وهو حديث صحيح أخذ به السلف ولم يصرفوه عن ظاهره بتأويل يتخبطون فيه بأهوائهم، وإنما فسروه بما فسره الله تعالى به حيث قال: " أما علمت أن عبدي فلاناً مرض" . إلخ. وقال في الإطعام: " أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي" . وقال في الإسقاء : " استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". وهو صريح في أن المراد مرض عبد من عباد الله، واستطعام عبد من عباد الله، واستسقاء عبد من عباد الله، والذي فسره بذلك هو الله تعالى الذي تكلم به، وهو أعلم بمراده، فإذا فسر بما فسره به الله تعالى لم يكن في ذلك صرف له عن ظاهره ولا تأويل كما لو تكلم الله تعالى بالمعنى ابتداء.
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين صرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا أقوال السلف الصالح بل بشبه واهية هم فيها متناقضون مضطربون، إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعاً على الله تعالى لكان في الكتاب، والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه مالا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال.
المثال الثاني عشر: ذكر فضيلتكم قول الله عز وجل : { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون } (1). أننا نأبى أن نفهم من هذه الآية أن الله خلق الأنعام ( الإبل والبقر والغنم ) بيده حقيقة.
وكأنكم تريدون أن تدخلوا هذه الآية في ضمن ما أوله السلف وهذا غير صحيح فإن الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده، بل صريح الآية أن الله تعالى هو الذي خلقها { خلقنا لهم } ولم يقل : بيده بل قال: { مما عملت أيدينا } ولو كان المراد أن الله خلقها بيده لقال: " خلقنا لهم بأيدينا ". كما قال في آدم: { لما خلقت بيدي } (2).(65/30)
والعمل يضاف إلى اليد في اللغة والمراد بها صاحب اليد.
أرأيت قول الله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } (3). وقوله : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (4). فإن المراد بما كسب الإنسان نفسه وإن عمله بغير يده، بخلاف ما إذا قيل : " عملته بيدي " ونحوه فإنه يدل على أن اليد هي التي حصل بها الفعل.
وعلى هذا فليس في الآية الكريمة صرف عن ظاهرها، لأنها ليس فيها ما يدل على أن الأنعام مخلوقة بيد الله وإنما تدل على أن الله تعالى خلق هذه الأنعام وأنها من جملة ما عمله الله تعالى وصنعه لنا، ولو كانت الآية كما فهم فضيلتكم أو كما حاولتم أن تؤولوها به لكانت جميع المخلوقات مخلوقة بيد الله تعالى.
المثال الثالث عشر: ذكر فضيلتكم قول الله تعالى: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } (1). وذكرتم عن ابن جرير فيها تأويلين: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم والثاني: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرته.
ولا ريب أن المعنى الأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فيكون هو الراجح وليس فيه تأويل بصرفه عن ظاهره وذلك لأن قوله: { إن الذين يبايعونك } صريح مطابق للواقع كما في قوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (2). فالمبايع مباشرة هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس الله تعالى ولا يمكن لأحد أن يفهم أنه الله تعالى ولا أن يقول : إن ذلك ظاهر اللفظ لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله مبلغاً عنه صارت مبايعة لمن أرسله. وهذه الآية كقوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } (3).(65/31)
وفي هذه الآية من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتأكيد بيعته ما لا يخفى على أحد.
أما قوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } (3). فهي على حقيقتها وظاهرها وذلك لأن يد الله تعالى صفة من صفاته وهو سبحانه فوقهم على العرش استوى، فكانت يده فوق أيديهم كما قرر ذلك ابن القيم وانظره ص 349 ط الإمام من كتاب ( استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ) المعروف باسم ( مختصر الصواعق ).
وهذا التقرير ظاهر مطابق لظاهر اللفظ، وهو أولى من قول من جعله على سبيل التخييل، بأنه لما كانت مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم مبايعة لله كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم كأنها يد الله تعالى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عند المبايعة ليس يجعل يده فوق أيديهم، وإنما كان يمسك بأيديهم ويصافحهم، فيده مع أيديهم لا فوقها، وبهذا تبين أنه ليس في الآية تأويل يصرفها عن ظاهرها والحمد لله رب العالمين.
وبالإجابة على هذه الأمثلة يتبين أنه ليس للأشاعرة وغيرهم حجة على أهل السنة بإلزامهم بالموافقة أو المداهنة في تأويلهم لما أولوه من صفات الكمال التي أثبتها الله تعالى لنفسه، ولو سلمنا أن لهم حجة في ذلك لسلمنا أن للمعتزلة حجة فيما أولوه من الصفات التي يثبتها الأشاعرة، ولسلمنا أن للقرامطة وغيرهم من غلاة الجهمية ومن سلك سبيلهم حجة فيما أولوه من الأسماء، بل لسلمنا أن للفلاسفة وغيرهم حجة فيما ذهبوا إليه من تأويل نصوص المعاد، ولهذا كان لا سبيل لأحد في دفع شبه هؤلاء الزائغين إلا بالتزام سبيل السلف الراسخين في العلم، الثابتين على القاعدة المستقرة التي لا يشذ عنها شيء من مسائل الدين الكبيرة والصغيرة نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة.(65/32)
سابعاً: ذكر فضيلتكم ص .. عدد .. أن مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فننزهه عن الجسمية، والشكل، والصورة، والاحتياج، وكررتم القول بنفي التجسيم في مواضع من كلامكم.
ونفي الجسمية والتجسيم لم يرد في الكتاب، والسنة، ولا في كلام السلف فالواجب على العبد التأدب مع الله ورسوله وسلف الأمة فلا ينفي عن الله تعالى إلا ما نفاه عن نفسه ولا يثبت له إلا ما أثبته لنفسه، أما مالم يرد به نفي ولا إثبات مما يحتمل حقّاً وباطلاً فإن الواجب السكوت عنه فلا ينفى ولا يثبت لفظه، وأما معناه فيسأل عنه فإن أريد به حق قبل، وإن أريد به باطل رد، وعلى هذا فيسأل من نفى التجسيم ماذا تريد بالجسم؟ فإن قال: أريد به الشيء المركب المفتقر بعضه إلى بعض في الوجود والكمال قلنا : نفي الجسم بهذا المعنى حق فإن الله تعالى واحد أحد صمد غني حميد. وإن قال : أريد به الشيء المتصف بالصفات القائمة به من الحياة، والعلم والقدرة، والاستواء والنزول، والمجيء، والوجه، واليد ونحو ذلك مما وصف الله به نفسه قلنا : نفي الجسم بهذا المعنى باطل، فإن لله تعالى ذاتاً حقيقية، وهو متصف بصفة الكمال التي وصف بها نفسه من هذه الصفات وغيرها على الوجه اللائق به.
ومن أجل احتمال الجسم لهذا وهذا كان إطلاق لفظه نفياً وإثباتاً من البدع التي أحدثت في الإسلام قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 152 ج 4 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لا نفياً ولا إثباتاً فكيف يحل أن يقال : مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم". وقال قبل ذلك ص 146 : " وأول من ابتدع الذم بها المعتزلة الذين فارقوا جماعة المسلمين" أ.هـ. يعني أن المعتزلة جعلوا من أثبت الصفات مجسماً وشنعوا عليهم بهذه الألفاظ المبتدعة ليغزوا بذلك عوام المسلمين.(65/33)
وأما الصورة فقد روى البخاري ومسلم من حديثي أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ما يدل دلالة صريحة على ثبوتها لله تعالى روي البخاري في: باب الصراط جسر جهنم ص 444 ج 11 فتح ط السلفية عن عطاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال أناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله. قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟". قالوا: لا يا رسول الله . قال : " فإنكم ترونه كذلك يوم القيامة". وذكر الحديث وفيه: " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه" . وذكر تمام الحديث قال عطاء : وأبو سعيد جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه ورواه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب قول الله تعالى { :وجوه يومئذ ناضرة .إلى ربها ناظرة } (1). ص 419ج 13 فتح ط السلفية، ورواه مسلم عنهما في كتاب الإيمان حديث أبي هريرة رقم 299 ص 163 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وحديث أبي سعيد رقم 302 ص 167، فهل أحد أعلم بالله تعالى وما يجب له، أو يمتنع في حقه، أو يجوز من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! وهل أحد من الخلق أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد الله ؟ وهل أحد من الخلق أفصح لساناً وأبلغ بياناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل أحد من قرون هذه الأمة أحفظ أمانة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ونقل شريعته ؟ .(65/34)
وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه وهو الصادق المصدوق أن لله تعالى صورة لكننا نعلم علم اليقين أن هذه الصورة ليست مماثلة لصورة أحد من المخلوقين، وأنها أعظم وأجل مما يتخيله المفكرون، وأنه لا يحل لأحد أن يتخيل اليوم هذه الصورة في ذهنه، أو يعبر عن كيفيتها بلسانه قال الله تعالى: { ولا يحيطون به علماً } (1).
وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصروالفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (2). وقال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (3).
فلا يحل لأحد أن يثبت لله تعالى مالم يعلم أن الله أثبته، ولا أن ينفي عنه مالم يعلم أن الله نفاه، فكيف يحل أن ننفي ما أثبته الله تعالى لنفسه إما في كتابه ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . فتنزيه الله تعالى عن الصورة اللائقة بجلاله وعظمته رد لما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف رضوان الله تعالى عليهم بريئون من هذا التنزيه.
وأما الشكل فإن أريد به الصورة فقد عرفت الكلام فيها، وإن أريد به مماثلة المخلوقين فالله تعالى منزه عنه.
ثامناً : ذكر فضيلتكم ص.. من العدد .. أن الخلف هم علماء أهل السنة من المتأخرين الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري وفي نهاية القرن الثالث.
والمعروف أنه إذا قيل : ( الخلف ) في باب أسماء الله وصفاته فإنما يعنى بهم الذين أحالوا الاعتقاد في هذا الباب إلى ما يقتضيه العقل، وكذبوا بما يمكنهم تكذيبه مما يخالف عقولهم، أو مما لا تقتضيه عقولهم، وصرفوا ما لا يمكنهم تكذيبه عن ظاهره.(65/35)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 10ج 5 من مجموع الفتاوي لابن القاسم في معرض الرد على من قال: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم قال: "والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم". أ.هـ. وذكر كلاماً ينبغي معرفته.
تاسعاً: ذكر فضيلتكم حين قسمتم زعماً أهل السنة إلى ذوي مذهبين أنه ما كان أحد من أصحاب المذهبين ينسب غيره إلى الضلالة، ولا يصفه بما يصفه الجاهلون اليوم من الخروج عن الدين والمروق من الإسلام إلخ.
ونحن لا نعلم أن أحداً من أهل السنة نسب الأشاعرة، والماتريدية إلى الخروج عن الدين، والمروق عن الإسلام.
وأما وصفهم بالضلال باعتبار ما قالوه في صفات الله فإنه موجود في كلام أهل السنة، بل هو في كلامكم أنتم حينما قررتم في عدة مواضع من كلامكم أنهم كانوا مخطئين، والخطأ نقيض الصواب، والصواب هو الحق وقد قال الله تعالى: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ص 359 ج 6 مجموع الفتاوي لابن قاسم بعد أن ذكر الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية قال: " ولهذا كانوا يقولون : إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى ابن عمار يقول : المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث" قال الشيخ: " ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة".أ.هـ. وقال قبل ذلك في ص310:" وأما الأشعرية فعكس هؤلاء، وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي، وآية الدين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة " أ.هـ.(65/36)
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص 312 من شرح محمد خليل الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس الطريـ ق المستقيم لمن له عينان
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا كون المقلد صاحب البرهان
ورأوه بالتقليد أولى من سوا ه بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا معناهما عجباً لذي الحرمان
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان ) ص 319 ج2 على تفسير آية استواء الله على عرشه: "اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء، واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً قال : " ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول، أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى، والقول فيه بما لا يليق به، جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين حرفاً واحداً من ذلك حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق به، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : " والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، وإنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه" . إلى أن قال: " ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي معظما لله كما ينبغي طاهرا من أقذار التشبيه لكان(65/37)
المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين". أ. هـ. فهذا كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى في بيان ضلال من تأولوا نصوص صفات الله تعالى أو بعضها، وحرفوا فيها الكلم عن مواضعه بصرفها إلى معانٍ تخالف ظاهرها بلا دليل من الكتاب والسنة. ولكن لا يلزم من ضلال المتأول أن يستحق الوصف بالضلال المطلق الموجب للذم المطلق إذا علم منه حسن القصد والصدق في طلب الحق، لأن المجتهد إذا أصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد، والخطأ مغفور.
عاشراً : ذكر فضيلتكم كلاما في الأشاعرة غريباً فقلتم ص.. عدد .. : لهم تأويلات مخالفة لما ذهب إليه السلف، وذكرت في نفس الصفحة أنهم أولوا بما يتفق مع القرآن، وأن عقيدتهم على الوجه الصحيح وذكرت في ص .. عدد .. عن طائفتي أهل السنة: السلف وأهل التأويل كما قسمتهم مانصه: مع اعتقادهم جميعاً صفات الله تعالى دون تعطيل، أو تجسيم وذكرت في الصفحة نفسها أنهم مالوا إلى التأويل في بعض الصفات لأنهم كان من اللازم عليهم أن يصارعوا الباطل بنفس السلاح الذي يتسلح به خصومهم، وأن يقاوموا ضلالهم بالحجة الساطعة والبرهان القاطع.(65/38)
وذكرت في عدة مواضع أنهم مخطئون في تأويلهم كما في ص .. عدد .. وفي أول ص .. عدد.. وأول ص .. عدد .. وهذا الاختلاف في كلامكم: إما أن يكون للتردد في أمرهم، وإما أن يكون للتهيب من إبطال طريقتهم، وإما للتمويه على القارىء . فالأخير أعيذك بالله منه وأعيذ سائر علمائنا منه. وأما الثاني فلا ينبغي أن نتهيب من وصف القول الذي تبين خطؤه أنه ضلال لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } (1). وقوله: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا لله إن الله خبير بما تعملون } (2). فنهى الله تعالى أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، فمثله أن يحملنا حب قوم على عدم العدل، ومن المعلوم أنه ليس من العدل أن نقول : هؤلاء الأشاعرة على حق، والسلف على الباطل، وليس من الممكن أن نقول : إن الجميع على حق، لاختلاف منهجيهما فتعين أن نقول: إن السلف هم الذين على الحق وأن نتذكر قول الله عز وجل: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } (3). وفي صحيح البخاري أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: " لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت " . فتأمل كيف وصف ابن مسعود مخالفة الحق بالضلال، ونسبه إلى نفسه في مسألة من مسائل فقه الفرائض، فكيف لا توصف مخالفة الحق بالضلال في مسألة من مسائل الفقه الأكبر، فقه أسماء الله تعالى وصفاته. ؟!(65/39)
وأما الاحتمال الثالث ( التردد في أمرهم ) فإن من تدبر كتاب الله تعالى طالباً الهدى منه، وتدبر ما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القصد تبين له الحق، واتضح له أن طريق السلف هو الصواب والهدى، وأنه هو الذي يمكن أن نرد به شبه المبطلين، ونسد به سبل الزائغين، وأنه هو المحجة الساطعة والبرهان القاطع. وقد سبق في كتابنا هذا بيان أن أهل التأويل من المعتزلة وغيرهم احتجوا لباطلهم بطريق الأشاعرة، وأن طريق الأشاعرة كانت حجة لهم حيث احتج أولئك المعتزلة وغيرهم عليهم بما احتجوا به ( أعني الأشاعرة ) لأنفسهم فقالوا: إذا كان طريق إثبات الصفات عندكم العقل فما لم يدل عليه العقل صرفتموه عن ظاهره فإننا نحتج عليكم به فإن عقولنا لا تقتضي إثبات الصفات التي أثبتموها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها كما أنكم فعلتم ذلك مع أهل السنة فقلتم: إن عقولنا لا تقضي إثبات ما زاد على الصفات السبع التي نثبتها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها.
وإذا تبين أن طريق السلف هو الحق والهدى والحجة فلماذا نتردد في طريق من خالفه، ونتذبذب في الحكم عليهم؟ إن الدين، والعقل، والحزم والشجاعة كلها تقتضي أن نقول للحق : هو حق ، ولما خالفه :هو ضلال مهما كان القائل به كمّاً أو كيفاً ، ليبين الحق ويتميز، فيعبد الناس ربهم على بصيرة ويدعوا إليه على بصيرة.
إنكم لو تأملتم طريقة الأشاعرة في باب أسماء الله تعالى وصفاته حق التأمل لتبين لكم أنه لا وجه للتردد في شأنهم ولا لتهيُّب إبطال طريقتهم.
فالله يقول عن نفسه: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (1) .
وهم يقولون : ليس لله تعالى وجه.
والله يقول عن نفسه مخاطباً موسى: { ولتصنع على عيني } (2).
وهم يقولون : ليس لله عين.
والله يقول عن نفسه: { بل يداه مبسوطتان } (3).
وهم يقولون: ليس لله يدان.
والله يقول عن نفسه: { الرحمن على العرش استوى } (4).
وهم يقولون: ما استوى على العرش.(65/40)
والله يقول عن نفسه: { وجاء ربك والملك } (5). ويقول : { أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } (6).
وهم يقولون: إن الله لا يجيء ولا يأتي.
والله يقول عن نفسه: { إن الله يحب المقسطين } (7).
وهم يقولون: إن الله لا يحب.
والله يقول عن نفسه: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (1).
وهم يقولون : إن الله لا يرضى.
والله يقول عن نفسه: { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } (2).
وهم يقولون : إن الله لا يكره.
والله تعالى يقول: { الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم } (3)
وهم يقولون: إن الله لا يغضب .
والله يقول عن نفسه: { وربك الغفور ذو الرحمة } (4).
وهم يقولون: ليس لله تعالى رحمة هي وصفه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر" متفق عليه ".
وهم يقولون : إن الله لا ينزل .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال عن ربه ، " وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه " رواه مسلم .
وهم يقولون : إن الله لا يبغض .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " ولا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك الله منه قال : ادخل الجنة " متفق عليه .
وهم يقولون: إن الله لا يضحك.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: " لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها " رواه مسلم.
وهم يقولون : إن الله لا يفرح .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم، قال عن ربه :" عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل " رواه البخارى .
وهم يقولون: إن الله لا يعجب.(65/41)
إلى غير ذلك من الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهم ينكرون أن تكون لله تعالى على الحقيقة، ويقولون : هي مجاز عن معان عينوها بعقولهم، وزعموا أنها المرادة بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا كانت هذه النصوص مجازاً بإقرارهم، فإن أبرز علامات المجاز صحة نفيه فيكون نفيها سائغاً على زعمهم مع أن الله أثبتها لنفسه والله المستعان.
حادي عشر: في ص.. عدد .. دعا فضيلتكم إلى الكف عن مهاجمة أتباع المذاهب والأشاعرة، والإخوان، حتى الصوفيين أصحاب الطرق المعروفة وعللتم ذلك بأن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم شيء واحد وهو حب الإسلام، وخدمة الدين، ومنهم من يخطىء في الأسلوب، أو في الطريق ثم دعوتم إلى أن نوجههم بالحسنى إلى الجادة.
ولا ريب أن التوجيه بالحسنى مطلوب، وأن للدعوة إلى سبيل الله تعالى أربع مراتب ذكرها الله تعالى في آيتين أولاهما: قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } (1). والثانية : قوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } (2).
وكثيرمن هؤلاء المخالفين للسلف تقوم عليهم الحجة بأوضح بيان وأفصح عبارة، ولكنهم يعاندون وربما يعتدون، ويستطيلون على أهل الحق بوصفهم بألقاب السوء، لينفروا الناس عن الحق الذي هم عليه. ومثل هؤلاء لا يمكن الدعوة إلى مداهنتهم وترك مهاجمتهم، لأن ذلك إضعاف لجانب الحق، وذل وخنوع لأهل الباطل.(65/42)
وأما التعليل الذي ذكرتموه من أن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم حب الإسلام وخدمة الدين، فلا ريب أن بعضهم يدعي ذلك، ولكن الإخلاص وحده لا يكفي بل لابد من عمل صالح ولا يكون العمل صالحًا حتى يكون مخلصاً لله، متبعاً فيه شريعته التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان قال الله تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون } (3). فلم يكتف بمجرد إسلام الوجه لله تعالى بل قيد ذلك بقوله : { وهو محسن } ومن المعلوم أن المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذونهم أولياء كانوا يدعون حسن القصد يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (4). وأن من هؤلاء الطوائف الذين دعوتم إلى ترك مهاجمتهم وزعمتم أنهم يريدون وجه الله من اتخذ من دون الله أولياء يحبونهم كحب الله أوأشد.
ثم إن كل من يدعي أنه يريد وجه الله والدار الآخرة، فإنه غير مقبول في دعواه حتى يأتي بالبينة التي نصبها الله تعالى برهاناً على ذلك، في قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } (5). فمن ادعى أنه يريد وجه الله، وأنه يحب دينه وهو الإسلام، نظرنا في موقفه تجاه الإسلام فإن كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، والقول، والعمل كان صادقاً في دعواه، وإن قصر في ذلك علمنا أنه قد نقص من صدقه بقدر ما قصر فيه.(65/43)
وليعلم فضيلتكم أن كثرة العدد ليست وحدها السبب في نصرة الإسلام وعزة المؤمنين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة " كما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وأعله الترمذي، وأنما النصرة لمن نصر الله عز وجل واتبع رسوله ظاهراً وباطناً قال الله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } (1). وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } (2). وقال جل ذكره : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } (3).
فنسأل الله تعالى أن يجمع المسلمين على كلمة الحق، وأن يعيذهم من البدع والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأن يصلح لهم ولاة أمورهم، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وقادة الخير المصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين صلى الله عليه وسلم على نبينا، محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
24/12/1403 هـ.
---
(1) سورة الأعراف، الآية " 33 ".
(2) سورة الإسراء. الآية " 36 ".
(3) سورة ص، الآية " 75 " .
(1) سورة الرحمن، الآية " 27 ".
(2) سورة المائدة، الآية " 64 ".
(3) سورة ص، الآية " 75 ".
(4) سورة القمر،الآية " 14 ".
(5) سورة طه، الآية " 39 ".
(1) سورة الزمر، الآية " 67 ".
(1) سورة البقرة، الآية " 29 ".
(2) سورة الأعراف، الآية " 54 ".
(1) سورة البقرة، الآية " 29 ".
(2) سورة الإنسان، الآية " 6 ".
(3) سورة الحديد، الآية " 4 " .
(4) سورة المجادلة، الآية " 7 ".
(5) سورة المجادلة، الآية " 7 ".(65/44)
(6) سورة المجادلة، الآية " 7 " .
(1) سورة الحديد، الآية " 4 ".
(2) سورة الحديد، الآية " 4 ".
(3) سورة طه، الآية " 46 " .
(4) سورة الحديد، الآية "4".
(1) سورة الحديد، الآية " 4 " .
(2) سورة ق، الآية " 16 ".
(3) سورة الواقعة، الآية " 85 ".
(1) سورة ق، الآية " 17 ".
(2) سورة الواقعة، الآيتان " 84-85".
(3) سورة القيامة، الآية " 18 ".
(1) سورة البقرة، الآية " 186".
(1) سورة القمر، الآية " 14 ".
(2) سورة طه، الآية " 39 ".
(3) سورة هود، الآية " 37 ".
(1) سورة الفجر، الآية " 22 ".
(1) سورة الأنعام، الآية " 158 ".
(2) سورة طه، الآية " 5 " .
(3) سورة البروج، الآيتان " 15-16" .
(4) سورة إبراهيم، الآية " 27 ".
(1) سورة يس، الآية " 71 ".
(2) سورة ص، الآية " 75 ".
(3) سورة الشورى، الآية " 30 ".
(4) سورة الروم، الآية " 41 ".
(1) سورة الفتح، الآية " 10 ".
(2) سورة الفتح، الآية " 18 ".
(3) سورة النساء، الآية " 80 ".
(3) سورة الفتح، الآية " 10 ".
(1) سورة القيامة، الآيتان " 22-23".
(1) سورة طه، الآية " 110 ".
(2) سورة الإسراء، الآية " 36 ".
(3) سورة الأعراف، الآية " 33 ".
(4) سورة يونس، الآية " 32 ".
(1) سورة النساء، الآية " 135 ".
(2) سورة المائدة، الآية " 8 ".
(3) سورة يونس، الآية " 32 ".
(1) سورة الرحمن، الآية " 27 ".
(2) سورة طه، الآية " 39 ".
(3) سورة المائدة، الآية " 64".
(4) سورة طه، الآية " 5 ".
(5) سورة الفجر، الآية " 22 ".
(6) سورة الأنعام، الآية " 158 ".
(7) سورة المائدة، الآية " 42 ".
(1) سورة الفتح، الآية " 18 ".
(2) سورة التوبة، الآية " 46 ".
(3) سورة الفتح، الآية " 6 ".
(4) سورة الكهف، الآية " 58 ".
(1) سورة النحل، الآية " 125 ".
(2) سورة العنكبوت، الآية " 46 ".
(3) سورة البقرة، الآية " 112 ".
(4) سورة الزمر، الآية " 3 ".
(5) سورة آل عمران، الآيتان " 31 – 32 ".(65/45)
(1) سورة محمد، الآية " 7 ".
(2) سورة النور، الآية " 55 ".
(3) سورة الحج، الآيتان " 40-41".(65/46)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الاول
الملائكة
محمد بن صالح العثيمين
(107) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: أيهما أفضل الملائكة أم الصالحون من البشر؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة وهي المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص، ولكن القول الراجح أن يقال : إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية فإن الله سبحانه وتعالى يعد لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم أي في مقر الصالحين وهو الجنة يدخلون عليهم من كل باب { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } (1) .
أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل لأنهم خلقوا من نور وجبلوا على طاعة الله عز وجل والقوة عليها كما قال الله تعالى في ملائكة النار: { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (2). وقال عز وجل |: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون } (3)هذا هو القول الفصل في هذه المسألة.
وبعد فإن الخوض فيها وطلب المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به والله المستعان.
---
(1) سورة الرعد، الآية " 24 ".
(2) سورة التحريم، الآية " 6 ".
(3) سورة الأنبياء، الآيتان " 19-20 ".(66/1)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الاول
الجن
محمد بن صالح العثيمين
(108) وسئل فضيلة الشيخ: هل الجن من الملائكة؟
فأجاب بقوله : الجن ليسوا من الملائكة، لأن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا من نار قال الله تعالى: { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } (1). وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقوا من نور ولأن الملائكة كما وصفهم الله تعالى بقوله: { عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } (2). والجن فيهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي قال الله تعالى: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } (3). وقال عن الجن: { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } (4). وقال عنهم أيضاً: { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً } (5). ولأن الملائكة كما قال أهل العلم صمد لا يأكلون ولا يشربون، والجن يأكلون ويشربون فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجن الذين وفدوا إليه: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً" فتبين بهذه الأدلة أن الملائكة ليسوا من الجن فأما قوله تعالى: { فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس } (6). فإنما استثناه لأنه كان معهم حينذاك وليس منهم ويبين ذلك قوله تعالى في سورة الكهف : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } (7). فعلل فسقه عن أمر ربه بكونه من الجن، ولو كان الملائكة من الجن لأمكن أن يفسقوا عن أمر ربهم كما فسق إبليس، وهذا الاستثناء يسمى استثناء منقطعاً كما يقول : النحويون : " جاء القوم إلا حماراً " وهو كلام عربي فصيح، فاستثنى الحمار من القوم وإن لم يكن منهم.
(109) وسئل جزاه الله عنا وعن المسلمين خيراً: هل إبليس من الملائكة؟(67/1)
فأجاب بقوله: إبليس ليس من الملائكة لأن إبليس خلق من نار والملائكة خلقت من نور، ولأن طبيعة إبليس غير طبيعة الملائكة، فالملائكة وصفهم الله تعالى بأنهم: { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (8). ووصفهم الله تعالى بقوله: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون.يسبحون الليل والنهار لا يفترون } (9).أما الشيطان فإنه على العكس من ذلك فإنه كان مستكبراً كما قال تعالى: { إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } (1). ولكن لما وجه الخطاب إلى الملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس من بينهم أي معهم مشاركاً لهم في العبادة وإن كان قلبه والعياذ بالله منطوياً على الكفر والاستكبار صار الخطاب متوجهاً إلى الجميع فلهذا صح استثناؤه منهم فقال تعالى: { فسجدوا إلا إبليس } وإلا فأصله ليس منهم بلا شك كما قال تعالى: { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } (2). والله أعلم.
(110) وسئل فضيلته: هل للجن تأثير على الإنس وما طريق الوقاية منهم؟
فأجاب بقوله: لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يروعون الإنسان إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات وأظنها غزوة الخندق وكان شاباً حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب فأنكر عليها ذلك، فقالت له: ادخل فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش وكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت وفي الحال أي الزمن الذي ماتت فيه الحية مات الرجل فلا يدرى أيهما أسبق موتاً الحية أم الرجل فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن قتل الجنَّان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين.(67/2)
وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس وأنهم يؤذونهم كما أن الواقع شاهد بذلك فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيرمى بالحجارة وهو لا يرى أحداً من الإنس في هذه الخربة، وقد يسمع أصواتاً وقد يسمع حفيفاً كحفيف الأشجار وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به، وكذلك أيضاً قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي، إما بعشق، أو لقصد الإيذاء، أو لسبب آخر من الأسباب ويشير إلى هذا قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } (3). وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم وربما يأخذ القارئ عليه عهداً ألا يعود إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس، وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم مثل آية الكرسي، فإن آية الكرسي إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. والله الحافظ.
(111) وسئل فضيلة الشيخ: هل للجن حقيقة؟ وهل لهم تأثير؟ وما علاج ذلك؟(67/3)
فأجاب قائلاً : أما حقيقة حياة الجن فالله أعلم بها ولكننا نعلم أن الجن أجسام حقيقية وأنهم خلقوا من النار وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون ولهم ذرية كما قال الله تعالى في الشيطان : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } (1)وأنهم مكلفون بالعبادات فقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وحضروا واستمعوا القرآن كما قال الله تعالى : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } (2)وكما قال تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } (3) إلى آخر الآيات. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد قال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً " وهم أعني الجن يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة وكذلك على الشرب كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعليه فإن الجن حقيقة واقعة وإنكارهم تكذيب للقرآن وكفر بالله عز وجل وهم يؤمرون ، وينهون ويدخل كافرهم النار كما قال الله تعالى : { قال ادخلوا في أمم خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها } (4) ومؤمنهم يدخل الجنة أيضاً لقوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . ذواتا أفنان . فبأي آلاء ربكما تكذبان } (5).والخطاب للجن والإنس. ولقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } (6) إلى غير ذلك من الآيات والنصوص(67/4)
الدالة على أنهم مكلفون يدخلون الجنة إذا أمنوا ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا.
أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضاً فإنهم يؤثرون على الإنس، إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش وما أشبه ذلك.
والعلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية مثل قراءة آية الكرسي، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
(112) وسئل: هل يجوز للانسان أن يدعو الله أن يهدي شيطانه؟
فأجاب قائلاً: لا يجوز أن يدعو أحد بهذا، لأنه ينافي حكمة الله وقضاءه وقدره، فإن الله سبحانه قضى بحكمته على إبليس باللعنة إلى يوم الدين.
(113) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم خدمة الجن للإنس؟
فأجاب بقوله: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ما مقتضاه أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات:
الأولى: أن يستخدمه في طاعة الله كأن يكون نائباً عنه في تبليغ الشرع، فمثلاً إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعاً فإنه يكون أمراً محموداً أو مطلوباً وهو من الدعوة إلى الله عز وجل والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء، والعباد والزهاد، والعلماء، لأن المنذر لابد أن يكون عالماً بما ينذر عابداً.
الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة فهو محرم مثل أن لا يخدمه الجني إلا أن يشرك بالله كأن يذبح للجني ويركع له أو يسجد ونحو ذلك.
الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة كنهب أموال الناس وترويعهم وما أشبه ذلك، فهذا محرم لما فيه من العدوان والظلم، ثم إن كانت الوسيلة محرمة أو شركاً كان أعظم وأشد.
(114) وسئل: عن حكم سؤال الجن وتصديقهم فيما يقول :ون؟(67/5)
فأجاب قائلاً : سؤال الجن وتصديقهم فيما يقول :ون: قال عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي: إن من يسأل الجن أو يسأل من يسأل الجن على وجه التصديق لهم في كل يخبرون به والتعظيم للمسؤول فهو حرام.
وأما إن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، ثم استدل له، ثم ذكر ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر رضي الله عنه وكان هناك امرأة لها قرين أي صاحب من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة.
(115) سئل الشيخ: هل الجن يعلمون الغيب؟
فأجاب بقوله:الجن لا يعلمون الغيب و { لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } (1*) واقرأ قوله تعالى: { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } (1) . ومن ادعى علم الغيب فهو كافر. ومن صدق من يدعي علم الغيب فإنه كافر أيضاً لقوله تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } (2) .فلا يعلم غيب السماوات والأرض إلا الله وحده، وهؤلاء الذين يدعون أنهم يعلمون الغيب في المستقبل كل هذا من الكهانة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " فإن صدقه فإنه يكون كافراً لأنه إذا صدقه بعلم الغيب فقد كذب قوله تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } .
(116) وسئل فضيلة الشيخ: هناك من يحضر الجن بطلاسم يقول :ها ويجعلهم يخرجون له كنوزاً مدفونة في الأرض منذ زمن بعيد فما حكم هذا العمل؟(67/6)
فأجاب قائلاً : هذا العمل ليس بجائز فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب والشرك أمره خطير قال الله تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (2)والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق، ويغرهم بما يعطيهم من الأموال فالواجب مقاطعة هؤلاء، وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم، وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم، والغالب في أمثال هؤلاء أنهم يحتالون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق، ويقول :ون القول تخرصاً ثم إن وافق القدر أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون: نحن قلنا وصار كذا ونحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوى باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء، وإني أوجه النصيحة إلى من ابتلي بهذا الأمر وأقول لهم: احذروا أن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله عز وجل وأخذ أموال الناس بالباطل، فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله تعالى من هذا العمل، وأن تصححوا أعمالكم، وتطيبوا أموالكم والله الموفق.
(117) سئل فضيلة الشيخ: هل هناك دليل على أن الجن يدخلون الإنس؟
فأجاب بقوله: نعم هناك دليل من الكتاب والسنة، على أن الجن يدخلون الإنس، فمن القرآن قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } (3) قال ابن كثير رحمه الله: " لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له".
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
وقال الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة: "إنهم أي أهل السنة يقولون : إن الجني يدخل في بدن المصروع". واستدل بالآية السابقة.(67/7)
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " قلت لأبي: إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه".
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الإمام أحمد والبيهقي، أنه أتي بصبي مجنون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اخرج عدو الله، اخرج عدو الله"، وفي بعض ألفاظه: " اخرج عدو الله أنا رسول الله". فبرأ الصبي.
فأنت ترى أن في هذه المسألة دليلاً من القرآن الكريم ودليلين من السنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة وقول أئمة السلف، والواقع يشهد به ومع هذا لا ننكر أن يكون للجنون سبب آخر من توتر الأعصاب واختلال المخ وغير ذلك.
فصل
(118) قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه، وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } (1).(67/8)
والجن عالم غيبي خلقوا من نار، وكان خلقهم قبل خلق الإنس، كما قال الله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون. والجان خلقناه من قبل من نار السموم } (2) وهم مكلفون، يوجه إليهم أمر الله تعالى ونهيه، فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، قال الله تعالى عنهم: { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } (3). وقال: { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً } (4). أي جماعات متفرقة وأهواء، كما يكون ذلك في الإنس، فالكافر منهم يدخل النار بالإجماع، والمؤمن يدخل الجنة كالإنس، قال الله تعالى: { ولمن خاف مقام ربه جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان } (5). والظلم بينهم وبين الإنس محرم، كما هو بين الآدميين. لقوله تعالى في الحديث القدسي:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) . رواه مسلم، ومع هذا فإنهم يعتدون على الإنس أحياناً، كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً، فمن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد فقال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يتسلطون عليهم بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم، ولهذا أمر الله تعالى بالتعوذ من ذلك فقال: { قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس } . وتأمل كيف قال الله تعالى: { من الجنة والناس } فبدأ بذكر الجن، لأن وسوستهم أعظم، ووصولهم إلى الإنسان أخفى.
فإن قلت: كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها؟(67/9)
فاستمع الجواب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لرجلين من الأنصار: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال : شيئاً". وفي رواية: "يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم".
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يخيفونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب، ولا سيما حين يلتجىء الإنس إليهم، ويستجيرون بهم، قال الله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } (1). أي خوفاً وإرهاباً وذعراً.
ومن عدوان الجن على الإنس أن الجني يصرع الإنسي فيطرحه، ويدعه يضطرب حتى يغمى عليه، وربما قاده إلى ما فيه هلاكه من إلقائه في حفرة أو ماء يغرقه، أو نار تحرقه وقد شبه الله تعالى آكلي الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } (2). قال ابن جرير: " وهو الذي يتخبطه فيصرعه". وقال ابن كثير: " إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له". وقال البغوي: " يتخبطه الشيطان أي يصرعه، ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع". وروى الإمام أحمد في مسنده 4/171-172 عن يعلى بن مرة رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اخرج عدو الله أنا رسول الله". قال: فبرأ الصبي فأهدت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كبشين وشيئاً من أقط وسمن، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر، ورجال إسناده ثقات. وله طرق قال عنها ابن كثير في تاريخه ( البداية والنهاية): " فهذه طرق جيدة متعددة، تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة".(67/10)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية البارزين في كتابه ( زاد المعاد ) 4/66 : " الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح فأئمتهم ( أي الأطباء) وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه. وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل ! وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهدان به، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم".
وطريق التخلص من هذا النوع من الصرع في أمرين: وقاية، وعلاج:
فأما الوقاية فتكون بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله تعالى، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقوة النفس وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها، فإن جريان الإنسان وراء الوساوس والأوهام يؤدي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة.
وأما العلاج أعني علاج صرع الأوراح، فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه. وعلاجه بالدعاء، والقراءة، والموعظة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعالج بقراءة آية الكرسي، والمعوذتين، وكثيراً ما يقرأ في أذن المصروع: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } (1). قال تلميذه ابن القيم: " حدثني أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع فقالت الروح: نعم ومد بها صوته ! قال: فأخذت له عصاً وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب. وفي أثناء ذلك قالت: أنا أحبه فقلت لها: هو لا يحبك. قالت : أنا أريد أن أحج به.(67/11)
فقلت لها:هو لا يريد أن يحج معك. قالت: أنا أدعه كرامة لك. قلت: لا ولكن طاعة لله ورسوله. قالت: فأنا أخرج. فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ" . هذا كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه، وقال ابن مفلح في كتاب: ( الفروع )، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام أيضاً: " كان شيخنا إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق ضربه حتى يفارقه"، والضرب في الظاهر على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه. وأرسل الإمام أحمد إلى مصروع ففارقه الصارع، فلما مات أحمد عاد إليه.
وبهذا تبين أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، والواقع، وأنكر ذلك المعتزلة. ولولا ما أثير حول هذه المسألة من بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله تعالى دالاً على معانٍ تخييلية لا حقيقة لها، ولولا أن إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة، أو تكذيبهم أقول : لولا هذا وهذا ما تكلمت في هذه المسألة لأنها من الأمور المعلومة بالحس، والمشاهدة، وما كان معلوماً بالحس، والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل لأن الأمور الحسية دليل بنفسها، وإنكارها مكابرة أو سفسطة. فلا تخدعوا أنفسكم، ولا تتعجلوا، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس، واستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم.
(119) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله هل الجن أسلموا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا بالرسل من قبل هل فرض عليهم الحج وإن كان كذلك فأين يحجون؟.(67/12)
فأجاب حفظه الله بقوله: إن الجن مكلفون بلا شك مكلفون بطاعة الله سبحانه وتعالى وإن منهم المسلم والكافر، ومنهم الصالح ومن دون ذلك كما ذكر الله تعالى في سورة الجن عنهم حيث قالوا: { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً } (1)وقالوا: { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } (2).
وقد صرف الله نفراً من الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعوا القرآن وآمنوا به وذهبوا دعاة إلى قومهم كما قال الله تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين* قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين } (3).
وهذا يدل على أن الجن كانوا مؤمنين بالرسل السابقين وأنهم يعلمون كتبهم لقولهم: { إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } (4)وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكرم وفد الجن الذين وفدوا إليه بأن قال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة فهي علف لدوابكم" ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستجمار بالعظام وعن الاستجمار بالروث وقال: " إن العظام زاد إخوانكم من الجن" .
والظاهر أنهم مكلفون بما يكلف به الإنس من العبادات ولا سيما أصولها كالأركان الخمسة، وحجهم يكون كحج الإنس زمناً ومكاناً وإن كانوا يختلفون عن الإنس في جنس العبادات التي لا تناسب حالهم فتكون مختلفة عن التكليف الذي يكلف به الإنس. والله أعلم.
---
(1) سورة الحجر، الآية " 27".(67/13)
(2) سورة الأنبياء، الآيتان " 26-27".
(3) سورة الأعراف، الآية " 38 " .
(4) سورة الجن، الآيتان" 14-15 ".
(5) سورة الجن، الآية "11".
(6) سورة الحجر، الآيتان " 30-31 ".
(7) سورة الكهف، الآية " 50 ".
(8) سورة التحريم، الآية " 6 ".
(9) سورة الأنبياء، الآيتان "19-20".
(1) سورة البقرة، الآية " 34 ".
(2) سورة الكهف، الآية " 50 ".
(3) سورة البقرة، الآية " 275 ".
(1) سورة الكهف، الآية " 50 ".
(2) سورة الجن، الآيتان " 1-2".
(3) سورة الأحقاف، الآيتان " 29-30 ".
(4) سورة الأعراف، الآية " 38".
(5) سورة الرحمن، الآيات " 46-49".
(6) سورة الأنعام، الآية " 130 ".
(1*) سورة النمل ، الآية " 65 " .
(1) سورة سبأ، الآية " 14 ".
(2) سورة النمل، الآية " 65 ".
(2) سورة المائدة، الآية " 72 ".
(3) سورة البقرة، الآية " 275".
(1) سورة الذاريات، الآيات "56-58 ".
(2) سورة الحجر، الآيتان " 26-27".
(3) سورة الجن، الآيتان " 14-15".
(4) سورة الجن، الآية " 11 ".
(5) سورة الرحمن، الآيتان " 46-47 ".
(1) سورة الجن، الآية " 6 ".
(2) سورة البقرة، الآية " 275 ".
(1) سورة المؤمنون، الآية " 115 ".
(1) سورة الجن، الآية " 11 ".
(2) سورة الجن، الآيتان " 14-15 ".
(3) سورة الأحقاف، الآيات " 29-32 ".
(4) سورة الأحقاف، الآية " 30 ".(67/14)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الاول
القرآن
محمد بن صالح العثيمين
(120) سئل فضيلة الشيخ: عن عقيدة السلف في القرآن الكريم؟
فأجاب قائلاً: عقيدة السلف في القرآن الكريم كعقيدتهم في سائر أسماء الله وصفاته وهي عقيدة مبنية على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلنا يعلم أن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بأنه كلامه، وأنه منزل من عنده قال تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } (1). والمراد بلا ريب بكلام الله هنا القرآن الكريم وقال تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك } (2)وقال عز وجل: { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } (3) فالقرآن كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، تكلم الله به حقيقة وألقاه إلى جبريل الأمين، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
ويعتقد السلف أن القرآن منزل نزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم منجماً أي مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة حسب ما تقتضيه حكمة الله عز وجل، ثم إن النزول يكون ابتدائياً، ويكون سببياً بمعنى أن بعضه ينزل لسبب معين اقتضى نزوله، وبعضه ينزل بغير سبب، وبعضه ينزل في حكاية حال مضت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضه ينزل في أحكام شرعية ابتدائية على حسب ما ذكره أهل العلم في هذا الباب.
ثم إن السلف يقولون: إن القرآن من عند الله ابتداء وإليه يعود في آخر الزمان هذا قول السلف في القرآن الكريم.(68/1)
ولا يخفى علينا أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بأوصاف عظيمة وصفه بأنه حكيم، وبأنه كريم وبأنه عظيم، وبأنه مجيد، وهذه الأوصاف التي وصف الله بها كلامه تكون لمن تمسك بهذا الكتاب وعمل به ظاهراً وباطناً فإن الله تعالى يجعل له من المجد، والعظمة، والحكمة، والعزة، والسلطان، ما لا يكون لمن لم يتمسك بكتاب الله عز وجل ولهذا أدعو من هذا المنبر جميع المسلمين حكاما ًومحكومين، علماء وعامة إلى التمسك بكتاب الله عز وجل ظاهراً وباطناً حتى تكون لهم العزة، والسعادة، والمجد، والظهور في مشارق الأرض ومغاربها، وأسال الله تعالى أن يعيننا على تحقيق ذلك.
(121) سئل فضيلة الشيخ: عن فتنة القول بخلق القرآن؟
فأجاب قائلاً: في عهد الإمام أحمد رحمه الله وقبله ظهرت فتنة خلق القرآن، وكان يقوم بها المعتزلة، فيقول :ون: إن كلام الله عز وجل مخلوق من جملة المخلوقات وليس وصفاً من أوصاف الله عز وجل فهو غير قائم بالله بل هو مخلوق منفصل عن الله، فلا يفرقون بين السماء وبين كلام الله ولا بين الأرض وبين كلام الله، فالكل كما يقول :ون مخلوق، وكذلك الأنعام والمطر، فالكل منزل، ولا شك أنه يلزم على قولهم لوازم باطلة، فيلزم أن يصح قول من يقول: كلام الناس هو كلام الله لأن كلام الناس مخلوق، ويلزم على ذلك إبطال التقسيم في قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } (1). فإن الأمر إنما يكون عن طريق الكلام، فإذا صار الكلام مخلوقاً فالكل مخلوق وليس هناك خلق وأمر بل ليس هناك إلا خلق. ويؤدي كذلك إلى إبطال دلالة القرآن الكريم، وله لوازم كثيرة ذكرها أهل العلم في الكتب المطولة.(68/2)
وقد أمتحن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أهل العلم لأن المأمون وكان خليفة المسلمين تزعم قيادة هذا القول ودعا الناس إليه، وكما هو معلوم إذا التزم الحاكم شيئاً يصعب على الناس الخروج عنه، فلم يصبر على مخالفة هذا إلا أفذاذ قليلون من الرجال، وكان هو الذي صمد صموداً تاماً كاملاً رحمه الله ولهذا انصب عليه العذاب والحبس واشتهر بهذا رحمه الله وحمى الله به عقيدة أهل السنة من القول بخلق القرآن، فبقي الناس والحمد لله يقول :ون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
---
(1) سورة التوبة، الآية " 6 ".
(2) سورة النحل، الآية " 102 ".
(3) سورة النمل، الآية " 76 ".
(1) سورة الأعراف، الآية " 54 ".(68/3)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الاول
الرسل
محمد بن صالح العثيمين
(122) سئل فضيلة الشيخ: هل الأنبياء المذكورون في قوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح .. } رسل أم لا؟ ومن أول الرسل؟
فأجاب بقوله: النبيون المذكورون في قوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (1). كلهم رسل لقوله تعالى في سياقها: { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2)وكل من ذكر في القرآن من النبيين فهم رسل لقوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } (3) وأول الرسل نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (4) وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، ولقوله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } (5).وإذا كان خاتم النبيين فهو خاتم الرسل قطعاً إذ لا رسالة إلا بنبوة ولهذا يقال: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً .
(123) وسئل فضيلته: هل الرسل عليهم الصلاة والسلام سواء في الفضيلة؟
فأجاب بقوله: الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليسوا سواء في الفضيلة لقوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } (6) . وقوله تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } (7).(69/1)
ويجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل أنهم حق صادقون فيما جاؤوا به مصدقون فيما أوحي إليهم لقوله تعالى: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } (7). إلى قوله : { لا نفرق بين أحد منهم } (8). ولأن هذا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قال الله تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } (9).
فلا نفرق بين أحد من الرسل في الإيمان به، وأنه صادق، مصدوق ورسالته حق ولكن نفرق في أمرين:
الأول: الأفضلية فنفضل بعضهم على بعض كما فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، لكن لا نقول ذلك على سبيل المفاخرة أو التنقص للمفضول كما في صحيح البخاري أن يهودياً أقسم فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطم وجهه رجل من الأنصار حين سمعه وقال : تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن لي ذمة وعهداً فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " لم لطمت وجهه؟ " فذكره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئي في وجهه ثم قال:" لا تفضلوا بين أنبياء الله". وكما في صحيحه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى" .
الثاني: الاتباع فلا نتبع إلا من أرسل إلينا وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع لقوله تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } (1).
(124) وسئل فضيلة الشيخ: هل هناك فرق بين الرسول والنبي؟(69/2)
فأجاب بقوله: نعم، فأهل العلم يقول :ون: إن النبي هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه بل يعمل به في نفسه دون إلزام بالتبليغ.
والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه والعمل به. فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، والأنبياء أكثر من الرسل، وقد قص الله بعض الرسل في القرآن ولم يقصص البعض الآخر.
قال تعالى: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } (2).
وبناء على هذه الآية يتبين أن كل من ذكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول.
(125) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى السابقة رقم " 124 : " إن النبي من أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه أما الرسول فهو من أوحي إليه بالشرع وأمر بتبليغه ولكن كيف لا يؤمر النبي بتبليغ الشرع وقد أوحي إليه؟
فأجاب بقوله: أوحى الله إلى النبي بالشرع من أجل إحياء الشرع بمعنى أن من رآه اقتدى به واتبعه دون أن يلزم بإبلاغه، ومن ذلك ما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام، فإن آدم كان نبياً مكلماً كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فليس من الرسل لأنه قد دلت السنة بل دل القرآن، والسنة، وإجماع الأمة على أن أول رسول أرسله الله هو نوح عليه السلام. وآدم لابد أن يكون متعبداً لله بوحي من الله فيكون قد أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ ولهذا لا يعد من الرسل.
(126) سئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً: من أول الرسل؟(69/3)
فأجاب بقوله: أول الرسل عليهم الصلاة والسلام، نوح عليه الصلاة والسلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل نوح فلم يبعث رسول، وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس صلى الله عليه وسلم كان قبل نوح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : في كتابه: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (1)وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة " أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له : أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض" فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } (2).
وأما نزول عيسى بن مريم، عليه السلام في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } (3)وهذا الرسول المصدق لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عن ابن عباس وغيره.
(127) سئل: هل آدم عليه الصلاة والسلام، رسول أو نبي؟
فأجاب بقوله : آدم ليس برسول ولكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم أنبي هو ؟ قال : " نعم نبي مكلم " ، ولكنه ليس برسول والدليل قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } (4)وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: " أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وهذا نص صريح بأن نوحاً أول الرسل.(69/4)
(128) وسئل فضيلته: عن عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام؟
فأجاب: عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام، أنه أحد الرسل الكرام، بل أحد الخمسة الذين هو أولو العزم وهم: محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونوح، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، ذكرهم الله في موضعين من كتابه : في سورة الأحزاب { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } (1) وفي سورة الشورى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } (2).(69/5)
وأن عيسى عليه الصلاة والسلام، بشر من بني آدم مخلوق من أم بلا أب، وأنه عبد الله ورسوله فهو عبد لا يٌعبد، ورسول لا يكذب، وأنه ليس له من خصائص الربوبية شيء بل هو كما قال الله تعالى: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } (3)وأنه، عليه الصلاة والسلام، لم يأمر قومه بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وإنما قال لهم ما أمره الله به : { أن اعبدوا الله ربي وربكم } (4)وأنه،عليه السلام خلق بكلمة الله عز وجل كما قال الله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } (5)وأنه ليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم رسول كما قال الله تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } (6)ولا يتم إيمان أحد حتى يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مبرأ ومنزه عما وصفه به اليهود الذين قالوا: "إنه ابن بغي وإنه نشأ من الزنى" والعياذ بالله وقد برأه الله تعالى من ذلك، كما أنهم أي المسلمين يتبرؤون من طريق النصارى الذين ضلوا في فهم الحقيقة بالنسبة لعيسى ابن مريم حيث اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وقال بعضهم: إنه ابن الله، وقال بعضهم: إنه ثالث ثلاثة.(69/6)
أما فيما يتعلق بقتله وصلبه فالله سبحانه وتعالى قد نفى أن يكون قد قتل أو صلب نفياً صريحاً قاطعاً فقال عز وجل: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً . وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } (1) فمن اعتقد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قتل وصلب فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فقد كفر، فنحن نؤمن بأن عيسى ، عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب ، ولكننا نقول : إن اليهود باؤوا بإثم القتل والصلب حيث زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهم لم يقتلوه حقيقة بل قتلوا من شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على واحد منهم فقتلوه وصلبوه، وقالوا: إننا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، فاليهود باؤوا بإثم القتل والصلب بإقرارهم على أنفسهم، والمسيح عيسى ابن مريم برأه الله من ذلك وحفظه ورفعه سبحانه وتعالى عنده إلى السماء وسوف ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يموت في الأرض ويدفن فيها ويخرج منها كما يخرج سائر بني آدم لقول الله تعالى: { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } (2)، وقوله: { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } (3).
(129) وسئل فضيلة الشيخ: حفظه الله تعالى : عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بحبيب الله ؟(69/7)
فأجاب بقوله: النبي صلى الله عليه وسلم حبيب الله لا شك فهو حاب لله ومحبوب لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل لله، فالرسول صلى الله عليه وسلم خليل الله كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ". ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى، فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام أعلى من ذلك وهو الخلة فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، لذلك نقول : إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الله، وهذا أعلى من قولنا : حبيب الله لأنه متضمن للمحبة، وزيادة لأنه غاية المحبة.
(130) وسئل الشيخ حفظه الله تعالى : عن حكم جعل مدح النبي صلى الله عليه وسلم تجارة ؟
فأجاب بقوله: حكم هذا محرم، ويجب أن يعلم بأن المديح للنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : أن يكون مدحاً فيما يستحقه صلى الله عليه وسلم بدون أن يصل إلى درجة الغلو فهذا لا بأس به أي لا بأس أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أهله من الأوصاف الحميدة الكاملة في خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم.
والقسم الثاني: من مديح الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يخرج بالمادح إلى الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله". فمن مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غياث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وأنه مالك الدنيا والآخرة، وأنه يعلم الغيب وما شابه ذلك من ألفاظ المديح فإن هذا القسم محرم بل قد يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز أن يمدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يصل إلى درجة الغلو لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(69/8)
ثم نرجع إلى أتخاذ المديح الجائز حرفة يكتسب بها الإنسان فنقول أيضاً : إن هذا حرام ولا يجوز ، لأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما يستحق وبما هو أهل له صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة ، والهدي المستقيم مدحه بذلك من العبادة التي يتقرب بها إلى الله ، وما كان عبادة فإنه لا يجوز أن يتخذ وسيلة إلى الدنيا لقول الله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها باطل ما كانوا يعملون } (1). والله الهادي إلى سواء الصراط.
(131) سئل فضيلة الشيخ: عمن قال: إن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لغرضين: أحدهما: مصلحة الدعوة، والثاني: التمشي مع ما فطره الله عليه من التمتع بما أحل الله له؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أكرمه الله تعالى بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الحاجة إلى الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال الله له: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } وقال هو عن نفسه: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون".
وانتفاء علم الغيب، وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه الله ضعيفاً في جميع أموره، لم يكن ذلك قصوراً في مقام النبوة، ونقصاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم.(69/9)
ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: " كنا نتحدث أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم أعطي قوة ثلاثين".
يعني على النساء، وهذا والله أعلم، ليتمكن من إدراك ما أحل الله منهن بلا حصر ولا مهر، ولا ولي، فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعاً، ولولا هذه القوة التي أمده الله بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه صلى الله عليه وسلم كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم :" تنكح المرأة لأربع: لمالها ، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين". بل قد قال الله له: { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } (1). لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالاً، الشابات سنّاً، كما قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج ثيباً، قال : " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك " ؟ . وفي رواية : " وتضاحكها وتضاحكك" . وفي رواية : " مالك وللعذارى ولعابها "، رواه البخاري، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم إما تأليفاً، أو تشريفاً، أو جبراً أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة. وقد أجملها في فتح الباري ص 115ج 9 المطبعة السلفية حيث قال: " والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.(69/10)
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك.
رابعها: الزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة. فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: ما تقدم مبسوطاً من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم .
تاسعها وعاشرها: ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن . أ. هـ.
قلت: الثامنة حاصلة لأن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلاً كما سبق.
وثم وجه حادي عشر: وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن لتتأسى به الأمة في ذلك.
وثاني عشر: كثرة انتشار الشريعة فإن انتشارها من عدد أكثر من انتشارها من واحدة.
وثالث عشر: جبر قلب من فات شرفها كما في صفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.
ورابع عشر: تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطؤوا في الحلق مع أمره لهم به.(69/11)
وخامس عشر: التأليف وتقوية الصلة كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة، فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر وزوج بناته الثلاث بعثمان وعلي رضي الله عن الجميع فسبحان من وهب نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحكم، وأمده بما يحققها قدراً وشرعاً، فأعطاه قوة الثلاثين رجلاً، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء، وهو سبحانه الحكيم العليم.
وأما عدم تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لمجرد الشهوة، وقضاء وطر النكاح.
وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجها بل دخل عليها وخلا بها، ولكنها استعاذت بالله منه، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك" . ولكن هل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر؟ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن من حكمة الله تعالى أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه.
وأما سودة رضي الله عنها فقد خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم منه أن يكون قد هم به. وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله.(69/12)
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقة من تبناه، فأبطل الله التبني وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئاً، وتأثير الفعل فيها أسرع فقيض الله سبحانه بحكمته البالغة أن يقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي، ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحكمة بقوله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً } (1). ثم تأمل قوله تعالى : { زوجناكها } . فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه، أو تشوف إليه، وإنما هو قضاء من الله لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه وعدم الحرج منه وبهذا يعرف بطلان ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: " سبحان الله مقلب القلوب". فأخبرت زينب زيداً بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: { أمسك عليك زوجك واتق الله } . فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر الله تعالى من الحكمة في تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير رحمه الله فلم يذكره، وقال: أحببنا أن نضرب عنها أي عن الآثار الواردة عن بعض السلف صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها، ويدل على بطلان هذا الأثر أنه لا يليق بحال الأنبياء فضلاً عن أفضلهم وأتقاهم لله عز وجل وما أشبه هذه القصة بتلفيق قصة داود عليه الصلاة والسلام، وتحيله علي التزوج بزوجة من ليس له إلا زوجة واحدة، على ما ذكر في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: { وهل أتاك نبأ الخصم } (2). إلى آخر القصة فإن من علم(69/13)
قدر الأنبياء وبعدهم عن الظلم والعدوان والمكر والخديعة علم أن هذه القصة مكذوبة على نبي الله دواد عليه الصلاة والسلام.
والحاصل أنه وإن جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج لمجرد قضاء الوطر من النكاح وجمال المرأة وأن ذلك لا يقدح في مقامه، فإننا لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زواجاً استقرت به الزوجة وبقيت معه من أجل هذا الغرض. والله أعلم.
(132) سئل فضيلة الشيخ: لماذا وجه الله الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } (3)مع أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك؟
فأجاب بقوله: الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم في ظاهر سياق الآية.
وقال بعض العلماء: لا يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقع منه ذلك والآية على تقدير " قل " وهذا ضعيف لإخراج الآية عن سياقها.
والصواب: أنه إما خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ذلك ممكناً منه قال تعالى: { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } (4)فالخطاب له ولجميع الرسل ولا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع منه صلى الله عليه وسلم باعتبار حاله شرك أبداً، والحكمة من النهي أن يكون غيره متأسياً به فإذا كان النهي موجهاً إلى من لا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله فهو إلى من يمكن منه من باب أولى .
(133) سئل فضيلة الشيخ: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " ؟ ومن الذي تصدق رؤياه؟(69/14)
فأجاب بقوله : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" أن رؤيا المؤمن تقع صادقة لأنها أمثال يضربها الملك للرائي، وقد تكون خبراً عن شيء واقع، أو شيء سيقع فيقع مطابقاً للرؤيا فتكون هذه الرؤيا كوحي النبوة في صدق مدلولها وإن كانت تختلف عنها ولهذا كانت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وتخصيص الجزء بستة وأربعين جزءاً من الأمور التوقيفية التي لا تعلم حكمتها كأعداد الركعات والصلوات.
وأما الذي تصدق رؤياه فهو الرجل المؤمن الصدوق إذا كانت رؤياه صالحة، فإذا كان الإنسان صدوق الحديث في يقظته وعنده إيمان وتقوى فإن الغالب أن الرؤيا تكون صادقة، ولهذا جاء هذا الحديث مقيداً في بعض الروايات بالرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً ".
ولكن ليعلم أن ما يراه الإنسان في منامه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: رؤيا حق صالحة وهي التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وغالباً ما تقع، ولكن أحياناً يكون وقوعها على صفة ما رآه الإنسان في منامه تماماً، وأحياناً يكون وقوعها على صفة ضرب الأمثال في المنام، يضرب له المثل ثم يكون الواقع على نحو هذا المثل وليس مطابقاً له تماماً، مثل ما رأى النبي، عليه الصلاة والسلام، قبيل غزوة أحد أن في سيفه ثلمة، ورأى بقراً تنحر، فكان الثلمة التي في سيفه استشهاد عمه حمزة رضي الله عنه لأن قبيلة الإنسان بمنزلة سيفه في دفاعهم عنه ومعاضدته ومناصرته، والبقر التي تنحر كان استشهاد من استشهد من الصحابة رضي الله عنهم لأن في البقر خيراً كثيراً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا أهل علم ونفع للخلق وأعمال صالحة.(69/15)
القسم الثاني : الحلم وهو ما يراه الإنسان في منامه مما يقع له في مجريات حياته، فإن كثيراً من الناس يرى في المنام ما تحدثه نفسه في اليقظة وما جرى عليه في اليقظة وهذا لا حكم له.
القسم الثالث: إفزاع من الشيطان، فإن الشيطان يصور للإنسان في منامه ما يفزعه من شيء في نفسه، أو ماله، أو في أهله، أو في مجتمعه، لأن الشيطان يحب إحزان المؤمنين كما قال الله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله } (1) فكل شيء ينكد على الإنسان في حياته ويعكر صفوه عليه فإن الشيطان حريص عليه سواء ذلك في اليقظة أو في المنام، لأن الشيطان عدو كما قال الله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (2)وهذا النوع الأخير أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التحرز منه فأمر من رأى في منامه ما يكره أن يستعيذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن ينقلب على جنبه الآخر، وأن لا يحدث أحداً بما رأى فإذا فعل هذه الأمور فإن ما رآه مما يكره في منامه لا يضره شيئاً.(69/16)
وهذا يقع كثيراً من الناس ويكثر السؤال عنه لكن الدواء له ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه". وكما في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري " إذا رأى أحدكم ما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره". وكما في حديث أبي قتادة عند مسلم قال: " كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس". أخرجه مسلم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من رأى ما يكره بأمور:
1. أن يبصق عن يساره ثلاثاً.
2. أن يستعيذ بالله من شر الشيطان ثلاثاً.
3. أن يستعيذ بالله من شر ما رأى .
4. أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر.
5. أن لا يحدث بها أحداً.
6. أن يقوم فيصلي.
(134) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } (3). وقوله: { لا نفرق بين أحد منهم } (4)؟(69/17)
فأجاب حفظه الله بقوله: قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } كقوله تعالى: { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } (1). فالأنبياء والرسل لا شك أن بعضهم أفضل من بعض فالرسل أفضل من الأنبياء ، وأولو العزم من الرسل أفضل ممن سواهم ، وأولو العزم من الرسل هم الخمسة الذين ذكرهم الله تعالى في آيتين من القرآن إحداهما في سورة الأحزاب: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } (2). محمد، عليه الصلاة والسلام، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.
والآية الثانية في سورة الشورى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } (3). فهؤلاء خمسة وهم أفضل ممن سواهم.
وأما قوله تعالى عن المؤمنين: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } (4). فالمعنى لا نفرق بينهم في الإيمان بل نؤمن أن كلهم رسل من عند الله حقّاًَ وأنهم ما كذبوا فهم صادقون مصدقون وهذا معنى قوله: { لا نفرق بين أحد من رسله } (5). أي في الإيمان بل نؤمن أن كلهم، عليهم الصلاة والسلام، رسل من عند الله حقّاً.(69/18)
لكن في الإيمان المتضمن للاتباع هذا يكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم خاصّاً بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم هو المتبع، لأن شريعته نسخت ماسواها من الشرائع وبهذا نعلم أن الإيمان يكون للجميع كلهم نؤمن بهم وأنهم رسل الله حقاً وأن شريعته التي جاء بها حق، وأما بعد أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فإن جميع الأديان السابقة نسخت بشريعته صلى الله عليه وسلم وصار الواجب على جميع الناس أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم وحده ولقد نسخ الله تعالى بحكمته جميع الإديان سوى دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الله تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (6)فكانت الأديان سوى دين الرسول صلى الله عليه وسلم كلها منسوخة لكن الإيمان بالرسل وأنهم حق هذا أمر لا بد منه.
(135) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
فأجاب حفظه الله بقوله: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي الآيات الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقّاً كثيرة جداً وأعظم آية جاء بها هذا القرآن الكريم كما قال الله تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين . أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } (1).
فالقرآن العظيم أعظم آية جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفع لمن تدبرها واقتدى بها لأنها آية باقية إلى يوم القيامة.(69/19)
أما الآيات الأخرى الحسية التي مضت وانقضت أو لا تزال تحدث فهي كثيرة وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة صالحة منها في آخر كتابه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه لأنه بين فيه شطح النصارى الذين بدلوا دين المسيح، عليه الصلاة والسلام، وخطأهم وضلالهم وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرفوه وبدلوه وغيروه. والكتاب مطبوع وبإمكان كل إنسان الحصول عليه، وفيه فوائد عظيمة منها ما أشرت إليه، بيان الشيء الكثير من آيات النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ابن كثير رحمه الله في " البداية والنهاية " ذكر كثيراً من آيات النبي صلى الله عليه وسلم فمن أحب فليرجع إليه.
(136) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: عمن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور من نور الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب ثم هو يستغيث به صلى الله عليه وسلم معتقداً أنه يملك النفع والضر، فهل تجوز الصلاة خلف هذا الرجل أو من كان على شاكلته أفيدونا جزاكم الله خيراً؟.(69/20)
فأجاب بقوله: من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور من الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب فهو كافر بالله ورسوله وهو من أعداء الله ورسوله وليس من أولياء الله ورسوله لأن قوله هذا تكذيب لله ورسوله ومن كذب الله ورسوله فهو كافر والدليل على أن قوله هذا تكذيب لله ورسوله قوله تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم } (2)وقوله تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } (3)وقوله تعالى: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي } (4)وقوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".
ومن استغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم معتقداً أنه يملك النفع والضر فهو كافر مكذب لله تعالى مشرك به لقوله تعالى: { وقال ربكم أدعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (1)وقوله تعالى: { قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً . قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } (2)وقوله صلى الله عليه وسلم لأقاربه : لا أغني عنكم من الله شيئاً كما قال ذلك لفاطمة وصفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تجوز الصلاة خلف هذا الرجل ومن كان على شاكلته ولا تصح الصلاة خلفه ولا يحل أن يجعل إماماً للمسلمين .
تم بحمد الله تعالى - المجلد الأول
ويليه بمشيئة الله. عز وجل - المجلد الثاني
---
(1) سورة النساء، الآية " 163".
(2) سورة النساء، الآية " 165 ".
(3) سورة غافر، الآية " 78 ".
(4) سورة النساء، الآية " 163 ".
(5) سورة الأحزاب، الآية " 40 ".
(6) سورة البقرة، الآية " 253 ".
(7) سورة الإسراء، الآية " 55 ".(69/21)
(7) سورة البقرة، الآية " 136 ".
(8) سورة البقرة، الآية " 136 ".
(9) سورة، البقرة، الآية " 285 ".
(1) سورة المائدة، الآية " 48 ".
(2) سورة غافر، الآية " 78 ".
(1) سورة النساء، الآية " 163 ".
(2) سورة الأحزاب، الآية " 40 ".
(3) سورة آل عمران، الآية " 81 ".
(4) سورة البقرة، الآية " 213 ".
(1) سورة الأحزاب، الآية "7 " .
(2) سورة الشورى، الآية " 13 ".
(3) سورة الزخرف، الآية " 59 ".
(4) سورة المائدة، الآية " 117 ".
(5) سورة آل عمران، الآية " 59 ".
(6) سورة الصف، الآية " 6 ".
(1) سورة النساء، الآيات " 157-159 ".
(2) سورة طه، الآية " 55 ".
(3) سورة الأعراف، الآية " 25 ".
(1) سورة هود، الآيتان " 15-16 ".
(1) سورة الأحزاب، الآية " 52 ".
(1) سورة الأحزاب، الآية " 37 ".
(2) سورة ص، الآية " 21 ".
(3) سورة يونس، الآية " 106 ".
(4) سورة الزمر، الآية " 65 ".
(1) سورة المجادلة، الآية " 10 ".
(2) سورة فاطر، الآية " 6 ".
(3) سورة البقرة، الآية " 253 " .
(4) سورة البقرة، الآية " 136 ".
(1) سورة الإسراء، الآية " 55 ".
(2) سورة الأحزاب، الآية " 7 ".
(3) سورة الشورى، الآية " 13 ".
(4) سورة البقرة، الآية " 285".
(5) سورة البقرة الآية " 285 ".
(6) سورة الأعراف، الآية " 158 ".
(1) سورة العنكبوت، الآيتان "50-51 ".
(2) سورة الكهف، الآية " 110".
(3) سورة النمل، الآية " 65 ".
(4) سورة الأنعام، الآية " 50 ".
(5) سورة الأعراف، الآية " 188 ".
(1) سورة غافر، الآية " 60".
(2) سورة الجن، الآيتان " 21، 22 ".(69/22)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
اليوم الآخر
محمد بن صالح العثيمين
(137) سئل فضيلة الشيخ: هل أشراط الساعة الكبرى تأتي بالترتيب؟ وهل الحيوانات تشعر بعلامات القيامة دون الإنس والجن؟
فأجاب بقوله: أشراط الساعة الكبرى بعضها مرتب ومعلوم ، وبعضها غير مرتب ولا يعلم ترتيبه ، فمما جاء مرتباً نزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال فإن الدجال يبعث ثم ينزل عيسى بن مريم فيقتله ثم يخرج مأجوج ومأجوج.
وقد رتب السفاريني-رحمه الله- في عقيدته هذه الأشراط لكن بعض هذا الترتيب تطمئن إليه النفس وبعضها ليس كذلك.
والترتيب لا يهمنا ، وإنما يهمنا أن للساعة علامات عظيمة إذا وقعت فإن الساعة تكون قد قربت ، وقد جعل الله للساعة أشراطاً ؛ لأنها حدث هام يحتاج الناس إلى تنبيههم لقرب حدوثه.
ولا ندري هل تشعر البهائم بذلك ، ولكن البهائم تبعث يوم القيامة وتحشر ويقتص من بعضها لبعض فيقتص للشاة الجلحاء من القرناء.
( 138) سئل فضيلة الشيخ: عن أحاديث خروج المهدي هل هي صحيحة أو لا؟
فأجاب بقوله: أحاديث المهدي تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أحاديث مكذوبة.
القسم الثاني: أحاديث ضعيفة.
القسم الثالث: أحاديث حسنة لكنها بمجوعها تصل إلى درجة الصحة ، على أنها صحيح لغيره.
وقال بعض العلماء :إن فيها ما هو صحيح لذاته وهذا هو القسم الرابع.
ولكنه ليس المهدي : المزعوم الذي يقال : إنه في سرداب في العراق، فإن هذا لا أصل له وهو خرافة ولا حقيقة له ، ولكن المهدي الذي جاءت الأحاديث بإثباته رجل كغيره من بني آدم يخلق ويولد في وقته ويخرج إلى الناس في وقته ، فهذه هي قصة المهدي، وإنكاره مطلقاً خطأ، وإثباته مطلقاً خطأ، كيف ذلك؟(70/1)
إثباته على وجه يشمل المهدي المنتظر الذي يقال : إنه في السرداب هذا خطأ ؛ لأن اعتقاد هذا المهدي المختفي خبل في العقل ، وضلال في الشرع وليس له أصل ، وإثبات المهدي الذي أخبر به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وتكاثرت فيه الأحاديث والذي سيولد في وقته ويخرج في وقته هذا حق.
( 139) وسئل فضيلة الشيخ: من هم يأجوج ومأجوج؟
فأجاب- حفظه الله تعالى – بقوله: يأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم موجودتان ، قال الله تعالى في قصة ذي القرنين: (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً .قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً .قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً) (1) .
ويقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "يقول الله يوم القيامة : يا آدم قم فابعث بعث النار من ذريتك" إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا فإن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً" . وخروجهم الذي هو من أشراط الساعة وجدت بوادره في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث أم حبيبة، رضي الله عنها، قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول : "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها".
(140 ) وسئل فضيلة الشيخ عن الدجال ؟ ولماذا حذر الأنبياء أقوامهم منه مع أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان؟(70/2)
فأجاب قائلاً: أعظم فتنة على وجه الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة هي فتنة الدجال كما قال ذلك النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ما من نبي من نوح إلى محمد ، صلوات الله عليهم وسلامه ، إلا أنذر قومه به تنويهاً بشأنه ، وتعظيماً له ، وتحذيراً منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان ، ولكن أمر الرسل أن ينذروا قومهم إياه من أجل أن تتبين عظمته وفداحته ، وقد صح ذلك عن النبي ، عليه الصلاة والسلام، وقال: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم – صلوات الله وسلامه عليه يعني أكفيكم إياه- وإلا فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم"
نِعْمَ الخليفة ربنا – جل وعلا- .
فهذا الدجال شأنه عظيم بل هو أعظم فتنة كما جاء في الحديث منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، فكان حريّاً بأن يخص من بين فتن المحيا بالتعوذ من فتنته في الصلاة "أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" .
