) ……………………
(1) (1) * شبه النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم المؤمن لأخيه المؤمن بالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً، حتي يكون بناء محكماً متماسكاً يشد بعضه بعضاً ويقوي به، ثم قرب هذا وأكده، فشبك بين أصابعه.
فالأصابع المتفرقة فيها ضعف، فإذا اشتبكت، قوي بعضها بعضاً، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، فالبنيان يمسك بعضه بعضاً، كذلك المؤمن مع أخيه إذا صار في أخيه نقص، فإن هذا يكمله، فهو مرآة أخيه إذا وجد فيه النقص كمله، إذا احتاج أخوه ساعده، إذا مرض أخوه عاده … وهكذا في كل الأحوال. فأهل السنة والجماعة يعتقدون هذا المعني ويطبقونه عملاً.
وقوله (1) صلي الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم (2) وتراحمهم (3) وتعاطفهم (4) كمثل الجسد، إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر"(5)………
(1) (1) " قوله " : هنا معطوف على " قوله " في الحديث السابق.
(2) (2) أي: مودة بعضهم بعضاً.
(3) (3) أي: رحمة بعضهم بعضاً.
(4) (4) أي: عطف بعضهم على بعض.
(5) (5) أي: أنهم يشتركون في الآمال والآلام، فيرحم بعضهم بعضاً، فإذا احتاج، أزال حاجته، ويعطف بعضهم على بعض باللين والرفق وغير ذلك… ويود بعضهم بعضاً، حتي إن الواحد منهم إذا رأي في قلبه بغضاء لأحد من إخوانه المسلمين، حاول أن يزيله وأن يذكر من محاسنه ما يوجب زوال هذه البغضاء.
فالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو، ولو من أصغر الأعضاء، تداعي له سائر الجسد، فإذا أوجعك أصبعك الخنصر الذي هو من أصغر الأعضاء، فإن الجسد كله يتألم، إذا أوجعتك الأذن، تألم الجسد كله، وإذا أوجعتك العين، تألم الجسد كله، وغير ذلك،
فهذا المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام مثل مصور للمعني ومقرب له غاية التقريب.(114/113)
ويأمرون (1) بالصبر عند البلاء (2) …………………………
(1) (1) " يأمرون ": قد يقال: إن هذه الكلمة تشمل أمر نفوسهم، لقوله تعالي: { وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } [ يوسف:53]، فهم يأمرون حتي أنفسهم.
(2) (2) الصبر: هو تحمل البلاء، وحبس النفس عن التسخط بالقلب أو اللسان أو الجوارح.
والبلاء: المصيبة، قال الله تعالي: { ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } [البقرة-155] .
فالصبر يكون عند البلاء، وأفضله وأعلاه الصبر عند الصدمة الأولي، وهذا عنوان الصبر الحقيقي، كما قاله النبي صلي الله عليه وسلم للمرأة التي مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: " اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنكم لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلي الله عليه وسلم فأتت النبي صلي الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولي" (1)، أما بعد أن تبرد الصدمة، فإن الصبر يكون سهلاً، ولا ينال به كمال الصبر.
· · فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء، وما من إنسان إلا يبتلي إما في نفسه وإما في أهله، وإما في ماله، وإما في صحبه، وإما في بلده، وإما في المسلمين عامة. ويكون ذلك إما في الدنيا وإما في الدين، والمصيبة في الدين أعظم بكثير من المصيبة في الدنيا.
· · فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء في الأمرين:
- - فأما الصبر على بلاء الدنيا، فأن يتحمل المصيبة كما سبق.
- - وأما الصبر على بلاء الدين، فأن يثبت على دينه، ولا يتزعزع عنه، ولا يكن كمن قال الله تعالي فيهم: { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [ العنكبوت : 10].
والشكر عند الرخاء (1) والرضا بمر القضاء(2) ……………………………(114/114)
(1) (1) الرخاء: سعة في العيش، والأمن في الوطن، فيأمرون عند ذلك بالشكر.
· · وأيهما أشق الصبر على البلاء، أو الشكر عند الرخاء؟
اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الصبر على البلاء أشق، وقال آخرون: الشكر عند الرخاء أشق.
والصواب: أن لكل واحد آفته ومشقته، لأن الله عز وجل قال: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور } [ هود: 9-10].
لكن كل منهما قد يهونه بعض التفكير: فالمصاب إذا فكر وقال إن جزعي لا يرد المصيبة ولا يرفعها، فإما أن أصبر صبر الكرام، وإما أن أسلو سلو البهائم، فهان عليه الصبر، وكذلك الذي في رخاء ورغد.
· · لكن أهل السنة والجماعة يأمرون بهذا وهذا، بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.
(2) (2) الرضي أعلي من الصبر ومر القضاء: هو ما يلائم طبيعة الإنسان، ولهذا عبر عنه بـ "المر".
· · فإذا قضي الله قضاء لا يلائم طبيعة البشر، وتأذي به، سمي ذلك مر القضاء، فهو ليس لذيذاً ولا حلواً، بل هو مر، فهم يأمرون بالرضي بمر القضاء.
· · واعلم أن مر القضاء لنا فيه نظران:
النظر الأول: باعتباره فعلاً واقعاً من الله.
والنظر الثاني: باعتباره مفعولاً له.
فباعتبار كونه فعلاً من الله يجب علينا أن نرضي به، ألا نعترض على ربنا به، لأن هذا من تمام الرضي بالله رباً.
وأما باعتباره مفعولاً له، فهذا يسن الرضي به، ويجب الصبر عليه.
· · فالمرض باعتبار كون الله قدره الرضي به واجب، وباعتبار المرض نفسه يسن الرضي به ، وأما الصبر عليه، فهو واجب، والشكر عليه مستحب.
· · ولهذا نقول: المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات: المقام الأول: السخط، والثاني: الصبر، والثالث: الرضي، والرابع: الشكر.(114/115)
فأما السخط، فحرام بل هو من كبائر الذنوب، مثل أن يلطم خده، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، أو يقول: واثبوراه! أو يدعو على نفسه بالهلاك وغير ذلك مما يدل على السخط، قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوي الجاهلية"(1).
الثاني: الصبر: بأن يحبس نفسه قلباً ولساناً وجوارح عن التسخط، فهذا واجب.
الثالث: الرضي: والفرق بينه وبين الصبر: أن الصابر يتجرع المر، لكن لا يستطيع أن يتسخط، إلا أن هذا الشيء في نفسه. صعب ومر، ويتمثل بقول الشاعر:
والصبر مثل أسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلي من العسل
لكن الراضي لا يذوق هذا مراً، بل هو مطمئن، وكان هذا الشيء الذي أصابه لا شيء.
وجمهور العلماء علي أن الرضي بالمقضي مستحب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
الرابع: الشكر: وهو أن يقول بلسانه وحاله: " الحمد لله"، ويري أن هذه المصيبة نعمة، لكن، هذا المقام، قد يقول قائل: كيف يكون؟ !
فنقول: يكون لمن وقفه الله تعالي:
فأولاً: لأنه إذا علم أن هذه المصيبة كفارة للذنب، وأن العقوبة على الذنب في الدنيا أهون من تأخير العقوبة في الآخرة، صارت هذه المصيبة عنده نعمة يشكر الله عليها.
وثانياً: أن هذه المصيبة إذا صبر عليها، أثيب، لقوله تعالي: { إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر: 10].
فيشكر الله على هذه المصيبة الموجبة للأجر.
وثالثا: أن الصبر من المقامات العالية عند أرباب السلوك، لا ينال إلا بوجود أسبابه، فيشكر الله علي نيل هذا المقام.
· · ويذكر أن بعض العابدات أصيبت في أصبعها، فشكرت الله، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
· · فأهل السنة والجماعة رحمهم الله يأمرون بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضي بمر القضاء.
تتمة:
القضاء يطلق لى معنيين:(114/116)
أحدهما: حكم الله تعالي الذي هو قضاءه ووصفه، فهذا يجب الرضي به بكل حال، سواء كان قضاء دينياً أم قضاء كونياً، لأنه حكم الله تعالي، ومن تمام الرضي بربوبيته.
فمثال القضاء الديني قضاؤه بالوجوب والتحريم والحل، ومنه قوله تعالي: { وقضي ربك آلا تعبدوا إلا إياه } [ الأسراء: 23].
ومثال القضاء الكوني: قضاؤه بالرخاء والشدة والغني والفقر والصلاح والفساد والحياة والموت، ومنه قوله تعالي: { فلما قضينا عليه الموت } [ سبأ: 14]، ومنه قوله تعالي: { وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً } [الأسراء: 4].
المعني الثاني: المقضي، وهو نوعان:
الأول: المقضي شرعاً، فيجب الرضي به وقبوله، فيفعل المأمور به، ويترك المنهي عنه، ويتمتع بالحلال.
والنوع الثاني: المقضي كوناً.
فإن كان من فعل الله، كالفقر والمرض والجدب والهلاك ونحو ذلك، فقد تقدم أن الرضي به سنة، لا واجب، على القول الصحيح.
- - وإن كان من فعل العبد، جرت فيه الأحكام الخمسة، فالرضي بالواجب، وبالمندوب مندوب، وبالمباح مباح، وبالمكروه مكروه، وبالحرام حرام.
ويدعون إلي مكارم الأخلاق (1) ومحاسن الأعمال (2) ويعتقدون معني قوله صلي الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " (3) …………………
(1) (1) أي: أطايبها، والكرم من كل شىء هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء، ومنه قول الرسول صلي الله عليه وسلم لمعاذ: " إياك وكرائم أموالهم " (1)، حين أمره بأخذ الزكاة من أهل اليمن.
· · والأخلاق: جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان، يعني: السجايا والطبائع، فهم يدعون إلي أن يكون الإنسان سريرته كريمة، فيجب الكرم والشجاعة والتحمل من الناس والصبر، وأن يلاقي الناس بوجه طلق وصدر منشرح ونفس مطمئنة، كل هذه من مكارم الأخلاق.(114/117)
(2) (2) " محاسن الأعمال " هي مما يتعلق بالجوارح، ويشمل الأعمال التعبدية والأعمال غير التعبدية، مثل البيع والشراء والإجارة، حيث يدعون الناس إلي الصدق والنصح في الأعمال كلها، وإلي تجنب الكذب والخيانة، وإذا كانوا يدعون الناس إلي ذلك، فهم بفعله أولي.
(3) (3) هذا الحديث (2)ينبغي أن يكون دائماً نصب عيني المؤمن، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم من الله ومع عباد الله.
- - أما حسن الخلق مع الله، فأن تتلقي أوامره بالقبول والإذعان والانشراح وعدم الملل والضجر، وأن تتلقي أحكامه الكونية بالصبر والرضي وما أشبه ذلك.
- - أما حسن الخلق مع الخلق، فقيل: هو بذل الندي، وكف الأذي، وطلاقة الوجه.
بذل الندي، يعني: الكرم، وليس خاصاً بالمال، بل بالمال والجاه والنفس، وكل هذا من بذل الندي.
وطلاقة الوجه ضده العبوس.
وكذلك كف الأذي بأن لا يؤذي أحداً لا بالقول ولا بالفعل.
ويندبون (1) إلي أن تصل من قطعك (2) …………………
(1) (1) أي: يدعون.
(2) (2) " أن تصل من قطعك " : من الأقارب ممن يجب تجب صلتهم عليك، إذا قطعوك، فصلهم، لا تقل: من وصلني، وصلته! فإن هذا ليس بصلة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " ليس الواصل بالمكافىء، إنما الواصل من إذا قطعت رحمه، وصلتها" (1)، فالواصل هو الذي إذا قطعت رحمه، وصلها.
وسأل النبي صلي الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله! إن لي أقارب، أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون على! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " إن كنت كما قلت ، فكأنما تسفهم الملل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك" (2).
" تسفهم المل" ، أي : كأنما تضع التراب أو الرماد الحار في أفواههم.(114/118)
· · فأهل السنة والجماعة يندبون إلي أن تصل من قطعك، وأن تصل من وصلك بالأولي، لأن من وصلك وهو قريب، صار له حقان: حق القرابة، وحق المكافأة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من صنع إليكم معروفاً، فكافئوه " (1).
وتعطي من حرمك (1) وتعفو عمن ظلمك (2) …………………
(1) (1) أي: من منعك، ولا تقل: منعني، فلا أعطيه.
(2) (2) أي: من أنتقصك حقك: إما بالعدوان، وإما بعدم القيام بالواجب.
· · والظلم يدور على أمرين: اعتداء وجحود: إما أن يعتدي عليك بالضرب وأخذ المال وهتك العرض، وإما أن يجحدك فيمنعك حقك.
وكمال الإنسان أن يعفو عم ظلمه.
· · ولكن العفو إنما يكون يكون عند القدرة على الانتقام، فأنت تعفو مع قدرتك على الانتقام.
أولاً: رجاء لمغفرة الله عز وجل ورحمته، فإن من عفا وأصلح، فأجره على الله.
ثانياً: لإصلاح الود بينك وبين صاحبك، لأنك إذا قابلت إساءته بإساءة، استمرت الإساءة بينكما، وإذا قابلت إساءته بإحسان، عاد إلي الإحسان إليك، وخجل، قال الله تعالي: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [فصلت:34].
فالعفو عند المقدرة من سمات أهل السنة والجماعة، لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحاً، فإن تضمن العفو إساءة، فإنهم لا يندبون إلي ذلك لأن الله اشترط فقال: { فمن عفا وأصلح } [الشوري: 40]، أي: كان في عفو إصلاح، أما من كان في عفوه إساءة، أو كان سبباً للاساءة، فهنا نقول: لا تعف ! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفوه هذا سبباً لا ستمرار هذا المجرم في إجرامه، فترك العفو هنا أفضل، وربما يجب ترك العفو حينئذ.
(1) (1) وذلك لعظم حقهما.
· · ولم يجعل الله لأحد حقاً يلي حقه وحق رسوله إلا للوالدين، فقال: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [ النساء: 36].(114/119)
وحق الرسول في ضمن الأمر بعبادة الله، لأنه لا تتحقق العبادة حتي يقوم بحق الرسول عليه الصلاة والسلام، بمحبته واتباع سبيله، ولهذا داخلاً في قوله: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } ، وكيف يعبد الله إلا من طريق الرسول صلي الله عليه وسلم ، وإذا عبد الله على مقتضي شريعة الرسول، فقد أدي حقه.
ثم يلي حق الوالدين، فالوالدان تعباً على الولد، ولا سيما الأم الأم، قال الله تعالي: { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } [ الأحقاف:15]، وفي آية أخري: { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمة وهنا على على وهن } [ لقمان: 14]، والأم تتعب في الحمل، وعند الوضع، وبعد الوضع، وترحم صبيها أشد من رحمة الوالد له.
ولهذا كانت أحق الناس بحسن الصحبة والبر، حتي من الأب.
قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: قال في الرابعة: " ثم أبوك "(1).
والأب أيضاً يتعب في أولاده، ويضجر بضجرهم، ويفرح لفرحهم، ويسعي بكل الأسباب التي فيها راحتهم وطمأنينتهم وحسن عيشتهم، يضرب الفيافي والقفار من أجل تحصيل العيش له ولأولاده.
فكل من الأم والأب له حق، مهما عملت من العمل، لن تقضي حقهما، ولهذا قال الله عز وجل: { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } [الإسراء: 24]، فحقهم سابق، حيث ربياك صغيراً حين لا تملك لنفس لنفسك نفعاً ولا ضراً، فواجبها البر.
· · والبر فرض عين بالإجماع على كل واحد من الناس، ولهذا قدمه النبي صلي الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله، كما في حديث ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلي الله ؟ قال: " الصلاة على وقتها " . قلت: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين" . قلت : ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله " (2).(114/120)
· · والوالدان هما الأب والأم، أما الجد والجدة، فلهما بر، لكنه لا يساوي بر الأم والأب، لأن الجد والجدة لم يحصل لهما ما حصل للأم والأب من التعب والرعاية والملاحظة، فكان برهما واجباً من باب الصلة لكن هما أحق الأقارب بالصلة، أما البر، فإنه للأم والأب.
· · لكن، ما معني البر؟
البر: إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وكف الشر.
إيصال الخير بالمال، إيصال الخير بالخدمة، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما، من طلاقة الوجه، وحسن المقال والفعال، وبكل ما فيه راحتهما.
· · ولهذا كان القول الراجح وجوب خدمة الأب والأم على الأولاد، إذا لم يحصل على الولد ضرر، فإن كان عليه ضرر، لم يجب عليه خدمتهما، اللهم إلا عند الضرورة.