وأما الدجال فهو مأخوذ من الدجل وهوالتمويه،لأن هذا مموه بل أعظم مموه وأشد الناس دجلاً.
(141) وسئل فضيلته: عن وقت خروج المسيح الدجال؟
فأجاب بقوله: خروج المسيح الدجال من علامات الساعة ولكنه غير محدد ، لأنه لا يعلم متى تكون الساعة إلا الله فكذلك أشراطها ما نعلم منها إلا ما ظهر ، فوقت خروجه غير معلوم لنا لكننا نعلم أنه من أشراط الساعة.
( 142) وسئل عن مكان خروج الدجال؟(70/3)
فأجاب بقوله: يخرج من المشرق من جهة الفتن والشر كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "الفتنة هاهنا" وأشار إلى المشرق ، فالمشرق منبع الشر والفتن يخرج من المشرق من خراسان مارّاً بأصفهان داخلاً الجزيرة من بين الشام والعراق ليس له هم إلا المدينة ، لأن فيها البشير النذير ، عليه الصلاة والسلام ، فيحب أن يقضي على أهل المدينة ، ولكنها محرمة عليه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : "على كل باب منها ملائكة يحفظونها" هذا الرجل يخرج خلة بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفاً ؛ لأنهم جنوده، فاليهود من أخبث عباد الله وهو أضل عباد الله فيتبعونه ويؤوونه وينصرونه، ويكونون مسالح له- أي جنوداً مجندين- هم وغيرهم ممن يتبعهم ، قال النبي ، عليه الصلاة والسلام : "يا عباد الله فاثبتوا يا عباد الله فاثبتوا" يثبتنا عليه الصلاة والسلام ، لأن الأمر خطير وقال عليه الصلاة والسلام : "من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات" . يأتيه الإنسان ويقول : لن يضلني ولن أتأثر به، ولكن لا يزال يلقي عليه من الشبهات حتى يتبعه والعياذ بالله.
( 143) وسئل عن: دعوة الدجال وما يدعو إليه؟
فأجاب بقوله: ذكر أنه أول ما يخرج يدعو إلى الإسلام ويقول : إنه مسلم ، وينافح عن الإسلام ، ثم بعد ذلك يدعي النبوة وأنه نبي ، ثم بعد ذلك يدعي أنه إله فهذه دعوته نهايتها بداية فرعون وهي ادعاء الربوبية.
( 144) وسئل عن : فتنة الدجال؟
فأجاب بقوله: من حكمة الله- عز وجل أنه – سبحانه وتعالى يعطي الدجال آيات فيها فتن عظيمة فإنه يأتي إلى القوم يدعوهم فيتبعونه فيصبحون وقد نبتت أراضيهم ، وشبعت مواشيهم فتعود إليهم أطول ما كانت ذراً وأسبغ ضروعاً ، وأمد خواصر يعني أنهم يعيشون برغد لأنهم اتبعوه.(70/4)
ويأتي القوم فيدعوهم فلا يتبعونه فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، وهذه فتنة عظيمة لا سيما في الأعراب ، ويمر بالخربة فيقول : أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل من ذهب وفضة وغيرها بدون آلات وبدون أي شيء ، فتنة من الله – عز وجل- فهذه حاله ومعاملته مع أهل الدنيا لمن يريد التمتع بالدنيا أو يبأس فيها.
ومن فتنته أن الله – تعالى – جعل معه جنة وناراً بحسب رؤيا العين لكن جنته نار ، وناره جنة ، فمن أطاعه أدخل هذه الجنة فيما يرى الناس ولكنها نار محرقة والعياذ بالله ، ومن عصاه أدخله النار فيما يراه الناس ولكنها جنة وماء عذب طيب.
إذاً يحتاج الأمر إلى تثبيت من الله – عز وجل – إن لم يثبت الله المرء هلك وضل فيحتاج إلى أن يثبت الله المرء على دينه ثباتاً قوياً.
ومن فتنته أنه يخرج إليه رجل من الناس ممتلئ شباباً فيقول له: أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدعوه فيأبى أن يتبعه فيضربه ويشجه في المرة الأولى ثم يقتله ويقطعه قطعتين ويمشي بينهما تحقيقاً للمباينة بينهما، ثم يدعوه فيقوم يتهلل وجهه ، ويقول : أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يسلط عليه يعجز عن قتله ولن يسلط على أحد بعده، فهذا من أعظم الناس شهادة عند الله لأنه في هذا المقام العظيم الرهيب الذي لا نتصوره نحن في هذا المكان لا يتصور رهبته إلا من باشره ومع ذلك يصرح على الملأ إعذاراً وإنذاراً بأنك أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم. ، هذه حاله وما يدعو إليه.
( 145) وسئل فضيلته: عن مقدار لبث الدجال في الأرض؟(70/5)
فأجاب بقوله: مقدار لبثه في الأرض: أربعون يوماً فقط، لكن يوم كسنة ، ويوم كشهر، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامنا ، هكذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الصحابة – رضي الله عنهم: يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد ؟ قال : " لا ،اقدروا له قدره" انظروا إلى هذا المثال لنأخذ منه عبرة كيف كان تصديق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرسول الله ما ذهبوا يحرفون ، أو يؤولون، أو يقولون :إن اليوم لا يمكن أن يطول لأن الشمس تجري في فلكها ولا تتغير ولكنه يطول لكثرة المشاق فيه وعظمها فهو يطول لأنه متعب بكسر العين ما قالوا هكذا كما يقول بعض المتحذلقين ، ولكن صدقوا بأن هذا اليوم سيكون اثني عشر شهراً حقيقة بدون تحريف وبدون تأويل، وهكذا حقيقة المؤمن ينقاد لما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب وإن حار فيها عقله ، لكن يجب أن تعلم أن خبر الله ورسوله لا يكون في شيء محال عقلاً لكن يكون في شيء تحار فيه العقول لأنها لا تدركه ، فالرسول ، صلى الله عليه وسلم أخبر أن أول يوم من أيام الدجال كسنة ، لو أن هذا الحديث مر على المتأخرين الذين يدعون أنهم هم العقلاء لقالوا : إن طوله مجاز عما فيه من التعب والمشقة لأن أيام السرور قصيرة ، وأيام الشرور طويلة ، ولكن الصحابة –رضي الله عنهم– من صفائهم وقبولهم سلموا في الحال وقالوا بلسان الحال : إن الذي خلق الشمس وجعلها تجري في أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة قادر على أن يجعلها تجري في اثني عشر شهراً؛ لأن الخالق واحد – عز وجل –فهو قادر ، ولذلك سلموا . وقالوا : كيف نصلي ؟ ما سألوا عن الأمر الكوني لأنهم يعلمون أن قدرة الله فوق مستواهم ، سألوا عن الأمر الشرعي الذين هم مكلفون به وهو الصلاة، وهذا والله حقيقة الانقياد والقبول قالوا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا اقدروا له قدره" وسبحان الله العظيم إذا تأملت تبين(70/6)
لك أن هذا الدين تام كامل لا يمكن أن تكون مسألة يحتاج الناس إليها إلى يوم القيامة إلا وجد لها أصل، كيف أنطق الله الصحابة أن يسألوا هذا السؤال؟ أنطقهم الله حتى يكون الدين كاملاً لا يحتاج إلى تكميل ، وقد احتاج الناس إلى هذا الآن في المناطق القطبية يبقى الليل فيها ستة أشهر والنهار ستة أشهر فنحتاج إلى هذا الحديث ، انظر كيف أفتى الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذه الفتوى قبل أن تقع هذه المشكلة لأن الله –تعالى – قال في كتابه : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } (1) والله لو نتأمل الكلمة { أكملت لكم دينكم } لعلمنا أنه لا يوجد شيء ناقص في الدين أبداً ، فهو كامل من كل وجه ، لكن النقص فينا ؛ إما قصور في عقولنا ، أو في أفهامنا ، أو في إرادات ليست منضبطة يكون الإنسان يريد أن ينصر قوله فيعمى عن الحق – نسأل الله العافية – فلو أننا نظرنا في علم ، وفهم ، وحسن نية لوجدنا أن الدين ولله الحمد لا يحتاج إلى مكمل ، وأنه لا يمكن أن تقع مسألة صغيرة ولا كبيرة ، إلا وجد حلها في الكتاب والسنة، لكن لما كثر الهوى وغلب على الناس صار بعض الناس يعمى عليهم الحق ويخفى عليهم وتجدهم إذا نزلت فيهم الحادثة التي لم تكن معروفة من قبل بعينها وإن كان جنسها معروفاً تجدهم يختلفون فيها أكثر من أصابعهم ، إذا كانت تحتمل قولين وجدت فيها عشرة ، كل هذا لأن الهوى غلب على الناس الآن ، وإلا فلو كان القصد سليماً والفهم صافياً والعلم واسعاً لتبين الحق.(70/7)
على كل حال ، أقول : إن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر أن الدجال يبقى أربعين يوماً وبعد الأربعين يوماً ينزل المسيح عيسى بن مريم الذي رفعه الله إليه وقد جاء في الأحاديث الصحيحة " أنه ينزل عند المنارة البيضاء ، شرقي دمشق ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات". وهذه من آيات الله فيلحق الدجال عند باب لد في فلسطين فيقتله هناك ،وحينئذ يقضي عليه نهائياً ، ولا يقبل عيسى ، عليه الصلاة والسلام ، إلا الإسلام لا يقبل الجزية ، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير فلا يعبد إلا الله ، وعلى هذا فالجزية التي فرضها الإسلام جعل الإسلام لها أمداً تنتهي إليه عند نزول عيسى ، ولا يقال : إن هذا تشريع من عيسى عليه الصلاة والسلام ، لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر بذلك مقراً له ، فوضع الجزية عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم : قوله وفعله وإقراره ، وكونه يتحدث عن عيسى ابن مريم مقراً له فهذا من سنته ، وإلا فإن عيسى لا يأتي بشرع جديد ولا أحد يأتي بشرع جديد ، ليس إلا شرع محمد ، عليه الصلاة والسلام ، إلى يوم القيامة ، هذا ما يتعلق بالدجال نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من فتنته.
( 146) وسئل فضيلة الشيخ : هل الدجال من بني آدم ؟
فأجاب قائلاً: الدجال من بني آدم . وبعض العلماء يقول : إنه شيطان. وبعضهم يقول : إن أباه أنسي وأمه جنية ، وهذه الأقوال ليست صحيحة ، فالذي يظهر أن الدجال من بني آدم ، وأنه يحتاج إلى الأكل والشرب وغير ذلك ، ولهذا يقتله عيسى قتلاً عادياً كما يقتل البشر.
( 147) وسئل فضيلته: هل الدجال موجود الآن؟(70/8)
فأجاب بقوله: الدجال غير موجود لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم خطب الناس في آخر حياته وقال : "إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد" . وهذا خبر ، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يدخله الكذب وهو متلقى من الوحي لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم لا يعلم مثل هذا الغيب فهو غير موجود ولكن الله يبعثه متى شاء.
( 148) سئل فضيلة الشيخ: ذكرتم في الفتوى السابقة رقم "147" أن الدجال غير موجود الآن وهذا الكلام ظاهره يتعارض مع حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح عن قصة تميم الداري فنرجو من فضيلتكم التكرم بتوضيح ذلك؟
فأجاب بقوله: ذكرنا هذا مستدلين بما ثبت في الصحيحين عن النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد" . فإذا طبقنا هذا الحديث على حديث تميم الداري صار معارضاً له ، لأن ظاهر حديث تميم الداري أن هذا الدجال يبقى حتى يخرج فيكون معارضاً لهذا الحديث الثابت في الصحيحين ، وأيضاً فإن سياق حديث تميم الداري في ذكر الجساسة في نفسي منه شيء هل هو من تعبير الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أو لا .
( 149) وسئل فضيلته : عن قول بعض أهل العلم : إن الرسل الذين أنذروا أقوامهم الدجال لم ينذروهم بعينه وإنما أنذروهم بجنس فتنته؟(70/9)
فأجاب بقوله: هذا القول الضعيف ، بل هو نوع من التحريف لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم، أخبر بأنه ما من نبي إلا أنذر به قومه بعينه كما في صحيح مسلم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب" وسبق لنا بيان الحكمة من إنذار الرسل به ، ولكن يجب علينا أن نعلم أن جنس هذه الفتنة موجود حتى في غير هذا الرجل ، يوجد من بني آدم الآن من يضل الناس بحاله ومقاله وبكل ما يستطيع، وتجد أن الله – سبحانه وتعالى – بحكمته أعطاه بياناً وفصاحة { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } (1) فعلى المرء إذا سمع مثل هذه الفتن التي تكون لأهل البدع من أناس يبتدعون في العقائد، وأناس يبتدعون في السلوك وغير ذلك ، يجب عليه أن يعرض هذه البدع على الكتاب والسنة وأن يَحْذَرَ ويُحَذِّرَ منها وأن لا يغتر بما تكسى به من زخارف القول ، فإن هذه الزخارف كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
فالدجال المعين لا شك أن فتنته أعظم شيء يكون ، لكن هناك دجاجلة يدجلون على الناس ويموهون عليهم ، فيجب الحذر منهم ، ومعرفة إراداتهم ونياتهم ، ولهذا قال الله تعالى في المنافقين: { هم العدو فاحذرهم } (2) مع أنه قال: { وإن يقول :وا تسمع لقولهم } (3) يعني بيانه، وفصاحته ، وعظمه ، يجرك جرّاً إلى أن تسمع ، لكن كأنهم خشب مسندة حتى الخشب ما هي قائمة بنفسها ، مسندة تقوم على الجدار فهي لا خير فيها.(70/10)
فهؤلاء الذين يزينون للناس بأساليب القول سواء في العقيدة ، أو في السلوك ، أو في المنهج يجب الحذر منهم ، وأن تعرض أقوالهم ، وأفعالهم على كتاب الله وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، فما خالفهما فهو باطل مهما كان ، ولا تقولن : إن هؤلاء القوم أعطوا فصاحة وبياناً لينصروا الحق ، فإن الله تعالى قد يبتلي فيعطي الإنسان فصاحة وبياناً وإن كان على باطل كما ابتلى الله الناس بالدجال وهو على باطل بلا شك.
( 150) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم من أنكر حياة الآخرة وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى؟ وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين؟
فأجاب بقوله : من أنكر حياة الآخرة ، وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى فهو كافر، لقول الله -تعالى -: { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } (1) . وقال – تعالى - : { ويل يومئذ للمكذبين .الذين يكذبون بيوم الدين .وما يكذب به إلا كل معتد أثيم .إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين .كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.ثم إنهم لصالوا الجحيم .ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } (2)وقال-تعالى-: { بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً } (3). وقال – تعالى- : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم } (1) .
وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي:
أولاً: أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول ، فكيف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة ، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل ، ولا في شهادة الواقع؟!!
ثانياً: أن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه ، وذلك من وجوه:(70/11)
1- 1- كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم ، وأنه حادث بعد أن لم يكن ، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى ، كما قال الله – تعالى - : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } (2) وقال تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } (3) .
2- 2- كل أحد لا ينكر عظمة خلق السموات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما ، فالذي خلقهم قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى ؛ قال الله تعالى : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } (4) . وقال تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } (5). وقال تعالى-: { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول : له كن فيكون } (1) .
3- 3- كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات ، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت ، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم ،قال الله تعالى: { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } (2) .
ثالثاً : أن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع إحياء الموتى ، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها ، قوله : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } (3) .(70/12)
رابعاً: أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت ، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له ، ولا حكمة منه ، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة . قال الله – تعالى - : { افحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } (1) وقال الله – تعالى -: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } (2).وقال–تعالى-: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون.ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } (3) وقال – تعالى -: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } (4) .
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث و أصروا على إنكارهم،فهم مكابرون معاندون، { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } .([1][1])
( 151) وسئل فضيلة الشيخ : هل عذاب القبر على البدن أو على الروح؟(70/13)
فأجاب بقوله: الأصل أنه على الروح لأن الحكم بعد الموت للروح ، والبدن جثة هامدة ، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه ، فلا يأكل ولا يشرب ، بل تأكله الهوام ، فالأصل أنه على الروح لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها، وأن لأهل السنة قولاً آخر بأن العذاب أو النعيم يكون للبدن دون الروح واعتمدوا في ذلك على أن هذا قد رئي حسّاً في القبر فقد فتحت بعض القبور ورئي أثر العذاب على الجسم ، وفتحت بعض القبور ورئي أثر النعيم على الجسم. وقد حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في عنيزة كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي، فمروا على قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميت أكلت كفنه الأرض وبقي جسمه يابساً لكن لم تأكل منه شيئاً حتى إنهم قالوا : إنهم رأوا لحيته وفيها الحنا وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك،فتوقفوا وذهبوا إلى الشيخ وسألوه فقال : دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه ، احفروا من يمين أو من يسار.
فبناء على ذلك قال العلماء : إن الروح قد تتصل في البدن فيكون العذاب على هذا وهذا ، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إن القبرليطبق على الكافر حتى تختلف أضلاعه" فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم لأن الأضلاع في الجسم والله أعلم.
( 152) وسئل فضيلة الشيخ : ما المراد بالقبر هل هو مدفن الميت أو البرزخ؟
فأجاب: أصل القبر مدفن الميت قال الله –تعالى -: { ثم أماته فأقبره } (1) قال ابن عباس : أي أكرمه بدفنه . وقد يراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة وإن لم يدفن كما قال – تعالى -: { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } (2) يعني من وراء الذين ماتوا لأن أول الآية يدل على هذا { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون . لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } (1) .(70/14)
ولكن هل الداعي إذا دعا "أعوذ بالله من عذاب القبر" يريد عذاب مدفن الموتى ، أو من عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام الساعة؟
الجواب: يريد الثاني لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويدفن أو يموت وتأكله السباع ، أو يحترق ويكون رماداً ما يدري { وما تدري نفس بأي أرض تموت } (2) فاستحضر أنك إذا قلت : من عذاب القبر أي من العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة.
( 153) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر ثابت؟
فأجاب بقوله : عذاب القبر ثابت بصريح السنة وظاهر القرآن وإجماع المسلمين هذه ثلاثة أدلة:
أما صريح السنة فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر،تعوذوا بالله من عذاب القبر" .
وأما إجماع المسلمين فلأن جميع المسلمين يقول :ون في صلاتهم : "أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر" حتى العامة الذين ليسوا من أهل الإجماع ولا من العلماء. وأما ظاهر القرآن فمثل قوله-تعالى-في آل فرعون : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (1) ولا شك أن عرضهم على النار ليس من أجل أن يتفرجوا عليها، بل من أجل أن يصيبهم من عذابها ، وقال – تعالى - : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } . الله أكبر إنهم لشحيحون بأنفسهم ما يريدون أن تخرج { اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } (2). فقال : { اليوم } و "ال" هنا للعهد الحضوري اليوم يعني اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم { تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } .
إذاً فعذاب القبر ثابت بصريح السنة ، وظاهر القرآن ، وإجماع المسلمين ، وهذا الظاهر من القرآن يكاد يكون كالصريح لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصريح في ذلك.(70/15)
( 154) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار؟
فأجاب فضيلته: عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر . وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" . وهذا معروف أنهما كانا مسلمين.
( 155) وسئل الشيخ: إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر؟
فأجاب قائلاً: نعم ويكون العذاب على الروح ، لأن الجسد قد زال وتلف وفني ، وإن كان هذا أمراً غيبياً لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله من هذا العذاب ولو كان قد فني واحترق لأن الأمر الأخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدنيا.
( 156) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير ولم يضق ولم يتسع؟
فأجاب – حفظه الله –بقوله : يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها:
أولاً: أن عذاب القبر ثابت بالشرع قال الله تعالى في آل فرعون : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (1) وقوله ، صلى الله عليه وسلم : "فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر" . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن : "يفسح له في قبره مد بصره" إلى غير ذلك من النصوص فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان.(70/16)
ثانياً: أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثالثاً : أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه ، إنما يدركه الميت دون غيره والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع، وضارب ومضروب ، ويرى أنه في مكان ضيق موحش ، أو في مكان واسع بهيج ، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول : سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
( 157) وسئل فضيلته: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟
فأجاب بقوله: أما إن كان الإنسان كافراً والعياذ بالله فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبداً ويكون عذابه مستمراً.
وأما إن كان عاصياً وهو مؤمن ، فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة وحينئذٍ يكون منقطعاً.
( 158) وسئل فضيلة الشيخ: هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي؟
فأجاب قائلاً : نعم قد يخفف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستبرىء" أو قال : "لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين؟
1- 1- قيل: لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت ، وقد فرعوا على هذه العلة المستنبطة – التي قد تكون مستبعدة –أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها.(70/17)
2- 2- وقال بعض العلماء : هذا التعليل ضعيف لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقوله تعالى- : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } (1) .وقد سمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحصى يابس ، إذاً ما العلة؟
العلة : أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ترجى من الله عز وجل أن يخفف عنهما من العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين ، يعني أن المدة ليست طويلة وذلك من أجل التحذير عن فعلهما، لأن فعلهما كبير كما جاء في الرواية "بلى إنه كبير" أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا لم يستبرئ من البول صلى بغير طهارة ، والآخر يمشي بالنميمة يفسد بين عباد الله والعياذ بالله ويلقي بينهم العداوة ، والبغضاء ، فالأمر كبير ، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة تحذيراً للأمة لا بخلاً من الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بالشفاعة الدائمة.
ونقول استطراداً : إن بعض العلماء –عفا الله عنهم – قالوا : يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة ، أو شجرة ، أو نحوها على القبر ليخفف عنه ، لكن هذا الاستنباط بعيد جداً ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولاً: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت ، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه ، وحينئذ لا يستحق عذاباً.
ثالثاً: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – فما بالنا نحن نفعله.(70/18)
رابعاً: أن الله تعالى قد فتح لنا ماهو خير منه فكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" .
( 159) وسئل فضيلته : هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة؟
فأجاب قائلاً: عذاب القبر من أمور الغيب ، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به ، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علام الغيوب ، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب ، ولولا الوحي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ما علمنا عنه شيئاً ، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام ، ولكن قد يطلع الله تعالى عليه من شاء من عباده ، مثل ما أطلع نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، على الرجلين اللذين يعذبان ، أحدهما يمشي بالنميمة ، والآخر لا يستنزه من البول.
والحكمة من جعله من أمور الغيب هي:
أولاً: أن الله – سبحانه وتعالى – أرحم الراحمين فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا أطلع على أن أباه ، أو أخاه ، أو ابنه ، أو زوجه ، أو قريبه يعذب في القبر ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح وهذه من نعمة الله –سبحانه- .
ثانياً : أنه فضيحة للميت فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه –عز وجل- ثم مات وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت.(70/19)
ثالثاً : أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي،عليه الصلاة والسلام :" لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" . ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك ، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض ، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضاً.
رابعاً: أنه لو كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره ، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى: { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } (1) فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون آمنوا وما كفر أحد لأنه أيقن بالعذاب ، ورآه رأي العين فكأنه نزل به ، وحكم الله سبحانه وتعالى عظيمة ، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر مما يجزم بما شاهده بعينه ؛ لأن خبر الله عز وجل لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب ، وما تراه بعينيك يمكن أن تتوهم فيه ، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة ، وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم،وكم من إنسان يرى شبحاً ويقول:هذا إنسان مقبل، وإذا هو جذع نخلة ، وكم من إنسان يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً ، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبداً.
نسأل الله لنا ولكم الثبات ، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة ، مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق.
( 160) وسئل فضيلته : هل سؤال الميت في قبره حقيقي وأنه يجلس في قبره ويناقش؟
فأجاب فضيلته بقوله : سؤال الميت في قبره حقيقي بلا شك والإنسان في قبره يجلس ويناقش ويسأل .
فإن قال قائل : إن القبر ضيق فكيف يجلس ؟!
فالجواب:(70/20)
أولاً: أن الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدق، ولا يسأل كيف؟ ولم؟ لأنه لا يسأل عن كيف ولم إلا من شك ، وأما من آمن وانشرح صدره لأخبار الله ورسوله، فيسلم ويقول : الله أعلم في بكيفية ذلك .
ثانياً: أن تعلق الروح بالبدن في الموت ليس كتعلقها به في حال الحياة، فللروح مع البدن شؤون عظيمة لا يدركها الإنسان ، وتعلقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يقاس بتعلقها به في حال الحياة ، وها هو الإنسان في منامه يرى أنه ذهب ، وجاء ، وسافر ، وكلم أناساً ، والتقى بأناس أحياء وأموات ، ويرى أن له بستاناً جميلاً ، أو داراً موحشة مظلمة ، ويرى أنه راكب على سيارة مريحة ، ويرى مرة أنه راكب على سيارة مقلقة كل هذا يمكن مع أن الإنسان على فراشه ما تغير حتى الغطاء الذي عليه لم يتغير ومع ذلك فإننا نحس بهذا إحساساً ظاهراً ، فتعلق الروح بالبدن بعد الموت يخالف تعلقها به في اليقظة أو في المنام ولها شأن آخر لا ندركه نحن، فالإنسان يمكن أن يجلس في قبره ويسأل ولو كان القبر محدوداً ضيقاً.
هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنه البلاغ ، وعلينا التصديق والإذعان قال الله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } (1).
( 161) سئل فضيلة الشيخ: كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل ولا تحرقهم وهي لو دنت عما هي عليه الآن بمقدار شبر واحد لاحترقت الأرض؟(70/21)
فأجاب بقوله : إن وظيفة المؤمن – وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا – فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم وأن لا يسأل عن كيف؟ ولم؟ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت، فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول : آمنا وصدقنا ، آمنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل ، وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع ، ولهذا لما سئل الإمام مالك- رحمه الله – عن استواء الله كيف استوى؟ قال : "السؤال عنه بدعة" هكذا أيضاً كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم.
جواب الشق الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول:
إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل بل هي تبعث بعثاً كاملاً تاماً ، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون ، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا ، فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها ، ومن ذلك ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب ، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا.
(162) سئل فضيلة الشيخ : قلتم في الفتوى السابقة رقم "161" : إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي هي عليها في الدنيا، والله – عز وجل - يقول :: { كما بدأكم تعودون } (1) فنأمل من فضيلتكم توضيح ذلك؟
فأجاب فضيلته : هذا لا يشكل على ما قلنا ؛ لأن المراد بقوله: { كما بدأكم تعودون } من حيث الخلق فهو كقوله : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } (2) فالمعنى أنه كما بدأ خلقكم وقدر عليه فإنكم تعودون كذلك بقدرة الله –عز وجل - .(70/22)
( 163) سئل فضيلة الشيخ : كيف نجمع بين قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من نوقش الحساب عذب" . رواه البخاري من حديث عائشة ، ومناقشة المؤمن في قوله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته" الحديث رواه البخاري؟
فأجاب رعاه الله وحفظه بقوله: ليس في هذا إشكال لأن المناقشة معناها أن يحاسب فيطالب بهذه النعم التي أعطاه الله إياها ، لأن الحساب الذي فيه المناقشة معناه أنك كما تأخذ تعطي ، ولكن حساب الله لعبده المؤمن يوم القيامة ليس على هذا الوجه ، بل إنه مجرد فضل من الله – تعالى – إذا قرره بذنوبه وأقر واعترف قال: "سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" وكلمة نوقش تدل على هذا لأن المناقشة الأخذ والرد في الشيء والبحث على دقيقه وجليله ، وهذا لا يكون بالنسبة لله – عز وجل - مع عبده المؤمن بل إن الله تعالى يجعل الحساب للمؤمنين مبنياً على الفضل والإحسان لا على المناقشة والأخذ بالعدل.
( 164) وسئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته-: كيف يحاسب الكافر يوم القيامة وهو غير مطالب بالتكاليف الشرعية؟(70/23)
فأجاب بقوله : هذا السؤال مبني على فهم ليس بصحيح فإن الكافر مطالب بما يطالب به المؤمن لكنه غير ملزم به في الدنيا ويدل على أنه مطالب قوله –تعالى: { إلا أصحاب اليمين. في جنات يتساءلون .عن المجرمين . ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين } (1) فلولا أنهم عوقبوا بترك الصلاة ، وترك إطعام المساكين ما ذكروه ، لأن ذكره في هذه الحال لا فائدة منه وذلك دليل على أنهم يعاقبون على فروع الإسلام ، وكما أن هذا هو مقتضى الأثر فهو أيضاً مقتضى النظر فإذا كان الله تعالى يعاقب عبده المؤمن على ما أخل به من واجب في دينه فكيف لا يعاقب الكافر؟ بل إني أزيدك أن الكافر يعاقب على كل ما أنعم الله به عليه من طعام وشراب وغيره قال تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيها طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } (1) فمنطوق الآية رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموه ومفهومها وقوع الجناح على الكافرين فيما طعموه، وكذلك قوله-تعالى- : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } (2) فإن قوله : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } دليل على أن غير المؤمن ليس له حق في أن يستمتع بها في الدنيا. أقول : ليس له حق شرعي ، أما الحق بالنظر إلى الأمر الكوني وهو أن الله – سبحانه وتعالى- خلقها وانتفع بها هذا الكافر فهذا أمر لا يمكن إنكاره، فهذا دليل على أن الكافر يحاسب حتى على ما أكل من المباحات وما لبس ، وكما أن هذا مقتضى الأثر فإنه مقتضى النظر، إذ كيف يحق لهذا الكافر العاصي لله الذي لا يؤمن به كيف يحق له عقلاً أن يستمتع بما خلقه الله عز وجل وما أنعم الله به على عباده ، وإذ تبين لك هذا فإن الكافر يحاسب يوم(70/24)
القيامة على عمله ، ولكن حساب الكافر يوم القيامة ليس كحساب المؤمن لأن المؤمن يحاسب حساباً يسيراً يخلو به الرب عز وجل ويقرره بذنوبه حتى يعترف ثم يقول:له سبحانه وتعالى-: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" أما الكافر والعياذ بالله فإن حسابه أن يقرر بذنوبه ويخزى بها على رؤوس الأشهاد: { ويقول : الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } (3).
( 165) سئل فضيلة الشيخ: هل يوم الحساب يوم واحد؟
فأجاب قائلاً:يوم الحساب يوم واحد ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة كما قال الله -تعالى-: { سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } (1)أي إن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه، وجبينه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد" وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين كما قال- تعالى –: { وكان يوماً على الكافرين عسيراً } (2) وقال -تعالى-: { فذلك يومئذ يوم عسير.على الكافرين غير يسير } (3) ومفهوم هاتين الآيتين أنه على المؤمن يسير وهو كذلك ، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال والأشياء العظيمة ييسره الله –تعالى – على المؤمن ، ويكون عسيراً على الكافر. وأسأل الله – تعالى – أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن يسره الله عليهم يوم القيامة.(70/25)
والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع الذي قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فيه : "هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون " . ووظيفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية التسليم وأخذ الأمور على ظاهر معناها دون أن يتعمق أو يحاول القياس بينها وبين الأمور في الدنيا ، فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا ، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى وتشاركها في ذلك ، لكن بينهما فرق عظيم ، وأضرب لك مثلاً بما ذكره الله – سبحانه وتعالى – في الجنة من النخل ، والرمان ، والفاكهة ، ولحم الطير ، والعسل والماء واللبن ، والخمر وما أشبه ذلك مع قوله – عز وجل -: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (1) وقوله في الحديث القدسي : "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فهذه الأسماء التي لها مسميات بها في هذه الدنيا لا تعني أن المسمى كالمسمى وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى ، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة ، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى وألا يحاول شيئاً وراء ذلك.
ولهذا لما سئل الإمام مالك - رحمه الله –عن قول الله تعالى - : { الرحمن على العرش استوى } (2)كيف استوى ؟ أطرق –رحمه الله-برأسه حتى علاه الرحضاء – أي العرق –وصار يتصبب عرقاً وذلك لعظم السؤال في نفسه ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي كانت ميزاناً لجميع ما وصف الله به نفسه – رحمه الله -: "الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" أ هـ .(70/26)
فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة لأن الصحابة –رضي الله عنهم- وهم أشد منا حرصاً على العلم وعلى الخير لم يسألوا النبي ، صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسئلة وكفى بهم قدوة، وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجرى بالنسبة لصفات الله –عز وجل – التي وصف بها نفسه من العلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام وغير ذلك فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله – عز وجل – لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان ، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها فكما أن الله - سبحانه وتعالى – لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته.
وخلاصة الجواب: أن اليوم الآخر يوم واحد وأنه عسير على الكافرين ويسير على المؤمنين، وأن ما ورد فيه من أنواع الثواب والعقاب أمر لا يدرك كنهه في هذه الحياة الدنيا وإن كان أصل المعنى فيه معلوماً لنا في هذه الحياة الدنيا.
(166) سئل الشيخ : كيف نجمع بين قول الله – تعالى-: { وأما من أوتي كتابه بشماله } (1) وقوله : { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } (2)؟
فأجاب قائلاً: : الجمع بينهما أن يقال :: يأخذه بشماله لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره ، والجزاء من جنس العمل فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره ، أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره جزاءً وفاقاً.
(167) وسئل فضيلة الشيخ –جزاه الله خيراً – : كيف نجمع بين القول القاضي بأن الذي يوزن يوم القيامة هو العمل وقول النبي صلى الله عليه وسلم، عندما انكشفت ساق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والله إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد"؟
فأجاب قائلاً : الجواب على هذا أن يقال : إما أن يكون هذا خاصاً بعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- ، أو يقال :إن بعض الناس يوزن عمله وبعض الناس يوزن بدنه ، أو يقال: إن الإنسان إذا وزن فإنما يثقل ويرجح بحسب عمله والله أعلم.
( 168) سئل الشيخ: هل الميزان واحد أو متعدد؟(70/27)
فأجاب بقوله: اختلف العلماء في الميزان هل هو واحد أو متعدد على قولين، وذلك لأن النصوص جاءت بالنسبة للميزان مرة بالإفراد،ومرة بالجمع مثال الجمع قوله –تعالى: { ونضع الموازين القسط } (1) وكذلك في قوله : { فمن ثقلت موازينه } (2) ومثال الإفراد قوله ، صلى الله عليه وسلم : "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان" .
فقال بعض العلماء : إن الميزان واحد وإنه جمع باعتبار الموزون ، أو باعتبار الأمم ، فهذا الميزان توزن به أعمال أمة محمد ، وأعمال أمة موسى ، وأعمال أمة عيسى ، وهكذا فجمع الميزان باعتبار تعدد الأمم. والذين قالوا:إنه متعدد بذاته قالوا: لأن هذا هو الأصل في التعدد ، ومن الجائز أن الله –تعالى- يجعل لكل أمة ميزاناً، أو يجعل للفرائض ميزاناً، وللنوافل ميزاناً.
والذي يظهر والله أعلم أن الميزان واحد ، لكنه متعدد باعتبار الموزون.
( 169) سئل فضيلة الشيخ : كيف توزن الأعمال وهي أوصاف للعاملين؟
فأجاب بقوله:القاعدة في ذلك كما أسلفنا أن علينا أن نسلم ونقبل ولا حاجة لأن نقول:كيف؟ ولم؟ ومع ذلك فإن العلماء رحمهم الله قالوا في جواب هذا السؤال : إن الأعمال تقلب أعياناً فيكون لها جسم يوضع في الكفة فيرجح أو يخف ، وضربوا لذلك مثلاً بما صح به الحديث عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : "أن الموت يجعل يوم القيامة على صورة كبش فينادى أهل الجنة ، يا أهل الجنة فيطلعون ويشرئبون . وينادى يا أهل النار فيطلعون ويشرئبون ما الذي حدث ؟ فيؤتي بالموت على صورة كبش فيقال : هل تعرفون هذا فيقولون: نعم هذا الموت فيذبح الموت بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت" . ونحن نعلم جميعاً أن الموت صفة ولكن الله –تعالى –يجعله عيناً قائماً بنفسه وهكذا الأعمال تجعل أعياناً فتوزن والله أعلم.
( 170) سئل فضيلة الشيخ : عن الشفاعة ؟ وأقسامها؟(70/28)
فأجاب: الشفاعة: مأخوذة من الشفع ، وهو ضد الوتر، وهو جعل الوتر شفعاً مثل أن تجعل الواحد اثنين ، والثلاثة أربعة ، وهكذا هذا من حيث اللغة.
أما في الاصطلاح : فهي "التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة" يعني أن يكون الشافع بين المشفوع إليه، والمشفوع له واسطة لجلب منفعة إلى المشفوع له ، أو يدفع عنه مضرة.
والشفاعة نوعان:
النوع الأول: شفاعة ثابتة صحيحة ، وهي التي أثبتها الله – تعالى – في كتابه ، أو أثبتها رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص ؛ لأن أبا هريرة –رضي الله عنه – قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال : "من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" .
وهذه الشفاعة لها شروط ثلاثة:
الشرط الأول: رضا الله عن الشافع.
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له.
الشرط الثالث: إذن الله-تعالى للشافع أن يشفع.
وهذه الشروط مجملة في قوله تعالى-: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } (1) ومفصلة في قوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) وقوله: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } (3) . وقوله: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (1).فلا بد من هذه الشروط الثلاثة حتى تتحقق الشفاعة.
ثم إن الشفاعة الثابتة ذكر العلماء –رحمهم الله تعالى – أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الشفاعة العامة ، ومعنى العموم أن الله –سبحانه وتعالى – يأذن لمن شاء من عباده الصالحين أن يشفعوا لمن أذن الله لهم بالشفاعة فيهم ، وهذه الشفاعة ثابتة للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولغيره من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وهي أن يشفع في أهل النار من عصاة المؤمنين أن يخرجوا من النار.(70/29)
القسم الثاني: الشفاعة الخاصة : التي تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأعظمها الشفاعة العظمى التي تكون يوم القيامة، حين يلحق الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، فيطلبون من يشفع لهم إلى الله – عز وجل – أن يريحهم من هذا الموقف العظيم فيذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى وكلهم لا يشفع حتى تنتهي إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فيقوم ويشفع عند الله –عز وجل- أن يخلص عباده من هذا الموقف العظيم ، فيجيب الله – تعالى – دعاءه ، ويقبل شفاعته ، وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله – تعالى – به في قوله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } (2) .
ومن الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة ، فإن أهل الجنة إذا عبروا الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فتمحص قلوب بعضهم من بعض حتى يهذبوا وينقوا ثم يؤذن لهم في دخول الجنة فتفتح أبواب الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: الشفاعة الباطلة التي لا تنفع أصحابها ، وهي ما يدعيه المشركون من شفاعة آلهتهم لهم عند الله – عز وجل – فإن هذه الشفاعة لا تنفعهم كما قال الله – تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } (1) وذلك لأن الله تعالى لا يرضى لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم ؛ لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله – عز وجل – والله لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ، فتعلق المشركين بآلهتهم يعبدونها ويقول :ون : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (2) تعلق باطل غير نافع، بل هذا لا يزيدهم من الله - تعالى- إلا بعداً على أن المشركين يرجون شفاعة أصنامهم بوسيلة باطلة وهي عبادة هذه الأصنام ، وهذا من سفههم أن يحاولوا التقرب إلى الله – تعالى –بما لا يزيدهم منه إلا بعداً.(70/30)
(171) وسئل –حفظه الله عن : قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : " يقول :الله – تعالى-: شفعت الملائكة وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط" . رواه مسلم ، ما معنى قوله : "لم يعملوا خيراً قط" ؟
فأجاب فضيلته بقوله : معنى قوله : "لم يعملوا خيراً قط" أنهم ما عملوا أعمالاً صالحة ، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم ، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيراً قط .
وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلاً فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله ، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم فما عملوا خيراً قط.
وإما أن يكون هذا عاماً ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار.
( 172) سئل فضيلة الشيخ: عن مصير أهل الفترة؟
فأجاب بقوله: الصحيح أن أهل الفترة قسمان :
القسم الأول : من قامت عليه الحجة وعرف الحق ، لكنه اتبع ما وجد عليه آباءه ، وهذا لا عذر له فيكون من أهل النار.
القسم الثاني: من لم تقم عليه الحجة فإن أمره لله – عز وجل - . ولا نعلم عن مصيره وهذا ما لم ينص الشرع عليه . أما من ثبت أنه في النار بمقتضى دليل صحيح فهو في النار.
( 173) وسئل : عن مصير أطفال المؤمنين ، وأطفال المشركين الذين ماتوا صغاراً ؟(70/31)
فأجاب فضيلته قائلاً:مصير أطفال المؤمنين الجنة،لأنهم تبع لآبائهم قال – تعالى- : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين } (1) .
وأما أطفال غير المؤمنين يعني الطفل الذي نشأ من أبوين غير مسلمين فأصح الأقوال فيهم أن نقول الله أعلم بما كانوا عاملين فهم في أحكام الدنيا بمنزلة آبائهم ،أما في أحكام الآخرة فإن الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم بمصيرهم هذا ما نقوله ، وهو في الحقيقة أمر لا يعنينا كثيراً إنما الذي يعنينا هو حكمهم في الدنيا وأحكامهم في الدنيا – أعني أولاد المشركين – أحكامهم في الدنيا أنهم كالمشركين لا يغسلون، ولا يكفنون ، ولا يصلى عليهم ، ولا يدفنون في مقابر المسلمين . والله أعلم.
( 174) وسئل فضيلته : إذا كانت الجنة عرضها كعرض السموات والأرض فأين تكون النار في هذا الكون الذي ليس فيه إلا السموات والأرض؟(70/32)
فقال حفظه الله تعالى : قبل الجواب على هذا يجب أن نقدم مقدمة وهي أن ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، فإنه حق ولا يمكن أن يخالف الأمر الواقع ، فإن الأمر الواقع المحسوس لا يمكن إنكاره ، ومادل عليه الكتاب والسنة فإنه حق لا يمكن إنكاره ، ولا يمكن تعارض حقين على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، وقد ثبت في القرآن أن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض قال الله تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } (2). وفي الآية الأخرى: { عرضها السموات والأرض } (3). وهذا حق بلا ريب ، وفي مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء الليل فأين يكون النهار" فإن صح هذا الحديث فوجهه أن السموات والأرض في مكانهما والجنة في مكانها في أعلى عليين كما أن النهار في مكان والليل في مكان ، وإن لم يصح الحديث فإن في كون الجنة عرضها السموات والأرض لا يعني أنها قد ملأتهما ولكن يعني أن الجنة عظيمة السعة عرضها كعرض السموات والأرض.
ثم إن قول السائل : "إن هذا الكون ليس فيه إلا السموات والأرض" ليس بصحيح فهذا الكون فيه السموات والأرض ، وفيه الكرسي والعرش وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول بعد رفعه من ركوعه : "ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد" فهناك عالم غير السموات والأرض لا يعلمه إلا الله،كذلك نحن نعلم منه ما علمنا الله-تعالى – مثل العرش والكرسي ، والعرش هو أعلى المخلوقات والله - سبحانه وتعالى – قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته.
فهناك عالم غير السموات والأرض لا يعلمه إلا الله،كذلك نحن نعلم منه ما علمنا الله تعالى – مثل العرش والكرسي ، والعرش هو أعلى المخلوقات والله - سبحانه وتعالى – قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته.(70/33)
( 175) وسئل: ما الجنة التي أسكنها الله - عز وجل – آدم وزوجه؟
فأجاب بقوله : الصواب أن الجنة التي أسكنها الله- تعالى – آدم وزوجه هي الجنة التي وعد المتقون لأن الله – تعالى – يقول لآدم : { اسكن أنت وزوجك الجنة } (1) والجنة عند الإطلاق هي جنة الخلد التي في السماء ، ولهذا ثبت في الحديث عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن آدم وموسى تحاجا فقال له موسى : "لم أخرجتنا ونفسك من الجنة؟" . والله أعلم.
( 176) وسئل فضيلة الشيخ : ذكر للرجال الحور العين في الجنة فما للنساء؟
فأجاب بقوله : يقول الله – تبارك وتعالى – في نعيم أهل الجنة : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلاً من غفور رحيم } (2) ويقول – تعالى - : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } (3) .
ومن المعلوم أن الزواج من أبلغ ما تشتهيه النفوس فهو حاصل في الجنة لأهل الجنة ذكوراً كانوا أم إناثاً ، فالمرأة يزوجها الله – تبارك وتعالى – في الجنة بزوجها الذي كان زوجاً لها في الدنيا كما قال الله – تبارك وتعالى - : { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } (1) .
(177)وسئل – رعاه الله بمنه وكرمه -: إذا كانت المرأة من أهل الجنة ولم تتزوج في الدنيا أو تزوجت ولم يدخل زوجها الجنة فمن يكون لها؟(70/34)
فأجاب قائلاً : الجواب يؤخذ من عموم قوله – تعالى : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلاً من غفور رحيم } (2) ومن قوله تعالى : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون } (3) فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج أو كان زوجها ليس من أهل الجنة فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال وهم ـ أعني من لم يتزوجوا من الرجال – لهم زوجات من الحور ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاؤوا واشتهت ذلك أنفسهم ، وكذلك نقول بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج ، أو كانت ذات زوج في الدنيا ولكنه لم يدخل معها الجنة : إنها إذا اشتهت أن تتزوج فلا بد أن يكون لها ما تشتهيه لعموم هذه الآيات.
ولا يحضرني الآن نص خاص في هذه المسألة والعلم عند الله –تعالى-.
( 178) وسئل فضيلته: إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فمع من تكون منهما؟ ولماذا ذكر الله الزوجات للرجال ولم يذكر الأزواج للنساء؟
فأجاب بقوله : إذا كانت المرأة لها زوجان في الدنيا فإنها تخير بينهما يوم القيامة في الجنة، وإذا لم تتزوج في الدنيا فإن الله – تعالى – يزوجها ما تقر به عينها في الجنة ، فالنعيم في الجنة ليس مقصوراً على الذكور وإنما هو للذكور والإناث ومن جملة النعيم الزواج.
وقول السائل : "إن الله تعالى ذكر الحور العين وهن زوجات ولم يذكر للنساء أزواجاً".
فنقول: إنما ذكر الزوجات للأزواج لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب في المرأة فلذلك ذكرت الزوجات للرجال في الجنة وسكت عن الأزواج للنساء ولكن ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج بل لهن أزواج من بني آدم.
( 179) وسئل فضيلة الشيخ: كيف رأى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار ليلة الإسراء والمعراج مع أن الساعة لم تقم بعد؟(70/35)
فأجاب بقوله : إن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أخبرنا بذلك وأنه رأى الجنة والنار ، ورأى أقواماً يعذبون وأقواماً ينعمون ، والله أعلم بكيفية ذلك لأن أمور الغيب لا يدركها الحس فمثل هذه الأمور إذا جاءت يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت وأن لا نتعرض لطلب الكيفية .
ولم ؟ لأن عقولنا أقصر وأدنى من أن تدرك هذا الأمر فقد أخبر النبي ، صلى الله عليه وسلم عن أمور لا يمكن إدراكها بالعقل ، أخبر ، صلى الله عليه وسلم ، بأن الله عز وجل – ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة ومعلوم الآن أن ثلث الليل يدور على الكرة الأرضية فإذا انتقل من جهة حل في جهة أخرى فقد تقول : كيف ذلك ؟ فنقول عليك أن تؤمن بما أخبرك به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا تقل : كيف ؟ لأن عقلك أدنى وأقصر من أن يحيط بمثل هذه الأمور الغيبية فعلينا أن نستسلم ولا نقول : كيف؟ ولم؟ ولهذا قال بعض العلماء كلمة نافعة قال: "قل : بم أمر الله ؟ ولا تقل : لم أمر الله؟" والله ولي التوفيق.
(180) سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته- : هل الجنة والنار موجودتان الآن؟
فأجاب بقوله : نعم الجنة والنار موجودتان الآن ودليل ذلك من الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقال الله – تعالى – في النار : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } (1) والإعداد بمعنى التهيئة ، وفي الجنة قال الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } (2) والإعداد أيضاً التهيئة.(70/36)
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة كسوف الشمس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قام يصلي ، فعرضت عليه الجنة والنار، وشاهد الجنة حتى هم أن يتناول منها عنقوداً ، ثم بدا له أن لا يفعل عليه الصلاة والسلام، وشاهد النار، ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار –والعياذ بالله – يعني أمعاءه قد اندلقت من بطنه فهو يجرها في النار ؛ لأن الرجل أول من أدخل الشرك على العرب، فكان له كفل من العذاب الذي يصيب من بعده، ورأى امرأة تعذب في النار في هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض ، فدل ذلك على أن الجنة والنار موجودتان الآن.
( 181) وسئل فضيلته : هل النار مؤبدة أو تفنى؟
فأجاب بقوله: المتعين قطعاً أنها مؤبدة ولا يكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول ، ولهذا جعله العلماء من عقائدهم، بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة أبد الآبدين ، وهذا الأمر لا شك فيه ؛ لأن الله –تعالى- ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن:
الأول: في سورة النساء في قوله تعالى : { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً . إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدًا } (1) .
والثاني:في سورة الأحزاب { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً . خالدين فيها أبدًا } (2) .
والثالث: في سورة الجن { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا } (3). ولو ذكر الله عز وجل التأبيد في موضع واحد لكفى ، فكيف وهو قد ذكره في ثلاثة مواضع ؟ ومن العجب أن فئة قليلة من العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناء على علل عليلة لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا: إن "خالدين فيها أبداً " ما دامت موجودة فكيف هذا ؟(70/37)
إذا كانوا خالدين فيها أبداً ، لزم أن تكون هي مؤبدة "فيها" هم كائنون فيها وإذا كان الإنسان خالداً مؤبداً تخليده ، لزم أن يكون مكان الخلود مؤبداً ؛ لأنه لو فني مكان الخلود ما صح تأبيد الخلود ، والآية واضحة جداً والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها ، وهذا الخلاف الذي ذكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطرح لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده ، ومن خالفه لشبهة قامت عنده فيعذر عند الله ، لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أن القول بتأبيدها هو الحق الذي لا يحق العدول عنه.
والحكمة تقتضي ذلك لأن هذا الكافر أفنى عمره كل عمره في محاربة الله عز وجل ومعصية الله والكفر به وتكذيب رسله مع أنه جاءه النذير وأعذر وبين له الحق ، ودعي إليه ، وقوتل عليه وأصر على الكفر والباطل فكيف نقول : إن هذا لا يؤبد عذابه ؟ والآيات في هذا صريحة كما تقدم.
182- وسئل فضيلة الشيخ : هل هناك ناران نار لأهل الكفر ، ونار لأهل المعاصي الذين يعذبون فيها ثم يخرجون؟
فأجاب بقوله : زعم بعض العلماء ذلك وقال : إن النار ناران نار لأهل الكفر ، ونار لأهل المعاصي من المؤمنين وبينهما فرق ، ولكن هذا لا أعلم له دليلاً لكن عذابهما يختلف ، لا شك أنها على عصاة المؤمنين ليست كما هي على الكافرين وكوننا نقول بالتقسيم بناء على استبعاد عقولنا ان تكون نار واحدة تؤثر تأثيرين مختلفين لا ينبغي ؛ لأن هذا الاستبعاد لا وجه له لأمرين:
الأمر الأول: أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قادر على أن يجعل النار الواحدة لشخص سلاماً ، ولآخر عذاباً .(70/38)
الأمر الثاني: أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا أبداً لظهور الفرق العظيم بينهما ، فلا يجوز أن تقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لتنفي مالا يتسع له عقلك ، بل عليك بالنسبة لأحوال الآخرة أن تسلم وتقبل وتصدق ، أليست هذه الشمس ستدنو من الخلائق قدر ميل يوم القيامة؟ ولو كانت أحوال الناس يوم القيامة كأحوالهم في الدنيا لأحرقتهم ؛ لأن هذه الشمس في أوجها لو أنها نزلت ولو يسيراً أحرقت الأرض ومحتها عن آخرها ونحن نحس بحرارتها الآن وبيننا وبينها مسافات عظيمة لا سيما في أيام الصيف حين تكون عمودية ، ومع ذلك تدنو من الخلائق يوم القيامة على قدر ميل ولا يحترقون بها ، كذلك أيضاً في يوم القيامة في مقام واحد المؤمنون لهم نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، والكفار في ظلمة ، لكن في الدنيا لو كان بجانبك واحد على يمينه نور وبن يديه نور فإنك تنتفع به ، أما في الآخرة فلا، وفي الآخرة أيضاً يعرق الناس فيختلف العرق اختلافاً عظيماً بينهم ، وهم في مكان واحد، فمن الناس من يصل العرق إلى كعبيه ومنهم من يصل إلى ركبتيه ، ومنهم من يصل إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق ، وهم في مكان واحد.
فالمهم أنه لا يجوز أن نقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا ثم نذهب ونحدث أشياء لم تأت في الكتاب والسنة كتقسيم النار إلى نارين : نار للعصاة ونار للكافرين فالذي بلغنا ووصل إليه علمنا أنها نار واحدة لكنها تختلف.
(183) سئل فضيلة الشيخ : هل نار جهنم لها اسم واحد أو أسماء متعددة؟
فأجاب قائلاً :نار جهنم لها أسماء متعددة وهذا التعدد في الأسماء لاختلاف صفاتها ، فتسمى الجحيم ، وتسمى جهنم ، ولظى ، والسعير ، وسقر ، والحطمة ، والهاوية ، بحسب اختلاف الصفات والمسمى واحد فكل ما صح في كتاب الله أوسنة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، من أسمائها فإنه يجب على المؤمن أن يصدق به ويثبته.(70/39)
(184) وسئل فضيلة الشيخ: إذا استعاذ الإنسان من عذاب جهنم فهل المراد أنه يعوذ بالله من المعاصي المؤدية إلى جهنم أو يتعوذ بالله من جهنم؟
فأجاب بقوله :يشمل الأمرين فهو يستعيذ بالله من عذاب جهنم أي من فعل الأسباب المؤدية إلى عذاب جهنم ، ومن عذاب جهنم أي من عقوبة جهنم إذا فعل الأسباب التي توجب ذلك ، لأن الإنسان بين أمرين إما عصمة من الذنوب فهذه إعاذة من فعل السبب ، وإما عفو عن الذنوب وهذه إعاذة من العذاب، وقولنا : العصمة من الذنوب ليس معناه العصمة المطلقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:(( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" . وقال : " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
(185) وسئل فضيلة الشيخ: هل عذاب النار حقيقي أو أن أهلها يكونون فيها كأنهم حجارة لا يتألمون ؟(70/40)
فأجاب فضيلته : عذاب أهل النار حقيقي بلا ريب ، ومن قال خلاف ذلك فقد أخطأ وأبعد النجعة فأهلها يعذبون فيها ويألمون ألماً عظيماً شديداً ، كما قال –تعالى- في عدة آيات : { لهم عذاب أليم } حتى إنهم يتمنون الموت ، والذي يتمنى الموت هل يقال : إنه يتألم أو إنه تأقلم ؟ لو تأقلم ما تألم ولا دعا الله أن يقضي عليه { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } (1) إذاً هم يتألمون بلا شك ، والحرارة النارية تؤثر على أبدانهم ظاهرها وباطنها ، قال الله تعالى في كتابه العزيز : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً } (2) . وهذا واضح أن ظاهر أبدانهم يتألم وينضج ، وقال تعالى : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } (3)وشيُّ الوجوه واللحم معروف فهم إذا استغاثوا (يغاثوا بماء كالمهل) بعد مدة طويلة وهذا الماء إذا أقبل على وجوههم شواها وتساقطت والعياذ بالله فإذا شربوه قطع أمعاءهم { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } (4) وهذا عذاب الباطن ، وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في أهون أهل النار عذاباً : "إنه في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه" أعوذ بالله الدماغ يغلي فما بالك بما دونه مما هو أقرب إلى النعلين وهذا دليل واضح على أنهم يتألمون ، وأن هذه النار تؤثر فيهم وكذلك قال –تعالى- : { وذوقوا عذاب الحريق } (1) أي المحرق والآيات والأحاديث في هذا كثيرة واضحة تدل على بطلان قول : من قال "إنهم يكونون كالحجارة لا يتألمون" .
(186) وسئل فضيلة الشيخ : هل النار في السماء أو في الأرض؟(70/41)
فأجاب قالئلاً:هي في الأرض ، ولكن قال بعض أهل العلم:إنها هي البحار، وقال آخرون :هي في باطن الأرض ، والذي يظهر أنها في باطن الأرض ،ولكن ما ندري أين هي من الارض ، نؤمن بأنها في الأرض وليست في السماء ولكن لا نعلم في أي مكان هي على وجه التعيين. والدليل على أن النار في الأرض ما يلي:
قال الله تعالى -: { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } (2) وسجين هي الأرض السفلى ، كذلك جاء في الحديث فيمن احتضر وقبض من الكافرين فإنها لا تفتح لهم أبواب السماء ، ويقول الله تعالى : اكتبوا كتاب عبدي في سجين وأعيدوه إلى الأرض" ولو كانت النار في السماء لكانت تفتح لهم أبواب السماء ليدخلوها ؛ لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، رأى أصحابها يعذبون فيها ، وإذا كانت في السماء لزم من دخولهم في النار التي في السماء أن تفتح أبواب السماء.
لكن بعض الناس استشكل وقال : كيف يراها الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ليلة عرج به وهي في الأرض؟ ؛(1)
وأنا أعجب لهذا الاستشكال ، إذا كنا ونحن في الطائرة نرى الأرض تحتنا بعيدة وندركها ، فكيف لا يرى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، النار وهو في السماء؟
فالحاصل أنها في الأرض وقد روي في هذا أحاديث لكنها ضعيفة ، وروي آثار عن السلف كابن عباس ، وابن مسعود ، وهو ظاهر القرآن { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } (2) والذين كذبوا بالآيات واستكبروا عنها لا شك أنهم في النار.
(187) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله- : هل ما يذكر من أن أكثر أهل النار النساء صحيح ولماذا؟(70/42)
فأجاب بقوله :هذا صحيح ، فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال لهن وهو يخطب فيهن : "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" وقد أورد على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هذا الإشكال الذي أورده السائل قلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : "تكثرن اللعن وتكفرن العشير" فبين النبي ، صلى الله عليه وسلم أسباب كثرتهن في النار ، لأنهن يكثرن السب ، واللعن ، والشتم ، ويكفرن العشير الذي هو الزوج فصرن بذلك أكثر أهل النار.
(188) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله : عن أسماء القيامة وسبب تعددها؟ .
فأجاب –حفظه –الله- بقوله : الأسماء لا يمكنني الآن حصرها لكن سبب تعددها أنها أسماء تدل على أوصاف فهي الساعة وكلمة الساعة تقال في اللغة العربية لما يقع فيه الأمر العظيم الشديد الشاق، وتسمى الحاقة لكونها حقاً، ووصفها الله جل جلاله أن زلزلتها شيء عظيم لما فيها من الأهوال، ووصفت بالقارعة إلى غير ذلك من الأوصاف التي كل وصف منها يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر أو الوصف الآخر فهذه هي الحكمة من تعدد أوصافها وذكرها حتى يكون ذلك أبلغ في الإيمان بها وأقوم للاستعداد لها.
(189) سئل فضيلته حفظه الله : هل صح حديث خروج السفياني في علامات الساعة؟ وكذا هل صحت أيضاً أحاديث خروج الرايات السود؟ .
فأجاب –حفظه الله- بقوله : حديث السفياني أخرجه الحاكم في مستدركه وقال : حديث صحيح الإسناد ولكن الحاكم – رحمه الله – معروف بالتساهل بالتصحيح فالله أعلم
وأما الرايات السود فلا أدري.
رسالة
لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(70/43)
أما بعد: فإن الله تعالى قال في كتابه المبين : { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } (1) وقال : { ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } (2) .وقال جل ذكره : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } (3). وأمر نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، أن يعلن للملأ قوله : { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب } (4) . وقوله : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } (5) وقوله : { قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } (6) .
فبين الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أن غيب السموات والأرض لله تعالى وحده لا يشركه فيه غيره ولا يظهر سبحانه أحداً على هذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل الكرام .
وكل علم يتعلق بالمستقبل فإنه من علم الغيب كما قال تعالى : { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } (7) .(70/44)
ومن ذلك علم قيام الساعة ، فإنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولم يطلع الله عليه أحداً من خلقه ، حتى أشرف الرسل من الملائكة والبشر لا يعلمونه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة فسأل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن الإسلام والإيمان والإحسان فبينها له ثم قال : أخبرني عن الساعة فقال له النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال فاخبرني عن اماراتها ؟ فاخبره بشيئ منها . فقوله ، صلي الله عليه وسلم ،( ما المسؤل عنها باعلم من السائل ) من يعني أن علمي وعلمك فيها سواء فلست أعلم بها منك حتى أخبرك فإذا كنت لا تعلمها فأنا لا أعلمها ، فإذا انتفى علمها عن أفضل الرسل من الملائكة وأفضل الرسل من البشر فانتفاء علمها عمن سواهما أولى.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بنفي علم الخلق بوقت الساعة بخصوصه.
فالآية الأولى قوله تعالى في سورة الأعراف : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (8)أ ي لا يعلمون ان علمها عند الله تعالى فهم يسألون عنها . وقد أكد الله تعالى أن علمها عنده وحده في جمل أربع وهي قوله:
{ إنما علمها عند ربي } . { لا يجليها لوقتها إلا هو } . { إنما علمها عند الله } . وهذه الجمل أفادت اختصاص علمها بالله –عز وجل – بدلالة الحصر التي هي من أقوى دلالات الاختصاص.(70/45)
أما الجملة الرابعة فهي قوله: { لا تأتيكم إلا بغتة } . فإن الناس لو أمكنهم العلم بها ما جاءتهم بغتة لأن المباغتة لا تكون في الشيء المعلوم. فإن قال قائل : ألا يحتمل أن يكون في قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . دليل على أن بعض الناس يعلمون متى تقوم؟ .
قلنا : لا يحتمل ذلك لأنه ينافي التأكيد الوارد في هذه الجمل ويناقضه فكيف يؤكد الله تعالى أن علمها عنده وحده ثم يشير إلى أن بعض الناس يعلمون ذلك وهل هذا إلا من العبث المعنوي الذي ينزه الله تعالى عنه ومن الركاكة والعي الذي تأباه بلاغة القرآن العظيم.
ولو قدر – على الفرض الممتنع – أن أحداً من الناس قد يعلمه الله تعالى به ، فإن ذلك من علم الغيب الذي لا يظهر الله تعالى عليه إلا من ارتضى من رسول ، وقد سبق أن الرسول البشري محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، والرسول الملكي جبريل لا يعلمان ذلك فمن ذا يمكن أن يعلمه من سواهما من الخلق؟ .
والآية الثانية قوله في سورة لقمان : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم
خبير } وهذه الخمس هي مفاتح الغيب التي قال الله عنها : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } (10) كما فسرها به أعلم الخلق بمراد الله –عز وجل- رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: مفاتح الغيب خمس: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" . فثبت بذلك أن علم الساعة مما يختص الله تعالى به، لأنه من علم الغيب ولا يظهر الله تعالى أحداً من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه من الرسل فمن ادعى علم شيء منه غير الرسل فهو كاذب مكذب لله تعالى.(70/46)
فإن قال قائل : ما تقولون عما قيل : إنهم يطلعون على الجنين قبل وضعه فيعلمون أذكر هو أم أنثى، وإنهم يتوقعون نزول المطر في المستقبل فينزل كما توقعوا .
قلنا : الجواب عن الأول أنهم لا يعلمون أنه ذكر أم أنثى إلا بعد أن يخلق فتبين ذكورته أو أنوثته وحينئذ لا يكون من الغيب المحض المطلق بل هو غيب نسبي ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في قصة الملك الموكل بالرحم أنه يقول عند تخليق الجنين : يارب أذكر أم أنثى ، يارب أشقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل ، فيكتب كذلك في بطن أمه . وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة ابن أسيد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم، في الملك الموكل بالرحم قال: يارب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك . فقد علم الملك أن الجنين ذكر أو أنثى وهو في بطن أمه لكنه قبل أن يخلق لا يعلم الملك ولا غيره أنه ذكر أو أنثى.
والجواب عن الثاني : أن هذه التوقعات إنما تكون بوسائل حسية وهي الأرصاد الدقيقة التي يعلم بها تكيفات الجو وتهيؤه لنزول المطر بوجه خفي لا يدرك بمجرد الحس ، وهذا التوقع بهذه الأرصاد ليس من علم الغيب الذي يختص به الله –عز وجل- فهو كتوقعنا أن ينزل المطر حين يتكاثف السحاب ويتراكم ويدنو من الأرض ويحصل فيه رعد وبرق. والآية الثالثة قوله في سورة الأحزاب : { يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } .(1)
والآية الرابعة قوله في سورة الزخرف : { وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون } .(2) فتقديم الخبر في قوله : { وعنده علم الساعة } يفيد الاختصاص كما هو معلوم .(70/47)
والآية الخامسة : قوله تعالى في سورة النازعات : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها } (3). فقدم الخبر في قوله : { إلى ربك منتهاها } . ليفيد اختصاص ذلك به تبارك وتعالى.
هذه خمس آيات من كتاب الله تعالى كلها صريحة في أن علم الساعة خاص بالله تعالى لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وأما السنة فمنها ما سبق في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فإن قيل : ما تقولون في قوله تعالى في سورة طه : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } (4) حيث إن ظاهرها أنه تعالى لم يخفها فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول : أن كثيراً من المفسرين أو أكثرهم قال : معنى الآية أكاد اخفيها علي نفسي وهو من المبالغة في الإخفاء كقوله ، صلى الله عليه وسلم ، في المتصدق يخفي صدقته : حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
الثاني: أن يقال : هب أن ظاهر الآية أن الله تعالى لم يخفها علي الناس ولكن لغموض وسائل العلم بها صار كمن كاد يخفيها فإن هذا الظاهر مدفوع بالنصوص الصحيحة الصريحة بأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تعالى . وطريق الراسخين في العلم أن يحملوا النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة لتكون النصوص كلها محكمة متفقة غير متنافية ولا متناقضة { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } .([2][2])
الثالث: أن يقال : إن أبى آب إلا أن يتمسك بالظاهر ويقول إن المراد أكاد أخفيها علي الخلق فالجواب أن يقال:
الإخفاء ثلاثة أنواع: إخفاء ذكر وإخفاء قرب وإخفاء وقوع.(70/48)
فأما إخفاء الذكر فهو أن لا يذكر الله الساعة للخلق ولا يبين لهم شيئاً من أحوالها وهذا محال تأباه حكمة الرب جل وعلا ويكذبه الواقع فإن الإيمان باليوم اللآخر أحد أركان الإيمان الستة ، فالعلم به من ضروريات الإيمان ولهذا لم يخف الله تعالى ذكر الساعة بل أعلم عباده بها وبين من أحوالها وأهوالها وما يشفي ويكفي فيما أوحاه إلى رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، من الكتاب والسنة .
وأما إخفاء القرب فهو أن لا يذكر الله تعالى للخلق شيئاً من علاماتها الدالة على قربها وهي أشراطها ولكن رحمة الرب الواسعة اقتضت أن يبين للخلق قرب قيامها بما يظهره من العلامات الدالة عليه ليزدادوا بذلك إيماناً ويستعدوا لها بالعمل الصالح المبني على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، من أشراط الساعة ما يتبين به قربها إجمالاً تارة وتفصيلاً تارة أخرى.
وأما إخفاء الوقوع فهو أن لا يذكر الله تعالى للخلق وقتاً محدوداً تقوم فيه الساعة وهذا هو مادل عليه الكتاب والسنة فليس في الكتاب والسنة تحديد لوقت قيام الساعة بل فيهما النص الصريح الذي لا يحتمل التأويل بأن علم ذلك موكول إلى الله تعالى لا يعلم به ملك مقرب ولا نبي مرسل وكل ما قيل في توقع وقت قيام الساعة فهو ظن وتخمين باطل مردود على قائله لمخالفته كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم .(70/49)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ص 189 ج35 مجموع الفتاوى أثناء جواب له عن المنجمين قال: ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل الذي للحروف التي في أوائل السور وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفاً وحسابها في الجملة الكثير (كذا في الكتاب) ستمائة وثلاثة وتسعون . ومن هذا أيضاً ما ذكر في التفسير أن الله تعالى لما أنزل { آلم } قال بعض اليهود : بقاء هذه الملة إحدى وثلاثون فلما أنزل بعد ذلك { آلر } و { آلمر } قالوا: خلط علينا فهذه الأمور التي توجد في ضلال اليهود والنصارى وضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين مشتملة من هذا الباطل على مالا يعلمه إلا الله تعالى وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن الإسلام محرمة فيه، فيجب إنكارها والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان واليد واللسان فإن ذلك من أعظم ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل ولا ينفق الباطل إلا بثوب من الحق أ هـ . كلام الشيخ رحمه الله تعالى.(70/50)
وعلى هذا فينزل قوله تعالى : { أكاد أخفيها } على النوع الثاني إخفاء القرب فإنه سبحانه لم يخفها الإخفاء المطلق بترك ذكرها ، ولم يبينها البيان المطلق بذكر متى قيامها ، وإنما بين لهم علاماتها وهي أشراطها ، وأخفى عليهم علم قيامها وهذا مقتضى حكمته ورحمته ، فإنه تعالى لو أبانه للناس لحصل لهم من الشر والفساد وتعطل المصالح مالا يعلمه إلا الله ، خصوصاً من كانوا قريبين من النهاية ، ولكن الرب جل وعلا أخفى ذلك كما أخفى علم كل إنسان بنهاية حياته لئلا يستحسر ويدع العمل خصوصاً عند قرب حلول أجله . ومن تأمل ما أبانه الله تعال لخلقه من أمور الغيب وما أخفاه عليهم تبين له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويعلم به أن لله الحكمة البالغة والرحمة الواسعة فيما أبان وما أخفى ، { فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } ([3][3]) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
حرره الفقير إلى الله تعالى كاتبه محمد الصالح العثيمين في شهر رجب عام 1405هـ .
---
(1) سورة الكهف، الآيات "93-98" .
(1) سورة المائدة، الآية " 3 " .
(1) سورة الأنفال، الآية "42" .
(2) سورة المنافقون، الآية "4" .
(3) سورة المنافقون، الآية "4" .
(1) سورة الأنعام ، الآيتان "29-30" .
(2) سورة المطففين، الآيات "10-17".
(3) سورة الفرقان ، الآية "11" .
(1) سورة العنكبوت ، الآية "23" .
(2) سورة الروم ، الآية "27" .
(3) سورة الأنبياء ، الآية "104" .
(4) سورة غافر ، الآية "57".
(5) سورة الأحقاف ، الآية "33".
(1) سورة يس، الآيتان "81-82".
(2) سورة فصلت ، الآية "39" .
(3) سورة البقرة ، الآية "259"
(1) سورة المؤمنون ، الآيتان "15-16"
(2) سورة طه ، الآية "15"
(3) سورة النحل، الآيات "38-40"
(4) سورة التغابن ، الآية "7".(70/51)
(1) سورة الشعراء، الآية " 227 " .
(1) سورة عبسى ، الآية "21" .
(2) سورة المؤمنون ، الآية "100" .
(1) سورة المؤمنون ، الآيتان "99-100 .
(2) سورة لقمان ، الآية "34" .
(1) سورة غافر ، الآية "46" .
(2) سورة الأنعام ، الآية "93" .
(1) سورة غافر ، الآية "46" .
(1) سورة الإسراء ، الآية "44" .
(1) سورة غافر ، الآية "84" .
(1) سورة النساء ، الآية "65".
(1) سورة الأعراف ، الآية "29" .
(2) سورة الروم ، الآية "27" .
(1) سورة المدثر ، الآيات "39-46" .
(1) سورة المائدة ، الآية "93" .
(2) سورة الأعراف ، الآية "32" .
(3) سورة هود الآية "18" .
(1) سورة المعارج ، الآيات "1-4" .
(2) سورة الفرقان ، الآية "26" .
(3) سورة المدثر ، الآيتان "9-10".
(1) سورة السجدة، الآية "17" .
(2) سورة طه ، الآية "5" .
(1) سورة الحاقة، الآية "25" .
(2) سورة الانشقاق الآية "10" .
(1) سورة الأنبياء ، الآية "47" .
(2) سورة الأعراف ، الآية "6" .
(1) سورة النجم، الآية "26".
(2) سورة البقرة ، الآية "255" .
(3) سورة طه ، الآية "109" .
(1) سورة الأنبياء ، الآية "28" .
(2) سورة الإسراء ، الآية "79" .
(1) سورة المدثر ، الآية "48" .
(2) سورة يونس ، الآية "18" .
(1) سورة الطور ، الآية "21" .
(2) سورة آل عمران ، الآية "133" .
(2) سورة آل عمران ، الآية "133" .
(1) سورة البقرة ، الآية "35" .
(2) سورة فصلت ، الآيتان "31-32" .
(3) سورة الزخرف ، الآية "71" .
(1) سورة غافر ، الآية "8" .
(2) سورة فصلت ، الآيتان "31-32".
(3) سورة الزخرف ، الآية "71" .
(1) سورة آل عمران، الآية "131" .
(2) سورة آل عمران، الآية "132" .
(1) سورة النساء ، الآيتان " 168–169" .
(2) سورة الأحزاب، الآيتان "64 –65 " .
(3) سورة الجن ، الآية "23" .
(1) سورة الزخرف ، الآيتان " 77 -78 " .
(2) سورة النساء، الآية "56" .(70/52)
(3) سورة الكهف ، الآية "29" .
(4) سورة محمد ، الآية "15" .
(1) سورة الأنفال، الآية "50" .
(2) سورة المطففين ، الآية "7".
(1) انظر الفتوى رقم "154" .
(2) سورة الأعراف ، الآية "40" .
(1) سورة هود ، الآية "123" .
(2) سورة النحل ، الآية "77".
(3)سورة الأنعام ، الآية "59" .
(4) سورة سبأ ، الآية "48" .
(5) سورة النمل ، الآية "65" .
(6) سورة الجن ، الآييات "25-27".
(7) سورة لقمان ، الآية "34" .
(8) سورة الأعراف ، الاية "187" .
(10) سورة الأنعام ، الآية "59" .
(1) سورة الأحزاب ، الآية "63"
(2) سورة الزخرف ، الآية "85" .
(3) سورة الناز0000عات ، الآيات "42-44"
(4) سورة طه ، الآية "15" .