ولهذا نقول: إن طاعتهما واجبة فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الولد فيه، أما ما فيه ضرر عليه، سواء كان ضرراً دينياً، كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم، فإنه لا طاعة لهما في ذلك، أو كان ضرراً بدنيا، فلا يجب عليه طاعتهما. أما المال، فيجب عليه أن يبرهما ببذله، ولو كثر إذا لم يكن عليه ضرر، ولم تتعلق به حاجته، والأب خاصة له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ما لم يضر.
· · وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم، وجنا كثيراً منهم لا يبر بوالديه، بل هو عاق، تجده يحسن إلي أصحابه، ولا يمل الجلوس معهم، لكن لو يجلس إلي أبيه أو أمه ساعة من نهار، لوجدته متململاً، كأنما هو على الجمر، فهذا ليس ببار، بل البار من ينشرح صدره لأمه وأبيه ويخدمهما على أهداب عينيه، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع.
وكما قالت العامة:" البر أسلاف " ، فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة، فإنه يجازي به في الدنيا. فالبر والعقوق كما يقول العوام: " أسلاف "، أقرض، تستوف، إن قدمت البر، برك أولادك، وإن قدمت العقوق، عقك أولادتك..(114/121)
وهنا حكايات كثيرة في أن من الناس من بر والديه فبر به أولاده، وكذلك العقوق فيه حكايات تدل على أن الإنسان عقه أولاده كما عق هو آباءه.
فأهل السنة والجماعة يأمرون ببر الوالدين.
(1) (1) وكذلك يأمرون بصلة الأرحام.
· · ففرق بين الوالدين والأقارب الآخرين، الأقارب لهم الصلة، والوالدان لهما البر، والبر أعلي من الصلة، لأن البر كثرة الخيرو الإحسان ، لكن الصلة آلا يقطع، ولهذا يقال في تارك البر: إنه عاق، ويقال فيمن لم يصل: إنه قاطع، فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحرمان من دخول الجنة، قال الله تعالي: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم اله فأصمهم وأعمي أبصارهم } [ محمد: 22-23]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنة قاطع" (1)، أي: قاطع رحم.
· · والصلة جاءت في القرآن والسنة مطلقة.
وكل ما أتي ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
وعلي هذا، يرجع إلي العرف فيها، فما سماه الناس صلة، فهو صلة، وما سماه قطيعة، فهو قطيعة، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأمم.
- - إذا كان الناس في حالة فقر، وأنت غني، وأقاربك فقراء، فصلتهم أن تعطيهم بقدر حالك.
- - وإذا كان الناس أغنياء، وكلهم في خير، فيمكن أن يعد الذهاب إليهم في الصباح أو المساء صلة.
· · وفي زماننا هذه الصلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض، والصلة التامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وتري مشاكلهم، ولكن هذه من الأسف مفقودة، كما أن البر التام مفقود عند كثير من الناس.(114/122)
(1) (1) أي: ويأمرون، يعني: أهل السنة والجماعة بحسن الجوار مع الجيران، والجيران هم الأقارب في المنزل، أدناهم أولاهم بالإحسان والإكرام: قال الله تعالي: { وبالوالدين إحسانا وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب } [ النساء: 36]، فأوصي الله بالإحسان إلي الجار القريب والجار البعيد.
وقال النبي صلي الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره " (1).
وقال: " إذا طبخت مرقة، فأكثر من ماءها، وتعاهد جيرانك" .
وقال: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه " (1).
وقال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (2). إلي غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالجار والإحسان إليه وإكرامه.
· · والجار إن كان مسلماً قريباً، كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان قريباً جاراً ، فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان مسلما غير قريب وهو جار، فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
وإن كان جاراً كافراً بعيداً، فله حق واحد، وهو حق الجوار.
· · فأهل السنة والجماعة يأمرون بحسن الجوار مطلقاً، أيا كان الجار ومن كان أقرب، فهو أولي.
· · ومن المؤسف أن بعض الناس اليوم يسيئون إلي الجار أكثر مما يسيئون إلي غيره، فتجده يعتدي على جاره بالأخذ من ملكه وإزعاجه.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله في آخر باب الصلح في الفقه شيئاً من أحكام الجوار، فليرجع إليه.
والإحسان (1) إلي اليتامي (2) والمساكين(3) ………………
(1) كذلك يأمرون، أي: أهل السنة والجماعة بالإحسان إلي هؤلاء الأصناف الثلاثة.
(2) اليتامي: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه.
وقد أمر الله تعالي بالإحسان إلي اليتامي، وكذلك النبي صلي الله عليه وسلم حث عليه في عدة أحاديث.(114/123)
ووجه ذلك أن اليتيم قد انكسر قلبه بفقد أبيه، فهو في حاجة إلي العناية والرفق.
والإحسان إلي اليتامي يكون بحسب الحال.
(3) والمساكن: هم الفقراء، وهو هنا شامل للمسكين والفقير.
فالإحسان إليهم مما أمر به الشرع في آيات متعددة من القرآن، وجعل لهم حقوقاً خاصة في الفىء وغيره.
ووجه الإحسان إليهم أن الفقر أسكنهم وأضعفهم وكسر قلوبهم، فكان من محاسن الإسلام أن نحسن إليهم جبراً لما حصل لهم من النقص والانكسار.
والإحسان إلي المساكين يكون بحسب الحال: فإذا كان محتاجاً إلي طعام، فالإحسان إليه بأن تطعمه، وإذا كان محتاجاً إلي كسوة، فالإحسان إليه بأن تكسوه، وإلي اعتبار بأن توليه اعتباراً، فإذا دخل المجلس، ترحب به، وتقدمه لأجل، أن ترفع من معنويته.
فمن أجل هذا النقض الذي قدره الله عز وجل عليه بحكمته أمرنا عز وجل أن نحسن إليهم.
وابن السبيل (1) والرفق بالمملوك (2) ………………………….
(1) ابن السبيل، وهو المسافر، وهو هنا المسافر الذي انقطع به السفر، أو لم ينقطع، بخلاف الزكاة لأن المسافر غريب، والغريب مستوحش، فإذا آنسته بإكرامه والإحسان إليه، فإن هذا مما يأمر به الشرع.
فإذا نزل ابن سبيل بك ضيفاً، فمن إكرامه أن تكرم ضيافته.
لكن قال بعض العلماء: إنه لا يجب إكرامه بضايفته إلا في القري دون الأمصار!
ونحن نقول: بل هي واجبة في القري والأمصار، إلا أن يكون هناك سبب، كضيق البيت مثلاً، أو أسباب أخري تمنع أن تضيف هذا الرجل، لكن على كل حال ينبغي إذا تعذر أن تحسن الرد.
(2) يعني: أن أهل السنة والجماعة يأمرون بالرفق بالمملوك.
· · وهذا يشمل المملوك الآدمي والبهيم:
- - فالرفق بالمملوك الآدمي أن تطعمه إذا طعمت، وتكسوه إذا اكتسبت، ولا تكلفه ما لا يطيق.(114/124)
- - والرفق بالمملوك من البهائم سواء كانت ما تركب أو تحلب أو تقتني، يختلف بحسب ما تحتاج إليه، ففي الشتاء تجعلها في الأماكن الدافئة إذا كانت تتحمل البرد، وفي الصيف في الأماكن الباردة إذا كانت لا تتحمل الحر، ويؤتي لها بالطعام وبالشراب إن لم تحصل عليه بنفسها بالرعي، وإذا كانت مما تحمل، فلا تحمل ما لا تطيق.
- - وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه لم ينس حتي البهائم، وعلي شمولية طريقة أهل السنة والجماعة.
وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق (1)……
(1) الفخر بالقول، والخيلاء بالفعل، والبغي العدوان، والاستطالة الترفع والاستعلاء.
فينهون عن الفخر: أن يتفاخر الإنسان على غيره بقوله، فيقول: أنا العالم ! أنا الغني! أنا الشجاع!
وإن زاد على ذلك أن يستطيل على الآخرين ويقول: ماذا أنتم عندي؟ فيكون هذا فيه بغي واستطالة على الخلق.
والخيلاء تكون بالأفعال، يتخايل في مشيته وفي وجهه وفي رفع رأسه ورقبته إذا مشي، كأنه وصل إلي السماء، والله عز وجل وبخ من كان هذا فعله، وقال: { ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً } [ الإسراء: 37].
فأهل السنة والجماعة ينهون عن هذا، ويقولون: كن متواضعاً في القول وفي الفعل، حتي في القول، لاتئن على نفسك بصفاتك الحميدة، إلا حيث دعت الضرورة أو الحاجة إلي ذلك، كقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لو أعلم أحداً هو أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه"(1)، فإنه رضي الله عنه قصد بذلك أمرين:
الأول: حث الناس على تعلم كتاب الله تعالي.
والثاني: دعوتهم للتلقي عنه.
والإنسان ذو الصفات الحميدة لا يظن أن الناس تخفي عليهم خصاله أبداً، سواء ذكرها للناس أم لم يذكرها، بل إن الرجل إذا صار يعدد صفاته الحميدة أمام الناس، سقط من أعينهم، فاحذر هذا الأمر.(114/125)
· · والبغي: العدوان على الغير، ومواقعه ثلاثة بينها الرسول صلي الله عليه وسلم في قوله: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " (1).
قالبغي على الخلق بالأموال والدماء والأعراض.
- - في الأموال، مثل أن يدعي ما ليس لهن أو ينكر ما كان عليه، أو يأخذ ما ليس له، فهذا بغي على الأموال.
- - وفي الدماء: القتل فما دونه، يعتدي على الإنسان بالجرح والقتل.
- - وفي الأعراض: يحتمل أن يراد بها الأعراض، يعني: السمعة، فيعتدي علي بالغيبة التي يشوه بها سمعته، ويحتمل أن يراد بها الزني وما دونه، والكل محرم، فأهل السنة والجماعة ينهون عن الاعتداء على الأموال والدماء والأعراض.
· · وكذلك الاستطالة على الخلق، يعني الاستعلاء عليهم بحق أو بغير حق.
فالاستعلاء على الخلق ينهي عنه أهل السنة والجماعة، سواء كان بحق أو بغير حق، والاستعلاء هو أن الإنسان يترفع علي غيره.
وحقيقة الأمر أن من شكر نعمة الله عليك أن الله إذا ما عليك بفضل على غيرك من مال أو جاه أو سيادة أو علم أو غير ذلك، فإنه ينبغي أن تزداد تواضعاً، حتي تضيف إلي الحسن حسني، لأن الذي يتواضع في موضع الرفعة هو المتواضع حقيقة.
· · ومعني قوله: " بحق " أي: حتي لو كان له الحق في بيان أنه عال مترفع، فإن أهل السنة والجماعة ينهون عن الاستعلاء والترفع.
أو يقال: إن معني قوله: " الاستطالة بحق " : أن يكون أصل استطالته حقاً، بأن يكون قد اعتدي عليه إنسان، فيعتدي عليه أكثر.
فأهل السنة والجماعة رحمهم الله ينهون عن الاستطالة والاستعلاء على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق.
ويأمرون بمعالي الأخلاق ( 1) وينهون عن سفاسفها (2) وكل ما يقولونه (3) ويفعلونه (4) من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة. وطرقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمداً صلي الله عليه وسلم (5).(114/126)
(1) أي: ما كان عالياً منها، كالصدق والعفاف وأداء الأمانة ونحو ذلك.
(2) أي: رديئها، كالكذب والخيانة والفواحش ونحو ذلك.
(3) أي: أهل السنة والجماعة.
(4) من هذا وغيره.
(5) وهذه حال بنبغي أن يتتبه لها، وهو أننا كل ما نقول وكل ما نفعله نشعر حال قوله أو فعله أننا نتبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله، لتكون أقوالنا وأفعالنا كلها عبادات لله عز وجل، ولهذا يقال: إن عبادات الغافلين عادات، وعادات المنتبهين عبادات.
فالإنسان الموفق يمكن أن يحول العادات إلي عبادات، والإنسان الغافل يجعل عباداته عادات.
فليحرص المؤمن على أن يجعل أقواله وأفعاله كلها تبعاً لكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، ينال بذلك الأجر، ويحصل به كمال الإيمان والإنابة إلي الله عز وجل.
لكن لما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن أمته (1) ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (2)………………………
(1) " أن أمته "، يعني: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة، لأن أمة الدعوة يدخل فيها اليهود والنصاري، وهم مفترقون، فاليهود إحدي وسبعون فرقة، والنصاري على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، كلها تنسب نفسها إلي الإسلام واتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم.
(2) قوله: " كلها في النار إلا واحدة " (1): لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإنما المعني أن عملها مما تستحق به دخول النار.
· · وهذه الثلاث والسبعون فرقة، هل وقعت الآن وتمت أو هي في المنظور؟
أكثر الذين تكلموا على هذا الحديث قالوا: إنها وقعت وأنتهت، وصاروا يقسمون أهل البدع إلي خمسة أصول رئيسية، ثم هذه الخمسة الأصول يفرعون عنها فرقاً، حتي أوصلوها إلي أثنتين وسبعين فرقة، وأبقوا فرقة واحدة، وهي أهل السنة والجماعة.(114/127)
وقال بعض العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أبهم هذه الفرق، ولا حاجة أن نتكلم فنقسم البدع الموجودة الآن إلي خمسة أصول، ثم نقسم هذه الأصول إلي فروع، حتي يتم العدد، حتي إننا نجعل الفرع أحياناً فرقة تامة من أجل مخالفتها في فرع واحد، فإن هذا لا يعد فرقة مستقلة.
فالأولي: أن نقول : إن هذه الفرق غير معلومة لنا، ولكننا نقول: بلا شك أنها فرق خرجت عن الصراط المستقيم، منها ما خرج فأبعد، ومنها ما خرج خروجاً متوسطاً، ومنها ما خرج خروجاً قريباً، ونلزم بحصرها، لأنه ربما يخرج فرق تنتسب للأمة الإسلامية غير التي عدها العلماء، كما هو الواقع، فقد خرج فرق تنتسب إلي الإسلام من غير الفرق التي كانت قد عدت في عهد العلماء السابقين.
وعلي كل حال، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن أمته أمة الإجابة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها ضالة، وفي النار، إلا واحدة، وهي:
وهي الجماعة(1)، وفي ا لحديث عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " (2) صار (3) المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة (4) ………………
(1) " الجماعة "، يعني: التي اجتمعت على الحق ولم تتفرق فيه.
(2) الذين كانوا على ما كان عليه الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه هم الجماعة الذين اجتمعوا على شريعته، وهم الذين امتثلوا ما وصي الله به: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [الشوري: 13]، فهم لم يتفرقوا، بل كانوا جماعة واحدة.
(3) جملة " صار " جواب الشرط قوله: " لكن لما " .
(4) فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟
فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب.
· · وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيميه يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع.(114/128)
وهذا هو الصحيح، أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة.
وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟!
لأنه يقال: إما إن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف، لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدي من بعدهم، فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم، صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك.
وفيهم الصديقون (1) …………………………
(1) قوله: " وفيهم " ، أي في أهل السنة.
(2) " الصديقون " : جمع صديق، من الصدق، وهذه الصيغة للمبالغة، وهو الذي جاء بالصدق وصدق به، كما قال تعالي: { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [الزمر: 33]، فهو صادق في قصده، وصادق في قوله، وصادق في فعله.
- - أما صدقه في قصده، فعنده تمام الإخلاص لله عز وجل، وتمام المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، قد جرد الإخلاص والمتابعة، فلم يجعل لغير الله تعالي شركاً في العمل، ولم يجعل لغير سنة الرسول صلي الله عليه وسلم اتباعاً في عمله، فلا شرك عنده ولا ابتداع.
- - صادق في قوله، لا يقول إلا صدقاً، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلي البر، وإن البر يهدي إلي الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتي يكتب عند الله بمعني: أن فعله لا يخالف قوله، فإذا قال، فعل، وبهذا يخرج عن مشابهة المنافقين الذين يقولون صديقاً " (1).
- - صادق في فعله، ما لا يفعلون.