(2) سورة آل عمران، الآية "7 ".
([3][3]) سورة الجاثية، الآيات (36، 37) .(70/53)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
القضاء والقدر
محمد بن صالح العثيمين
(190) وسئل فضيلة الشيخ : عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصاً مسألة القدر خوفاً من الزلل؟
فأجاب بقوله :هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لا بد للإنسان منها في دينه ودنياه لا بد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله تبارك وتعالى – على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر ، لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة ، أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ويخشى أن تكون سبباً لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها ما دام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماماً حتى يصل فيها إلى اليقين ، وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال - ولله الحمد - ، والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هو أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب "كيف" على جانب "لم" والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام "لم" و "كيف" فلم عملت كذا؟ هذا الإخلاص . كيف عملت كذا ؟ هذا المتابعة للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب "كيف" غافلون عن تحقيق جواب "لم" ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيراً ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور ، فالناس الآن مهتمون كثيراً بهذا الجانب ،غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد ، لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدنيا يسأل عن مسألة يسيرة جداً جداً وقلبه منكب على الدنيا غافل عن الله مطلقاً في بيعه وشرائه، ومركوبه ، ومسكنه ، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابداً للدنيا وهو لا يشعر ، وقد يكون مشركاً بالله في الدنيا وهو لا يشعر ، لأنه مع الأسف أن جانب التوحيد وجانب العقيدة لايهتم بهما ليس من العامة فقط ، ولكن حتى من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته ، كما أن التركيز على العقيدة فقط بدون العمل الذي جعله الشارع(71/1)
كالحامي والسور لها خطأ أيضاً ، لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو العقيدة السمحاء وما أشبه ذلك من هذه العبارات وفي الحقيقة أن هذا يخشى أن يكون باباً يلج منه من يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لا بد من ملاحظة الأمرين جميعاً ليستقيم الجواب على "لم" وعلى "كيف" .
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة ؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده – جل وعلا – على بصيرة في أسماء الله وصفاته ، وأفعاله ، على بصيرة في أحكامه الكونية ، والشرعية ، على بصيرة في حكمته ، وأسرار شرعه وخلقه ، حتى لا يضل بنفسه أو يضل غيره . وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ولهذا سماه أهل العلم (الفقه الأكبر) وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة ، لكن يجب على المرء أيضاً أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أي مصدر يتلقاه ، فليأخذ من هذا العلم أولاً ما صفا منه وسلم من الشبهات ثم ينتقل ثانياً إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذه من قبل من العقيدة الصافية ، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم كلام الصحابة –رضي الله عنهم- ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم ، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ؛ خصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
(191) وسئل فضيلة الشيخ : ما الفرق بين القضاء والقدر؟(71/2)
فأجاب بقوله :اختلف العلماء في الفرق بينهما فمنهم من قال : إن القدر "تقدير الله في الأزل" والقضاء "حكم الله بالشيء عند وقوعه" فإذا قدر الله –تعالى – أن يكون الشيء المعين في وقته فهذا قدر ، فإذا جاء الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء فإنه يكون قضاء ، وهذا كثير في القرآن الكريم مثل قوله-تعالى-: { قضي الأمر } (1) وقوله : { والله يقضي بالحق } (2) وما أشبه ذلك . فالقدر تقدير الله –تعالى- الشيء في الأزل ، والقضاء قضاؤه به عند وقوعه.
ومنهم من قال : إنهما بمعنى واحد.
والراجح أنهما إن قرنا جميعاً فبينهما فرق كما سبق ، وإن أفرد أحدهما عن الآخر فهما بمعنى واحد والله أعلم .
(191) وسئل فضيلة الشيخ : هل بين القضاء والقدر عموم وخصوص؟
فأجاب بقوله :القضاء إذا أطلق شمل القدر، والقدر إذا أطلق شمل القضاء ، ولكن إذا قيل : القضاء والقدر صار بينهما فرق وهذا كثير في اللغة العربية تكون الكلمة لها معنى شامل عند الانفراد و معنى خاص عند الاجتماع ويقال في مثل ذلك: "إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا" فالقضاء والقدر الصحيح أنهما من هذا النوع يعني أن القضاء إذا أفرد شمل القدر . والقدر إذا أفرد شمل القضاء ، لكن إذا اجتمعا فالقضاء " ما يقضيه الله في خلقه من إيجاد ، أو إعدام ، أو تغيير" والقدر "ما قدره الله-تعالى- في الأزل" هذا هو الفرق بينهما فيكون القدر سابقاً والقضاء لاحقاً .
(193) سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين-: عن الإيمان بالقضاء والقدر؟(71/3)
فأجاب قائلا : الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، لجبريل حين سأله عن الإيمان . والإيمان بالقدر أمر هام جداً ، وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد حتى في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه ، وإلى يومنا هذا والناس يتنازعون فيه ، ولكن الحق فيه –ولله الحمد –واضح بين لا يحتاج إلى نزاع ومراء ، فالإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى – قد قدر كل شيء كما قال- تعالى -: { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } (1) وهذا التقدير الذي قدره الله- عز وجل – تابع لحكمته وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات حميدة ، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم . ويدور الإيمان بالقدر علي الايمان بأربع مراتب:(71/4)
المرتبة الأولى: العلم ، وذلك أن تؤمن إيماناً كاملاً بأن الله ـ سبحانه وتعالى – قد أحاط بكل شيء علماً ، أحاط بكل شيء مما مضى ، ومما هو حاضر ، ومما هو مستقبل ، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله –عز وجل – أو بأفعال عباده فهو محيط بها جملة وتفصيلاً بعلمه الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً ، وأدلة هذه المرتبة كثيرة في القرآن والسنة قال الله تعالى-: { إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء } (1) . وقال –تعالى- : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (2) . وقال عز وجل : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } (3) وقال – سبحانه وتعالى-: { والله بما تعملون عليم } (4) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علم الله – سبحانه وتعالى – بكل شيء جملة وتفصيلاً ، وهذه المرتبة من الإيمان بالقدر من أنكرها فهو كافر ؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين ، وطاعن في كمال الله عز وجل لأن ضد العلم إما الجهل ، وإما النسيان ، وكلاهما عيب ، وقد قال الله تعالى – عن موسى ، عليه السلام ، حينما سأله فرعون: { فما بال القرون الأولى . قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } (5) فهو { لا يضل } أي لا يجهل شيئاً مستقبلاً ، { ولا ينسى } شيئاً ماضياً –سبحانه وتعالى-.(71/5)
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله – سبحانه وتعالى- كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فإنه –عز وجل – حينما خلق القلم قال له: "اكتب قال: ربي وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" . فكتب الله –عز وجل- في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء ، وقد دل على هذه المرتبة قوله –تعالى ـ : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (1) . قال : { إن ذلك في كتاب } أي مكتوب في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ { إن ذلك على الله يسير } ثم هذه الكتابة تكون مفصلة أحياناً ، فإن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر يبعث إليه ملك فيأمره بأربع كلمات بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ويكتب أيضاً في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة كما قال الله-تعالى -: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين } (2) .(71/6)
المرتبة الثالثة: الإيمان بأن كل ما في الكون فإنه بمشيئة الله ، فكل ما في الكون فهو حادث بمشيئة الله –عز وجل- سواء كان ذلك مما يفعله هو ـ عز وجل ـ أو فيما يفعله المخلوق قال الله –تعالى- : { ويفعل الله ما يشاء } (3) وقال –تعالى-: { ولو شاء لهداكم أجمعين } (4) وقال: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } (1) وقال- عز وجل- : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } (2) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن فعله واقع بمشيئته ، وكذلك أفعال الخلق واقعة بمشيئته كما قال-تعالى-: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (3) وهذا نص صريح في أن أفعال العبيد قد شاءها الله-عز وجل- ولو شاء الله أن لا يفعلوا لم يفعلوا .
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله –تعالى-خالق كل شيء فالله عز وجل هو الخالق ، وما سواه مخلوق ، فكل شيء فالله خالقه ، فالمخلوقات مخلوقة لله-عز وجل – وما يصدر منها من أفعال وأقوال مخلوقة لله-عز وجل – أيضاً لأن أفعال الإنسان وأقواله من صفاته ، فإذا كان الإنسان مخلوقاً كانت صفاته أيضاً مخلوقة لله – عز وجل- ويدل لذلك قوله تعالى: { ولله خلقكم وما تعملون } (4) وقد اختلف الناس في { ما } هنا هل هي مصدرية أو موصولة؟ وعلى كل تقدير فإنها تدل على أن عمل الإنسان مخلوق لله –عز وجل- هذه أربع مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها.(71/7)
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب ، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر ؛ لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها ، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه- إلى الشام علم في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة ـ رضي الله عنهم – هل يستمر ويمضي في سيره أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه ، ثم استقر رأيهم على أن يرجع إلى المدينة ، ولما عزم على ذلك جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –يجله ويقدره فقال : يا أمير المؤمنين "كيف ترجع إلى المدينة أفراراً من قدر الله" ؟ فقال عمر –رضي الله عنه-: "نفر من قدر الله إلى قدر الله" وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف" ـ رضي الله عنه-وكان غائباً في حاجة له فحدثهم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال عن الطاعون : "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها" . والحاصل أن في قول عمر –رضي الله عنه- : " نفر من قدر الله إلى قدر الله" دليلاً على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله-عز وجل-ونحن نعلم أن الرجل لو قال : أنا مؤمن بقدر الله وسيرزقني الله ولداً بدون زوجة لو قال هذا لعد من المجانين ، كما أنه لو قال : أنا أومن بقدر الله ولن أسعى في طلب الرزق ولم يتخذ أي سبب للرزق لعد ذلك من السفه، فالإيمان بالقدر إذاً لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة ، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها.
ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكال –وليس بإشكال في الواقع –وهو أن يقول قائل : إذا كان فعلي من قدر الله –عز وجل-فكيف أعاقب على المعصية وهي من تقدير الله-عزوجل-؟(71/8)
والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله؛ لأن الله-عز وجل – لم يجبرك على المعصية، وأنت حين أقدمت عليها لم يكن لديك العلم بأنها مقدرة عليك ؛ لأن الإنسان لا يعلم بالمقدر إلا بعد وقوع الشيء ، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية أن الله قدر لك الطاعة فتقوم بطاعته؟! وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أن فيه خيراً وتهرب مما ترى فيه شراً ، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة ؟! ولا أعتقد أن أحداً يسلك الطريق الصعب ،ويقول : إن هذا قد قدر لي ،بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر ، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال : لك للجنة طريق وللنار طريق فإنك إذا سلكت طريق النار فأنت كالذي سلك الطريق المخوف الوعر ، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم وتدع طريق النعيم؟! ولو كان للإِنسان حجة بالقدر على فعل المعصية لم تنتف هذه الحجة بإرسال الرسل وقد قال الله-تعالى-: { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون الناس على الله حجة بعد الرسل } .(1)
واعلم أن للإيمان بالقدر ثمرات جليلة على سير الإنسان وعلى قلبه لأنك إذا آمنت بأن كل شيء بقضاء الله وقدره فإنك عند السراء تشكر الله ـ عز وجل- ولا تعجب بنفسك ولا ترى أن هذا الأمر حصل منك بحولك وقوتك ، ولكنك تؤمن بأن هذا سبب إذا كنت قد فعلت السبب الذي نلت به ما يسرك وأن الفضل بيد الله – عز وجل- فتزداد بذلك شكراً لنعم الله ـ سبحانه وتعالى –ويحملك هذا على أن تقوم بطاعة الله على حسب ما أمرك الله به، وأن لا ترى لنفسك فضلاً على ربك ، بل ترى المنة لله – سبحانه وتعالى –عليك قال الله- تعالى-: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } .(2)(71/9)
كما أنك إذا أصابتك الضراء فإنك تؤمن بالله – عز وجل –وتستسلم ولا تندم على ذلك ، ولا تلحقك الحسرة ، ألم تر إلى قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ،واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" . فالإيمان بالقدر فيه راحة النفس والقلب، وعدم الحزن على مافات ، وعدم الغم والهم لما يستقبل قال الله-تعالى-: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (1) والذي لا يؤمن بالقدر لا شك أنه سوف يتضجر عند المصائب ويندم ، ويفتح الشيطان له كل باب ، وأنه سوف يفرح ويبطر ويغتر إذا أصابته السراء لكن الإيمان بالقدر يمنع هذا كله.
194- سئل فضيلة الشيخ: عن مسألة القدر ؟ وهل أصل الفعل مقدر والكيفية يخير فيها الإنسان؟ مثال ذلك إذا قدر الله –تعالى –للعبد أن يبني مسجداً فإنه سيبني لا محالة لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، وكذلك المعصية إذا قدرها الله فأن، الإنسان سيفعلها لا محالة، لكن ترك لعقله كيفية تنفيذها ، وخلاصة هذا الرأي أن الإنسان مخير في الكيفية التي ينفذ بها ما قدر عليه فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذه المسألة –أي مسألة القدر– محل جدل بين البشر من قديم الزمان ، ولذلك انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام طرفين ووسط. أما الطرفان :
فأحدهما : نظر إلى عموم قدر الله فعمي عن اختيار العبد . وقال: إنه مجبر على أفعاله ، وليس له فيها أي اختيار، فسقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها كنزوله منه مختاراً من الدرج.
وأما الطرف الثاني: فنظر إلى أن العبد فاعل تارك باختياره ، فعمي عن قدر الله وقال: إن العبد مستقل بأفعاله ، ولا تعلق لقدر الله تعالى فيها.(71/10)
وأما الوسط فأبصروا السببين ، فنظروا إلى عموم قدر الله-تعالى-وإلى اختيار العبد، فقالوا : إن فعل العبد كائن بقدر الله –تعالى –وباختيار العبد، وإنه يعلم بالضرورة الفرق بين سقوط الإنسان من السقف بالريح ونحوها، ونزوله منه مختاراً من الدرج، فالأول من فعله بغير اختياره ،والثاني باختياره، والكل منهما واقع بقضاء الله وقدره لا يقع في ملكه مالا يريد، لكن ما وقع باختيار العبد فهو مناط التكليف، ولا حجة له بالقدر في مخالفة ما كلف به من أوامر أو نواه ، وذلك لأنه يقدم على المخالفة حين يقدم عليها وهو لا يعلم ما قدر الله عليه ، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة ، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة،لم يثبت عليه حكم المخالفة ولا يعاقب عليها لثبوت عذره حينئذ. وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره ، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضاً ، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان بقضاء الله وقدره، وأن بقاءه لتدركه النار، وتأخره عن سكنى البيت يعد تفريطاً منه وإضاعة للفرصة يستحق اللوم عليه؛ فلماذا لا يدرك هذا بالنسبة لتفريطه بترك الأسباب المنجية له من نار الآخرة الموجبة لدخوله الجنة ؟ !(71/11)
وأما التمثيل بأن الله إذا قدر للعبد أن يبني مسجداً فإنه سيبني هذا المسجد لا محالة ، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء ، فهذا تمثيل غير صحيح ، لأنه يوحي بأن كيفية البناء يستقل بها العقل ولا تدخل في قدر الله –تعالى- ، وأن اصل فكرة البناء يستقل بها القدر ولا مدخل للاختيار فيها . والحقيقة أن أصل فكرة البناء تدخل في اختيار العبد لأنه لم يجبر عليها ، كما لا يجبر على فكرة إعادة بناء بيته الخاص أو ترميمه مثلاً ، ولكن هذه الفكرة قد قدرها الله-تعالى-للعبد من حيث لا يشعر ، لأنه لا يعلم بأن الله قدر شيئاً ما حتى يقع ذلك الشيء ، إذ القدر سر مكتوم لا يعلم إلا بإطلاع الله- تعالى- عليه بالوحي أو بالوقوع الحسي . وكذلك كيفية البناء هي بقدرـ ، فإن الله – تعالى - قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلاً ، ولا يمكن أن يختار العبد ما لم يُرِدْه أو يقدره بل إذا اختار العبد شيئاً وفعله علم يقيناً أن الله – تعالى – قد قضاه وقدره . فالعبد مختار بحسب الأسباب الحسية الظاهرة التي قدرها الله تعالى ، أسباباً لوقوع فعله ، ولا يشعر العبد حين يفعل الفعل بأن أحداً أجبره عليه ، لكنه إذا فعل ذلك بحسب الأسباب التي جعلها الله – تعالى – أسباباً علمنا يقيناً بأن الله تعالى، قد قدرها جملة وتفصيلاً .
وهكذا نقول في التمثيل بفعل الإنسان المعصية حيث قلتم : إن الله قدر عليه فعل المعصية فهو سيفعلها لا محالة ، ولكن ترك لعقله كيفية تنفيذها والسعي إليها.(71/12)
فنقول فيه ما قلناه في بناء المسجد: إن تقدير الله –تعالى – عليه فعل المعصية لا ينافي اختياره لها ، لأنه حين اختياره لها لا يعلم بما قدر الله تعالى عليه ، فهو يقدم عليها مختاراً لا يشعر بأن أحداً يجبره ، لكنه إذا أقدم وفعل علمنا أن الله قد قدر فعله لها ، وكذلك كيفية تنفيذ المعصية والسعي إليها الواقعة باختيار العبد ، لا تنافي قدر الله – تعالى – فالله – تعالى –قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلاً وقدر أسبابها الموصلة إليها ، ولا يشذ عن ذلك شيء من أفعاله ، ولا من أفعال العباد الاختيارية منها والاضطرارية ، كما قال الله –تعالى - : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (1) . وقال – تعالى- : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } .(2) وقال: { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } (3) . وقال: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا } (4) وبعد فإن الجدير بالمرء ألا يبحث في نفسه ولا مع غيره في مثل هذه الأمور التي توجب له التشوش ، وتوهم معارضة الشرع بالقدر،فإن ذلك ليس من دأب الصحابة –رضي الله عنهم – وهم أحرص الناس على معرفة الحقائق وأقربهم من معين إرواء الغلة ، وكشف الغمة ، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" . فقلنا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ (وفي رواية أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) قال: "لا اعملوا فكل ميسر " . وفي رواية "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان من أهل(71/13)
السعادة فييسر لعمل أهل السعادة . وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة" . ثم قرأ : { فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . فسنيسره للعسرى } . (5) فنهى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن الاتكال على الكتاب وترك العمل ، لأنه لا سبيل إلى العلم به ، وأمر بما يستطيعه العبد ويمكنه ، وهو العمل واستدل بالآية التي تدل على أن من عمل صالحاً وآمن فسييسر لليسرى ، وهذا هو الدواء الناجع المثمر ، الذي يجد فيه العبد بلوغ عافيته وسعادته ، حيث يشمر للعمل الصالح المبني على الإيمان ، ويستبشر بذلك حين يقارنه التوفيق لليسرى في الدنيا والآخرة . أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً للعمل الصالح، وأن ييسرنا لليسرى ويجنبنا العسرى ، ويغفر لنا في الآخرة والأولى، إنه جواد كريم.
(195) وسئل فضيلة الشيخ : هل الإنسان مخير أو مسير؟ .
فأجاب بقوله : على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير .
ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره؟
هل يصيبه المرض باختياره؟
هل يموت باختياره؟
إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير . والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى-: { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبًا } (1) وإلى قوله: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } (2) وإلى قوله : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } (3) وإلى قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } (4) حيث خير الفادي فيما يفدي به.(71/14)
ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله –تعالى –قد أراده –لقوله –تعالى-: { لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (5) فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى .
وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة. والله الموفق.
(196) وسئل فضيلته : عن حكم الرضا بالقدر؟ وهل الدعاء يرد القضاء؟
فأجاب قائلاً: أما الرضا بالقدر فهو واجب لأنه من تمام الرضا بربوبية الله فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله ، ولكن المقضي هو الذي فيه التفصيل فالمقضي غير القضاء ، لأن القضاء فعل الله ، والمقضي مفعول الله فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به ، ولا يجوز أبداً أن نسخطه بأي حال من الأحوال.
وأما المقضي فعلى أقسام :
القسم الأول: ما يجب الرضا به.
القسم الثاني: ما يحرم الرضا به.
القسم الثالث: ما يستحب الرضا به.
فمثلاً المعاصي من مقضيات الله ويحرم الرضا بالمعاصي ، وإن كانت واقعة بقضاء الله فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى ، وأن يقول : إن الله تعالى حكيم، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع ، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله فيجب ألا ترضى به والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك . وقسم من المقضي يجب الرضا به مثل الواجب شرعاً لأن الله حكم به كوناً وحكم به شرعاً فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي .(71/15)
وقسم ثالث يستحب الرضا به ويجب الصبر عليه وهو ما يقع من المصائب ، فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب، لكن يجب الصبر عليه ، والفرق بين الصبر والرضا أن الصبر يكون الإنسان فيه كارهاً للواقع ، لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر، والرضا لا يكون كارهاً للواقع فيكون ما وقع وما لم يقع عنده سواء ، فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر ولهذا قال الجمهور: إن الصبر واجب ، والرضا مستحب.
أما قول السائل : هل الدعاء يرد القضاء؟
فجوابه : أن الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو ، وهو في الواقع يرد القضاء ولا يرد القضاء ، يعني له جهتان فمثلاً هذ1 المريض قد يدعو الله-تعالى-بالشفاء فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضاً ، لكن بالدعاء شفي ، إلا أننا نقول : إن الله –سبحانه وتعالى- قد قضي بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء فهذا هو المكتوب فصار الدعاء يرد القدر ظاهرياً ،حيث إن الإنسان يظن أنه لولا الدعاء لبقي المرض، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء؛لأن الأصل أن الدعاء مكتوب وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء،هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل ، وهكذا كل شيء مقرون بسبب فإن هذا السبب جعله الله - تعالى – سبباً يحصل به الشيء وقد كتب ذلك في الأزل من قبل أن يحدث.
(197) سئل فضيلة الشيخ: هل للدعاء تأثير في تغيير ما كتب للإنسان قبل خلقه؟(71/16)
فأجاب بقوله : لا شك أن للدعاء تأثيراً في تغيير ما كتب ، لكن هذا التغيير قد كتب أيضاً بسبب الدعاء ، فلا تظن أنك إذا دعوت الله فإنك تدعو بشيء غير مكتوب، بل الدعاء مكتوب وما يحصل به مكتوب ، ولهذا نجد القارئ يقرأ على المريض فيشفى ، وقصة السرية التي بعثها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلوا ضيوفاً على قوم ولكنهم لم يضيفوهم وقدر أن لدغت حية سيدهم فطلبوا من يقرأ عليه، فاشترط الصحابة أجرة على ذلك فأعطوهم قطيعاً من الغنم ، فذهب أحدهم فقرأ عليه الفاتحة ، فقام اللديغ كأنما نشط من عقال ، أي كأنه بعير فك عقاله ، فقد أثرت القراءة في شفاء المريض.
فللدعاء تأثير لكنه ليس تغييراً للقدر، بل هو مكتوب بسببه المكتوب، وكل شيء عند الله بقدر ، وكذلك جميع الأسباب لها تأثير في مسبباتها بإذن الله ، فالأسباب مكتوبة والمسببات مكتوبة.
(198) وسئل فضيلة الشيخ : هناك مشكلة ترد على بعض الناس وهي " كيف يعاقب الله على المعاصي وقد قدرها على الإنسان"؟(71/17)
فأجاب قائلاً : هذه في الحقيقة ليست مشكلة وهي إقدام الإنسان على العمل السيئ ثم يعاقب عليه هذه ليست مشكلة؛ لأن إقدام الإنسان على العمل السيئ ، إقدام باختياره فلم يكن أحد شهر سيفه أمام وجهه وقال : اعمل هذا المنكر بل هو عمله باختياره والله – تعالى – يقول: { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } (1) فالشاكر والكفور كلهم قد هداه الله السبيل وبينه له ووضحه له، ولكن من الناس من يختار هذا الطريق ومن الناس من لا يختاره ، وتوضيح ذلك أولاً بالإلزام ، وثانياً بالبيان:( أما الإلزام فإننا نقول للشخص : أعمالك الدنيوية وأعمالك الأخروية كلاهما سواء ، ويلزمك أن تجعلهما سواء ، ومن المعلوم أنه لو عرض عليك من أعمال الدنيا مشروعان أحدهما ترى لنفسك الخير فيه ، والثاني ترى لنفسك الشر فيه ، من المعلوم أنك تختار المشروع الأول الذي هو مشروع الخير ولا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تختار المشروع الثاني وهو مشروع الشر ، ثم تقول : إن القدر ألزمني به ، إذاً يلزمك في طريق الآخرة ما التزمته في طريق الدنيا ، ونقول : جعل الله أمامك من أعمال الآخرة مشروعين مشروعاً للشر وهو الأعمال المخالفة للشرع ، ومشروعاً للخير وهوالأعمال المطابقة للشرع، فإذا كنت في أعمال الدنيا تختار المشروع الخيري فلماذا لا تختار المشروع الخيري في أعمال الآخرة ، إنه يلزمك في عمل الآخرة أن تختار المشروع الخيري كما أنت التزمت في عمل الدنيا أن تسلك المشروع الخيري هذا طريق الإلزام.(71/18)
أما طريق البيان فإننا نقول : كلنا يجهل ماذا قدر الله له قال الله –تعالى-: { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } (1) فالإنسان حينما يقدم على العمل يقدم عليه باختيار منه ليس عن علم بأن الله قدره عليه وأرغمه عليه ولهذا قال بعض العلماء : "إن القدر سر مكتوم" ونحن جميعاً لا نعلم أن الله قدر كذا حتى يقع ذلك العمل ، فنحن إذاً حينما نقدم على العمل لا نقدم عليه على أساس أنه كتب لنا أو علينا، وإنما نقدم عليه باختيار ، وحينما يقع نعلم أن الله قدره علينا، ولذلك لا يقع احتجاج الإنسان بالقدر إلا بعد وقوع العمل ، ولكنه لا حجة له بذلك ويذكر عن أمير المؤمنين عمر قصة – قد تصح عنه وقد لا تصح – رفع إليه سارق تمت شروط القطع في سرقته فلما أمر أمير المؤمنين بقطع يده قال: مهلاً يا أمير المؤمنين والله ما سرقت ذلك إلا بقدر الله. قال له : ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله . فاحتج عليه أمير المؤمنين بما احتج به هو على سرقته من أموال المسلمين ، مع أن عمر يمكنه أن يحتج عليه بالقدر والشرع ، لأنه مأمور بقطع يده ، أما ذاك فلا يمكن أن يحتج إلا بالقدر إن صح أن يحتج به.
وعلى هذا فإنه لا يمكن لأي أحد أن يحتج بالقدر على معصية الله ، وإنه في الواقع لا حجة فيه يقول الله عز وجل - : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فالله يقول : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } مع أن ما يعمله الناس بعد الرسل هو بقدر الله ، ولو كان القدر حجة ما زالت بإرسال الرسل أبداً . بهذا يتبين لنا أثراً ونظراً أنه لا حجة للعاصي بقضاء الله وقدره ، لأنه لم يجبر على ذلك . والله الموفق.
(199) وسئل فضيلته : هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟(71/19)
فأجاب بقوله: كل شيء منذ خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ لأن الله – سبحانه وتعالي ـ أول ما خلق القلم قال له: "اكتب قال : ربي وماذا أكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" . وثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر ، بعث الله إليه ملكاً ينفح فيه الروح ويكتب رزقه، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد .
والرزق أيضاً مكتوب مقدر بأسبابه لا يزيد ولا ينقص ، فمن الأسباب أن يعمل الإنسان لطلب الرزق كما قال الله –تعالى- : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (1) ومن الأسباب أيضاً صلة الرحم من بر الوالدين ،وصلة القرابات، فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" ومن الأسباب تقوى الله-عز وجل – كما قال- تعالى -: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً . ويرزقه من حيث لا يحتسب } (2) . ولا تقل : إن الرزق مكتوب ومحدد ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه فإن هذا من العجز : والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك ، ولما ينفعك في دينك ودنياك قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" . وكما أن الرزق مكتوب مقدر بأسبابه فكذلك الزواج مكتوب مقدر ، وقد كتب لكل من الزوجين أن يكون زوج الآخر بعينه ، والله –تعالى – لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
(200) وسئل فضيلته: هل الكفار مكتوب عملهم في الأزل؟ وإذا كان كذلك فكيف يعذبهم الله-تعالى-؟(71/20)
فأجاب فضيلته بقوله : نعم الكفار مكتوب عملهم في الأزل ، ويكتب عمل الإنسان أيضاً عند تكوينه في بطن أمه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : حدثنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه –أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد". فأعمال الكفار مكتوبة عند الله –عز وجل-معلومة عنده والشقي شقي عند الله – عز وجل ـ في الأزل ، والسعيد سعيد عند الله في الأزل. ولكن قد يقول قائل كما قال السائل : كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل؟
فنقول : إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة وبين لهم الطريق، فأرسلت إليهم الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبين الهدى من الضلال ورُغِّبوا في سلوك طريق الهدى، وحُذِّروا من سلوك طريق الضلال ، ولهم عقول ولهم إرادات ، ولهم اختيارات ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضاً يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار ، ولا نجد أحداً منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه أو يتهاون ويتكاسل في أمر نافع له ، ثم يقول : إن هذا مكتوب علي. أبداً فكل يسعى إلى ما فيه المنفعة ، فكان عليهم أن يسعوا إلى ما فيه منفعة أمور دينهم كما يسعون إلى ما فيه المنفعة في أموردنياهم ، ولا فرق بينهما بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، أكثر وأعظم من بيان الأمور الدنيوية ، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم .(71/21)
ثم نقول : هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أبداً أن أحد أكرهه، بل هو يشعر أنه فعل ذلك بإرادته واختياره ، فهل كان حين إقدامه على الكفر عالماً بما كتب الله له؟ والجواب: لا . لأننا نحن لا نعلم أن الشيء مقدر علينا إلا بعد أن يقع ، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب لأنه من علم الغيب.
ثم نقول له : الآن أنت قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان : هداية وضلال فلماذا لا تسلك طريق الهداية مقدراً أن الله كتبه لك؟ لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسلكه تحتج بأن الله كتبه؟! لأننا نقول : لك قبل أن تدخل هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك ؟ فسيقول : لا . ولا يمكن أن يقول : نعم . فإذا قال : لا. قلنا : إذاً لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى –كتب لك ذلك ولهذا يقول الله –عز وجل-: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } (1) ويقول : –عز وجل - { فأما من أعطى . واتقى وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسني . فسنيسره للعسرى } (2) ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه: بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: "لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ قوله –تعالى -: { فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . فسنيسره للعسرى } .(71/22)
فهذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال ، وهو عجب منهم لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبداً ، بل تجدهم يسلكون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم ، ولا يمكن لأحد أن يقال له : هذا الطريق الذي أمامك طريق وعر صعب، فيه لصوص ، وفيه سباع ، وهذا الطريق الثاني طريق سهل ، ميسر آمن. لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني مع أن هذا نظير الطريقين : طريق النار،وطريق الجنة. فالرسل بينت طريق الجنة وقالت : هو هذا ، وبينت طريق النار وقالت : هو هذا ، وحذرت من الثاني ورغبت في الأول ، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره –وهم لا يعلمونه –على معاصيهم ومعايبهم التي فعلوها باختيارهم وليس لهم في ذلك حجة عند الله-تعالى- .
(201) وسئل فضيلته : عن قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" أو كما قال ، صلى الله عليه وسلم ، وهل يعارض هذا الحديث قول الله تعالى -: { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } (1) ؟(71/23)
فأجاب حفظه الله تعالى –بقوله :هذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه –يخبر فيه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ؛ لقرب أجله وموته ثم يسبق عليه الكتاب الأول الذي كتب أنه من أهل النار ، فيعمل بعمل أهل النار – والعياذ بالله – فيدخلها ، وهذا فيما يبدو للناس ويظهر كما جاء في الحديث الصحيح: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" . –نسأل الله العافية – وكذلك الأمر بالنسبة للثاني يعمل الإنسان بعمل أهل النار ، فيمُنُّ الله تعالى عليه بالتوبة والرجوع إلى الله عند قرب أجله ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
والآية التي ذكرها السائل لا تعارض الحديث لأن الله –تعالى – قال: { أجر من أحسن عملاً } ومن أحسن العمل في قلبه وظاهره فإن الله -تعالى –لا يضيع أجره ، لكن الأول الذي عمل بعمل أهل الجنة فسبق عليه الكتاب ، كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس فيسبق عليه الكتاب، وعلى هذا يكون عمله ليس حسناً وحينئذ لا يعارض الآية الكريمة . والله الموفق.
(202) وسئل فضيلته : عن الجمع بين قول الله تعالى : [ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } (1) وقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } .(2)(71/24)
فأجاب قائلاً : الجمع بينهما أن الله تعالى يخبر في بعض الآيات بأن الأمر بيده ويخبر في بعض الآيات أن الأمر راجع إلى المكلف ، والجمع بين هذه النصوص أن يقال: إن للمكلف إرادة واختياراً وقدرة ، وإن خالق هذه الإرادة والاختيار والقدرة هو الله – عز وجل- فلا يكون للمخلوق إرادة إلا بمشيئة الله – عز وجل- وقد قال الله – تعالى – مبيناً الجمع بين هذه النصوص : { لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (1) ولكن متى يشاء الله – تعالى – ان يهدي الانسان او ان يضله؟ هذا هو ما جاء في قله تعالي: { فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره للعسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } (2) واقرأ قوله : ـ تعالى- : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } (3) تجد أن سبب ضلال العبد من نفسه فهو السبب ، والله –تعالى- يخلق عند ذلك فيه إرادة للسوء لأنه هو يريد السوء ، وأما من أراد الخير وسعى في الخير وحرص عليه فإن الله – تعالى –ييسره لليسرى ، ولما حدث النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أصحابه : بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا يارسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: "لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ هذه الآية { فأما من أعطى واتقى . . . } إلخ .
واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن يوجد في كلام الله أو فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تناقض أبداً ، فإذا قرأت نصين ظاهرهما التناقض فأعد النظر مرة أخرى ، فسيتبين لك الأمر ، فإن لم تعلم فالواجب عليك التوقف وأن تكل الأمر إلى عالمه والله بكل شيء عليم.
203- وسئل فضيلة الشيخ : عن قول الله – تعالى - : { والله خلقكم وما تعملون } ؟(71/25)
فأجاب بقوله:هذا مما قاله إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، لقومه { قال أتعبدون ما تنحون . والله خلقكم وما تعملون } (1) أي ما تعملون من هذه الأصنام ليقيم عليهم الحجة بأنها لا تصلح آلهة ، لأنها إذا كانت مخلوقة لله – تعالى – فمن الذي يستحق العبادة المخلوق أم الخالق؟ الجواب الخالق. وهل يستحق المخلوق أن يكون شريكاً في هذه العبادة ؟ لا . فإبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، أراد أن يقيم الحجة على قومه بأن ما عملوه من هذه الأصنام التي نحتوها مخلوق الله –عز وجل –فكيف يليق بهم أن يشركوا مع الله –تعالى – هذا المخلوق . وعلى هذا فقوله : { وما تعملون } { ما } اسم موصول عائدة على قوله { ما تنحون } هذا وجه هذه الآية . وليس فيها أنه يبرر شركهم بالله ويقول : إن عملكم مخلوق لله فأنتم بريئون من اللوم عليه ، كلا لأننا لو قلنا ذلك لكان يحتج لهم ولا يحتج عليهم ، ولكن هو يحتج عليهم وليس يحتج لهم.
(204) وسئل فضيلته عن شخص عاص عندما دعي للحق قال: "إن الله لم يكتب لي الهداية" فكيف يتعامل معه؟(71/26)
فأجاب قائلاً : نقول بكل بساطة : أطَّلعت الغيب أم اتخذت عند الله عهداً؟ إن قال : نعم ، كفر لأنه ادعى علم الغيب وإن قال: لا ، خصم وغلب ، إذا كنت لم تطلع أن الله لم يكتب لك الهداية فاهتد ، فالله ما منعك الهداية بل دعاك إلى الهداية ، ورغبك فيها ، وحذرك من الضلالة ، ونهاك عنها ولم يشأ الله – عز وجل - -أن يدع عباده على ضلالة أبداً قال – تعالى- : { يبين الله لكم أن تضلوا } (1) . { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم } (2). فتب إلى الله ، والله ـ عز وجل – أشد فرحاً بتوبتك من رجل أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه ، وأيس منها ، ونام تحت شجرة ينتظر الموت ، فاستيقظ فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة فأخذ بخطام الناقة فرحاً وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" . أخطأ من شدة الفرح فنقول ـ تب إلى الله ، والله أمرك بالاهتداء وبين لك طريق الحق. والله ولي التوفيق.
(205) وسئل فضيلة الشيخ : عن الحكمة من وجود المعاصي والكفر؟
فأجاب بقوله : لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها:
1- 1- إتمام كلمة الله-تعالى- حيث وعد النار أن يملأها قال الله ـ تعالى -: { ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } .(3)
2- 2- ومنها ظهور حكمة الله –تعالى – وقدرته حيث قسم العباد إلى قسمين: طائع ، وعاصٍ ، فإن هذا التقسيم يتبين به حكمة الله – عز وجل –فإن الطاعة لها أهل هم أهلها ، والمعصية لها أهل هم أهلها ، قال الله تعالى -: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } . (1) وقال: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } (2) فهؤلاء أهل الطاعة وقال –تعالى-: { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } (3) . وقال: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } (4). وهؤلاء أهل المعصية .(71/27)
ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي لا يقدر عليه إلا الله كما قال –تعالى -: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } (5) وقال : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } .(6)
3- 3- ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة الله عليه بالطاعة إذا رأى حال أهل المعصية قال الله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .(7)
4- 4- ومنها لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة لله-تعالى-.
5- 5- ومنها أن العبد إذا وقع في المعصية ومَنَّ الله عليه بالتوبة ازداد إنابة إلى الله وانكسر قلبه، وربما يكون بعد التوبة أكمل حالاً منه قبل المعصية حيث يزول عنه الغرور والعجب ، ويعرف شدة افتقاره إلى ربه .
6- 6- ومنها إقامة الجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإنه لولا المعاصي والكفر لم يكن جهاد ، ولا أمر بمعروف ، ولا نهي عن منكر . إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الكثيرة ولله في خلقه شؤون.
(206) سئل فضيلة الشيخ: هل في محاجة آدم وموسى إقرار للاحتجاج بالقدر ؟ وذلك أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى : "أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة" . فقال له آدم : "أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني؟" فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى" . أي غلبه بالحجة وآدم احتج بقضاء الله وقدره؟ .(71/28)
فأجاب بقوله : هذا ليس احتجاجاً بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد ، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله ، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب ، ولهذا قال : "خيبتنا وأخرجتنا ، ونفسك من الجنة" ولم يقل : عصيت ربك فأخرجت من الجنة فاحتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبره مصيبة ، والاحتجاج بالقدر على المصايب لا بأس به ، أرأيت لو أنك سافرت سفراً وحصل لك حادث ، وقال لك إنسان : لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء. فستجيبه: بأن هذا قضاء الله وقدره ، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث ، وإنما خرجت لمصلحة ، فأصبت بالحادث ، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام ، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة ؟ لا . فالمصيبة إذاً التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجاً صحيحاً ، ولهذا قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "حج آدم موسى ، حج آدم موسى" . وفي رواية للإمام أحمد: "فحجه آدم" يعني غلبه في الحجة.(71/29)
مثال آخر : رجل أصاب ذنباً وندم على هذا الذنب وتاب منه ، وجاء رجل من إخوانه يقول : له يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء فقال: هذا قضاء الله وقدره . فهل يصح احتجاجه هذا أولا؟ نعم يصح لأنه تاب ، فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته ، لكنه نادم ومتأسف ، ونظير ذلك أن النبي ، صلى الله عليه وسلم، دخل ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة –رضي الله عنهما –فقال: "ألا تصليان؟" فقال علي-رضي الله عنه- : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله ، فإن شاء الله أن يبعثنا بعثنا فانصرف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يضرب على فخزه وهو يقول: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } (1) فالرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لم يقبل حجته ، وبين أن هذا من الجدل ؛ لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يعلم أن الأنفس بيد الله ، لكن يريد أن يكون الإنسان حازماً فيحرص على أن يقوم ويصلي. على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج باللقدرعلى المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز.
(207) سئل فضيلة الشيخ: هل في قدر الله تعالى شر؟(71/30)
فأجاب قائلاً : ليس في القدر شر، وإنما الشر في المقدور ، فمن المعروف أن الناس تصيبهم المصائب وتنالهم الخيرات ، فالخيرات خير، والمصائب شر ، لكن الشر ليس في فعل الله – تعالى -،يعني ليس فعل الله وتقديره شراً ،الشر في مفعولات الله لا في فعله ، والله – تعالى – لم يقدر هذا الشر إلا لخير كما قال-تعالى-: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } (2) . هذا بيان سبب الفساد وأما الحكمة فقال: { ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (3) إذاً هذه مصائب مآلها الخير ، فصار الشر لا يضاف إلى الرب ، ولكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات ، مع أن هذه المفعولات والمخلوقات شر من وجه ، وخير من وجه آخر ، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة { ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } .
(208) سئل فضيلة الشيخ: كيف يقضي الله كوناً مالا يحب؟
فأجاب بقوله: المحبوب قسمان :
الأول: محبوب لذاته .
الثاني : محبوب لغيره .(71/31)
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة ، فيكون حينئذ محبوباً من وجه ، مكروهاً من وجه آخر ، مثال ذلك قوله –تعالى - : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً } (1) . فالفساد في الأرض في حد ذاته مكروه إلى الله –تعالى – ؛ لأن الله - تعالى – لا يحب الفساد ولا المفسدين، ولكن للحكم التي يتضمنها يكون محبوباً إلى الله ـ عز وجل –من وجه آخر ، وكذلك العلو في الأرض ،ومن ذلك القحط ، والجدب ، والمرض ،والفقر يقدره الله – تعالى – على عباده مع أنه ليس محبوباً إليه في حد ذاته ، لأن الله لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك ،بل يريد بعباده اليسر ، لكن يقدره للحكم المترتبه عليه ، فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر قال الله –تعالى -: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } .(2)
فإن قيل :يف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه ومكروهاً من وجه آخر؟
أجيب : بأن هذا أمر واقع لا ينكره العقل ، ولا يرفضه الحس فها هو الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة ، واللون، فيشربها وهو يكرهها لما فيها من المرارة ، وكراهة اللون ، والرائحة، ويحبها لما يحصل فيها من الفشاء ، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار ، ويتألم منها فهذا الألم مكروه له من وجه ، محبوب له من وجه آخٍر.
(209) سئل فضيلة الشيخ : عمن يتسخط إذا نزلت به مصيبة؟
فأجاب بقوله : الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى : التسخط وهو على أنواع:
النوع الأول : أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه فهذا حرام ، وقد يؤدي إلى الكفر قال – تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } (1)(71/32)
النوع الثاني: أن يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك ، وهذا حرام.
النوع الثالث: أن يكون بالجوارح كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر وهو كما قال الشاعر :
والصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط ، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده وهذا واجب لأن الله تعالي أمر بالصبر فقال: { واصبروا إن الله مع الصابرين } (2) .
المرتبة الثالثة: الرضا بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها ، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً ، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح ، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.
المرتبة الرابعة: الشكر وهو أعلى المراتب ، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته قال صلى الله عليه وسلم "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها".
(210) سئل- حفظه الله تعالى -: ما معنى قوله ، صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" . متفق عليه من حديث أنس . وهل معنى ذلك أن الإنسان يكون له عمر إذا وصل رحمه ، وعمر إذا لم يصل؟(71/33)
فأجاب بقوله : ليس معنى ذلك أن الإنسان يكون له عمران : عمر إذا وصل رحمه وعمر إذا لم يصل ، بل العمر واحد ، والمقدر واحد والإنسان الذي قدر الله له أن يصل رحمه سوف يصل رحمه، والذي قدر الله أن يقطع رحمه سوف يقطع رحمه ولا بد ، ولكن الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، أراد أن يحث الأمة على فعل ما فيه الخير ، كما نقول : من أحب أن يأتيه ولد فليتزوج ، فالزواج مكتوب، والولد مكتوب ، فإذا كان الله قد أراد أن يحصل لك ولد أراد أن تتزوج ، ومع هذا فإن الزواج والولد كلاهما مكتوب ، كذلك هذا الرزق مكتوب من الأصل ، ومكتوب أنك ستصل رحمك ، لكنك أنت لا تعلم عن هذا فحثك النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وبين لك أنك إذا وصلت الرحم فإن الله ، يبسط لك في الرزق ، وينسأ لك في الأثر ، وإلا فكل شيء مكتوب لكن لما كانت صلة الرحم أمراً ينبغي للإنسان أن يقوم به حث النبي ، عليه الصلاة والسلام على ذلك بأن الإنسان إذا أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه ، وإلا فإن الواصل قد كتبت صلته وكتب أن يكون عمره إلى حيث أراد الله –عز وجل- ثم اعلم أن امتداد الأجل ، وبسط الرزق أمر نسبي ، ولهذا نجد بعض الناس يصل رحمه ، ويبسط له في رزقه بعض الشيء ، ولكن عمره يكون قصيراً وهذا مشاهد ، فنقول : هذا الذي كان عمره قصيراً مع كونه واصلاً للرحم لو لم يصل رحمه لكان عمره أقصر ، ولكن الله قد كتب في الأزل أن هذا الرجل سيصل رحمه وسيكون منتهى عمره في الوقت الفلاني.
(211) وسئل فضيلة الشيخ : عن احتجاج العاصي إذا نهي عن معصية بقوله – تعالى- : { إن الله غفور رحيم } ؟
فأجاب قائلاً : إذا احتج بهذا احتججنا عليه بقوله – تعالى-: { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم } (1) وبقوله تعالى : { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } (2) . فإذا أتى بآيات الرجاء يقابل بآيات الوعيد.(71/34)
وليس هذا الجواب منه إلا جواب المتهاون ، فنحن نقول له: اتق الله ـ عز وجل –وقم بما أوجب الله عليك ، واسأله المغفرة ، لأنه ليس كل أحد يقوم بما أوجب الله عليه يقوم به على وجهه الأكمل.
(212) سئل فضيلة الشيخ: كيف يكون القضاء والقدر معيناً على زيادة إيمان المسلم؟
فأجاب بقوله : يكون الإيمان بالقضاء والقدر عوناً للمسلم على أمور دينه ودنياه ؛ لأنه يؤمن بأن قدرة الله –عز وجل – فوق كل قدرة ، وأن الله ـ عز وجل- إذا أراد شيئاً فلن يحول دونه شيء ، فإذا آمن بهذا فعل الأسباب التي يتوصل بها إلى مقصوده ، ونحن نعلم فيما سبق من التاريخ أن هناك انتصارات عظيمة انتصر فيها المسلمون مع قلة عددهم وعددهم ، كل ذلك لإيمانهم بوعد الله –عز وجل-وبقضائه وقدره وأن الأمور كلها بيده-سبحانه-.
(213) سئل فضيلة الشيخ : عن قول النبي ، صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ، ولا طيرة ولا هامة ، ولا صفر" متفق عليه . وما نوع النفي في الحديث؟ وكيف نجمع بينه وبين حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"؟
فأجاب قائلاً : "العدوى" انتقال المرض من المريض إلى الصحيح ، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون في الأمراض المعنوية الخلقية ، ولهذا أخبر النبي ، عليه الصلاة والسلام ، أن جليس السوء كنافخ الكير ؛ إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه رائحة كريهة فقوله ، صلى الله عليه وسلم: "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية.
و "الطيرة" هي التشاؤم بمرئي، أو مسموع ، أو معلوم.
و "الهامة" فسرت بتفسيرين :
الأول : داء يصيب المريض وينتقل إلى غيره ، وعلى هذا التفسير يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام .(71/35)
الثاني : طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل ، فإن هذه الهامة تأتي إلى أهله وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره ، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه تكون بصورة الهامة ، وهي نوع من الطيور تشبه البومة أو هي البومة ، تؤذي أهل القتيل بالصراخ حتى يأخذوا بثأره ، وهم يتشاءمون بها فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت قالوا : إنها تنعق به ليموت ، ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل.
و"صفر" فسر بتفاسير:
الأول : أنه شهر صفر المعروف ، والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير، وينتقل من بعير إلى آخر ، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر شهر صفر ، والمراد به النسيء الذي يضل به الذين كفروا ، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاماً ، ويحرمونه عاماً . وأرجحها أن المراد شهر صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله – عز وجل –فهو كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر.
وبعض الناس إذا انتهى من عمل معين في اليوم الخامس والعشرين مثلاً من شهر صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في الخامس والعشرين من شهر صفر الخير. . فهذا من باب مداواة البدعة بالبدعة ، والجهل بالجهل . فهو ليس شهر خير ، ولا شر. ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: "خيراً إن شاء الله" فلا يقال خير ولا شر بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول ، صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله ، وصدق العزيمة ، وألا يضعف المسلم أمام هذه الأمور.
وإذا ألقى المسلم باله لهذه الأمور فلا يخلو من حالين :
الأولى: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له.(71/36)
الثانية : أن لا يستجيب لها بأن يقدم ولا يبالي ، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم ، وهذا و إن كان أهون من الأول لكن يجب أن لا يستجيب لداعي هذه الأمور مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله عز وجل. وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل فإذا نظر إلى ذكر النار قال: هذا فأل غير جميل، وإذا نظر إلى ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، وهذا في الحقيقة مثل عمل اهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام. والنفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود ، لأنها موجودة ولكنه نفي للتأثير ، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً فهو سبب صحيح وما كان منها سبباً موهوماً فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته ، فالعدوى موجودة ، ويدل لوجودها قوله ، صلى الله عليه وسلم : "لا يورد ممرض على مصح" أي لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة ، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله ، صلى الله عليه وسلم : "فر من المجذوم فرارك من الأسد" "الجذام" : مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه ، حتى قيل : إنه الطاعون ، فالأمر بالفرار لكي لا تقع العدوى ، وفيه إثبات العدوى لتأثيرها ، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً بحيث تكون علة فاعلة ، ولكن أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بالفرار من المجذوم ، وأن لا يورد ممرض على مصح، من باب تجنب الأسباب ، لا من باب تأثير الأسباب بنفسها قال الله-تعالى-: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } (1) ولا يقال : إن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ينكر تأثير العدوى ؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما قال: "لا عدوى" قال رجل: يا رسول الله أرأيت الإبل تكون في الرمال مثل الظباء فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب ؟! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: فمن " اعدي الأول " ؟(71/37)
فالجواب: أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أشار بقوله : "فمن أعدى الأول" إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بتدبير الله - عز وجل-فالمرض نزل على الأول بدون عدوى بل نزل من عند الله –عز وجل- والشيء قد يكون له سبب معلوم ، وقد لا يكون له سبب معلوم ، وجرب الأول ليس معلوماً إلا أنه بتقدير الله –تعالى- ، وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء الله – تعالى – ما جرب ، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب ثم يرتفع ولا تموت ، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ، ويسلم آخرون ولا يصابون ، فالإنسان يعتمد على الله ويتوكل عليه وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم عليه رجل مجذوم فأخذه بيده وقال له: "كل" أي من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لقوة توكله ، صلى الله عليه وسلم فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي . وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث وادعى بعضهم النسخ ، وهذه الدعوى غير صحيحة؛ لأن من شرط النسخ تعذر الجمع ، وإذا أمكن الجمع وجب لأن فيه إعمال الدليلين ، وفي النسخ إبطال أحدهما ؛ وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة . والله الموفق.
(214) وسئل فضيلته : هل العين تصيب الإنسان ؟ وكيف تعالج؟ وهل التحرز منها ينافي التوكل؟(71/38)
فأجاب بقوله : رأينا في العين أنها حق ثابت شرعاً وحساً قال الله –تعالى-: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } (1) . قال ابن عباس وغيره في تفسيرها : أي يعينوك بأبصارهم ، ويقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" رواه مسلم . ومن ذلك ما رواه النسائي وابن ماجه أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: "لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة" فما لبث أن لبط به فأتي به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، فقيل له : أدرك سهلاً صريعاً فقال: "من تتهمون؟" قالوا : عامر بن ربيعة فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "علام يقتل أحدكم أخاه إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة" . ثم دعا بماء فأمر عامراً أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه وفي لفظ : يكفأ الإناء من خلفه . والواقع شاهد بذلك ولا يمكن إنكاره.
وفي حالة وقوعها تستعمل العلاجات الشرعية وهي :
1- 1- القراءة : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا رقيه إلا من عين أو حمة" . وقد كان جبريل يرقي النبي ، صلى الله عليه وسلم فيقول: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد ، الله يشفيك ، باسم الله أرقيك" .
2- 2- الاستغسال: كما أمر به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عامر بن ربيعة في الحديث السابق ثم يصب على المصاب.
أما الأخذ من فضلاته العائدة من بوله أو غائطه فليس له أصل، وكذلك الأخذ من أثره ، وإنما الوارد ما سبق من غسل أعضائه وداخلة إزاره ولعل مثلها داخلة غترته وطاقيته وثوبه والله أعلم .(71/39)
و التحرز من العين مقدماً لا باس به ولا ينافي التوكل بل هو التوكل ؛ لأن التوكل الاعتماد على الله –سبحانه – مع فعل الأسباب التي أباحها أو أمر بها وقد كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يعوذ الحسن والحسين ويقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة" ويقول : هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام. رواه البخاري.
(215)وسئل فضيلة الشيخ : اختلف بعض الناس في العين فقال : بعضهم لا تؤثر لمخالفتها للقرآن الكريم فما القول الحق في هذه المسألة؟
فأجاب بقوله : القول الحق ما قاله النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو : "إن العين حق" وهذا أمر قد شهد له الواقع ولا أعلم آيات تعارض هذا الحديث حتى يقول هؤلاء : إنه يعارض القرآن الكريم ، بل إن الله ـ سبحانه وتعالى – قد جعل لكل شيء سبباً ، حتى إن بعض المفسرين قالوا في قوله-تعالى-: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بابصأرهم لما سمعوا الذكر } (1) قالوا : إن المراد هنا العين . ولكن على كل حال سواء كان هذا هو المراد بالآية أم غيره، فإن العين ثابتة وهي حق ولا ريب فيها ، والواقع يشهد لذلك منذ عهد الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، إلى اليوم .
ولكن من أصيب بالعين فماذا يصنع؟ الجواب:(71/40)
يعامل بالقراءة ، وإذا علم عائنه فإنه يطلب منه أن يتوضأ ويؤخذ ما يتساقط من ماء وضوئه ثم يعطي للمعيون يصب على رأسه وعلى ظهره ويسقى منه وبهذا يشفى بإذن الله ، وقد جرت العادة عندنا أنهم يأخذون من العائن ما يباشر جسمه من اللباس مثل الطاقية وما أشبه ذلك ، ويربصونها بالماء ثم يسقونها المصاب، ورأينا ذلك يفيده حسبما تواتر عندنا من النقول ،فإذا كان هذا هو الواقع فلا بأس باستعماله ؛ لأن السبب إذا ثبت كونه سبباً شرعاً أو حساً فإنه يعتبر صحيحاً . أما ما ليس بسبب شرعي ولا حسي فإنه لا يجوز اعتماده ، مثل أولئك الذين يعتمدون على التمائم ونحوها يعلقونها على أنفسهم ليدفعوا بها العين فإن هذا لا أصل له، سواء كانت هذه من القرآن الكريم ، أو من غير القرآن الكريم ، وقد رخص بعض السلف في تعليق التمائم إذا كانت من القرآن الكريم ودعت الحاجة إليها.
(216) سئل الشيخ : عما يفعله بعض الناس عندما يرى من ينظر إليه وهو يأكل يرمي قطعة على الأرض خوفاً من العين فما حكم هذا العمل؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ورعاه – بقوله : هذا اعتقاد فاسد ، ومخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما بها من الأذى وليأكلها" .
---
(1) سورة يوسف، الآية "41" .
(2) سورة غافر، الآية "20" .
(1) سورة الفرقان ، الآية "2" .
(1) سورة آل عمران ، الآية "5" .
(2) سورة الأنعام ، الآية "59" .
(3) سورة ق ، الآية "16" .
(4) سورة البقرة ، الآية "283" .
(5) سورة طه ، الآيتان "51-52" .
(1) سورة الحج ، الآية "70" .
(2) سورة الدخان ، الآيات "3-5" .
(3) سورة إبراهيم ، الآية "7" .
(4) سورة الأنعام ، الآية "149".
(1) سورة هود ، الآية "118".
(2) سورة فاطر ، الآية "16" .
(3) سورة البقرة ، الآية "253".
(4) سورة الصافات ، الآية "96" .
(1) سورة النساء ، الآية "165" .
(2) سورة الحجرات، الآية "17" .(71/41)
(1) سورة الحديد، الآيتان "22-23" .
(1) سورة الحج، الآية "70" .
(2) سورة الأنعام ، الآية "112" .
(3) سورة الأنعام ، الآية "137".
(4) سورة البقرة ، الآية "253".
(5) سورةالليل الايات " 5 –10" .
(1) سورة النبأ، الآية "39" .
(2) سورة آل عمران ، الآية "152" .
(3) سورة الإسراء ، الآية "19" .
(4) سورة البقرة ، الآية "196" .
(5) سورة التكوير ، الآية "28-29" .
(1) سورة الإنسان ، الآية "3".
(1) سورة لقمان ، الآية "34" .
(1) سورة الملك، الآية "15" .
(2) سورة الطلاق ، الآيتان "2-3" .
(1) سورة الصف، الآية "5" .
(2) سورة الليل، الآيات "5-10" .
(1) سورة الكهف ، الآية "30" .
(1) سورة الأنعام ، الآية "125" .
(2) سورة الليل ، الآيات "5-10" .
(1) سورة التكوير ، الآيتان "29" .
(2) سورة الليل، الآيات "5-10" .
(3) سورة الصف ، الآية "5" .
(1) سورة الصافات ، الآيتان "95-96" .
(1) سورة النساء ، الآية "176" .
(2) سورة النساء ، الآية "26".
(3) سورة هود، الآيتان "118-119".
(1) سورة الأنعام ، الآية "124".
(2) سورة محمد ، الآية "17".
(3) سورة التوبة ، الآية "125".
(4) سورة الصف ، الآية "5" .
(5) سورة البقرة ، الآية "272".
(6) سورة القصص ، الآية "56".
(7) سورة آل عمران، الآية "164".
(1) سورة الكهف ، الآية "54" .
(2) سورة الروم الآية "41".
(3) سورة الروم الآية "41".
(1) سورة الإسراء، الآية "4" .
(2) سورة الروم ، الآية "41" .
(1) سورة الحج ، الآية "11".
(2) سورة الأنفال ، الآية "46".
(1) سورة الحجر ، الآيتان "49-50" .
(2) سورة المائدة ، الآية "98" .
(1) سورة البقرة ، الآية "195" .
(1) سورة القلم ، الآية "51" .
(1) سورة القلم ، الآية "51" .(71/42)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
الكفر والتكفير
محمد بن صالح العثيمين
(217) سئل فضيلة الشيخ : هل إنكار الخالق كفر؟
فأجاب بقوله : الظاهر أن هذا السؤال كمن يسأل هل الشمس شمس؟ وهل الليل ليل؟ وهل النهار نهار؟ فمن الذي يشكل عليه أن منكر الخالق لا يكون كافراً ، مع أن هذا ، أعني إنكار الخالق ما وجد فيما سلف من الإلحاد ، وإنما وجد أخيراً ، وكيف يمكن إنكار الخالق والأدلة على وجوده – جل وعلا – أجلى من الشمس .
وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟(72/1)
وأدلة وجود الخالق والحمد لله موجودة في الفطر والعقول، والشاهد والمحسوس ، ولا ينكره إلامكابر بل حتى الذين أنكروه قلوبهم مطمئنة بوجوده، ، كما قال الله – تعالى – عن فرعون الذي أنكرالخالق وادعى الربوبية لنفسه قال: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } (1) وقال – جل ذكره- عن موسى وهو يناظر فرعون : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } (2) ثم إن هؤلاء الذين ينكرون الخالق هم في الحقيقة منكرون لأنفسهم ، لأنهم هم الآن يعتقدون أنهم ما أوجدوا أنفسهم ويعلمون ذلك ، و يعتقدون أنه ما أوجدتهم أمهاتهم ، ولا أوجدهم آباؤهم، ولا أوجدهم أحد إلا رب العالمين –سبحانه وتعالى – كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (3) وتعجب جبير بن مطعم على أنه لم يؤمن بعد أن سمع هذه الآية يقرؤها النبي ، عليه الصلاة والسلام ، قال : "كدت أطير" من كونها دليلاً قاطعاً ظاهراً على وجود الخالق-سبحانه وتعالى-، وهؤلاء المنكرون للخالق إذا قيل : لهم من خلق السماوات والأرض؟ ما استطاعوا سبيلاً إلا أن يقولوا: الذي خلقها الله، لأنها قطعاً لم تخلق نفسها ، وكل موجود لا بد له من موجد واجب الوجود وهو الله . لو أن أحداً من الناس قال : إن هذا القصر المشيد المزين بأنواع الثريات الكهربائية وغيرها إنه بنى نفسه ،لقال : الناس إن هذا أمر جنوني . ولا يمكن أن يكون فكيف بهذه السموات والأرض ، والأفلاك والنجوم السائرة على هذا النظام البديع الذي لا يختلف منذ أن خلقه الله عز وجل إلى أن يأذن الله بفناء هذا العالم ، وأعتقد أن الأمر أو ضح من أن يقام عليه الدليل . وبناء على ذلك فإنه لا شك أن من أنكر الخالق فإنه مختل العقل كما أنه لا دين عنده وأنه كافر لا يرتاب أحد في كفره.(72/2)
وهذا الحكم ينطبق على المقلدين لهذا المذهب الذين عاشوا في الإسلام ، لأن الإسلام ينكر هذا إنكاراً عظيماً ، ولا يخفى على أحد من المسلمين بطلان هذا الفكر وهذا المذهب ، وليسوا معذورين لأن
لديهم من يعلمهم ، بل هم لو رجعوا إلى فطرهم ما وجدوا لهذا أصلاً.
(218) سئل فضيلة الشيخ-حفظه الله- : هل يجوز أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر؟
فأجاب بقوله : نعم يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر ، إذا تحققت فيه أسباب الكفر ، فلو أننا رأينا رجلاً ينكر الرسالة، أو رجلاً يبيح التحاكم إلى الطاغوت ، أو رجلاً يبيح الحكم بغير ما أنزل الله ، ويقول : إنه خير من حكم الله بعد أن تقوم الحجة عليه ، فإننا نحكم عليه بأنه كافر فإذا وجدت أسباب الكفر وتحققت الشروط وانتفت الموانع فإننا نكفر الشخص بعينه ونلزمه بالرجوع إلى الإسلام أو القتل . والله أعلم.
(219) سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز إطلاق الكفر على الشخص المعين إذا ارتكب مكفراً؟
فأجاب قائلاً : إذا تمت شروط التكفير في حقه جاز إطلاق الكفر عليه بعينه ولو لم نقل بذلك ما انطبق وصف الردة على أحد، فيعامل معاملة المرتد في الدنيا هذا باعتبار أحكام الدنيا أما أحكام الآخرة فتذكر على العموم لا على الخصوص ولهذا قال أهل السنة:
لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي ، صلى الله عليه وسلم.
وكذا نقول : من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين ، إذ إن الحكم المعلق بالأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه.
(220) وسئل فضيلة الشيخ : عن شروط الحكم بتكفير المسلم؟ وحكم من عمل شيئاً مكفراً مازحاً؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالي ـ بقوله : للحكم بتكفير المسلم شرطان : أحدهما : أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر.(72/3)
الثاني : انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر. لقوله –تعالى- : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } (1) . وقوله : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } (2)وقوله: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (3).
لكن إن فرط بترك التعلم والتبين ، لم يعذر ، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ.
وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك ، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه ، كقول صاحب البعير الذي أضلها ، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه ، وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح.
لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك ، كما نص عليه أهل العلم.
(221) وسئل فضيلته : عن حكم من يجهل أن صرف شيء من الدعاء لغير الله شرك؟
فأجاب بقوله : الجهل بالحكم فيما يكفر كالجهل بالحكم فيما يفسق، فكما أن الجاهل بما يفسق يعذر بجهله كذلك الجاهل بما يكفر يعذر بجهله ولا فرق لأن الله – عز وجل - - يقول: { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } (1) . ويقول الله – تعالى -: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (2) . وهذا يشمل كل ما يعذب عليه الإنسان ويقول الله –عز وجل -: { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم } (3) .(72/4)
لكن إذا كان هذا الجاهل مفرطاً في التعلم ولم يسأل ولم يبحث فهذا محل نظر . فالجهال بما يكفر وبما يفسق إما أن لا يكون منهم تفريط وليس على بالهم إلا أن هذا العمل مباح فهؤلاء يعذرون ، ولكن يدعون للحق فإن أصروا حكم عليهم بما يقتضيه هذا الإصرار ، وأما إذا كان الإنسان يسمع أن هذا محرم أو أن هذا مؤد للشرك ولكنه تهاون أو استكبر فهذا لا يعذر بجهله.
(222) وسئل- رعاه الله بمنه وكرمه-: هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟(72/5)
فأجاب بقوله : العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه ، لأن الله –سبحانه وتعالى-قال: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } حتى قال – عز وجل- : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (1) ولقوله ـ تعالى ـ: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (2) . ولقوله ـ تعالى ـ: { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } (3) . ولقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي واحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار". والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلاً فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين، ولكن يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي إنه يذكر له الحق ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور، لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } (4). وفي الآية الثانية: { وإنا على آثارهم مقتدون } (5). فالمهم أن الجهل الذي يعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يذكر له، هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه يعتبر منهم، وإن كان لا ينتسب إلى المسلمين فإن حكمه حكم أهل الدين، الذي ينتسب إليه في الدنيا. وأما في الآخرة فإن شأنه شأن أهل الفترة يكون أمره إلى الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون بما شاء الله، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار، ولكن ليعلم أننا اليوم في عصر لا يكاد مكان في الأرض إلا وقد بلغته(72/6)
دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة، واختلاط الناس بعضهم ببعض، وغالباً ما يكون الكفر عن عناد.
(223) وسئل فضيلته –حفظه الله - : هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح –رضي الله عنهم –محتجين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة؟
فأجاب بقوله : هذا لا يعذر به صاحبه حيث بلغه الحق ، لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان ، وأن يبحث عنه حتى يتبين له.
والحق –ولله الحمد-ناصع ، بين لمن صلحت نيته ، وحسن منهاجه ، فإن الله –عز وجل – يقول في كتابه: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } (1). ولكن بعض الناس- كما ذكر الأخ السائل –يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم ، مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيفة أو باطلة ، لكن التعصب والهوى يحملهم على موافقتهم ، وإن كانوا قد تبين لهم الهدى.
(224) سئل فضيلة الشيخ: عن العذر بالجهل فيما يتعلق بالعقيدة؟
فأجاب بقوله : الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافاً لفظياً في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين أي إن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر ، أو هذا الفعل كفر ، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضي في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات ، أو وجود بعض الموانع .
وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:
الأول : أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء ولم يكن يخطر بباله أن ديناً يخالف ما هو عليه فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا ، وأما في الآخرة فأمره إلى الله –تعالى-، والقول الراجح أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل – والله أعلم بما كانوا عاملين ، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله –تعالى- : { ولا يظلم ربك أحداً } (1)(72/7)
وإنما قلنا : تجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام فلا يمكن أن يعطي حكمه ، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم –رحمه الله تعالى –في كتابه-: "طريق الهجرتين" عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفر ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام ، ولا نبهه أحد على ذلك فهذا تجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً ، أما في الآخرة فأمره إلى الله-عز وجل-وقد دل على ذلك الكتاب ، والسنة ، وأقوال أهل العلم.
فمن أدلة الكتاب: قوله-تعالى-: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ."2" وقوله: { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } (1). وقوله : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2) وقوله: { وما أرسلنا رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } .(3) . وقوله : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } . (4) وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون . أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين . أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } (5)إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.وأما السنة:ففي صحيح مسلم1/134 عن أبي هريرة –رضي الله عنه-أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة –يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".(72/8)
وأما كلام أهل العلم : فقال في المغني 8/ :131 "فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام ، والناشئ بغير دار الإسلام ، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 3/ 229 مجموع ابن قاسم : "إني دائماً –ومن جالسني يعلم ذلك مني –من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، وتفسيق ، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى ، وإني أقرر أن الله –تعالى –قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية ، والمسائل العملية ، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل ، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ، ولا بفسق ، ولا بمعصية - إلى أن قال –وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين – إلى أن قال : - والتكفير هو من الوعيد فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة ، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده ، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً" أ . هـ . وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 1/56 من الدرر السنية: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ، ثم بعدما عرفه سبه ، ونهى الناس عنه ، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره" . وفي ص 66 " وأما الكذب والبهتان فقولهم : إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله ، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر ، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم(72/9)
،فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل" ا . هـ .
وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب ، والسنة ، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله –تعالى -، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه ، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله –تعالى – من الحقوق ، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله-تعالى – في الحكم ، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على من لم يكفره الله –تعالي-فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده كالحكم بالتحريم أو عدمه.
وأما الثاني فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد ، فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك ، وحري به أن يعود وصف الكفر عليه لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما". وفي رواية: "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه" . وله من حديث أبي ذر –رضي الله عنه- أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، قال : "ومن دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" . يعني رجع عليه. وقوله في حديث ابن عمر : "إن كان كما قال" يعني في حكم الله-تعالى-. وكذلك قوله في حديث أبي ذر: "وليس كذلك" يعني في حكم الله تعالى.(72/10)
وهذا هو المحذور الثاني أعني عود وصف الكفر عليه إن كان أخوه بريئاً منه ، وهو محذور عظيم يوشك أن يقع به ؛ لأن الغالب أن من تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجباً بعمله محتقراً لغيره فيكون جامعاً بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه ، وبين الكبر الموجب لعذاب الله تعالى – في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "قال الله عز وجل:الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" .
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب ، والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الأمر الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه ، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله – تعالى- : { ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } (1) . فاشترط للعقوبة بالنارأن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له.
ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلاً بما يترتب عليها؟
الجواب: الظاهر الثاني ؛ أي إن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة ؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه ، وربما لو كان عالماً ما زنى .
ومن الموانع أن يكره على المكفر لقوله – تعالى- : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } (2) .(72/11)
ومن الموانع أن يغلق عليه فكره وقصده بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح ، أو حزن ، أو غضب ، أو خوف ، ونحو ذلك . لقوله تعالى -: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً } (3). . وفي صحيح مسلم 2104 عن أنس بن مالك –رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ،فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" .(72/12)
ومن الموانع أيضاً أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق ؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله – تعالى -: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } (1) . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله –تعالى-: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (2) قال في المغني 8/131 : "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك –يعني يكون كافراً – وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين ، وأموالهم ، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله – تعالى – إلى أن قال-: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم ، وأموالهم ، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم ، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" . وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/30 مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، لم يقصدوا معارضته ، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي ص 210 منه "فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم . . وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن".وقال أيضاً 28/518 من المجموع المذكور: "فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم ، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين" . لكنه ذكر في 7/217 "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع" . وفي 28/518 "أن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره" . وفي(72/13)
3/282 قال: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين ، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم ، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وغيرهما من الصحابة ، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام ،وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم ، لا لأنهم كفار . ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم ، وإذا كان هؤلاء الذي ثبت ضلالهم بالنص ، والإجماع ، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى ، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة ، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه" . إلى أن قال:"وإذا كان المسلم متأولاً في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك" . إلى أن قال في ص 288 : "وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره . . والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله –تعالى -: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (1) . وقوله : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2). وفي الصحيحين عن النبي، صلى الله عليه وسلم : "ما أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً ، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً ، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة ، والاعتبار ، وأقوال أهل العلم.(72/14)
(225) وسئل فضيلته : هل يعذر الجاهل بما يترتب على المخالفة؟ كمن يجهل أن ترك الصلاة كفر؟
فأجاب بقوله : الجاهل بما يترتب على المخالفة غير معذور إذا كان عالماً بأن فعله مخالف للشرع كما تقدم دليله ، وبناء على ذلك فإن تارك الصلاة لا يخفى عليه أنه واقع في المخالفة إذا كان ناشئاً بين المسلمين فيكون كافراً وإن جهل أن الترك كفر . نعم إذا كان ناشئاً في بلاد لا يرون كفر تارك الصلاة وكان هذا الرأي هو الرأي المشهور السائد بينهم ، فإنه لا يكفر لتقليده لأهل العلم في بلده ، كما لا يأثم بفعل محرم يرى علماء بلده أنه غير محرم لأن فرض العامي التقليد لقوله-تعالى-: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } . (3) والله الموفق.
(226) سئل فضيلة الشيخ : ما العمل إذا أكره إنسان على الكفر؟
فأجاب بقوله : إذا أكره إنسان على الكفر ففي ذلك تفصيل :
أولاً : أن يوافق ظاهراً وباطناً فيكون بذلك كافراً مرتداً لقوله –تعالى-: { ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } (1).
ثانياً :أن يوافق ظاهراً لا باطناً ولكن يقصد التخلص من الإكراه فهذا لا يكفر لقوله –تعالى- : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } (2)
ثالثاً : أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويصبر على القتل فهذا جائز وهو من الصبر.
لكن هل الأولى أن يصبر أولا ؟
فيه تفصيل :
أولاً : إذا كان الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً ، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للمسلمين كصاحب المال ، أو العلم المنتفع بهما ، وما أشبه ذلك ، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل صالح وهو خير، وقد رخص له بالكفر ظاهراً.(72/15)
ثانياً : إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الدين فإنه يصبر ، وقد يجب الصبر ولو قتل ، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وليس من باب إبقاء النفس ، ولهذا لما شكا الصحابة للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، ما يجدونه من مضايقة المشركين ذكر لهم أنه كان فيمن قبلنا من يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه.
ولو حصل من الصحابة –رضي الله عنهم- في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة لحصل بذلك ضرر عظيم على المسلمين.