- - وأيضاً يصدق بما قامت البينة على صدقه، فليس عنده رد الحق، ولا احتقار للخلق.(114/129)
· · ولهذا كان أبو بكر أول من سمي الصديق من هذه الأمة، لأنه لما أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يتكلم أنه أسري به إلي بيت المقدس وعرج به إلي السماء، صار الكفار يضحكون به ويكذبونه ويقولون: كيف تذهب يا محمد في ليلة وتصل في ليلة إلي ما وصلت إليه في السماء ونحن إذا ذهبنا إلي الشام نبقي شهر آلم نصله وشهر الرجوع؟! فاتخذوا من هذا سلماً ليكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما وصلوا إلي أبي بكر، وقالوا: إن صاحبك يحدث ويقول كذا وكذا ! قال: إن كان قال ذلك، فقد صدق. فمن ذلك اليوم سمي الصديق، وهو أفضل الصديقين من هذه الأمة وغيرها.
(1) " الشهداء " جمع شهيد، بمعني: شاهد.
فمن هم الشهداء؟
- - قيل: هم العلماء، لأن العالم يشهد بشرع الله، ويشهد على عباد الله بأنها قامت عليهم الحجة، ولهذا يعد العالم مبلغاً عن الله عز وجل ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم، فيكون شاهداً بالحق على الخلق.
- - وقيل: إن الشهيد من قتل في سبيل الله.
- - والصحيح أن الآية عامة لهذا وهذا.
وفيهم الصالحون (1) ومنهم أعلام (2) الهدي (3) ومصابيح (4) الدجي(5) أولوا المناقب المأثورة (6) والفضائل المذكورة(7) ………………
(1) الصالح ضد الفاسد، وهو الذي قام بحق الله وحق عباده، وهو غير المصلح، فالإصلاح وصف زائد على الصلاح، فليس كل صالح مصلحاً، فإن من الصالحين من همه هم نفسه، ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح.
(2) الأعلام: جمع علم، وهو في الأصل الجبل، قال الله تعالي: { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } [ الشوري: 32]، يعني: الجبال، وسمي الجبل علماً، لأنه يهتدي به ويستدل به.
(3) " أعلام الهدي " : الذين يستدل الناس بهم ويهتدون بهديهم، وهم العلماء الربانيون، فإنهم هم الهداة، وهم مصابيح الدجي.
(4) المصابيح: جمع مصباح، وهو يستصبح به للإضاءة.(114/130)
(5) الدجي: جمع دجية، وهي الظلمة، أي: هم مصابيح الظلم، يستضيء بهم الناس، ويمشون على نورهم.
(6) " المناقب ": جمع منقبة، وهي المرتبة، أي: ما يبلغه الإنسان من الشرف والسؤدد.
(7) " الفضائل "، جمع فضيلة، وهي الخصال الفاضلة، التي يتصف بها الإنسان من العلم والعبادة من العلم والعبادة والزهد والكرم وغير ذلك، فالفضائل سلم للمناقب.
وفيهم الأبدال (1) وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم (2) وهم الطائفة المنصورة(3)……………………
(1) " الأبدال " : جمع بدل ، وهم الذين تميزوا عن غيرهم بالعلم العبادة، وسموا أبدلاً: إما لأنهم كلما مات منهم أحداً، خلفه بدله، أو أنهم كانوا يبدلون سيئاتهم حسنات، أو أنهم كانوا أسوة حسنة كانوا يبدلون أعمال الناس الخاطئة صابئة، أو لهذا كله وغيره.
(2) الإمام: هو القدوة، وفي أهل السنة والجماعة أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزراعي، وغيرهم من الأئمة المشهورين المعروفين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
· · وقوله: " أئمة الدين" : خرج به أئمة الضلال من أهل البدع، فهؤلاء ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم على خلاف أهل السنة والجماعة، وهم، وإن سموا أئمة، فإن من الأئمة أئمة يدعون إلي النار، كما قلا تعالي عن آل فرعون: { وجعلناهم أئمة يدعون إلي النار ويوم القيامة لا ينصرون } [ القصص:41].
(3) يعني: أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة التي نصرها الله عز وجل، لأنهم داخلون في قوله تعالي: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الآشهاد } [غافر: 51]، فهم منصورون، والعاقبة لهم.
منصوراً ومنصوراً عليه، إذاً، فلابد من مغالبة، ولابد من محنة، ولكن، كما قال ابن القيم رحمه الله:(114/131)
الحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن
فلا يلحقك العجز والكسل إذا رأيت أن الأمور لم تتم لك بأول مرة، بل اصبر وكرر مرة بعد أخري، واصبر على ما يقال فيك من استهزاء وسخرية، لأن أعداء الدين كثيرون.
لا يثني عزمك أن تري نفسك وحيداً في الميدان، فأنت الجماعة وإن كنت واحداً، ما دمت على الحق، ولهذا ثق بأنك منصور إما في الدنيا وإما في الأخرة.
· · ثم إن النصر ليس نصر الإنسان يشخصه، بل النصر الحقيقي أن ينصر الله تعالي ما تدعو إليه من الحق، أما إذا أصيب الإنسان بذل في الدنيا، فإن ذلك لا ينافي النصر أبداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوذي إيذاء عظيماً، لكن في النهاية انتصر علي من آذاه، ودخل منصوراً مؤزراً ظافراً بعد أن خرج منها خائفاً.
(1) (1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم (1) بنحو ما ساقه المؤلف عن عدد من الصحابة عن النبي صلي الله عليه وسلم.
· · قوله: " لا تزال " : هذا من أفعال الاستمرار، وأفعال الاستمرار أربعة، وهي: فتيء، وانفك، وبرج ، وزال إذا دخل عليها النفي أو شبهه.
· · فقوله : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق" ، يعني: تستمر على الحق.
· · وهذه الطائفة غير محصورة بعدد ولا بمكان ولا بزمان، يمكن أن تكون بمكان تنصر فيه في شىء من أمور الدين، وفي مكان آخر تنصر فيه طائفة أخري، وبمجموع الطائفتين يكون الدين باقياً منصوراً مظفراً.(114/132)
· · وقوله: " لا يضرهم"، ولم يقل: لا يؤذيهم، لأن الأذية قد تحصل، لكن لا تضر، وفرق بين الضرر والأذي، ولهذا قال الله تعالي في الحديث القدسي: " يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني " (1)، وقال سبحانه وتعالي: { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب: 57]، وفي الحديث القدسي: " يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر" (2)، فأثبت الأذي ونفي الضرر، وهذا ممكن، ألا تري الرجل يتأذي برائحة البصل ونحوه، ولا يتضرر بها.
· · وفي قوله: " حتي تقوم الساعة ": إشكال، لأنه قد ثبت في الصحيح أنها " لا تقوم الساعة حتي لا يقال في الأرض: الله، الله" (3)، أي: حتي يمحي الإسلام كله، ولا يبقي من يعبد الله أبداً، فكيف قال هنا: " حتي تقوم الساعة" ؟!
وأجاب عنه العلماء بأحد جوابين:
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1).
1- إما أن يكون المراد حتي قرب قيام الساعة، والشيء قد يعب به عما قرب منه إذا كان قريباً جداً، وكأن هؤلاء المنصورون إذا ماتوا ، فإن الساعة تكون قريبة جداً.
2- أو يقال: إن المراد بالساعة ساعتهم.
ولكن القول الأول أصح، لأنه إذا قال: " حتي تقوم الساعة " ، فقد تقوم ساعاتهم قبل الساعة العامة بأزمنة طويلة، وظاهر الحديث أن هذا النصر سيمتد إلي آخر الدنيا، فالصواب أن المراد بذلك إلي قرب قيام الساعة. والله أعلم.
(1) (1) بهذا الدعاء الجليل ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة القليلة اللفظ الكثيرة المعني، وهي تعتبر خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة وفيها فوائد عظيمة، ينبغي لطالب العلم أن يحفظها.
· · والحمد لله رب العالمين على الإتمام، ونسأل الله أن يتم ذلك بالقبول والثواب، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم أجمعين.(114/133)
قمت بمراجعة الكتاب وإضافة ما تدعو الضرورة إليه
وحذف ما لا يحتاج إليه في يوم الجمعة السابع عشر من شعبان سنة 1414هـ
وقمت بمراجعته مع المضاف مساء يوم الخميس السابع والعشرين
من صفر سنة 1415هـ
---
(1) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب من كره القعود عل الصورة، ومسلم/ كتاب الباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب نقض الصور، ومسلم/ كتاب اللباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(1) "رسالة العبودية" مجموع الفتاوى 10/149
(1) رواه اللاكائي في "شرح السنة" (2823) عن الشعبي، وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (1/29) وأشار إلى من رواه من العلماء. وحسنه الحافظ في "الفتح" (12/270).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/110)، وفي "فضائل الصحابة" (397)، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/570)، وابن ماجه (106) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والحديث أصله في "صحيح البخاري" (3671) عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر.
(2) رواه البخاري/ كتاب المناقب/ باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم، ومسلم: كتاب الزكاة.
(1) جزء من حديث رواه مسلم/ كتاب الزكاة/ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.....
(1) رواه البخاري/ كتاب المناقب/ باب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم/ كتاب الفضائل/ باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين.
(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام/ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) البخاريك كتاب التهجد/ باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم/ كتاب المنافقين/ باب إكثار الأعمال والاجتهاد في الطاعة.
(2) البخاري/ كتاب التهجد/ باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم/ كتاب المنافقين/ باب إكثار الأعمال والاجتهاد في الطاعة.(114/134)
(1) لما رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء.
(1) رواه الترمذي/ كتاب الإيمان/ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. واللالكائي في "شرح السنة" (147)، والحاكم (1/129).
(1) أخرجه البخاري/ كتاب المناقب/ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، ومسلم/ كتاب الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة....".
(2) رواه مسلم/ كتاب الفتن، باب قرب الساعة.
(3) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان.
(4) تقدم قريباً.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام.
(1) رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء/ باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء/ باب الدعاء في الاستسقاء.
(1) أخرجه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(2) رواه أحمد (4/287)، وأبو داود/ كتاب السنة/ باب في المسألة في القبر، والحاكم (1/93) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" 3/49.
(3) البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم/ كتاب الدعوات/ باب فضل مجالس الذكر.
(1) رواه أحمد (5/173)، والترمذي/ كتاب الزهد/ باب قوله صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً"، وابن ماجه/ كتاب الزهد/ باب الحزن والبكاء.
(2) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب الإسراء.
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت أحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه.
(1) البخاري/ كتاب التوحيد/ باب كلاما لله مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلاً
(2) لما رواه البخاري/ كتاب البيوع/ باب قتل الخنزير، ومسلم/ كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم.
(3) رواه مسلم/ كتاب العلم/ باب هلك المتنطعون.(114/135)
(1) لما رواه مسلم /كتاب القدر/ باب ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(2) مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(1) تقدم تخريجه ص48
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم/ كتاب الجنة.
(2) رواه مسلم/ كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.
(1) رواه مسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الكبر.
(2) رواه الإمام أحمد (6/20)، وأبو داود/ كتاب الطب/ باب كيف الرقى، والنسائي ص 299، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/164)، والدرامي في "الرد على الجهمية" ص 272، والحاكم (1/344)، قال شيخ الإسلام: "حديث حسن" وسيأتي ص 418".
(3) البخاري/ كتاب القدر/ باب "يحول بين المرء وقلبه".
(4) رواه مسلم/ كتاب الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء.
(1) رواه أبو داود/ كتاب السنة/ باب في الجهمية.
(2) قصة الجارية. رواها مسلم/ كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة.
(2) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب "وما قدروا الله حق قدره". ومسلم/ كتاب صفة القيامة.
(4) رواه مسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.
(1) البخاري/ كتاب الوضوء/ باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضل عبدالله بن عباس.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ سورة النصر، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.
(1) رواه البخاري/ كتاب الوضوء/ باب ما يقول عند الخلاء. ومسلم/ كتاب الحيض/ باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.
(1) تقدم تخريجه ص66.
(2) أخرجه البخاري/ كتا التوحي/ باب قوله تعالى: { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.(114/136)
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (664)، والبيهقي في "الأسماء والصفات (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/325)، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (104)، وابن عبد البرفي "التمهيد" (7/151). قال ابن حجر "إسناده جيد" (الفتح: 13/407). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس في إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك" "مجموع الفتاوى" (5/365).
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (936). والذهبي في "العلو" ص116.
(2) رواه البخاري معلقاً/ كتاب التوحيد/ باب { وكان الله سميعاً بصيراً } . وقد وصله الإمام أحمد في "المسند" (6/46)، وابن كثير 4/286.
(1) رواه البخاري/ كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة العصر، ومسلم/ كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر.
(1) رواه البخاري/ كتاب الاستئذان/ باب بدء السلام، ومسلم/ كتاب البر/ باب النهي عن ضرب الوجه.
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم/ كتاب الجنة/ باب في صفات الجنة وأهلها.
(1) علقه البخاري/ كتاب الوكالة إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل.
(1) لما رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب (ويسألونك عن الروح).
(1) رواه البخاري/ كتاب فضائل القرآن/ باب فضل (قل هو الله أحد). ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل قراءة قل هو الله أحد.
(2) رواه البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل التهليل. ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب فضل التهليل.
(1) رواه أحمد (5/133)، والواحدي في "أسباب النزول" (262).
(2) رواه الواحدي في "أسباب النزول" (262).
(1) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (665).
(2) رواه البخاري/ كتاب الفرائض/ باب القائف. ومسلم/ كتاب الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد.(114/137)
(1) رواه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام........".
(1) رواه البخاري/ كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم/ كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.
(1) رواه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (586)، وابن أبي شيبة في كتاب "العرش" (61)، وابن خزيمة في "التوحيد" (248)، والحاكم في "المستدرك" (2/282) وقال: صحيح عن شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في كتاب "الصفات" (36) عن ابن عباس موقوفاً عليه، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/323) للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "مختصر العلو" (45): إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" رقم (58)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (862) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وابن مردويه كما عند ابن كثير (1/309) والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (109) وقال: إنه لا يصح حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة العرش إلا هذا الحديث.
(1) تقدم تخريجه ص 111.
(2) رواه مسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب ما يقوم عند النوم.
(1) تقدم تخريجه ص 41
(2) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب قوله تعالى "إن الله عنده علم الساعة".
(3) رواه مسلم/ كتاب الفتن/ باب في سكنى المدينة.
(1) رواه أحمد (5/317)، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155)، والحاكم (2/498) وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (804)، والآجري في "الشريعة" (178)، وابن أبي عاصم في "السنة" (105)، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (133)، وفي "السنة" لابن أبي عاصم (1/48و49).
(1) تقدم تخريجه.
(1) تقدم تخريجه 66
(1) رواه مسلم/ كتاب صفات المنافقين.
(1) رواه أحمد (2/97)، وابن ماجه (3314)(114/138)
(1) رواه أحمد (3/128)، والنسائي (7/61)، والحاكم (2/160).
(1) رواه البخاري/ كتاب العلم/ باب "من يرد الله به خيراً"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) لما رواه البخاري /كتاب بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة، ومسلم/ كتاب البر/ باب "إذا أحب الله عبداً".
(1) رواه مسلم/ كتاب الإمارة/ باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء الأول فالأول.
(2) رواه البخاري/ كتاب الهبة/ باب الإشهاد في الهبة، ومسلم/ كتاب الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(1) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه"، ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على باب الحث على ذكر الله تعالى.
(1) رواه مسلم/ كتاب السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأذان/ باب أثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب تحريم سبق الإمام.
(2) رواه البخاري/ كتاب الآداب/ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً.، ومسلم كتاب البر والصلة/ باب تراحم المؤمنين.
(1) رواه مسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل أبي بكر الصديق.
(2) رواه مسلم (532) عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه.
(1) رواه أحمد (6/144).
(2) رواه الترمذي/ كتاب المناقب (3789)، والحاكم (2/150)
(1) رواها لبخاري/ كتاب المظالم/ باب قوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب رحمة الولد، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
(2) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
(1) رواه مسلم/ كتاب الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الظلم.(114/139)
(1) رواه البخاري/ كتاب الديات/ باب قوله تعالى: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً".
(1) رواه البخاري/ كتاب الأنبياء، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل.
(2) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب قوله تعالى "يضاعف له العذاب يوم القيامة......".
(1) رواه البخاري/ كتاب الزكاة، ومسلم/ كتاب الأقضية.
(1) رواه مسلم/ كتاب البر/ باب إذا أحب الله عبداً.
(2) أخرجه البخاري/ كتاب الأدب/ باب ما يجوز من الشعر، ومسلم/ كتاب الجهاد/ باب ما لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب "لا ينفع نفس إيمانها"، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.
(1) رواه الحاكم (4/614) وقال الذهبي: "إسناده قوي". وابن كثير في "تفسيره" (3/316).