والإمام أحمد-رحمه الله-أوذي وصبر حين أبى أن يقول : القرآن مخلوق ولو وافقهم ظاهراً لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
(227) وسئل –حفظه الله -: عن حكم من حكم بغير ما أنزل الله؟
فأجاب قائلاً : أقول وبالله-تعالى- أقول وأسأله الهداية والصواب : إن الحكم بما أنزل الله – تعالىـ من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله-تعالى-المتبوعين في غير ما أنزل الله –تعالى-أرباباً لمتبعيهم فقال-سبحانه-: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } (1) فسمى الله ـ تعالى – المتبوعين أرباباً حيث جعلوا مشرعين مع الله –تعالى-، وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله-سبحانه وتعالى-.
وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم . : إنهم لم يعبدوهم فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله ، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه ، وآيات بكفره وظلمه ، وفسقه.
فأما القسم الأول:(72/16)
فمثل قوله تعالى-: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً.وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماُ.فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } (1)
فوصف الله – تعالى – هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى : أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ، وهو كل ما خالف حكم الله –تعالى – ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله وهو الله قال الله –تعالى - : { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } (1) .
الثانية: أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم ، ومنها أن يعثر على صنيعهم جاؤوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعماً منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.(72/17)
ثم حذر –سبحانه- هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه-سبحانه- يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون ، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم – تعالى – بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته ، صلى الله عليه وسلم، أقسم بها قسماً مؤكداً أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث : أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.
وأما القسم الثاني: فمثل قوله –تعالى- : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (1) وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } (2). وقوله: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } (3). وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم، فاسق ، لأن الله –تعالى- وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال-تعالى-: { والكافرون هم الظالمون } (4) . وقال –تعالى-: { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } (5). فكل كافر ظالم فاسق ، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله؟ هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.(72/18)
فنقول : من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له ، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة ، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية ، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. (( ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم عليه، أو انتقاماً منه لنفسه أو نحو ذلك ، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ، ولا احتقاراً ، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح ، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق ، وليس بكافر ، وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله : إنهم على وجهين:
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم ، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً.
الثاني:أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه - ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب .(72/19)
(228) وسئل: هل هناك فرق في المسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله وبين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً؟
فأجاب بقوله : نعم هناك فرق فإن المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً لا يتأتى فيها التقسيم السابق وإنما هي من القسم الأول فقط ، لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
والحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين :
أحدهما: أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله –تعالى – بحيث يكون عالماً بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله ، أو أنه مساو لحكم الله ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه فمثل هذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لأن فاعله لم يرض بالله رباً ولا بمحمد رسولاً ولا بالإسلام ديناً وعليه ينطبق قوله – تعالى-: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (1) وقوله – تعالى -: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (2).
وقوله –تعالى-: { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم . فكيف إذ توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } (3) ولا ينفعه صلاة ، ولا زكاة ، ولا صوم ، ولا حج ؛ لأن الكافر ببعض كافر به كله قال الله ـ تعالى-: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } (4)
وقال سبحانه : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً . أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } . (1)(72/20)
الثاني: أن يستبدل بحكم الله – تعالى – حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات :
الأولى: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله-تعالى – معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد ، أو أنه مساو له ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لما سبق في القسم الأول.
الثانية : أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله معتقداً أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له ، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله – تعالى- : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } .(2)
الثالثة : أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى -: { ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون } .(3)
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة –نسأل الله-تعالى-أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم –كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. والله ولي التوفيق .
(229) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب بقوله : الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله ، ولا تجب محاربته من أجل ذلك ، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر فحينئذ تجب منابذته ، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين :(72/21)
الأول : أن يكون عالماً بحكم الله ورسوله ، فإن كان جاهلاً به لم يكفر بمخالفته.
الثاني : أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه ، وأنفع للعباد ، وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة لقوله ـ تعالى-: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (1) ، وتبطل ولاية الحاكم ، ولا يكون له طاعة على الناس ، وتجب محاربته ، وإبعاده ، عن الحكم.
أما إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم به أي بما أنزل الله هو الواجب ، وأنه أصلح للعباد ، لكن خالفه لهوى في نفسه أو إرادة ظلم المحكوم عليه ، فهذا ليس بكافر بل هو إما فاسق أو ظالم، وولايته باقية ، وطاعته (في غير معصية الله ورسوله) واجبة ، ولا تجوز محاربته أو إبعاده عن الحكم بالقوة ، والخروج عليه ، لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، نهى عن الخروج على الأئمة إلا أن نرى كفراً صريحاً عندنا فيه برهان من الله –تعالى-.
(230) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الذبح لغير الله؟ وهل يجوز الأكل من تلك الذبيحة؟
فأجاب قائلاً : الذبح لغير الله شرك أكبر لأن الذبح عبادة كما أمر الله به في قوله : { فصل لربك وانحر } (1) . وقوله سبحانه : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } (2) فمن ذبح لغير الله فهو مشرك شركاً مخرجاً عن الملة - والعياذ بالله – سواء ذبح ذلك لملك من الملائكة ، أو لرسول من الرسل ، أو لنبي من الأنبياء، أو لخليفة من الخلفاء ، أو لولي من الأولياء ، أو لعالم من العلماء ، فكل ذلك شرك بالله –عز وجل – ومخرج عن الملة والواجب على المرء أن يتقي الله في نفسه ، وأن لا يوقع نفسه في ذلك الشرك الذي قال الله فيه: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (3).(72/22)
وأما الأكل من لحوم هذه الذبائح فإنه محرم لأنها أهل لغير الله بها وكل شيء أهل لغيرالله به أو ذبح على النصب فإنه محرم كما ذكر الله ذلك في سورة المائدة في قوله –تعالى-: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب } (1) فهذه الذبائح التي ذبحت لغير الله من قسم المحرمات لا يحل أكلها .
(231) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم الذبح لغير الله؟
فأجاب بقوله:تقدم لنا في غير هذا الموضع أن توحيد العبادة هو إفراد الله – سبحانه وتعالى – بالعبادة بأن لا يتعبد أحد لغير الله –تعالى –بشيء من أنواع العبادة ، ومن المعلوم أن الذبح قربة يتقرب بها الإنسان إلى ربه لأن الله –تعالى– أمر به في قوله: { فصل لربك وانحر } (2) وكل قربة فهي عبادة ، فإذا ذبح الإنسان شيئاً لغير الله تعظيماً له ، وتذللاً ، وتقرباً إليه كما يتقرب بذلك ويعظم ربه –عز وجل – كان مشركاً بالله-عز وجل- وإذا كان مشركاً فإن الله –تعالى قد بين أنه حرم على المشرك الجنة ومأواه النار .(72/23)
وبناء على ذلك نقول : إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور – قبور الذين يزعمون بأنهم أولياء - شرك مخرج عن الملة ، ونصيحتنا لهؤلاء أن يتوبوا إلى الله - عز وجل- مما صنعوا ، وإذا تابوا إلى الله وجعلوا الذبح لله وحده كما يجعلون الصلاة والصيام لله وحده ، فإنه يغفر لهم ما سبق كما قال الله –تعالى - : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } (1) بل إن الله تعالى – يعطيهم فوق ذلك فيبدل الله سيئاتهم حسنات كما قال الله –تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً . يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً . إلا من تاب و آمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } (2) .
فنصيحتي لهؤلاء الذي يتقربون إلى أصحاب القبور بالذبح لهم : أن يتوبوا إلى الله من ذلك ، وأن يرجعوا إليه ،وأن يخلصوا دينهم له سبحانه ،وليبشروا إذا تابوا بالتوبة من الكريم المنان ، فإن الله – سبحانه وتعالى- يفرح بتوبة التائبين وعودة المنيبين.
(232) سئل فضيلة الشيخ : هل تقبل توبة من سب الله –عز وجل- أو سب الرسول ، صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب حفظه الله بقوله : اختلف في ذلك على قولين :
القول الأول بقوله: أنها لا تقبل توبة من سب الله ، أو سب رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو المشهور عند الحنابلة ، بل يقتل كافراً ، ولا يصلى عليه ، ولا يدعى له بالرحمة ، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين.(72/24)
القول الثاني: أنها تقبل توبة من سب الله أو سب رسوله، صلى الله عليه وسلم ، إذا علمنا صدق توبته إلى الله ، وأقر على نفسه بالخطأ ، ووصف الله -تعالى - بما يستحق من صفات التعظيم ، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة كقوله – تعالى -: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } (1)ومن الكفار من يسب الله ومع ذلك تقبل توبتهم ، وهذا هو الصحيح إلا أن ساب الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، تقبل توبته ويجب قتله ، بخلاف من سب الله فإنها تقبل توبته ولا يقتل ؛ لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد ، بأنه يغفر الذنوب جميعاً . أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يتعلق به أمران :
أحدهما : أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يقبل إذا تاب.
الثاني : أمر شخصي ، وهذا لا تقبل التوبة فيه لكونه حق آدمي لم يعلم عفوه عنه ، وعلى هذا فيقتل ولكن إذا قتل ، غسلناه ، وكفناه ، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقد ألف كتاباً في ذلك اسمه "الصارم المسلول في تحتم قتل ساب الرسول" وذلك لأنه استهان بحق الرسول ، صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل : أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، في حياته وقبل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، توبته؟
أجيب:بأن هذا صحيح ، لكن هذا في حياته ، صلى الله عليه وسلم ، والحق الذي له قد أسقطه، وأما بعد موته فإنه لا يملك أحد إسقاط حقه،صلى الله عليه وسلم ، فيجب علينا تنفيذ ما يقتضيه سبه، صلى الله عليه وسلم ، من قتل سابه ، وقبول توبة الساب فيما بينه وبين الله تعالى .
فإن قيل:إذا كان يحتمل أن يعفو عنه لو كان في حياته ، أفلا يوجب ذلك أن نتوقف في حكمه؟(72/25)
أجيب : بأن ذلك لا يوجب التوقف لأن المفسدة حصلت بالسب ، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم والأصل بقاؤه.
فإن قيل : أليس الغالب أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يعفو عمن سبه ؟
أجيب : بلى ، وربما كان العفو في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، متضمناً المصلحة وهي التأليف ، كما كان ، صلى الله عليه وسلم ، يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم "لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه ، قال ابن القيم رحمه الله: " إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم، فقط" . أ هـ .
(233) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته في المهديين - عمن سب الدين في حالة غضب هل عليه كفارة؟ وما شرط التوبة من هذا العمل؟ وهل ينفسخ نكاح زوجته؟
فأجاب –حفظه الله –بقوله : الحكم فيمن سب الدين الإسلامي أنه يكفر فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله –عز وجل- وبدينه وقد حكى الله عن قوم استهزؤوا بدين الإسلام حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون : إنما كنا نخوض ونلعب فبين الله –عز وجل- أن خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله وأنهم كفروا به فقال-تعالى-: { ولئن سألتهم ليقول :ن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (1) فالاستهزاء بدين الله ، أو سب دين الله ، أو سب الله ورسوله ، أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة.
ومع ذلك فإن هناك مجالاً للتوبة منه لقول الله-تعالى-: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } (2) فإذا تاب الإنسان من أي ردة كانت ، توبة نصوحاً استوفت شروط التوبة الخمسة ، فإن الله يقبل توبته. وشروط التوبة الخمسة هي:(72/26)
الشرط الأول : الإخلاص لله بتوبته بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة ، أو خوفاً من مخلوق ، أو رجاء لأمر يناله من الدنيا فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله – عز وجل – والخوف من عقابه ورجاء ثوابه فقد أخلص لله-تعالى- فيها.
الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب بحيث يجد في نفسه حسرة وحزناً على ما مضى ، ويراه أمراً كبيراً يجب عليه أن يتخلص منه.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه؛ فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن ، وإن كان ذنبه بإتيان محرم أقلع عنه وابتعد عنه ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين ، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها.
الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل بأن يكون في قلبه عزم مؤكد ألا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها.
الشرط الخامس أن تكون التوبة في وقت القبول فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص:
أما العام فإنه طلوع الشمس من مغربها فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل لقول الله-تعالى-: { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } (1) .
وأما الخاص فهو حضور الأجل فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع لقول الله – تعالى- :
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } (2) .(72/27)
أقول : إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب ولو كان ذلك سب الدين فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها ، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفراً وردة ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره ، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب ، نقول له : إن كان غضبك شديداً بحيث لا تدري ماذا تقول ولا تدري حينئذ أأنت في سماء أم في أرض وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه فإن هذا الكلام لا حكم له ولا يحكم عليك بالردة لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد ، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله -سبحانه وتعالى –لا يؤاخذ به يقول : الله –تعالى – في الأيمان: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } (3). فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول : ولا يعلم ماذا خرج منه فإنه لا حكم لكلامه، ولا يحكم بردته حينئذ ، وإذا لم يحكم بالردة فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه ، بل هي باقية في عصمته ، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل فقال له : يا رسول الله أوصني قال: "لا تغضب فردد مراراً قال ؛ لا تغضب" فليحكم الضبط على نفسه وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وإذا كان قائماً فليجلس ، وإذا كان جالساً فليضطجع ، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب غضبه وما أكثر الذين ندموا ندماً عظيماً على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم ولكن بعد فوات الأوان.
(234) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم الاستهزاء بالله – تعالى – أو برسوله ، صلى الله عليه وسلم ، أو سنته ، صلى الله عليه وسلم؟(72/28)
فأجاب بقوله : الاستهزاء بالله-تعالى-أو برسوله ، صلى الله عليه وسلم أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كفر وردة يخرج به الإنسان من الإسلام لقول الله –تعالى-: { ولئن سألتهم ليقول :ن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (1) فكل من استهزأ بالله أو برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو بدين رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فإنه كافر مرتد يجب عليه أن يتوب إلى الله – تعالى-، وإذا تاب إلى الله فإن الله – تعالى – يقبل توبته لقوله –تعالى- في هؤلاء المستهزئين : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } (2) فبين الله –تعالى – أنه قد يعفو عن طائفة منهم ولا يكون ذلك إلا بالتوبة إلى الله – عز وجل– من كفرهم الذي كان باستهزائهم بالله وآياته ورسوله.
(235) وسئل -حفظه الله -: عن حكم من يمزح بكلام فيه استهزاء بالله أو الرسول ، صلى الله عليه وسلم، أو الدين؟(72/29)
فأجاب بقوله : هذا العمل وهو الاستهزاء بالله أو رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، أو كتابه أو دينه ولو كان على سبيل المزح ، ولو كان على سبيل إضحاك القوم كفر ونفاق ، وهو نفس الذي وقع في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ،في الذين قالوا : "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ،ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء". يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه القراء فنزلت فيهم : { ولئن سألتهم ليقول :ن إنما كنا نخوض ونلعب } (3) لأنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنما كنا نتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق ، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يقول لهم ما أمره الله به: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون .لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (1). فجانب الربوبية ، والرسالة ، والوحي ، والدين جانب محترم ، لا يجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء بإضحاك ، ولا بسخرية فإن فعل فإنه كافر ؛ لأنه يدل على استهانته بالله – عز وجل – ورسله وكتبه وشرعه وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله – عز وجل - مما صنع ، لأن هذا من النفاق فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ، ويصلح عمله ، ويجعل في قلبه خشية الله – عز وجل – وتعظيمه وخوفه ومحبته. والله ولي التوفيق .
(236) وسئل فضيلته : عن حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله – تعالى – ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟(72/30)
فأجاب قائلا : الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله – تعالى- ورسوله ، صلى الله عليه وسلم، لكونهم التزموا بذلك محرم وخطير جداً على المرء، لأنه يخشى أن تكون كراهته لهم لكراهة ما هم عليه من الاستقامة على دين الله وحينئذ يكون استهزاؤه بهم استهزاء بطريقهم الذي هم عليه فيشبهون من قال الله عنهم : { ولئن سألتهم ليقول :ن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (2) فإنها نزلت في قوم من المنافقين قالوا : "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء – يعنون رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه –أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء" . فأنزل الله فيهم هذه الآية .
فليحذر الذين يسخرون من أهل الحق لكونهم من أهل الدين فإن الله- سبحانه وتعالى – يقول : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } (1) .
(237) وسئل أيضاً : عن حكم من يسخر بالملتزمين بدين الله ويستهزئ بهم ؟(72/31)
فأجاب بقوله: هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق لأن الله قال عن المنافقين : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } (2) . ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة ، والاستهزاء بالشريعة كفر ، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك ؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله ، لكنهم على خطر عظيم ، والواجب تشجيع من التزم بشريعة الله ومعونته ، وتوجيهه إذا كان على نوع من الخطأ حتى يستقيم على الأمر المطلوب.
(238) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله-: هل يجوز البقاء بين قوم يسبون الله- عز وجل ؟
فأجاب – حفظه الله – بقوله : لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله - عز وجل - لقوله تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } (1) والله الموفق.
(239) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم من سخر بصاحب اللحية ورافع ثوبه عن كعبيه؟
فأجاب قائلاً : من سخر بصاحب اللحية ورافع ثوبه عن كعبيه فإن قصد السخرية بعمله وهو يعلم أنه من شريعة الله- تعالى -، فقد سخر من شريعة الله - تعالى - ، وإن قصد السخرية بالشخص نفسه لدوافع شخصية فإنه لا يكفر بذلك.
(240) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم دعاء المخلوق؟
فأجاب- رعاه الله - بقوله: الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام :(72/32)
الأول: جائز وهو أن تدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة ، قال ، صلى الله عليه وسلم ، في حقوق المسلم على أخيه : "وإذا دعاك فأجبه" . وقال ، صلى الله عليه وسلم: "وتعين الرجل في دابته" . الحديث .
الثاني : أن تدعو مخلوقاً مطلقاً –سواء كان حياً أو ميتاً – فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، لأن هذا من فعل الله لا يستطيعه البشر مثل : يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً .
الثالث: أن تدعو مخلوقاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة كدعاء الأموات فهذا شرك أكبر أيضاً ، لأن هذا لا يقدر عليه المدعو ولا بد أن يعتقد فيه الداعي شيئاً سرياً يدبر به الأمور.
(241) سئل فضيلة الشيخ: عن رجل محافظ على الصلاة والصيام وظاهر حاله الاستقامة ، إلا أن له حلقات يدعو فيها الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وعبد القادر ، فما حكم عمله هذا؟(72/33)
فأجاب بقوله : ما ذكره السائل يحزن القلب ، فإن هذا الرجل الذي وصفه بأنه يحافظ على الصلاة والصيام ، وأن ظاهر حاله الاستقامة قد لعب به الشيطان وجعله يخرج من الإسلام بالشرك وهو يعلم أو لا يعلم ، فدعاؤه غير الله – عز وجل – شرك أكبر مخرج عن الملة ، سواء دعا الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، أو دعا غيره ، وغيره أقل منه شأناً وأقل منه وجاهة عند الله – عز وجل – فإذا كان دعاء رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، شركاً فدعاء غيره أقبح وأقبح من عبد القادر أو غير عبد القادر ، والرسول ، عليه الصلاة والسلام ، نفسه لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً قال الله – تعالى – آمراً له: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } (1) وقال آمراً له : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي } (1) وقال-تعالى-آمراً له : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } (2) . بل قال الله تعالى – آمراً له : { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } (3) فإذا كان الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، نفسه لا يجيره أحد من الله فكيف بغيره ؟! فدعاء غير الله شرك مخرج عن الملة ، والشرك لا يغفره الله – عز وجل – إلا بتوبة من العبد لقوله – تعالى-: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (4) وصاحبه في النار لقوله –تعالى-: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (5) .(72/34)
ونصيحتي لهذا الرجل أن يتوب إلى الله من هذا الأمر المحبط للعمل فإن الشرك يحبط العمل قال الله – تعالى - : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } (6).فليتب إلى الله من هذا ،وليتعبد لله بما شرع من الأذكار والعبادات، ولا يتجاوز ذلك إلى هذه الأمور الشركية وليتفكر دائماً في قوله – تعالى-: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (1) .
(242) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم دعاء أصحاب القبور؟
فأجاب بقوله : الدعاء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : دعاء عبادة ، ومثاله الصلاة ، والصوم وغير ذلك من العبادات فإذا صلى الإنسان ، أو صام فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له ، وأن يجيره من عذابه ، وأن يعطيه من نواله ، ويدل لهذا قوله- تعالى-: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (2) فجعل الدعاء عبادة ، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فقد كفر كفراً مخرجاً عن الملة ، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود لكان مشركاً خارجاً عن الإسلام ، ولهذا منع النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من الانحناء عند الملاقاة سداً لذريعة الشرك فسئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: "لا" . وما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك خطأ ويجب عليك أن تبين له ذلك وتنهاه عنه.
القسم الثاني: دعاء المسألة ، وهذا ليس كله شركاً بل فيه تفصيل:
أولاً :إن كان المدعو حياً قادراً على ذلك فليس بشرك ، كقولك :اسقني ماء لمن يستطيع ذلك، قال ، صلى الله عليه وسلم : "من دعاكم فأجيبوه" . قال الله –تعالى-: { و إذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } (1) فإن مد الفقير يده وقال : ارزقني أي : أعطني فهو جائز كما قال- تعالى - : { فارزقوهم منه } .(72/35)
ثانياً : إن كان المدعو ميتاً فإن دعاءه شرك مخرج عن الملة . ومع الأسف أن في بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر ، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد له ، وهذا والعياذ بالله شرك أكبر مخرج عن الملة ، وإقرارهذا أشد من إقرار شرب الخمر ، والزنى ، واللواط ؛ لأنه إقرار على كفر ، وليس إقراراً على فسوق فقط فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين .
(243) سئل فضيلة الشيخ : يقول : بعض الناس عند الشدة : "يا محمد أو ياعلي ، أو يا جيلاني" فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : إذا كان يريد دعاء هؤلاء والاستغاثة بهم فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة ، فعليه أن يتوب إلى الله – عز وجل- وأن يدعو الله وحده ، كما قال –تعالى- : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله } (2) وهو مع كونه
مشركاً ، سفيه مضيع لنفسه ، قال الله – تعالى -: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } (3) . وقال : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } (1) .
(244) سئل فضيلة الشيخ : هل عبادة الإنسان لصفة من صفات الله يعد من الشرك وكذلك دعاؤها؟(72/36)
فأجاب بقوله : عبادة الإنسان لصفة من صفات الله ، أو دعاؤه لصفة من صفات الله من الشرك ، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – لأن الصفة غير الموصوف بلا شك وإن كانت هي وصفه ، وقد تكون لازمة وغير لازمة ، لكن هي بلا شك غير الموصوف فقوة الإنسان غير الإنسان وعزة الإنسان غير الإنسان ، وكلام الإنسان غير الإنسان، كذلك قدرة الله – عز وجل- ليست هي الله بل هي صفة من صفاته فلو تعبد الإنسان لصفة من صفات الله لم يكن متعبداً لله؛ وإنما تعبد لهذه الصفة لا لله – عز وجل – والإنسان إنما يتعبد لله – عز وجل – (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (2). والله عز وجل موصوف بجميع صفاته فإذا عبدت صفة من صفاته لم تكن عبدت الله عز وجل لأن الله موصوف بجميع الصفات . وكذلك دعاء الصفة من الشرك مثل أن تقول : يا مغفرة الله اغفري لي ياعزة الله أعزيني ونحو ذلك.
245- وسئل أيضاً : هل قول الإنسان : "يا رحمة الله" يدخل في دعاء الصفة الممنوع؟
فأجاب بقوله : إذا كان مراد الداعي بقوله : "يا رحمة الله" الاستغاثة برحمة الله – تعالى – يعني أنه لا يدعو نفس الرحمة ولكنه يدعو الله – سبحانه وتعالى – أن يعمه برحمته كان هذا جائزاً ، وهذا هو الظاهر من مراده ، فلو سألت القائل هل أنت تريد أن تدعو الرحمة نفسها أو تريد أن تدعو الله – عز وجل - ليجلب لك الرحمة؟ لقال : هذا هو مرادي.
أما إن كان مراده دعاء الرحمة نفسها فقد سبق جوابه ضمن جواب السؤال السابق.(72/37)
(246)سئل فضيلة الشيخ : قلتم في الفتوى رقم "244" : إن عبادة صفة من صفات الله أو دعاءها من الشرك ، وقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية إذا قلت : "أعوذ بعزة الله" فقد عذت بصفة من صفات الله ، ولم تعذ بغير الله . . فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه . . وقد قال ، صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بعزة الله وقدرته . . " وقال: "أعوذ بكلمات الله التامات . . . " . وقال ، صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك . . . " وقال صلى الله عليه وسلم : " ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا" . وقال : "أعوذ بنور وجهك . . . " ولا يعوذ ، صلى الله عليه وسلم ، بغير الله . فنأمل من فضيلتكم التكرم بالتوضيح؟ .
فأجاب بقوله : ما نقله السائل من كلام شارح الطحاوية لا ينافي ما ذكرناه فإن من المعلوم أنه لا توجد ذات مجردة عن صفة أبداً ولو لم يكن فيها إلا صفة الوجود ، وكونه واجباً أو ممكناً وكونها على صفة معينة من صغر أو كبر أو نحو ذلك لكان كافياً في الدلالة على أنه لا يمكن وجود ذات بلا صفة ما . ولكن إذا عبد الإنسان صفة من صفات الله أو دعاها فإن هذا يشعر بكون الصفة بائنة عن الله – تعالى – مستقلة عنه وهذا هو وجه كونه شركاً .
وأما ما جاء في الأحاديث التي ذكرها شارح الطحاوية مثل : "أعوذ بعزتك" "أعوذ بعظمتك" ، "أعوذ برضاك" ، "أعوذ بكلمات الله التامة" فحقيقته أنه استعاذة بالله متوسلاً إليه بهذه الصفات المقتضية للعياذ ،ولهذا قال شارح الطحاوية على ما نقله السائل : ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله . وإليك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أن دعاء صفة من صفات الله كفر قال في الصفحة الثمانين من تلخيص كتاب الاستغاثة ما نصه :(72/38)
"إن مسألة الله- تعالى – بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول : مسلم : يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني أو يا علم الله أو يا قوة الله أو يا عزة الله أو يا عظمة الله ونحو ذلك أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصر أو إغاثة أو غير ذلك". ا هـ .
هذا والله أسأل أن يوفق الجميع لما فيه الخير لنا وللأمة.
(247) سئل فضيلة الشيخ : عن رجل يستغيث بغير الله ويزعم أنه ولي الله فما علامات الولاية؟
فأجاب : علامات الولاية بينها الله – عز وجل- في قوله: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون } (1) فهذه علامات الولاية : الإيمان بالله ، وتقوى الله – عز وجل – "فمن كان مؤمناً تقياً ، كان لله ولياً" . أما من أشرك به فليس بولي لله بل هو عدو لله كما قال – تعالى - : { من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } (2) . فأي إنسان يدعو غير الله ، أو يستغيث بغير الله بما لا يقدر عليه إلا الله – عز وجل - فإنه مشرك كافر ، وليس بولي لله ولو ادعى ذلك ، بل دعواه أنه ولي مع عدم توحيده وإيمانه وتقواه دعوى كاذبة تنافي الولاية.(72/39)
ونصيحتي لإخواني المسلمين في هذه الأمور أن لا يغتروا بهؤلاء ، وأن يكون مرجعهم في ذلك إلى كتاب الله ، وإلى ما صح من سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ،حتى يكون رجاؤهم، وتوكلهم ، واعتمادهم على الله وحده ، وحتى يؤمنوا بذلك لأنفسهم استقراراً وطمأنينة ، وحتى يحفظوا بذلك أموالهم أن يبتزها هؤلاء المخرفون ، كما أن في لزوم ما دل عليه الكتاب والسنة في مثل هذه الأمور في ذلك إبعاداً لهؤلاء عن الاغترار بأنفسهم ، هؤلاء الذين يدعون أنفسهم أحياناً أسياداً ، وأحياناً أولياء ، ولو فكرت أو تأملت ما هم عليه لوجدت فيهم بعداً عن الولاية والسيادة ، ولكنك تجد الولي حقيقة أبعد الناس أن يدعو لنفسه وأن يحيطها بهالة من التعظيم والتبجيل وما أشبه ذلك ، تجده مؤمناً ، تقياً ، خفياً لا يظهر نفسه ، ولا يحب الإشهار، ولا يحب أن يتجه الناس إليه ، أو أن يتعلقوا به خوفاً أو رجاء . فمجرد كون الإنسان يريد من الناس أن يعظموه ، ويحترموه ، ويبجلوه ، ويكون مرجعاً لهم ، ومتعلقاً لهم ، هذا في الحقيقة ينافي التقوى وينافي الولاية ، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيمن طلب العلم ليماري به السفهاء ، أو يجاري به العلماء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه فعليه كذا وكذا من الوعيد ، فالشاهد في قوله : "أو ليصرف وجوه الناس إليه" فهؤلاء الذين يدعون الولاية ويحاولون أن يصرفوا وجوه الناس إليهم هم أبعد الناس عن الولاية.
فنصيحتي لإخواني المسلمين أن لا يغتروا بهؤلاء وأمثالهم وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وأن يعلقوا آمالهم ورجاءهم بالله وحده.
(248)سئل فضيلته : عن رأيه فيمن تغيرت لديهم المفاهيم وصار عندهم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ .(72/40)
فأجاب – حفظه الله - بقوله : رأيي في هؤلاء الذين تغيرت عندهم المفاهيم حتى رأوا المعروف منكراً والمنكر معروفاً وصاروا لا ينكرون من المنكر شيئاً ولا يقرون من المعروف شيئاً ، رأيي أن هؤلاء انسلخوا من الدين – والعياذ بالله- وذلك لأن من جعل المعروف الذي ، من شريعة الله – عز وجل – منكراً فقد كفر بالشريعة ، وكذلك من جعل المنكر معروفاً فقد آمن بالطاغوت ، والإيمان لا يتم إلا بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويفكروا في أمرهم ويعرفوا أصلهم ومنتهى أمرهم فإن أصلهم العدم ومنتهى أمرهم الفناء من الدنيا ، قال – تعالى - : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } (1) وقال- تعالى - : { كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (2). وقال تعالى - : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } (3) . عليهم أن يفكروا أدنى تفكير فإن لم يفد فعليهم أن يفكروا التفكير العميق في الأمر وهم يشاهدون الناس يذهبون ويجيئون ، هذا يولد وهذا يموت وهذا يمرض وهذا يصح ، وهذا يصاب بماله وهذا يصاب بأهله ، ويعلموا أنه لا بقاء لأحدٍ في هذه الدنيا فليرجعوا إلى الله – تعالى- وليعرفوا المعروف وينكروا المنكر ومن تاب تاب الله عليه.
---
(1) سورة النمل ، الآية "14" .
(2) سورة الإسراء ، الآية "102" .
(3) سورة الطور ، الآية "35" .
(1) سورة النساء ، الآية "115" .
(2) سورة التوبة ، الآية "115" .
(3) سورة الإسراء ، الآية "15" .
(1) سورة القصص، الآية "59" .
(2) سورة الإسراء ، الآية "15" .
(3) سورة التوبة ، الآية "115" .
(1) سورة النساء، الآيات "163-165" .
(2) سورة الإسراء، الآية "15" .
(3) سورة التوبة، الآية "115" .
(4) سورة الزخرف، الآية "22".
(5) سورة الزخرف، الآية "23".
(1) سورة القمر ، الآية "22" .
(1) سورة الكهف ، الآية "49" .(72/41)
(1) سورة القصص، الآية "59" .
(2) سورة النساء ، الآية "165".
(3) سورة إبراهيم ، الآية "4" .
(4) سورة التوبة ، الآية "115".
(5) سورة الأنعام ، الآيات "155-157".
(1) سورة النساء ، الآية "115".
(3) سورة الأحزاب ، الآية "5" .
(1) سورة الأحزاب ، الآية "5" .
(2) سورة البقرة ، الآية " 286" .
(1) سورة الإسراء ، الآية "15" .
(2) سورة النساء ، الآية "165".
(3) سورة الأنبياء ، الآية "7" .
(1) سورة النحل ، الآية "106" .
(2) سورة النحل ، الآية "106" .
(1) سورة التوبة ، الآية "31ط .
(1) سورة النساء ، الآيات "60-65" .
(1) سورة الأعراف ، الآية "54".
(1) سورة المائدة ، الآية "44" .
(2) سورة المائدة ، الآية "45" .
(3) سورة المائدة ، الآية "47" .
(4) سورة البقرة ، الآية "254" .
(5) سورة التوبة ، الآية "84" .
(1) سورة المائدة ، الآية "50" .
(2) سورة المائدة ، الآية "44".
(3) سورة محمد ، الآيات "26-28" .
(4) سورة البقرة ، الآية "85" .
(1) سورة النساء ، الآيتان "150-151" .
(2) سورة المائدة ، الآية "45" .
(3) سورة المائدة ، الآية "47" .
(1) سورة المائدة ، الآية "47" .
(1) سورة الكوثر ، الآية "2" .
(2) سورة الأنعام ، الآيتان "162-163" .
(3) سورة المائدة ، الآية "72" .
(1) سورة المائدة ، الآية "3" .
(2) سورة الكوثر ، الآية "2" .
(1) سورة الأنفال ، الآية "38" .
(2) سورة الفرقان ، الآيتان "68-70" .
(1) سورة الزمر ، الآية "53" .
(1) سورة التوبة ، الآيتان "65، 66" .
(2) سورة الزمر ، الآية "53" .
(1) سورة الأنعام ، الآية "158" .
(2) سورة النساء الآية "18" .
(3)سورة المائدة ، الآية "89".
(1) سورة التوبة، الآيتان "65-66" .
(2) سورة التوبة ، الآية "66" .
(3) سورة التوبة ، الآية "65" .
(1) سورة التوبة ، الآيتان "65-66" .
(2) سورة التوبة ، الآيتان "65، 66" .(72/42)
(1) سورة المطففين ، الآيات "29-36" .
(2) سورة التوبة ، الآية "79" .
(1) سورة النساء ، الآية "140".
(1) سورة الجن ، الآية "21" .
(1) سورة الأنعام ، الآية "50".
(2) سورة الأعراف ، الآية "188" .
(3) سورة الجن ، الآية "22".
(4) سورة النساء ، الآية "48".
(5) سورة المائدة، الآية "72".
(6) سورة الزمر ، الآية "65".
(1) سورة غافر ، الآية "60".
(2) سورة غافر ، الآية "60" .
(1) سورة النساء ، الآية "8".
(2) سورة النمل ، الآية "62" .
(3) سورة البقرة ، الآية "130".
(1) سورة الأحقاف ، الآية "5" .
(2) سورة الأنعام ، الآية " 162 " .
(1) سورة يونس ، الآيتان "62-63" .
(2) سورة البقرة ، الآية "98" .
(1) سورة الإنسان ، الآية "1" .
(2) سورة ، الرحمن ، الآيتان "26-27" .
(3) سورة آل عمران ، الآية "185" .(72/43)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
السحر
محمد بن صالح العثيمين
(249)سئل فضيلة الشيخ : عن قوم يضربون أنفسهم بالحديد والسلاح ولا يتأثرون ويزعمون أنهم أولياء الله؟
فأجاب بقوله : كون هؤلاء يضربون أنفسهم بالحديد أو غير الحديد ولا يتأثرون بذلك فإن هذا لا يدل على صدقهم ، ولا على أنهم من أولياء الله ، ولا على أن هذا كرامة لهم ، وإنما هذا من أنواع السحر الذي يسحرون به أعين الناس ، والسحر يكون في مثل هذا وغيره ، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما ألقى سحرة فرعون حبالهم وعصيهم صارت من سحرهم يخيل إليه أنها تسعى، وأنها حيات وأفاعٍ كما قال الله – عز وجل – : { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم } (1) فهذا الذي يفعلونه لا شك أنه نوع من أنواع السحر وأنه ليس بكرامة.
واعلم – رحمك الله – أن الكرامة لا تكون إلا لأولياء الله ، وأولياء الله هم الذين اتقوه واستقاموا على دينه وهم من وصفهم الله بقوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين ءامنوا وكانوا يتقون } (2) وليس كل من ادعى الولاية يكون ولياً ، وإلا لكان كل واحد يدعيها ، ولكن يوزن هذا المدعي للولاية بعمله ، إن كان عمله مبنياً على الإيمان والتقوى فإنه ولي ، لكن مجرد ادعائه أنه من أولياء الله ليس من تقوى الله – عز وجل – لأن الله – تعالى – يقول : : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } (3). فإذا ادعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفسه، وحينئذ يكون واقعاً في معصية الله وفيما نهاه الله عنه وهذا ينافي التقوى . وعلى هذا فإن أولياء الله لا يزكون أنفسهم بمثل هذه الشهادة ، وإنما هم يؤمنون بالله ويتقونه ويقومون بطاعته على الوجه الأكمل ، ولا يقرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن سبيل الله.
(250) سئل فضيلة الشيخ : عن السحر وحكم تعلمه ؟(73/1)
فأجاب بقوله : السحر قال العلماء : هو في اللغة "عبارة عن كل ما لطف وخفي سببه" بحيث يكون له تأثير خفي لا يطلع عليه الناس ، وهو بهذا المعنى يشمل التنجيم ، والكهانة ، بل إنه يشمل التأثير بالبيان والفصاحة كما قال عليه الصلاة والسلام : "إن من البيان لسحراً " . فكل شيء له أثر بطريق خفي فهو من السحر.
وأما في الاصطلاح فعرفه بعضهم بأنه : "عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والعقول والأبدان فتسلب العقل ، وتوجد الحب والبغض وتفرق بين المرء وزوجه وتمرض البدن وتسلب تفكيره " .
وتعلم السحر محرم ، بل هو كفر إذا كانت وسيلته الإشراك بالشياطين قال الله - تبارك وتعالى -: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقول :ا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } (1) فتعلم هذا النوع من السحر وهو الذي يكون بواسطة الإشراك بالشياطين كفر ، واستعماله أيضاً كفر وظلم وعدوان على الخلق ، ولهذا يقتل الساحر إما ردة وإما حداً فإن كان سحره على وجه يكفر به فإنه يقتل ردة وكفراً ، وإن كان سحره لا يصل إلى درجة الكفر فإنه يقتل حداً دفعاً لشره وأذاه عن المسلمين.
(251) سئل - حفظه الله ورعاه - : هل للسحر حقيقة؟(73/2)
فأجاب قائلاً بقوله : للسحر حقيقة ولا شك وهو مؤثر حقيقة ، لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن ، أو يسكن المتحرك هذا خيال وليس حقيقة انظر إلى قول الله- تعالى- في قصة السحرة من آل فرعون يقول الله – تعالى -: { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم } (2) قال: { سحروا أعين الناس واسترهبوهم } كيف سحروا أعين الناس ؟ سحروا أعين الناس حين صار الناس ينظرون إلى حبال السحرة وعصيهم كأنها ثعابين تمشي كما قال الله - تعالى- : { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } (3) فالسحر في قلب الأشياء ، وتحريك الساكن ، أو تسكين المتحرك ليس له أثر ، لكن في كونه يسحر أو يؤثر على المسحور حتى يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً ، أثره ظاهر جداً ، إذاً فله حقيقة ويؤثر على بدن المسحور وحواسه وربما يهلكه.
(252) وسئل فضيلته : هل للسحر حقيقة ؟ وهل سحر النبي ، صلى الله عليه وسلم ؟
فأجاب بقوله : السحر ثابت ولا مرية فيه وهو حقيقة ، وذلك بدلالة القرآن الكريم ، والسنة .(73/3)
أما القرآن الكريم فإن الله- تعالى – ذكر عن سحرة فرعون الذين ألقوا حبالهم وعصيهم ، وسحروا أعين الناس ، واسترهبوهم حتى إن موسى ، عليه الصلاة والسلام ، كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وحتى أوجس في نفسه خيفة فأمره الله – تعالى – أن يلقي عصاه فألقاها فإذا هي حية تسعى تلقف ما يأفكون،كما حكى الله –عز وجل ذلك عنه فقال : { قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن تكون أول من ألقى . قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } (1) وهذا أمر لا إشكال فيه ، وأما السنة ففيها أحاديث متعددة في ثبوت السحر وتأثيره . وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر فنعم فقد ثبت من حديث عائشة وغيرها أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سحر وأنه كان يخيل إليه أنه أتى الشيء وهو لم يأته ولكن الله – تعالى – أنزل عليه سورتي : قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فشفاه الله بهما .
(253) وسئل : عن حكم حل السحر عن المسحور "النشرة" ؟
فأجاب بقوله قائلاً : حل السحر عن المسحور "النشرة" الأصح فيها أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون بالقرآن الكريم ، والأدعية الشرعية ، والأدوية المباحة فهذه لا بأس بها لما فيها من المصلحة وعدم المفسدة ، بل ربما تكون مطلوبة ؛ لأنها مصلحة بلا مضرة.
القسم الثاني : إذا كانت النشرة بشيء محرم كنقض السحر بسحر مثله فهذا موضع خلاف بين أهل العلم:
فمن العلماء من أجازه للضرورة.(73/4)
ومنهم من منعه لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سئل عن النشرة فقال : " هي من عمل الشيطان" . وإسناده جيد رواه أبو داود ، وعلى هذا يكون حل السحر بالسحر محرماً ، وعلى المرء أن يلجأ إلى الله – سبحانه وتعالى – بالدعاء والتضرع لإزالة ضرره ، والله – سبحانه وتعالى – يقول : : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } (1) .
ويقول : الله – تعالى - : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } (2) . والله الموفق .
(254) وسئل : عن حكم التوفيق بين الزوجين بالسحر؟
فأجاب بقوله : هذا محرم ولا يجوز ، وهذا يسمى بالعطف ، وما يحصل به التفريق يسمى بالصرف وهو أيضاً محرم وقد يكون كفراً وشركاً قال الله – تعالى - : { وما يعلمان من أحد حتى يقول :ا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } (1) .
(255)سئل فضيلة الشيخ : عن أقسام السحر ؟ وهل الساحر كافر؟
فأجاب بقوله : السحر ينقسم إلى قسمين :
الأول: عقد ورقى ، أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى الإشراك بالشياطين فيما يريد لضرر المسحور ، قال الله - تعالى - : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } (1) . الآية .
الثاني : أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور ، وعقله ، وإرادته ، وميله وهو ما يسمى عندهم بالعطف ، والصرف ، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء والصرف بالعكس من ذلك ، فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئاً فشيئاً حتى يهلك ، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه ."(73/5)
وكفر الساحر" اختلف فيه أهل العلم : فمنهم من قال : يكفر . ومنهم من قال : لا يكفر .
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة: فمن كان سحره بواسطة الشياطين فإنه يكفر ، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير فإنه لا يكفر ولكنه يعتبر عاصياً.
256- سئل فضيلة الشيخ : هل قتل الساحر ردة أو حد؟
فأجاب بقوله : قتل الساحر قد يكون حداً ، وقد يكون ردة بناء على التفصيل السابق في كفر الساحر فمتى حكمنا بكفره فقتله ردة ، وإذا لم نحكم بكفره فقتله حد.
والسحرة يجب قتلهم سواء قلنا بكفرهم أم لا ، لعظم ضررهم وفظاعة أمرهم ، فهم يفرقون بين المرء وزوجه ، وكذلك العكس فهم قد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ويتوصلون بذلك إلى أغراضهم ، كما لو سحر امرأة ليزني بها ، فيجب على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ، ما دام أنه حد ؛ لأن الحد إذا بلغ الإمام ، لا يستتاب صاحبه ، بل يقام بكل حال ، أما الكفر فإنه يستتاب صاحبه ، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود ، وذكروا من الحدود حد الردة ؛ لأن قتل المرتد ليس من الحدود لأنه إذا تاب انتفى عنه القتل ، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر ، والقتل بالردة ليس بكفارة وصاحبه كافر لا يصلى عليه ، ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين.
فالقول بقتل السحرة موافق للقواعد الشرعية ؛ لأنهم يسعون في الأرض فساداً ، وفسادهم من أعظم الفساد ، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم ، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.
(257) وسئل فضيلته : هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سحر؟(73/6)
فأجاب بقوله : نعم ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ، صلى الله عليه وسلم سحر ، لكن لم يؤثر عليه من الناحية التشريعية أو الوحي ، إنما غاية ما هنالك أنه وصل إلى درجة يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ، وهذا السحر الذي وضع كان من يهودي يقال له: لبيد بن الأعصم وضعه له ، ولكن الله – تعالى – أنجاه منه حتى جاءه الوحي بذلك وعوذ بالمعوذتين عليه الصلاة والسلام ،ولا يؤثر هذا السحر على مقام النبوة ؛ لأنه لم يؤثر في تصرف النبي، صلى الله عليه وسلم ، فيما يتعلق بالوحي والعبادات .
وقد أنكر بعض الناس أن يكون النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سحر ، بحجة أن هذا القول يستلزم تصديق الظالمين الذين قالوا : { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } (1) . ولكن هذا لا شك أنه لا يستلزم موافقة هؤلاء الظالمين فيما وصفوا به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لأن أولئك يدعون أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مسحور فيما يتكلم به من الوحي ، وأن ما جاء به هذيان كهذيان المسحور ، وأما السحر الذي وقع للرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يؤثر عليه في شيء من الوحي ولا في شيء من العبادات ، ولا يجوز لنا أن نكذب الأخبار الصحيحة بمجرد فهم شيء فهمه من فهمه.
---
(1) سورة الأعراف ، الآية "116" .
(2) سورة يونس ، الآيتان "62-63" .
(3) سورة النجم ، الآية "32".
(1) سورة البقرة ، الآية "102" .
(2) سورة الأعراف ، الآية "116" .
(3) سورة طه ، الآية "66" .
(1) سورة طه ، الآيات "65-69" .
(1) سورة البقرة ، الآية "186".
(2) سورة النمل ، الآية "62" .
(1) سورة البقرة ، الآية "102" .
(1) سورة الإسراء ، الآية "47".(73/7)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
الكهانة والتنجيم
محمد بن صالح العثيمين
(258) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم سؤال العراف؟
فأجاب بقوله : سؤال العراف ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يسأله فيصدقه ويعتبر قوله فهذا حرام بل كفر ؛ لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن.
القسم الثاني: أن يسأله ليختبره هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله فهذا جائز ، وقد سأل النبي ، صلى الله عليه وسلم ابن صياد قال: "ماذا خبأت لك" ؟ قال:الدخ. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم : "اخسأ فلن تعدو قدرك" . فالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، سأله عن شيء أضمره له لأجل أن يختبره لا ليصدقه ويعتبر قوله.
القسم الثالث: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، وهذا أمر مطلوب واجباً .
(259) وسئل – جزاه الله خيراً – : عن الكهانة؟ وحكم إتيان الكهان؟
فأجاب بقوله : الكهانة فعالة مأخوذة من التكهن ، وهو التخرص والتماس الحقيقة بأمور لا أساس لها ، وكانت في الجاهلية صنعة لأقوام تتصل بهم الشياطين وتسترق السمع من السماء وتحدثهم به ، ثم يأخذون الكلمة التي نقلت إليهم من السماء بواسطة هؤلاء الشياطين ويضيفون إليها ما يضيفون من القول ، ثم يحدثون بها الناس ، فإذا وقع الشيء مطابقاً لما قالوا اغتر بهم الناس واتخذوهم مرجعاً في الحكم بينهم ، وفي استنتاج ما يكون في المستقبل ، ولهذا نقول : الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
والذي يأتي إلى الكاهن ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه، فهذا محرم ، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً ، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: "من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً أو أربعين ليلة" .(74/1)
القسم الثاني: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ويصدقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله-عز وجل- لأنه صدقه في دعوى علمه الغيب،وتصديق البشري دعوى علم الغيب تكذيب لقول الله -تعالى-: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } (1). ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول : فقد كفر بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم" .
القسم الثالث: أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ليبين حاله للناس ، وإنها كهانة وتمويه وتضليل ، وهذا لا بأس به ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أتاه ابن صياد ، فأضمر له النبي ، صلى الله عليه وسلم ، شيئاً في نفسه فسأله النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ماذا خبأ له؟ فقال: الدخ يريد الدخان . فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "اخسأ فلن تعدو قدرك" . هذه أحوال من يأتي إلى الكاهن ثلاثة:
الأولى : أن يأتي فيسأله بدون أن يصدقه، وبدون أن يقصد بيان حاله فهذا محرم ، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.
الثانية : أن يسأله فيصدقه وهذا كفر بالله – عز وجل –على الإنسان أن يتوب منه ويرجع إلى الله –عز وجل – وإلا مات على الكفر.
الثالثة: أن يأتيه فيسأله ليمتحنه ويبين حاله للناس فهذا لا بأس به .
(260) سئل فضيلة الشيخ : عن قول بعض الناس : تكهنت مصادر مطلعة بوقوع كذا وكذا؟ أو أتكهن أن فلاناً سيحضر؟
فأجاب بقوله : لا ينبغي إطلاق هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح ، فلا ينبغي أن يقول : أتكهن بكذا ونحوه ، ولكن يقول : أظن كذا ؛ لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.
(261) سئل فضيلة الشيخ : عن أقسام علم النجوم؟
فأجاب بقوله : علم النجوم ينقسم إلى قسمين :(74/2)
القسم الأول : علم يستدل به على الحوادث الأرضية ، فهذا محرم ، فيستدل مثلاً باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا ، ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم أنه سيكون سعيداً ، وفي هذا النجم الآخر بأنه سيكون شقياً ، فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية ، والحوادث الأرضية ليس للنجوم بها علاقة ولهذا في حديث زيد بن خالد الجهني – رضي الله عنه – قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة على أثر سماء من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : "هل تدرون ماذا قال ربكم" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم . قال: " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فمن قال : مطرنا بنوء كذا وكذا – والباء للسببية – فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب ، ومن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" . فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا الرياح ، ومنه نعرف خطأ الذين يقولون: إذا طلع النجم الفلاني ازداد هبوب الرياح لأن النجوم لا صلة لها بالرياح.(74/3)
القسم الثاني: علم يستدل به على الجهات والأوقات ، فهذا جائز وقد يكون واجباً كما قال الفقهاء : "إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم ، والشمس ، والقمر " . قال الله – تعالى - : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون } (1). فلما ذكر الله – عز وجل – العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات الأفقية فقال – تعالى -: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } (2) . فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمنة والأمكنة لا بأس به ، مثل أن يقال : إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت المطر ، أو وقت الربيع، والعرب في الجاهلية يتشاءمون بالأنواء ويتفاءلون بها ، فبعض النجوم يقولون : هذا نجم نحس لا خير فيه ، وبعضها بالعكس يقولون : هذا نجم سعود وخير ، ولهذا إذا أمطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا ، ولا يقولون : مطرنا بفضل الله ورحمته ، مع أن النجم ليس سبباً للمطر. ألسنا نجد هذا النوء بعينه سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟! ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار، فالنوء لا تأثير له فقولنا : طلع هذا النجم كقولنا : طلعت الشمس فليس له إلا طلوع وغروب ، والنوء وقت تقدير وهو يدل على دخول الفصول فقط .
(262) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم تعلم علم النجوم؟ وما الحكمة من خلقها؟
فأجاب – حفظه الله – بقوله : علم النجوم على نوعين :
النوع الأول : علم التأثير وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة ، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث فهذا شرك مخرج عن الملة؛ لأنه جعل المخلوق خالقاً فادعى أن مع الله خالقاً آخر.(74/4)
القسم الثاني : أن يستدل بحركاتها وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل مثل أن يعتقد أن فلاناً ستكون حياته شقاء ؛ لأنه ولد في النجم الفلاني ، ونحو ذلك فهذا قد ادعى علم الغيب ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة لأنه تكذيب لقوله- تعالى - : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } (1) وهذا من أقوى أنواع الحصر لأنه بالنفي والاستثناء ، فإذا ادعى علم الغيب فقد كذب القرآن.
القسم الثالث: أن يعتقد أنها سبب لحدوث الخير والشر أي إنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم ، ولاينسب إلى النجوم شيئاً إلا بعد وقوعه فهذا شرك أصغر لأنه أضاف الحوادث إلى ما ليس سبباً لها شرعاً ولا حساً . فإن قيل : ينتقض هذا بما ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده" فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.
فالجواب :
أن هذا لا يدل على أن للكسوف تأثيراً في الحوادث من الجدب والقحط والحروب ولذلك قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" . لا في ما مضى ، ولا في المستقبل ، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون.
النوع الثاني : علم التسيير بأن يستدل بسيرها على شيء ما فهذا على قسمين :
القسم الأول : أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية فهذا مطلوب ، وإذا كان على مصالح دينية واجبة كان ذلك واجباً ، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة ، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة ، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة فهذا فيه فائدة عظيمة.
القسم الثاني: أن يستدل بها على المصالح الدنيوية وهذا لا بأس به وهو نوعان :
النوع الأول:أن يستدل بها على الجهات،كمعرفة أن القطب يقع شمالاً،والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالاً وهكذا ، فهذا جائز قال – تعالى -: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } (1) .(74/5)
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول؛وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر،فهذا كرهه بعض السلف،و أباحه آخرون،والذين كرهوه قالوا:يخشى إذا قيل طلع النجم الفلاني فهووقت الشتاء ، أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد،أو بالحر،أو بالرياح . والصحيح عدم الكراهة.
أما الحكمة من خلقها فالله – عز وجل- قد خلق هذه النجوم لحكم كثيرة منها :
الأولى: زينة للسماء قال –تعالى - : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } (1) ولا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصقة في السماء .
فإن قيل : فما الجواب عن قوله – تعالى - : { ولقد زينا السماء الدنيا } (2) قلنا : إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقاً له ، أرأيت لو أن رجلاً عمر قصراً وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة وهي حول القصر وليست على جدرانه فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له وإن لم تكن ملاصقة له.
الثانية: أنها رجوم للشياطين،أي لشياطين الجن الذين يسترقون السمع،فهم لهم قوة عظيمة نافذة قال– تعالى–عن عملهم لسليمان: { والشياطين كل بناء وغواص . وآخرين مقرنين في الأصفاد } (3)وقال – تعالى- : { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } (4) أي من سبأ إلى الشام،وهوعرش عظيم لملكة سبأ فهذا يدل على قوته،وسرعته ونفوذه.قال
–تعالى-عن الجن: { أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } (1) .(74/6)
الثالثة : علامات يهتدى بها قال- تعالى - : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون } (2) . فالعلامات : تشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة كالجبال ، والأنهار والطرق وهن علامات أرضية ، ثم ذكر العلامة الأفقية في قوله – تعالى - : { وبالنجم هم يهتدون } (3) . والنجم اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به ولا يختص بنجم معين ؛ لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات سواء جهة القبلة ، أو المكان براً أو بحراً ، وهذه نعمة من الله أن جعل أشياء علوية لا يحجب دونها شيئ لأنك في الليل لا تشاهد جبالاً ، ولا أودية ، ولا رملاً وهذا من تسخير الله –تعالى-. قال- تعالى- : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } (4) .
(263) وسئل فضيلته : عن التنجيم وحكمه ؟(74/7)
فأجاب بقوله : التنجيم مأخوذ من النجم ، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ، بمعنى أن يربط المنجم ما يقع في الأرض ، أو ما سيقع في الأرض بالنجوم بحركاتها ، وطلوعها ، وغروبها ، واقترانها ، وافتراقها وما أشبه ذلك ، والتنجيم نوع من السحر والكهانة وهو محرم ، لأنه مبني على أوهام لا حقيقة لها ، فلا علاقة لما يحدث في الأرض بما يحدث في السماء ، ولهذا كان من عقيدة أهل الجاهلية أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم ، فكسفت الشمس في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم – رضي الله عنه – فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخطب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، الناس حين صلى الكسوف وقال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " فأبطل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ارتباط الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية ، وكما أن التنجيم بهذا المعنى نوع من السحر والكهانة فهو أيضاً سبب للأوهام والانفعالات النفسية التي ليس لها حقيقة ولا أصل ، فيقع الإنسان في أوهام ، وتشاؤمات ، ومتاهات لا نهاية لها .
وهناك نوع آخر من التنجيم وهو أن الإنسان يستدل بطلوع النجوم على الأوقات ، والأزمنة ، والفصول ، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه ، مثل أن نقول إذا دخل نجم فلان فإنه يكون قد دخل موسم الأمطار، أو قد دخل وقت نضوج الثمار وما أشبه ذلك ، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.
(264) سئل فضيلة الشيخ : ما العلاقة بين التنجيم والكهانة ؟ و؟أيهما أخطر ؟
فأجاب قائلاً : العلاقة بين التنجيم والكهانة أن الكل مبني على الوهم والدجل ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وإدخال الهموم والغموم عليهم وما أشبه ذلك.(74/8)
وبالنسبة لخطرهما على المسلمين فهذا ينبني على شيوع هذا الأمر بين الناس فقد يكون في بعض البلاد لا أثر للتنجيم عندهم إطلاقاً ولا يهتمون به ولا يصدقون به ، ولكن الكهانة منتشرة بينهم فتكون أخطر ، وقد يكون الأمر بالعكس . لكن من حيث واقع الكهانة والتنجيم فإن الكهانة أخطر.
(265) سئل فضيلة الشيخ – رعاه الله - : عن حكم الاستسقاء بالأنواء ؟ .
فأجاب بقوله : الاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شرك أكبر وله صورتان .
الصورة الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا ، كأن يقول: يا نوء كذا اسقنا أو أغثنا وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر قال الله - تعالى -: { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } (1) . وقال الله – تعالى - : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (2) . وقال – عز وجل -: { ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } (3) وهذا شرك في العبادة والربوبية.
الصورة الثانية : أن ينسب حصول الأمطار إلى هذا النوء ولو لم يدعها على أنها هي الفاعلة لنفسها دون الله ، بأن يعتقد أنها هي التي تنزل المطر دون الله فهذا شرك أكبر في الربوبية.
القسم الثاني : شرك أصغر وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً ، والله هو الخالق الفاعل ، وإنما كان شركاً أصغر لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوحيه ، ولا بقدره ، فهو مشرك شركاً أصغر.
(266) وسئل – حفظه الله - : عن حكم ربط المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي ؟ .(74/9)
فأجاب قائلاً : تعليق المطر بالضغط الجوي ، والمنخفض الجوي - وهو وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً – ولكن لا ينبغي فتح هذا الباب للناس ، بل يقال : هذا من رحمة الله ، هذا من فضله ونعمته ، قال الله – تعالى - : { ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله } (1) وقال – عز وجل -: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله } (2) فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
وليعلم أن النسبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : نسبة إيجاد وهذه شرك أصغر .
القسم الثاني : نسبة سبب وهذه شرك أكبر .
القسم الثالث : نسبة وقت وهذه جائزة . والله أعلم.
---
(1) سورة النمل ، الآية "65" .
(1) سورة النحل ، الآية "15" .
(2) سورة النحل ، الآية "16".
(1) سورة النمل ، الآية "65".
(1) سورة النحل ، الآية "16".
(1) سورة الملك ، الآية "5" .
(2) سورة الملك ، الآية "5" .
(3) سورة ص ، الآيتان "37-38" .
(4) سورة النمل ، الآية "39" .
(1) سورة الجن ، الآية " 9 " .
(2) سورة النحل ، الآيتان " 15-16" .
(3) سورة النحل ، الآية "16" .
(4) سورة الجاثية ، الآية "13".
(1) سورة المؤمنون ، الآية "117" .
(2) سورة الجن ، الآية "18" .
(3) سورة يونس ، الآية " 106 " .
(1) سورة النور ، الآية " 43" .
(2) سورة الروم ، الآية "48" .(74/10)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
الطاغوت والشرك
محمد بن صالح العثيمين
(267) وسئل – أعلى الله درجته في المهديين-: عن حكم اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس؟
فأجاب بقوله:اتباع العلماء أوالأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : أن يتابعهم في ذلك راضياً بقولهم مقدماً له ساخطاً لحكم الله ، فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله ، وكراهة ما أنزل الله كفر لقوله – تعالى - : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } (1) ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر فكل من كره ما أنزل الله فهو كافر.
القسم الثاني : أن يتابعهم في ذلك راضياً بحكم الله ، وعالماً بأنه أمثل واصلح للعباد والبلاد ، ولكن لهوى في نفسه تابعهم في ذلك فهذا لا يكفر ولكنه فاسق.
فإن قيل : لماذا لا يكفر ؟
أجيب : بأنه لم يرفض حكم الله ، ولكنه رضي به وخالفه لهوى في نفسه فهو كسائر أهل المعاصي .
القسم الثالث: أن يتابعهم جاهلاً يظن أن ذلك حكم الله فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول : أن يمكنه معرفة الحق بنفسه فهو مفرط أو مقصر فهو آثم ؛ لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.
القسم الثاني: أن يكون جاهلاً ولا يمكنه معرفة الحق بنفسه فيتابعهم بفرض التقليد يظن أن هذا هو الحق فلا شيء عليه ، لأنه فعل ما أمر به وكان معذوراً بذلك،ولذلك ورد عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "أن من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه" . ولو قلنا بإثمه بخطأ غيره ، للزم من ذلك الحرج والمشقة ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه.
(268) سئل فضيلة الشيخ : عن تعريف الطاغوت؟
فأجاب بقوله : الطاغوت مشتق من الطغيان ، والطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله – تعالى - : { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } (1) يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة .(75/1)
واصطلاحاً أحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – أنه – أي الطاغوت -: "كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع أو مطاع". ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا ، أو اتبعوا ، أو أطيعوا فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر ، أو يدعون إلى البدع ، وإلى تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله طواغيت والذين يزينون لولاة الأمر الخروج عن شريعة الإسلام طواغيت ، لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم ، فإن حد العالم أن يكون متبعاً لما جاء به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ، لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء ، يرثونهم في أمتهم علماً ، وعملاً ، وأخلاقاً ، ودعوة ، وتعليماً ، فإذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت ؛ لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.
وأما المطاع في قوله – رحمه الله – فيريد به الأمراء الذي يطاعون شرعاً ، أو قدراً، فالأمراء يطاعون ، شرعاً إذا أمروا بما لايخالف أمر الله ورسوله فالواجب على الرعية إذا أمر ولي الأمر بأمر لا يخالف أمر الله الواجب عليهم السمع والطاعة ، وطاعتهم لولاة الأمر في هذه الحال بهذا القيد طاعة الله – عز وجل – ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمر به ولي الأمر مما تجب طاعته فيه أنا في ذلك نتعبد لله – تعالى – ونتقرب إليه بطاعته ، حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله – عز وجل – وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك لأن الله – تعالى – يقول : : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (1) .(75/2)
وأما طاعة الأمراء إذا قدراً فإن الأمراء كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان وإن لم يكن بوازع الإيمان ، لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان وهذه هي الطاعة النافعة ، النافعة لولاة الأمر ، والنافعة للناس أيضاً ، وقد تكون الطاعة بوازع السلطان بحيث يكون قوياً يخشى الناس منه ويهابونه لأنه ينكل بمن خالف أمره.
ولهذا نقول : إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة ينقسمون إلى أحوال أربع.
الحالة الأولى : أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أكمل الأحوال وأعلاها .
الحالة الثانية : أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع ، على حكامه ومحكوميه ؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوضى الفكرية والخلقية ، والعملية .
الحالة الثالثة : أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني وهذه مرتبة وسطى لأنه إذا قوي الرادع السلطاني صار أصلح للأمة في المظهر فإذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها .
الحالة الرابعة : أن يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني فيكون المظهر أدنى منه في الحالة الثالثة لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل وأعلى .(75/3)
والمهم أننا نقول : إنه ينبغي لنا عند تنفيذ أوامر السلطان أن نعتقد أننا نتقرب إلى الله – عز وجل –بذلك . وإنما قال ابن القيم : إن الطاغوت "ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع " لأن الأمير الذي يطاع قد يأمر بما يخالف أمر الله ورسوله فإنه حينئذ لا سمع له ولا طاعة ، ولا يجوز لنا أن نطيعه في معصية الله –سبحانه وتعالى – لأن الله – تعالى – جعل طاعتهم تابعة لطاعته وطاعة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، كما يفهم من سياق الآية : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (1). ولم يقل: " وأطيعوا أولي الأمر منكم" فدل هذا على أن طاعتهم غير مستقلة بل هي تبع لطاعة الله – تعالى– وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم،وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الطاعة في المعروف" أي فيما أقره الشرع ، وأما ما أنكره فلا يجوز أن يطاع فيه أي مخلوق حتى لو كان الوالد أو الوالدة؛ لأن طاعة الله مقدمة على كل طاعة ، فإذا أطاع الإنسان أميره أو ولي أمره في معصية الله فقد تجاوز به حده.
(269) سئل فضيلة الشيخ : عمن يدعي أنه ينفع ويضر وحكم تصديقه؟
فأجاب قائلاً : هؤلاء الذين يدعون أنهم ينفعون ، أو يضرون كذبة لا يجوز لأحد أن يصدقهم، ولا أن يسألهم ، ويجب على من علم بهم أن يبلغ ولاة الأمور ليتخذوا اللازم ، فلا أحد يملك النفع والضرر إلا الله وحده لا شريك له حتى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال الله له :
{ قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً . قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } (1). وأمره أن يقول : { لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } (2) ومن زعم أن أحداً يملك الضرر ، أو النفع بغير أسباب حسية معلومة ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ؛ لأنه مكذب لله- تعالى – ولرسوله ، صلى الله عليه وسلم.(75/4)
وإني أقول لهؤلاء الذين يتوهمون صدق ما قاله هؤلاء الدجاجلة أقول لهم :اثبتوا على دينكم وإيمانكم ، واعلموا أنه لا يملك أحداً الضرر والنفع إلا الله وحده لا شريك له ، وقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لابن عباس – رضي الله عنهما - : "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك" . وفي القرآن الكريم لما ذكر الله السحرة قال: { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } (1) فالمهم أن هؤلاء كذبة فيما ادعوه من كونهم يملكون النفع والضرر ، فإن ذلك إلى الله وحده لا شريك له ، وعليهم أن يتوبوا إلى الله من هذا العمل ، وأن يعترفوا بقصورهم وتقصيرهم ، وأنهم ضعفاء أمام قدرة الله ، وأنهم لا يملكون دفع الضرر عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم ، كما لا يملكون لأنفسهم جلب نفع فضلاً عن جلبه لغيرهم إلا ما شاء الله– سبحانه وتعالى– وعلى من يتوهم صدقهم أن يتوب إلى الله من تصديقهم وأن يعلم أنهم كذبة،ولا حق لهم ولا حظ لهم في مثل هذه الأمور.
(270) سئل فضيلة الشيخ : عن أنواع الشرك ؟
فأجاب بقوله : سبق في غير هذا الموضع أن التوحيد يتضمن إثباتاً ونفياً ، وأن الاقتصار فيه على النفي تعطيل ، والاقتصار فيه على الإثبات لا يمنع المشاركة فلهذا لا بد في التوحيد من النفي والإثبات ، فمن لم يثبت حق الله – عز وجل – على هذا الوجه فقد أشرك.
والشرك نوعان : شرك أكبر مخرج عن الملة ، وشرك دون ذلك.
النوع الأول : الشرك الأكبر وهو : "كل شرك أطلقه الشارع وهو يتضمن خروج الإنسان عن دينه" مثل أن يصرف شيئاً من أنواع العبادة لله – عز وجل – لغير الله ،كأن يصلي لغير الله ، أو يصوم لغير الله ، أو يذبح لغير الله ، وكذلك من الشرك الأكبر أن يدعو غير الله – عز وجل – مثل أن يدعو صاحب قبر ، أو يدعو غائباً ليغيثه من أمر لا يقدر عليه إلا الله – عز وجل – وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم .(75/5)
النوع الثاني : الشرك الأصغر وهو : "كل عمل قولي ، أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج من الملة" مثل الحلف بغير الله فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله – تعالى – من العظمة ما يماثل عظمة الله فهو مشرك شركاً أصغر ، سواء كان هذا المحلوف به معظماً من البشر أم غير معظم ، فلا يجوز الحلف بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا برئيس ، ولا وزير ، ولا يجوز الحلف بالكعبة ، ولا بجبريل ، وميكائيل ، لأن هذا شرك ، لكنه شرك أصغر لا يخرج من الملة .
ومن أنواع الشرك الأصغر : الرياء مثل أن يقوم الإنسان يصلي لله - عز وجل- ولكنه يزين صلاته لأنه يعلم أن أحداً من الناس ينظر إليه فيزين صلاته من أجل مراءاة الناس فهذا مشرك شركاً أصغر ؛ لأنه فعل العبادة لله لكن أدخل عليها هذا التزيين مراءاة للخلق ، وكذلك لو أنفق ماله في شيء يتقرب به إلى الله لكنه أراد أن يمدحه الناس بذلك فإنه مشرك شركاً أصغر ، وأنواع الشرك الأصغر كثيرة معلومة في كتب أهل العلم.
(271) وسئل فضيلة الشيخ : هل قوله – تعالى - : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } (1) يشمل الشرك الأصغر؟
فأجاب قائلاً : اختلف في ذلك أهل العلم : فمنهم من قال : يشمل كل شرك ولو كان أصغر كالحلف بغير الله فإن الله لا يغفره ، وأما بالنسبة لكبائر الذنوب كالخمر والزنى فإنها تحت المشيئة إن شاء الله غفرها وإن شاء أخذ بها.
وشيخ الإسلام اختلف كلامه ، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر ، ومرة قال : الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.
وعلى كل حال يجب الحذر من الشرك مطلقاً ؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر لأن قوله : { أن يشرك به } { أن } وما بعدها في تأويل مصدر تقديره "إشراكاً به" فهو نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.(75/6)
(272) سئل فضيلة الشيخ : عن الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم ، : "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة" . وكذلك ما وقع إبان ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – وقوله ، صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب" ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الجمع بين النصوص المذكورة أن يأس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب لا يقتضي عدم الوقوع لأنه لا يعلم الغيب ، فالشيطان لما رأى تخليص الجزيرة من الشرك وتوطيد دعائم التوحيد ظن أن لا شرك في الجزيرة بعد هذا ، ولكن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، الذي ينطق بالوحي من الله – تعالى -، أخبر أنه سيكون ذلك . وأما وقوع ذلك في الجزيرة إبان ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى – فلا يخلو إما أن يكون لقلة العلماء،أو لعجزهم عن الإصلاح لغلبة الجهل وكثرة الجهال.والله أعلم بحقيقة الحال.
(273) سئل فضيلة الشيخ : ما معنى قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يئس أن يعبد في هذه الجزيرة" ؟
فأجاب قائلاً : يأس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب لا يدل على عدم الوقوع ؛ لأنه لما حصلت الفتوحات وقوي الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً أيس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة . فالحديث خبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت ولكنه لا يدل على انتفائه في الواقع .
(274) سئل فضيلته : عن حكم الرياء؟
فأجاب قائلاً : الرياء من الشرك الأصغر ، لأن الإنسان أشرك في عبادته أحداً غير الله ، وقد يصل إلى الشرك الأكبر ، وقد مثل ابن القيم – رحمه الله – للشرك الأصغر بـ" يسير الرياء" وهذا يدل على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر.(75/7)
قال الله – تعالى - : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } (1) والعمل الصالح ما كان صواباً خالصاً ، والخالص ما قصد به وجه الله ، والصواب : ما كان على شريعة الله . فما قصد به غير الله فليس بصالح ، وما خرج عن شريعة الله فليس بصالح ويكون مردوداً على فاعله
لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . الحديث . قال بعض العلماء : هذان الحديثان ميزان الأعمال فحديث النية ميزان الأعمال الباطنة والحديث الآخر ميزان الأعمال الظاهرة.
(275) سئل فضيلة الشيخ- أعلى الله درجته في المهديين -: عن حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء؟
فأجاب قائلاً : حكم العبادة إذا اتصل بها الرياء أن يقال : اتصال الرياء على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل كمن قام يصلي لله مراءاة الناس من أجل أن يمدحه الناس على صلاته فهذا مبطل للعبادة.
الوجه الثاني: أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها : بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة ، فهذه العبادة لا تخلو من حالين :
الحال الأولى: أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثال ذلك رجل عنده مائة ريال يريد أن يتصدق بها فتصدق بخمسين منها صدقة خالصة ، ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقية ، فالأولى صدقة صحيحة مقبولة ، والخمسون الباقية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
الحال الثانية: أن يرتبط أول العبادة بآخرها فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين:(75/8)
الأمر الأول: أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه بل يعرض عنه ويكرهه ، فإنه لا يؤثر شيئاً لقوله، صلى الله عليه وسلم : "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".
الأمر الثاني: أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه ، فحينئذ تبطل جميع العبادة لأن أولها مرتبط بآخرها . مثال ذلك أن يبتدئ الصلاة مخلصاً بها لله- تعالى – ثم يطرأ عليها الرياء في الركعة الثانية فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها.
الوجه الثالث : أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها لأنها تمت صحيحة فلا تفسد بحدوث الرياء بعد ذلك. وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته ؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة ، وليس من الرياء أن يسر الإنسان بفعل الطاعة ، لأن ذلك دليل إيمانه قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن" . وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك فقال : "تلك عاجل بشرى المؤمن" .
(276) سئل فضيلة الشيخ : يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله : يجاب عن ذلك بأمور :
أحدها : أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها ، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق ؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا ، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك لأن الله يقول :: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً .ويرزقه من حيث لا يحتسب } (1) . وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.(75/9)
فإن قيل : من أراد بعمله الدنيا كيف يقال : بأنه مخلص؟
أجيب : أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقاً فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمراً مادياً من ثمرات العبادة فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به ، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية فمثلاً يقولون: في الصلاة رياضة وإفادة للإعصاب ، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات ، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة ، ولذلك بين الله – تعالى – في كتابه عن حكمة الصوم – مثلاً – أنه سبب للتقوى ، فالفوائد الدينية هي الأصل ، والدنيوية ثانوية ، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.
(277) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عندما يهم الإنسان بعمل الخير ، يأتي الشيطان فيوسوس له ويقول : : إنك تريد ذلك رياء وسمعة . فيبعد عن فعل الخير ، فكيف يمكن تجنب مثل هذا الأمر؟ .
فأجاب فضيلته بقوله : يمكن تجنب مثل هذا الأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، والمضي قدماً في فعل الخير ، ولا يلتفت إلى هذه الوساوس التي تثبطه عن فعل الخير ، وهو إذا أعرض عن هذا واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم زال عنه ذلك بإذن الله.(75/10)
(278) سئل فضيلة الشيخ : جاء في الحديث "إنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه" ولكن ماذا يقال : عن أن هناك أزمنة انتشر فيها الشرك والبدع والجهل ثم أتى زمن من بعدها كان خيراً منها حيث محي الشرك أو تقلص وزالت البدع وانتشر العلم ومن أمثلة ذلك الفترة التي سبقت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم الفترة التي رافقت دعوته؟ .