(1) رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب من نوقش الحساب عذب.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب قوله عليه والصلاة والسلام: "إن الله لا ينام".
(1) تقدم تخريجه ص237
(1) رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب حك البزاق باليد من المسجد، ومسلم/ كتاب المساجد/ باب النهي عن البصاق في المسجد.
(1) لما رواه البخاري/ كتاب الزكاة/ باب لا يقبل الله صدقة من غلول"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب قبول الصدقة من الكسب الطيب.
(2) تقدم تخريجه ص86
(1) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب "لما خلقت بيدي"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب الحث على النفقة.
(2) رواه مسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الظلم.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب صفات المنافقين.
(2) رواه مسلم/ كتاب الإمارة/ باب "فضيلة الإمام العدل...".
(1) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناظرة"، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية.
(1) رواه مسلم/ كتاب الفتن/ باب ذكر الدجال.
(2) رواه البخاري/ كتاب الشروط/ باب الشروط في الجهاد.(114/140)
(1) رواه البخاري/ كتاب مناقب الأنصار/ باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، ومسلم/ كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين.
(2) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "أمين"، ومسلم/ كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدى المشركين.
(1) رواه البخاري/ كتاب الجهاد/ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم/ كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال.
(2) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى "ولتصنع على عيني"، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال.
(3) تقديم تخريجه في الحديث السابق.
(1) ذكره ابن القيم في كتاب "الصواعق" (256)، وقال الألباني في "الضعيفة" (1024): ضعيف جداً.
(1) تقدم تخريجه ص83
(1) (1) تفسير ابن كثير جـ4 سورة العلق.
(1) رواها البخاري/ كتاب التفسير ( سورة النور )، ومسلم / كتاب التوبة / باب قصة الإفك.
(1) رواها البخاري/ كتاب التفسير ( سور النور)، ومسلم / كتاب التوبة / باب قصة الإفك.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير / باب قوله تعالي: " ويقول هل من مزيد" ، ومسلم/ كتاب الجنة/ باب النار يدخلها الجبارون.
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في " الجامع " ( 2/69) ، و السيوطي في " الجامع الصغير " (2/92) وسئل العلامة الجليل/ محمد العثيمين حفظه الله تعالي عن هذا الحديث فقال: " هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن ذلك له أصلاً .. } انتهي من كتاب ( العلم ) ص 127.
(2) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم / كتاب النكاح/ باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع.
(1) رواه البخاري/ كتاب الرفاق/ باب التواضع.(114/141)
(2) رواه البخاري/ كتاب الجهاد/ باب التسبيح إذا هبط وادياً.
(1) (1) رواه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب استحباب تطويل القراء في صلاة الليل.
(2) (2) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (1/ 244) ، واللالكائي في "شرح السنة" (659) ، والطبراني في "الكبير" (9/228) ، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/86): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
(3) (3) رواه البخاري / كتاب المغازي / باب بعث علي وخالد إلى اليمن ، ومسلم كتاب الزكاة / باب صفة الخوارج.
(1) (1) رواه مسلم / كتاب الحج/ باب حجة النبي ، صلى الله عليه وسلم .
(2) (2) رواه مسلم / كتاب المساجد / باب تحريم الكلام في الصلاة.
(1) رواه مسلم/ كتاب الحج/ باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج أو غيره.
(2) رواه مسلم/ كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(1) أخرجه أبو نعيم (6/124)، والهيثمي في "المجمع" (1/60).
(1) تقدم تخريجه ص 210
(2) رواه البخاري / كتاب فضائل الصحابة/ باب مناقب المهاجرين، ومسلم / كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل أبي بكر الصديق.
(1) تقدم تخريجه ص .
(1) هو محمد بن نوح المضروب: العجلي أحد المشهورين بالسنة، أثنى عليه الإمام أحمد ابن حنبل وامتحن في مسألة خلق القرآن وأخرج من بغداد ومات في طريق خروجه سنة 218-هـ. أنظر: تذكرة الحفاظ 3-826، وسير أعلام النبلاء 15-34 .
(1) أخرجه ابن ماجه/ كتاب الفتن/ باب ذهاب القرآن والعلم.
(2) البخاري/ كتاب الحج/ باب قوله تعالى: "جعل الله الكعبة الحرام . . . " ، ومسلم / كتاب الفتن / باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل . . ." .
(1) رواه البخاري/ كتاب نزول النبي ، صلى الله عليه وسلم الحجر، ومسلم / كتاب الحج/ باب أحد جبل يحبنا ونحبه.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب "فأما من أعطى واتقى" ، ومسلم / كتاب القدر / باب كيفية الخلق الآدمي.(114/142)
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان / باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم.
(1) رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب قوله تعالى { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } ، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب قوله "يقول الله لآدم اخرج بعث النار".
(2) رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب من نوقش الحساب عذب، ومسلم/ كتاب الزكاة [2016].
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص20، وأبو داود (3892).
(1) سبق تخريجه ص290
(2) رواه البخاري/ كتاب المغازي/ باب بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن، ومسلم/ كتاب الزكاة.
(1) سبق تخريجه ص 345
(1) رواه البخاري / كتاب فضائل الصحابة، ومسلم /كتاب فضائل الصحابة.
(1) رواه البخاري/ كتاب فضائل الصحابة، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب تحريم سب الصحابة.
(1) رواه أبو داود ( 1678) ، والترمذي (3675) ، وقال: " حديث حسن صحيح" .
(2) رواه البخاري/ كتبا مناقب الأنصار / باب هجرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابة إلي المدينة، ومسلم / كتاب فضائل الصحابة.
(1) رواه البخاري/ كتاب المغازي / باب غزوة الحديبية.
(1) رواه البخاري/ كتاب المغازي / باب قتل أبي جهل.
(2) رواه البخاري/ كتاب الجهاد/ باب الجاسوس. ومسلم (2949).
(1) رواه البخاري/ كتاب المغازي/ باب غزوة الحديبية، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة.
(2) رواه البخاري/ كتاب الشروط / باب الشرط في الجهاد.
(1) " فتح الباري " ( 7/448).
(2) رواه البخاري/ كتاب المغازي/ باب غزوة الحديبية.
(1) وراه أحمد (1/187، 188 ، 189)، وأبو داود ( 4649) ، والترمذي (3748)
(1) رواه البخاري/ كتاب المناقب، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب مخافة المؤمن أن يحيط عمله.
(2) رواه البخاري/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضل أبي بكر بعد النبي صلي الله عليه وسلم.
(3) رواه البخاري/ كتاب فضائل الصحابة.
(1) رواه مسلم / كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل على بن أبي طالب رضي الله عنه.(114/143)
* رواه مسلم / كتاب الفضائل/ باب فضل نسب النبي صلي الله عليه وسلم.
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الوحي، ومسلم / كتاب الإيمان / باب بدء الوحي.
(1) رواه البخاري / كتاب مناقب الأنصار.
(1) رواه البخاري/ كتاب الاعتصام، ومسلم / كتاب الأقضية.
(1) تقدم تخرجه ص 617.
(2) رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب التعاون في بناء المسجد. ومسلم / كتاب الفتن.
(3) رواه الإمام أحمد في " المسند " (3/198) ، والترمذي (2499).
(1) حديث الإفك، رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في حديث الإفك.
(1) سبق تخريجه ص 597.
(2) سبق تخريجه ص 588.
(3) سبق تخريجه ص 591.
(1) تقدم تخريجه ص 588.
(1) تقديم تخريجه ص 588.
(2) رواه البخاري/ كتاب فضائل الصحابة.
(1) فتح الباري: (6/7) .
(1) الإصابة في تمييز الصحابة (4/261).
(1) البداية والنهاية ( 7/131).
(2) البخاري/ كتاب الأنبياء/ باب حدث الغار، ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء.
(3) البخاري/ كتاب فضائل القرآن، ومسلم / كتاب صلاة المسافرين.
(4) البخاري/ كتاب مواقيت الصلاة، ومسلم/ كتاب الأشرية.
1) رواه البخاري/ كتاب الفتن/ باب لا يدخل الدجال المدينة. ومسلم/ كتاب الفتن/ باب في صفة الدجال.
(2) انظر جـ 7 ص 135 من هذا الكتاب.
(1) رواه الترمذي ( 3895) ، والدارمي (2177) ، وابن ماجه (1977) .
1) كما رواه الإمام أحمد في " المسند " (3/366).
(1) رواه مسلم / كتاب اللباس / باب كراهة القزع.
(1) أخرجه البخاري/ كتاب الجمعة / باب الآذان يوم الجمعة.
(1) (1) رواه الإمام أحمد ( 4-126)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (43).
(1) رواه البخاري/ كتاب صلاة التراويح/ باب فضل من قام رمضان.
(2) البخاري/ كتاب التهجد، ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين.
(1) رواه مسلم/ كتاب الزكاة/ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.
(1) رواه مسلم / كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة.(114/144)
(1) رواه الترمذي( 3/207)، وابن ماجه ( 2/1303).
(1) رواه أبو داود ( 4336) ، وابن ماجه (4006).
(1) رواه البخاري/ كتاب الجمعة / باب من جاء والإمام يخطب، ومسلم / كتاب الجمعة/ باب التحية والإمام يخطب.
(1) رواه البخاري/ كتاب الفتن، ومسلم/ كتاب الإمارة / باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول.
(2) رواه مسلم / كتاب الإمارة.
(3) رواه البخاري / كتاب الفتن / باب " سترون بعدي أمور تنكرونها… " ، ومسلم / كتاب الحدود.
(1) (1) رواه البخاري/ كتاب المغازي/ باب بعث أبي موسي ومعاذ إلي اليمن، ومسلم/ كتاب الجهاد.
(1) رواه مسلم / كتاب الإيمان.
(1) رواه البخاري/ كتاب الإيمان / باب ( الدين النصيحة ) ، ومسلم / كتاب الإيمان .
(2) البخاري/ كتاب الإيمان، ومسلم / كتاب الإيمان.
(1) رواه البخاري/ كتاب الجنائز باب زيارة القبور، ومسلم/ كتاب الجنائز.
(1) رواه البخاري/ كتاب الجنائز/ باب ما ينهي من الويل، ومسلم/ كتاب الإيمان.
(1) رواه البخاري/ كتاب المغازي، ومسلم/ كتاب الإيمان.
(2) (2) رواه أحمد / (2/ 250)، والترمذي (2612)، وأبو داود (4682) .
(1) رواه البخاري/ كتاب الإدب/ باب ليس الواصل بالمكافىء.
(2) رواه البخاري (2558) / كتاب البر والصلة.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم / كتاب البر والصلة.
(2) رواه البخاري/ كتاب الأدب / باب البر والصلة، ومسلم / كتاب الإيمان.
(1) البخاري/ كتاب الأدب/ باب فضل صلة الرحم، ومسلم / كتاب البر والصلة.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب / باب حق الضيف، ومسلم / كتاب الإيمان.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب الوصاة بالجار، ومسلم/ كتاب البر والصلة.
(2) رواه البخاري/ كتاب الإدب/ باب إثم من لا يأمن من جاره بوائقه.
(1) رواه مسلم/ كتاب فضائل الصحابة.
(1) رواه البخاري/ كتاب الحج / باب الخطية أيام مني، ومسلم / كتاب القسامة.(114/145)
(1) (1) رواه الإمام أحمد جـ 4 ص 102، وأبو داود [ 4597].
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ ومسلم / كتاب البر والصلة.
(1) رواه البخاري/ لكامل الأعتصام، مسلم / كتاب الإمارة.
(1) رواه مسلم/ كتاب البر والصلة.
(2) رواه البخاري/ كتاب التوحيد، ومسلم / كتاب الألفاظ.
(3) رواه مسلم / كتاب الإيمان(114/146)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الأول / أ
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : كتاب التوحيد.
لم يذكر في النسخ التي بأيدينا خطبة للكتاب من المؤلف ، فإما أن تكون سقطت من النساخ وإما أن يكون المؤلف اكتفى بالترجمة لأنها عنوان على موضوع الكتاب وهو التوحيد ، وقد ذكر المؤلف في هذه الترجمة عدة آيات.
والكتاب بمعنى : مكتوب أي مكتوب بالقلم ، أو بمعنى مجموع من قولهم: كتيبة وهي المجموع من الخيل .
والتوحيد في اللغة : مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحداً ؛ فهو مصدر وحد يوحد ؛ أي : جعل الشيء واحداً . وفي الشرع : إفراد الله ـ سبحانه ـ بما يختص به من الربوبية والألوهية والسماء والصفات .
* أقسامه : ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ توحيد الربوبية. 2ـ توحيد الألوهية. 3ـ توحيد الأسماء والصفات.
وقد اجتمعت في قوله تعالى : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم:65)
* القسم الأول : توحيد الربوبية:
هو إفراد الله – عز وجل - بالخلق، و الملك، و التدبير.
فإفراده بالخلق : أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله ، قال تعالي : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر)( الأعراف: من الآية54) فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، وقال تعالى : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)(فاطر: من الآية3) فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله ، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.(115/1)
أما ما ورد من إثبات خلق غير الله ؛ كقوله تعالى : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(المؤمنون: من الآية14) وكقوله صلى الله عليه وسلم في المصورين : يقال لهم أحيوا ما خلقتم) (1) 0
فهذا ليس خلقاً حقيقة ، وليس إيجاداً بعد عدم ، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال ، وأيضاً ليس شاملاً ، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه ، ومحصور بدائرة ضيقة ؛ فلا ينافي قولنا : إفراد الله بالخلق.
وأما إفراد الله بالملك :
فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم ؛ كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) (آل عمران:189) وقال تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)(المؤمنون: من الآية88).
وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله ؛ كقوله تعالى : (إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)(المؤمنون:6) وقال تعالى : (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ )(النور: من الآية61) فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئاً يسيراً من هذه المخلوقات ؛ فالإنسان يملك ما تحت يده ، ولا يملك ما تحت يد غيره ، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف ؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك ، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعاً ، فمثلاً : لو أراد أن يحرق ماله أو يعذب حيوانه ؛ قلنا : لا يجوز ، أما الله ـ سبحانه ـ ؛ فهو يملك ذلك كله ملكاً عاماً شاملاً.
وأما إفراد الله بالتدبير :(115/2)
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده ؛ كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(يونس:31).
وأما تدبير الإنسان ؛ فمحصور بما تحت يده ومحصور بما أذن له فيه شرعاً. وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل كانوا مقرين به ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(الزخرف:9) فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر ، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم ؛ فلم يقل أحد من المخلوقين : إن للعالم خالقين متساويين.
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية ، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون ؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة ؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده ، قال تعالى حكاية عنه : (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعات:24) ، (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)(القصص: من الآية38). وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره ؛ كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(النمل: من الآية14)، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)(الاسراء: من الآية102) ؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله ـ عز وجل ـ .(115/3)
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس ، حيث قالوا : إن
للعالم خالقين هما الظلمة والنور ، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين ، فهم يقولون : إن النور خير من الظلمة ؛ لأنه يخلق الخير ، والظلمة تخلق الشر ، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضاً فإن الظلمة بفرق ثالث ، وهو : أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة : هل هي قديمة ، أو محدثة ؟ على قولين.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد :
قال الله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)(المؤمنون: من الآية91) ، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين ؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك ؛ إذ لا يرضى أن يشاركه أحد ، وإذا استقل به ؛ فإنه يريد أيضاً أمراً آخر ، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد.
وحينئذ إذا أرادا السلطان ؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر ، أو يسيطر أحدهما على الآخر ؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له ، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعاً ؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون رباً.
القسم الثاني : توحيد الألوهية :
ويقال له : توحيد العبادة باعتبارين ؛ فباعتبار إضافته إلى الله يسمى : توحيد الألوهية ، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
وهو إفراد الله ـ عز وجل ـ بالعبادة.
فالمستحق للعبادة هو الله تعالى ، قال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل)(لقمان: من الآية30).
والعبادة تطلق على شيئين :
الأول : التعبد: بمعنى التذلل لله ـ عز وجل ـ بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيماً .(115/4)
الثاني : المتعبد به ؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
مثال ذلك : الصلاة ؛ ففعلها عبادة ، وهو التعبد ، ونفس الصلاة عبادة ، وهو المتعبد به.
فإفراد الله بهذا التوحيد : أن تكون عبداً لله وحده تفرده بالتذلل ؛ محبة وتعظيماً ، وتعبده بما شرع ، قال تعالى:(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(الاسراء:22) وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الفاتحة:2) ؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(البقرة: من الآية21) ؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلهاً تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد ، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميماً تدعوه وتعبده ، وهو بحاجة إلى دعائك ، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه ؛ فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ؛ فكيف يملكه لغيره ؟!
وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق ، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل،
وأنزل عليهم الكتب ، قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الانبياء:25).
ومع هذا ؛ فأتباع الرسل قلة ، قال عليه الصلاة والسلام : (فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد) (1) .
* تنبيه :(115/5)
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية ، وكأنما يخاطبون أقواماً ينكرون وجود الرب ـ وإن كان يوجد من ينكر الرب ـ ، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة !!
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون ، وهم مشركون ، ولا يعلمون.
القسم الثالث : توحيد الأسماء والصفات :
وهو إفراد الله ـ عز وجل ـ بما له من الأسماء والصفات.
وهذا يتضمن شيئين :
الأول : الإثبات ، وذلك بأن نثبت لله ـ عز وجل ـ جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الثاني : نفي المماثلة ، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته ؛ كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) . فدلت الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من
المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى ، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه ؛ فهو معطل ، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون ، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.(115/6)
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة ؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل ، فعطل ، ونفى الصفات زاعماً أنه منزه لله ، وقد ضل ؛ لأن المنزه حقيقة هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب ، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاَ ، فإذا قال : بأن الله ليس له سمع ، ولا بصر ، ولا علم ، ولا قدرة ؛ لم ينزه الله ، بل وصمه بأعيب العيوب ، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل ؛ لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته ، (سميع بصير) ، (عزيز حكيم) ، (غفور رحيم) ، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه ؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله ـ عز وجل ـ ، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعماً بأنه محقق لما وصف الله به نفسه ، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره ؛ إذ وصموه بالعيب والنقص ؛ لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره ؛ كما قيل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص ؟! هذا أعظم ما يكون جناية في حق الله ـ عز وجل ـ ، وإن كان المعطوف أعظم جرماً ، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
فالواجب:أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه وغيره من أهل العلم.
فالتحريف في النصوص ، والتعطيل في المعتقد ، والتكييف في الصفة ، والتمثيل في الصفة ، إلا أنه أخص من التكييف ؛ فكل ممثل مكيف ، ولا عكس ، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.(115/7)
ونعني بالتحريف هنا : التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات ؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل ، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه ؛ لأن النفوس تنفرد من كلمة تحريف ، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس ، حتى لا ينفروا منه.
وحقيقة تأويلهم : التحريف : التحريف ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح ؛ فليس تأويلاً بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل ؛ فهو تحريف ، وتغيير للكلم عن مواضعه ؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة ، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف ؛ قد ضلوا ، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة ؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة ، فأهل السنة منتسبون للسنة ؛ لأنهم متمسكون بها ، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
وأيضاً الجماعة في الأصل : الاجتماع ، وهم غير مجتمعين في آرائهم ففي كتبهم التداخل ، والتناقض ، والاضطراب ، حتى إن بعضهم يضلل بعضاً ، ويتناقض هو بنفسه.
وقد نقل شارح (الطحاوية) عن الغزالى ـ وهو ممن بغل ذروة علم الكلام ـ كلاماً إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل ، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
وقال الرازي وهو من رؤسائهم :
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(115/8)
ثم قال : لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً ، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه:5) ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(فاطر:من الآية10) ؛ يعني:فأثبت، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(الشورى: من الآية11) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه: من الآية110) ؛ يعني : فأنفي المماثلة ، وأنفي الإحاطة به علماً ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فتجدهم حيارى مضطربين ، ليسوا على يقين من أمرهم ، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئناً منشرح الصدر ، هادئ البال ، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات ؛ فيثبت ؛ إذا لا أحد أعلم من الله بالله ، ولا أصدق خبراً من خبر الله ، ولا أصح بياناً من بيان الله ؛ كما قال تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)(النساء: من الآية26) (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(النساء: من الآية176) ، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً)(النحل: من الآية89) ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(النساء: من الآية122) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(النساء: من الآية87).
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه ، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة ؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته ، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبداً ؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقاً.(115/9)
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل ؛ لأنه إذا كان عاجزاً عن تصور نفسه التي بين جنبيه ؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه ، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ (لم) و (كيف) فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته ، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً ، وهذه حال السف رحمهم الله ، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال : يا أباعبدالله ! (الرحمن على العرش استوى) ، كيف استوى ؟ فأطرق برأسه وقال : (الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعاً).
أما في عصرنا الحاضر ؛ فنجد من يقول : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة ، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا ؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض ؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر ، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم ، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن ؛ لبينه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يقيض من يسأله عنه فيجاب ، كما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين كان الله قبل أن يخلق السماوات
والأرض ؛ فأجابهم (1) .
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
والجواب عن الإشكال في حديث النزول (2) : أن يقال : ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً ؛ فالنزول فيها محقق ، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف ، والله ـ عز وجل ـ ليس كمثله شيء ، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.
وعلينا أن نستسلم ، وأن نقول : سمعنا ، وأطعنا ، واتبعنا ، وأمنا ؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.
* * *(115/10)
وقول الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الأولى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
قوله (إلا ليعبدون) استثناء مفرغ من أعم الأحوال ؛ أي : ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.
واللام في قوله : (إلا ليعبدون) للتعليل ، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول ؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عباداً يتعبدون له ، وليس الأمر كذلك ، فهذه العلة غائية ، وليست موجبة.
فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل ، لكنها قد تقع ، وقد لا تقع، مثل : بريت القلم لأكتب به ؛ فقد تكتب ، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها : أن المعلول مبني عليها ؛ فلابد أن تقع ، وتكون سابقة للمعلول ، ولازمة له ، مثل انكسر الزجاج لشدة الحر.
قوله : (خلقت) ؛ أي : أوجدت ، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير ، وأصل الخلق التقدير.
قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله : (الجن) : هم عالم غيبي مخفي عنا ، ولهذا جاءت المادة من الجيم
...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنون ، وهما يدلان على الخفاء والاستتار ، ومنه : الجَنة ، والجِنة ، والجُنة.
قوله : (الإنس) سموا بذلك ؛ لأنهم لا يعيشون بدون إيناس ؛ فهم يأنس بعضهم ببعض ، ويتحرك بعضهم إلى بعض.
قوله : (إلا ليعبدون) فسر : إلا ليوحدون ، وهذا حق ، وفسر : بمعنى يتذللون لي بالطاعة فعلاً للمأمور ، وتركاً للمحظور ، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.(115/11)
ولهذا أعطي الله البشر عقولاً ، وأرسل إليهم رسلاً ، وأنزل عليهم كتباً ، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم ؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت ، ونمت، وتحطمت ، ولهذا قال تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)(القصص: من الآية85)؛ فلابد أن يردك إلى ميعاد تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله ، ولهذا قال تعالى : (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)(الذريات:57) .
وأما قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ)(البقرة: من الآية245).
فهذا ليس إقراضاً لله سبحانه ، بل هو غني عنه ، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض ؛ لأنه لابد من وفائه ، فكأنه التزام من الله سبحانه أن يوفي العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(النحل: من الآية36) .
* الآية الثانية قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت)(النحل: من الآية36).
قوله (ولقد) : اللام موطأة لقسم مقدر ، وقد : للتحقيق.
وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر ، واللام ، وقد.
قوله : (بعثنا) ؛ أي : أخرجنا ، وأرسلنا في كل أمة.
والأمة هنا : الطائفة من الناس.
وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معان :
أ ـ الطائفة : كما في هذه الآية.
ب ـ الإمام، ومنه قوله تعالى:(إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله)(النحل: 120).
ج ـ الملة:ومنه قوله تعالى:(إنا وجدنا آباءنا على أمة)(الزخرف : 23).(115/12)
د ـ الزمن : ومنه قوله تعالى : (وأدكر بعد أمة)(يوسف : 45)0
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
* والحكمة من إرسال الرسل :
أ ـ إقامة الحجة : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
.............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(النساء: من الآية165) .
ب ـ الرحمة : لقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107).
ج ـ بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى ؛ لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على وجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله : (أن اعبدوا الله) (أن) : قيل : تفسيرية ، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه ؛ كقوله تعالى : (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ) (المؤمنون: من الآية27) ، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي ؛ لأن كل رسول موحي إليه.
وقيل : إنها مصدرية على تقدير الباء ؛ أي : بأن اعبدوا ، والراجح: الأول ؛ لعدم التقدير.
قوله : (أن اعبدوا الله) أي : تذللوا له بالعبادة ، وسبق تعريف العبادة (1) .
قوله : (واجتنبوا الطاغوت) أي : ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب ، والطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو صفة مشبهة ، والطغيان : مجاوزة الحد ؛ كما في قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)(الحاقة:11) ؛ أي : تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه : (ما تجاوز به العبد حده من متبوع ، أو معبود ، أو مطاع).
ومراده من طان راضياً بذلك ، أو يقال : هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه ،(115/13)
.................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومطيعه ، لأنه تجاوز به حده حيث نزله فوق منزلته التي جعلها الله له ، فتكون عبادته لهذا المعبود ، واتباعه لمتبوعه ، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبرع مثل : الكهان ، والسحرة ، وعلماء السوء0
والمبعود مثل : الأصنام0
والمطاع مثل : الأمراء الخارجين عن طاعة الله ، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له ، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له ؛ فهؤلاء طواغيت ، والفاعل تابع للطاغوت ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(النساء: من الآية50) ، ولم يقل : إنهم طواغيت .
ودلالة الآية على التوحيد : أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله.
والتوحيد لا يتم إلا بركنين ، هما :
1 ـ الإثبات0
2 ـ النفي 0
إذ النفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة0
مثال ذلك : زيد قائم ، يدل على ثبوت القيام لزيد ، لكن لا يدل على انفراده به.
ولم يقم أحد ، هذا نفي محض.
ولم يقم إلا زيد ، هذا توحيد له بالقيام ؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
قوله : (الآية) أي : إلى آخر الآية ، وتقرأ بالنصب ؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية ، أو أنها منصوب بنزع الخافض ؛ أي : إلى آخر الآية.
ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد : أنها دالة على إجماع الرسل
وقوله تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الاسراء: من الآية23)
عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد ، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى : (أن اعبدوا واجتنبوا الطاغوت).(115/14)
* * *
* الآية الثالثة قوله تعالى : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه …) الآية .
قوله : (قضى) قضاء الله ـ عز وجل ـ ينقسم إلى قسمين :
1 ـ قضاء شرعي. 2ـ قضاء كوني.
فالقضاء الشرعي : يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه ، ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
مثال ذلك : هذه الآية : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(الإسراء: 23) ؛ فتكون قضى بمعنى : شرع ، أو بمعنى : وصى ، وما أشبههما.
والقضاء الكوني : لابد من وقوعه ، ويكون فيما أحبه الله ، وفيما لا يحبه.
مثال ذلك : قوله تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً)(الاسراء:4) فالقضاء هنا كوني : لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض ، ولا يحبه.
قوله : (أن لا تعبدوا) . (أن) هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله ؛ فمفعوله ما بعد إلا.
قوله : (إلا إياه) ضمير نصب منفصل واجب الانفصال ؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا ، قال ابن مالك :
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذو اتصال منه ما لا يبتدأ ولا يلي إلا اختياراً أبدا
* إشكال وجوابه :
إذا قيل : ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه ؛ فكيف يقضي الله ما لا
يحبه ؟
فالجواب : أن المحبوب قسمان :
1 ـ محبوب لذاته.
2 ـ محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته ، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة ؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه ، مكروهاً من وجه آخر.(115/15)
مثال ذلك : الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله ؛ لأن الله لا يحب الفساد ، ولا المفسدين ، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله ـ عز وجل ـ من وجه آخر.
ومن ذلك : القحط ، والجدب ، والمرض ، والفقر ، لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك ، بل يريد بعباده اليسر ، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه ؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه ، مكروهاً من وجه آخر.
قال الله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41).
فإن قيل : كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه مكروهاً من وجه آخر ؟
فيقال : هذا الإنسان المريض يعطي جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة واللون ، فيشربها ، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة ، ويحبها لما فيها من الشفاء ، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار ، ويتألم منها ؛ فهذا الألم مكروه له من وجه ، محبوب من وجه آخر.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل : لماذا لم يكون قوله (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) من باب القضاء القدري ؟
أجيب : بأنه لا يمكن ؛ إذ لو كان قضاء قدرياً لعبد الناس كلهم ربهم ، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع.
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، لكن قال : (وقضى ربك أن لا تبعدوا إلا إياه) ، ولم يقل : (أن لا تعبد) ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ )(الطلاق: من الآية1) ؛ فالخطاب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم والثاني عام ؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب ؟
أجيب : إن الفائدة من ذلك :(115/16)
1 ـ التنبيه ؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم ، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب.
2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم أمته ، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة.
3 ـ الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو له ولأمته ؛ إلا ما دل الدليل على أنه مختص به.
4 ـ وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مربوب لا رب، عابد لا معبود ؛ فهو داخل في قوله : (تعبدوا) ، وكفى به شرفاً أن يكون عبداً لله ـ عز وجل ـ ، ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته ؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)(البقرة: من الآية23) ، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ )(الفرقان: من الآية1) ، وقال في مقام الإسراء والمعراج (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)(الإسراء: من الآية1) ، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)(لنجم:10).
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أقسام العبودية :
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام :
1ـ عامة ، وهي عبودية الربوبية ، وهي لكل الخلق ، قال تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)(مريم:93) ، ويدخل في ذلك الكفار.
2ـ عبودية خاصة ،وهي عبودية الطاعة العامة ، قال تعالى : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً )(الفرقان: من الآية63) ، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه0(115/17)
3ـ خاصة الخاصة ، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام ، قال تعالى عن نوح : (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(الاسراء: من الآية3) ، وقال عن محمد : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)(البقرة: من الآية23) ، وقال في آخرين من الرسل : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)(صّ:4).
فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة ؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.
قوله : (وبالوالدين إحساناً) أي : قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحساناً.
والوالدان : يشمل الأم ، والأب ، ومن فوقهما ، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان بذل المعروف، وفي قوله : (وبالوالدين إحساناً) بعد قوله : (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله ـ عز وجل ـ.
فإن قيل : فأين حق الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
اجيب : بأن حق الله متضمن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(النساء: من الآية36).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف) أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: (إحساناً): بذل المعروف، وفي قوله ( فلا تقل لهما أف): كف الأذى، ومعنى (أف): أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذيان بذلك ، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئاً على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول.(115/18)
قوله: (وقل لهما قولاً كريماً)، أي: ليناً حسناً بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، ابشري يا أمي: أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول مثلاً ، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما.
والشاهد من هذه الآية : قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا إياه): فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.
* * *
* الآية الرابعة قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شئياً..) الآية. (ولا تشركوا) في مقابل (لا إله)؛ لأنها نفي.
وقوله: (واعبدوا) في مقابل (إلا الله)؛ لأنها إثبات
وقوله: (شيئاً) نكرة في سياق النهي؛ فتعم كل شيء: لا نبياً، ولا ملكاً،
ولا ولياً، بل ولا أمراً من أمور الدنيا؛ فلا تجعل الدنيا شريكاً مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابداً لها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار ،
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) (1) .
قوله: (وبالوالدين إحساناً) يقال فيها ما قيل في الآية السابقة (2) .
قوله: (وبذي القربى واليتامى والمساكين)؛ أي: إحساناً.
وذو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع؟
واليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ.
والمساكين: هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر.
وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة.
قوله: (والجار ذي القربى والجار الجنب) الجار: الملاصق للبيت، أو من حوله، وذي القربى؛ أي: القريب، والجار الجنب؛ أي: الجار البعيد.
قوله: (والصاحب بالجنب) ، قيل : إنه الزوجة، وقيل : صاحبك في السفر؛ لأنه يكون إلى حنبك، ولكل منهما حق؛ فالآية صالحة لهما.
قوله: (وما ملكت أيمانكم) هذا يشمل الإحسان إلى الأرقاء والبهائم؛ لأن الجميع ملك اليمين.(115/19)
قوله: (إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً).
المختال: في هيئته.
والفخور: في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا.
* * *
وقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(الأنعام: من الآية151) الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الخامسة إلى السابعة قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم...).
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمره الله أن يقول للناس: (تعالوا)؛ أي أقبلوا،
وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعالى؛ أي أرتفع إلي.