فأجاب بقوله : هذا الحديث قاله أنس بن مالك – رضي الله عنه- حين شكا الناس إليه ما يجدون من الحجاج الثقفي فحدثهم بهذا الحديث عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، "إنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". والإنسان لا ينظر إلى جهة من الأرض أو إلى جيل من الناس وإنما النظر للعموم، فإذا قدر أن هذه الجهة من الأرض زال عنها الشرك والفتن بعد أن كان حالاً فيها فلا يعني ذلك أنه رفع عن جميع الأرض أو خف في جميع الأرض ، وهذا النص يقصد به العموم لا كل طائفة أو كل جهة من الأرض بعينها ، وقد يقال : إن هذا الحديث بناء على الأغلب ، فما وقع من خير بعد الشر ولو كان عاماً فإنه يكون مخصصاً لهذا الحديث.
---
(1) سورة محمد ، الآية "9" .
(1) سورة الحاقة ، الآية "11" .
(1) سورة النساء ، الآية "59" .
(1) سورة النساء ، الآية "59" .
(1) سورة الجن ، الآيتان "21-22" .
(2) سورة الأعراف، الآيتان "188".
(1) سورة البقرة ، الآية " 102".
(1) سورة النساء ، الآية "48" .
(1) سورة الكهف ، الآية "110" .
(1) سورة الطلاق، الآيتان "2-3" .(75/11)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
الحلف
محمد بن صالح العثيمين
( 279) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم حلف بالمصحف؟
فأجاب قائلاً : هذا السؤال ينبغي أن نبسط الجواب فيه وذلك أن القسم بالشيء يدل على تعظيم ذلك المقسم به تعظيماً خاصاً لدى المقسم ، ولهذا لا يجوز لأحد أن يحلف إلا بالله – تعالى – بأحد أسمائه ، أو بصفة من صفاته مثل أن يقول : والله لأفعلن ، ورب الكعبة لأفعلن ، وعزة الله لأفعلن ، وما أشبه ذلك من صفات الله- تعالى- .
والمصحف يتضمن كلام الله ، وكلام الله – تعالى -من صفاته وهو – أعني كلام الله – صفة ذاتية فعلية ؛ لأنه بالنظر إلى أصله وأن الله لم يزل ولا يزال موصوفاً به لأن الكلام كمال فهو من هذه الناحية من صفات الله الذاتية إذ لم يزل ولا يزال متكلماً فعالاً لما يريده ، وبالنظر إلى آحاده يكون من الصفات الفعلية لأنه يتكلم متى شاء قال الله – تعالى -: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول : له كن فيكون } (1) فقرن القول بالإرادة وهو دليل على أن كلام الله يتعلق بإرادته ومشيئته – سبحانه وتعالى – والنصوص في هذا متضافرة كثيرة وأن كلام الله تحدث آحاده حسب ما تقتضيه حكمته ، وبهذا نعرف بطلان قول من يقول : إن كلام الله أزلي ، ولا يمكن أن يكون تابعاً لمشيئته ، وأنه هو المعنى القائم بنفسه ، وليس هو الشيء المسموع الذي يسمعه من يكلمه الله – عز وجل – فإن هذا قول باطل حقيقته أن قائله جعل كلام الله المسموع مخلوقاً.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كتاباً يعرف باسم "التسعينية بين فيه بطلان هذا القول من تسعين وجهاً.(76/1)
فإذا كان المصحف يتضمن كلام الله ، وكلام الله – تعالى – من صفاته فإنه يجوز الحلف بالمصحف بأن يقول الإنسان : والمصحف ويقصد ما فيه من كلام الله – عز وجل – وقد نص على ذلك فقهاء الحنابلة – رحمهم الله - ومع هذا فإن الأولى للإنسان أن يحلف بما لا يشوش على السامعين بأن يحلف باسم الله – عز وجل – فيقول : والله ، ورب الكعبة ، أو والذي نفسي بيده وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا تستنكرها العامة ولا يحصل لديهم فيها تشويش ، فإن تحديث الناس بما يعرفون وتطمئن إليه قلوبهم خير وأولى ، وإذا كان الحلف إنما يكون بالله وأسمائه وصفاته فإنه لا يجوز أن يحلف أحد بغير الله لا بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا بجبريل ، ولا بالكعبة ، ولا بغير ذلك من المخلوقات ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" . فإذا سمع الإنسان شخصاً يحلف بالنبي ، أو بحياة النبي ، أو بحياة شخص آخر فلينهه عن ذلك ، وليبين له أن هذا حرام ولا يجوز ، ولكن ليكن نهيه وبيانه على وفق الحكمة حيث يكون باللطف واللين والإقبال على الشخص وهو يريد نصحه وانتشاله من هذا المحرم ؛ لأن بعض الناس تأخذه الغيرة عند الأمر والنهي فيغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه وربما يشعر في هذه الحال أنه ينهاه انتقاماً لنفسه فيلقي الشيطان في نفسه هذه العلة ، ولو أن الإنسان أنزل الناس منازلهم ودعا إلى الله بالحكمة واللين والرفق لكان ذلك أقرب إلى القبول وقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف". ولا يخفى على الكثير ما حصل من النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في قصة الأعرابي الذي جاء إلى المسجد فبال في طائفة منه فزجره الناس ، وصاحوا به ، فنهاهم النبي ، صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فلما قضى بوله دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن هذه(76/2)
المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر وإنما هي للتكبير والتسبيح وقراءة القرآن" . أو كما قال، صلى الله عليه وسلم ، ثم أمر أصحابه أن يصبوا على البول ذنوباً من ماء ، فبهذا زالت المفسدة وطهر المكان ، وحصل المقصود بالنسبة لنصيحة الأعرابي الجاهل، وهكذا ينبغي لنا نحن في دعوة عباد الله إلى دين الله أن نكون داعين إلى الله – سبحانه وتعالى – فنسلك الطريق التي تكون أقرب إلى إيصال الحق إلى قلوب الخلق وإصلاحهم والله الموفق.
(280) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم الحلف بغير الله-تعالى – ؟ وهل منه ما روي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من قوله : "أفلح وأبيه إن صدق" أفتونا مأجورين؟
فأجاب بقوله : الحلف بغير الله –عز وجل – مثل أن يقول : وحياتك ، أو وحياتي، أو والنبي أو والسيد الرئيس، أو والشعب، أو ما أشبه ذلك ، كل هذا محرم بل هو من الشرك ؛ لأن هذا النوع من التعظيم لا يصلح إلا لله – عز وجل- ومن عظم غير الله بما لا يكون إلا لله فهو شرك ، لكن لما كان هذا الحالف لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركاً أكبر بل كان شركاً أصغر، فمن حلف بغير الله فقد أشرك شركاً أصغر، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" . وقال ، صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". فلا تحلف بغير الله أيّاً كان المحلوف به حتى لو كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أو جبريل ، أو من دونهما من الرسل من الملائكة ، أو البشر ، أو من دون الرسل فلا تحلف بشيء سوى الله – عز وجل - .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق" فهذه الكلمة "وأبيه" اختلف الحفاظ فيها :(76/3)
فمنهم من أنكرها وقال : لم تصح عن النبي ، صلى الله عليه وسلم وبناء على ذلك فلا إشكال في الموضوع لأن المعارض لا بد أن يكون قائماً وإذا لم يكن المعارض قائماً فهو غير مقاوم ولا يلتفت إليه.
وعلى القول بأنها ثابتة فإن الجواب على ذلك : أن هذا من المشكل ، والنهي عن الحلف بغير الله من المحكم ، فيكون لدينا محكم ومتشابه وطريق الراسخين في العلم في المحكم والمتشابه أن يدعوا المتشابه ويأخذوا بالمحكم قال الله- تعالى - : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقول :ون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } (1) .
ووجه كونه متشابهاً أن فيه احتمالات متعددة:
1- 1- قد يكون هذا قبل النهي.
2- 2- قد يكون هذا خاصاً بالرسول ، عليه الصلاة والسلام ، لبعد الشرك في حقه.
3- 3- قد يكون هذا مما يجري على اللسان بغير قصد.
ولما كانت هذه الاحتمالات وغيرها واردة على هذه الكلمة – إن صحت – عن الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، صار الواجب علينا أن نأخذ بالمحكم وهو النهي عن الحلف بغير الله.
ولكن يقول : بعض الناس إن الحلف بغير الله قد جرى على لساني ويصعب علي أن أدعه فما الجواب؟
نقول: إن هذا ليس بحجة بل جاهد نفسك على تركه والخروج منه وحاول بقدر ما تستطيع أن تمحو من لسانك هذه الكلمة لأنها شرك والشرك خطره عظيم ولو كان أصغر حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : : "الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر" . وقال ابن مسعود – رضي الله عنه-: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً". قال شيخ الإسلام : وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة.
(281) وسئل أيضاً : عن حكم الحلف بغير الله؟ والحلف بالقرآن الكريم؟(76/4)
فأجاب بقوله : الحلف بغير الله أو بغير صفة من صفاته محرم وهو نوع من الشرك ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" . وجاء عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم . وثبت عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "من قال واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله". وهذا إشارة إلى أن الحلف بغير الله شرك يطهر بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله .
وعلى هذا فيحرم على المسلم أن يحلف بغير الله- سبحانه وتعالى – لا بالكعبة ، ولا بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا بجبريل ،ولا بولي من أولياء الله، ولا بخليفة من خلفاء المسلمين ، ولا بالشرف ، ولا بالقومية ، ولا بالوطنية كل حلف بغير الله فهو محرم وهو نوع من الشرك والكفر.
وأما الحلف بالقرآن الكريم فإنه لا بأس به ، لأن القرآن الكريم كلام الله – سبحانه وتعالى – تكلم الله به حقيقة بلفظه مريداً لمعناه وهو – سبحانه وتعالى- موصوف بالكلام فعليه يكون الحلف بالقرآن الكريم حلفاً بصفة من صفات الله – سبحانه وتعالى – وذلك جائز.
(282) وسئل : عن حكم الحلف بغير الله؟ والحلف بآيات الله؟
فأجاب قائلاً : الحلف لا يجوز إلا بالله – سبحانه وتعالى – أو صفة من صفاته ، أما الحلف بغير الله فهو شرك سواء كان المحلوف به وجيهاً عند الله –عز وجل-أم كان من سائر العباد، ولهذا لا يجوز لنا أن نحلف بالنبي ، أو أن نحلف بجبريل ، أو بالكعبة ، أو بأي شيء من المخلوقات قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" . وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" . والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، هو نفسه لا يرضى أن يحلف به ولما قال له رجل : ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله نداً بل ماشاء الله وحده" .(76/5)
فيحلف المرء بالله – عز وجل – فيقول :والله، والرحمن، ورب العالمين ، ومجري السحاب ، ومنزل الكتاب وما أشبه ذلك ، وكذلك يحلف بصفاته – سبحانه وتعالى – مثل وعزة الله ، وقدرة الله ، وما أشبه ذلك ، ويحلف بالمصحف لأنه كلام الله ، لأنه لا يريد الحلف بالورق والجلود وإنما يريد الحلف بما تضمنته هذه الأوراق.
وأما قول السائل: هل يجوز الحلف بآيات الله بأن يقول الإنسان: وآيات الله أو بآيات الله لأفعلن كذا؟ فنقول في الجواب: إن قصد بالآيات الآيات الشرعية وهي القرآن الكريم فلا بأس، وإن قصد بالآيات الآيات الكونية كالشمس ، والقمر والليل والنهار فهذا لا يجوز . والله أعلم.
(283) وسئل فضيلته عن حكم القسم بقول: "وحياة الله" ، وقول المرأة لزوجها : "حرام علي ربنا أن تفعل كذا" ، وقولهم : "حد الله بيني وبينك" ؟
فأجاب بقوله : أما صيغة القسم بقول الإنسان : "وحياة الله" فهذه لا بأس بها ؛ لأن القسم يكون بالله – سبحانه وتعالى- وبأي اسم من أسمائه ، ويكون كذلك بصفاته كالحياة ، والعلم ، والعزة والقدرة وما أشبه ذلك فيجوز أن يقول الحالف : وحياة الله، وعلم الله ، وعزة الله ، وقدرة الله، وما أشبه هذا مما يكون من صفات الله – سبحانه وتعالى – كما يجوز القسم بالقرآن الكريم لأنه كلام الله ، وبالمصحف لأنه مشتمل على كلام الله – سبحانه وتعالى-.
أما قول تلك المرأة : "حرام على ربنا" فإذا كانت تقصد أن الله حرام عليها فهذا لا معنى له ، ولا يجوز مثل هذا الكلام ، فما معنى هذا التحريم ؟ هل معناه عبادة الله حرام عليها ؟ لا أدري مامعنى هذا الكلام .(76/6)
أما إذا كانت تريد حرام علي هذا الشيء ، وحرام علي أن لا تفعل أنت هذا الشيء وتقصد بربنا أي يا ربنا فهذه صيغة لتحريم الشيء ، والشيء إذا حرم وقصد به الإنسان الامتناع عنه صار بمنزلة اليمين كما قال الله – عز وجل-: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم .قد فرض الله لكم تحله أيمانكم } (1) .فجعل الله هذا التحريم يميناً وقال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } (2) فالإنسان إذا قال : هذا حرام علي، أو حرام علي إن لم أفعل كذا وقصده بذلك الامتناع عن هذا الشيء فحكمه حكم اليمين بمعنى أن نقول كأنك قلت : "والله لا أفعل هذا الشيء ،أو والله لا ألبس هذا الثوب ، أو والله لا آكل هذا الطعام" فإذا حنث كفر كفارة يمين .
وأما بالنسبة للصيغة الثالثة: "حد الله بيني وبينك" فهذا كأنه من باب الاستعاذة بالله – عز وجل- والاستعاذة بالله أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن يجاب الإنسان عليها بمعنى أنه إذا استعاذ الرجل بالله – عز وجل – وجب علينا أن نعيذه ، إلا إذا كان ظالماً في هذه الاستعاذة فإن الله – سبحانه وتعالى – لا يجيره إذا كان ظالماً مثل لو أردنا أن نأخذ الزكاة من شخص لا يؤديها فقال: أعوذ بالله منكم ، فإننا لا نعيذه لأن إعاذته مقتضاها إقراره على معصية الله – عز وجل- والله- سبحانه وتعالى- لا يرضى ذلك فإذا كان الله لا يرضاه فنحن لا نوافقه عليه ، فالمهم أن من استعاذ بالله – سبحانه وتعالى- فإننا مأمورون بإعاذته وتجنبه ما لم يستعذ بالله من أمر واجب عليه يخاف أن نلزمه به فإننا لا نعيذه في هذه الحال. والله المستعان.
(284) وسئل – حفظه الله تعالى -:عن حكم الحلف بالنبي، صلى الله عليه وسلم، والكعبة ؟ والشرف والذمة ؟ وقول الإنسان "بذمتي" ؟(76/7)
فأجاب بقوله : الحلف بالنبي ، عليه الصلاة والسلام ، لا يجوز بل هو نوع من الشرك ، وكذلك الحلف بالكعبة لا يجوز بل هو نوع من الشرك ، لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والكعبة كلاهما مخلوقان والحلف بأي مخلوق نوع من الشرك.
وكذلك الحلف بالشرف لا يجوز ، وكذلك الحلف بالذمة لا يجوز ، لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" . وقال ، صلى الله عليه وسلم : "لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت".
لكن يجب أن نعلم أن قول الإنسان : "بذمتي" لا يراد به الحلف ولا القسم بالذمة ، وإنما يراد بالذمة العهد ، يعني هذا على عهدي ومسؤوليتي هذا هو المراد بها ، أما إذا أراد بها القسم فهي قسم بغير الله فلا يجوز ، لكن الذي يظهر لي أن الناس لا يريدون بها القسم إنما يريدون بالذمة العهد والذمة بمعنى العهد.
(285) وسئل : عن قول الإنسان : "والله وحياتك" ؟
فأجاب قائلاً : قوله : "والله وحياتك" فيها نوعان من الشرك:
الأول : الحلف بغير الله.
الثاني: الإشراك مع الله بقوله : " والله وحياتك " وضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية .
والقسم بغير الله إن اعتقد أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة فهو شرك أكبر وإلا فهو شرك أصغر.
(286) وسئل فضيلته : عن حكم القسم بصفة من صفات الله تعالى ؟
فأجاب قائلاً : القسم بصفة من صفات الله – تعالى – جائز مثل أن تقول : وعزة الله لأفعلن ، وقدرة الله لأفعلن وما أشبه ذلك ، وقد نص على هذا أهل العلم حتى قالوا : إنه لو أقسم بالمصحف لكان جائزاً لأن المصحف مشتمل على كلام الله وكلام الله من صفاته.
(287) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم عن من لم يقتنع بالحلف بالله؟
فأجاب قائلاً : من لم يقتنع بالحلف بالله فلا يخلو ذلك من أمرين:(76/8)
الأمر الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف فيجب الرضا بهذا الحكم الشرعي.
الأمر الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية ، ففي هذا تفصيل:
أولاً : إذا كان الحالف موضع صدق وثقة فإنك ترضى بيمينه.
ثانياً : إذا كان غير ذلك أن ترفض الرضا بيمينه ،ولهذا لما قال النبي ،صلى الله عليه وسلم ، لحويصة ومحيصة : "تبرئكم يهود بخمسين يميناً" قالوا : كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟ فأقرهم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، على ذلك.
(288) وسئل فضيلة الشيخ : عما يقول :ه بعض الناس : "أنا نصراني لو فعلت كذا . . " ؟
فأجاب بقوله : هذا من باب اليمين فحكمه حكم اليمين ، إذا حنث فيه يكفر كفارة يمين إذا تمت شروط الكفارة ، لكن ينبغي للإنسان أن يحلف بالله – عز وجل – لأن بعض الناس يظن أن هذه العبارة أوكد من الحلف بالله ، فيريد أن يؤكد ما يقول بمثل هذه العبارة،ولكننا نقول: يفعل ما أرشد إليه النبي،عليه الصلاة والسلام، في قوله:"من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت".
---
(1) سورة يس ، الآية "82" .
(1) سورة آل عمران ، الآية "7".
(1) سورة التحريم ، الآيتان "1-2".
(2) سورة التحريم ، الآية "2" .(76/9)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
القبور
محمد بن صالح العثيمين
( 289) سئل فضيلة الشيخ: عمن يعبد القبور بالطواف حولها ودعاء أصحابها والنذر لهم إلى غير ذلك من أنواع العبادة؟ .
فأجاب بقوله : هذا السؤال سؤال عظيم ، وجوابه يحتاج إلى بسط بعون الله – عز وجل – فنقول : إن أصحاب القبور ينقسمون إلى قسمين :
القسم الأول:قسم توفي على الإسلام ويثني الناس عليه خيراً فهذا يرجى له الخير، ولكنه مفتقر إلى إخوانه المسلمين يدعون الله له بالمغفرة والرحمة وهو داخل في عموم قوله – تعالى - : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } (1). وهو بنفسه لا ينفع أحداً إذ إنه ميت جثة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر ولا عن غيره ، ولا أن يجلب لنفسه النفع ولا لغيره فهو محتاج إلى نفع إخوانه غير نافع لهم.
القسم الثاني من أصحاب القبور: من أفعاله تؤدي إلى فسقه الفسق المخرج من الملة كأولئك الذين يدعون أنهم أولياء ، ويعلمون الغيب ويشفون من المرض ، ويجلبون الخير والنفع بأسباب غير معلومة حساً ولا شرعاً ، فهؤلاء الذين ماتوا على الكفر، لا يجوز الدعاء لهم ولا الترحم عليهم لقول الله – تعالى - : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } (1) وهم لا ينفعون أحداً ولا يضرونه ولا يجوز لأحد أن يتعلق بهم ، وإن قدر أن أحداً رأى كرامات لهم مثل أن يتراءى له أن في قبورهم نوراً ، أو أنه يخرج منها رائحة طيبة أو ما أشبه ذلك وهم معروفون بأنهم ماتوا على الكفر فإن هذا من خداع إبليس وغروره ليفتن هؤلاء بأصحاب هذه القبور.(77/1)
وإنني أحذر إخواني المسلمين من أن يتعلقوا بأحد سوى الله – عز وجل – فإنه – سبحانه وتعالى – هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، ولا يجيب دعوة المضطر إلا الله ، ولا يكشف السوء إلا الله ، قال – تعالى - : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } (2) . ونصيحتي لهم أيضاً أن لا يقلدوا في دينهم ولا يتبعوا أحداً إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لقول الله – تعالى - : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } (3) ولقوله – تعالى - : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (4).
ويجب على جميع المسلمين أن يزنوا أعمال من يدعي الولاية بما جاء في الكتاب والسنة فإن وافق الكتاب والسنة فإنه يرجى أن يكون من أولياء الله وإن خالف الكتاب والسنة فليس من أولياء الله وقد ذكر الله في كتابه ميزاناً قسطاً عدلاً في معرفة أولياء الله حيث قال : { ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون } (1) فمن كان مؤمناً تقياً كان لله وليّاً ، ومن لم يكن كذلك فليس بولي لله، وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيء من الولاية، ومع ذلك فإننا لا نجزم لشخص بعينه بشيء ولكننا نقول على سبيل العموم: كل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً .(77/2)
وليعلم أن الله – عز وجل – قد يفتن الإنسان بشيء من مثل هذه الأمور فقد يتعلق الإنسان بالقبر فيدعو صاحبه أو يأخذ من ترابه يتبرك به فيحصل مطلوبه ويكون ذلك فتنة من الله – عز وجل – لهذا الرجل لأننا نعلم أن هذا القبر لا يجيب الدعاء وأن هذا التراب لا يكون سبباً لزوال ضرر أو جلب نفع نعلم ذلك لقول الله – تعالى - : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءا وكانوا بعبادتهم كافرين } (2) وقال – تعالى - : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون .أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } (3) . والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على أن كل من دعي من دون الله فلن يستجيب الدعاء ولن ينفع الداعي ، ولكن قد يحصل المطلوب المدعو به عند دعاء غير الله فتنة وامتحاناً ونقول : إنه حصل هذا الشيء عند الدعاء – أي عند دعاء هذا الذي دعي من دون الله – لا بدعائه وفرق بين حصول الشيء بالشيء ، وبين حصول الشيء عند الشيء فإننا نعلم علم اليقين أن دعاء غير الله ليس سبباً لجلب النفع أو دفع الضرر بالآيات الكثيرة التي ذكرها الله – عز وجل – في كتابه ولكن قد يحصل الشيء عند هذا الدعاء فتنة وامتحاناً ، والله- تعالى – قد يبتلي الإنسان بأسباب المعصية ليعلم ، - سبحانه وتعالى – من كان عبداً لله ومن كان عبداً لهواه ، إلا ترى إلى أصحاب السبت من اليهود حيث حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان في يوم السبت فابتلاهم الله – عز وجل – فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة عظيمة وفي غير يوم السبت تختفي فطال عليهم الأمد ، وقالوا : كيف نحرم أنفسنا من هذه الحيتان ثم فكروا وقدروا ونظروا فقالوا : نجعل شبكة ونضعها يوم الجمعة ونأخذ الحيتان منها يوم الأحد، فأقدموا على هذا الفعل الذي هو حيلة على محارم الله فقلبهم الله قردة خاسئين قال الله – تعالى - : {(77/3)
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } (1) وقال عز وجل-: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين . فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } (2) . فانظر كيف يسر الله لهم هذه الحيتان في اليوم الذي منعوا من صيدها فيه ولكنهم – والعياذ بالله – لم يصبروا فقاموا بهذه الحيلة على محارم الله.
ثم انظر إلى ما حصل لأصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، حيث ابتلاهم الله – تعالى – وهم محرمون بالصيود المحرمة على المحرم فكانت في متناول أيديهم ولكنهم – رضي الله عنهم – لم يجرؤوا على شيء منها قال الله – تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } (1). كانت الصيود في متناول أيديهم يمسكون الصيد العادي باليد وينالون الصيد الطائر بالرماح فيسهل عليهم جداً ، ولكنهم – رضي الله عنهم – خافوا الله – عز وجل – فلم يقدموا على أخذ شيء من الصيود. وهكذا يجب على المرء إذا هيئت له أسباب الفعل المحرم أن يتقي الله – عز وجل – وأن لا يقدم على فعل هذا المحرم وأن يعلم أن تيسير أسبابه من باب الابتلاء والامتحان فليحجم وليصبر فإن العاقبة للمتقين.
(290) وسئل - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء : عن حكم النذر والتبرك بالقبور ، والأضرحة؟ .
فاجاب – حفظه الله تعالى- بقوله : النذر عبادة لا يجوز إلا لله – عز وجل – وكل من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله فهو مشرك كافر ، قد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، قال الله – تعالى - : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (2) .(77/4)
وأما التبرك بها : فإن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله – عز وجل – فهذا شرك في الربوبية مخرج عن الملة ، وإن كان يعتقد أنها سبب وليست تنفع من دون الله فهو ضال غير مصيب ، وما اعتقده فإنه من الشرك الأصغر ، فعلى من ابتلي بمثل هذه المسائل أن يتوب إلى الله – سبحانه وتعالى – وأن يقلع عن ذلك قبل أن يفاجئه الموت ، فينتقل من الدنيا على أسوأ حال ، وليعلم أن الذي يملك الضر والنفع هو الله – سبحانه وتعالى – وأنه هو ملجأ كل أحد ، كما قال الله – تعالى - : { أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } (1)[1][1]، وبدلاً من أن يتعب نفسه في الالتجاء إلى قبر فلان وفلان ، ممن يعتقدونهم أولياء ، ليلتفت إلى ربه- عز وجل- وليسأله جلب النفع ودفع الضر ، فإن الله – سبحانه وتعالى – هو الذي يملك هذا.
(291) سئل فضيلة الشيخ : كيف نجيب عباد القبور الذين يحتجون بدفن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في المسجد النبوي؟.
فأجاب بقوله : الجواب عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن المسجد لم يبن على القبر بل بني في حياة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، .
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم – لم يدفن في المسجد حتى يقال : إن هذا من دفن الصالحين في المسجد؛ بل دفن ، صلى الله عليه وسلم ، في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول ، صلى الله عليهم وسلم ، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق الصحابة بل بعد أن انقرض أكثرهم ، وذلك في عام أربعة وتسعين هجرية تقريباً ، فليس مما أجازه الصحابة ؛ بل إن بعضهم خالف في ذلك وممن خالف أيضاً سعيد بن المسيب .(77/5)
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله ، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد فليس المسجد مبنياً عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظاً ومحوطاً بثلاثة جدران ، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي إنه مثلث، والركن في الزاوية الشمالية حيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف ، وبهذا يبطل احتجاج أهل القبور بهذه الشبهة.
(292) سئل فضيلة الشيخ:عن رجل بنى مسجداً وأوصى أن يدفن فيه فدفن فما العمل الآن؟.
فأجاب بقوله : هذه الوصية أعني الوصية أن يدفن في المسجد غير صحيحة ، لأن المساجد ليست مقابر ، ولا يجوز الدفن في المسجد ، وتنفيذ هذه الوصية محرم ، والواجب الآن نبش هذا القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين.
(293) وسئل فضيلته : عن حكم البناء على القبور؟ .
فأجاب بقوله : البناء على القبور محرم وقد نهى عنه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لما فيه من تعظيم أهل القبور وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلهة مع الله كما هو الشأن في كثيرمن الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور، ويدعونها مع الله – تعالى – ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لكشف الكربات شرك أكبر وردة عن الإسلام. والله المستعان.
(294) وسئل الشيخ – حفظه الله – تعالى : عن حكم دفن الموتى في المساجد؟ .(77/6)
فأجاب قائلاً : الدفن في المساجد نهى عنه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن اتخاذ المساجد على القبور ولعن من اتخذ ذلك وهو في سياق الموت يحذر أمته ويذكر ، صلى الله عليه وسلم ، أن هذا من فعل اليهود والنصارى ، ولأن هذا وسيلة إلى الشرك بالله – عز وجل- لأن إقامة المساجد على القبور ودفن الموتى فيها وسيلة إلى الشرك بالله- عز وجل- في أصحاب هذه القبور فيعتقد الناس أن أصحاب هذه القبور المدفونين في المساجد ينفعون أو يضرون أو أن لهم خاصية تستوجب أن يتقرب إليهم بالطاعات من دون الله – سبحانه وتعالى – فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الظاهرة الخطيرة وأن تكون المساجد خالية من القبور مؤسسة على التوحيد والعقيدة الصحيحة قال الله – تعالى- : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (1) فيجب أن تكون المساجد لله- سبحانه وتعالى – خالية من مظاهر الشرك تؤدى فيها عبادة الله وحده لا شريك له هذا هو واجب المسلمين . والله الموفق .
(295) وسئل : عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فأجاب بقوله : إذا كان هذا المسجد مبنياً على القبر فإن الصلاة فيه محرمة ويجب هدمه لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تحذيراً مما صنعوا.
وأما إذا كان المسجد سابقاً على القبر فإنه يجب إخراج القبر من المسجد ويدفن فيما يدفن فيه المسلمون ، ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر لأنه دفن في مكان لا يحل أن يدفن فيه فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها.
والصلاة في المسجد إذا كان سابقاً على القبر صحيحة بشرط ألا يكون القبر في ناحية القبلة فيصلي الناس إليه لأن النبي ، صلى عليه وسلم ، نهى عن الصلاة إلى القبور وبالإمكان إذا لم يتمكنوا من نبش القبر أن يهدموا سور المسجد.
(296) وسئل فضيلة الشيخ : عن المراد بقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً"؟ .(77/7)
فأجاب بقوله : اختلف في المعنى المراد بقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" على قولين:
القول الأول : أن المعنى لا تدفنوا فيها موتاكم وهذا ظاهر اللفظ ، ولكنه أورد على ذلك دفن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في بيته . وأجيب بأنه من خصائصه .
القول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا البيوت مثل المقابر لا تصلون فيها ؛ لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها ، ويؤيده ما جاء في بعض الطرق "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ، ولا تجعلوها قبوراً" .
وكلا المعنيين صحيح فإن الدفن في البيوت وسيلة إلى الشرك ، ولأن العادة المتبعة من عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى يومنا أن الدفن مع المسلمين ، ولأنه يضيق على الورثة وربما يستوحشون منه، وقد يحدث عنده من الأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع وهو تذكير الآخرة. وفي هذا الحديث دليل على أن المقابر ليست محلاً للصلاة ؛ لأن اتخاذ المقابر مكاناً للصلاة سبب للشرك .
والحديث يدل أيضاً على أن الأفضل أن المرء يجعل من صلاته في بيته ، وذلك جميع النوافل لقوله ، صلى الله عليه وسلم : "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" إلا ما ورد في الشرع أن يفعل في المسجد مثل صلاة الكسوف ، وقيام الليل في رمضان ، حتى ولو كانت في مكة أو المدينة فإن صلاة النافلة في بيتك أفضل لعموم الحديث ، ولأن النبي ، صلى الله عليه وسلم، قال ذلك وهو في المدينة.
(297) وسئل أيضاً : عن حكم إضاءة مقامات الأولياء ونذر ذلك؟ .(77/8)
فأجاب فضيلته : إضاءة مقامات الأولياء والأنبياء التي يريد بها السائل قبورهم هذه الإضاءة محرمة وقد ورد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعن فاعليها فلا يجوز أن تضاء هذه القبور وفاعل ذلك ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا إذا نذر الإنسان إضاءة هذا القبر فإن نذره محرم وقد قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" . فلا يجوز له أن يفي بهذا النذر.
ولكن هل يجب عليه أن يكفر كفارة يمين لعدم وفائه بنذره أو لا يجب؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم ، والاحتياط أن يكفر كفارة يمين عن عدم وفائه بهذا النذر . والله أعلم.
(298) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم إسراج المقابر؟ .
فأجاب بقوله : المقبرة التي لا يحتاج الناس إليها كما لو كانت المقبرة واسعة ، وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه فلا حاجة إلى إسراجه، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله فقد يقال : بجوازه لأنها لا تسرج إلا بالليل فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر بل اتخذت للحاجة . ولكن الذي نرى المنع مطلقاً للأسباب الآتية :
السبب الأول : أنه ليس هناك ضرورة .
السبب الثاني : أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك فيمكنهم أن يحملوا سراجاً معهم.
السبب الثالث: أنه إذا فتح هذا الباب فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه ، فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور ، والإضاءة داخلة لا تشاهد.
(299) وسئل فضيلته : عن حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ؟(77/9)
فأجاب بقوله : شد الرحال إلى زيارة القبور أيّاً كانت هذه القبور لا يجوز لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم يقول : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى" والمقصود بهذا أنه لا تشد الرحال إلى أي مكان في الأرض لقصد العبادة بهذا الشد ، لأن الأمكنة التي تخصص بشد الرحال هي المساجد الثلاثة فقط وما عداها من الأمكنة لا تشد إليها الرحال فقبر النبي ، صلى الله عليه وسلم، لا تشد الرحال إليه وإنما تشد الرحال إلى مسجده فإذا وصل المسجد فإن الرجال يسن لهم زيارة قبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأما النساء فلا يسن لهن زيارة قبر النبي ، صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
(300) سئل فضيلة الشيخ : هناك مسجد في اليمن يقال : إنه مسجد معاذ بن جبل المشهور بمسجد الجند ، ويأتي الناس لزيارته في الجمعة من شهر رجب من كل سنة رجالاً ونساء فما حكم هذا العمل وما نصيحتكم لهؤلاء؟ .
فأجاب بقوله : هذا غير مسنون لأمور:
أولاً : لأنه لم يثبت أن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – حين بعثه النبي ، صلى الله عليه وسلم،إلى اليمن اختط مسجداً له هناك ، وإذا لم يثبت ذلك فإن دعوى أن هذا المسجد له دعوى بغير بينة ، وكل دعوى بغير بينة فإنها غير مقبولة.
ثانياً : لو ثبت أن معاذ بن جبل اختط مسجداً هناك فإنه لا يشرع إتيانه وشد الرحل إليه ، بل شد الرحل إلى مساجد غير المساجد الثلاثة منهي عنه ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد :المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى" .(77/10)
ثالثاً : أن تخصيص هذا العمل بشهر رجب بدعة أيضاً فإن شهر رجب لم يخص بشيء من العبادات لا بصوم ولا بصلاة وإنما حكمه حكم الأشهر الحرم الأخرى ، والأشهر الحرم هي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم . هذه الأشهر التي قال الله – تعالى – عنها في كتابه : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } (1) ولم يثبت أن شهر رجب خص من بينها في شيء لا بصيام ولا بقيام ، فإذا خص الإنسان هذا الشهر بشيء من العبادات من غير أن يثبت ذلك عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كان مبتدعاً لقوله ، صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة" . فنصيحتي لإخوتي هؤلاء الذين يقومون بهذا العمل في الحضور إلى المسجد الذي يزعم أنه مسجد معاذ في اليمن أن لا يتعبوا أنفسهم ويتلفوا أموالهم ويضيعوها في هذا الأمر الذي لا يزيدهم من الله إلا بعداً ونصيحتي لهم أن يصرفوا همهم إلى ماثبتت مشروعيته في كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم ، وهذا كافٍ للمؤمن ، والله الموفق.
(301) سئل فضيلة الشيخ : هل استجاب الله دعوة نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد أو اقتضت حكمته غير ذلك؟ .
فأجاب بقوله : يقول : ابن القيم : إن الله استجاب له فلم يذكر أن قبره ، صلى الله عليه وسلم ، جعل وثناً ، بل إنه حمي قبره بثلاثة جدران فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثناً يعبد من دون الله ، ولم نسمع في التاريخ أنه جعل وثناً .
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه ، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثناً . ولكن قد يعبدون الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ولو في مكان بعيد .(77/11)
(302) وسئل فضيلته : عن رجل توفي وبعد مدة رآه رجل في المنام وطلب منه أن يخرجه من القبر ويبني له مقاماً ففعل فما حكم هذا العمل؟ .
فأجاب قائلاً : الحكم في هذا أنه فعل محرم ، وأن المرائي التي ترى في المنام إذا كانت مخالفة للشرع فإنها باطلة ، وهي من ضرب الأمثلة التي يضربها الشيطان ومن وحي الشيطان فلا يجوز تنفيذها أبداً ، لأن الأحكام الشرعية لا تتغير بالمنامات ، والواجب عليهم الآن أن يهدموا هذا المقام الذي بنوه له وأن يردوه إلى مقابر المسلمين.
ونصيحتي لهؤلاء وأمثالهم أن يعرضوا كل ما رأوه في المنام على الكتاب والسنة ، فما خالف الكتاب والسنة ، فمطروح مردود ولا عبرة به، ولا يجوز للإنسان أن يعتمد في أمور دينه على هذه المرائي الكاذبة ؛ لأن الشيطان أقسم بعزة الله – عز وجل – أن يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ، فمن كان مخلِصاً لله ومخلَصاً له، متبعاً لدينه مبتغياً لدينه فإنه يسلم من إغواء الشيطان وشره ، وأما من كان خلاف ذلك فإن الشيطان يتلاعب به في عبادته ، وفي اعتقاداته ، وفي أفكاره ، وفي أعماله ، فليحذره يقول : الله – عز وجل - : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوّاً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } (1).
(303) سئل فضيلة الشيخ: عن مقبرة قديمة أصبحت طريقاًَ للناس والبهائم كيف يعمل بها؟(77/12)
فأجاب بقوله : أود أن أبين بهذه المناسبة أن لأصحاب القبور حقوقاً لأنهم مسلمون ، ولهذا نهى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن يوطأ على القبر وأن يجلس عليه وقال : "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" وكما نهى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن امتهان القبور فإنه نهى أيضاً عن تعظيمها بما يفضي إلى الغلو والشرك ، فنهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يكتب عليه . وهذه القضية التي ذكرت في السؤال المقبرة القديمة التي أصبحت ممراً وطريقاً للمشاة والسيارات ومرعى للبهائم يجب أن يرفع أمرها إلى ولاة الأمور لاتخاذ اللازم في حمايتها وصيانتها وفتح طرق حولها يعبر الناس منها إلى الجهات الأخرى.
(304) سئل فضيلة الشيخ : هل يشرع للإنسان أن يقول : :
"اللهم اجعلني لقبر نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم ، من الزائرين" أو يقول : : "لمسجد نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم ، من الزائرين؟" .
فأجاب قائلاً : المشروع أن يقول : لمسجده ، صلى الله عليه وسلم ، من الزائرين ؛ لأن مسجده هو الذي تشد إليه الرحال وليس قبره ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى".(77/13)
وها هنا نقطة أحب أن أنبه عليها وهي : أن كثيراً من الناس يتشوقون إلى زيارة قبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أكثر مما يتشوقون إلى زيارة مسجده،بل أكثر مما يتشوقون إلى زيارة الكعبة ،بيت الله – عز وجل –وهذا من الضلال البين ،فإن حق النبي ،صلى الله عليه وسلم ، لا يشك أحد أنه دون حق الله – تعالى – فالرسول ، عليه الصلاة والسلام ، بشر مرسل من عند الله ، ولولا أن الله اجتباه برسالته ،لم يكن له من الحق هذا الحق الذي يفوق حق كل بشر، أما أن يكون مساوياً لحق الله- عز وجل- أو يكون في قلب الإنسان محبة لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،تزيد على محبة الله ، فإن هذا خطأ عظيم ، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله ، وتعظيمنا له ، صلى الله عليه وسلم ، تابع لتعظيم الله – عز وجل – وهو دون تعظيم الله – تعالى – ولهذا نهى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن نغلو فيه وأن نجعل له حقاً مساوياً لحق الله – عز وجل – فقد قال له رجل مرة : ما شاء الله وشئت . فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم، : "أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" .
والخلاصة : أنه يجب على الإنسان أن يكون تعظيم الله – تعالى – ومحبته في قلبه أعظم من محبة وتعظيم كل أحد ، وأن تكون محبة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وتعظيمه في قلبه أعظم من محبة وتعظيم كل مخلوق، وأما أن يساوي بين حق الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وحق الله – تعالى – فيما يختص الله به فهذا خطأ عظيم.
(305) وسئل حفظه الله تعالى : عن رجل حفر لتأسيس بيته فوجد عظاماً فأخرجها فما حكم عمله هذا؟ .(77/14)
فأجاب قائلاً :إذا تيقن أو غلب على ظنه أنها عظام موتى مسلمين فإنه لا يجوز له نقل العظام، وأصحاب القبور أحق بالأرض منه ، لأنهم لما دفنوا فيها ملكوها ، ولا يحل له أن يبني بيته على قبور المسلمين ، ويجب عليه إذا تيقن أن هذا المكان فيه قبور أن يزيل البناء ، وأن يدع القبور لا بناء عليها . وفي مثل هذه الحال الواجب مراجعة ولاة الأمور.
( 306) وسئل رعاه الله بمنه وكرمه : هل ترد أرواح الموتى إليهم يومي الاثنين والخميس ليردوا السلام على الزوار؟ .
فأجاب بقوله : هذا لا أصل له وزيارة المقابر مشروعة كل وقت لقول النبي ، صلى الله عليه وسل،: "زوروا القبور فإنهم تذكركم الآخرة" . وينبغي للزائر أن يفعل ما كان يفعله النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من السلام عليهم دون القراءة فقد كان مما يقوله ،صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم" . ولا تنبغي القراءة على القبر لأن ذلك لم يرد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وما لم يرد عنه فإنه لاينبغي للمؤمن أن يعمله .
واعلم ان المقصود بالزيارة أمران:
أحدهما : انتفاع الزائر بتذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ ، فإن هؤلاء القوم الذين هم الآن في بطن الأرض ، كانوا بالأمس على ظهرها وسيجري لهذا الزائر ما جرى لهم ، فيعتبر ويغتنم الأوقات والفرص ، ويعمل لهذا اليوم الذي سيكون في هذا المثوى الذي كان عليه هؤلاء .(77/15)
وثانيهما : الدعاء لأهل القبور بما كان الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يدعو به من السلام وسؤال الرحمة ، وأما أن يسأل الأموات ويتوسل بهم فإن هذا محرم ومن الشرك ؛ ولا فرق في هذا بين قبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وقبر غيره فإنه لا يجوز أن يتوسل أحد بقبر النبي ، عليه الصلاة والسلام ، أو بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، بعد موته فإن هذا من الشرك
لأنه لو كان هذا حقاً لكان أسبق الناس إليه الصحابة- رضي الله عنهم- ومع ذلك فإنهم لا يتوسلون به بعد موته فقد استسقى عمر –رضي الله عنه – ذات يوم فقال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" ثم قام العباس – رضي الله عنه – فدعا وهذا دليل على أنه لا يتوسل بالميت مهما كانت درجته ومنزلته عند الله – تعالى – وإنما يتوسل بدعاء الحي الذي ترجى إجابة دعوته ؛ لصلاحه واستقامته في دين الله – عز وجل – فإذا كان الرجل ممن عرف بالدين والاستقامة وتوسل بدعائه، فإن هذا لا بأس به كما فعل أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه - ، وأما الأموات فلا يتوسل بهم أبداً ، ودعاؤهم شرك أكبر مخرج من الملة قال الله – تعالى - : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (1).
(307) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : هل المسلم إذا ألقى السلام على الميت في قبره يرد الله عليه روحه ويرد السلام؟
فأجاب -حفظه الله- بقوله : هذا الذي ذكره السائل جاء فيه حديث مرفوع صححه ابن عبد البر وهو أنه "ما من مسلم يمر بقبر رجل مسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد عليه روحه فرد عليه السلام" .
(308) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله -: عن حكم زيارة المقابر ؟ وحكم قراءة الفاتحة عند زيارتها ؟ وحكم زيارة النساء للقبور؟.(77/16)
فأجاب بقوله: زيارة القبور سنة أمر بها النبي ، صلى الله عليه وسلم ،بعد أن نهى عنها كما ثبت ذلك عنه ، صلى الله عليه وسلم ، في قوله : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" رواه مسلم. فزيارة القبور للتذكر والاتعاظ سنة ، فإن الإنسان إذا زار هؤلاء الموتى في قبورهم ، وكان هؤلاء بالأمس معه على ظهر الأرض يأكلون كما يأكل ، ويشربون كما يشرب ، ويتمتعون بدنياهم وأصبحوا الآن رهناً لأعمالهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر فإنه لا بد أن يتعظ ويلين قلبه ويتوجه إلى الله – عز وجل – بالإقلاع عن معصيته إلى طاعته.
وينبغي لمن زار المقبرة أن يدعو بما كان النبي ، صلى الله عليه وسلم يدعو به وعلمه أمته: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم" يقول : هذا الدعاء.
ولم يرد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور وعلى هذا فقراءة الفاتحة عند زيارة القبور خلاف المشروع عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ،.
وأما زيارة القبور للنساء فإن ذلك محرم لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، فلا يحل للمرأة أن تزور المقبرة هذا إذا خرجت من بيتها لقصد الزيارة ، أما إذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة فلا حرج عليها أن تقف وأن تسلم على أهل المقبرة بما علمه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أمته ، فيفرق بالنسبة للنساء بين من خرجت من بيتها لقصد الزيارة ،ومن مرت بالمقبرة بدون قصد فوقفت وسلمت، فالأولى التي خرجت من بيتها للزيارة قد فعلت محرماً وعرضت نفسها للعنة الله –عز وجل– وأما الثانية فلا حرج عليها .(77/17)
(309) وسئل فضيلة الشيخ : هناك من يزور القبور ويدعو الأموات وينذر لهم ويستغيث بهم ويستعين بهم لأنهم كما يزعم أولياء لله فما نصيحتكم لهم؟ .
فأجاب بقوله : نصيحتنا لهؤلاء وأمثالهم أن يرجع الإنسان إلى عقله وتفكيره ، فهذه القبور التي يزعم أن فيها أولياء تحتاج:
أولاً : إلى إثبات أنها قبور إذ قد يوضع شيء يشبه القبر ويقال : هذا قبر فلان كما حدث ذلك مع أنه ليس بقبر.
ثانياً : إذا ثبت أنها قبور فإنه يحتاج إلى إثبات أن هؤلاء المقبورين كانوا أولياء لله لأننا لا نعلم هل هم أولياء لله أم أولياء للشيطان.
ثالثاً : إذا ثبت أنهم من أولياء الله فإنهم لا يزارون من أجل التبرك بزيارتهم ، أو دعائهم ، أو الاستغاثة بهم ، والاستعانة بهم ، وإنما يزارون كما يزار غيرهم للعبرة والدعاء لهم فقط ، على أنه إن كان في زيارتهم فتنة أو خوف فتنة بالغلو فيهم ، فإنه لا تجوز زيارتهم دفعا للمحظور ودرءاً للمفسدة.
فأنت أيها الإنسان حكم عقلك ، فهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها لا بد أن تتحقق وهي:
ا- ثبوت القبر.
ب- ثبوت أنه ولي .
ج- الزيارة لأجل الدعاء لهم.فهم في حاجة إلى الدعاء مهما كانوا فهم لاينفعون ولا يضرون ، ثم إننا قلنا : إن زيارتهم من أجل الدعاء لهم جائزة مالم تستلزم محظوراً.
أما من زارهم ونذر لهم وذبح لهم أو استغاث بهم ، فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة ، يكون صاحبه به كافراً مخلداً في النار.
(310) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عن حكم الدين في بناء المقابر بالطوب والأسمنت فوق ظهر الأرض؟ .(77/18)
فأجاب -حفظه الله – بقوله : أولاً أنا أكره أن يوجه للشخص مثل هذا السؤال بأن يقال :: ما حكم الدين، ما حكم الإسلام وما أشبه ذلك لأن الواحد من الناس لا يعبر عن الإسلام إذ قد يخطئ ويصيب ونحن إذا قلنا : إنه يعبر عن الإسلام معناه أنه لا يخطئ ، لأن الإسلام لا خطأ فيه ، فالأولى في مثل هذا التعبير أن يقال : ما ترى في حكم من فعل كذا وكذا أو ما ترى فيمن فعل كذا وكذا ، أو ما ترى في الإسلام هل يكون كذا وكذا حكمه ، المهم أن يضاف السؤال إلى المسؤول فقط.
أما بالنسبة لما أراه في هذه المسألة فهو أنه لا يجوز أن يبنى على القبور فقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، " أنه نهى عن البناء على القبور ونهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه" . فالبناء على القبور محرم لأنه وسيلة إلى أن تعبد ويشرك بها مع الله – عز وجل- .
(311) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – : عندنا عدد من المساجد بأسماء الأنبياء مثل جامع النبي يونس وغيره من الجوامع ويوجد داخل المسجد مرقد ذلك النبي ويذهب الناس ويصلون في داخل هذه المساجد وفي الحديث الذي ما معناه "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ما حكم عملهم هذا؟ .
فأجاب – حفظه الله – بقوله : تسمية المساجد بأسماء الأنبياء لا ينبغي لأن هذا إنما يتخذ على سبيل التقرب إلى الله-عز وجل- أو التبرك بأسماء الأنبياء ،والتقرب إلى الله بما لم يشرعه ، والتبرك بما لم يجعله الله سبباً للبركة لا ينبغي ، بل هو نوع من البدع .(77/19)
وأما كون قبور الأنبياء في هذه المساجد فإنه كذب لا أصل له فلا يعلم قبر أحد من الأنبياء سوى قبر النبي، صلى الله عليه وسلم ،وقبور الأنبياء كلها مجهولة فمن زعم أن مسجد النبي يونس كان مرقد يونس أو كان قبر يونس فإنه قد قال قولاً بلا علم ، وكذلك بقية المساجد أو الأماكن التي يقال عنها : إن فيها شيئاً من قبور الأنبياء فإن هذا قول بلا علم وأما صحة الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور فإن كان القبر سابقاً على المسجد بأن بني المسجد على القبر فإن الصلاة فيه لا تصح ويجوز هدم المسجد لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ،قال: " قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا" وأما إذا كان المسجد سابقاً على القبر بأن كان المسجد قائماً مبنياً ثم دفن فيه أحد فإنه يجب أن ينبش القبر وأن يدفن فيما يدفن فيه الناس.
والصلاة في هذا المسجد السابق على القبر صحيحة إلا إذا كان القبر تجاه المصلين فإن الصلاة إلى القبور لا تصح – كما في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي – أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" .
(312) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عن حكم التبرك بالقبور والطواف حولها بقصد قضاء حاجة أو تقرب وعن حكم الحلف بغير الله ؟ .(77/20)
فأجاب بقوله : التبرك بالقبور حرام ونوع من الشرك وذلك لأنه إثبات تأثير شيء لم ينزل الله به سلطاناً ولم يكن من عادة السلف الصالح أن يفعلوا مثل هذا التبرك فيكون من هذه الناحية بدعة أيضاً وإذا اعتقد المتبرك أن لصاحب القبر تأثيراً أو قدرة على دفع الضرر أو جلب النفع كان ذلك شركاً أكبر إذا دعاه لجلب المنفعة أو دفع المضرة . وكذلك يكون من الشرك الأكبر إذا تعبد لصاحب القبر بركوع أو سجود أو ذبح تقرباً له وتعظيماً له قال الله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برها ن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } (1) قال تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } (2) والمشرك شركاً أكبر كافر مخلد في النار والجنة عليه حرام لقوله تعالى: { إنه من يشرك باله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (3) .
وأما الحلف بغير الله فإن كان الحالف يعتقد أن للمحلوف به منزلة مثل الله تعالى فهو مشرك شركاً أكبر وإن كان لا يعتقد ذلك ولكن كان في قلبه من تعظيم المحلوف به ما حمله على أن يحلف به دون أن يعتقد أن له منزلة مثل منزلة الله فهو مشرك شركاً أصغر لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" .
ويجب الإنكار على من تبرك بالقبور أو دعا المقبور أو حلف بغير الله وأن يبين له أنه لن ينجيه من عذاب الله قوله : هذا شيء أخذنا عليه فإن هذه الحجة هي حجة المشركين الذين كذبوا الرسل وقالوا: { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } (1) فقال لهم الرسول: { أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } (2) قال الله تعالى : { فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } (3).(77/21)
ولا يحل لأحد أن يحتج لباطله بكونه وجد عليه آباءه أو بكونه عادة له ونحو ذلك ولو احتج بهذا فحجته داحضة عند الله تعالى لا تنفعه ولا تغني عنه شيئاً . وعلى الذين ابتلوا بمثل هذا أن يتوبوا إلى الله وأن يتبعوا الحق أينما كان وممن كان ومتى كان وأن لا يمنعهم من قبوله عادات قومهم أو لوم عوامهم فإن المؤمن حقاً هو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يصده عن دين الله عائق.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه وحمانا عما فيه سخطه وعقوبته.
---
(1) سورة الحشر ، الآية "10" .
(1) سورة التوبة ، الآيتان "113-114" .
(2) سورة النحل ، الآية "53" .
(3) سورة الأحزاب ، الآية "21".
(4) سورة آل عمران ، الآية "31" .
(1) سورة يونس ، الآيتان "62-63".
(2) سورة الأحقاف ، الآيتان "5 – 6".
(3) سورة النحل ، الآيتان "20-21".
(1) سورة الأعراف ، الآية "163".
(2) سورة البقرة ، الآية "65-66" .
(1) سورة المائدة ، الآية "94" .
(2) سورة المائدة ، الآية " 72 " .
(1) سورة النمل ، الآية " 62 " .
(1) سورة الجن ، الآية "18" .
(1) سورة التوبة ، الآية "36" .
(1) سورة فاطر ، الآية "6".
(1) سورة غافر ، الآية "60".
(1) سورة المؤمنون ، الآية "117" .
(2) سورة الكهف ، الآية " 110".
(3) سورة المائدة ، الآية "72" .
(1) سورة الزخرف ، الآية "23".
(2) سورة الزخرف ، الآية "24".
(3) سورة الزخرف ، الآية "25".(77/22)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
التصوير
محمد بن صالح العثيمين
(313) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم التصوير؟ وحكم اقتناء الصور وحكم الصور التي تمثل الوجه وأعلى الجسم؟ .
فأجاب- حفظه الله – بقوله : التصوير نوعان :
أحدهما : تصوير باليد .
والثاني : تصوير بالآلة .
فأما التصوير باليد فحرام بل هو كبيرة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لعن فاعله ، ولا فرق بين أن يكون للصورة ظل أو تكون مجرد رسم على القول الراجح لعموم الحديث ، وإذا كان التصوير هذا من الكبائر ، فتمكين الإنسان غيره أن يصور نفسه إعانة على الإثم والعدوان فلا يحل .
وأما التصوير بالآلة وهي (الكاميرا) التي تنطبع الصورة بواسطتها من غير أن يكون للمصور فيها أثر بتخطيط الصورة وملامحها فهذه موضع خلاف بين المتأخرين فمنهم من منعها ، ومنهم من أجازها فمن نظر إلى لفظ الحديث منع لأن التقاط الصورة بالآلة داخل في التصوير ولولا عمل الإنسان بالآلة بالتحريك والترتيب وتحميض الصورة لم تلتقط الصورة ، ومن نظر إلى المعنى والعلة أجازها لأن العلة هي مضاهاة خلق الله ، والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله بل هو نقل للصورة التي خلقها الله – تعالى – نفسها فهو ناقل لخلق الله لا مضاه له ، قالوا: ويوضح ذلك أنه لو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول بل هي مشابهة لها ولو نقل كتابته بالصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة هي كتابة الأول وإن كان عمل نقلها من الثاني فهكذا نقل الصورة بالآلة الفوتغرافية (الكاميرا) الصورة فيه هي تصوير الله نقل بواسطة آلة التصوير. والاحتياط الامتناع من ذلك ، لأنه من المتشابهات ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، لكن لو احتاج إلى ذلك لأغراض معينة كإثبات الشخصية فلا بأس به ، لأن الحاجة ترفع الشبهة لأن المفسدة لم تتحقق في المشتبه فكانت الحاجة رافعة لها.
وأما إقتناء الصور فعلى نوعين :(78/1)
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة أي ذات جسم فاقتناؤها حرام وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه نقله عنه في فتح الباري ص 388 ج10ط . السلفية قال : "وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة" وقد أحال في الباب المذكور على كتاب الأدب وذكره في كتاب الأدب في باب الانبساط إلى الناس ص 527 من المجلد المذكور على حديث عائشة – رضي الله عنها- قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي.
قال في شرحه: "واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن ، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور ، قال : وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وخصه بعضهم بالصغار" .
وإن المؤسف أن بعض قومنا الآن ، صاروا يقتنون هذه الصور ويضعونها في مجالسهم أو مداخل بيوتهم ، نزلوا بأنفسهم إلى رتبة الصبيان مع اكتساب الإثم والعصيان نسأل الله لنا ولهم الهداية.
النوع الثاني : أن تكون الصورة غير مجسمة بأن تكون رقماً على شيء فهذه أقسام :
القسم الأول : أن تكون معلقة على سبيل التعظيم والإجلال مثل ما يعلق من صور الملوك ، والرؤساء، والوزراء، والعلماء، والوجهاء، والآباء، وكبار الإخوة ونحوها ، فهذا القسم حرام لما فيه من الغلو بالمخلوق والتشبه بعباد الأصنام والأوثان ، مع أنه قد يجر إلى الشرك فيما إذا كان المعلق صورة عالم أو عابد و ونحوه.
القسم الثاني : أن تكون معلقة على سبيل الذكرى مثل من يعلقون صور أصحابهم وأصدقائهم في غرفهم الخاصة فهذه محرمة فيما يظهر لوجهين :(78/2)
الوجه الأول: أن ذلك يوجب تعلق القلب بهؤلاء الأصدقاء تعلقاً لا ينفك عنه وهذا يؤثر تأثيراً بالغاً على محبة الله ورسوله وشرعه ويوجب تشطير المحبة بين هؤلاء الأصدقاء وما تجب محبته شرعاً وكأن قارعاً يقرع قلبه كلما دخل غرفته. انتبه .انتبه. صديقك صديقك وقد قيل:
أحبب حبيبك هوناً ما * فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما.
الوجه الثاني : أنه ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي طلحة – رضي الله عنه- قال سمعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : : "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" وهذه عقوبة ولا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثالث: أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة ، فهذه محرمة أيضاً لحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : قدم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،هتكه وقال : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" . قالت : فجعلته وسادة أو وسادتين رواه البخاري . والقرام : خرقة تفرش في الهودج أو يغطى بها يكون فيها رقوم ونقوش ، والسهوة بيت صغير في جانب الحجرة يجعل فيه المتاع .
وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت : فقلت : أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ قال : "ما هذه النمرقة؟" قلت : لتجلس عليها وتوسدها فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم :أحيوا ما خلقتم وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة" .رواه البخاري .النمرقة:الوسادة العريضة تصلح للاتكاء والجلوس.(78/3)
القسم الرابع : أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة ، وعلى الأواني وسماط الطعام ونحوها ، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها ، وقال : هو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو كذلك مذهب الحنابلة . ونقل في فتح الباري- ص 391- ج 10ط . السلفية – حاصل ما قيل في ذلك عن ابن العربي فقال : حاصل ما في اتخاذ الصور ؛ أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع ، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول : يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب : " إلا رقماً في ثوب" .
الثاني : المنع مطلقاً حتى الرقم .
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم ، وإن قطع الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال : وهذا هو الأصح .
الرابع : إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجزأ . هـ .(78/4)
والذي صححه هو ظاهر حديث النمرقة ، والقول الرابع هو ظاهر حديث القرام ويمكن الجمع بينهما بأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، لما هتك الستر تفرقت أجزاء الصورة فلم تبق كاملة بخلاف النمرقة فإن الصورة كانت فيها كاملة فحرم اتخاذها وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "أتاني جبريل فقال : أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل ،وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل ، وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطأان ، ومر بالكلب فليخرج" ففعل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، رواه أهل السنن وفي رواية النسائي "إما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بسطاً توطأ" . ذكر هذا الحديث في فتح الباري ص 392من المجلد العاشر السابق وزعم في ص390 أنه مؤيد للجمع الذي ذكرناه وعندي أن في ذلك نظراً فإن هذا الحديث ولا سيما رواية النسائي تدل على أن الصورة إذا كانت في شيء يمتهن فلا بأس بها وإن بقيت كاملة وهو رأي الجمهور كما سبق .
القسم الخامس: أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالذي يوجد في المجلات والصحف وبعض الكتب ولم تكن مقصودة لمقتنيها بوجه من الوجوه بل هي مما يكرهه ويبغضه ولكن لا بد له منها والتخلص منها فيه عسر ومشقة وكذلك ما في النقود من صور الملوك والرؤساء والأمراء مما ابتليت به الأمة الإسلامية فالذي يظهر لي أن هذا لا حرج فيه على من وقع في يده بغير قصد منه إلى اتخاذه من أجل صوره بل هو يكرهه أشد الكراهة ويبغضه ويشق عليه التحرز منه فإن الله – تعالى – لم يجعل على عباده في دينهم من حرج ولا يكلفهم شيئاً لا يستطيعونه إلا بمشقة عظيمة أو فساد مال ، ولا يصدق على مثل هذا أنه متخذ للصورة ومقتن لها .(78/5)
وأما سؤالكم عن الصورة التي تمثل الوجه وأعلى الجسم ، فإن حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه يدل على أنه لا بد من قطع الرأس وفصله فصلاً تاماً عن بقية الجسم ، فأما إذا جمع إلى الصدر فما هو إلا رجل جالس بخلاف ما إذا أبين الرأس إبانة كاملة عن الجسم ، ولهذا قال الإمام أحمد –رحمه الله - : الصورة الرأس . وكان إذا أراد طمس الصورة حك رأسها وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس هو صورة . فتهاون بعض الناس في ذلك مما يجب الحذر منه . نسأل الله لنا ولكم ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما لا تحمد عقباه إنه جواد كريم.
(314) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم التصوير ؟ .
فأجاب بقوله : التصوير على أنواع:
النوع الأول : أن يصور ماله ظل وجسم على هيئة إنسان أو حيوان ، وهذا حرام ولو فعله عبثاً ولو لم يقصد المضاهاة ؛ لأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد حتى لو وضع هذا التمثال لابنه لكي يهدئه به.
فإن قيل : أليس المحرم ما صور لتذكار قوم صالحين كما هو أصل الشرك في قوم نوح؟ .
أجيب : إن الحديث في لعن المصورين عام ، لكن إذا انضاف إلى التصوير هذا القصد صار أشد تحريماً .
النوع الثاني: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط ، فهذا محرم أيضاً لعموم الحديث ، ويدل له حديث النمرقة حيث أقبل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى بيته فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير فوقف وتأثر ، وعرفت الكراهة في وجهه ، صلى الله عليه وسلم ،فقالت عائشة – رضي الله عنها- : ما أذنبت يا رسول الله ؟ فقال : "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال لهم : أحيوا ما خلقتم" فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم على الصحيح ، وقوله في صحيح البخاري : "إلا رقماً في ثوب" إن صحت الرواية هذه فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها ليتفق مع الأحاديث الأخرى.(78/6)
النوع الثالث: أن تلتقط الصورة التقاطاً بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين على قولين:
القول الأول : أنها صورة وإذا كان كذلك فإن حركة هذا الفاعل تعتبر تصويراً إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة ونحن متفقون على أن هذه صورة فحركته تعتبر تصويراً فيكون داخلاً في العموم .
القول الثاني : أنها ليست بتصوير ، لأن التصوير فعل المصور ، وهذا الرجل ماصورها في الحقيقة وإنما إلتقطها بالآلة ، والتصوير من صنع الله، ومثال ذلك : لو أدخلت كتاباً في آلة التصوير ثم خرج من هذه الآلة فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك بدليل أنه قد يحركها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقاً أو أعمى.
وهذا القول أقرب ، لأن المصور يعتبر مبدعاً ، ومخططاً ، ومضاهياً لخلق الله تعالى وليس هذا كذلك.
(315) سئل فضيلة الشيخ : هل يجب إتلاف الرأس في الصور لزوال التحريم؟ أو يكفي فصله عن الجسم؟ وما حكم الصور التي في العلب والمجلات والصحف ورخص القيادة والدراهم ؟ وهل تمنع من دخول الملائكة؟ .
فأجاب بقوله : إذا فصل الرأس عن الجسم فظاهر الحديث " مر برأس التمثال فليقطع" أنه لا يجب إتلاف الرأس ، لأنه لم يذكر في الحديث إتلافه وإن كان في ذلك شيء من التردد.
وأما الجسم بلا رأس فهو كالشجرة لا شك في جوازه.
أما بالنسبة لما يوجد في العلب والمجلات والصحف من الصور: فما يمكن التحرز منه فالورع تركه ، وأما ما لا يمكن التحرز منه ، والصورة فيه غير مقصودة فالظاهر أن التحريم يرتفع فيه بناء على القاعدة الشرعية { وما جعل عليكم في الدين من حرج } (1) والمشقة تجلب التيسير والبعد عنه أولى.
وكذلك بالنسبة لما يوجد في رخص القيادة ، وحفائظ النفوس ، والشهادات والدراهم ، فهو ضرورة لا إثم فيه ، ولا يمنع ذلك من دخول الملائكة.(78/7)
وأما قوله ، صلى الله عليه وسلم ، : "وأن لا تدع صورة إلا طمستها" ففيه احتمال قوي ؛ أن المراد كل صورة مقصودة اتخذت لذاتها لا سيما في أوقاتهم ، فلا تجد صورة في الغالب إلا مقصودة لذاتها. ولا ريب أن الصور المقصودة لا يجوز اقتناؤها كالصور التي تتخذ للذكرى أو للتمتع بالنظر إليها أو للتلذذ بها ونحو ذلك.
(316) وسئل جزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء: عن حكم صنع التماثيل؟ .
فأجاب قائلاً : صنع التماثيل المجسمة إن كانت من ذوات الأرواح ، فهي محرمة لا تجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه لعن المصورين وثبت أيضاً عنه أنه قال: قال الله عز وجل: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) وهذا محرم . أما إذا كانت التماثيل ليست من ذوات الأرواح فإنه لا بأس به وكسبها حلال ؛ لأنها من العمل المباح . والله الموفق.
(317) وسئل : عن حكم رسم ذوات الأرواح وهل هو داخل في عموم الحديث القدسي {ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة}؟
فأجاب قائلاً : نعم هو داخل في هذا الحديث ، لكن الخلق خلقان خلق جسمي وصفي وهذا في الصور المجسمة ، وخلق وصفي لا جسمي وهذا في الصور المرسومة.
وكلاهما يدخل في الحديث المتقدم فإن خلق الصفة كخلق الجسم ، وإن كان الجسم أعظم لأنه جمع بين الأمرين الخلق الجسمي والخلق الوصفي ، ويدل على ذلك - أي العموم- وأن التصوير محرم باليد سواء كان تجسيماً أم كان تلويناً عموم لعن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، للمصورين فعموم لعن النبي صلى الله عليه وسلم للمصورين يدل على أنه لا فرق بين الصور المجسمة والملونة التي لا يحصل التصوير فيها إلا بالتلوين فقط ، ثم إن هذا هو الأحوط والأولى بالمؤمن أن يكون بعيداً عن الشبه ولكن قد يقول قائل : أليس الأحوط في اتباع ما دل عليه النص لا في اتباع الأشد؟.(78/8)
فنقول : صحيح أن الأحوط اتباع ما دل عليه النص لا اتباع الأشد ، لكن إذا وجد لفظ عام يمكن أن يتناول هذا وهذا فالأحوط الأخذ بعمومه ، وهذا ينطبق تماماً على حديث التصوير ، فلا يجوز للإنسان أن يرسم صورة ما فيه روح من إنسان وغيره ؛ لأنه داخل في لعن المصورين . والله الموفق .
(318) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم التصوير الفوتوغرافي؟.
فأجاب – حفظه الله – تعالى – بقوله : الصور الفوتوغرافية الذي نرى فيها ؛ أن هذه الآلة التي تخرج الصورة فوراً ، وليس للإنسان في الصورة أي عمل ، نرى أن هذا ليس من باب التصوير ، وإنما هو من باب نقل صورة صورها الله – عز وجل – بواسطة هذه الآلة ، فهي انطباع لا فعل للعبد فيه من حيث التصوير ، والأحاديث الواردة إنما هي في التصوير الذي يكون بفعل العبد ويضاهي به خلق الله ، ويتبين لك ذلك جيداً بما لو كتب لك شخص رسالة فصورتها في الآلة الفوتوغرافية ، فإن هذه الصورة التي تخرج ليست هي من فعل الذي أدار الآلة وحركها ، فإن هذا الذي حرك الآلة ربما يكون لا يعرف الكتابة أصلاً ، والناس يعرفون أن هذا كتابة الأول، والثاني ليس له أي فعل فيها ، ولكن إذا صور هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم ، فإنه يكون حراماً تحريم الوسائل.
(319) وسئل : أيضاً عن حكم التصوير؟ وكيف يفعل من طلب منه التصوير في الامتحان؟ وما حكم مشاهدة الصور التي في المجلات والتلفزيون؟ .
فأجاب بقوله : سؤالكم عن التصوير فالتصوير نوعان:
أحدهما : أن يكون التصوير غير ذوات الأرواح كالجبال والأنهار والشمس والقمر والأشجار فلا بأس به عند أكثر أهل العلم ، وخالف بعضهم فمنع تصوير ما يثمر كالشجر والزروع ونحوها ، والصواب قول الأكثر.
الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح وهذا على قسمين :(78/9)
القسم الأول : أن يكون باليد فلا شك في تحريمه وأنه من كبائر الذنوب لما ورد فيه من الوعيد الشديد مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم" . رواه مسلم . وحديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي ، صلى الله عليه وسلم: "لعن آكل الربا وموكله ، والواشمة ، والمستوشمة ، والمصور"، رواه البخاري . وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله". رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية مسلم : "الذين يشبهون بخلق الله" . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي ،صلى الله عليه وسلم، يقول : : "قال الله – تعالى – : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة". رواه البخاري ومسلم . والتصوير المذكور ينطبق على التصوير باليد بأن يخطط الإنسان الصورة بيده حتى يكملها فتكون مثل الصورة التي خلق الله- تعالى – لأنه حاول أن يبدع كإبداع الله- تعالى – ويخلق كخلقه وإن لم يقصد المشابهة لكن الحكم إذا علق على وصف تعلق به ، فمتى وجد الوصف وجد الحكم ، والمصور إذا صنع الصورة تحققت المشابهة بصنعه وإن لم ينوها والمصور في الغالب لا يخلو من نية المضاهاة ، ولذلك تجده يفخر بصنعه كلما كانت الصورة أجود ، وأتقن . وبهذا تعرف سقوط ما يموه به بعض من يستسيغ التصوير من أن المصور لا يريد مشابهة خلق الله لأننا نقول له: المشابهة حصلت بمجرد صنعك شئت أم أبيت ولهذا لو عمل شخص عملاً يشبه عمل شخص آخر لقلنا نحن وجميع الناس : إن عمل هذا يشبه عمل ذاك وإن كان هذا العامل لم يقصد المشابهة.(78/10)
القسم الثاني: أن يكون تصوير ذوات الأرواح بغير اليد، مثل التصوير بالكاميرا التي تنقل الصورة التي خلقها الله تعالى على ما هي عليه، من غير أن يكون للمصور عمل في تخطيطها سوى تحريك الآلة التي تنطبع بها الصورة على الورقة ، فهذا محل نظر واجتهاد لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وعهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح ومن ثم اختلف فيه العلماء المتأخرون : فمنهم من منعه وجعله داخلاً فيما نهي عنه نظراً لعموم اللفظ له عرفاً ، ومنهم من أحله نظراً للمعنى ، فإن التصوير بالكاميرا لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله-تعالى– وإنما انطبع بالصورة خلق الله – تعالى – على الصفة التي خلقه الله- تعالى – عليها ونظير ذلك تصوير الصكوك والوثائق وغيرها بالفوتوغراف ، فإنك إذا صورت الصك فخرجت الصورة لم تكن الصورة كتابتك بل كتابة من كتب الصك انطبعت على الورقة بواسطة الآلة . فهذا الوجه أو الجسم المصور ليست هيئته وصورته وما خلق الله فيه من العينين والأنف والشفتين والصدر والقدمين وغيرها ، ليست هذه الهيئة والصورة بتصويرك أو تخطيطك بل الآلة نقلتها على ما خلقها الله – تعالى -عليه وصورها ، بل زعم أصحاب هذا القول أن التصوير بالكاميرا لا يتناوله لفظ الحديث كما لا يتناوله معناه فقد قال في القاموس : الصورة الشكل قال: وصور الشيء قطعه وفصله . قالوا وليس في التصوير بالكاميرا تشكيل ولا تفصيل وإنما هو نقل شكل وتفصيل شكله وفصله الله – تعالى – قالوا :والأصل في الأعمال غير التعبدية الحل إلا ما أتى الشرع بتحريمه كما قيل:
والأصل في الأشياء حل وامنع عبادة إلا بإذن الشارع
فإن يقع في الحكم شك فارجع للأصل في النوعين ثم اتبع(78/11)
والقول بتحريم التصوير بالكاميرا أحوط ، والقول بحله أقعد لكن القول بالحل مشروط بأن لا يتضمن أمراً محرماً فإن تضمن أمراً محرماً كتصوير امرأة أجنبية ، أو شخص ليعلقه في حجرته تذكاراً له ، أو يحفظه فيما يسمونه (البوم) ؛ ليتمتع بالنظر إليه وذكراه ، كان ذلك محرماً لأن اتخاذ الصور واقتناءها في غير ما يمتهن حرام عند أهل العلم أو أكثرهم ، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.
ولا فرق في حكم التصوير بين ما له ظل وهو المجسم ، وما لاظل له لعموم الأدلة في ذلك وعدم المخصص.
ولا فرق أيضاً في ذلك بين ما يصور لعباً ولهواً وما يصور على السبورة لترسيخ المعنى في أفهام الطلبة كما زعموا وعلى هذا فلا يجوز للمدرس أن يرسم على السبورة صورة إنسان أو حيوان.
وإن دعت الضرورة إلى رسم شيء من البدن فليصوره منفرداً ، بأن يصور الرجل وحدها ، ثم يشرح ما يحتاج إلى شرح منها ثم يمسحها ويصور اليد كذلك ثم يمسحها ويصور الرأس وهكذا كل جزء وحده فهذا لا بأس به إن شاء الله – تعالى - .