وقوله: (أتل) بالجزم جواباً للأمر في قوله: (تعالوا).
وقوله: (ما حرم ربكم عليكم) (ما) اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم.
وقال: (ربكم) ولم يقل: ما حرم الله؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته,
قوله: (ألا تشركوا) أن تفسيرية، تفسر (أتل ما حرم)؛ أي: أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون ( لا) زائدة، ولكن القول الأول أصح؛ أي: أتل عليكم عدم الإشراك؛ لأن الله لم يحرم علينا ألا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، ومما يؤيد أن (أن) تفسيرية أن (لا) هنا ناهية لتتناسب الجمل؛ فتكون كلها طلبية.
قوله: (وبالوالدين إحساناً)، أي: وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
قوله: (ولا تقتلوا أولادكم)، بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع.
والأولاد في اللغة العربية: يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى: ( يُوصِيكُمُ
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/20)
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن)(النساء: من الآية11)0
قوله: (من إملاق) ، الإملاق : الفقر، و(من) للسببية والتعليل؛ إي: بسبب الإملاق.
قوله: (نحن نرزقكم وإياهم)، أي: إذا أبقيتموهم؛ فإن الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم؛ لأن الذي يقوم بالرزق هو الله.
وبدأ هنا برزق الوالدين ، وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد ، والحكمة في ذلك أنه قال هنا: (من إملاق)؛ فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين الذين أملقا، وهناك قال: (خشية إملاق)(الإسراء:31)؛ فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين.
وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناءً على واقع المشركين غالباً؛ فلا مفهوم له.
قوله: (ولا تقربوا الفواحش)، لم يقل: لا تأتوا؛ لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان؛ لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم؛ لأن ذلك يقرب من الفواحش.
قوله: (ما ظهر منها وما بطن)، قيل : ما ظهر فحشه، وما خفي؛ لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء.
وقيل: ما أظهرتموه، وما أسررتموه؛ فالإظهار: فعل الزنا ـ والعياذ بالله ـ مجاهرة، والإبطان فعله سراً.
وقيل: ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك؛ لأن الفواحش ليست على
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حد سواء، ولهذا جاء في الحديث : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) (1) ، وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك.
قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، النفس التي حرم الله: هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمِن؛ بكسر الميم.(115/21)
والحق: ما أثبته الشرع.
والباطل: ما نفاه الشرع.
فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج عن الجماعة، أو يقطع الطريق؛ فإنه يقتل، قال صلى الله عليه وسلم : (لا يحل دم أمريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)(2) .
وقال هناك: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، وقال قبلها: (ولا تقتلوا أولادكم)؛ فيكون النهي عن قتل الأولاد مكرراً مرتين: مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم.
وقوله: (ذلكم وصاكم به) ، المشار إليه ما سبق ، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال: وصيته على فلان؛ أي: عهدت به إليه ليهتم به.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تعقلون)، العقل هنا: حسن التصرف، وأما في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(الزخرف:3)؛ فمعناه: تفهمون.
وفي هذا دليل على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان؛ فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها؛ فهو سفيه ليس بعاقل.
وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا:
الأول : توحيد الله.
الثانية : الإحسان بالوالدين.
الثالثة : أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة : أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة: أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
قوله : (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحس) ، قوله : (ولا تقربوا) هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن؛ فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحاً؛ فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحاً لأنه أحسن.(115/22)
والحسن هنا يشمل: الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحاً وفيه رباً، والآخر أقل ربحاً وهو أسلم من الربا؛ فنقدم الأخير؛ لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي.
قوله: (حتى يبلغ أشده)، (حتى) هنا: حرف غاية؛ فما بعدها مخالف لما قبلها.
أي: إذا بلغ أشده؛ فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى أشده: قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمس عشرة سنة، أو إنبات العانة أو الإنزال.
قوله: (وأوفوا الكيل والميزان) ، أي : أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب.
وأوفوا الميزان : إذا وزنتم فيما يوزن؛ كاللحوم مثلاً.
والأمر بالإيفاء شامل لجميع ما تتعامل به مع غيرك؛ فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل.
قوله: (بالقسط)، أي: بالعدل، ولما كان قوله: (بالقسط) قد يشق بعض الأحيان؛ لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحياناً ، أعقب ذلك بقوله: (لا نكلف نفساً إلا وسعها)؛ أي: طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص؛ فلا يعد مخالفاً؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، كما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع؛ فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن متى تبين الخطأ وجب تلافيه لأنه داخل في الوسع.(115/23)
قوله: (وإذا قلتم فاعدلوا) ، معناه : أي قول تقوله ؛ فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك ، أو لغيرك على نفسك ، أو لغيرك على غيرك ، أو لتحكم بين اثنين ؛ فالواجب العدل؛ إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل؛ فلا تمل يميناً ولا شمالاً ، ولم يقل هنا : (لا نكلف نفساً إلى وسعها)؛ لأن القول لا يشق فيه العدل غالباً.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولو كان ذا قربى)، أي المقول له ذا قرابة؛ أي: صاحب قرابة؛ فلا تحابيه لقرابته ، فتميل معه على غيره من أجله؛ فاجعل أمرك إلى الله ـ عز وجل ـ الذي خلقك ، وأمرك بهذا وإليه سترجع، ويسألك ـ عز وجل ـ ماذا فعلت في هذه الأمانة.
وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر؛ محمد صلى الله عليه وسلم وقال: (وايم الله ؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ؛ لقطعت يدها) (1) .
قوله: (وبعهد الله أوفوا)، قدم المتعلق؛ للاهتمام به، وعهد الله: ما عهد به إلى عباده ، وهي عبادته سبحانه وتعالى والقيام بأمره؛ كما قال عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً)(المائدة: من الآية12) ، هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)(المائدة: من الآية12)، هذا من جانب الله ـ عز وجل ـ .
قوله : (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) ، هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق عز وجل :(115/24)
الأولى : أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية : أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة : أن نعدل إذا قلنا.
...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة: أن نوفي بعهد الله.
والآية الأولى فيها خمس وصايا . صار الجميع تسع وصايا.
ثم قال عز وجل : (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)، هذه هي الوصية العاشرة ؛ فقوله : (وأن هذا صراطي) يحتمل أن المشار إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملته وجدته محيطاً بالشرع كله ؛ وإما إيماء ، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله ؛ أي : هذا الذي جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو صراطي ؛ أي : الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى.
والصراط يضاف إلى الله ـ عز وجل ـ ويضاف إلى سالكه؛ ففي قوله تعالى: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)(الشورى:من الآية53) هنا أضيف إلى الله ـ عز وجل ـ؛ فإضافته إلى الله ـ عز وجل ـ لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده ـ جل وعلا ـ ، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه.
قوله : (مستقيماً) ، هذه حال من (صراط) ؛ أي : حال كونه مستقيماً لا اعوجاج فيه فاتبعوه.
قوله : (ولا تتبعوا السبيل فتفرق بكم عن سبيله) السبل ؛ أي: الطرق الملتوية الخارجة عنه.
وتفرق: فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية ، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها: (تتفرق)، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت.(115/25)
قال ابن مسعود : (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ؛ فليقرأ قوله تعالى : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً… ) إلى قوله : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) (المائدة: من الآية16) الآية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا قال : (السبل): جمع سبيل ، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال: (سبيله) سبيل واحد ؛ لأن سبيل الله ـ عز وجل ـ واحد ، وأما ما عداه ؛ فسبل متعددة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار ؛ إلا واحدة) ؛ فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة ، ولا يرد على هذا قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ )(المائدة: من الآية16) ؛ لأن (سبل) في الآية الكريمة ؛ وإن كانت مجموعة ؛ لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية ، ويكون المراد بها شرائع الإسلام.
وقوله : (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) ، أي ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى ، والالتزام بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
* * *
* قوله : قال ابن مسعود: (من أراد...) إلخ . الاستفهام هنا للحث والتشويق ، واللام في قوله : (فليقرأ) للإرشاد.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/26)
قوله : (وصية محمد صلى الله عليه وسلم ) ، أي : رسول الله محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم ، وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله ، مثل : قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصية محمد صلى الله عليه وسلم , ولا ينافي قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )(النور: من الآية63) ؛ لأن دعاء الرسول هنا أي : مناداته؛ فلا تقولوا عند المناداة : يا محمد ! ولكن قولوا : يا رسول الله ! أما الخبر ؛ فهو أوسع من باب الطلب ، ولهذا يجوز أن تقول : أنا تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، أو اللهم ! صل على محمد ، وما أشبه ذلك .
قوله : (التي عليها خاتمه) ، الخاتم بمعنى التوقيع .
وقوله : (وصية محمد صلى الله عليه وسلم ) ليست وصية مكتوبة مختوماً عليها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بشيء ، ويدل لذلك : أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب : هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا . والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله تعالى في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قيل : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر (1) .
فلا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة ، لكن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كله ؛ فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقاها لأمته .
وعن معاذ بن جبل ( رضي الله عنه ) ؛ قال : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ، فقال لي : (يا معاذ ! أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ ). قلت : الله و رسوله أعلم . قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/27)
وهي آيات عظيمة ، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها ؛ حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة : العقل ، والتذكر ، والتقوى .
وقوله : (فليقرأ قوله تعالى …) إلخ الآيات سبق الكلام عليها .
* * *
قوله : (رديف) ، بمعنى رادف ؛ أي : راكب معه خلفه؛ فهو فعيل بمعنى فاعل ، مثل : رحيم بمعنى راحم ، وسميع بمعنى سامع.
قوله : (على حمار) ، أي : أهلي ؛ لأن الوحشي لا يركب.
قوله : (أتدري) ، أي : أتعلم.
قوله : (ما حق الله على العباد؟)، أي : ما أوجبه عليهم ، وما يجب أن يعاملوه به ، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال ؛ ليكون أشد حضوراً لقلبه حتى يفهم ما يقول صلى الله عليه وسلم .
قوله (وما حق العباد على الله؟) ، أي: ما يجب أن يعاملهم به ، والعباد لم يوجبوا شيئاً ، بل الله أوجبه على نفسه فضلاً منه على عباده ، قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(الأنعام: من الآية54).
وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) . قلت : يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال : (لا تبشرهم فيتكلوا) . أخرجاه في (الصحيحين) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوءاً بجهالة ؛ أي : بسفه وعدم حسن تصرف ثم تاب من بعد ذلك وأصلح.
ومن كتب ؛ أي : أوجب.
قوله : (قلت: الله ورسوله أعلم) ، لفظ الجلالة الله : مبتدأ ، و(رسوله): معطوف عليه ، وأعلم: خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين؛ لأنه على تقدير : (من)، واسم التفضيل إذا كان على تقدير: (من)؛ فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير.
والمعنى : أعلم من غيرهما ، وأعلم مني أيضاً.
قوله : (يعبدوه) أي : يتذللوا له بالطاعة.(115/28)
قوله : (ولا يشركوا به شيئاً) ، أي : في عبادته وما يختص به ، وشيئاً نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل شيء لا رسولاً ولا ملكاً ولا ولياً ولا غيرهم.
* * *
وقوله : (وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) ، وهذا الحق تفضل الله به على عباده ، ولم يوجبه عليه أحد ، ولا تظن أن قوله : (من لا
...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يشرك به شيئاً) أنه مجرد عن العبادة ؛ لأن التقدير : من يعبده ولا يشرك به شيئاً، ولم يذكر قوله : (من يعبده)؛ لأنه مفهوم من قوله: (وحق العباد) ، ومن كان وصفه العبودية ؛ فلابد أن يكون عابداً.
ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئاً ؛ هل يعذب ؟
الجواب : نعم يعذب ؛ لأن الكلام فيه حذف ، وتقديره : من يعبده ولا يشرك به شيئاً ، ويدل لهذا أمران :
الأول : قوله : (حق العباد) ، ومن كان وصفه العبودية ؛ فلابد أن يكون عابداً.
الثاني : أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم: (أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً) ؛ فعلم أن المراد بقوله : (لا يشركوا به شيئاً) ؛ أي : في العبادة.
قوله : (أفلا أبشر الناس) ، أي : أأسكت فلا أبشر الناس ؟ ومثل هذا التركيب: الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة لعلماء النحو فيه قولان:
الأول : أن بين الهمزة وحرف العطف محذوفاً يقدر بما يناسب المقام ، وتقديره هنا : أأسكت فلا أبشر الناس ؟(115/29)
الثاني : أنه لا شيء محذوف ، لكن هنا تقديم وتأخير ، وتقديره : فألا أبشر؟ فالجملة معطوفة على ما سبق ، وموضع الفاء سابق على الهمزة ؛ فالأصل : فألا أبشر الناس ؟ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكاً ، وهمزة الاستفهام لها الصدارة؛ قدمت على حرف العطف ، ومثل ذلك قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(الغاشية:17) ، وقوله تعالى : (أفلا تُبصرون)(السجدة: 27) ، وقوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض)(الجح:46).
والبشارة : هي الإخبار بما يسر.
وقد تستعمل في الإخبار بما يضر ، ومنه قوله تعالى : (فبشرهم بعذاب
* فيه مسائل :
الأولى : الحكمة في خلق الجن و الإنس . الثانية : أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه .
أليم)(الانشقاق:24) ، لكن الأكثر الأول.
قوله : (لا تبشرهم) ، أي : لا تخبرهم ، ولا ناهية.
ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إخبارهم ؛ لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها ؛ لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي ؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى ، وهذا نوع من الشرك ، قال تعالى :( أفرأيت من أتخذَ إلهه هواه)(الجاثية:23).
ومناسبة الحديث للترجمة : فضيلة التوحيد ، وأنه مانع من عذاب الله.
* * *
المسائل :
* الأولى : الحكمة من خلق الجن و الإنس ، أخذها رحمه الله من قوله تعالى : ( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات :56 )؛ فالحكمة هي عبادة الله لا أن يتمتعون بالمآكل و المشارب و المناكح .
* الثانية : أن العبادة هي التوحيد ، أي : أن العبادة مبنية على التوحيد ؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعباده ، لا سيما أن بعض السلف فسروا قوله
تعالى : (إلا ليعبدون ) : إلا ليوحدون .(115/30)
الثالثة : أن من لم يأت به ؛ لم يعبد الله ؛ ففيه معنى قوله : (ولا أنتم عابدون ما أعبد ) (الكافرون : 3 ) . الرابعة : الحكمة في إرسال الرسل . الخامسة : أن الرسالة عمت كل أمة .
وهذا مطابق تماما لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد ؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة ، قال صلى الله عليه وسلم : ) قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ؛ تركته وشركه ) (1)
وقوله : (لأن الخصومة فيه )، أى : في التوحيد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش ؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون ، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي ؛ فهي كالعدم لعدم الإيتان بالتوحيد ، قال تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ )(التوبة: من الآية54)
* وقوله في الثالثة : ففية معنى قوله : (ولا أنتم عابدون ما أعبد ) ، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك ، فليست بعبادة لله تعالى
* الرابعة : الحكمة في إرسال الرسل ، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(النحل: من الآية36) فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده ، واجتناب عبادة الطاغوت.
* الخامسة : أن الرسالة عمت كل أمة ، أخذها من قوله تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ) (النحل : 36 ).
السادسة : أن دين الأنبياء واحد . السابعة : المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ؛ ففيه معنى قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)(البقرة: من الآية256)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/31)
* السادسة : أن دين الأنبياء واحد ، أخذها من قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل: من الآية36) ، ومثل قولة تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) ، وهذا لا ينافي قوله تعالى ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(المائدة: من الآية48)؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )(الشورى: من الآية13).
* السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت. ودليله قوله تعالى: (واجتنبوا الطاغوت)، فمن عبد الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيراً من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
** تنبيه
لايجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئاً من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلاً، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركاً؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيماناً
الثامنة : أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. التاسعة : عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/32)
واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباعه وانتفاء موانعه.
فإذا رأينا شخصاً يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله؟
الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: (اتقوا الملاعن) (1) أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلاً بالأدب مؤذياً للمسلمين؛ فهذا شيء آخر.
فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
* الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله . فكل ما عبد من دون الله؛ فهو طاغوت، وقد عرفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به البعد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير,
* التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، المحكمات؛
العاشرة : الآيات المحكمات في سورة الإسراء/ وفيها ثماني عشر مسألة، بدأها الله بقوله: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(الاسراء:22) . وختمها بقوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(الاسراء: من الآية39) . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله : (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(الاسراء: من الآية39).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.(115/33)
* العاشرة : الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(الاسراء: من الآية23)، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى : (لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)، وختمها بقوله تعالى : (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً).
وقد نبهنا الله ـ سبحانه ـ على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة).
فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: (لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)، والقاعد ليس قائماً؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموماً عند الله وعند أوليائه، مخذولاً لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة.
وختمها بقوله: ( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُور)(الاسراء: من الآية39)؛فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كل يلومه ويدحره فيندحر و العياذ بالله .
الحادية عشرة : آية سورة النساء التى تسمى آية الحقوق العشرة ، بدأها الله تعالى بقوله : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء: من الآية36) الثانية عشرة : معرفة حق الله علينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة. بدأها بقوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به؛ فبدئت هذه الحقوق به ، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أسلمت على ما أسلفت من الخير) (1) ؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر ، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله.(115/34)
* الثانية عشرة : التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته. وذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2) ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بها حقيقة، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله: فلن نضل بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(الأنعام: من الآية151).
* الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئاً.
الرابعة عشرة : معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة : أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. السادسة عشرة : جواز كتمان العلم للمصلحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. وذلك بأن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، أما من أشرك؛ فإنه حقيق أن يعذب.
* الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذاً أخبر بها تأثماً، أي خروجاً من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثير من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد صلى الله عليه وسلم كتمها مطلقاً؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذاً ولا غيره.
* السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ولم يكتم ذلك مطلقاً، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائز للمصلحة؛ كما كتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتكلوا عليه، وقال لمعاذ: (لا تبشرهم فيتكلوا) (1) .
ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: (بشر الناس أن من قال: لا إله إلا الله(115/35)
السابعة عشرة : استحباب بشارة المسلم بما يسره . الثامنة عشرة : الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خالصاً من قلبه دخل الجنة ) (1).
بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس؛ لأنهم حديثو عهد بكفر (2) .
* السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: (أفلا أبشر الناس؟)، وهذه من أحسن الفوائد.
* الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. وذلك لقوله: (لا تبشرهم فيتكلوا)؛ لأن الاتكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله.
وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: (ينبغي أن يكون سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه)، فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله ، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله.
...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال بعض العلماء: إن كان مريضاً غلب جانب الرجاء، وإن كان صحيحاً غلب جانب الخوف.
وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلب جانب الرجاء, وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة.
ويستدلون بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)(المؤمنون: من الآية60)؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله.(115/36)
وفي قوله: (أفلا أبشر الناس ؟ ) (1) دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسر من أمر الدين والدنيا، ولذلك بشرت الملائكة إبراهيم، قال تعالى: (وبشروه بغلامٍ عليم)(الذاريات:28)، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أهله بابنه إبراهيم، فقال: (ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم) (2)؛ فيؤخذ من أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خير كثير وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر.
وعليه؛ فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لايحدثني أحد عن أحد بشيء؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) (3) .
التاسعة عشرة : قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث فيه ضعف ، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجل بسوء؛ فسيكون في قلبك عليه شيء ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيباً ، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعض قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقة تظهر للعاقل بالتأمل.
* التاسعة عشرة : قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما قالها، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ، حيث عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله بالواو، وأنكر على من قال: (ما شاء الله وشئت)، وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) (1) .
فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ.
بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم منها.
فلو قيل : هل يحرم صوم العيدين؟(115/37)
جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم؛ لأنه من العلوم الكونية.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم أفتتن، قال ابن مسعود: (إنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) (1) ، وقال علي:(حدثوا الناس بما يعرفون) (2)، فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
* الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جاهاً، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعاً، حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب صلى الله عليه وسلم الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقضة في ذلك؛ إذ إن من تواضع لله ـ عز وجل ـ رفعه.
* الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف معاذاً لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
الرابعة والعشرون : فضيلة معاذ بن جبل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسالة. حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وجعلها من الأمور التي يبشر بها.(115/38)
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ رضي الله عنه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بهذا العلم, وأردفه معه على الحمار.
* * *
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي وجوب التوحيد، وأنه لابد منه، وأن معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذريات:56) : أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد.
وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.
ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرون درجة). متفق عليه (1) .
ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك ففيه فضل.
قوله: (وما يكفر من الذنوب) . معطوف على (فضل)؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب؛ لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.
وقوله الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)(الأنعام:82) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمن فوائد التوحيد:
1 ـ أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله ـ سبحانه وتعالى ـ ؛ وعليه فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ المرائي مثلاً؛ فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: (إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو).(115/39)
2 ـ أن الموحدين لهما الأمن وهم متهدون؛ كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(الأنعام:82) .
* * *
قوله: (لم يلبسوا)، أي: يخلطوا.
قوله: (بظلم)، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح ـ يعني لقمان ـ : (إن الشرك لظلم عظيم) ؟ ) (1) .
* والظلم أنواع :
1ـ أظلم الظلم ، وهو الشرك في حق الله.
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2ـ ظلم الإنسان؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3ـ ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم؛ حصل الأمن، لكن هل هو أمن كامل؟
الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملاً لم يخالطه معصية؛ فالأمن أمن مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمان ـ غير كامل ـ فله مطلق الأمن ؛ أي : أمن ناقص.
مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، آمن من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية116).(115/40)
وهذه الآية قالها الله تعالى حكماً بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: (وكيف أخاف ما أشركتم…) إلى قوله:(إن كنتم تعلمون)(الأنعام:81-82) فقال الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم..) الآية (الأنعام:82)، على أنه قد يقول قائل: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)(الأنعام:83).
قوله: (الأمن)، آل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله: (وهم مهتدون) ، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:23) .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من شهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة.
فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم.
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: (أولئك لهم الأمن): إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامة بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للترجمة :
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحداً؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
* * *(115/41)
قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله)، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(الزخرف: من الآية86) ، وهذا العلم قد يكون مكتسباً وقد يكون غريزياً.
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزي، قال صلى الله عليه وسلم : (كل مولود يولد على الفطرة ) (1) .
وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: (أن)، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأ؛ لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخففة يمكن حذفه.
قوله: (لا إله)، أي: لا مألوه ، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيماً ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة.
قوله: (إلا الله)، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5) .
أما قوله تعالى : (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )(هود: من الآية101)؛ فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفي شرعاً، وإذا انتفى شرعاً؛ فهو كالمنتفي وقوعاً؛ فلا قرار له، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)(ابراهيم:26)
وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى (فما أغنت عنهم آلهتهم)(هود:101)، وقوله تعالى حكاية عن قريش: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً)(ص:5)، وبين قوله تعالى: (وما من إله إلا الله)(أل عمران:62)؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعاً، لا تستحق أن تسمى آلهة؛(115/42)
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)(يوسف: من الآية40)
* التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.
والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر؛ لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: (ما لكم من إله غيره)(الأعراف:59)؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله.
ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية؛ لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم؛ فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي(115/43)
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً (1)، وقال الله ـ عز وجل ـ : (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)(الجاثية:23).
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك.
وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع:
1ـ شرك أكبر.
2ـ شرك أصغر.
3ـ معصية كبيرة.
4ـ معصية صغيرة.
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق.
وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: (كل معصية؛ فهي نوع من الشرك).
وقال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص)، ولا يعرف هذا إلا المؤمن ، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص ، ولهذا قيل لابن عباس: (إن اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلب خرب؟!)؛ فالشيطان لا يأتي ليخرب المهدوم، ولكن يأتي ليخرب المعمور، ولهذا لما ًشكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: (وجدتم ذلك؟). قالوا: نعم. قال: (ذاك صريح الإيمان) (2) ؛ أي: أن
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذاك هو العلامة البينة على أن إيمانكم صريح لأنه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.
قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله)، من : شرطية، وجواب الشرط: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).(115/44)
والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم : (نشهد إنك لرسول الله)(المنافقون:1)، وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون: من الآية1) ؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خال من الاعتقاد بالقلب، وخال من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب ، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله: (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله, وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.
قوله: (وحده لا شريك له)، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين يلجئون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمنعك مني؟ قال: (يمنعني الله) (1) ، ولم يقل أصحابي ، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية ؛ لأن الله هو الذي يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النافين للصفات؛ لأن النافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله ـ عز وجل ـ ، حيث قالوا؛ يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.(115/45)
قوله: (وأن محمداً)، محمد: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: (عبده)؛ أي: ليس شريكاً مع الله.
وقوله: (ورسوله)؛ أي: المبعوث بما أوحي إليه؛ فليس كاذباً على الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئاً واحداً، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)(لأعراف: من الآية188) ، وقال تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن:21، 22) .
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(فصلت: من الآية6)،
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، أو أن نوره يطفيء ظله إذا مشى في الشمس ؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح)، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في (البردة) المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئاً ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم(115/46)
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمداً عبد الله ، بل شهد أن محمداً فوق الله ! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد ؟ !
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني) (1) ، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي (المخرف) كلمة المصطفى قاموا جميعاً قيام رجل واحد، يقولون: لان الرسول صلى الله
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه وسلم حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالاً له، والصحابة رضي الله عنهم أشد إجلالاً منهم ومناً، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئاً؛ فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد ! فهؤلاء ما شهدوا أن محمداً عبد الله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين ، إن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، وأتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) (1) وقد غفرله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة,(115/47)
أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله ـ عز وجل ـ بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاءوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهية له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله ـ عز وجل ـ ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: (أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟) (2) ، فصبر صلى الله عليه وسلم ؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانة وأقواهم على
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتباع؛الصحابة رضي الله عنه، وأدوها إلى الأمة نقية سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول صلى الله عليه وسلم لله وفي الله؛ فحب الرسول صلى الله عليه وسلم من حب الله ونقدمه على أنفسنا ووأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .ونحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته صلى الله عليه وسلم بجوارحنا، فنعمل بهدية، ولا نعمل له.
أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة؛ فهو :
1ـ فهل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم .
2ـ الابتداع في الدين ما ليس منه ؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله ؛ لأنك تقربت إليه بشيء لم يشرعه.
فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي ابتدعه.
قيل له: أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق.(115/48)
فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعملون الحق، ولكننا نخطئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد إبقاء على رئاستهم وجاههم.
أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة فينقسمون إلى قسمين:
........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئاً، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردوه تعصباً لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كم قال الله فيهم : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(الزخرف: من الآية22) .
قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمداً رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى : أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية : أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة : أن يكون مسكوتاً عنها في شريعتنا، وفي هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك :
1ـ قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (الأنعام:من الآية90).
2ـ قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111).
وقد تطرف في عيسى طائفتان:(115/49)
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وان أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعاً؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم:(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )(النساء:من الآية157) ، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه ، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبه لهم وصلبوه.
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهاً مع الله، وكذبوا فيما قالوا.أما عقيدتنا نحن فيه : فنشهد أنه عبدالله ورسوله ، وأن أمه صديقة ؛ كما أخبر الله تعالى بذلك ، وأنها أحصنت فرجها ، وأنها عذراء ، ولكن مثله عند الله كمثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له : كن ؛ فيكون .
وفي قوله : (عبدالله ) ، رد على النصارى .
وفي قوله : (ورسوله ) ، رد على اليهود .
قوله : (وكلمته ألقاها إلى مريم ) ، أطلق الله كلمة ؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام ؛ فالحديث ليس على ظاهره ؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة ؛ لأنه يأكل، ويشرب ، و يبول ، ويتغوط ، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية قال الله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59)
وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله ؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به ، لا بائن منه ، أما عيسى ؛ فهو ذات بائنة عن الله ـ سبحانه ـ ، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام و يشرب .(115/50)
قوله : ( ألقاها إلى مريم ) ، أي : وجهها إليها بقوله : ( كن فيكون )؛ كما قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59)
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى و هارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس ، و لكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يسمون بأسماء
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنبيائهم (1)؛ فهارون أخو مريم ، ليس هارون أخا موسى ، بل هو آ خر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى . قوله : (وروح منه ) ، أى : صار جسده عليه السلام بالكلمة ، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله ؛ أي : خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف و التكريم .
و عيسى عليه السلام ليس روحا ، بل جسد ذو روح ، قال الله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )(المائدة: من الآية75)
فبالنفخ صار جسدا ، وبالروح صار جسدا و روحا .
قوله : (منه ) هذه هي التي أضلت النصارى ، فظنوا أنه جزء من الله فضلوا و أضلوا كثيرا ، ولكننا نقول : إن الله قد أعمى بصائركم ؛ فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام ، وهذا شيء معروف ، ومن المعلوم أيضا أن اليهود يقولون إنهم صلبوه ، و هل يمكن لمن كان جزءاً من الرب أن ينفصل عن الرب و يأكل و يشرب و يدعى أنه قتل و صلب ؟(115/51)
و على هذا تكون (من ) للابتداء ، وليست للتبعيض ؛ فهي كقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)(الجاثية: من الآية13)؛ فلا يمكن أن نقول : إن الشمس و القمر والأنهار جزءاً من الله ، وهذا لم يقل به أحد .
واعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : العين القائمة بنفسها ، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خالقه ، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق ؛ كقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية:13)، وقوله تعالى:(إن أرضي واسعة ) (العنكبوت : 56 ) .
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه ؛ كقوله تعالى : (وطهر بيتي للطائفين ) (الحج 26 ) وكقوله تعالى : (ناقة الله و سقياها ) (الشمس : 13)، وهذا القسم مخلوق
الثاني : أن يكون شيئا مضافا إلى عين مخلقة يقوم بها ، مثاله قوله تعالى : (وروح منه )(النساء :171 )؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا ؛ فهي روح من الأرواح التي خلقهاالله ، و ليست جزءاً أو روحا من الله ؛ إذ أن هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، و هو عين منفصلة عن الله ، و هذا القسم مخلوق أيضا .
الثالث : أن يكون وصفا غير مضاف إلى عين مخلوقة ، مثال ذلك قوله تعالى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي)(لأعراف: من الآية144) ، فالرسالة و الكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، فإذا أضاف الله لنفسه صفة ؛ فهذه الصفة غير مخلوقة ، و بهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة : قسمان منها مخلوقان ، و قسم غير مخلوق .(115/52)
فالأعيان القائمة بنفسها و المتصل بهذه الأعيان مخلوقة ، و الوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق ؛ لأنه يكون من صفات الله ، وصفات الله غير مخلوقه . وقد اجتمع القسمان في قوله :)كلمته ، و روح منه ) ؛فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله ، وعلى هذا ؛ فتكون كلمته صفة من صفات الله .
ولهما (1) في حديث عتبان : فإن الله حرم على النار من قال :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروح منه : هذه أضيفت إلى عين ؛ لأن الروح حلت في عيسى ؛ فهي
مخلوقة
قوله : (أدخله الله الجنة ) ، إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين :
الأول : إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتم العمل .
الثاني : إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل .
فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذبه بقدر عمله ، و إن شاء لم يعذبه ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية116 )
* * *
قوله : (عتبان ) ، هو عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه ، كان يصلي بقومه ، فضعف بصره ، و شق عليه الذهاب إليهم ، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليه و أن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى ، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه طائفة من أصحابه ، منهم أبو بكر و عمر رضي الله عنهما ، فلما دخل البيت ؛ قال (أين تريد أن أصلي ؟) . قال : صل ها هنا . و أشار إلى ناحية من البيت ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له ، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلا يقال له : مالك بن الدخشم ، فقال بعضهم : هو
لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/53)
منافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقل هكذا؛ أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟!). ثم قال: (فإن الله حرم على النار...) الحديث.
فنهاهم أن يقولوا هكذا؛ لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبريء الرجل، إنما أتى بعبارة عامة بأن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذين ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوء، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
قوله: (فإن الله حرم على النار)، أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.
قوله: (من قال: لا إله إلا الله)، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)؛ أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجهاً؛ فلابد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في (صحيح مسلم) (1) ؛ حيث قال: (ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحرمت أمور؛ فلا يغتر مغتر بهذا)؛ فالحديث واضح الدالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: (يبتغي بذلك وجه الله)، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي صلى الله عليه
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسلم: (مفتاح الجنة: لا إله إلا الله) (1) ، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له.(115/54)
قال شيخ الإسلام: إن المبتغي لا بد أن يكمل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريماً مطلقاً، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإن النار تحرم عليه تحريماً مطلقاً، وإن أتى بشيء ناقص؛ فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئاً من ذلك ثم قال حيث فعله؛ أشهد أن لا إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (2) ، فضلاً عن أن يكون مبتغياً وجه الله.