وأما من طلب منه التصوير في الامتحان فليصور شجرة أو جبلاً أو نهراً؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، مع أني لا أظن ذك يطلب منه إن شاء الله - تعالى - .(78/12)
وأما مشاهدة الصور في المجلات والصحف والتلفزيون فإن كانت صور غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها ، لكن لا يقتنيها من أجل هذه الصور وإن كانت صور آدمي؛ فإن كان يشاهدها تلذذاً أو استمتاعاً بالنظر فهو حرام ، وإن كان غير تلذذ ولا استمتاع ولا يتحرك قلبه ولا شهوته بذلك ،فإن كان ممن يحل النظر إليه كنظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة أو إلى الرجل أيضاً على القول الراجح فلا بأس به لكن لا يقتنيه من أجل هذه الصور، وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضع شك وتردد، والاحتياط أن لا ينظر خوفاً من الفتنة وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال: "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" والنعت بالصورة أبلغ من النعت بالوصف إلا أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد من وجه آخر بلفظ: "لتنعتها لزوجها" وذكر في فتح الباري ص 338 ج 9 الطبعة السلفية أن النسائي زاد في روايته : "في الثوب الواحد" وهو مفهوم من قوله: "لا تباشر" ومجموع الروايات يقتضي أن الزوجة عمدت إلى مباشرة المرأة لتصف لزوجها ما تحت الثياب منها ، ومن أجل هذا حصل عندنا الشك والتردد في جواز نظر الرجل إلى صورة المرأة في الصحف والمجلات والتلفزيون والبعد عن وسائل الفتن مطلوب والله المستعان.
(320) سئل فضيلة الشيخ : جاء في الفتوى السابقة رقم "319" فيما يتعلق بمشاهدة الصور ما نصه : "وإن كان ممن لا يحل له النظر إليه كنظر الرجل إلى المرأة الأجنبية فهذا موضع شك وتردد والاحتياط أن لا ينظر خوفاً من الفتنة" فهذا يفهم منه أن فضيلتكم لا يرى بأساً في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة أجنبية فنرجو التوضيح؟(78/13)
فأجاب فضيلته بقوله: النقطة التي أشار إليها السائل وهي أنه يفهم من كلامنا أننا لا نرى بأساً في نظر الرجل إلى الصورة ولو كانت صورة امرأة أجنبية فنقول هذه النقطة فيها تفصيل:
فإن كانت امرأة معينة ونظر إليها نظر تلذذ وشهوة فهذا حرام ، لأن نفسه حينئذ تتعلق بها وتتبعها وربما يحصل بذلك شر وفتنة ، فإن لم ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة وإنما هي نظرة عابرة لم تحرك له ساكناً ، ولم توجب له تأملاً فتحريم هذا النظر ، فيه نظر فإن إلحاق نظر الصورة بنظر الحقيقة غير صحيح ، لما بينهما من الفرق العظيم في التأثير ، لكن الأولى البعد عنه لأنه قد يفضي إلى نظر التأمل ثم التلذذ والشهوة ، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم : "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" رواه البخاري ، ورواه أحمد وأبو داود بلفظ : "لتنعتها لزوجها" . واللام للتعليل . وأما إن كانت الصورة لامرأة غير معينة فلا بأس بالنظر إليها إذا لم يخش من ذلك محظور شرعي.
(321) وسئل فضيلة الشيخ : عن تهاون كثير من الناس في النظر إلى صور النساء الأجنبيات بحجة أنها صورة لا حقيقة لها؟
فأجاب – حفظه الله تعالى – بقوله : هذا تهاون خطير جداً وذلك أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء كان ذلك بواسطة وسائل الإعلام المرئية ، أو بواسطة الصحف أو غير ذلك ، فإنه لا بد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلى أن يتعمد النظر إلى المرأة مباشرة ، وهذا شيء مشاهد . ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن ، أو يتمتع بالنظر إليهن ، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه الصور، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور، سواء كانت في مجلات أو في صحف أو غير ذلك ، إن كان يرى من نفسه التلذذ والتمتع بالنظر إليهن ، لأن ذلك فتنة تضره في دينه ، وفي اتجاهاته ، ويتعلق قلبه بالنظر إلى النساء فيبقى ينظر إليهن مباشرة.(78/14)
(322) سئل فضيلة الشيخ: لقد كثر عرض الصور الكبيرة والصغيرة في المحلات التجارية وهي صور إما لممثلين عالميين أو أناس مشهورين . وذلك للتعريف بنوع أو أصناف من البضائع . وعند إنكار هذا المنكر يجيب أصحاب المحلات بأن هذه الصور غير مجسمة وهذا يعني أنها ليست محرمة وهي ليست تقليداً لخلق الله باعتبارها بدون ظل ويقولون: إنهم قد اطلعوا على فتوى لفضيلتكم بجريدة "المسلمون" مفادها أن التصوير المجسم هو المحرم وغير ذلك فلا. فنرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟ .
فأجاب فضيلته بقوله : من نسب إلينا أن المحرم من الصور هو المجسم وأن غير ذلك غير حرام فقد كذب علينا ، ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار ، وأنه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة . والله الموفق.
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فقد كثر السؤال حول ما نشر في المقابلة التي جرت بيني وبين مندوب جريدة "المسلمون" يوم الجمعة 29/11/1410هـ بالعدد 281 حول حكم التصوير "الفوتوغرافي" وذكرت في هذه المقابلة أني لا أرى أن التصوير "الفوتوغرافي" الفوري- الذي تخرج فيه الصورة فوراً دون تحميض – داخل في التصوير الذي نهى عنه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ولعن فاعله .
وذكرت علة ذلك ثم قلت : ولكن ينبغي أن يقال : ما الغرض من هذا العمل؟
"إذا كان الغرض شيئاً مباحاً صار هذا العمل مباحاً بإباحة الغرض المقصود منه ، وإذا كان الغرض غير مباح صار هذا العمل حراماً لا لأنه من التصوير ، ولكن لأنه قصد به شيء حرام" .(78/15)
وحيث إن الذي يخاطبني رجل صحفي ، ذكرت مثالاً من المحرم يتعلق بالصحافة ، وهو تصوير النساء على صفحات الجرائد والمجلات ، ولم أستطرد بذكر الأمثلة اكتفاء بالقاعدة الآنفة الذكر ، وهي أنه متى كان الغرض مباحاً كان هذا العمل مباحاً ، ومتى كان الغرض غير مباح كان هذا العمل حراماً.
ولكن بعض السائلين عن هذه المقابلة رغبوا في ذكر المزيد من الأمثلة للمباح والمحرم . وإجابة لرغبتهم أذكر الآن من الأمثلة المباحة:
أن يقصد بهذا التصوير ما تدعو الحاجة إلى إثباته كإثبات الشخصية ، والحادثة المرورية والجنائية ، والتنفيذية مثل أن يطلب منه تنفيذ شيء فيقوم بهذا التصوير لإثباته.
ومن الأمثلة المحرمة :
1- 1- التصوير للذكرى ، كتصوير الأصدقاء ، وحفلات الزواج ، ونحوها ، لأن ذلك يستلزم اقتناء الصور بلا حاجة وهو حرام ، لأنه ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم – أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة . ومن ذلك أن يحتفظ بصورة ميت حبيب إليه كأبيه وأمه وأخيه يطالعها بين الحين والآخر لأن ذلك يجدد الأحزان عليه ، ويوجب تعلق قلبه بالميت.
2- 2- التصوير للتمتع النفسي أو التلذذ الجنسي برؤية الصورة، لأن ذلك يجر إلى الفاحشة.
والواجب على من عنده شيء من هذه الصور لهذه الأغراض ، أن يقوم بإتلافها لئلا يلحقه الإثم باقتنائها.
هذه أمثلة للقاعدة الآنفة الذكر، ليست على سبيل الحصر ، ولكن من أعطاه الله فهماً فسوف يتمكن من تطبيق بقية الصور على هذه القاعدة . هذا وأسأل الله للجميع الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
(323) سئل فضيلة الشيخ : يحتاج بعض الطلبة إلى رسم بعض الحيوانات لغرض التعليم والدراسة فما حكم ذلك؟ .(78/16)
فأجاب بقوله : لا يجوز أن تصور هذه الحيوانات لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعن المصورين وقال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون" وهذا يدل على أن التصوير من كبائر الذنوب لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة والوعيد بشدة العذاب لا يكون إلا على كبيرة ، ولكن من الممكن أن تصور أجزاء من الجسم كاليد والرجل وما أشبه ذلك ؛ لأن هذه الأجزاء لا تحلها الحياة ، وظاهر النصوص أن الذي يحرم ما يمكن أن تحله الحياة لقوله في بعض الأحاديث : " كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" .
(324) سئل فضيلة الشيخ : يطلب من الطالب في بعض المدارس أن يرسم صورة لذات روح ، أو يعطى مثلاً بعض دجاجة ويقال : : أكمل الباقي، وأحياناً يطلب منه أن يقص هذه الصورة ويلزقها على الورق ، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها فما رأيكم في هذا؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى في هذا أنه حرام يجب منعه ، وأن المسؤولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذا الباب ، ومنع هذه الأشياء ،وإذا كانوا يريدون أن يثبتوا ذكاء الطالب بإمكانهم أن يقولوا : اصنع صورة سيارة أو شجرة ، أو ما أشبه ذلك مما يحيط به علمه ، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته وتطبيقه للأمور ، وهذا مما ابتلي به الناس بواسطة الشيطان ، وإلا فلا فرق بلا شك في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة ، أو سيارة ،أو قصر ، أو إنسان.
فالذي أرى أنه يجب على المسؤولين منع هذه الأشياء ، وإذا ابتلي الطالب ولا بد فليصور حيواناً ليس له رأس.
(325) وسئل الشيخ : قلتم – حفظكم الله- في الفتوى السابقة : "إذا ابتلي الطالب ولا بد فليصور حيواناً ليس له رأس" ولكن قد يرسب الطالب إذا لم يرسم الرأس فما العمل؟ .(78/17)
فأجاب قائلاً : إذا كان هذا فقد يكون الطالب مضطراً لهذا الشيء ، ويكون الإثم على من أمره وكلفه بذلك ، ولكني آمل من المسؤولين ألا يصل بهم الأمر إلى هذا الحد ، فيضطروا عباد الله إلى معصية الله.
(326) وسئل – حفظه الله تعالى- :عن حكم لبس الثياب التي فيها صورة حيوان أو إنسان؟ فأجاب بقوله : لا يجوز للإنسان أن يلبس ثياباً فيها صورة حيوان أو إنسان، ولا يجوز أيضاً أن يلبس غترة أو شماغاً أو ما أشبه ذلك وفيه صورة إنسان أو حيوان وذلك لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثبت عنه أنه قال : "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" .
ولهذا لا نرى لأحد أن يقتني الصور للذكرى كما يقول :ون ، وأن من عنده صور للذكرى فإن الواجب عليه أن يتلفها ؛ سواء كان قد وضعها على الجدار ، أو وضعها في ألبوم ، أو في غير ذلك ؛ لأن بقاءها يقتضي حرمان أهل البيت من دخول الملائكة بيتهم . وهذا الحديث الذي أشرت إليه قد صح عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم.
(327) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إلباس الصبي الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح؟ .
فأجاب قائلاً : يقول : أهل العلم : إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه الكبير ، وما كان فيه صور فإلباسه الكبير حرام ، فيكون إلباسه الصغير حراماً أيضاً ، وهو كذلك ، والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب وهذه الأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي ، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلاً إلى إيصالها إلى هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم.
(328) سئل فضيلة الشيخ : هل استثناء بعض العلماء لعب الأطفال من التصويرصحيح؟ وهل قول الشيخ ..بجواز الصور التي ليس لها ظل وإنما هي نقوش بالألوان قول صحيح؟ .(78/18)
فأجاب بقوله : استثناء لعب الأطفال صحيح ، لكن ما هي اللعب المستثناة أهي اللعب التي كانت معهودة من قبل وليست على هذه الدقة في التصوير، فإن اللعب المعهودة من قبل ليس فيها تلك العيون والشفاه والأنوف كما هو المشاهد الآن في لعب الأطفال أم إن الرخصة عامة فيما هو لعب أطفال ولو كان على الصور المشاهدة الآن؟ .
هذا محل تأمل والاحتياط تجنب هذه الصور الشائعة الآن والاقتصار على النوع المعهود من قبل.
وأما الصور التي ليس لها ظل وإنما هي نقوش بالألوان فإن دعوى الجواز فيها نظر حيث استند في ذلك إلى أنه كان ممنوعاً ثم أجيز ؛ لأن من شروط النسخ تعذر إمكان الجمع بين النصين ، والعلم بتأخر الناسخ ، وأما مع إمكان الجمع فلا تقبل دعوى النسخ ، لأن الجمع يكون فيه العمل بالدليلين والنسخ يكون فيه إبطال أحد الدليلين ثم إن طريق العلم بالمتأخر ليس الاستنتاج والتخمين ، بل النقل المجرد هو الطريق إلى العلم بالمتأخر ثم إن قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" خبر والخبر لا يدخله النسخ إلا إذا أريد به الإنشاء وليس هذا مما أريد به الإنشاء. نعم الخبر يدخله التخصيص فينظر هل هذا الحديث مخصص بالصور التي ذكرها؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم ، فمنهم من يرى أن هذا الحديث مخصص بقوله: "إلا رقماً في ثوب" وبحديث عائشة- رضي الله عنها- في الستر الذي فيه تمثال طائر وقد ذكر الشيخ . . . . . أن حديث "إلا رقماً في ثوب" رواه الخمسة وقد رواه البخاري ومسلم أيضاً ومن العلماء من يرى أن هذا الترخيص في الرقم في الثوب وتمثال الطائر كان في أول الأمر ثم نهي عنه على العكس من قول الشيخ . . .(78/19)
والذي يظهر لي أن الجمع ممكن وهو أن يحمل قوله : "إلا رقماً في ثوب" على ما ورد حله مما يتكأ عليه ويمتهن فيكون الرقم في الثوب المراد به ما كان في مخدة ونحوها لأنه الذي ورد حله وأن زيد بن خالد ألحق به الستر ونحوه وهو إلحاق غير صحيح لأن حديث عائشة – رضي الله عنها – في السهوة صريح في المنع منه حيث هتكه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وتلون من أجله وجهه.
وأما حديث مسلم في تمثال الطائر فيحمل على أنه تمثال لا رأس فيه وعلى أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كرهه لا من أجل أنه صورة ولكن من أجل أنه من باب الترف الزائد ولهذا قال: "حوليه فإني كلما دخلت ورأيته ذكرت الدنيا" . ويؤيد هذا الحمل ما رواه مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : إن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، خرج في غزاته فأخذت نمطاً فسترته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال : "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" . وعلى هذا فتكون النتيجة في هذا تحريم اقتناء الصور المجسمة والملونة والمنقورة والمزبورة إلا الملونة إذا كانت في شيء يمتهن كالفراش ونحوه فلا تحرم لكن الأولى التنزه عنها أيضاً لما في الصحيحين من حديث عائشة أنها اشترت نمرقة للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، فيها تصاوير ليقعد عليها ويتوسدها ، فلما رآها قام على الباب ولم يدخل وعرفت الكراهية في وجهه ثم أخبر أن أصحاب هذه الصور يعذبون يقال : أحيوا ما خلقتم ثم قال: "إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" . والله الموفق.
(329) سئل فضيلة الشيخ : هناك أنواع كثيرة من العرائس منها ما هو مصنوع من القطن، وهو عبارة عن كيس مفصل برأس ويدين ورجلين ، ومنها ما يشبه الإنسان تماماً ، ومنها ما يتكلم أو يبكي أو يمشي ، فما حكم صنع أو شراء مثل هذه الأنواع للبنات الصغار للتعليم والتسلية؟ .(78/20)
فأجاب قائلاً : أما الذي لا يوجد فيه تخطيط كامل وإنما يوجد فيه شيء من الأعضاء والرأس ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة – رضي الله عنها – تلعب بهن.
وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنساناً ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذه شيئاً ، لأنه يضاهي خلق الله تماماً ، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بهن ليست على هذا الوصف، فاجتنابها أولى ؛ ولكني لا أقطع بالتحريم نظراً لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور ، فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي ، وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً ، وإذا أراد الإنسان الاحتياط في مثل هذا فليقلع الرأس أو يحميه على النار حتى يلين ثم يضغطه حتى تزول معالمه.
(330) وسئل فضيلة الشيخ : هل هناك فرق بين أن يصنع الاطفال تلك اللعب وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها لهم؟ .
فأجاب فضيلته بقوله : أنا أرى أن صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام ، لأن هذا من التصوير الذي لا شك في تحريمه ، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولاً .
لكن بالنسبة للشراء بدلاً من أن نشتريها ينبغي أن نشتري أشياء ليست فيها صور كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها.
أما مسألة القطن والذي ما تتبين له صورة على الرغم مما هناك من أنه أعضاء ورأس ورقبة ولكن ليس فيه عيون ولا أنف فما فيه بأس ، لأن هذا لا يضاهي خلق الله .
(331) وسئل فضيلته : عن حكم صنع ما يشبه هذه العرائس بمادة الصلصال ثم عجنها في الحال؟ .(78/21)
فأجاب بقوله : كل من صنع شيئاً يضاهي خلق الله فهو داخل في الحديث ، وهو لعن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، المصورين . وقوله : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون" لكن كما قلت : إنه إذا لم تكن الصورة واضحة أي ليس فيها عين أو أنف ولا فم ولا أصابع فهذه ليست صورة كاملة ولا مضاهية لخلق الله- عز وجل-.
(332) سئل فضيلة الشيخ : كثير من الألعاب تحوي صوراً مرسومة باليد لذوات الأرواح والهدف منها غالباً التعليم مثل هذه الموجودة في الكتاب الناطق فهل هي جائزة؟.
فأجاب قائلاً : إذا كانت لتسلية الصغار فإن من أجاز اللعب للصغار يجيز مثل هذه الصور ، وأما من منع هذه الصور على أن هذه الصور ليست أيضاً مطابقة للصورة التي خلق الله عليها هذه المخلوقات المصورة كما يتضح مما هو أمامي . والخطب في هذا سهل.
(333) سئل فضيلة الشيخ : ما حكم صور الكرتون التي تخرج في التلفزيون؟ وما قولكم في ظهور بعض المشايخ فيه؟ وما حكم استصحاب الدراهم التي فيها صور؟ .
فأجاب قائلاً : أما صور الكرتون التي ذكرتم أنها تخرج في التلفزيون فإن كانت على شكل آدمي فحكم النظر فيها محل تردد ، هل يلحق بالصور الحقيقية أو لا؟ .
والأقرب أنه لا يلحق بها . وإن كانت على شكل غير آدمي فلا بأس بمشاهدتها إذا لم يصحبها أمر منكر من موسيقى أو نحوها ولم تله عن واجب .
وأما ظهور بعض المشايخ في التفزيون فهو محل اجتهاد إن أصاب الإنسان فيه فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ، ولا شك أن المحب للخير منهم قصد نشر العلم وأحكام الشريعة؛ لأن التلفزيون أبلغ وسائل الإعلام وضوحاً ، وأعمها شمولاً ، وأشدها من الناس تعلقاً فهم يقولون: إن تكلمنا في التفزيون وإلا تكلم غيرنا وربما كان كلام غيرنا بعيداً من الصواب ، فننصح الناس ونوصد الباب ونسد الطريق أمام من يتكلم بغير علم فيضل ويضل.(78/22)
وأما استصحاب الرجل ما ابتلي به المسلمون اليوم من الدراهم التي عليها صور الملوك والرؤساء فهذا أمر قديم ، وقد تكلم عليه أهل العلم ، ولقد كان الناس هنا يحملون الجنيه الفرنجي وفيه صورة فرس وفارس ، ويحملون الريال الفرنسي وفيه صورة رأس ورقبة وطير. والذي نرى في هذا أنه لا إثم على من استصحبه لدعاء الحاجة إلى حمله إذ الإنسان لا بد له من حمل شيء من الدراهم في جيبه ومنع الناس من ذلك فيه حرج وتعسير وقد قال الله -تعالى - : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (1) وقال – تعالى - : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } (2) وصح عن النبي ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال : "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا" . رواه البخاري . وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى عند بعثهما إلى اليمن : "يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفراً وقال للناس حين زجروا الأعرابي الذي بال في المسجد: "دعوه فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" رواهما البخاري أيضاً.
فإذا حمل الرجل الدراهم التي فيها صورة ، أو التابعية ، أو الرخصة وهو محتاج إليهما أو يخشى الحاجة فلا حرج في ذلك ولا إثم إن شاء الله - تعالى – إذا كان الله – تعالى – يعلم أنه كاره لهذا التصوير وإقراره وأنه لولا الحاجة إليه ما حمله.
والله أسأل أن يعصمنا جميعاً والمسلمين من أن تحيط بنا خطايانا وأن يرزقنا الثبات والاستقامة على دينه إنه جواد كريم.
(334) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم إقامة مجسم لقلب إنسان لأجل التذكير بقدرة الله وعظمته- عز وجل-؟ .(78/23)
فأجاب فضيلته : صورة القلب أو غيره من الأجزاء ليس من الصور المحرمة لأنه بعض صورة وعلى هذا فيجوز رسم القلب ، أو اليد ، أو الرجل أو الرأس كل واحد على حدة ، ولكن المشكل في السؤال صرف الأموال في مثل هذا لأن النفع الحاصل به لا يساوي الأموال المصروفة فيه ولا يقرب منها فجواز صرف الأموال في هذا محل نظر والسلامة أسلم . والله – تعالى – الموفق .
(335) سئل فضيلة الشيخ : كيف نجمع بين قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" وبين كون المشرك أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟ .
فأجاب حفظه الله بقوله : ذكر في الجمع بينهما وجوه:
الوجه الأول : أن الحديث على تقدير "من" أي إن من أشد الناس عذاباً بدليل أنه قد جاء بلفظ "إن من أشد الناس عذاباً" فيحمل ما حذفت منه على ما ثبتت فيه.
الوجه الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم بل يشاركهم غيرهم قال- تعالى- :
{ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (1) فيكون الجميع مشتركين في الأشد.
ولكن يرد على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط فكيف يسوى بمن هو كافر مستكبر؟ .
الوجه الثالث: أن الأشدية نسبية يعني أن المصورين أشد الناس عذاباً بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر لا بالنسبة لجميع الناس. وهذا أقرب الوجوه والله أعلم .
(336) وسئل : عن حكم تعليق الصور على الجدران؟ .
فأجاب بقوله : تعليق الصور على الجدران ولا سيما الكبيرة منها حرام حتى وإن لم يخرج إلا بعض الجسم والرأس ، وقصد التعظيم فيها ظاهر وأصل الشرك هو هذا الغلو كما جاء ذلك عن أبن عباس – رضي الله عنه – أنه قال في أصنام قوم نوح التي يعبدونها : إنها كانت أسماء رجال صالحين صوروا صورهم ليتذكروا العبادة، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم .
(337) وسئل أيضاً : عن حكم إقتناء الصور للذكرى؟.(78/24)
فأجاب الشيخ بقوله: اقتناء الصور للذكرى محرم لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ، وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت . والله المستعان.
(338) سئل فضيلة الشيخ : هل يلزم الإنسان طمس الصورة التي في الكتب؟ وهل وضع خط بين الرقبة والجسم يزيل الحرمة؟ .
فأجاب حفظه الله تعالى بقوله : لا أرى أنه يلزم طمسها لأن في ذلك مشقة كبيرة، ولأنها أي هذه الكتب ما قصد بها هذه الصورة إنما قصد ما فيها من العلم.
ووضع خط بين الرقبة والجسم هذا لا يغير الصورة عما هي عليه.
339- سئل فضيلة الشيخ : عن حكم تصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو؟
فأجاب قائلاً : الذي أرى أنه لا بأس بتصوير المحاضرات والندوات بأجهزة الفيديو التلفزيونية إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو اقتضته المصلحة لأمور:
أولاً : أن التصوير الفوتوغرافي الفوري لا يدخل في مضاهاة خلق الله كما يظهر للمتأمل.
ثانياً : أن الصورة لا تظهر على الشريط فلا يكون فيه اقتناء للصورة.
ثالثاً: أن الخلاف في دخول التصوير الفوتوغرافي الفوري في مضاهاة خلق الله – وإن كان يورث شبهة – فإن الحاجة أو المصلحة المحققة لا تترك لخلاف لم يتبين فيه وجه المنع . هذا ما أراه في هذه المسألة . والله الموفق .
(340) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن معنى جملة : "إلا رقماً في ثوب" التي وردت في الحديث هل تدل على حل الصور التي في الثوب؟
فأجاب – حفظه الله- بقوله : إن رأينا في الحديث : "إلا رقماً في ثوب" من النصوص المتشابهة والقاعدة السليمة : يرد إلى المحكم . ولقوله تعالى - : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقول :ون آمنا به كل من عند ربنا } (1) .
ويرد المتشابه إلى المحكم ولا يبقى فيه اشتباه.(78/25)
فهذا الحديث : "إلا رقماً في ثوب" يحتمل أنه عام ، رقماً : يشمل صورة الحيوان وصورة الأشجار وغير ذلك ، فإنه كان محتملاً لهذا فإنه يحمل على النصوص المحكمة التي تبين أن المراد برقم الثوب ما ليس بصورة حيوان أو إنسان حتى تبقى النصوص متطابقة متفقة.
ونحن لا نرى ذلك والتفصيل فيما له ظل وما ليس له ظل لأن حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- في صحيح مسلم أنه قال : "يا أبا الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا صورة إلا طمستها" .
(341) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عن التصوير باليد؟ .
فأجاب حفظه الله بقوله: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، التصوير باليد حرام بل هو من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب وسواء رسم الصورة يختبر إبداعه أو رسمها للتوضيح للطلاب أو لغير ذلك فإنه حرام ، لكن لو رسم أجزاء من البدن كاليد وحدها أو الرأس وحده فهذا لا بأس به.
(342) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – : عن التصوير بالآلة الفوتوغرافية الفورية؟ .
فأجاب حفظه الله بقوله : التقاط الصورة بالآلة الفوتوغرافية الفورية التي لا تحتاج إلى عمل بيد فإن هذا لا بأس به ؛ لأنه لا يدخل في التصوير ، ولكن يبقى النظر ، ما هو الغرض من هذا الالتقاط : إذا كان الغرض من هذا الالتقاط هو أن يقتنيها الإنسان ولو للذكرى صار ذلك الالتقاط حراماً وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ، واقتناء الصور للذكرى محرم لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر أن " الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت ، وأما تعليق الصور على الجدران فإنه محرم ولا يجوز والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة.(78/26)
(343) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عما ابتلي به الناس اليوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية؟ .
فأجاب – حفظه الله – بقوله : ما ابتلي به الناس اليوم من وجود الصور بأشياء من حاجاتهم الضرورية ، فأرى أنه إذا أمكن مدافعتها فذاك ، وإن لم يكن فإن فيها من الحرج والمشقة والعسر مما ارتفع عن هذه الأمة ، بمعنى أنه يوجد في بعض المجلات وفي بعض الصحف التي يقتنيها الإنسان لما فيها من المنافع والإرشاد والتوجيه فأرى أن مثل هذا ما دام لم يقصد الصورة نفسها فلا بأس أن يقتنيها لا سيما إذا كانت الصورة مغلقة لا تبرز ولا تبين.
(344) سئل فضيلة الشيخ- حفظه الله – عن نشر صور المشوهين الأفغان؟ .
فأجاب حفظه الله بقوله : نشر صور المشوهين الأفغان مصلحة في الحقيقة وهي أنها توجب اندفاع الناس بالتبرع لهم ، لكن أقول : إن هذا قد يحصل بدون نشر هذه الأشياء أو ربما يمكن أن نضع شيئاً على الوجه بحيث لا يتبين الرأس لأن الرأس إذا قطع لا تبقى صورة كما جاء في الحديث "ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً إلا سويته" وهذا ظاهره أن المراد بالصورة حتى صورة التلوين وإن لم يكن لها ظل لأنه لم يقل : إلا كسرتها ، والطمس إنما يكون لما كان ملوناً .
وكذلك أيضاً حديث عائشة في البخاري حينما دخل عليه الصلاة والسلام فوجد نمرقة فيها صورة فوق على الباب وعرفت في وجهه الكراهية، وقال ، عليه الصلاة والسلام : "إن أصحاب هؤلاء الصور يعذبون" ، فهذا دليل على أنه يشمل الصورة التي لها ظل والتي ليس لها ظل وهذا هو الصحيح.
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ . . . . . حفظه الله - تعالى - ، وجعله من عباده الصالحين، وأوليائه المؤمنين المتقين ، وحزبه المفلحين ، آمين.(78/27)
وبعد فقد وصلني كتابكم الذي تضمن السلام والنصيحة ، فعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله عني على نصيحتكم البالغة التي أسأل الله- تعالى – أن ينفعني بها.
ولا ريب أن الطريقة التي سلكتموها في النصيحة هي الطريقة المثلى للتناصح بين الإخوان ، فإن الإنسان محل الخطأ والنسيان ، والمؤمن مرآة أخيه ، ولا يؤمن أحد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولقد بلغت نصيحتكم مني مبلغاً كبيراً بما تضمنته من العبارات الواعظة والدعوات الصادقة ، أسأل الله أن يتقبلها ، وأن يكتب لكم مثلها.
وما أشرتم إليه- حفظكم الله- من تكرر جوابي على إباحة الصورة المأخوذة بالآلة : فإني أفيد أخي أنني لم أبح اتخاذ الصورة – والمراد صورة ما فيه روح من إنسان أو غيره – إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه ، كالتابعية ، والرخصة ، وإثبات الحقائق ونحوها.
وأما اتخاذ الصورة للتعظيم ، أو للذكرى، أو للتمتع بالنظر إليها ، أو التلذذ بها فإني لا أبيح ذلك ، سواء كان تمثالاً أو رقماً وسواء كان مرقوماً باليد أو بالآلة ، لعموم قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، -: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " . وما زلت أفتي بذلك وآمر من عنده صور للذكرى بإتلافها ، وأشدد كثيراً إذا كانت الصورة صورة ميت.
وأما تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو غيره فلا ريب في تحريمه وأنه من كبائر الذنوب ، لثبوت لعن فاعله على لسان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهذا ظاهر فيما إذا كان تمثالاً – أي مجسماً – أو كان باليد ، أما إذا كان بالآلة الفورية التي تلتقط الصورة ولا يكون فيها أي عمل من الملتقط من تخطيط الوجه وتفصيل الجسم ونحوه ، فإن التقطت الصورة لأجل الذكرى ونحوها من الأغراض التي لا تبيح اتخاذ الصورة فإن التقاطها بالآلة محرم تحريم الوسائل ، وإن التقطت الصورة للضرورة أو الحاجة فلا بأس بذلك.(78/28)
هذا خلاصة رأيي في هذه المسألة ، فإن كان صواباً فمن الله وهو المان به ، وإن كان خطأ فمن قصوري أو تقصيري ، وأسأل الله أن يعفو عني منه، وأن يهديني إلى الصواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
---
(1) سورة الحج، الآية "78" .
(1) سورة البقرة ، الآية "185" .
(2) سورة الحج ، الآية "78" .
(1) سورة غافر ، الآية "46" .
(1) سورة آل عمران ، الآية "7" .(78/29)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
التوسل
محمد بن صالح العثيمين
(374) سئل فضيلة الشيخ –جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرالجزاء-:عن حكم التوسل؟
فأجاب بقوله : هذا سؤال مهم، فنحب أن نبسط الجواب فيه؛ فأقول :
التوسل : مصدر توسل يتوسل : ، أي اتخذ وسيلة توصله إلى مقصوده ؛ فأصله طلب الوصول إلى الغاية المقصودة .
وينقسم التوسل إلى قسمين :
القسم الأول: قسم صحيح ، وهو التوسل بالوسيلة الصحيحة الموصلة إلى المطلوب؛ وهو على أنواع نذكر منها:
النوع الأول : التوسل بأسماء الله – تعالى –؛ وذلك على وجهين :
الوجه الأول: أن يكون ذلك على سبيل العموم؛ ومثاله ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه – في دعاء الهم والغم قال :
"اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي…"الخ؛ فهنا توسل بأسماء الله – تعالى – على سبيل العموم "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ".
الوجه الثاني: أن يكون ذلك على سبيل الخصوص بأن يتوسل الإنسان باسم خاص لحاجة خاصة تناسب هذا الاسم ، مثل ما جاء في حديث أبي بكر – رضي الله عنه – حيث طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءً يدعو به في صلاته، فقال : "قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فطلب المغفرة والرحمة وتوسل إلى الله –تعالى – باسمين من أسمائه مناسبين للمطلوب وهما "الغفور" و "الرحيم" .
وهذا النوع من التوسل داخل في قوله – تعالى-: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1) فإن الدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .(79/1)
النوع الثاني: التوسل إلى الله –تعالى – بصفاته ، وهو أيضاً كالتوسل بأسمائه على وجهين:
الوجه الأول : أن يكون عاماً كأن تقول : "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا" ثم تذكر مطلوبك .
الوجه الثاني: أن يكون خاصاً ، كأن تتوسل إلى الله – تعالى - بصفة معينة خاصة لمطلوب خاص ، مثل ما جاء في الحديث "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي " فهنا توسل لله – تعالى – بصفة "العلم" و"القدرة" وهما مناسبتان للمطلوب.
ومن ذلك أن يتوسل بصفة فعلية مثل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
النوع الثالث: أن يتوسل الإنسان إلى الله- عز وجل- بالإيمان به، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم- فيقول:"اللهم إني آمنت بك ، وبرسولك فاغفر لي أو وفقني" ، أو يقول: "اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا"،ومنه قوله–تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } (1) إلى قوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } (2) فتوسلوا إلى الله – تعالى – بالإيمان به أن يغفر لهم الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، ويتوفاهم مع الأبرار.
النوع الرابع : أن يتوسل إلى الله – سبحانه وتعالى – بالعمل الصالح ؛ ومنه قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى غار ليبيتوا فيه، فانطبق عليهم الغار بصخرة لا يستطيعون زحزحتها ، فتوسل كل منهم إلى الله بعمل صالح فعله ؛ فأحدهم توسل إلى الله – تعالى – ببره بوالديه؛ والثاني بعفته التامة ؛ والثالث بوفائه لأجيره ، قال كل منهم "اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه" فانفرجت الصخرة، فهذا توسل إلى الله بالعمل الصالح.(79/2)
النوع الخامس : أن يتوسل إلى الله –تعالى- بذكر حاله يعني أن الداعي يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله وما هو عليه من الحاجة ، ومنه قول موسى - صلى الله عليه وسلم -: { رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } (3)يتوسل إلى الله – تعالى – بذكر حاله أن ينزل إليه الخير . ويقرب من ذلك قول زكريا - عليه الصلاة والسلام -: { رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربِ شقياً } (1) فهذه أنواع من التوسل كلها جائزة؛ لأنها أسباب صالحة لحصول المقصود بالتوسل بها.(79/3)
النوع السادس: التوسل إلى الله – عز وجل- بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته ، فإن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم – أن يدعو الله عز وجل لهم بدعاءٍ عام، ودعاءٍ خاص؛ ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا ، فرفع النبي – صلى الله عليه وسلم – يديه وقال: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات، فما نزل من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته ، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً . وفي الجمعة الأخرى جاء ذلك الرجل أو غيره والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب فقال : يا رسول الله ، غرق المال ، وتهدم البناء فادع الله أن يمسكها عنا ، فرفع النبي – صلى الله عليه وسلم – يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت ، حتى خرج الناس يمشون في الشمس؛ وهناك عدة وقائع سأل الصحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو لهم على وجه الخصوص ومن ذلك أن النبي-صلى الله عليه وسلم – ذكر أن في أمته سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ، فقام عكاشة بن محصن وقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "أنت منهم" فهذا أيضاً من التوسل الجائز وهو أن يطلب الإنسان من شخص ترجى إجابته أن يدعو الله – تعالى – له؛ إلا أن الذي ينبغي: أن يكون السائل يريد بذلك نفع نفسه ، ونفع أخيه الذي طلب منه الدعاء ، حتى لا يتمحض السؤال لنفسه خاصة ؛ لأنك إذا أردت نفع أخيك ونفع نفسك صار في هذا إحسان إليه؛ فإن الإنسان إذا دعا لأخيه في ظهر الغيب قال الملك : "آمين ولك بمثل" وهو كذلك يكون من المحسنين بهذا الدعاء والله يحب المحسنين.
القسم الثاني: - التوسل غير الصحيح وهو : -(79/4)
أن يتوسل الإنسان إلى الله – تعالى – بما ليس بوسيلة ، أي بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة؛ لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو، والباطل المخالف للمعقول ، والمنقول ؛ ومن ذلك أن يتوسل الإنسان إلى الله – تعالى – بدعاء ميت يطلب من هذا الميت أن يدعو الله له ؛ لأن هذا ليس وسيلة شرعية صحيحة؛ بل من سفه الإنسان أن يطلب من الميت أن يدعو الله له ؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله ، ولا يمكن لأحد أن يدعو لأحد بعد موته ، حتى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يمكن أن يدعو لأحد بعد موته؛ ولهذا لم يتوسل الصحابة – رضي الله عنهم – إلى الله بطلب الدعاء من رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ؛ فإن الناس لما أصابهم الجدب في عهد عمر- رضي الله عنه- قال: - "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فقام العباس – رضي الله عنه- فدعا الله- تعالى- . ولو كان طلب الدعاء من الميت سائغاً، ووسيلة صحيحة لكان عمر ومن معه من الصحابة يطلبون ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن إجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - أقرب من إجابة دعاء العباس – رضي الله عنه-؛ فالمهم أن التوسل إلى الله- تعالى – بطلب الدعاء من ميت توسل باطل لا يحل، ولا يجوز.
ومن التوسل الذي ليس بصحيح : أن يتوسل الإنسان بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم– وذلك أن جاه الرسول- صلىالله عليه وسلم – ليس مفيداً بالنسبة إلى الداعي؛ لأنه لا يفيد إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما بالنسبة للداعي فليس بمفيد حتى يتوسل إلى الله به؛ وقد تقدم أن التوسل اتخاذ الوسيلة الصالحة التي تثمر . فما فائدتك أنت من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم- له جاه عند الله ؟! وإذا أردت تتوسل إلى الله على وجه صحيح فقل: اللهم بإيماني بك وبرسولك،أو بمحبتي لرسولك، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا الوسيلة الصحيحة النافعة .(79/5)
(375) وسئل فضيلة الشيخ : أعلى الله درجته في المهديين : عن حكم التوسل وأقسامه؟
فأجاب بقوله : التوسل اتخاذ الوسيلة ؛ والوسيلة "كل ما يوصل إلى المقصود" فهي من الوصل؛ لأن الصاد والسين يتناوبان كما يقال : صراط ، وسراط، وبصطة ، وبسطة.
والتوسل في دعاء الله – تعالى – أن يقرن الداعي بدعائه ما يكون سبباً في قبول دعائه ، ولابد من دليل على كون هذا الشيء سبباً للقبول؛ ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع ؛ فمن جعل شيئاً من الأمور وسيلة له في قبول دعائه بدون دليل من الشرع فقد قال على الله ما لا يعلم ؛ إذ كيف يدري أن ما جعله وسيلة مما يرضاه الله – تعالى – ، ويكون سبباً في قبول دعائه؟! والدعاء من العبادة؛ والعبادة موقوفة على مجيء الشرع بها . وقد أنكر الله-تعالى – على من اتبع شرعاً بدون إذنه، وجعله من الشرك فقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } (1) وقال – تعالى - : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } (2) .
والتوسل في دعاء الله – تعالى – قسمان:
القسم الأول : أن يكون بوسيلة جاءت بها الشريعة وهو أنواع .
النوع الأول : التوسل بأسماء الله- تعالى –، وصفاته، وأفعاله، فيتوسل إلى الله – تعالى – بالاسم المقتضي لمطلوبه،أو بالصفة المقتضية له، أو بالفعل المقتضي له: قال الله – تعالى-: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (3) فيقول: اللهم يا رحيم ارحمني ، ويا غفور اغفر لي، ونحو ذلك؛ وفي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي). وعلم أمته أن يقولوا في الصلاة عليه: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم.(79/6)
النوع الثاني : التوسل إلى الله – تعالى-بالإيمان-به وطاعته كقوله-تعالى-عن أولي الألباب : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } (4) وقوله: { إنه كان فريق من عبادي يقول :ون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا } (1).
وقوله عن الحواريين: { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } (2) .
النوع الثالث: أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبينة لاضطراره، وحاجته، كقول موسى –عليه الصلاة والسلام -: { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } (3) .
النوع الرابع : أن يتوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته كطلب الصحابة – رضي الله عنهم– من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم مثل قول الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم – يخطب، فقال: ادع الله أن يغيثنا ؛ وقول عكاشة بن محصن للنبي -صلى الله عليه وسلم - : ادع الله أن يجعلني منهم.(79/7)
وهذا إنما يكون في حياة الداعي ، أما بعد موته فلا يجوز؛ لأنه لا عمل له: فقد انتقل إلى دار الجزاء ؛ ولذلك لما أجدب الناس في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستسقي لهم؛ بل استسقى عمر بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: قم فاستسق؛ فقام العباس فدعا ، وأما ما يروى عن العتبي أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: "السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } (1) وقد جئتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي" وذكر تمام القصة؛ فهذه كذب لا تصح ؛ والآية ليس فيها دليل لذلك ؛ لأن الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } . ولم يقل : " إذ ظلموا أنفسهم " و { إذ } لما مضى لا للمستقبل ؛ والآية في قوم تحاكموا، أو أرادوا التحاكم إلى غير الله، ورسوله، كما يدل على ذلك سياقها السابق، واللاحق.
القسم الثاني : أن يكون التوسل بوسيلة لم يأت بها الشرع وهي نوعان :
أحدهما : أن يكون بوسيلة أبطلها الشرع، كتوسل المشركين بآلهتهم؛ وبطلان هذا ظاهر.
الثاني : أن يكون بوسيلة سكت عنها الشرع: وهذا محرم؛ وهو نوع من الشرك، مثل أن يتوسل بجاه شخص ذي جاه عند الله، فيقول : : "أسألك بجاه نبيك" : فلا يجوز ذلك؛ لأنه إثبات لسبب لم يعتبره الشرع ، ولأن جاه ذي الجاه ليس له أثر في قبول الدعاء ؛ لأنه لا يتعلق بالداعي، ولا بالمدعو؛ وإنما هو من شأن ذي الجاه وحده ، فليس بنافع لك في حصول مطلوبك؛ أو دفع مكروبك، ووسيلة الشيء ما كان موصلاً إليه ؛ والتوسل بالشيء إلى مالا يوصل إليه نوع من العبث ، فلا يليق أن تتخذه فيما بينك وبين ربك - والله الموفق.
(376) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم التوسل بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ؟(79/8)
فأجاب قائلاً : التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أقسام :
الأول : أن يتوسل بالإيمان به فهذا التوسل صحيح، مثل أن يقول : : "اللهم إني آمنت بك وبرسولك فاغفر لي"؛ وهذا لا بأس به ؛ وقد ذكره الله-تعالى- في القرآن الكريم في قوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } (1) ، ولأن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيلة شرعية لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات؛ فهو قد توسل بوسيلة ثابتة شرعاً.
الثاني : أن يتوسل بدعائه – صلى الله عليه وسلم – أي بأن يدعو للمشفوع له؛ وهذا أيضاً جائز وثابت لكنه لا يمكن أن يكون إلا في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ وقد ثبت عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" وأمر العباس أن يقوم فيدعو الله- سبحانه وتعالى – بالسقيا؛ فالتوسل في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم –بدعائه جائز، ولا بأس به.
الثالث : أن يتوسل بجاه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، سواء في حياته، أو بعد مماته: فهذا توسل بدعي لا يجوز؛ وذلك لأن جاه الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا ينتفع به إلا الرسول – صلى الله عليه وسلم –؛ وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يقول : : اللهم إني أسألك بجاه نبيك أن تغفر لي أو ترزقني الشيء الفلاني ؛ لأن الوسيلة لا بد أن تكون وسيلة ؛ والوسيلة مأخوذة من الوسل بمعنى الوصول إلى الشيء؛ فلا بد أن تكون هذه الوسيلة موصلة إلى الشيء وإذا لم تكن موصلة إليه فإن التوسل بها غير مجد، ولا نافع ؛ وعلى هذا فنقول : التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقسام:
القسم الأول : أن يتوسل بالإيمان به، واتباعه؛ وهذا جائز في حياته، وبعد مماته.(79/9)
القسم الثاني : أن يتوسل بدعائه أي بأن يطلب من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو له فهذا جائز في حياته لا بعد مماته؛ لأنه بعد مماته متعذر.
القسم الثالث: أن يتوسل بجاهه، ومنزلته عند الله؛ فهذا لا يجوز لا في حياته، ولا بعد مماته؛ لأنه ليس وسيلة؛ إذ إنه لا يوصل الإنسان إلى مقصوده؛ لأنه ليس من عمله.
فإذا قال قائل : جئت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند قبره، وسألته أن يستغفر لي، أو أن يشفع لي عند الله فهل يجوز ذلك أولا ؟
قلنا : لا يجوز .
فإذا قال: أليس الله يقول: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } (1) .
قلنا له: بلى إن الله يقول : ذلك ، ولكن يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا } و { إذ } هذه ظرف لما مضى، وليست ظرفاً للمستقبل ؛ لم يقل الله : ولو أنهم إذ ظلموا ..، بل قال { إذ ظلموا } . فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم-واستغفار الرسول– صلى الله عليه وسلم – بعد مماته أمر متعذر؛ لأنه إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث – كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم –:"صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" . فلا يمكن لإنسان بعد موته أن يستغفر لأحد؛ بل ولا يستغفر لنفسه أيضاً؛ لأن العمل انقطع.
(377) وسئل -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء-: عن التوسل هل هو من مسائل العقيدة؟ وعن حكم التوسل بالصالحين ؟ .
فأجاب – حفظه الله تعالى – بقوله : التوسل داخل في العقيدة ، لأن المتوسل يعتقد أن لهذه الوسيلة تأثيراً في حصول مطلوبه، ودفع مكروهه؛ فهو في الحقيقة من مسائل العقيدة ؛ لأن الإنسان لا يتوسل بشيء إلا وهو يعتقد أن له تأثيراً فيما يريد .
والتوسل بالصالحين ينقسم إلى قسمين:(79/10)
القسم الأول : التوسل بدعائهم: فهذا لا بأس به؛ فقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتوسلون برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدعائه : يدعو الله لهم فينتفعون بذلك ؛ واستسقى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعم النبي - صلى الله عليه وسلم - "العباس بن عبد المطلب" بدعائه .
وأما القسم الثاني : فهو التوسل بذواتهم: فهذا ليس بشرعي ؛ بل هو من البدع من وجه ، ونوع من الشرك من وجه آخر.
فهو من البدع؛ لأنه لم يكن معروفاً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه.
وهو من الشرك لأن كل في أمر من الأمور أنه سبب ولم يكن سبباً شرعياً فإنه قد أتى نوعاً من أنواع الشرك ؛ من اعتقد وعلى هذا لا يجوز التوسل بذات النبي – صلى الله عليه وسلم – مثل أن يقول : : أسألك بنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا على تقدير أنه يتوسل إلى الله- تعالى- بالإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم- ، ومحبته فإن ذلك من دين الله الذي ينتفع به العبد ؛ وأما ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - فليست وسيلة ينتفع بها العبد ؛ وكذلك على القول الراجح لا يجوز التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ينتفع به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه؛ ولا ينتفع به غيره ؛ وإذا كان الإنسان يتوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتقاد أن للنبي - صلى الله عليه وسلم-جاهاً عند الله فليقل: اللهم إني أسألك أن تشفع بي نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم- ، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يدعو بها الله- عز وجل-.
(378) وسئل أيضاً :هل يجوز التوسل بجاه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ؟(79/11)
فأجاب قائلا : التوسل بجاه النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس بجائز على الراجح من قول أهل العلم؛ فيحرم التوسل بجاه النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يقول : الإنسان: اللهم إني أسألك بجاه نبيك كذا، وكذا؛ وذلك لأن الوسيلة لا تكون وسيلة إلا إذا كان لها أثر في حصول المقصود ؛ وجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للداعي ليس له أثر في حصول المقصود؛ وإذا لم يكن له أثر لم يكن سبباً صحيحاً؛ والله – عز وجل – لا يدعى إلا بما يكون سبباً صحيحاً له أثر في حصول المطلوب؛ فجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مما يختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده؛ وهو مما يكون منقبة له وحده؛ أما نحن فلسنا ننتفع بذلك؛ وإنما ننتفع بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبته ؛ وما أيسر الأمر على الداعي إذا قال : "اللهم إني أسألك بإيماني بك، وبرسولك كذا، وكذا" بدلاًمن أن يقول: أسألك بجاه نبيك . ومن نعمة الله – عز وجل – ورحمته بنا أنه لا ينسد باب من الأبواب المحظورة إلا وأمام الإنسان أبواب كثيرة من الأبواب المباحة . والحمد لله رب العالمين.
(379) سئل فضيلة الشيخ : عن هذا الحديث : أن أعمى أتى إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ادع الله أن يكشف عن بصري قال: "أو أدعك" ، قال: يا رسول الله إنه قد شق عليّ ذهاب بصري، فقال : فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي" ما صحة هذا وما معناه؟(79/12)
فأجاب قائلاً : هذا الحديث اختلف أهل العلم في صحته فمنهم من قال : إنه ضعيف ، ومنهم من قال: إنه حسن ، ولكن له وجهة ليست كما يتبادر من اللفظ، فإن هذا الحديث معناه أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر هذا الرجل الأعمى أن يتوضأ، ويصلي ركعتين ليكون صادقاً في طلب شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – له ، وليكون وضوؤه، وصلاته عنواناً على رغبته في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم– والتوجه به إلى الله –سبحانه وتعالى– ؛ فإذا صدقت النية، وصحت، وقويت العزيمة فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – يشفع له إلى الله – عز وجل – ؛ وذلك بأن يدعو النبي – صلى الله عليه وسلم – له. فإن الدعاء نوع من الشفاعة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" . فيكون معنى هذا الحديث أن هذا الأعمى يطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو الله له؛ لأن هذا الدعاء نوع شفاعة. أما الآن وبعد موت النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن مثل هذه الحال لا يمكن أن تكون لتعذر دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لأحد بعد الموت، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" والدعاء بلا شك من الأعمال التي تنقطع بالموت؛ بل الدعاء عبادة كما قال الله – تعالى- : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (1) ولهذا لم يلجأ الصحابة – رضي الله عنهم – عند الشدائد وعند الحاجة إلى سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو الله لهم ؛ بل قال عمرابن الخطاب – رضي الله عنه- حين قحط المطر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" وطلب من العباس – رضي الله عنه – أن يدعو(79/13)
الله – عز وجل – بالسقيا فدعا فسقوا . وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد موته أن يدعو لأحد؛ لأن ذلك متعذر لانقطاع عمله بموته صلوات الله وسلامه عليه ؛ وإذا كان لا يمكن لأحد أن يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يمكن – ومن باب أولى - أن يدعو أحد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، نفسه بشيء من حاجاته أو مصالحه؛ فإن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ والذي حرم الله على من اتصف به الجنة: قال الله – تعالى-: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } (1) . وقال – تعالى- { : فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين } (2) ؛ وقال الله – عز وجل -: { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } (3)؛ وقال – تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (4). فالمهم أن من دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته أو غيره من الأموات لدفع ضرر أو جلب منفعة فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، وعليه أن يتوب إلى الله – سبحانه وتعالى –، وأن يوجه الدعاء إلى العلي الكبير الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؛ وإني لأعجب من قوم يذهبون إلى قبر فلان وفلان يدعونه أن يفرج عنهم الكربات ويجلب لهم الخيرات وهم يعلمون أن هذا الرجل كان في حال حياته لا يملك ذلك فكيف بعد موته بعد أن كان جثة - وربما يكون رميماً قد أكلته الأرض - فيذهبون يدعونه، ويتركون دعاء الله – عز وجل – الذي هو كاشف الضر، وجالب النفع، والخير ، مع أن الله – تعالى – أمرهم بذلك وحثهم عليه فقال : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } (5) . وقال –الله تعالى-: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } (6).(79/14)
وقال – تعالى – منكراً على من دعا غيره : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله } (1).أسأل الله – تعالى– أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم.
(380) وسئل أيضاً : عن حديث : أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن عمر – رضي الله عنه – كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال : "اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون " هل هو صحيح؟ وهل يدل على جواز التوسل بجاه الأولياء؟
فأجاب قائلاً : هذا الحديث الذي أشار إليه السائل حديث صحيح رواه البخاري ، لكن من تأمله وجد أنه دليل على عدم التوسل بجاه النبي – صلى الله عليه وسلم -، أو غيره؛ وذلك أن التوسل هو اتخاذ وسيلة؛ والوسيلة هي الشيء الموصل إلى المقصود؛ والوسيلة المذكورة في هذا الحديث "نتوسل إليك بنبينا فتسقينا؛ وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" المراد بها التوسل إلى الله تعالى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الرجل : "يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا" ولأن عمر قال للعباس : قم يا عباس فادع الله فدعا، ولو كان هذا من باب التوسل بالجاه لكان عمر – رضي الله عنه – يتوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتوسل بالعباس؛ لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم عند الله من جاه العباس، وغيره؛ فلو كان هذا الحديث من باب التوسل بالجاه لكان الأجدر بأمير المؤمنين عمر –رضي الله عنه–أن يتوسل بجاه النبي–صلىالله عليه وسلم،دون جاه العباس بن عبد المطلب .(79/15)
والحاصل أن التوسل إلى الله – تعالى – بدعاء من ترجى فيه إجابة الدعاء لصلاحه لا بأس به؛ فقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتوسلون إلى الله – تعالى – بدعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم ؛ وكذلك عمر – رضي الله عنه – توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه - ، فلا بأس إذا رأيت رجلاً صالحاً حرياً بالإجابة لكون طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه حلالاً وكونه معروفاً بالعبادة والتقوى ، لا بأس أن تسأله أن يدعو الله لك بما تحب ، بشرط أن لا يحصل في ذلك غرور لهذا الشخص الذي طلب منه الدعاء ، فإن حصل منه غرور بذلك فإنه لا يحل لك أن تقتله وتهلكه بهذا الطلب منه؛ لأن ذلك يضره.
كما أنني أيضاً أقول : إن هذا جائز؛ ولكنني لا أحبذه ، وأرى أن الإنسان يسأل الله –تعالى – بنفسه دون أن يجعل له واسطة بينه وبين الله، وأن ذلك أقوى في الرجاء، وأقرب إلى الخشية، كما أنني أيضاً أرغب من الإنسان إذا طلب من أخيه الذي ترجى إجابة دعائه أن يدعو له ، أن ينوي بذلك الإحسان إليه - أي إلى هذا الداعي - دون دفع حاجة هذا المدعو له؛ لأنه إذا طلبه من أجل دفع حاجته صار كسؤال المال وشبه المذموم ، أما إذا قصد بذلك نفع أخيه الداعي بالإحسان إليه - والإحسان إلى المسلم يثاب عليه المرء كما هو معروف - كان هذا أولى وأحسن . والله ولي التوفيق .
(381) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم هذا الدعاء : "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك" هل للسائلين حق على الله؟ .
فأجاب قائلاً : يجب علينا أولاً أن نعلم أن التوسل إلى الله – تعالى – قسمان :
قسم جائز : وهو ما جاء به الشرع .
قسم ممنوع : وهو ما منعه الشرع.
والجائز أنواع : ونعني بالجائز هنا ما ليس بممنوع فلا يمنع أن يكون مستحباً .(79/16)
أولاً : التوسل إلى الله بأسمائه؛ وهذا جائز؛ ودليله قوله – تعالى- : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1)[1][1] وكذلك قوله- صلى الله عليه وسلم:"أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك " إلى آخر الحديث .
ثانياً : التوسل إلى الله بصفاته ومنه ما جاء في الحديث : "اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي" فإن علم الله الغيب صفة ، وقدرته على الخلق صفة، وهذا التوسل إلى الله – تعالى – بعلمه، وقدرته.
ثالثاً : التوسل إلى الله – تعالى – بأفعاله: أن تدعو الله بشيء ثم تتوسل إليه في تحقيق هذا الشيء بفعل نظيره؛ ومنه حديث الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم - : "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" . فإن صلاة الله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم من أفعاله .
وكذلك أيضاً تقول : "اللهم كما أنزلت علينا المطر فاجعله غيثاً نافعاً " فهنا توسل إلى الله بإنزال المطر؛ وهو فعل من أفعال الله.
رابعاً : التوسل إلى الله بالإيمان؛ ومنه قوله تعالى: { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } . ثم قال : { فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } (1)
خامساً : التوسل إلى الله بالعمل الصالح : ومنه حديث الثلاثة الذين خرجوا في سفر فآواهم الليل إلى غار، فدخلوه ثم انحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت الباب، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله، فانفرجت الصخرة.(79/17)
سادساً : التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته : يعني أن تطلب من شخص ترجى إجابته أن يدعو الله لك؛ وهذا كثير؛ ومنه ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب الناس يوم الجمعة، فدخل رجل فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل "يعني من قلة المطر والنبات" فادع الله أن يغيثنا فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه، وقال: "اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا" فما نزل من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته.
وقولنا : التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته هذا من النوع الجائز ولكنه هل هو من الأمر المشروع يعني هل يشرع لك أن تقول لشخص ما : ادع الله لي؟ .
نقول : في هذا تفصيل:
إن كان لأمر عام يعني طلبت من هذا الرجل أن يشفع لك في أمر عام لك ولغيرك فلا بأس به ومنه الحديث الذي أشرت إليه في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلكت الأموال وانقطعت السبل" فإن هذا الرجل لم يسأل شيئاً لنفسه؛ وإنما سأل شيئاً لعموم المسلمين .
أما إذا كان لغير عامة المسلمين فالأولى ألا تسأل أحداً يدعو لك إلا إذا كنت تقصد من وراء ذلك أن ينتفع الداعي: فتأتي لشخص وتقول : ادع الله لي؛ هذا لا بأس به بشرط ألا تقصد به إذلال نفسك بالسؤال؛ ولكن قصدك نفع الداعي؛ لأنه إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك: "آمين ولك بمثله"؛ فهذه أنواع ستة كلها جائزة .
أما التوسل الممنوع فهو : أن يتوسل الإنسان بالمخلوق؛ فإن هذا لا يجوز؛ فالتوسل بالمخلوق حرام - يعني لا بدعائه ولكن بذاته، مثل أن تقول : "اللهم إني أسألك بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا" فإن هذا لا يجوز.
وكذلك لو سألت بجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز؛ لأن هذا السبب لم يجعله الله، ولا رسوله سبباً .
وأما ما جاء في السؤال "أسألك بحق السائلين عليك" فالسائل يسأل هل للسائلين حق؟(79/18)
الجواب:نعم للسائلين حق أوجبه الله على نفسه في قوله: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } ((1).وكذلك فإن الله يقول:إذا نزل إلى السماء الدنيا:"من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه " فهذا حق السائلين، وهو من فعل الله – عز وجل- والتوسل إلى الله بفعله لا بأس به.
تم بحمد الله . تعالى . المجلد الثاني
ويليه بمشيئة الله . عز وجل . المجلد الثالث
---
(1) سورة الأعراف ، الآية "180".
(1) سورة آل عمران ، الآيتان "190-191" .
(2) سورة آل عمران ، الآيتان "192-193" .
(3) سورة القصص، الآية "24" .
(1) سورة مريم ، الآية "4".
(1) سورة الشورى ، الآية "21".
(2) سورة التوبة ، الآية "31".
(3) سورة الأعراف ، الآية "180".
(4) سورة آل عمران ، الآية "193".
(1) سورة المؤمنون ، الآية "109".
(2) سورة آل عمران ، الآية "53".
(3) سورة القصص، الآية "24".
(1) سورة النساء ، الآية "64".
(1) سورة آل عمران ، الآية "193".
(1) سورة النساء ، الآية "64" .
(1) سورة غافر ، الآية "60".
(1) سورة يونس ، الآية "106".
(2) سورة الشعراء ، الآية "213".
(3) سورة المؤمنون ، الآية "117".
(4) سورة المائدة ، الآية "72".
(5) سورة غافر ، الآية "60".
(6) سورة البقرة ، الآية "186".
(1) سورة النمل ، الآية "62".
(1) سورة الأعراف ، الآية " 180" .
(1) سورة آل عمران ، الآية " 193 " .
(1) سورة البقرة ، الآية " 186 " .(79/19)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد الثاني
البدعة
محمد بن صالح العثيمين
(345) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -: عن البدعة؟
فأجاب قائلاً : البدعة قال فيها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". وإذا كان كذلك فإن البدع سواء كانت ابتدائية أم استمرارية يأثم من تلبس بها لأنها كما قال الرسول، عليه الصلاة والسلام : "في النار"؛ أعني أن الضلالة هذه تكون سبباً للتعذيب في النار ، وإذا كان الرسول ، عيه الصلاة والسلام حذر أمته من البدع فمقتضى ذلك أنها مفسدة محضة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عمم ولم يخص قال: "كل بدعة ضلالة" .
ثم إن البدع في الحقيقة هي انتقاد غير مباشر للشريعة الإسلامية ؛ لأن معناها أو مقتضاها أن الشريعة لم تتم،وأن هذا المبتدع أتمها بما أحدث من العبادة التي يتقرب بها إلى الله كما زعم.
فعليه نقول: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، والواجب الحذر من البدع كلها وألا يتعبد الإنسان إلا بما شرعه الله ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ليكون إمامه حقيقة لأن من سلك سبيل بدعة فقد جعل المبتدع إماماً له في هذه البدعة دون رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، .
(346) وسئل : عن معنى البدعة وعن ضابطها؟ وهل هناك بدعة حسنة ؟ وما معنى قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من سن في الإسلام سنة حسنة؟(80/1)
فأجاب بقوله : البدعة شرعاً ضابطها" التعبد لله بما لم يشرعه الله" ، وإن شئت فقل : "التعبد لله – تعالى بما ليس عليه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه الراشدون" فالتعريف الأول مأخوذ من قوله- تعالى-: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } (1) . والتعريف الثاني مأخوذ من قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور" فكل من تعبد لله بشيء لم يشرعه الله، أو بشيء لم يكن عليه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون فهو مبتدع سواء كان ذلك التعبد فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته أو فيما يتعلق بأحكامه وشرعه. أما الأمور العادية التي تتبع العادة والعرف فهذه لا تسمى بدعة في الدين وإن كانت تسمى بدعة في اللغة ، ولكن ليست بدعة في الدين وليست هي التي حذر منها رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، .
وليس في الدين بدعة حسنة أبداً ، والسنة الحسنة هي التي توافق الشرع ، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسنة أي يبدأ العمل بها، أو يبعثها بعد تركها ، أو يفعل شيئاً يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به فهذه ثلاثة أشياء:
الأول : إطلاق السنة على من ابتدأ العمل ويدل له سبب الحديث فإن النبي، صلى الله عليه وسلم ، حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه ، صلى الله عليه وسلم ، وهم في حاجة وفاقة ، فحث على التصدق فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي ، عليه الصلاة والسلام ، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم ، : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" فهذا الرجل سن سنة ابتداء عمل لا ابتداء شرع.
الثاني : السنة التي تركت ثم فعلها الإنسان فأحياها فهذا يقال عنه: سنها بمعنى أحياها وإن كان لم يشرعها من عنده.(80/2)
الثالث: أن يفعل شيئاً وسيلة لأمر مشروع مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته ولكن لأنه وسيلة لغيره فكل هذا داخل في قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" . والله أعلم.
(347) وسئل فضيلة الشيخ : كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟ .
فأجاب بقوله : البدع تنقسم إلى قسمين :
بدع مكفرة ، وبدع دون ذلك وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق؛ ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق لأن الله – تعالى – قال للنبي ، صلى الله عليه وسلم : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } (1) فندعو أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته ، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة ، فإذا وجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم ، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره ، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره ؛ إن كان في هجره مصلحة فعلناه ، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه ، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره مالم يكن في الهجر مصلحة ، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه ، لأن الهجر حينئذ دواء ، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة.
فإن قال قائل : يرد على ذلك أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هجر كعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك؟(80/3)
فالجواب : أن هذا حصل من النبي، صلى الله عليه وسلم ، وأمر الصحابة بهجرهم لأن في هجرهم فائدة عظيمة ، فقد ازدادوا تمسكاً بما هم عليه حتى إن كعب بن مالك – رضي الله عنه- جاءه كتاب من ملك غسان يقول : فيه بأنه سمع أن صاحبك – يعني الرسول، صلى الله عليه وسلم - قد جفاك وأنك لست بدار هوان ولا مذلة فالحق بنا نواسك . فقام كعب مع ما هو عليه من الضيق والشدة وأخذ الكتاب وذهب به وأحرقه في التنور . فهؤلاء حصل في هجرهم مصلحة عظيمة ، ثم النتيجة التي لا يعادلها نتيجة أن الله أنزل فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة قال- تعالى - : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } (1) الآيتان.
(348) وسئل فضيلة الشيخ : كيف نرد على أهل البدع الذين يستدلون على بدعهم بحديث "من سن في الإسلام سنة حسنة . . . . " إلخ؟ .(80/4)
فأجاب بقوله : نرد على هؤلاء فنقول : إن الذي قال : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" . هو الذي قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". وعلى هذا يكون قوله: "من سن في الإسلام سنة حسنة" . منزلاً على سبب هذا الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة للقوم الذين جاؤوا من مضر في حاجة وفاقة فجاء رجل بصرة من فضة فوضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" . وإذا عرفنا سبب الحديث وتنزل المعنى عليه تبين أن المراد بسن السنة سن العمل بها ، وليس سن التشريع لأن التشريع لا يكون إلا لله ورسوله ، وأن معنى الحديث من سن سنة أي ابتدأ العمل بها واقتدى الناس به فيها، كان له أجرها وأجر من عمل بها ، هذا هو معنى الحديث المتعين، أو يحمل على أن المراد "من سن سنة حسنة" من فعل وسيلة يتوصل بها إلى العبادة واقتدى الناس به فيها، كتأليف الكتب، وتبويب العلم ، وبناء المدارس ، وما أشبه هذا مما يكون وسيلة لأمر مطلوب شرعاً. فإذا ابتدأ الإنسان هذه الوسيلة المؤدية للمطلوب الشرعي وهي لم ينه عنها بعينها ، كان داخلاً في هذا الحديث.
ولو كان معنى الحديث أن الإنسان له أن يشرع ما شاء ، لكان الدين الإسلامي لم يكمل في حياة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ولكان لكل أمة شرعة ومنهاج ، وإذا ظن هذا الذي فعل هذه البدعة أنها حسنة فظنه خاطئ لأن هذا الظن يكذبه قول الرسول ، عليه الصلاة والسلام : "كل بدعة ضلالة" .
(349) وسئل – حفظه الله- : عن حكم إظهار الفرح والسرور بعيد الفطر وعيد الأضحى؟ وبليلة السابعة والعشرين من رجب؟ وليلة النصف من شعبان؟ ويوم عاشوراء؟.(80/5)
فأجاب فضيلته بقوله: أما إظهار الفرح والسرور في أيام العيد عيد الفطر أو عيد الأضحى فإنه لا بأس به إذا كان في الحدود الشرعية ومن ذلك أن يأتي الناس بالأكل والشرب وما أشبه هذا وقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله – عز وجل-" يعني بذلك الثلاثة الأيام التي بعد عيد الأضحى المبارك وكذلك في العيد فالناس يضحون ويأكلون من ضحاياهم ويتمتعون بنعم الله عليهم ، وكذلك في عيد الفطر لا بأس بإظهار الفرح والسرور مالم يتجاوز الحد الشرعي.
أما إظهار الفرح في ليلة السابع والعشرين من رجب ، أو ليلة النصف من شعبان أو في يوم عاشوراء، فإنه لا أصل له وينهى عنه ولا يحضر الإنسان إذا دعي إليه لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" . فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فيها إلى الله – عز وجل – وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية وكل شيء لم يثبت فهو باطل ، والمبني على الباطل باطل ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب ، فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئاً من شعائر الأعياد أو شيئاً من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فإذا كان لم يثبت عمن عرج به ولم يثبت عن أصحابه الذين هم أولى الناس به وهم أشد الناس حرصاً على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث مالم يكن على عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في تعظيمها ولا في إحيائها ، وإنما أحياها بعض التابعين بالصلاة والذكر لا بالأكل والفرح وإظهار شعائر الأعياد.(80/6)
وأما يوم عاشوراء فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سئل عن صومه فقال: "يكفر السنة الماضية" يعني التي قبله وليس في هذا اليوم شيء من شعائر الأعياد وكما أنه ليس فيه شيء من شعائر الأعياد فليس فيه شيء من شعائر الأحزان أيضاً فإظهار الحزن أو الفرح في هذا اليوم كلاهما خلاف السنة ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم إلا صيامه. مع أنه ، صلى الله عليه وسلم ، أمر أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده حتى نخالف اليهود الذين كانوا يصومونه وحده.
(350) وسئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء : عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي ؟
فأجاب قائلاً : أولاً : ليلة مولد الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ليست معلومة على الوجه القطعي ، بل إن بعض العصريين حقق أنها ليلة التاسع من ربيع الأول وليست ليلة الثاني عشر منه، وحينئذ فجعل الاحتفال ليلة الثاني عشر منه لا أصل له من الناحية التاريخية.
ثانياً : من الناحية الشرعية فالاحتفال لا أصل له أيضاً لأنه لو كان من شرع الله لفعله النبي ، صلى الله عليه وسلم، أو بلغه لأمته ولو فعله أو بلغه لوجب أن يكون محفوظاً لأن الله– تعالى– يقول : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (1) فلما لم يكن شيء من ذلك علم أنه ليس من دين الله ، وإذا لم يكن من دين الله فإنه لا يجوز لنا أن نتعبد به لله – عز وجل – ونتقرب به إليه ، فإذا كان الله تعالى – قد وضع للوصول إليه طريقاً معيناً وهو ما جاء به الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فكيف يسوغ لنا ونحن عباد أن نأتي بطريق من عند أنفسنا يوصلنا إلى الله؟ هذا من الجناية في حق الله – عز وجل- أن نشرع في دينه ما ليس منه، كما أنه يتضمن تكذيب قول الله – عز وجل-: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } (2)(80/7)
فنقول :هذا الاحتفال إن كان من كمال الدين فلا بد أن يكون موجوداً قبل موت الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، وإن لم يكن من كمال الدين فإنه لا يمكن أن يكون من الدين لأن الله – تعالى – يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } ومن زعم أنه من كمال الدين وقد حدث بعد الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فإن قوله يتضمن تكذيب هذه الآية الكريمة، ولا ريب أن الذين يحتفلون بمولد الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، إنما يريدون بذلك تعظيم الرسول ،عليه الصلاة والسلام، وإظهار محبته وتنشيط الهمم على أن يوجد منهم عاطفة في ذلك الاحتفال للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا من العبادات ؛ محبة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، عبادة بل لا يتم الإيمان حتى يكون الرسول، صلى الله عليه وسلم ، أحب إلى الإنسان من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، وتعظيم الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، من العبادة ، كذلك إلهاب العواطف نحو النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من الدين أيضاً لما فيه من الميل إلى شريعته ، إذاً فالاحتفال بمولد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من أجل التقرب إلى الله وتعظيم رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، عبادة وإذا كان عبادة فإنه لا يجوز أبداً أن يحدث في دين الله ماليس منه ، فالاحتفال بالمولد بدعة ومحرم ، ثم إننا نسمع أنه يوجد في هذا الاحتفال من المنكرات العظيمة مالا يقره شرع ولا حس ولا عقل فهم يتغنون بالقصائد التي فيها الغلو في الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، حتى جعلوه أكبر من الله – والعياذ بالله- ومن ذلك أيضاً أننا نسمع من سفاهة بعض المحتفلين أنه إذا تلا التالي قصة المولد ثم وصل إلى قوله " ولد المصطفى" قاموا جميعاً قيام رجل واحد يقولون : إن روح الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، حضرت فنقوم إجلالاً لها وهذا سفه ، ثم إنه ليس من الأدب أن يقوموا لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، كان يكره القيام له فأصحابه وهم أشد الناس حبّاً له وأشد منا(80/8)
تعظيماً للرسول ، صلىالله عليه وسلم، لا يقومون له لما يرون من كراهيته لذلك وهو حي فكيف بهذه الخيالات؟!
وهذه البدعة – أعني بدعة المولد – حصلت بعد مضي القرون الثلاثة المفضلة وحصل فيها ما يصحبها من هذه الأمور المنكرة التي تخل بأصل الدين فضلاً عما يحصل فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء وغير ذلك من المنكرات.
(351) وسئل فضيلة الشيخ :عن الفرق بين ما يسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – والاحتفال بالمولد النبوي حيث ينكر على من فعل الثاني دون الأول؟
فأجاب بقوله : الفرق بينهما حسب علمنا من وجهين :
الأول : أن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – لم يتخذ تقرباً إلى الله – عز وجل – وإنما يقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل ويبين ما من الله به على المسلمين على يد هذا الرجل.
الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لا يتكرر ويعود كما تعود الأعياد، بل هو أمر بين للناس وكتب فيه ما كتب ، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفاً من قبل لكثير من الناس ثم انتهى أمره.
(352) وسئل : عن حكم إقامة الأسابيع كأسبوع المساجد وأسبوع الشجرة؟.
فأجاب بقوله : هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً من الشرع وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة ؛ لأن كل شيء يتعبد به الإنسان لله – عز وجل – وهو غير وارد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، فإنه من البدع . لكن الذين نظموها يقول :ون : إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها . ويجب أن ينظر في هذا الأمر وهل هذا مسوغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوغ؟
(353) وسئل أيضاً : عن حكم الاحتفال بما يسمى عيد الأم؟(80/9)
فأجاب قائلاً : إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضاً ، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله – سبحانه وتعالى - ، والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام ؛ وهي عيد الفطر ، وعيد الأضحى ، وعيد الأسبوع "يوم الجمعة" وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة ، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله - سبحانه وتعالى- لقول النبي، صلى الله عليه وسلم ، : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" . أي مردود عليه غير مقبول عند الله وفي لفظ "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" . وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم ، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد ؛ كإظهار الفرح والسرور وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك ، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله – تعالى- ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله – تعالى – لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ، والذي ينبغي للمسلم أيضاً ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يكون شخصيته بمقتضى شريعة الله – تعالى- حتى يكون متبوعاً لا تابعاً ، وحتى يكون أسوة لا متأسياً ، لأن شريعة الله – والحمد لله - كاملة من جميع الوجوه كما قال الله – تعالى-: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (1). والأم أحق من أن يحتفى بها يوماً واحداً في السنة، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها،وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله – عز وجل – في كل زمان ومكان.
(354) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم إقامة أعياد الميلاد للأولاد أو بمناسبة الزواج؟(80/10)
فأجاب بقوله : ليس في الإسلام أعياد سوى يوم الجمعة عيد الأسبوع ، وأول يوم من شوال عيد الفطر من رمضان ، والعاشر من شهر ذي الحجة عيد الأضحى وقد يسمى يوم عرفة عيداً لأهل عرفة وأيام التشريق أيام عيد تبعاً لعيد الأضحى.
وأما أعياد الميلاد للشخص أو أولاده ، أو مناسبة زواج ونحوها فكلها غير مشروعة وهي للبدعة أقرب من الإباحة.
(355) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم أعياد الميلاد؟
فأجاب بقوله : يظهر من السؤال أن المراد بعيد الميلاد عيد ميلاد الإنسان ، كلما دارت السنة من ميلاده أحدثوا له عيداً تجتمع فيه أفراد العائلة على مأدبة كبيرة أو صغيرة.
وقولي في ذلك أنه ممنوع لأنه ليس في الإسلام عيد لأي مناسبة سوى عيد الأضحى ، وعيد الفطر من رمضان ، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة وفي سنن النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:كان لأهل الجاهلية، يومان في كل سنة يلعبون فيهما فلما قدم النبي ، صلى الله عليه وسلم، المدينة قال : "كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد بدلكم الله بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى" . ولأن هذا يفتح باباً إلى البدع مثل أن يقول : قائل : إذا جاز العيد لمولد المولود فجوازه لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أولى وكل ما فتح باباً للمنوع كان ممنوعاً . والله الموفق .
(356) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم إقامة حفل توديع للكافر عند انتهاء عمله؟ وحكم تعزية الكافر؟ وحكم حضور أعياد الكفار؟ .
فأجاب بقوله : هذا السؤال تضمن مسائل :(80/11)
الأولى : إقامة حفل توديع لهؤلاء الكفار0 لا شك أنه من باب الإكرام أو إظهار الأسف على فراقهم ، وكل هذا حرام في حق المسلم قال النبي ، صلىالله عليه وسلم : " لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ". والإنسان المؤمن حقاً لا يمكن أن يكرم أحداً من أعداء الله– تعالى– والكفار أعداء الله بنص القرآن قال الله –تعالى-: { من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } (1) .
المسألة الثانية : تعزية الكافر إذا مات له من يعزى به من قريب أو صديق . وفي هذا خلاف بين العلماء فمن العلماء من قال : إن تعزيتهم حرام ، ومنهم من قال : إنها جائزة . ومنهم من فصل في ذلك فقال : إن كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامهم ، وكف شرهم الذي لا يمكن إلا بتعزيتهم ، فهو جائز وإلا كان حراماً .
والراجح أنه إن كان يفهم من تعزيتهم إعزازهم وإكرامهم كانت حراماً وإلا فينظر في المصلحة.
المسألة الثالثة (1): حضور أعيادهم ومشاركتهم أفراحهم ، فإن كانت أعياداً دينية كعيد الميلاد فحضورها حرام بلا ريب قال ابن القيم – رحمه الله -: لا يجوز الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم. والله الموفق.
(357) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استئجار قارىء ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت؟
فأجاب بقوله : هذا من البدع وليس فيه أجر لا للقارئ ولا للميت ، ذلك لأن القارئ إنما قرأ للدنيا والمال فقط وكل عمل صالح يقصد به الدنيا فإنه لا يقرب إلى الله ولا يكون فيه ثواب عند الله، وعلى هذا فيكون هذا العمل – يعني استئجار شخص ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت - يكون هذا العمل ضائعاً ليس فيه سوى إتلاف المال على الورثة فليحذر منه فإنه بدعة ومنكر.
(358) وسئل - حفظه الله تعالى- : عن حكم المآتم ؟(80/12)
فأجاب قائلاً :المآتم كلها بدعة سواء كانت ثلاثة أيام ، أو على أسبوع ، أو على أربعين يوماً، لأنها لم ترد من فعل السلف الصالح – رضي الله عنهم – ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، ولأنها إضاعة مال ، وإتلاف وقت وربما يحصل فيها شيء من المنكرات من الندب والنياحة ما يدخل في اللعن فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعن النائحة والمستمعة.
ثم إنه إن كان من مال الميت – من ثلثه أعني – فإنه جناية عليه لأنه صرف له في غير الطاعة ، وإن كان من أموال الورثة فإن كان فيهم صغار أو سفهاء لا يحسنون التصرف فهو جناية عليهم أيضاً ، لأن الإنسان مؤتمن في أموالهم فلا يصرفها إلا فيما ينفعهم ، وإن كان لعقلاء بالغين راشدين فهو أيضاً سفه ، لأن بذل الأموال فيما لا يقرب إلى الله أو لا ينتفع به المرء في دنياه من الأمور التي تعتبر سفهاً ،ويعتبر بذل المال فيها إضاعة له وقد نهى النبي، صلى الله عليه وسلم ، عن إضاعة المال ، والله ولي التوفيق .
(359) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم التلاوة لروح الميت ؟
فأجاب قائلاً : التلاوة لروح الميت يعني أن يقرأ القرآن وهو يريد أن يكون ثوابه لميت من المسلمين هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم على قولين :
القول الأول: أن ذلك غير مشروع وأن الميت لا ينتفع به أي لا ينتفع بالقرآن في هذه الحال.
القول الثاني: أنه ينتفع بذلك وأنه يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن بنية أنه لفلان أو فلانة من المسلمين، سواء كان قريباً أو غير قريب.(80/13)
والراجح : القول الثاني لأنه ورد في جنس العبادات جواز صرفها للميت ، كما في حديث سعد ابن عبادة – رضي الله عنه – حين تصدق ببستانه لأمه ، وكما في قصة الرجل الذي قال للنبي ،صلى الله عليه وسلم :إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال النبي ،صلى الله عليه وسلم: "نعم" وهذه قضايا أعيان تدل على أن صرف جنس العبادات لأحد من المسلمين جائز وهو كذلك ، ولكن أفضل من هذا أن تدعو للميت ، وتجعل الأعمال الصالحة لنفسك لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له". ولم يقل : أو ولد صالح يتلو له أو يصلي له أو يصوم له أو يتصدق عنه بل قال: - "أو ولد صالح يدعو له" والسياق في سياق العمل ، فدل ذلك على أن الأفضل أن يدعو الإنسان للميت لا أن يجعل له شيئاً من الأعمال الصالحة ، والإنسان محتاج إلى العمل الصالح، أن يجد ثوابه له مدخراً عند الله- عز وجل- . أما ما يفعله بعض الناس من التلاوة للميت بعد موته بأجرة ، مثل أن يحضروا قارئاً يقرأ القرآن بأجرة ، ليكون ثوابه للميت فإنه بدعة ولا يصل إلى الميت ثواب؛ لأن هذا القارئ إنما قرأ لأجل الدنيا ومن أتى بعبادة من أجل الدنيا فإنه لا حظ له منها في الآخرة كما قال الله – تعالى - : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } (1) .
وإني بهذه المناسبة أوجه نصيحة لإخواني الذين يعتادون مثل هذا العمل أن يحفظوا أموالهم لأنفسهم أو لورثة الميت ، وأن يعلموا أن هذا العمل بدعة في ذاته ، وأن الميت لا يصل إليه ثوابه وحينئذٍ يكون أكلاً للأموال بالباطل ولم ينتفع الميت بذلك.
(360) وسئل أيضاً: عن حكم الاجتماع عند القبر والقراءة؟ وهل ينتفع الميت بالقراءة أم لا؟(80/14)
فأجاب بقوله : هذا العمل من الأمور المنكرة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وهو الاجتماع عند القبر والقراءة.
وأما كون الميت ينتفع بها فنقول: إن كان المقصود انتفاعه بالاستماع فهذا منتفٍ ، لأنه قد مات وقد ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث :"صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" . فهو وإن كان يسمع إذا قلنا بأنه يسمع في هذه الحال فإنه لا ينتفع ، لأنه لو انتفع لزم منه ألا ينقطع عمله ، والحديث صريح في حصر انتفاع الميت بعمله بالثلاث التي ذكرت في الحديث.(80/15)
وأما إن كان المقصود انتفاع الميت بالثواب الحاصل للقارئ ، بمعنى أن القارئ ينوي بثوابه أن يكون لهذا الميت ، فإذا تقرر أن هذا من البدع فالبدع لا أجر فيها "كل بدعة ضلالة" كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن تنقلب الضلالة هداية ، ثم إن هذه القراءة في الغالب تكون بأجرة ، والأجرة على الأعمال المقربة إلى الله باطلة ، والمستأجر للعمل الصالح إذا نوى بعمله الصالح – هذا الصالح من حيث الجنس وإن كان من حيث النوع ليس بصالح كما سيتبين إن شاء الله – إذا نوى بالعمل الصالح أجراً في الدنيا ، فإن عمله هذا لا ينفعه ولايقربه إلى الله ولا يثاب عليه لقوله – تعالى - : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } (1) . فهذا القارئ الذي نوى بقراءته أن يحصل على أجر دنيوي نقول له : هذه القراءة غير مقبولة ، بل هي حابطة ليس فيها أجر ولا ثواب وحينئذ لا ينتفع الميت بما أهدي إليه من ثوابها لأنه لا ثواب فيها ، إذاً فالعملية إضاعة مال، وإتلاف وقت ، وخروج عن سبيل السلف الصالح – رضي الله عنهم – لا سيما إذا كان هذا المال المبذول من تركة الميت وفيها حق قصر وصغار وسفهاء فيأخذ من أموالهم ما ليس بحق فيزاد الإثم إثماً. والله المستعان .
(361) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى-: عن حكم إهداء القراءة للميت؟ .
فأجاب بقوله : هذا الأمر يقع على وجهين : أحدهما : أن يأتي إلى قبر الميت فيقرأ عنده ، فهذا لا يستفيد منه الميت ؛ لأن الاستماع الذي يفيد من سمعه إنما هو في حال الحياة حيث يكتب للمستمع ما يكتب للقارئ ،وهنا الميت قد انقطع عمله كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" .(80/16)
الوجه الثاني : أن يقرأ الإنسان القرآن الكريم تقرباً إلى الله – سبحانه وتعالى – ويجعل ثوابه لأخيه المسلم أو قريبه فهذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم:
فمنهم من يرى أن الأعمال البدنية المحضة لا ينتفع بها الميت ولو أهديت له ؛ لأن الأصل أن العبادات مما يتعلق بشخص العابد ، لأنها عبارة عن تذلل وقيام بما كلف به وهذا لا يكون إلا للفاعل فقط ، إلا ما ورد النص في انتفاع الميت به فإنه حسب ما جاء في النص يكون مخصصاً لهذا الأصل.
ومن العلماء من يرى أن ما جاءت به النصوص من وصول الثواب إلى الأموات في بعض المسائل ، يدل على أنه يصل إلى الميت من ثواب الأعمال الأخرى ما يهديه إلى الميت.
ولكن يبقى النظر هل هذا من الأمور المشروعة أو من الأمور الجائزة بمعنى هل نقول : إن الإنسان يطلب منه أن يتقرب إلى الله- سبحانه وتعالى – بقراءة القرآن الكريم ، ثم يجعلها لقريبه أو أخيه المسلم ، أو أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها .
الذي نرى أن هذا من الأمور الجائزة التي لا يندب إلى فعلها وإنما يندب إلى الدعاء للميت والاستغفار له وما أشبه ذلك مما نسأل الله- تعالى – أن ينفعه به، وأما فعل العبادات وإهداؤها فهذا أقل ما فيه أن يكون جائزاً فقط وليس من الأمور المندوبة ، ولهذا لم يندب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أمته إليه بل أرشدهم إلى الدعاء للميت فيكون الدعاء أفضل من الإهداء.
(362) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم قراءة القرآن الكريم على القبور؟ والدعاء للميت عند قبره؟ ودعاء الإنسان لنفسه عند القبر؟(80/17)
فأجاب بقوله : قراءة القرآن الكريم على القبور بدعة، ولم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه؛ وإذا كانت لم ترد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أصحابه فإنه لا ينبغي لنا نحن أن نبتدعها من عند أنفسنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما صح عنه: "كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار" والواجب على المسلمين أن يقتدوا بمن سلف من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان حتى يكونوا على الخير والهدى؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم-" . وأما الدعاء للميت عند قبره فلا بأس به ، فيقف الإنسان عند القبر ويدعو له بما يتيسر، مثل أن يقول :: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم أدخله الجنة ، اللهم افسح له في قبره، وما أشبه ذلك.
وأما دعاء الإنسان لنفسه عند القبر فهذا إذا قصده الإنسان فهو من البدع أيضاً ؛ لأنه لا يخصص مكان للدعاء إلا إذا ورد به النص؛ وإذا لم يرد به النص، ولم تأت به السنة فإنه – أعني تخصيص مكان للدعاء- أياً كان ذلك المكان - يكون تخصيصه بدعة.
(363) وسئل فضيلة الشيخ : هل قوله – تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } يدل على أن الثواب لا يصل إلى الميت إذا أهدي له؟
فأجاب بقوله : قوله – تعالى- : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } (1) المراد – والله أعلم – أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئاً ، كما لا يحمل من وزر غيره شيئاً ؛ وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي غيره ؛ لكثرة النصوص الواردة في وصول ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به ، فمن ذلك:(80/18)
1- 1- الدعاء:فإن المدعو له ينتفع به بنص القرآن الكريم والسنة،وإجماع المسلمين ، قال الله –تعالى –لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } (1) وقال – تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم يقول :ون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } (2) فالذين سبقوهم بالإيمان هم المهاجرون والأنصار ، والذين جاؤوا من بعدهم هم التابعون فمن بعدهم إلى يوم الدين ؛وثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –أنه أغمض أبا سلمة، وقال : "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه ، وافسح له في قبره ، ونور له فيه" . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي على أموات المسلمين ، ويدعو لهم ، ويزور المقابر ، ويدعو لأهلها ، واتبعته أمته في ذلك حتى صار هذا من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه…"
وهذا لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم لأن المراد به عمل الإنسان نفسه ، لا عمل غيره له ؛ وإنما جعل دعاء الولد الصالح من عمله ؛ لأن الولد من كسبه، حيث إنه هو السبب في إيجاده ، فكأن دعاءه لوالده دعاء من الوالد نفسه – بخلاف دعاء غير الولد لأخيه ، فإنه ليس من عمله – وإن كان ينتفع به -؛ فالاستثناء الذي في الحديث من انقطاع عمل الميت نفسه لا عمل غيره له، ولهذا لم يقل : انقطع العمل له ، بل قال: "انقطع عمله". وبينهما فرق بين .(80/19)
2- 2- الصدقة عن الميت : ففي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمي افتلتت نفسها (ماتت فجأة) ، وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" . وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ والصدقة عبادة مالية محضة.
3- 3- الصيام عن الميت: ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" والولي هو الوارث ؛ لقوله – تعالى-: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } (1)، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" متفق عليه ؛ والصيام عبادة بدنية محضة.
4- 4- الحج عن غيره: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما –أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ قال: "نعم" . وذلك في حجة الوداع. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال :" نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء".
فإن قيل : هذا من عمل الولد لوالده ؛ وعمل الولد من عمل الوالد كما في الحديث السابق : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث…" حيث جعل دعاء الولد لوالده من عمل الوالد ؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما:أن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعلل جوازحج الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومأ إلى ذلك؛بل في الحديث مايبطل التعليل به؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- شبهه بقضاء الدين الجائزمن الولد، وغيره؛ فجعل ذلك هو العلة-أعني كونه قضاء شيء واجب عن الميت.(80/20)
الثاني : أنه قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على جواز الحج عن الغير ، حتى من غير الولد: فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول:لبيك عن شبرمة .قال: "من شبرمة"؟قال:أخ لي أو قريب لي .قال:" حججت عن نفسك ؟" قال : لا . قال : "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" . قال في البلوغ: رواه أبو داود وابن ماجه . وقال في الفروع : إسناده جيد احتج به أحمد في رواية صالح، لكنه رجح في كلام آخر أنه موقوف؛ فإن صح المرفوع فذاك؛ وإلا فهو قول صحابي لم يظهر له مخالف؛ فهو حجة، ودليل على أن هذا العمل كان من المعلوم جوازه عندهم ؛ ثم إنه قد ثبت حديث عائشة في الصيام : "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" . والولي هو الوارث سواء كان ولداً أم غير ولد؛ وإذا جاز ذلك في الصيام مع كونه عبادة محضة فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى، وأحرى.
5- الأضحية عن الغير: فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: "ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى، وكبر ووضع رجله على صفاحهما" . ولأحمد من حديث أبي رافع – رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فيذبح أحدهما ويقول :"اللهم هذا عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ" . ثم يذبح الآخر ويقول: "هذا عن محمد وآل محمد". قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن ، وسكت عنه في التلخيص . والأضحية عبادة بدنية قوامها المال، وقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل بيته، وعن أمته جميعاً ؛ وما من شك في أن ذلك ينفع المضحى عنهم ، وينالهم من ثوابه ؛ ولو لم يكن كذلك لم يكن للتضحية عنهم فائدة .(80/21)
6- اقتصاص المظلوم من الظالم بالأخذ من صالح أعماله : ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثم دينار، ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ؛ فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي - ، صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون من المفلس؟" قالوا : المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع . فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ؛ فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار" .
فإذا كانت الحسنات قابلة للمقاصة بأخذ ثوابها من عامل إلى غيره كان ذلك دليلاً على أنها قابلة لنقلها منه إلى غيره بالإهداء.(80/22)
7- انتفاعات أخرى بأعمال الغير: كرفع درجات الذرية في الجنة إلى درجات آبائهم ، وزيادة أجر الجماعة بكثرة العدد ، وصحة صلاة المنفرد بمصافة غيره له ، والأمن والنصر بوجود أهل الفضل ، كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه إلى السماء – وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء –، فقال : " النجوم أمنة للسماء؛ فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" . وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – قال:قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون : انظروا هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيفتح لهم به؛ ثم يبعث البعث الثاني، فيقول :ون : هل فيكم من رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث، فيقال : انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يكون البعث الرابع، فيقال :: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيوجد الرجل، فيفتح لهم به".(80/23)
فإذا تبين أن الرجل ينتفع بغيره وبعمل غيره ، فإن من شرط انتفاعه أن يكون من أهله ، وهو المسلم ؛ فأما الكافر فلا ينتفع بما أهدي إليه من عمل صالح، ولا يجوز أن يهدى إليه ، كما لا يجوز أن يدعى له ويستغفر له، قال الله – تعالى - : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } (1)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن جده العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة ، وأراد ابنه عمرو بن العاص أن يعتق عنه الخمسين الباقية ، فسأل النبي – صلى الله عليه وسلم-فقال: "إنه لو كان مسلماً فأعتقتم، أو تصدقتم عنه، أو حججتم بلغه ذلك" . وفي رواية : "فلو كان أقر بالتوحيد، فصُمتَ، وتصدقت عنه نفعه ذلك" . . رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل : هلا تقتصرون على ما جاءت به السنة من إهداء القرب، وهي: الحج، والصوم ، والصدقة ، والعتق؟
فالجواب: أن ما جاءت به السنة ليس على سبيل الحصر، وإنما غالبه قضايا أعيان سئل عنها النبي – صلى الله عليه وسلم - فأجاب به، وأومأ إلى العموم بذكر العلة الصادقة بما سئل عنه وغيره، وهي قوله: "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته". ويدل على العموم أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" . ثم لم يمنع الحج، والصدقة ، والعتق، فعلم من ذلك أن شأن العبادات واحد، والأمر فيها واسع.
فإن قيل: فهل يجوز إهداء القرب الواجبة؟ .(80/24)
فالجواب : أما على القول بأنه لا يصح إهداء القرب إلا إذا نواه المهدي قبل الفعل ، بحيث يفعل القربة بنية أنها عن فلان ، فإن إهداء القرب الواجبة لا يجوز لتعذر ذلك ، إذ من شرط القرب الواجبة أن ينوي بها الفاعل أنها عن نفسه قياماً بما أوجب الله – تعالى – عليه ؛ اللهم إلا أن تكون من فروض الكفايات ، فربما يقال : بصحة ذلك، حيث ينوي الفاعل القيام بها عن غيره، لتعلق الطلب بأحدهما لا بعينه.
وأما على القول بأنه يصح إهداء القرب بعد الفعل ويكون ذلك إهداء لثوابها بحيث يفعل القربة ويقول: اللهم اجعل ثوابها لفلان، فإنه لا يصح إهداء ثوابها أيضاً على الأرجح ؛ وذلك لأن إيجاب الشارع لها إيجاباً عينياً دليل على شدة احتياج العبد لثوابها ، وضرورته إليه ، ومثل هذا لا ينبغي أن يؤثر العبد بثوابه غيره.
فإن قيل : إذا جاز إهداء القرب إلى الغير فهل من المستحسن فعله؟ .
فالجواب : أن فعله غير مستحسن إلا فيما وردت به السنة ، كالأضحية، والواجبات التي تدخلها النيابة ؛ كالصوم والحج ، وأما غير ذلك فقد قال شيخ الإسلام في الفتاوى ص 322-323ج24 مجموع ابن قاسم: "إن الأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها ، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ، لأحيائهم وأمواتهم" ، قال : "ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً ، وصاموا، وحجوا ، أو قرؤوا القرآن الكريم يهدون ذلك لموتاهم المسلمين ، ولا لخصوصهم (1) . بل كان عادتهم كما تقدم ، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف ، فإنها أفضل وأكمل" . أ . هـ .(80/25)
وأما ما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي أبوين، وكنت أبرهما في حياتهما فكيف البر بعد موتهما؟ . فقال : "إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك ، وتصوم لهما مع صيامك ، وتصدق لهما مع صدقتك". فهو حديث مرسل لا يصح . وقد ذكر الله – تعالى – مكافأة الوالدين بالدعاء ، فقال تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } (1). وعن أبي أسيد – رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، : هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ،وإكرام صديقهما". رواه أبو داود وابن ماجه. ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من برهما أن يصلي لهما مع صلاته ، ويصوم لهما مع صيامه.
فأما ما يفعله كثير من العامة اليوم حيث يقرؤون القرآن الكريم في شهر رمضان أو غيره ، ثم يؤثرون موتاهم به ويتركون أنفسهم فهو لا ينبغي لما فيه من الخروج عن جادة السلف ، وحرمان المرء نفسه من ثواب هذه العبادة ، فإن مهدي العبادة ليس له من الأجر سوى ما يحصل من الإحسان إلى الغير . أما ثواب العبادة الخاص فقد أهداه ، ومن ثم كان لا ينبغي إهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم –؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – له ثواب القربة التي تفعلها الأمة ؛ لأنه الدال عليها والآمر بها ، فله مثل أجر الفاعل ، ولا ينتج عن إهداء القرب إليه سوى حرمان الفاعل نفسه من ثواب العبادة.(80/26)
وبهذا تعرف فقه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه أهدى شيئاً من القرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أشد الناس حباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على فعل الخير ، وهم أهدى الناس طريقاً وأصوبهم عملاً ؛ فلا ينبغي العدول عن طريقتهم في هذا وغيره ؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(364) وسئل فضيلته : عن الحكمة من الطواف؟ وهل الحكمة من تقبيل الحجر التبرك به؟
فأجاب بقوله : الحكمة من الطواف بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" فالطائف الذي يدور على بيت الله – تعالى – يقوم بقلبه من تعظيم الله – تعالى – ما يجعله ذاكراً الله – تعالى - وتكون حركاته بالمشي والتقبيل ، واستلام الحجر ، والركن اليماني ، والإشارة إلى الحجر ذكراً لله تعالى ؛ لأنها من عبادته، وكل العبادات ذكر لله – تعالى – بالمعنى العام ؛ وأما ما ينطق به بلسانه من التكبير ، والذكر ، والدعاء فظاهر أنه من ذكر الله – تعالى - .
وأما تقبيل الحجر فإنه عبادة حيث يُقَبل الإنسان حجراً لا علاقة له به سوى التعبد لله – تعالى- بتعظيمه واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كما ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- أنه قال حين قبل الحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" وأما ما يظنه بعض الجهال من أن المقصود بذلك التبرك به فإنه لا أصل له فيكون باطلاً.(80/27)
وأما ما أورده بعض الزنادقة من أن الطواف بالبيت كالطواف على قبور أوليائهم، وأنه وثنية فذاك من زندقتهم وإلحادهم ؛ فإن المؤمنين ما طافوا به إلا بأمر الله ، وما كان بأمر الله فالقيام به عبادة لله- تعالى -، ألا ترى أن السجود لغير الله شرك أكبر ، ولما أمر الله – تعالى – الملائكة أن يسجدوا لآدم كان السجود لآدم عبادة لله – تعالى –، وكان ترك السجود له كفراً .
وحينئذ يكون الطواف بالبيت عبادة من أجلِّ العبادات؛ وهو ركن في الحج ؛ والحج أحد أركان الإسلام ؛ ولهذا يجد الطائف بالبيت إذا كان المطاف هادئاً من لذة الطواف وشعور قلبه بالقرب من ربه ما يتبين به علو شأنه، وفضله - والله المستعان -.
(365) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم التمسح بالكعبة والركن اليماني طلباً للبركة؟
فأجاب قائلاً : ما يفعله بعض الجهلة من التمسح بالكعبة، أو الركن اليماني، أو الحجر الأسود طلباً للبركة فهذا من البدع فإن ما يمسح منها يمسح تعبداً لا تبركاً، قال عمر- رضي الله عنه: عندما قبل الحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر لاتضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" فالأمر مبني على الاتباع لا على الابتداع ؛ ولهذا لا يمسح من الكعبة إلا الركن اليماني والحجر الأسود؛ فمن مسح شيئاً سواهما من الكعبة فقد ابتدع؛ ولهذا أنكر ابن عباس - رضي الله عنهما- على معاوية – رضي الله عنه – استلام الركنين الآخرين.
(366) سئل فضيلة الشيخ:هل يجوز التبرك بثوب الكعبة والتمسح به، فبعض الناس يقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أجاز ذلك؟ .(80/28)
فاجأب - حفظه الله – بقوله : التبرك بثوب الكعبة والتمسح به من البدع ؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي –صلى الله عليه وسلم - ولما طاف معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – بالكعبة ، وجعل يمسح جميع أركان البيت ، يمسح الحجر الأسود ، ويمسح الركن العراقي ، والركن الشامي ، والركن اليماني ، أنكر عليه عبد الله بن عباس ، فأجاب معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً ، فأجابه ابن عباس : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } (1) وقد رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يمسح الركنين يعني الحجر الأسود واليماني . وهذا دليل على أنه يجب علينا أن نتوقف في مسح الكعبة وأركانها ، على ما جاءت به السنة ؛ لأن هذه هي الأسوة الحسنة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأما الملتزم الذي بين الحجر الأسود والباب ، فإن هذا قد ورد عن الصحابة – رضي الله عنهم- أنهم قاموا به فالتزموا ذلك والله أعلم.
أما ما قاله السائل أن هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فنحن نعلم أنه – رحمه الله – من أشد الناس محاربة للبدع ؛ وإذا قدر أنه ثبت عنه فليس قوله حجة على غيره ؛ لأن ابن تيمية – رحمه الله – كغيره من أهل العلم يخطئ ويصيب ؛ وإذا كان معاوية – رضي الله عنه – وهو من الصحابة أخطأ فيما أخطأ فيه من مسح الأركان الأربعة حتى نبهه عبد الله بن عباس في هذا ؛ فإن من دون معاوية يجوز عليه الخطأ؛ فنحن أولاً –نطالب هذا الرجل بإثبات ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وإذا ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، فإنه ليس بحجة ؛ لأن أقوال أهل العلم يحتج لها ولا يحتج بها وهذه قاعدة ينبغي أن نعرفها: "كل أهل العلم أقوالهم يحتج لها ولا يحتج بها إلا إذا حصل إجماع المسلمين " فإن الإجماع لا يمكن الخروج عنه ، بل لا يمكن الخروج عليه.
(367) سئل فضيلة الشيخ : عن بطاقة أرسلت إليه فيها أذكار مرتبة من بعض الصوفية؟ .(80/29)
فأجاب - حفظه الله – بقوله :اطلعت على صورة البطاقة ومن أجل العدل وبيان الحق أجبت عما فيها على سبيل الاختصار بما يلي:
1- تضمنت هذه البطاقة الحث على ذكر الله تعالى ؛ وهذا حق ، ولكن ذكر الله- تعالى – عبادة يتقرب بها إليه فيجب التمشي فيها على ما شرعه الله – عز وجل –؛ ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص لله- تعالى –، والاتباع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبذلك تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله -؛ ولا يكون الاتباع إلا إذا كانت العبادة مبنية على الشرع في سببها ، وجنسها ، وقدرها ، وكيفيتها ، وزمانها ، و مكانها .
وإذا كان كذلك فإن الذكر الموجود في البطاقة لا يتضمن ما ذكر فلا يصح أن يكون قربة إلى الله- تعالى –، أو ذكراً مرضياً عنده، كما هو ظاهر لمن رآه ، فأين في شريعة الله هذا النوع من الذكر الذي رتبوه ؟! وأين في شريعة الله هذا العدد الذي عينوه ؟! وأين في شريعة الله عز وجل هذا الزمن الذي خصصوه بحيث يكون هذا في الليل، وهذا في النهار ؟! وأين في شريعة الله تقديم الفاتحة عند البدء بهذا الذكر البدعي؟!.(80/30)
2- تضمنت هذه البطاقة قراءة الفاتحة لحضرة النبي – صلى الله عليه وسلم –؛ فإن أرادوا بحضرته ذاته وأن يقرأ الإنسان الفاتحة، ويهدي ثوابها للنبي – صلى الله عليه وسلم – فهذه بدعة لم يفعلها الصحابة – رضي الله عنهم - ؛ وهو من جهل فاعله ، فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم،يناله من الأجر على العمل مثل ما ينال فاعله من أمته ؛ لأنه هو الدال عليه ؛ ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله - بدون أن يهدي إليه الفاعل - وإن أرادوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر بذاته فهو أدهى وأمَرٌّ ؛ وهو أمْرٌ منكر وزور ؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحضر، ولن يخرج من قبره إلا عند البعث ، قال الله – تعالى - : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } (1) وقال – تعالى: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } (2)؛ وهذا عام لجميع المخاطبين ؛ وأشرف المخاطبين بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال الله له: { إنك ميت وإنهم ميتون. ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } (3) .(80/31)
1- 1- تضمنت هذه البطاقة من أسماء الله – تعالى – (هو ) ، وفسره بأنه حاضر لا يغيب . والقول بأن (هو) من أسماء الله قول باطل مبني على الجهل، والعدوان ؛ أما الجهل فلأن (هو) ضمير لا يدل على معنى سوى ما يتضمنه مرجع ذلك الضمير ، وأسماء الله تعالى كلها حسنى ؛ لقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (4) وهل أحد إذا دعا يقول : : يا هو اغفر لي ؟ وهل أحد يقول في البسملة : بسم هو بدلاً عن اسم الله – تعالى- ؟ وأما العدوان فلأن إثبات اسم لله – تعالى - لم يسم به نفسه عدوان على الله – تعالى –، وقول عليه بلا علم؛ وهو حرام ؛ لقوله تعالى - : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (5) .
ثم إن تفسير (هو) بـ ( حاضر لا يغيب ) كذب على اللغة العربية ، فإن كلمة ( هو ) ضمير غيبة، وليس ضمير حضور ؛ ومن فسره بما يدل على الحضور فهو من أجهل الناس باللغة العربية ، ودلالات ألفاظها – إن كان الذي حمله على ذلك الجهل - أو من أعظم الناس افتراء إن كان قد قصد التقول على الله ، وعلى اللغة العربية.
2- 2- فسر اسم الله ( الواحد ) : بأنه الذي لا ثاني له.
والصواب : لا شريك له - لا إله إلا الله وحده لا شريك له - وقولنا : "لا شريك" كما أنه هو الوارد ، فهو أبلغ مما جاء في هذه البطاقة.
3- 3- فسر اسم ( العزيز ) : بأنه الذي لا نظير له ، وهو قصور؛ والصواب : الغالب الذي لا يغلبه أحدٌ.
4- 4- فسر اسم (القيوم) : بأنه القائم بأسباب مخلوقاته.(80/32)
والصواب: القائم بنفسه وعلى غيره : قال الله – تعالى - : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } (1) ، فهو قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره، وهو قائم على غيره : فكل أحد محتاج إلى الله – عز وجل - وتفسيره بالقائم بأسباب مخلوقاته قاصر جداً .
5- 5- ذكر في هذه البطاقة البدعية صيغة صلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أنزل الله بها من سلطان وهي : "اللهم صلِّ على سيدنا محمد ، عدد ما في علم الله ، صلاة دائمة بدوام ملك الله" .
6- 6- ذكر في هذه البطاقة البدعية أنه يتأكد الصلاة عليه عقب كل صلاة مكتوبة ثلاث مرات بصيغة ذكرها وهي : "اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله ، وصحبه عدد حروف القرآن حرفاً حرفاً ، وعدد كل حرف ألفاً ألفاً ، وعدد صفوف الملائكة صفاً صفاً ، وعدد كل صف ألفاً ألفاً ، وعدد الرمال ذرةً ذرةً ، وعدد كل ذرة ألفَ ألفِ مرةٍ، عدد ما أحاط به علمك،وجرى به قلمك ، ونفذ به حكمك ، في برك ، وبحرك ، وسائر خلقك، عدد ما أحاط به علمك القديم من الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله وصحبه مثل ذلك".
وهاتان الصيغتان بدعيتان باطلتان مخالفتان لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته ، حيث قالوا: يا رسول قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال : "قولوا : اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد" . وبهذا علم أن الأذكار، والصلوات البدعية مع بطلانها، وفسادها تستلزم الصد باعتبار حال فاعلها عما جاءت به الشريعة من الأذكار، والصلوات الشرعية؛ فحذار حذار أيها المؤمن من البدع ؛فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار،كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان-.(80/33)
(368) وسئل : عن حكم وضع العروس قدمها في دم خروف مذبوح؟
فأجاب بقوله : ليس لهذه العادة من أصل شرعي وهي عادة سيئة؛ لأنها :
أولاً : عقيدة فاسدة لا أساس لها من الشرع.
ثانياً : أن تلوثها بالدم النجس سفه ؛ لأن النجاسة مأمور بإزالتها، والبعد عنها.
وبهذه المناسبة أود أن أقول لإخواني المسلمين : إن من المشروع أن الإنسان إذا أصابته النجاسة فليبادر بإزالتها، وتطهيرها ؛ فإن هذا هو هدي النبي ، صلى الله عليه وسلم : فإن الأعرابي لما بال في المسجد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أن يراق على بوله ذنوبٌ من ماء؛ وكذلك الصبي الذي بال في حجر النبي : دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء فأتبعه إياه – أي أتبعه بول الصبي –؛ وتأخير إزالة النجاسة سبب يؤدي إلى نسيان ذلك، ثم يصلي الإنسان وهو على نجاسة؛ وهذا وإن كان يعذر به على القول الراجح، وأنه لو صلى بنجاسة نسي أن يغسلها فصلاته صحيحة؛ لكن ربما يتذكر في أثناء الصلاة؛ وحينئذ إذا لم يمكنه أن يتخلص من النجاسة مع الاستمرار في صلاته فلازم ذلك أنه سوف يقطع صلاته، وينصرف، ويبتدئها من جديد.
على كل حال هذه العادة السيئة التي وقع السؤال عنها فيها تلوث المرأة بالنجاسة الذي هو من السفه، فإن الشرع أمر بالتخلص من النجاسة وتطهيرها ، ثم إنني أخشى أن يكون هناك عقيدة أخرى وهي أن يذبحوه إما لجن ، أو شياطين، أو ما أشبه ذلك؛ فيكون هذا نوعاً من الشرك؛ ومعلوم أن الشرك لا يغفره الله – عز وجل – والله المستعان.
(369) وسئل فضيلة الشيخ عن حكم وضع التمر على الطعام لئلا تأتيه الحشرات ؟(80/34)
فأجاب قائلاً : هذا الفعل وهو وضع التمر على الطعام لئلا تصيبه الحشرات لا أعلم له أصلاً من الشرع ، ولا أصلاً من الواقع؛ فإن الحشرات تأتي إلى مايلائمها ؛ فمنها ما يلائمه التمر، وتأتي حوله، وتأكل منه ؛ ومنها ما يلائمها الدسم، فتأتي إليه، وتطعم منه ؛ ولا أصل لهذا الذي يفعل؛ وإذا لم يكن له أصل من الشرع، ولا أصل من الواقع ، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يفعله، لأنه مبني على مجرد أوهام، وخيالات لا حقيقة لها - والله أعلم.
(370) وسئل : عن شخص سكن في دار، فأصابته الأمراض، وكثير من المصائب مما جعله يتشاءم هو وأهله من هذه الدار؛ فهل يجوز له تركها لهذا السبب؟
فأجاب بقوله : ربما يكون بعض المنازل ، أو بعض المركوبات ، أو بعض الزوجات مشؤوماً يجعل الله بحكمته مع مصاحبته إما ضرراً ، أو فوات منفعة ، أو نحو ذلك ؛ وعلى هذا فلا بأس ببيع هذا البيت، والانتقال إلى بيت غيره ؛ ولعل الله أن يجعل الخير فيما ينتقل إليه؛ وقد ورد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "الشؤم في ثلاث: الدار ، والمرأة ، والفرس" فبعض المركوبات يكون فيها شؤم ، وبعض الزوجات يكون فيهن شؤم، وبعض البيوت يكون فيها شؤم، فإذا رأى الإنسان ذلك فليعلم أنه بتقدير الله – عز وجل –، وأن الله – سبحانه وتعالى – بحكمته قدر ذلك لينتقل الإنسان إلى محل آخر - والله أعلم -.
(371) وسئل فضيلة الشيخ : عما يفعله بعض أهل المزارع من ذهابهم إلى رجل ليكتب لهم ورقة تطرد الطيور، وتحمي مزارعهم؟(80/35)
فأجاب بقوله : هذا العمل ليس بجائز شرعاً؛ وذلك لأنه لا يمكن أن تكون هذه الورقة تطرد الطيور عن المزارع ؛ فإن هذا ليس معلوماً بالحس، ولا معلوماً بالشرع؛ وكل سبب ليس معلوماً بالحس، ولا بالشرع فإن اتخاذه محرم؛ فلا يجوز أن يعملوا هذا العمل؛ وإنما عليهم أن يكافحوا هذه الطيور التي تنقص محاصيلهم بالوسائل المعتادة التي يعرفها الناس - دون هذه الأمور التي لا يعلم لها سبب حسي، ولا شرعي.
(372) سئل فضيلة الشيخ : ما رأيكم في هذه الورقة التي تسمى
"رحلة سعيدة"
البطاقة الشخصية :
الاسم : الإنسان "ابن آدم"
الجنسية : من تراب .
العنوان : كوكب الأرض .
محطة المغادرة : الحياة الدنيا.
محطة الوصول : الدار الآخرة .
موعد الإقلاع : { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } .
موعد الحضور : { لكل أجل كتاب } .
العفش المسموح به:
1- 1- متران قماش أبيض .
2- 2- العمل الصالح .
3- 3- دعاء الولد الصالح .
4- 4- علم ينتفع به .
5- 5- ما سوى ذلك لا يسمح باصطحابه في الرحلة.
شروط الرحلة السعيدة:
على حضرات المسافرين الكرام اتباع التعليمات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
"مزيد من المعلومات" يرجى الاتصال بكتاب الله وسنة رسوله الكريم.
ملاحظة : الاتصال مباشر ومجاناً . لا داعي لتأكيد الحجز هاتف 43442 ؟(80/36)
فأجاب - حفظه الله ورعاه -بقوله :رأيي في هذه التذكرة التي شاعت منذ زمن، وانتشرت بين الناس، ووضعت على وجوه شتى؛ منها هذا الوجه الذي بين يدي؛ وهذه الورقة تشبه أن تكون استهزاءً بهذه الرحلة؛ وانظر إلى قوله في أرقام الهاتف : "43442" يشير إلى الصلوات الخمس: اثنين لصلاة الفجر ؛ وأربعة أربعة للظهر، والعصر؛ وثلاثة للمغرب؛ وأربعة للعشاء؛ فجعل الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين جعلها أرقاماً للهاتف، ثم قال:إن موعد الرحلة: { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } (1) فنقول: أين الوعد في هذه الرحلة ؟! وقال : إن موعد الحضور: { لكل أجل كتاب } (2) فأين تحديد موعد الحضور؟! والمهم أن كل فقراتها فيها شيء من الكذب ؛ ومنها العفش الذي قال: إن منه العلم الذي ينتفع به، والولد الصالح ، وهذا لا يكون مصطحباً مع الإنسان؛ ولكنه يكون بعد الإنسان فالذي أرى أن تتلف هذه التذكرة ، وأن لا تنشر بين الناس، وأن يكتب بدلها شيء من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تقع مثل هذه المواعظ على سبيل الهزء ؛ وفي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يغني عن هذا كله.(80/37)
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أنه في هذه الآونة الأخيرة النشرات التي تنشر بين الناس ما بين أحاديث ضعيفة ، بل موضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قراءٍ منامية تنسب لبعض الناس وهي كذب وليست بصحيحة ، وبين حِكَم تنشر وليس لها أصل ، وإنني أنبه إخواني المسلمين على خطورة هذا الأمر ، وأن الإنسان إذا أراد خيراً فليتصل برئاسة إدارة البحوث العلمية، والإفتاء، والدعوة، والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ، وليعرض عليها ما عنده من المال الذي يحب أن ينشر ما ينتفع الناس به؛ وهي محل ثقة وأمانة؛ – والحمد لله – تجمع هذه الأموال وتطبع بها الكتب النافعة التي ينتفع بها المسلمون في هذه البلاد، وغيرها. أما هذه النشرات التي ليست مبنية على شيء، وإنما هي أكذوبات أو أشياء ضعيفة ، أو حكم ليست حقيقية؛ بل هي كلمات عليها مؤاخذات، وملاحظات ؛ فإنني لا أحب أن ينتشر هذا بين المسلمين، وفيما صح من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفاية - والله المستعان -.
(373) وسئل فضيلة الشيخ : يقوم كثير من الناس بتوزيع ورقة يدعى أنها وصية أحمد خادم الحرم فما حكم هذا العمل؟
فأجاب بقوله : هذه الوصية من شخص مجهول سمى نفسه الشيخ أحمد؛ ولكن فعله ليس بأحمد؛ هذا الرجل ادعى أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوصاه بوصية، وحثه على نشر هذه الوصية، وتوعد من لم ينشرها بمصائب تأتيه، أو تأتي أولاده ، ولكن هذه الوصية مكذوبة ؛ والعجيب أن الشيخ محمد رشيد رضا المشهور يقول : : إن هذه قد راجت منذ أكثر من مائة سنة يقول :: هذه راجت وأنا في سن الطلب. وهي كلما انتهز الوضاعون الكذابون الفرصة نشروها بين الناس وعلى من رأى هذا المنشور أن يمزقه؛ ولا يحل له أن ينشره إلا إذا كتب فيه بأن هذا موضوع مكذوب على الرسول -صلى الله عليه وسلم -.
---
(1) سورة الشورى، الآية "21" .
(1) سورة الأنعام، الآية "108".(80/38)
(1) سورة التوبة ، الآيتان "117-118" .
(1) سورة الحجر ، الآية "9" .
(2) سورة المائدة ، الآية "3".
(1) سورة المائدة ، الآية "3" .
(1) سورة البقرة ، الآية "98".
(1) انظر تفصيل ذلك في الفتوى رقم "404" ص44ج/ 3.
(1) سورة هود ، الآيتان "15-16" .
(1) سورة هود، الآيتان"15-16" .
(1) سورة النجم، الآية "39" .
(1) سورة محمد ، الآية "19".
(2) سورة الحشر ، الآية "10".
(1) سورة الأنفال ، الآية "75" .
(1) سورة التوبة ، الآية "113".
(1) كذا بالأصل، والمراد بخصوصهم أقاربهم .
(1) سورة الإسراء، الآية "24".
(1) سورة الأحزاب ، الآية "21" .
(1) سورة طه ، الآية "55".
(2) سورة المؤمنون ، الآيتان "15- 16".
(3) سورة الزمر ، الآيتان"30-31".
(4) سورة الأعراف ، الآية "180".
(5) سورة الأعراف ، الآية "33".
(1) سورة الرعد ، الآية "33".
(1) سورة لقمان ، الآية "34".
(2) سورة الرعد ، الآية "38".(80/39)
مجموع فتاوى و رسائل - 3
الولاء و البراء
محمد بن صالح العثيمين
(382) سئل فضيلة الشيخ: عن الولاء والبراء؟
فأجاب - رحمه الله- بقوله: البراء والولاء لله سبحانه أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً((1) وهذا مع القوم المشركين كما قال سبحانه: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله((2) فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر. فهذا في الأشخاص.
وكذلك يجب على المسلم أن يتبرأ من كل عمل لا يرضي الله ورسوله وإن لم يكن كفراً، كالفسوق والعصيان كما قال سبحانه: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في } قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون((3).
وإذا كان مؤمن عنده إيمان وعنده معصية، فنواليه على إيمانه، ونكرهه على معاصيه، وهذا يجري في حياتنا، فقد تأخذ الدواء الكريه الطعم وأنت كاره لطعمه، وأنت مع ذلك راغب فيه لأن فيه شفاء من المرض.(81/1)
وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر، وهذا من العجب وهو قلب للحقائق، فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة((4). (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصللمطيع وإن عظمت معصيته قوله تعالى فيمن قتل مؤمناً عمداً : { فمن عُفِيَ له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول مع أن القتل ـ قتل المؤمن عمداً ـ من أعظم الكبائر وقوله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . إلى قوله: { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } . فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان ولا من الأخوة الإيمانية.
فإن كان في الهجر مصلحة أو زوال مفسدة بحيث يكون رادعاً لغير العاصي عن المعصية أو موجباً لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذٍ جائزاً بل مطلوباً طلباً لازماً أو مرغباً فيه حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها. ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ وهم الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم، بهجرهم ونهى عن تكليمهم فاجتنبهم الناس، حتى إن كعباً - رضي الله عنه -دخل على ابن عمه أبي قتادة - رضي الله عنه -وهو أحب الناس إليه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام. فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله - عز وجل - والتوبة النصوح والابتلاء العظيم ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.(81/2)
أما اليوم فإن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم ونفوراً وتنفيراً عن أهل العلم والإيمان فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول: إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاء أو كان فيه إشفاء وهو الهلاك فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوباً.
وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا فالأقرب النهي عنه لعموم قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة".
أما الكفار المرتدون فيجب هجرهم والبعد عنهم وأن لا يجالسوا ولا يواكلوا، إذا قام الإنسان بنصحهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الإسلام فأبوا، وذلك لأن المرتد لا يقر على ردته بل يدعى إلى الرجوع إلى ما خرج منه فإن أبى وجب قتله، وإذا قتل على ردته فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يرمى بثيابه ورجس دمه في حفرة بعيداً عن المقابر الإسلامية في مكان غير مملوك.
وأما الكفار غير المرتدين فلهم حق القرابة إن كانوا من ذوي القربى كما قال تعالى: { وآت ذا القربى حقه } وقال في الأبوين الكافرين المشركين: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي } .
(383) وسئل أيضاً: عن حكم موالاة الكفار؟(81/3)
فأجاب بقوله : موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم قال الله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } (1) وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } (2) وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (3).
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } (4) وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولا ينبغي أبداً أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودة وأبدى من النصح فإن الله تعالى يقول عنهم: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } (5).ويقول سبحانه لنبيه: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } (6) والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وألا تأخذه فيه لومة لائم، وألا يخاف من أعدائه فقد قال الله تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } (7) وقال تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } (8).
وقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم } (1)والله الموفق.
(384) وسئل - رحمه الله - : عن حكم مودة الكفار وتفضيلهم على المسلمين؟(81/4)
فأجاب بقوله: لا شك أن الذي يواد الكفار أكثر من المسلمين قد فعل محرماً عظيماً، فإنه يجب أن يحب المسلمين وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، أما أن يود أعداء الله أكثر من المسلمين فهذا خطر عظيم وحرام عليه، بل لا يجوز أن يودهم ولو أقل من المسلمين لقوله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } (2)
(386) سئل فضيلة الشيخ: عما زعمه أحد الوعاظ في مسجد من مساجد أوربا من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى؟
فأجاب بقوله: أقول: إن هذا القول الصادر عن هذا الرجل ضلال، وقد يكون كفراً، وذلك لأن اليهود والنصارى كفرهم الله - عز وجل - في كتابه، قال الله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . فدل ذلك على أنهم مشركون، وبين الله تعالىفي آيات أخرى ما هو صريح بكفرهم:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } (1)
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } (2)
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } (1)
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم } (2)
والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وكذبوه، فقد كذب الله - عز وجل - وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو.(81/5)
ويا سبحان الله كيف يرضى هذا الرجل أن يقول : إنه لا يجوز إطلاق الكفر على هؤلاء وهم يقولون : إن الله ثالث ثلاثة؟ وقد كفرهم خالقهم - عز وجل - وكيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وهم يقولون : إن المسيح ابن الله، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون : إن الله فقير ونحن أغنياء؟!
كيف لا يرضى أن يكفر هؤلاء وأن يطلق كلمة الكفر عليهم، وهم يصفون ربهم بهذه الأوصاف السيئة التي كلها عيب وشتم وسب؟!
وإني أدعو هذا الرجل ، أدعوه أن يتوب إلى الله -عز وجل-وأن يقرأ قول الله تعالى: { ودوا لو تدهن فيدهنون } (3) وألا يداهن هؤلاء في كفرهم، وأن يبين لكل أحد أن هؤلاء كفار، وأنهم من أصحاب النار، قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة ـ أي أمة الدعوة ـ ثم لا يتبع ما جئت به، أو قال: لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار".
فعلى هذا القائل أن يتوب إلى ربه من هذا القول العظيم الفرية، وأن يعلن إعلاناً صريحاً بأن هؤلاء كفرة، وأنهم من أصحاب النار، وأن الواجب عليهم أن يتبعوا النبي الأمي محمدا ً، صلى الله عليه وسلم ، فإنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } (1) وهو بشارة عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام،.
فقد قال عيسى ابن مريم ما حكاه ربه عنه: { يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } (2).(81/6)
لما جاءهم من...؟ من الذي جاءهم....؟ المبشر به أحمد، لما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين، وبهذا نرد دعوى أولئك النصارى الذين قالوا: إن الذي بشر به عيسى هو أحمد لا محمد، فنقول: إن الله قال: { فلما جاءهم بالبينات } . ولم يأتكم بعد عيسى إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، ومحمد هو أحمد، لكن الله ألهم عيسى أن يسمي محمداً بأحمد لأن أحمد اسم تفضيل من الحمد، فهو أحمد الناس لله، وهو أحمد الخلق في الأوصاف كاملة، فهو عليه الصلاة والسلام أحمد الناس لله، جعلاً لصيغة التفضيل من باب اسم الفاعل وهو أحمد الناس، بمعنى أحق الناس أن يحمد جعلاً لصيغة التفضيل من باب اسم المفعول، فهو حامد ومحمود على أكمل صيغة الحمد الدال عليها أحمد.
وإني أقول: إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر لا شك في كفره، لأن الله - عز وجل - يقول في كتابه: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (1) ويقول - عز وجل - : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (2).
وعلى هذا ـ وأكررها مرة ثالثة ـ على هذا القائل أن يتوب إلى الله - عز وجل - وأن يبين للناس جميعاً أن هؤلاء اليهود والنصارى كفار، لأن الحجة قد قامت عليهم وبلغتهم الرسالة ولكنهم كفروا عناداً.(81/7)
ولقد كان اليهود يوصفون بأنهم مغضوب عليهم لأنهم علموا الحق وخالفوه، وكان النصارى يوصفون بأنهم ضالون لأنهم أرادوا الحق فضلوا عنه، أما الآن فقد علم الجميع الحق وعرفوه، ولكنهم خالفوه وبذلك استحقوا جميعاً أن يكونوا مغضوباً عليهم، وإني أدعو هؤلاء اليهود والنصارى إلى أن يؤمنوا بالله ورسله جميعاً وأن يتبعوا محمداً، صلى الله عليه وسلم، لأن هذا هو الذي أمروا به في كتبهم كما قال الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } (4)
{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (5)
وليأخذوا من الأجر بنصيبين، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، وصلى الله عليه وسلم،". الحديث .
ثم إني اطلعت بعد هذا على كلام لصاحب الإقناع في باب حكم المرتد قال فيه ـ بعد كلام سبق ـ : "أولم يكْفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر".
ونقل عن شيخ الإسلام قوله:
"من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر".
وقال أيضاً في موضع آخر:
"من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد".(81/8)
وهذا يؤيد ما ذكرناه في صدر الجواب، وهذا أمر لا إشكال فيه. والله المستعان.
(387) وسئل فضيلة الشيخ: عن وصف الكفار بالصدق والأمانة وحسن العمل؟
فأجاب بقوله: هذه الأخلاق إن صحت مع أن فيهم الكذب والغدر والخيانة والسطو أكثر مما يوجد في بعض البلاد الإسلامية وهذا معلوم، لكن إذا صحت هذه فإنها أخلاق يدعو إليها الإسلام، والمسلمون أولى أن يقوموا بها ليكسبوا بذلك حسن الأخلاق مع الأجر والثواب. أما الكفار فإنهم لا يقصدون بها إلا أمراً مادياً فيصدقون في المعاملة لجلب الناس إليهم.
لكن المسلم إذا تخلق بمثل هذه الأمور فهو يريد بالإضافة إلى الأمر المادي أمراً شرعياً وهو تحقيق الإيمان والثواب من الله - عز وجل - وهذا هو الفارق بين المسلم والكافر.
أما ما زُعِم من الصدق في دول الكفر شرقية كانت أم غربية فهذا إن صح فإنما هو نزر قليل من الخير في جانب كثير من الشر ولو لم يكن من ذلك إلا أنهم أنكروا حقَّ مَنْ حقُّه أعظم الحقوق وهو الله - عز وجل - { إن الشرك لظلم عظيم } (1). فهؤلاء مهما عملوا من الخير فإنه نزر قليل مغمور في جانب سيئاتهم، وكفرهم، وظلمهم فلا خير فيهم.
(388) وسئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟
فأجاب قائلاً: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.(81/9)
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
وسئل أيضاً: عن حكم الإقامة في بلاد الكفار؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله: الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فُسّاقاً، وبعضهم رجع مرتدّاً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان ـ والعياذ بالله ـ حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهُوِيّ في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسيين:
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } (1) الآية. - وقال تعالى- : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } (1) وثبت في الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب".(81/10)
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي، صلى الله عليه وسلم، "من أحب قوماً فهو منهم".
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص457 جـ8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } (2). وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أ.هـ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال ـصلى الله عليه وسلم ـ : "بلغوا عني ولو آية".(81/11)
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية السلوك ليحذر الناس من الاغترار بهم ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لابد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } (1).
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين، ليعرف ما يدبرونه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.(81/12)
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث "الصغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور "اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأضل".(81/13)
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم. فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيرة لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.(81/14)
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله". وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم؟ قال لا تراءى نارهما" رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي سمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول الصحيح حديث قيس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسل. أ.هـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بإذاًيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب.
(389) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم؟(81/15)
فأجاب قائلاً: لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم قال الله تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } (1) وقال تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } (2). وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع. قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } (3).
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به. وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولا سيما كتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيم - رحمه الله -.
(390)سئل فضيلة الشيخ: عن رجل أسلم وأحب الإسلام وأهله ويبغض الشرك وأهله، وبقي في بلد يَكْرَهُ أهلها الإسلام ويحاربونه ويقاتلون المسلمين، ولكنه يشق عليه ترك الوطن فلم يهاجر، فما الحكم؟(81/16)
فأجاب بقوله: هذا الرجل يحرم عليه بقاؤه في هذا البلد ويجب عليه أن يهاجر فإن لم يفعل فليرتقب قول الله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } (4) فالواجب على هذا إذا كان قادراً على الهجرة أن يهاجر إلى بلد الإسلام، وحينئذ سوف ينسلخ من قلبه محبة البلد التي هاجر منها وسوف يرغب في بلاد الإسلام، أما كونه لا يستطيع مفارقة بلد يحارب الإسلام وأهله لمجرد أنها وطنه الأول فهذا حرام ولا يجوز له البقاء فيها.
(391) وسئل: عن حكم مخالطة المسلمين لغيرهم في أعيادهم؟
فأجاب قائلاً:مخالطة غيرالمسلمين في أعيادهم محرمة لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى: { وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } (1). ولأن هذه الأعياد إن كانت لمناسبات دينية فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم على هذه الديانة والرضاء بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت فكيف وهي في الكفار؟ لذلك قال أهل العلم إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم، لأن ذلك إقرار ورضا بما هم عليه من الدين الباطل، ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان.
واختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحد من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم هل يجوز لك قبولها أو لا يجوز؟(81/17)
فمن العلماء من قال :لا يجوز أن تقبل هديتهم في أعيادهم، لأن ذلك عنوان الرضاء بها، ومنهم من يقول :لا بأس به. وعلى كل حال إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راض بما هم عليه فإنه لا بأس بالقبول وإلا فعدم القبول أولى. وهنا يحسن أن نذكر ما قاله ابن القيم - رحمه الله - في كتاب أحكام أهل الذمة 1/205 "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب.. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" أ.هـ.
(392) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم السلام على غير المسلمين؟
فأجاب بقوله: البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم لعموم قوله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } (2) وكان اليهود يسلمون على النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: "السام عليك يا محمد" والسام بمعنى الموت، يدعون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالموت. فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: "إن اليهود يقولون : السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم". فإذا سلم غير المسلم على المسلم وقال: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم". وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وعليكم" دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا: السلام عليكم فإن عليهم السلام فكما قالوا نقول لهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح:"السلام عليكم" جاز أن نقول: عليكم السلام.(81/18)
ولا يجوز كذلك أن يبدؤوا بالتحية كأهلاً وسهلاً وما أشبهها لأن في ذلك إكراماً لهم وتعظيماً لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون، لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أن المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدؤوهم بالسلام.
إذاً فنقول في خلاصة الجواب: لا يجوز أن يبدأ غير المسلمين بالسلام لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالاً للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذل نفسه في هذا. أما إذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم مثل ما سلموا.
وكذلك أيضاً لا يجوز أن نبدأهم بالتحية مثل أهلاً وسهلاً ومرحباً وما أشبه ذلك لما في ذلك من تعظيمهم فهو كابتداء السلام عليهم.
(393) وسئل - رحمه الله - : عن حكم السلام على المسلم بهذه الصيغة "السلام على من اتبع الهدى"؟ وكيف يسلم الإنسان على أهل محل فيهم المسلم والكافر؟
فأجاب قائلاً: لا يجوز أن يسلم الإنسان على المسلم بقوله: "السلام على من اتبع الهدى" لأن هذه الصيغة إنما قالها الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين كتب إلى غير المسلمين، وأخوك المسلم قل له : السلام عليكم، أما أن تقول: "السلام على من اتبع الهدى" فمقتضى هذا أن أخاك هذا ليس ممن اتبع الهدى.
وإذا كانوا مسلمين ونصارى فإنه يسلم عليهم بالسلام المعتاد يقول : السلام عليكم يقصد بذلك المسلمين.
(394) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في دار كرامته: هل يجوز لنا أن نبدأ الكفار بالسلام؟ وكيف نرد عليهم إذا سلموا علينا؟
فأجاب بقوله: إن هؤلاء الذين يأتوننا من الشرق ومن الغرب ممن ليسوا مسلمين لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام". رواه مسلم في صحيحه.(81/19)
وإذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم بمثل ما سلموا علينا به لقوله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } (1) وسلامهم علينا بالتحية الإسلامية "السلام عليكم" لا يخلو من إحدى حالين:
الحال الأولى: أن يفصحوا باللام فيقولوا : "السلام عليكم" فلنا أن نقول:
عليكم السلام، ولنا أن نقول: وعليكم.
الحال الثانية: إذا لم يفصحوا باللام مثل أن يقولوا : "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم" فقط، وذلك لأن اليهود كانوا يأتون إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيسلمون عليه بقولهم: "السام عليكم" غير مفصحين باللام والسام هو الموت، يريدون الدعاء على النبي، صلى الله عليه وسلم، بالموت فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن نقول لهم: "وعليكم" فإذا كانوا قالوا: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم" يعني أنتم أيضاً عليكم السام هذا هو ما دلت عليه السنة.
وأما أن نبدأهم نحن بالسلام فإن هذا قد نهانا عنه نبينا، صلى الله عليه وسلم،.
(395) سئل فضيلة الشيخ: إذا سلم الكافر على المسلم فهل يرد عليه؟ وإذا مد يده للمصافحة فما الحكم؟ وكذلك خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي؟.
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سلم الكافر على المسلم سلاماً بيناً واضحاً فقال: السلام عليكم، فإنك تقول: عليك السلام، لقوله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } (2): أما إذا لم يكن بيناً واضحاً فإنك تقول: وعليك. وكذلك لو كان سلامه واضحاً يقول فيه : السام عليكم يعني الموت فإنه يقال: وعليك.
فالأقسام ثلاثة:
الأول: أن يقول بلفظ صريح : "السام عليكم". فيجاب: "وعليكم".
الثاني: أن نشك هل قال: "السام" أو قال: "السلام"، فيجاب: "وعليكم".
الثالث: أن يقول بلفظ صريح: "السلام عليكم". فيجاب: "عليكم السلام"؛ لقوله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } .(81/20)
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالىـ: "فلو تحقق السامع أن الذي قال له: سلام عليكم لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } . فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه، صلى الله عليه وسلم، إنما أمر بالاقتصار على قول الراد: وعليكم على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، ثم قال ابن القيم : والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال الله تعالى: { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } (1). فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه. أ.هـ. 200/1 أحكام أهل الذمة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك". والسام هو الموت.
وإذا مد يده إليك للمصافحة فمد يدك إليه وإلا فلا تبدأه.
وأما خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي فمكروه، لكن ضع الفنجال على الماصه ولا حرج.
(396) سئل فضيلة الشيخ: ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" أليس في العمل بهذا تنفير عن الدخول في الإسلام؟.(81/21)
فأجاب بقوله: يجب أن نعلم أن أسدَّ الدعاة في الدعوة إلى الله هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن أحسن المرشدين إلى الله هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وإذا علمنا ذلك فإن أي فهم نفهمه من كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، يكون مجانباً للحكمة يجب علينا أن نتهم هذا الفهم، وأن نعلم أن فهمنا لكلام النبي، صلى الله عليه وسلم، خطأ، لكن ليس معنى ذلك أن نقيس أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، بما ندركه من عقولنا، وأفهامنا، لأن عقولنا وأفهامنا قاصرة، لكن هناك قواعد عامة في الشريعة يرجع إليها في المسائل الخاصة الفردية.
فالنبي، عليه الصلاة والسلام، يقول: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" والمعنى: لا تتوسعوا لهم إذا قابلوكم حتى يكون لهم السعة ويكون الضيق عليكم بل استمروا في اتجاهكم وسيركم، واجعلوا الضيق إن كان هناك ضيق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هدى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليس إذا رأى الكافر ذهب يزحمه إلى الجدار حتى يرصه على الجدار ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يفعل هذا باليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار.
فالمعنى أنكم كما لا تبدؤونهم بالسلام لا تفسحوا لهم فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق، وليس في الحديث تنفير عن الإسلام بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل.
(397) سئل فضيلة الشيخ: شخص يعمل مع الكفار فبماذا تنصحونه؟.(81/22)
فأجاب بقوله: ننصح هذا الأخ الذي يعمل مع الكفار، أن يطلب عملاً ليس فيه أحد من أعداء الله ورسوله ممن يدينون بغير الإسلام، فإذا تيسر فهذا هو الذي ينبغي، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه لأنه في عمله وهم في عملهم، ولكن بشرط أن لا يكون في قلبه مودة لهم ومحبة وموالاة، وأن يلتزم ما جاء به الشرع فيما يتعلق بالسلام عليهم ورد السلام ونحو هذا، وكذلك أيضاً لا يشيع جنائزهم، ولا يحضرها، ولا يشهد أعيادهم، ولا يهنئهم بها.
(398) سئل فضيلة الشيخ: كيف نستفيد مما عند الكفار دون الوقوع في المحظور؟ وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك؟.
فأجاب ـ رفع الله درجته ـ بقوله: الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عبادات.
القسم الثاني: عادات.
القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات: فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم، ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم فقد يكون ذلك مؤدياً إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات: كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي، صلى الله عليكم وسلم:"من تشبه بقوم فهو منهم".
وأما الصناعات والحِرَف: التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يعد مَن قام بها متشبهاً بهم.
وأما قول السائل: "وهل للمصالح المرسلة دخل في ذلك؟".(81/23)
فنقول: إن المصالح المرسلة لا ينبغي أن تجعل دليلاً مستقلاً، بل نقول :هذه المصالح المرسلة إن تحققنا أنها مصلحة فقد شهد لها الشرع بالصحة والقبول وتكون من الشرع، وإن شهد لها بالبطلان فإنها ليست مصالح مرسلة ولو زعم فاعلها أنها مصالح مرسلة. وإن كان لا هذا ولا هذا فإنها ترجع إلى الأصل، إن كانت من العبادات فالأصل في العبادات الحظر، وإن كانت من غير العبادات فالأصل فيها الحل، وبهذا يتبين أن المصالح المرسلة ليست دليلاً مستقلاً.
(399) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم استقدام العمال الكفار؟ وحكم تقديم الطعام لهم؟.
فأجاب ـ جزاهُ الله عنا خير الجزاء ـ بقوله: المسلمون خير من الكافرين، لقول الله تعالى: { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } (1). ولكن لا بأس من استقدام غير المسلمين للحاجة.
وأما تقديم الطعام لهم فإن كان على سبيل الخدمة بأن يكون يخدمهم في بيتهم ونحوه فلا ينبغي، بل ذكر فقهاؤنا كراهة ذلك. وإن كان على غير هذا الوجه مثل أن تقدمه لهم من بيتك فلا حرج فيه لأن الحاجة داعية له.
(400) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية؟
فأجاب فضيلته بقوله: استقدام غير المسلمين إلى الجزيرة العربية أخشى أن يكون من المشاقة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث صح عنه كما في صحيح البخاري أنه قال في مرض موته: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" وفي صحيح مسلم أنه قال: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً".
لكن استقدامهم للحاجة إليهم بحيث لا نجد مسلماً يقوم بتلك الحاجة جائز بشرط أن لا يمنحوا إقامة مطلقة.(81/24)
وحيث قلنا : جائز فإنه إن ترتب على استقدامهم مفاسد دينية في العقيدة أو الأخلاق صار حراماً، لأن الجائز إذا ترتب عليه مفسدة صار محرماً تحريم الوسائل كما هو معلوم. ومن المفاسد المترتبة على ذلك ما يخشى من محبتهم والرضا بما هم عليه من الكفر، وذهاب الغيرة الدينية بمخالطتهم. وفي المسلمين ـ ولله الحمد ـ خير وكفاية، نسأل الله الهداية والتوفيق.
(401) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: أخي لغير المسلم؟ وكذلك قول : صديق ورفيق؟ وحكم الضحك إلى الكفار لطلب المودة؟.
فأجاب بقوله: أما قول: "يا أخي" لغير المسلم فهذا حرام، ولا يجوز إلا أن يكون أخاً له من النسب أو الرضاع، وذلك لأنه إذا انتفت أخوة النسب والرضاع لم يبق إلا أخوة الدين، والكافر ليس أخاً للمؤمن في دينه، وتذكر قول نبي الله تعالى نوح: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال يا نوح إنه ليس من أهلك } (2).
وأما قول: "صديق رفيق" ونحوهما فإذا كانت كلمة عابرة يقصد بها نداء من جهل اسمه منهم فهذا لا بأس به، وإن قصد بها معناها تودداً وتقرباً منهم فقد قال الله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } (1). فكل كلمات التلطف التي يُقصد بها الموادة لا يجوز للمؤمن أن يخاطب بها أحداً من الكفار.
وكذلك الضحك إليهم لطلب الموادة بيننا وبينهم لا يجوز كما علمت من الآية الكريمة.
(402) سئل فضيلة الشيخ: عن وصف الكافر بأنه أخ؟(81/25)
فأجاب بقوله: لا يحل للمسلم أن يصف الكافرـ أيّاً كان نوع كفره سواء كان نصرانياً، أم يهودياً، أم مجوسياً، أم ملحداًـ لا يجوز له أن يصفه بالأخ أبداً، فاحذر يا أخي مثل هذا التعبير. فإنه لا أخوة بين المسلمين وبين الكفار أبداً، الأخوة هي الأخوة الإيمانية كما قال الله - عز وجل -: { إنما المؤمنون إخوة } . وإذا كانت قرابة النسب تنتفي باختلاف الدين فكيف تثبت الأخوة مع اختلاف الدين وعدم القرابة؟ قال الله - عز وجل - عن نوح وابنه لما قال نوح، عليه الصلاة والسلام،: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } .
فلا أخوة بين المؤمن والكافر أبداً، بل الواجب على المؤمن ألا يتخذ الكافر ولياً كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } .
فمن هم أعداء الله؟ أعداء الله هم الكافرون. قال الله تعالى: { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } .
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
(403) سئل فضيلة الشيخ: إذا وجد الإنسان شخصاً غير مسلم في الطريق وطلب إيصاله فما الحكم؟ وهل يجوز الأكل مما مسته أيدي الكفار؟.
فأجاب بقوله: إذا وجدت شخصاً غير مسلم في الطريق فلا حرج عليك أن تركبه لأن الله يقول: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } (2).
أما الأكل مما مسته أيدي الكفار فجائز، لأن نجاسة الكافر نجاسة معنوية لا حسية.(81/26)
(404) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسميس؟ وكيف نرد عليهم إذا هنؤونا به؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد؟ وإنما فعله إما مجاملة أو حياءً أو إحراجاً أو غير ذلك من الأسباب؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "أحكام أهل الذمة"، حيث قال: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالأتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن تهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه". انتهى كلامه - رحمه الله -.
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضا به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره، لأن الله تعالىلا يرضى بذلك، كما قال الله تعالى: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } (1). وقال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (2). وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا.(81/27)
وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك، لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى، لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة، لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً، صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الخلق، وقال فيه: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (3).
وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها.
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "من تشبه بقوم فهو منهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): "مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء". انتهى كلامه - رحمه الله -.
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة، أو تودداً، أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم.
والله المسؤول أن يعز المسلمين بدينهم، ويرزقهم الثبات عليه، وينصرهم على أعدائهم، إنه قوي عزيز.
(405) سئل فضيلة الشيخ - رحمه الله -: هل يجوز الذهاب إلى القس للتهنئة بسلامة الوصول والعودة؟.
فأجاب - رحمه الله - بقوله: لا يجوز الذهاب إلى أحد من الكفار عند قدومه للتهنئة بوصوله والسلام عليه لأنه ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام".(81/28)
وأما ذهاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لليهودي الذي كان مريضاً فإن هذا اليهودي كان غلاماً يخدم النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما مرض عاده النبي، صلى الله عليه وسلم، ليعرض عليه الإسلام فعرضه عليه فأسلم، فأين هذا الذي يعوده ليعرض عليه الإسلام من شخص زار قساً ليهنئه بسلامة الوصول ويرفع من معنويته؟! لا يمكن أن يقيس هذا على ذاك إلا جاهل أو صاحب هوى.
(406) وسئل فضيلة الشيخ: عن مقياس التشبه بالكفار؟
فأجاب بقوله: مقياس التشبه أن يفعل المتشبِه ما يختص به المتشبَه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئاً من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبهاً، فلا يكون حراماً من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرماً من جهة أخرى. وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة. وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال ص272 ج10 "وقد كره بعض السلف ليس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال : كان يلبس هاهنا". أ.هـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، حين سئل ما يلبس المحرم، فقال: "لا يلبس القمص، ولا السراويل، ولا البرانس" الحديث لكان أولى.
وفي الفتح أيضاً ص307 جـ1: وإن قلنا : النهي عنها (أي عن المياثر الأرجوان) من أجل التشبه بالأعجام فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. والله أعلم. أ.هـ.