وفي الحديث رد على المرجئة الذين يقولون: يكفي قوله: لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله.
وفيه رد على الخوارج والمعتزلة؛ لان ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهو يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
* * *
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال: (قال موسى عليه السلام: يارب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أذكرك وأدعوك به)، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى عليه السلام طلب شيئاً يحصل به أمران:
1- 1- ذكر الله.
2- 2- دعاؤه.
فأجابه الله بقوله: (قل لا إله إلا الله)، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته، إذاً ؛ فهو ذكر متضمن للدعاء، قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
يعني : عطاؤك.
وأستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
إذا أثنى عليك العبد يوماً كفاه من تعرضه الثناء(115/55)
قوله: (كل عبادك يقولون هذا)، ليس المعنى أنها كلمة هينة كل يقولها؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئاً يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطي أفضل من هذه الكلمة، وأن لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظمها، لكن لا بد من الإتيان بشروطها، أما مجرد
قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) رواه ابن حسان والحاكم وصححه (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئا؛ لأنه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفه به الموانع.
قوله: (مالت)، أي: رجحت حتى يملن.
قوله: (عامرهن)، أي : ساكنهن؛ فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.
قوله: (غيري)، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثني عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء لأنهم محتاجون إلى السماء ، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجاً إليها ، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظان أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستوى على عرشه، لا يقله شيء من خلقه.
وللترمذي وحسن عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يقول: (قال الله تعالى: يا بابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً: لأتيتك بقرابها مغفرة) (1) .(115/56)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قال الله تعالى: يا ابن آدم...) إلخ.
هذا من الأحاديث القدسية ، والحديث القدسي: ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله ـ عز وجل ـ .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه واللفظ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
على قولين :
القول الأول أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى ، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانة وأوثقهم رواية.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوجهين :
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً ومعنى لكان أعلى سنداً من القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه بدون واسطة ؛ كماهو ظاهر السياق، أما القرآن؛ فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ؛ كما قال تعالى:(قل نزله روح القدس من ربك ) (النحل : 102 ) وقال: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193 ـ195).(115/57)
الوجه الثاني : أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله ؛ لم يكن بينه و بين القرآن فرق ؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى ، و الحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقنا في الأصل ، و من المعلوم أن بين القرآن و الحديث القدسي فروق كثيرة :
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته ، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته ؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات ، و القرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات .
و منها : أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه ، و لم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية .
و منها : أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى ؛ كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، و الأحاديث القدسية بخلاف ذلك ؛ ففيها الصحيح و الحسن ، بل أضيف إليها ما كان ضعيفا أو موضوعا، و هذا و إن لم يكن نسب إليها و فيها التقديم و التاخير و الزيادة و النقص .
ومنها : أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين ،و أما الأحاديث القدسية ؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى و الأكثرون على جوازه .
و منها : أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة و منه ما لا تصح الصلاة بدون
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءته ، بخلاف الأحاديث القدسية .
و منها : القرآن لا يمسه إلا الطاهر على الأصح ، بخلاف الأحاديث القدسية.
و منها : أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح ، بخلاف الأحاديث القدسية .(115/58)
و منها : أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني ، فلو أنكر منه حرفا أجمع القراء عليه ؛ لكان كافرا ، بخلاف الأحاديث القدسية ؛ فإنه لو أنكر شيئا منها مدعيا أنه لم يثبت ؛ لم يكفر ، أما لو أنكر مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ؛ لكان كافرا لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله ، و الأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل ، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظا ؛كما في القرآن الكريم ؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالا إلى قائليها ،و نحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظا ، كما في (قصص الأنبياء ) وغيرهم ، و كلام الهدهد و النملة ؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعا .
و بهذا يتبين رجحان هذا القول ، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة و أهل السنة في كلام الله تعالى ؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في اصل كلام الله تعالى ؛ فأهل السنة يقولون : كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت و حرف ، و الأشاعرة لا يثبتون ذلك ، و إنما يقولون : كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه ، و ليس بحرف و صوت ، و لكن الله تعالى يخلق صوتا يعبر به عن المعنى القائم بنفسه ، و لا شك في بطلان قولهم ، و هو في الحقيقة قول المعتزلة ؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق ، و هو كلام الله ، و هؤلاء يقولون: القرآن مخلوق ، و هو عباره عن كلام الله؛ فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/59)
ثم لو قيل في مسالتنا ـ الكلام في الحديث القدسي ـ : إن الأولى ترك الخوض في هذا ؛ خوفا من أن يكون من التنطع الهالك فاعله ، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وكفى ؛ لكان ذلك كافيا ، و لعله أسلم و الله أعلم
*(فائدته ) :
إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي (قدسيا) ؛ لقداسته و فضله ، و إذا انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سمي مرفوعا ، و إذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفا و إذا إنتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعا .
قوله : (بقراب الأرض ) ، أي : ما يقاربها ؛ إما ملئا ، أو ثقلا ، أوحجما.
قوله(خطايا)،جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب؛ و لو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى:(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(البقرة:من الآية81) .
قوله : ( لا تشرك بي شيئا ) ، جملة (لا تشرك ) في موضع نصب على الحال في التاء ؛ أي : لقيتني في حال لا تشرك بي شيئا
قوله : ( شيئا ) نكرة في سياق النفي تفيد العموم ؛ أي : لا شركا أصغر و لا أكبر . وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان ، و يقول : أنا غير مشرك و هو لا يدري ؛ فحب المال مثلا بحيث يلي عن طاعة الله من الإشراك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة…)الحديث (1) . فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا همه سماه : عبدا له .
* فيه مسائل :
الأولى : سعة فضل الله . الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله . الثالثة : تكفيره مع ذلك الذنوب . الرابعة : تفسير الآية التي في سورة الأنعام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/60)
قوله : ( لآتيتك بقرابها مغفرة) ، أي : أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله و هو لا يشرك به شيئا ، و المغفرة ستر الذنب و التجاوز عنه
· · مناسبة الحديث للترجمة :
أن في هذا الحديث فضل التوحيد ، و أنه سبب لتكفير الذنوب ؛ فهو مطابق لقوله في الترجمة : ( وما يكفرمن الذنوب ) .
* * *
قوله : ( فيه مسائل ) :
· · الأولى : (سعة فضل الله ) ، لقوله : ( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) .
· · الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله ، لقوله:( ما لت بهن لا إله إلا الله ) .
· · الثالثة : تكفيره مع ذلك للذنوب ، لقوله : ( لأتيتك بقرابها مغفرة) ؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحياناً؛ فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.
· · الرابعة : تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: (الذين آمنو ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)؛ فالظلم هنا الشرك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) (1) .
الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة : أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده؛ تبين لك معنى قول: (لا إله إلا الله) ، وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في تعبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل (لا إله إلا الله).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة:
1ـ2ـ الشهادتان.
3ـ أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه.
4ـ أن الجنة حق.
5ـ أن النار حق.(115/61)
* السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنه لابد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك ؛ فلابد أن تحمل المرء على العمل الصالح.
* السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.
* الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، فغيرهم من باب أولى.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، من أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرط من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات.
*العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحاً أن السماوات سبع بقوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ )(المؤمنون: من الآية86) ، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (الطلاق: من الآية12)؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد.
أما السنة؛ فهي صريحة جداً بأنها سبع؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (من اقتطع شبراً من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) (1) .
وقد اختلف في قوله صلى الله عليه وسلم : (من سبع أرضين)؛ كيف تكون سبعاً؟
فقيل: المراد: القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة(115/62)
الحادية عشرة: أن لهن عماراً. الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله)؛ أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقوله : (طوقه من سبع أرضين)، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها.
· · الحادية عشرة: أن لهن عماراً، أي: السماوات ، وعمارهن الملائكة.
· · الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافاً للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية و المعتزلة والجهمية وغيرهم ؛ ففهيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله : (يبتغي وجه الله) ، وإثبات الكلام بقوله : ( وكلمته ألقاها ) ، و إثبات القول في قوله : ( قل لا إله إلا الله ).
* الثالثةعشرة : أنك إذا عرفت حديث أنس ؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) أن ترك الشرك . وفي بعض النسخ : إذا ترك الشرك . أي . أن قوله : ( حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك ( يعني : ترك الشرك ) ) وليس مجرد قولها باللسان ؛ لأن من ابتغي وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبدا .
· · الرابعة عشرة : تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله
الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله . السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه . السابعة عشرة معرفة فضل الإيمان بالجنة و النار . الثامنة عشرة : معرفة قوله ( على ما كان من العمل ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/63)
ورسوليه . عبدي : منصب على أنه خبر كون ؛ لأن كون مصدر كان و تعمل عملها . وعيسى ومحمد : اسم كون .
و تأمل الجمع من وجهين :
الأول : أنه جمع لكل منهما بين العبودية و الرسالة .
الثاني : أنه جمع بين الرجلين ؛ فتبين أن عيسى مثل محمد ، وانه عبد ورسول ، وليس ربا و لا ابنا للرب ـ سبحانه ـ .
وقول المولف : ( تأمل ) ؛ لأن هذا يحتاج إلى تأمل .
* الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمه الله ، أي : أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة ؛ فقد كان بكلمة ، أما محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقد خلق من ماء أبيه .
*السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه ، أي : أن عيسى روح من الله ، و ( من ) هنا بيانية أو للابتداء ، وليست للتبعيض ؛ أي : روح جاءت من قبل الله وليست بعضا من الله ، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.
*السابعة عشرة : معرفة فضل الإيمان بالجنة و النار ، لقوله في حديث عبادة: ( وأن الجنة حق ، والنار حق ) ، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.
· · الثامنة عشرة :معرفة قوله: (على ما كان من العمل ) ، أي : على ما كان
التاسعة عشرة : معرفة أن الميزان له كفتان . العشرون : معرفة ذكر الوجه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من العمل الصالح ولو قل ، أو على ما كان من العمل السييء ولو كثر ، بشرط أن يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار ، لكن لابد من العمل . ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج ، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه ، ومنها مالا يكفر ؛ فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين و الصلاة ، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها؛ لكان الصحيح خلاف ذلك .(115/64)
* التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان ، أخذها المؤلف من قوله: ( لو أن السماء … إلخ ، وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة ) ، و الظاهر أن الذي في الحديث تمثيل ، يعني أن : لا إله إلا الله أرجح من كل شيء ، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة ، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني ؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة .
* العشرون : معرفة ذكر الوجه ، يعني : وجه الله تعالى وهو صفة من صفاته الخبرية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض و أجزاء ؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض ، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء ، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض ؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى الله .
* * *
باب من حقق التوحيد ؛ دخل الجنة بغير حساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب كالمتم للباب الذي قبله ؛ لأن الذي قبله : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ) ، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل ، وهو دخول الجنة بغير حساب .
قوله : ( من ) ، شرطية ، وفعل الشرط : ( حقق ) ، وجوابه: ( دخل ) ، قوله : ( بل حساب ) ؛ أي : لا تحسب لا على المعاصي ولا على غيرها .
وتحقيق التوحيد : تخليصه من الشرك ، و لا يكون إلا بأمور ثلاثة :
الأول : العلم ؛ فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل أن تعلمه ، قال الله تعالى: ( فأعلم أنه لا إله إلا الله ) ( محمد : 19).
الثاني : الاعتقاد ، فإذا علمت و لم تعتقد واستكبرت ؛ لم تحقق التوحيد ، قال الله تعالى عن الكافرين : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية .(115/65)
الثالث : الانقياد ، فإذا علمت و اعتقدت و لم تنقد ؛ لم تحقق التوحيد ، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات:35-36). 0
فإذا حصل هذا وحقق التوحيد ؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب ، و لا يحتاج أن نقول إن شاء الله ؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعا ، و لهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول : إن شاء الله .
أما بالنسبة للرجل المعين ؛ فإننا نقول : إن شاء الله .
* * *
وقول الله تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين ، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد ، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله :
* الآية الأولى : قوله تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة … ) الآية .
قوله : ( أمة ) ، أي : إماما ، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه : إمام ، ودهر ، وجماعة ، ودين (1).(115/66)
قوله : ( إن إبراهيم كان أمة ) ، هذا ثناء من الله ـ سبحانه و تعالى ـ على إبراهيم بأنه إمام متبوع ؛ لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم غدوة في أعماله و أفعاله و جهاده ؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل ، وألقي في النار فصبر ثم ابتلاه الله ـ سبحانه وتعالى بالأمر بذبح ابنه ، وهو وحيده ، وقد بلغ السعي معه ( أي شب و ترعرع ) ؛ فليس كبيرا قد طابت النفس منه ، ولا صغيرا لم تتعلق به النفس كثيرا ، فصار على منتهى تعلق النفس به . ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله ، قال الله تعالى عنه : ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102) ، لم يحنث ولده و يتمرد و يهرب ، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه وهذا من بره بأبيه و طاعته لمولاه سبحانه و تعالى ، و انظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) .
فالسين في قوله : ( ستجدني ) في قوله : ( ستجدني ) تدل على التحقيق ، و هو مع ذلك لم يعتمد على نفسه ، بل استعان بالله في قوله: ( إن شاء الله ) .
وامتثلا جميعا و أسلما ، و انقادا لله ـ عز و جل ـ ، و تله للجبين ؛ أي : على الجبين ، أي جبهته ؛ لأجل أن يذبحه و هو لا يرى وجهه ، فجاء الفرج من الله تعالى : (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات:104ـ105) ، و لا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت ، أو أن رقبته صارت حديدا ، و نحو ذلك .(115/67)
قوله : ( قانتا ) ، القنوت : دوام الطاعة ، و الاستمرار فيها على كل حال ؛ فهو مطيع لله ، ثابت على طاعته ، مديم لها في كل حال .
كما أن ابنه محمدا صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (1) : إن قام ذكر الله ، وإن جلس ذكره ، وإن نام ، و إن أكل ، وإن قضى حاجته ذكر الله ؛ فهو قانت آناء الليل والنهار .
قوله : ( حنيفا ) ، أي : مائلا عن الشرك ، مجانبا لكل ما يخالف الطاعة ؛ فوصف بالإثبات و النفي ؛ أي : بالوصفين الإيجابي و السلبي .
قوله : ( و لم يكن من المشركين ) ، تأكيد ، أي لم يكن مشركا طول حياته ؛ فقد كان عليه الصلاة و السلام معصوما عن الشرك ، مع أن قومه كانوا مشركين ، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمرارا في قوله: ( حنيفا ) ، و ابتداء في قوله : (ولم يك من المشركين ) ، و الدليل على ذلك: أن الله جعله إماما ، ولا يجعل
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله للناس إماما من لم يحقق التوحيد أبدا .
و من تأمل حال إبراهيم عليه السلام و ما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر ، و في غاية ما يكون من مراتب اليقين ؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب ، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على هذا ؛ لأن النفس لا تدع شيئا إلا لما هو أحب إليها منه ، و لا تحب شيئا إلا ما ظنت فائدته ، أو تيقنت .
ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط ، لكن يقصد منه أمران هامان :(115/68)
الأول : محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا ، كما أن من أثنى الله عليه شرا ؛ فإننا نبغضه و نكرهه ، فنحب إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه كان إماما حنيفا قانتا لله و لم يكن من المشركين ، و نكره قومه ؛ لأنهم كانوا ضالين ، و نحب الملائكة و إن كانوا من غير جنسنا ؛ لأنهم قائمون بأمر الله ، ونكره الشياطين ؛ لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله ، ونكره أتباع الشياطين ؛ لأنهم عاصون لله أيضا و أعداء لله و لنا .
الثاني : أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه ؛ لأنها محل الثناء ، و لنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها ، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)(يوسف: من الآية111) و قال تعالى: (فَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)(الممتحنة: من الآية4)،و قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(الممتحنة: من الآية6).
وهذه مسألة مهمة ؛ لأن الإنسان أحيانا يغيب عن باله الغرض الأول ، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا ، و لكن لا ينبغي أن يغيب ؛ لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان .
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فائدة :(115/69)