(407) سئل فضيلة الشيخ: يدعي بعض الناس، أن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم. وشبهتهم في ذلك، أن الغرب لما تخلوا عن جميع الديانات وتحرروا منها، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التقدم الحضاري، وربما أيدوا شبهتهم بما عند الغرب من الأمطار الكثيرة والزروع فما رأي فضيلتكم؟.(81/29)
فأجاب بقوله: هذا الكلام لا يصدر إلا من ضعيف الإيمان، أو مفقود الإيمان، جاهل بالتاريخ، غير عالم بأسباب النصر، فالأمة الإسلامية لما كانت متمسكة بدينها في صدر الإسلام كان لها العزة والتمكين، والقوة، والسيطرة في جميع نواحي الحياة، بل إن بعض الناس يقول: إن الغرب لم يستفيدوا ما استفادوه من العلوم إلا ما نقلوه عن المسلمين في صدر الإسلام، ولكن الأمة الإسلامية تخلفت كثيراً عن دينها، وابتدعت في دين الله ما ليس منه، عقيدة، وقولاً، وفعلاً، وحصل بذلك التأخر الكبير، والتخلف الكبير، ونحن نعلم علم اليقين ونشهد الله - عز وجل - إننا لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا في ديننا، لكانت لنا العزة، والكرامة، والظهور على جميع الناس. ولهذا لما حدث "أبوسفيان" "هرقل" ملك الروم ـ والروم في ذلك الوقت تعتبر دولة عظمى - بما عليه الرسول، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه؛ قال: "إن كان ما تقول حقّاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين". ولما خرج أبوسفيان وأصحابه من عند "هرقل"، قال: "لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر".(81/30)
وأما ما حصل في الدول الغربية الكافرة الملحدة من التقدم في الصناعات وغيرها، فإن ديننا لا يمنع منه، لو أننا التفتنا إليه، لكن مع الأسف ضيعنا هذا وهذا، ضيعنا ديننا، وضيعنا دنيانا، وإلا فإن الدين الإسلامي لا يعارض هذا التقدم، بل قال الله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } (1). وقال تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } (2). وقال تعالى: { هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعاً } (3). وقال تعالى: { وفي الأرض قطع متجاورات } (4). إلى غير ذلك من الآيات التي تعلن إعلاناً ظاهراً للإنسان أن يكتسب ويعمل وينتفع، لكن لا على حساب الدين، فهذه الأمم الكافرة هي كافرة من الأصل، دينها الذي كانت تدعيه دين باطل، فهو وإلحادها على حد سواء،لا فرق. فالله ـ سبحانه وتعالى ـيقول: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (1). وإن كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى لهم بعض المزايا التي يخالفون غيرهم فيها، لكن بالنسبة للآخرة هم وغيرهم سواء، ولهذا أقسم النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه لا يسمع به من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يتبع ما جاء به، إلا كان من أصحاب النار، فهم من الأصل كافرون، سواء انتسبوا إلى اليهودية، أو النصرانية، أم لم ينتسبوا إليها.(81/31)
وأما ما يحصل لهم من الأمطار وغيرها فهم يصابون بهذا ابتلاء من الله تعالىوامتحاناً، وتعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، كما قال النبي، عليه الصلاة والسلام، لعمر بن الخطاب، وقد رآه قد أثر في جنبه حصير، فبكى عمر. فقال: يا رسول الله فارس والروم يعيشون فيما يعيشون فيه من النعيم، وأنت على هذه الحال. فقال: "يا عمر هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة". ثم إنهم يأتيهم من القحط، والبلايا، والزلازل، والعواصف المدمرة ما هو معلوم، وينشر دائماً في الإذاعات، وفي الصحف، وفي غيرها، ولكن من وقع السؤال عنه أعمى، أعمى الله بصيرته فلم يعرف الواقع، ولم يعرف حقيقة الأمر، ونصيحتي له أن يتوب إلى الله - عز وجل - عن هذه التصورات قبل أن يفاجئه الموت، وأن يرجع إلى ربه، وأن يعلم أنه لا عزة لنا، ولا كرامة، ولا ظهور، ولا سيادة إلا إذا رجعنا إلى دين الإسلام، رجوعاً حقيقياً يصدقه القول والفعل، وأن يعلم أن ما عليه هؤلاء الكفار باطل ليس بحق، وأن مأواهم النار، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه سلم، وأن هذا الإمداد الذي أمدهم الله به من النعم ما هو إلا ابتلاء وامتحان وتعجيل طيبات، حتى إذا هلكوا وفارقوا هذا النعيم إلى الجحيم ازدادت عليه الحسرة والألم والحزن، وهذا من حكمة الله - عز وجل - بتنعيم هؤلاء، على أنهم كما قلت لم يسلموا من الكوارث التي تصيبهم من الزلازل، والقحط، والعواصف، والفيضانات وغيرها، فأسأل الله لهذا السائل الهداية والتوفيق، وأن يرده إلى الحق وأن يبصرنا جميعاً في ديننا إنه جواد كريم.
(408) سئل فضيلة الشيخ: هل يمكن أن يصل المسلم في هذا العصر إلى ماوصل إليه الصحابة من الالتزام بدين الله؟(81/32)
فأجاب بقوله: أما الوصول إلى مرتبة الصحابة فهذا غير ممكن، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وأما إصلاح الأمة الإسلامية حتى تنتقل عن هذا الوضع الذي هي عليه، فهذا ممكن، والله على كل شيء قدير، وقد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". ولا ريب أن الأمة الإسلامية في الوضع الحالي في وضع مزر، بعيدة عما يريده الله منها من الإجماع على دين الله والقوة في دين الله، لأن الله يقول: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } (1).
(409) سئل فضيلة الشيخ: هل يعتبر الشيعة في حكم الكُفَّار؟ وهل ندعوالله تعالى أن ينصر الكفار عليهم؟
فأجاب بقوله: الكفر حكم شرعي مرده إلى الله ورسوله فما دل الكتاب والسنة على أنه كفر فهو كفر، وما دل الكتاب والسنة على أنه ليس بكفر فليس بكفر، فليس على أحد بل ولا له أن يكفر أحداً حتى يقوم الدليل من الكتاب والسنة على كفره.
وإذا كان من المعلوم أنه لا يملك أحد أن يحلل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، أو يوجب مالم يوجبه الله تعالى إما في الكتاب أو السنة، فلا يملك أحد أن يكفر من لم يكفره الله إما في الكتاب وإما في السنة.
ولا بد في التكفير من شروط أربعة:
الأول: ثبوت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب أو السنة.
الثاني: ثبوت قيامه بالمكلف.
الثالث: بلوغ الحجة.
الرابع: انتفاء مانع التكفير في حقه.(81/33)
فإذا لم يثبت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإنه لا يحل لأحد أن يحكم بأنه كفر، لأن ذلك من القول على الله بلا علم وقد قال الله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها ومابطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (2) وقال: { ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (3).
وإذا لم يثبت قيامه بالمكلف فإنه لا يحل أن يرمى به بمجرد الظن لقوله تعالى: { ولا تقف ماليس لك به علم } . الآية ولأنه يؤدي إلى استحلال دم المعصوم بلا حق.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "أيما أمرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما؛ إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه"، هذا لفظ مسلم. وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك". أخرجه البخاري ولمسلم معناه.
وإذا لم تبلغه الحجة فإنه لا يحكم بكفره لقوله تعالى: { وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } (1). وقوله تعالى: { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وماكنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } (2). وقوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ـ إلى قوله ـ : رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً } (3). وقوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (4).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يعني أمة الدعوة ـ يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".(81/34)
لكن إن كان مَن لم تبلغه الحجة لا يدين بدين الإسلام، فإنه لا يعامل في الدنيا معاملة المسلم، وأما في الآخرة فأصح الأقوال فيه أن أمره إلى الله تعالى.
وإذا تمت هذه الشروط الثلاثة أعني ثبوت أن هذا القول، أو الفعل أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، وأنه قام بالمكلف، وأن المكلف قد بلغته الحجة ولكن وجد مانع التكفير في حقه فإنه لا يكفر لوجود المانع.
فمن موانع التكفير:
الإكراه فإذا أُكره على الكفر فكفر وكان قلبه مطمئناً بالإيمان لم يحكم بكفره، لوجود المانع وهو الإكراه قال الله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } (5).
ومن موانع التكفير:
أن يغلق على المرء قصده فلا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو خوف، أو غير ذلك لقوله تعالى:
{ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً } (2).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ خطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح".
فهذا الرجل أخطأ من شدة الفرح خطأ يخرج به عن الإسلام لكن منع من خروجه منه أنه أغلق عليه قصده فلم يدر مايقول من شدة الفرح، فقد قصد الثناء على ربه لكنه من شدة الفرح أتى بكلمة لو قصدها لكفر.
فالواجب الحذر من إطلاق الكفر على طائفة أو شخص معين حتى يعلم تحقق شروط التكفير في حقه وانتفاء موانعه.(81/35)
إذا تبين ذلك فإن الشيعة فرق شتى ذكر السفاريني في شرح عقيدته أنهم اثنتان وعشرون فرقة، وعلى هذا يختلف الحكم فيهم بحسب بعدهم من السنة، فكل من كان عن السنة أبعد كان إلى الضلال أقرب.
ومن فرقهم الرافضة الذين تشيعوا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ تشيعاً مفرطاً في الغلو لا يرضاه علي بن أبي طالب ولا غيره من آثمة الهدى، كما جفوا غيره من الخلفاء جفاء مفرطاً ولا سيما الخليفتان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ. فقد قالوا فيهما شيئاً لم يقله فيهما أحد من فرق الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 3/356 من مجموع ابن قاسم:
"وأصل قول الرافضة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نص على علي ـ يعني في الخلافة ـ نصاً قاطعاً للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص، وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم، وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا ، بل كفرواً إلا نفراً قليلاً إما بضعة عشره ، أو أكثر ، ثم يقولون إن أبابكر وعمر ونحوهما مازالوا منافقين ، وقد يقولون : بل آمنوا ثم كفروا ، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ، ومن خالفهم كفاراً ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة والباطنية وأمثالهم ". أ . هـ . وانظرقوله فيهم أيضاً في المجموع المذكور4/428ـ 429.
وقال في كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ص951 تحقيق الدكتور ناصر العقل:(81/36)
"والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركاً فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها من الجماعات والجمعات ويعمرون المشاهد التي على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها". أ.هـ.
وانظر ما كتبه محب الدين الخطيب في رسالته "الخطوط العريضة" فقد نقل عن كتاب "مفاتيح الجنان" من دعائهم ما نصه: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وابنتيهما" قال: ويعنون بهما وبالجبت والطاغوت أبابكر وعمر، ويريدون بابنتيهما أم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين حفصة رضي الله عن الجميع.
ومن قرأ التاريخ علم أن للرافضة يداً في سقوط بغداد وانتهاء الخلافة الإسلامية فيها حيث سهلوا للتتار دخولها وقتل التتار من العامة والعلماء أمماً كثيرة، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "منهاج السنة" أنهم هم الذين سعوا في مجيء التتر إلى بغداد دار الخلافة حتى قتل الكفار ـ يعني التتر ـ من المسلمين مالا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف ونيفاً وسبعين ألفاً وقتلوا الخليفة العباسي وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين. أ.هـ. 4/592. تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
ومن عقيدة الرافضة: "التقية" وهي أن يظهر خلاف ما يبطن ولا شك أن هذا نوع من النفاق يغتر به من يغتر من الناس.
والمنافقون أضر على الإسلام من ذوي الكفر الصريح ولهذا أنزل الله تعالى فيهم سورة كاملة كان من هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يقرأ بها في صلاة الجمعة، لإعلان أحوال المنافقين والتحذير منهم في أكبر جمع أسبوعي وأكثره وقال فيها عن المنافقين: { هم العدو فاحذرهم } (1).(81/37)
وأما قول السائل: هل يدعو المسلم الله أن ينصر الكفار عليهم؟
فجوابه: أن الأولى والأجدر بالمؤمن أن يدعو الله تعالى أن يخذل الكافرين وينصر المؤمنين الصادقين الذين يقولون بقلوبهم وألسنتهم ما ذكر الله عنه في قوله: { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } (1). ويتولون أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، معترفين لكل واحد بفضله، منزلين كل واحد منزلته من غير إفراط ولا تفريط، نسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المؤمنين على الحق وأن ينصرهم على من سواهم.
(410) سئل فضيلة الشيخ: يكره بعض الناس اسم "علي" و"الحسين" ونحوه وينفر منها، وذلك لتعظيم الرافضة لتلك الأسماء فما جوابكم حفظكم الله تعالى؟.
فأجاب بقوله: جوابي على هذا أن البدعة لا تقابل ببدعة، فإذا كان طائفة من أهل البدع يغلون في مثل هذه الأسماء، ويتبركون بها، فلا يجوز أن نقابلهم ببدعة فننفر من هذه الأسماء ونكرهها، بل نقول : إن الأسماء لا تغير شيئاً عما كان عليه الإنسان، فكم من إنسان يسمى باسم طيب حسن، وهو ـ أعني المسمى به ـ من أسوأ الناس. كم من إنسان يسمى عبدالله وهو من أشد الناس استكباراً، وكم من إنسان يسمى محمداً، وهو من أعظم الناس ذماً، وكم من إنسان يسمى علياً وهو نازل سافل، فالمهم أن الاسم لا يغير شيئاً، لكن لا شك أن تحسين الاسم من الأمور المطلوبة، كما قال النبي، عليه الصلاة والسلام،: "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن، وأصدقها حارث وهمام".
(411) وسئل جزاهُ الله خيراً: عن مُدّرس يدّرس مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ويعلّم تلاميذه الصوفية، والمدائح النبوية فاعترض عليه طالب من الطلبة فقيل : إنه وهابيّ، والوهابية لا تُقر المدائح النبوية؟
فأجاب قائلاً: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد..(81/38)
فإن هذا السؤال سؤال عظيم اشتمل على مسائل في أصول الدين، ومسائل تاريخية، ومسائل علمية.
أما المسائل العلمية: فإنه ذكر أنه يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أحد المذاهب الأربعة المتبوعة المشهورة، ولكن ليعلم أن هذه المذاهب الأربعة لا ينحصر الحق فيها بل الحق قد يكون في غيرها، فإن إجماعهم على حكم مسألة من المسائل ليس إجماعاً للأمة، والأئمة أنفسهم رحمهم الله ماجعلهم الله أئمة لعباده إلا حيث كانوا أهلاً للإمامة حيث عرفوا قدر أنفسهم، وعلموا أنه لا طاعة لهم إلا فيما كان موافقاً لطاعة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحذرون عن تقليدهم إلا فيما وافق السنة، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام أحمد ومذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام مالك وغيرهم من أهل العلم أنها قابلة لأن تكون خطأ وصواباً، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنه لا حرج عليه أن يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة، بشرط إذا تبين له الدليل بخلافه تبع الدليل وتركه، ووضح لطلبته أن هذا هو الحق وأن هذا هو الواجب عليهم.(81/39)
أما فيما يتعلق بمسألة الصوفية وغنائهم ومديحهم وضربهم بالدفّ والتغبير التي يضربون الفراش ونحوه بالسوط فما كان أكثر غباراً فهو أشدّ صدقاً في الطلب وما أشبه ذلك مما يفعلونه، فإن هذا من البدع المحرمة التي يجب عليه أن يقلع عنها، وأن ينهى أصحابه عنها، وذلك لأن خير القرون وهم القرن الذين بُعث فيهم النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يتعبدوا لله بهذا التعبد، ولأن هذا التعبد لا يورث القلب إنابة إلى الله ولا انكساراً لديه، ولا خشوعاً لديه، وإنما يورث انفعالات نفسية يتأثر بها الإنسان من مثل هذا العمل، كالصراخ وعدم الانضباط والحركة الثائرة وما أشبه ذلك، وكل هذا يدل على أن هذا التعبد باطل وأنه ليس بنافع للعبد وهو دليل واقعي غير الدليل الأثري الذي قال فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" فهذا التعبد من الضلال المبين الذي يجب على العبد أن يقلع عنه، وأن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، فإن هديهم أكمل هدي وطريقهم أحسن طريق قال الله تعالى:
{ ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } (1).
ولا يكون العمل صالحاً إلا بأمرين:
الإخلاص لله، والموافقة لشريعته التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم.(81/40)
وأما ما ذكره من مجادلة الطالب له، وقول بعضهم :إنه رجل وهابي، وإن الوهابية لا يقرون المدائح النبوية وما إلى ذلك، فإننا نخبره وغيره بأن الوهابية ولله الحمد كانوا من أشد الناس تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، ومن أشد الناس تعظيماً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لسنته ويدلّك على هذا أنهم كانوا حريصين دائماً على اتباع سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والتقيد بها وإنكار ما خالفها من عقيدة، أو عمل قولي أو فعلي.
ويدلّك على هذا أيضاً أنهم جعلوا الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، ركناً من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها فهل بعد هذا من شكٍّ في تعظيمهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم.(81/41)
وهم أيضاً إنما قالوا بأنها ركن من أركان الصلاة لأن ذلك هو مقتضى الدليل عندهم فهم متبعون للدليل معظمون للرسول لا يغلون بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في أمر لم يشرعه الله ورسوله، ثم إن حقيقة الأمر أن إنكارهم للمدائح النبوية المشتملة على الغلوّ في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو التعظيم الحقيقي لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو سلوك الأدب مع الله ورسوله حيث لم يقدموا بين يدي الله ورسوله، فلم يغلوا لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن ذلك فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينَّكم الشيطان". ونهى عليه الصلاة والسلام عن الغلو فيه كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم قال، صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا :عبدالله ورسوله". والمهم أن طريق الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وأتباعه وهو الإمام المجدد طريقه هو ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه لمن تتبعه بعلم وإنصاف. وأما من قال بجهل أو بظلم وجور فإنه لا يمكن أن يكون لأقواله منتهى، فإن الجائر أو الجاهل يقول كل ما يمكنه أن يقول من حق وباطل ولا انضباط لقوله، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، ومن أراد أن يعرف الحق في هذا فليقرأ ما كتبه الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وأحفاده، والعلماء من بعده حتى يتبين له الحق، إذا كان منصفاً ومريداً للحق.
ثم إن المدائح النبوية المشتملة على الغُلوّ لا شك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يرضى بها بل إنما جاء بالنهي عنها والتحذير منها، فمن المدائح التي يحرصون عليها ويتغنون بها ما قاله الشاعر:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك عِلْمُ اللّوح والقلم(81/42)
وأشباه ذلك مما هو معلوم، ومثل هذا بلا شك كفر بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وإشراك بالله عزوجل، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشر لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله عزوجل، والدنيا وضرتها وهي الآخرة ليست من جود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بل هي من خلق الله عز وجل فهو الذي خلق الدنيا والآخرة وهو الذي جاد فيهما بما جاد على عباده سبحانه وتعالى، وكذلك علم اللوح والقلم ليس من علوم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن علم اللوح والقلم إلى الله عز وجل ولا يعلم منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا ما أطلعه الله عليه هذا هو حقيقة الأمر، وهذا وأمثاله هي المدائح التي يتغنى بها هؤلاء الذين يدّعون أنهم معظمون لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن العجائب أن هؤلاء المغالين يدعون أنهم معظمون لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تجدهم معظمين له كما زعموا في مثل هذه الأمور وهم في كثير من سننه فاترون معرضون والعياذ بالله.
فأنصح القائل وغيره بأن يعود إلى الله عز وجل وأن لا يطري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما أطرى النصارى عيسى ابن مريم وأن يعلم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشر يمتاز عن غيره بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وما خصه الله به من المناقب الحميدة، والأخلاق العالية، ولكن ليس له من التصرف في الكون شيء، وإنما التصرف في الكون والذي يُدعى ويُرجى ويُؤلّه هو الله عز وجل وحده لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون.
---
(1) سورة المجادلة، الآية "22".
(2) سورة المائدة، الآية "57".
(3) سورة المائدة، الآية "51".
(4) سورة آل عمران، الآية "118".
(5) سورة النساء، الآية "89".
(6) سورة البقرة، الآية "120".
(7) سورة آل عمران، الآية "175".
(8) سورة المائدة، الآية "52".
(1) سورة التوبة، الآية "28"
(2) سورة المجادلة، الآية "22"
(1) سورة المائدة، الآيتان "17، 72".
(2) سورة المائدة، الآية "73".(81/43)
(1) سورة المائدة، الآية "78".
(2) سورة البينة، الآية "6".
(3) سورة القلم، الآية "9".
(1) سورة الأعراف، الآية "157".
(2) سورة الصف، الآية "6".
(1) سورة آل عمران، الآية "85".
(2) سورة المائدة، الآية "3".
(4) سورة الأعراف، الآيتان "156-157".
(5) سورة الأعراف، الآية "158"
(1) سورة لقمان، الآية "13"
(1) سورة المجادلة، الآية "22".
(1) سورة المائدة، الآيتان "51-52".
(2) سورة النساء، الآية "97".
(1) سورة الأنعام، الآية "108"
(1) سورة الممتحنة، الآية "4".
(2) سورة المجادلة، الآية "22".
(3) سورة الممتحنة، الآية "1".
(4) سورة النساء، الآيتان "97-98".
(1) سورة المائدة، الآية "2"
(2) سورة النساء، الآية "86"
(1) سورة النساء، الآية "86".
(2) سورة النساء، الآية "86".
(1) سورة المجادلة، الآية "8".
(1) سورة البقرة: الآية، "221".
(2) سورة هود، الآيتان "45-46".
(1) سورة المجادلة، الآية "22".
(2) سورة الممتحنة، الآية "8".
(1) سورة الزمر، الآية "7".
(2) سورة المائدة، الآية "3".
(3) سورة آل عمران، الآية "85".
(1) سورة الأنفال، الآية "60".
(2) سورة الملك، الآية "15".
(3) سورة البقرة، الآية "29".
(4) سورة الرعد، الآية "4".
(1) سورة آل عمران، الآية "85".
(1) سورة المؤمنون، الآية "52".
(2) سورة الأعراف، الآية "33".
(3) سورة الإسراء، الآية "36".
(1) سورة الأنعام، الآية "19".
(2) سورة القصص، الآية "59".
(3) سورة النساء، الآيتان "163-165".
(4) سورة الإسراء، الآية "15".
(5) سورة النحل، الآية "106".
(2) سورة الأحزاب، الآية "5"
(1) سورة المنافقون، الآية "4".
(1) سورة الحشر، الآية "10".
(1) سورة فصلت، الآية "33"(81/44)
مجموع فتاوى و رسائل - 3
المناهي اللفظية
محمد بن صالح العثيمين
(412) سئل فضيلة الشيخ: عما يقوله بعض الناس من أن تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؟
فأجاب بقوله: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراءها على اللغة العربية فهذا صحيح فإنه لا يهم ـ من جهة سلامة العقيدة ـ أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية ما دام المعنى مفهوماً وسليماً.
أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك فكلامه غير صحيح بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن نقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة بل نقول : الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية.
(413) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الأسماء وهي: أبرار ـ ملاك ـ إيمان ـ جبريل ـ جنى؟
فأجاب بقوله: لا يتسمى بأسماء أبرار، وملاك، وإيمان، وجبريل أما جنى([1][1]) فلا أدري معناها.
(414) سئل فضيلته: عن صحة هذه العبارة "اجعل بينك وبين الله صلة، واجعل بينك وبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، صلة"؟
فأجاب قائلاً: الذي يقول : اجعل بينك وبين الله صلة أي بالتعبد له واجعل بينك وبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، صلة أي باتباعه فهذا حق.
أما إذا أراد بقوله : اجعل بينك وبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، صلة أي اجعله هو ملجأك عند الشدائد ومستغاثك عند الكربات فإن هذا محرم بل هو شرك أكبر مخرج عن الملة.
(415) سئل فضيلة الشيخ: عن هذا القول : "أحبائي في رسول الله"؟(82/1)
فأجاب فضيلته قائلاً: هذا القول وإن كان صاحبه فيما يظهر يريد معنى صحيحاً، يعني: اجتمع أنا وإياكم في محبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التعبير خلاف ما جاءت به السنة، فإن الحديث "من أحب في الله، وأبغض في الله"، فالذي ينبغي أن يقول: أحبائي في الله - عز وجل - ولأن هذا القول الذي يقوله فيه عدول عما كان يقوله السلف، ولأنه ربما يوجب الغلو في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن الله، والمعروف عن علمائنا وعن أهل الخير هو أن يقول: أحبك في الله.
(416) وسئل فضيلة الشيخ: إذا كتب الإنسان رسالة وقال فيها : "إلى والدي العزيز" أو "إلى أخي الكريم" فهل في هذا شيء؟
فأجاب بقوله: هذا ليس فيه شيء بل هو من الجائز قال الله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } (1). وقال تعالى: { ولها عرش عظيم } (2). وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف". فهذا دليل على أن مثل هذه الأوصاف تصح لله تعالى ولغيره ولكن اتصاف الله بها لا يماثله شيء من اتصاف المخلوق بها، فإن صفات الخالق تليق به وصفات المخلوق تليق به.
وقول القائل لأبيه أو أمه أو صديقه : "العزيز" يعني أنك عزيز علي غالٍ عندي وما أشبه ذلك، ولا يقصد بها أبداً الصفة التي تكون لله وهي العزة التي لا يقهره بها أحد، وإنما يريد أنك عزيز علي وغالٍ عندي وما أشبه ذلك.
(417) وسئل: عن عبارة "أدام الله أيامك"؟
فأجاب بقوله: قول: "أدام الله أيامك" من الاعتداء في الدعاء لأن دوام الأيام محال مناف لقوله تعالى: { كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (3). وقوله ـ تعالى: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } (4).
(418) وسئل: ما رأي فضيلتكم في هذه الألفاظ: جلالة وصاحب الجلالة، وصاحب السمو؟ وأرجو وآمل؟(82/2)
فأجاب بقوله: لا بأس بها إذا كانت المقولة فيه أهلا لذلك، ولم يخش منه الترفع والإعجاب بالنفس، وكذلك أرجو وآمل.
(419) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الألفاظ: "أرجوك"، و"تحياتي"، و"أنعم صباحاً"، و"أنعم مساءً"؟.
فأجاب قائلاً: لا بأس أن تقول لفلان : "أرجوك" في شيء يستطيع أن يحقق رجاءك به.
وكذلك "تحياتي لك". و"لك مني التحية". وما أشبه ذلك لقوله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } (5). وكذلك: "أنعم صباحاً" و"أنعم مساءً" لا بأس به، ولكن بشرط ألا تتخذ بديلاً عن السلام الشرعي.
(420) وسئل فضيلة الشيخ: عمن يسأل بوجه الله فيقول: أسألك بوجه الله كذا وكذا فما الحكم في هذا القول؟
فأجاب قائلاً: وجه الله أعظم من أن يسأل به الإنسان شيئاً من الدنيا ويجعل سؤاله بوجه الله - عز وجل - كالوسيلة التي يتوسل بها إلى حصول مقصوده من هذا الرجل الذي توسل إليه بذلك، فلا يُقْدِمَنَّ أحد على مثل هذا السؤال، أي لا يقل : وجه الله عليك أو أسألك بوجه الله أو ما أشبه ذلك.
(421) وسئل الشيخ حفظه الله: ما رأيكم فيمن يقول: "آمنت بالله، وتوكلت على الله، واعتصمت بالله، واستجرت برسول الله، صلى الله عليه وسلم"؟.
فأجاب بقوله: أما قول القائل: "آمنت بالله، وتوكلت على الله واعتصمت بالله" فهذا ليس فيه بأس وهذه حال كل مؤمن أن يكون متوكلاً على الله، مؤمناً به، معتصماً به.(82/3)
وأما قوله "واستجرت برسول الله، صلى الله عليه وسلم" فإنها كلمة منكرة والاستجارة بالنبي، صلى الله عليه وسلم، بعد موته لا تجوز، أما الاستجارة به في حياته في أمر يقدر عليه فهي جائزة قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } (1). فالاستجارة بالرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد موته شرك أكبر وعلى من سمع أحداً يقول مثل هذا الكلام أن ينصحه، لأنه قد يكون سمعه من بعض الناس وهو لا يدري ما معناها وأنت "يا أخي" إذا أخبرته وبينت له أن هذا شرك فلعل الله أن ينفعه على يدك. والله الموفق.
(422) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول: "أطال الله بقاءك" "طال عمرك"؟.
فأجاب قائلاً: لا ينبغي أن يطلق القول بطول البقاء، لأن طول البقاء قد يكون خيراً وقد يكون شراً، فإن شر الناس من طال عمره وساء عمله، وعلى هذا فلو قال : أطال الله بقاءك على طاعته ونحوه فلا بأس بذلك.
(423) سئل فضيلة الشيخ: عن قول أحد الخطباء في كلامه حول غزوة بدر: "التقى إله وشيطان". فقد قال بعض العلماء : إن هذه العبارة كفر صريح، لأن ظاهر العبارة إثبات الحركة لله - عز وجل - نرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟.
فأجاب بقوله: لا شك أن هذه العبارة لا تنبغي، وإن كان قائلها قد أراد التجوز فإن التجوز إنما يسوغ إذا لم يوهم معنى فاسداً لا يليق به. والمعنى الذي لا يليق هنا أن يجعل الشيطان قبيلاً لله تعالى، ونداً له، وقرناً يواجهه، كما يواجه المرء قرنه، وهذا حرام، ولا يجوز.
ولو أراد الناطق به تنقص الله تعالىوتنزيله إلى هذا الحد لكان كافراً، ولكنه حيث لم يرد ذلك نقول له: هذا التعبير حرام، ثم إن تعبيره به ظاناً أنه جائز بالتأويل الذي قصده فإنه لا يأثم بذلك لجهله، ولكن عليه ألا يعود لمثل ذلك.
وأما قوله بعض العلماء الذي نقلت: "إن هذه العبارة كفر صريح" فليس بجيد على إطلاقه، وقد علمت التفصيل فيه.(82/4)
وأما تعليل القائل لحكمه بكفر هذا الخطيب أن ظاهر عبارته إثبات الحركة لله - عز وجل - فهذا التعليل يقتضي امتناع الحركة لله، وأن إثباتها كفر، وفيه نظر ظاهر، فقد أثبت الله تعالىلنفسه في كتابه أنه يفعل، وأنه يجيء يوم القيامة، وأنه استوى على العرش، أي علا عليه علواً يليق بجلاله، وأثبت نبيه، صلى الله عليه وسلم، أنه ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول :من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ واتفق أهل السنة على القول بمقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة من ذلك غير خائضين فيه، ولا محرفين للكلم عن مواضعه، ولا معطلين له عن دلائله. وهذه النصوص في إثبات الفعل، والمجيء، والاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة، ولهذا أجاب الإمام مالك من سأله عن قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (1). كيف استوى؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وإن كانت هذه النصوص لا تستلزم الحركة لله تعالىلم يكن لنا إثبات الحركة له بهذه النصوص، وليس لنا أيضاً أن ننفيها عنه بمقتضى استبعاد عقولنا لها، أو توهمنا أنها تستلزم إثبات النقص، وذلك أن صفات الله تعالىتوقيفية، يتوقف إثباتها ونفيها على ما جاء به الكتاب والسنة، لامتناع القياس في حقه تعالى، فإنه لا مثل له ولا ند، وليس في الكتاب والسنة إثبات لفظ الحركة أو نفيه، فالقول بإثبات لفظه أو نفيه قول على الله بلا علم. وقد قال الله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها ومابطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } (2). وقال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً"(3). فإذا(82/5)
كان مقتضى النصوص السكوت عن إثبات الحركة لله تعالى أو نفيها عنه، فكيف نكفر من تكلم بكلام يثبت ظاهره ـ حسب زعم هذا العالم ـ التحرك لله تعالى؟! وتكفير المسلم ليس بالأمر الهين، فإنّ من دعا رجلاً بالكفر فقد باء بها أحدهما، فإن كان المدعو كافراً باء بها، وإلا باء بها الداعي.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كثير من رسائله في الصفات على مسألة الحركة، وبين أقوال الناس فيها، وماهو الحق من ذلك، وأن من الناس من جزم بإثباتها، ومنهم من توقف، ومنهم من جزم بنفيها.
والصواب في ذلك: أن مادل عليه الكتاب والسنة من أفعال الله تعالى، ولوازمها فهو حق ثابت يجب الإيمان به، وليس فيه نقص ولا مشابهة للخلق، فعليك بهذا الأصل فإنه يفيدك، وأعرض عما كان عليه أهل الكلام من الأقيسة الفاسدة التي يحاولون صرف نصوص الكتاب والسنة إليها ليحرفوا بها الكلم عن مواضعه، سواء عن نية صالحة أو سيئة.
(424) وسئل فضيلته: يستعمل بعض الناس عند أداء التحية عبارات عديدة منها: "مساك الله بالخير". و"الله بالخير". و"صبحك الله بالخير". بدلاً من لفظة التحية الواردة، وهل يجوز البدء بالسلام بلفظ: "عليك السلام"؟
فأجاب قائلاً: السلام الوارد هو أن يقول الإنسان: "السلام عليك"، أو "سلام عليك"، ثم يقول بعد ذلك ماشاء من أنواع التحيات، وأما "مساك الله بالخير". و"صبحك الله بالخير"، أو "الله بالخير". وما أشبه ذلك فهذه تقال بعد السلام المشروع. وأما تبديل هذا بالسلام المشروع فهو خطأ.
وأما البداءة بالسلام بلفظ: "عليك السلام" فهو خلاف المشروع لأن هذا اللفظ للرد لا للبداءة.
(425) وسئل: عن هذه الكلمة "الله غير مادي"؟.(82/6)
فأجاب: القول بأن الله غير مادي قول منكر، لأن الخوض في مثل هذا بدعة منكرة، فالله تعالىليس كمثله شيء، وهو الأول الخالق لكل شيء وهذا شبيه بسؤال المشركين للنبي، عليه الصلاة والسلام، هل الله من ذهب أو من فضة أو من كذا وكذا؟ وكل هذا حرام لا يجوز السؤال عنه وجوابه في كتاب الله: { قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد } . فكف عن هذا، مالك ولهذا السؤال.
(426) سئل فضيلته: عن قول بعض الناس إذا انتقم الله من الظالم :"الله ما يضرب بعصا"؟.
فأجاب بقوله: لا يجوز أن يقول الإنسان مثل هذا التعبير بالنسبة لله ـ عز وجل ـ، ولكن له أن يقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ، حكم لا يظلم أحداً، وإنه ينتقم من الظالم، وما أشبه هذه الكلمات التي جاءت بها النصوص الشرعية، أما الكلمة التي أشار إليها السائل فلا أرى أنها جائزة.
(427) سئل فضيلة الشيخ: كثيراً ما نرى على الجدران كتابة لفظ الجلالة "الله"، وبجانبها لفظة محمد، صلى الله عليه وسلم، أو نجد ذلك على الرقاع، أو على الكتب، أو على بعض المصاحف، فهل موضعها هذا صحيح؟.
فأجاب قائلاً: موضعها ليس بصحيح لأن هذا يجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، نداً لله مساوياً له، ولو أن أحداً رأى هذه الكتابة وهو لا يدري من المسمى بهما لأيقن يقيناً أنهما متساويان متماثلان، فيجب إزالة اسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويبقى النظر في كتابة: "الله" وحدها، فإنها كلمة يقولها الصوفية، ويجعلونها بدلاً عن الذكر، يقولون: "الله الله الله"، وعلى هذا فتلغى أيضاً، فلا يكتب "الله"، ولا "محمد" على الجدران، ولا في الرقاع ولا في غيره.
(428) سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول الصحابة : " الله ورسوله أعلم" بالعطف بالواو وإقرارهم على ذلك وإنكاره، صلى الله عليه وسلم، على من قال: "ما شاء الله وشئت"؟(82/7)
فأجاب بقوله: قوله: "الله ورسوله أعلم" جائز. وذلك لأن علم الرسول من علم الله، فالله تعالىهو الذي يعلمه مالا يدركه البشر ولهذا أتى بالواو.
وكذلك في المسائل الشرعية يقال: "الله ورسوله أعلم " ، لأنه، صلى الله عليه وسلم، أعلم الخلق بشريعة الله، وعلمه بها من علم الله الذي علمه كما قال الله تعالى: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } (1). وليس هذا كقوله: "ماشاء الله وشئت" لأن هذا في باب القدرة والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، مشاركاً لله فيها.
ففي الأمور الشرعية يقال : "الله ورسوله أعلم" وفي الأمور الكونية لا يقال ذلك.
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب الآن على بعض الأعمال { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } (2). لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يرى العمل بعد موته.
(429) سئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "أعطني الله لا يهينك"؟.
فأجاب فضيلته بقوله: هذه العبارة صحيحة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد يهين العبد ويذله، وقد قال الله تعالى في عذاب الكفا:إنهم يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض ، فأذاقهم الله الهوان والذل بكبريائهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق. وقال: { ومن يهن الله فما له من مكرم } (3) والإنسان إذا أمرك فقد تشعر بأن هذا إذلال وهوان لك فيقول: "الله لا يهينك".
(430) وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "الله يسأل عن حالك"؟.
فأجاب بقوله: هذه العبارة: "الله يسأل عن حالك" لا تجوز لأنها توهم أن الله تعالى يجهل الأمر فيحتاج إلى أن يسأل، وهذا من المعلوم أنه أمر منكر عظيم، والقائل لا يريد هذا في الواقع لا يريد أن الله يخفى عليه شيء، ويحتاج إلى سؤال، لكن هذه العبارة قد تفيد هذا المعنى، أو توهم هذا المعنى، فالواجب العدول عنها، واستبدالها بأن تقول: "أسأل الله أن يحتفي بك"، و"أن يلطف بك"، وما أشبهها.(82/8)
(431) وسئل: هل يجوز للإنسان أن يقسم على الله؟
فأجاب بقوله: الإقسام على الله أن يقول الإنسان : والله لا يكون كذا وكذا، أو والله لا يفعل الله كذا وكذا والإقسام على الله نوعان:
أحدهما: أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله ـ عزوجل ـ وقوة إيمانه به مع اعترافه بضعفه وعدم إلزامه الله بشيء فهذا جائز ودليله قوله، صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" ودليل آخر واقعي وهو حديث أنس بن النضر حينما كسرت أخته الربيع سناً لجارية من الأنصار، فطالب أهلها بالقصاص فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالقصاص فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" وهو - رضي الله عنه -لم يقسم اعتراضاً على الحكم وإباءً لتنفيذه فجعل الله الرحمة في قلوب أولياء المرأة التي كسرت سنها فعفوا عفواً مطلقاً عند ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"، فهذا النوع من الإقسام لا بأس به.(82/9)
النوع الثاني: من الإقسام على الله: ماكان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس وأنه يستحق على الله كذا وكذا، فهذا والعياذ بالله محرم، وقد يكون محبطاً للعمل، ودليل ذلك أن رجلاً كان عابداً وكان يمر بشخص عاصٍ لله، وكلما مر به نهاه فلم ينته، فقال ذات يوم:والله لا يغفر الله لفلان ـ نسأل الله العافيةـ فهذا تحجر رحمة الله ، لأنه مغرور بنفسه فقال الله ـ عزوجل ـ: "من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان قد غفرت له وأحبطت عملك" قال أبوهريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". ومن هذا نأخذ أن من أضر ما يكون على الإنسان اللسان كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله"، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ النبي، صلى الله عليه وسلم، بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟، فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال - على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم". والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
(432) وسئل فضيلة الشيخ: عن التسمي بالإمام؟
فأجاب قائلاً: التسمي بالإمام أهون بكثير من التسمي بشيخ الإسلام لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن معه إلا واحد، لكن ينبغي أن لا يتسامح في إطلاق كلمة "إمام" إلا على من كان قدوة وله أتباع كالإمام أحمد وغيره ممن له أثر في الإسلام، ووصف الإنسان بما لا يستحقه هضم للأمة، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام ممن لم يبلغ منزلة الإمامة هان الإمام الحق في عينه.
(433) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق بعض الأزواج على زوجاتهم وصف أم المؤمنين؟(82/10)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا حرام، ولا يحل لأحد أن يسمي زوجته أم المؤمنين، لأن مقتضاه أن يكون هو نبيّاً، لأن الذي يوصف بأمهات المؤمنين هن زوجات النبي، عليه الصلاة والسلام، وهل هو يريد أن يتبوأ مكان النبوة وأن يدعو نفسه بعد بالنبي؟ بل الواجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه الكلمات، وأن يستغفر الله تعالىمما جرى منه.
(434) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول : "ياعبدي" و "يا أمتي"؟
فأجاب: قول القائل: "يا عبدي"، "يا أمتي"، ونحوه له صورتان:
الصورة الأولى: أن يقع بصيغة النداء مثل: يا عبدي، يا أمتي، فهذا لا يجوز للنهي عنه في قوله، صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي".
الصورة الثانية: أن يكون بصيغة الخبر وهذا على قسمين:
القسم الأول: إن قاله بغيبة العبد، أو الأمة فلا بأس فيه.
القسم الثاني: إن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع وإلا فلا، لأن القائل بذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك له وإلى هذا التفصيل الذي ذكرناه أشار في (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) في باب لا يقول : عبدي وأمتي. وذكره صاحب فتح الباري عن مالك.
(435) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان: "أنا حر"؟
فأجاب بقوله: إذا قال ذلك رجل حر وأراد أنه حر من رق الخلق، فنعم هو حر من رق الخلق، وأما إن أراد أنه حر من رق العبودية لله - عز وجل - فقد أساء في فهم العبودية، ولم يعرف معنى الحرية، لأن العبودية لغير الله هي الرق أما عبودية المرء لربه - عز وجل - فهي الحرية، فإنه إن لم يذل لله ذل لغير الله، فيكون هنا خادعاً نفسه إذا قال: إنه حر يعني إنه متجرد من طاعة الله، ولن يقوم بها.
(436) سئل فضيلة الشيخ: عن قول العاصي عند الإنكار عليه : " أنا حر في تصرفاتي"؟(82/11)
فأجاب بقوله: هذا خطأ، نقول: لست حراً في معصية الله، بل إنك إذا عصيت ربك فقد خرجت من الرق الذي تدعيه في عبودية الله إلى رق الشيطان والهوى.
(437) سئل فضيلة الشيخ عن قول الإنسان: "إن الله على ما يشاء قدير" عند ختم الدعاء ونحوه؟
فأجاب بقوله: هذا لا ينبغي لوجوه:
الأول: أن الله تعالىإذا ذكر وصف نفسه بالقدرة لم يقيد ذلك بالمشيئة في قوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير } (1) وقوله { :ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } (2)وقوله { ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } (3) فعمم في القدرة كما عمم في الملك وقوله: { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } (4) فعمم في الملك والقدرة، وخص الخلق بالمشيئة لأن الخلق فعل، والفعل لا يكون إلا بالمشيئة، أما القدرة فصفة أزلية أبدية شاملة لما شاء وما لم يشأه، لكن ما شاءه سبحانه وقع وما لم يشأه لم يقع والآيات في ذلك كثيرة.
الثاني: أن تقييد القدرة بالمشيئة خلاف ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأتباعه فقد قال الله عنهم: { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } (5) ولم يقولوا : "إنك على ما تشاء قدير"، وخير الطريق طريق الأنبياء وأتباعهم فإنهم أهدى علماً وأقوم عملاً.(82/12)
الثالث: أن تقييد القدرة بالمشيئة يوهم اختصاصها بما يشاؤه الله تعالىفقط، لا سيما وأن ذلك التقييد يؤتى به في الغالب سابقاً حيث يقال: "على ما يشاء قدير" وتقديم المعمول يفيد الحصر كما يعلم ذلك في تقرير علماء البلاغة وشواهده من الكتاب والسنة واللغة، وإذا خصت قدرة الله تعالىبما يشاؤه كان ذلك نقصاً في مدلولها وقصراً لها عن عمومها فتكون قدرة الله تعالىناقصة حيث انحصرت فيما يشاؤه، وهو خلاف الواقع فإن قدرة الله تعالىعامة فيما يشاؤه وما لم يشأه، لكن ما شاءه فلابد من وقوعه، وما لم يشأه فلا يمكن وقوعه.(82/13)
فإذا تبين أن وصف الله تعالىبالقدرة لا يُقيد بالمشيئة بل يطلق كما أطلقه الله تعالىلنفسه فإن ذلك لا يعارضه قول الله ـ تعالى-: { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } (1) فإن المقيد هنا بالمشيئة هو الجمع لا القدرة، والجمع فعل لا يقع إلا بالمشيئة ولذلك قيد بها فمعنى الآية أن الله تعالى قادر على جمعهم متى شاء وليس بعاجز عنه كما يدعيه من ينكره ويقيده بالمشيئة رد لقول المشركين الذين قال الله تعالىعنهم: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (2) فلما طلبوا الإتيان بآبائهم تحدياً وإنكاراً لما يجب الإيمان به من البعث، بين الله تعالىأن ذلك الجمع الكائن في يوم القيامة لا يقع إلا بمشيئته ولا يوجب وقوعه تحدي هؤلاء وإنكارهم كما قال الله تعالى-: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير. يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } (3) والحاصل أن قوله تعالى: { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } . لا يعارض ما قررناه من قبل لأن القيد بالمشيئة ليس عائداً إلى القدرة وإنما يعود إلى الجمع. وكذلك لا يعارضه ما ثبت في صحيح مسلم في كتاب "الإيمان" في "باب آخر أهل النار خروجاً" من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "آخر من يدخل الجنة رجل" فذكر الحديث وفيه أن الله تعالى قال للرجل: "إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" وذلك لأن القدرة في هذا الحديث ذكرت لتقرير أمر واقع والأمر الواقع لا يكون إلا بعد المشيئة، وليس المراد بها ذكر الصفة المطلقة التي هي وصف الله تعالىأزلاً وأبداً، ولذلك عبر عنها باسم الفاعل "قادر" دون الصفة المشبهة "قدير"(82/14)
وعلى هذا فإذا وقع أمر عظيم يستغربه المرء أو يستبعده فقيل له في تقريره : إن الله على ما يشاء قادر فلا حرج في ذلك، وما زال الناس يعبرون بمثل هذا في مثل ذلك، فإذا وقع أمر عظيم يستغرب أو يستبعد قالوا : قادر على ما يشاء، فيجب أن يعرف الفرق بين ذكر القدرة على أنها صفة لله تعالى فلا تقيد بالمشيئة، وبين ذكرها لتقرير أمر واقع فلا مانع من تقييدها بالمشيئة لأن الواقع لا يقع الا بالمشيئة، والقدرة هنا ذكرت لإثبات ذلك الواقع وتقرير وقوعه، والله سبحانهأعلم.
(438) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول الإنسان : "أنا مؤمن إن شاء الله"؟
فأجاب بقوله: قول القائل : "أنا مؤمن إن شاء الله، يسمى عند العلماء (مسألة الاستثناء في الإيمان). وفيه تفصيل:
أولاً: إن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم بل كفر، لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانياً: إن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً، فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور.
ثالثاً: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز والتعليق على هذا الوجه ـ أعني بيان التعليل ـ لا ينافي تحقق المعلق فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون } (1) والدعاء في زيارة القبور "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان بل لابد من التفصيل السابق.
(439) سئل فضيلة الشيخ: عن قول : "فلان المرحوم". و "تغمده الله برحمته" و "انتقل إلى رحمة الله"؟.(82/15)
فأجاب بقوله: قول: "فلان المرحوم"، أو "تغمده الله برحمته" لا بأس بها، لأن قولهم : "المرحوم" من باب التفاؤل والرجاء، وليس من باب الخبر، وإذا كان من باب التفاؤل والرجاء فلا بأس به.
وأما "انتقل إلى رحمة الله"، فهو كذلك فيما يظهر لي أنه من باب التفاؤل، وليس من باب الخبر، لأن مثل هذا من أمور الغيب ولا يمكن الجزم به، وكذلك لا يقال : "انتقل إلى الرفيق الأعلى".
(440) سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة "لكم تحياتنا" وعبارة "أهدي لكم تحياتي"؟
فأجاب قائلاً: عبارة "لكم تحياتنا، وأهدي لكم تحياتي" ونحوهما من العبارات لا بأس بها قال الله تعالى: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } (2). فالتحية من شخص لآخر جائزة، وأما التحيات المطلقة العامة فهي لله، كما أن الحمد لله، والشكر لله، ومع هذا فيصح أن نقول:حمدت فلاناً على كذا، وشكرته على كذا قال الله- تعالى-: { أن اشكر لي ولوالديك } (3).
(441) وسئل فضيلة الشيخ: يقول بعض الناس: "أوجد الله كذا"، فما مدى صحتها؟ وما الفرق بينها وبين: "خلق الله كذا" أو "صور الله كذا"؟
فأجاب بقوله: أوجد وخلق ليس بينهما فرق، فلو قال: أوجد الله كذا كانت بمعنى خلق الله كذا، وأما صور فتختلف لأن التصوير عائد إلى الكيفية لا إلى الإيجاد.
(442) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بإيمان؟.(82/16)
فأجاب بقوله: الذي أرى أن اسم إيمان فيه تزكية وقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه غير اسم "برة" خوفاً من التزكية ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن زينب كان اسمها برة فقيل :تزكي نفسها فسماها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب 10/575 فتح، وفي صحيح مسلم 3/1687 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت جويرية اسمها برة فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية وكان يكره أن يقال : خرج من عند برة، وفيه أيضاً ص1688 عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب" فبين النبي، صلى الله عليه وسلم، وجه الكراهة للاسم الذي فيه التزكية وأنها من وجهين:
الأول: أنه يقال : خرج من عند برة وكذلك يقال : خرج من برة.
الثاني: التزكية والله أعلم منا بمن هو أهل للتزكية.
وعلى هذا ينبغي تغيير اسم إيمان لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عما فيه تزكية، ولا سيما إذا كان اسماً لامرأة لأنه للذكور أقرب منه للإناث لأن كلمة (إيمان) مذكرة.
(443) وسئل فضيلته: عن التسمي بإيمان؟
فأجاب بقوله: اسم إيمان يحمل نوعاً من التزكية ولهذا لا تنبغي التسمية به لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، غير اسم برة لكونه دالاً على التزكية، والمخاطب في ذلك هم الأولياء الذين يسمون أولادهم بمثل هذه الأسماء التي تحمل التزكية لمن تسمى بها، أما ما كان علماً مجرداً لا يفهم منه التزكية فهذا لا بأس به ولهذا نسمي بصالح وعلي وما أشبههما من الأعلام المجردة التي لا تحمل معنى التزكية.
(444) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم هذه الألقاب "حجة الله" "حجة الإسلام" "آية الله"؟(82/17)
فأجاب بقوله: هذه الألقاب "حجة الله" "حجة الإسلام" ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما "آية الله" فإن أريد المعنى الأعم فهو يدخل فيه كل شيء:
وفي كل شيء له آية .. تدل على أنه واحد
وإن أريد أنه آية خارقة فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل، لكن يقال :عالم، مفتٍ، قاضي، حاكم، إمام لمن كان مستحقاً لذلك.
(445) سئل الشيخ: عن هذه العبارات: "باسم الوطن، باسم الشعب، باسم العروبة"؟
فأجاب قائلاً: هذه العبارات إذا كان الإنسان يقصد بذلك أنه يعبر عن العرب أو يعبر عن أهل البلد فهذا لا بأس به، وإن قصد التبرك والاستعانة فهو نوع من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر بحسب مايقوم في قلب صاحبه من التعظيم بما استعان به.
(446) وسئل فضيلته: هل هذه العبارة صحيحة "بفضل فلان تغير هذا الأمر، أو بجهدي صار كذا"؟
فأجاب الشيخ بقوله: هذه العبارة صحيحة، إذا كان للمذكور أثر في حصوله، فإن الإنسان له فضل على أخيه إذا أحسن إليه، فإذا كان للإنسان في هذا الأمر أثر حقيقي فلا بأس أن يقال: هذا بفضل فلان، أو بجهود فلان، أو ما أشبه ذلك، لأن إضافة الشيء إلى سببه المعلوم جائزة شرعاً وحساً، ففي صحيح مسلم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال في عمه أبي طالب: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". وكان أبوطالب يعذب في نار جهنم في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذاباً ـ والعياذ بالله ـ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
أما إذا أضاف الشيء إلى سبب وليس بصحيح فإن هذا لا يجوز، وقد يكون شركاً، كما لو أضاف حدوث أمر لا يحدثه إلا الله إلى أحد من المخلوقين، أو أضاف شيئاً إلى أحدٍ من الأموات أنه هو الذي جلبه له فإن هذا من الشرك في الربوبية.(82/18)
(447) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: "البقية في حياتك"، عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم: "حياتك الباقية"؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا أرى فيها مانعاً إذا قال الإنسان:"البقية في حياتك" لا أرى فيها مانعاً، ولكن الأولى أن يقال : إن في الله خلفاً من كل هالك، أحسن من أن يقال : "البقية في حياتك"، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.
(448) وسئل حفظه الله تعالى: عن حكم ثناء الإنسان على الله تعالى بهذه العبارة "بيده الخير والشر"؟(82/19)
فأجاب بقوله: أفضل ما يثني به العبد على ربه هو ما أثنى به سبحانه على نفسه أو أثنى به عليه أعلم الناس به نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، والله - عز وجل - لم يثن على نفسه وهو يتحدث عن عموم ملكه وتمام سلطانه وتصرفه أن بيده الشر كما في قوله –تعالى-: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } (1). فأثنى سبحانه على نفسه بأن بيده الخير في هذا المقام الذي قد يكون شراً بالنسبة لمحله وهو الإنسان المقدر عليه الذل، ولكنه خير بالنسبة إلى فعل الله لصدوره عن حكمة بالغة، ولذلك أعقبه بقوله : { بيدك الخير } وهكذا كل ما يقدره الله من شرور في مخلوقاته هي شرور بالنسبة لمحالها، أما بالنسبة لفعل الله تعالىلها وإيجاده فهي خير لصدورها عن حكمة بالغة، فهناك فرق بين فعل الله تعالىالذي هو فعله كله خير، وبين مفعولاته ومخلوقاته البائنة عنه ففيها الخير والشر، ويزيد الأمر وضوحاً أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أثنى على ربه تبارك وتعالى بأن الخير بيده ونفى نسبة الشر إليه كما في حديث علي، رضي الله عنه، الذي رواه مسلم وغيره مطولاً وفيه أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يقول إذا قام إلى الصلاة: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" إلى أن قال: "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك" فنفى، صلى الله عليه وسلم، أن يكون الشر إلى الله تعالى، لأن أفعاله وإن كانت شراً بالنسبة إلى محالها ومن قامت به، فليست شراً بالنسبة إليه تعالىلصدورها عن حكمة بالغة تتضمن الخير، وبهذا تبين أن الأولى بل الأوجب في الثناء على الله أن نقتصر على ما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه رسوله، صلى الله عليه وسلم، لأنه –تعالى- أعلم بنفسه، ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، أعلم الخلق به فنقول: بيده الخير ونقتصر على ذلك كما هو في القرآن الكريم والسنة.(82/20)
(449) سئل فضيلة الشيخ: عن قول العامة: "تباركت علينا؟" "زارتنا البركة؟".
فأجاب قائلاً: قول العامة "تباركت علينا" لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله - عز وجل - وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان، قال أسيد بن حضير لما نزلت اية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها قال: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر".
وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول:أن يكون طلب البركة بأمر شرعي معلوم مثل القرآن الكريم قال الله تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } (2) فمن بركته أن من أخذ به وجاهد به حصل له الفتح، فأنقذ الله به أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات وهذه توفر للإنسان الجهد والوقت.
الأمر الثاني: أن يكون طلب البركة بأمر حسي معلوم، مثل العلم فهذا الرجل يتبرك به بعلمه ودعوته إلى الخير، قال أسيد بن حضير: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر" فإن الله قد يجري على أيدي بعض الناس من أمور الخير مالا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة مثل ما يزعمه الدجالون أن فلاناً الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر لكنها لا تعدو أن تكون آثاراً حسية بحيث إن الشيطان يخدم هذا الشيخ فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؟
فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة مالا يحصل لغيره، أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله.
(450) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق عبارة: "كتب التراث" على كتب السلف؟
فأجاب بقوله:الظاهر أنه صحيح،لأن معناه الكتب الموروثة عمن سبق،ولا أعلم في هذا مانعاً.(82/21)
(451) وسئل فضيلة الشيخ: هل في الإسلام تجديد تشريع؟.
فأجاب بقوله: من قال: إن في الإسلام تجديد تشريع فالواقع خلافه، فالإسلام كمل بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، والتشريع انتهى بها. نعم الحوادث والوقائع تتجدد، ويحدث في كل عصرٍ ومكانٍ ما لا يحدث في غيره، ثم ينظر فيها بتشريع، ويحكم عليها على ضوء الكتاب والسنة. ويكون هذا الحكم من التشريع الإسلامي الأول، ولا ينبغي أن يسمى تشريعاً جديداً، لأنه هضم للإسلام، ومخالف للواقع، ولا ينبغي أيضاً أن يسمى تغييراً للتشريع، لما فيه من كسر سياج حرمة الشريعة، وهيبتها في النفوس، أو تعريضها لتغيير لا يسير على ضوء الكتاب والسنة، ولا يرضاه أحد من أهل العلم والإيمان.
أما إذا كان الحكم على الحادثة ليس على ضوء الكتاب والسنة، فهو تشريع باطل، لا يدخل تحت التقسيم في التشريع الإسلامي.
ولا يرد على ما قلت إمضاء عمر - رضي الله عنه -للطلاق الثلاث، مع أنه كان واحدة لمدة سنتين من خلافته، ومدة عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر رضي الله عنه، لأن هذا من باب التعزير بإلزام المرء ما التزمه ولذا قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: "أرى الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم". فأمضاه عليهم، وباب التعزير واسع في الشريعة، لأن المقصود به التقويم والتأديب.
(452) وسئل عن حكم قولهم: تدخل القدر؟ وتدخلت عناية الله؟.
فأجاب قائلاً: قولهم: "تدخل القدر" لا يصلح لأنه يعني أن القدر اعتدى بالتدخل وأنه كالمتطفل على الأمر، مع أنه أي القدر هو الأصل فكيف يقال: تدخل؟ والأصح أن يقال: ولكن نزل القضاء والقدر أو غلب القدر ونحو ذلك، ومثل ذلك "تدخلت عناية الله" الأولى أن يبد بها كلمة حصلت عناية الله، أو اقتضت عناية الله.
(453) وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله مثل كريم، وعزيز ونحوهما؟
فأجاب بقوله: التسمي بأسماء الله - عز وجل - يكون على وجهين:
الوجه الأول: وهو على قسمين:(82/22)
القسم الأول: أن يحلى بـ"ال" ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله ـ عز وجل ـ(1) كما لو سميت أحداً بالعزيز، والسيد، والحكيم وما أشبه ذلك فإن هذا لا يسمى به غير الله لأن "ال" هذه تدل على لمح الأصل وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.
القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ"ال" فإنه لا يسمى به ولهذا غير النبي، صلى الله عليه وسلم، كنية أبي الحكم التي تكنى بها، لأن أصحابه يتحاكمون إليه فقال النبي، عليه الصلاة والسلام:"إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظاً بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع لأن هذه التسمية تكون مطابقة تماماً لأسماء الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن أسماء الله تعالىأعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.
الوجه الثاني: أن يتسمى بالاسم غير محلى بـ"ال" وليس المقصود به معنى الصفة فهذا لا بأس به مثل حكيم ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي، عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به.
لكن في مثل "جبار" لا ينبغي أن يتسمى به وإن كان لم يلاحظ الصفة وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت وغلو واستكبار على الخلق فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها. والله أعلم.
(454) وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله تعالى مثل الرحيم والحكيم؟(82/23)
فأجاب بقوله: يجوز أن يسمي الإنسان بهذه الأسماء بشرط ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه بأن تكون مجرد علم فقط، ومن أسماء الصحابة الحكم، وحكيم بن حزام وكذلك اشتهر بين الناس اسم عادل وليس بمنكر، أما إذا لوحظ فيه المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء فإن الظاهر أنه لا يجوز لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، غير اسم أبي الحكم الذي تكنى به، لكون قومه يتحاكمون إليه وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح وقال له: "أنت أبو شريح" وذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم فكان هذا مماثلاً لأسماء الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن أسماء الله - عز وجل - ليست مجرد أعلام بل هي أعلام من حيث دلالتها على ذات الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه، وأما أسماء غيره ـ سبحانه وتعالى ـ فإنها مجرد أعلام إلا أسماء النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنها أعلام وأوصاف، وكذلك أسماء كتب الله - عز وجل - فهي أعلام وأوصاف أيضاً.
(455) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم ثناء الإنسان على نفسه؟
فأجاب قائلاً: الثناء على النفس إن أراد به الإنسان التحدث بنعمة الله - عز وجل - أو أن يتأسى به غيره من أقرانه ونظرائه فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه -عزوجل -فإن هذا فيه شيء من المنة فلا يجوز وقد قال الله تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } (1).
وإن أراد به مجرد الخبر فلا بأس به لكن الأولى تركه.
فالأحوال إذاً في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع:
الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه به من الإيمان والثبات.
الحال الثانية: أن يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه.(82/24)
فهاتان الحالان محمودتان لما تشتملان عليه من هذه النية الطيبة.
الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله - عز وجل - بما هو عليه من الإيمان والثبات وهذا غير جائز لما ذكرنا من الآية.
الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد الخبر عن نفسه بما هو عليه من الإيمان والثبات فهذا جائز ولكن الأولى تركه.
(456) سئل فضيلة الشيخ: عن قول "ياحاج"، و "السيد فلان"؟
فأجاب بقوله: قول: "حاج" يعني أدى الحج لا شيء فيها.
وأما السيد فينظر إن كان صحيحاً أنه ذو سيادة فيقال: هو سيد بدون أل فلا بأس به، بشرط ألا يكون فاسقاً ولا كافراً، فإن كان فاسقاً أو كافراً فإنه لا يجوز إطلاق لفظ سيد إلا مضافاً إلى قومه، مثل سيد بني فلان، أو سيد الشعب الفلاني ونحو ذلك.
(457) وسئل أيضاً: عن حكم ما درج على ألسنة بعض الناس من قولهم: "حرام عليك أن تفعل كذا وكذا"؟
فأجاب بقوله: هذا الذي وصفوه بالتحريم إما أن يكون مما حرمه الله كما لو قالوا حرام أن يعتدي الرجل على أخيه وما أشبه ذلك فإن وصف هذا الشيء بالحرام صحيح مطابق لما جاء به الشرع.
وأما إذا كان الشيء غير محرم فإنه لا يجوز أن يوصف بالتحريم ولو لفظاً، لأن ذلك قد يوهم تحريم ما أحل الله - عز وجل - أو يوهم الحجر على الله - عز وجل - في قضائه وقدره بحيث يقصدون بالتحريم التحريم القدري، لأن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً فما يتعلق بفعل الله - عز وجل - فإنه يكون تحريماً قدرياً، وما يتعلق بشرعه فإنه يكون تحريماً شرعياً وعلى هذا فينهى هؤلاء عن إطلاق مثل هذه الكلمة ولو كانوا لا يريدون بها التحريم الشرعي، لأن التحريم القدري ليس إليهم أيضاً بل هو إلى الله - عز وجل - هو الذي يفعل ما يشاء فيحدث ما شاء أن يحدث ويمنع ما شاء أن يمنعه، فالمهم أن الذي أرى أنهم يتنزهون عن هذه الكلمة وأن يبتعدوا عنها وإن كان قصدهم في ذلك شيئاً صحيحاً. والله الموفق.(82/25)
(458) سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى رقم "457" :إن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً فنأمل من فضيلتكم التكرم ببيان بعض الأمثلة؟.
فأجاب بقوله: سؤالكم عما ورد في جوابنا رقم "457" من أن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً وطلبكم أمثلة لذلك فإليكم ما طلبتم:
فمن التحريم القدري قوله تعالىفي موسى: { وحرمنا عليه المراضع من قبل } (1). وقوله تعالى: { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } (2). ومن التحريم الشرعي قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم } (3). وقوله تعالى: { قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } (4) الآية.
(459) وسئل فضيلة الشيخ: نسمع ونقرأ كلمة، "حرية الفكر"، وهي دعوة إلى حرية الاعتقاد، فما تعليقكم على ذلك؟.
فأجاب بقوله: تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حر الاعتقاد، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر،لأن كل من اعتقد أن أحداً يسوغ له أن يتدين بغير دين محمد، صلى الله عليه وسلم، فإنه كافر بالله - عز وجل - يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله.
والأديان ليست أفكاراً، ولكنها وحي من الله - عز وجل - ينزله على رسله، ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة ـ أعني كلمة فكر ـ التي يقصد بها الدين: يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية، لأنها تؤدي إلى هذا المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر ـ وأعني بالنصرانية التي يسميها أهلها بالمسيحية ـ فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، والواقع أن الأديان السماوية أديان سماوية من عند الله - عز وجل - يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبد بها عباده، ولا يجوز أن يطلق عليها "فكر".(82/26)
وخلاصة الجواب: أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حر فيما يتدين به فإنه كافر بالله - عز وجل - لأن الله تعالىيقول: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (1). ويقول: { إن الدين عند الله الإسلام } (2). فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن ديناً سوى الإسلام جائز يجوز للإنسان أن يتعبد به بل إذا اعتقد هذا فقد صرح أهل العلم بأنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة.
(460) سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز أن يقول الإنسان للمفتي : ما حكم الإسلام في كذا وكذا؟ أو ما رأي الإسلام؟
فأجاب بقوله: لا ينبغي أن يقال:"ما حكم الإسلام في كذا"، أو "ما رأي الإسلام في كذا" فإنه قد يخطئ فلا يكون ما قاله حكم الإسلام، لكن لو كان الحكم نصاً صريحاً فلا بأس مثل أن يقول: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فنقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنها حرام.
(461) سئل فضيلة الشيخ: عن وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق؟
فأجاب بقوله: الحيوان الناطق يطلق على الإنسان كما ذكره أهل المنطق، وليس فيه عندهم عيب، لأنه تعريف بحقيقة الإنسان، لكنه في العرف قول يعتبر قدحاً في الإنسان، ولهذا إذا خاطب الإنسان به عاميا فإن العامي سيعتقد أن هذا قدحٌ فيه، وحينئذ لا يجوز أن يخاطب به العامي، لأن كل شيء يسيء إلى المسلم فهو حرام، أما إذا خوطب به من يفهم الأمر على حسب اصطلاح المناطقة، فإن هذا لا حرج فيه، لأن الإنسان لا شك أنه حيوان باعتبار أنه فيه حياة، وأن الفصل الذي يميزه عن غيره من بقية الحيوانات هو النطق. ولهذا قالوا: إن كلمة "حيوان" جنس، وكلمة "ناطق" فصل، والجنس يعم المعرف وغيره، والفصل يميز المعرف عن غيره.
(462) سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس: "خسرت في الحج كذا، وخسرت في العمرة كذا، وخسرت في الجهاد كذا، وكذا"؟.(82/27)
فأجاب قائلاً: هذه العبارات غير صحيحة، لأن مابذل في طاعة الله ليس بخسارة، بل هو الربح الحقيقي، وإنما الخسارة ما صرف في معصية، أو في ما لافائدة فيه، وأما مافيه فائدة دنيوية أو دينية فإنه ليس بخسارة.
(463) سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لرجل: "أنت يا فلان خليفة الله في أرضه"؟
فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد ، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد، فإن هذا لا بأس به ، ومعنى قولنا: " خليفة الله " أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعهلا ، لأن الله - تعالى-ستخلفه على الأرض ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالىيحتاج إلى أحد يخلفه في خلقه أو يعينه على تدبير شؤونهم ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه، ويقوم بأعباء ماكلفه الله.
(464) وسئل فضيلته: يستخدم بعض الناس عبارة "راعني" ويقصدون بها انظرني، فما صحة هذه الكلمة؟
فأجاب قائلاً: الذي أعرف أن كلمة: "راعني" يعني من المراعاة أي أنزل لنا في السعر مثلاً، وانظر إلى ما أريد، ووافقني عليه، وما أشبه ذلك، وهذه لا شيء فيها. وأما قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } (1).
فهذا كان اليهود يقولون: "راعنا"، من الرعونة فينادون بذلك الرسول، عليه الصلاة والسلام، يريدون الدعاء عليه، فلهذا قال الله لهم: { وقولوا انظرنا } . وأما "راعني"، فليست مثل "راعنا"، لأن راعنا منصوبة بالألف وليست بالياء.
(465) وسئل حفظه الله: ما حكم قول : "رب البيت"؟ "رب المنزل"؟
فأجاب: قولهم : رب البيت ونحوه ينقسم أقساماً أربعة:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب في معنى لا يليق بالله - عز وجل - مثل أن يقول : "أطعم ربك" فهذا منهي عنه لوجهين:(82/28)
الوجه الأول: من جهة الصيغة لأنه يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يُطعِم ولا يطعَم، وإن كان لا شك أن الرب هنا غير الرب الذي يطعم ولا يطعم.
الوجه الثاني: من جهة أنك تشعر العبد أو الأمة بالذل لأنه إذا كان السيد ربّاً كان العبد مربوباً والأمة مربوبة.
وأما إذا كان في معنى يليق بالله تعالىمثل أطع ربك كان النهي عنه من أجل الوجه الثاني.
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب مثل ربه، وربها، فإن كان في معنى لا يليق بالله كان من الأدب اجتنابه، مثل أطعم العبد ربه أو أطعمت الأمة ربها، لئلا يتبادر منه إلى الذهن معنى لا يليق بالله.
وإن كان في معنى يليق بالله مثل أطاع العبد ربه وأطاعت الأمة ربها فلا بأس بذلك لانتفاء المحذور.
ودليل ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث اللقطة في ضالة الإبل وهو حديث متفق عليه: "حتى يجدها ربها" وقال بعض أهل العلم: إن حديث اللقطة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل كالإنسان، والصحيح عدم الفارق لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة بها. قال تعالى: { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } (1) وقال في العباد: { وكثير من الناس } (2) ليس جميعهم { وكثير حق عليه العذاب } (3).
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم فقد يقول قائل بالجواز لقوله تعالى حكاية عن يوسف: { إنه ربي أحسن مثواي } (4) أي سيدي، وإن المحذور هو الذي يقتضي الإذلال وهذا منتفٍ لأن هذا من العبد لسيده.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر فيقال: هذا رب الغلام فظاهر الحديث الجواز وهو كذلك مالم يوجد محذور فيمنع كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق لمملوكه.
(466) سئل فضيلة الشيخ: عن قول من يقول: إن الإنسان يتكون من عنصرين عنصر من التراب وهو الجسد، وعنصر من الله وهو الروح؟(82/29)
فأجاب بقوله: هذا الكلام يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الروح جزء من الله.
والثاني: أن الروح من الله خلقاً.
وأظهرهما أنه أراد أن الروح جزء من الله لأنه لو أراد أن الروح من الله خلقاً لم يكن بينها وبين الجسد فرق إذ الكل من الله تعالىخلقاً وإيجاداً.
والجواب على قوله: أن نقول : لا شك أن الله أضاف روح آدم إليه في قوله –تعالى-: { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } (1). وأضاف روح عيسى إليه فقال: { ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فننفخنا فيه من روحنا } (2).وأضاف بعض مخلوقات أخرى إليه كقوله: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } (3). وقوله: { وسخر لكم مافي السموات ومافي الأرض جميعاً منه } (4). وقوله عن رسوله صالح: { فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها } (5) ولكن المضاف إلى الله نوعان:(82/30)
أحدهما: ما يكون منفصلاً بائناً عنه، قائماً بنفسه أو قائماً بغيره، فإضافته إلى الله تعالى إضافة خلق وتكوين، ولا يكون ذلك إلا فيما يقصد به تشريف المضاف أو بيان عظمة الله تعالى، لعظم المضاف، فهذا النوع لا يمكن أن يكون من ذات الله، ولا من صفاته، أما كونه لا يمكن أن يكون من ذات الله تعالى، فلأن ذات الله تعالى واحدة لا يمكن أن تتجزأ أو تتفرق، وأما كونه لا يمكن أن يكون من صفات الله فلأن الصفة معنى في الموصوف لا يمكن أن تنفصل عنه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والسمع، والبصر وغيرها. فإن هذه الصفات صفات لا تباين موصوفها، ومن هذا النوع إضافة الله تعالىروح آدم وعيسى إليه، وإضافة البيت وما في السموات والأرض إليه، وإضافة الناقة إليه، فروح آدم، وعيسى قائمة بهما، وليست من ذات الله تعالى، ولا من صفاته قطعاً، والبيت ومافي السموات والأرض، والناقة أعيان قائمة بنفسها، وليست من ذات الله ولا من صفاته، وإذا كان لا يمكن لأحد أن يقول: إن بيت الله، وناقة الله من ذاته ولا من صفاته فكذلك الروح التي أضافها إليه ليست من ذاته ولا من صفاته، ولا فرق بينهما إذ الكل بائن منفصل عن الله - عز وجل - وكما أن البيت والناقة من الأجسام فكذلك الروح جسم تحل بدن الحي بإذاً الله، يتوفاها الله حين موتها، ويمسك التي قضى عليها الموت، ويتبعها بصر الميت حين تقبض، لكنها جسم من جنس آخر.
النوع الثاني: من المضاف إلى الله: ما لا يكون منفصلاً عن الله بل هو من صفاته الذاتية أو الفعلية، كوجهه، ويده، وسمعه، وبصره، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك، فإضافته إلى الله تعالىمن باب إضافة الصفة إلى موصوفها، وليس من باب إضافة المخلوق والمملوك إلى مالكه وخالقه.(82/31)
وقول المتكلم:"إن الروح من الله" يحتمل معنى آخر غير ماقلنا: إنه الأظهر، وهو أن البدن مادته معلومة، وهي التراب، أما الروح فمادتها غير معلومة، وهذا المعنى صحيح. كما قال الله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } (1). وهذه ـ والله أعلم ـ من الحكمة في إضافتها إليه أنها أمر لا يمكن أن يصل إليه علم البشر بل هي مما استأثر الله بعلمه كسائر العلوم العظيمة الكثيرة التي لم نؤت منها إلا القليل، ولا نحيط بشيء من هذا القليل إلا بما شاء الله ـ تبارك وتعالى ـ.
فنسأل الله تعالى، أن يفتح علينا من رحمته وعلمه مابه صلاحنا، وفلاحنا في الدنيا والآخرة.
(467) سئل فضيلة الشيخ: عن المراد بالروح والنفس؟ والفرق بينهما؟
فأجاب قائلاً: الروح في الغالب تطلق على ما به الحياة سواء كان ذلك حساً أو معنى، فالقرآن يسمى روحاً قال الله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } (2) لأن به حياة القلوب بالعلم والإيمان، والروح التي يحيا بها البدن تسمى روحاً كما قال الله –تعالى-: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } (3).
أما النفس فتطلق على ما تطلق عليه الروح كثيراً كما في قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } (4).
وقد تطلق النفس على الإنسان نفسه، فيقال:جاء فلان نفسه، فتكون بمعنى الذات، فهما يفترقان أحياناً، ويتفقان أحياناً، بحسب السياق.(82/32)
وينبغي بهذه المناسبة أن يعلم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها فقد تكون الكلمة الواحدة لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، فالقرية مثلاً تطلق أحياناً على نفس المساكن، وتطلق أحياناً على الساكن نفسه ففي قوله تعالىعن الملائكة الذين جاءوا إبراهيم: { قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية } (1) المراد بالقرية هنا المساكن، وفي قوله –تعالى-: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً } (2) المراد بها الساكن، وفي قوله –تعالى-: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } (3) المراد بها المساكن، وفي قوله: { واسأل القرية التي كنا فيها } (4) المراد بها الساكن، فالمهم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها وبحسب ما تضاف إليه، وبهذه القاعدة المفيدة المهمة يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه كثير من أهل العلم من أن القرآن الكريم ليس فيه مجاز وأن جميع الكلمات التي في القرآن كلها حقيقة لأن الحقيقة هي ما يدل عليه سياق الكلام بأي صيغة كان، فإذا كان الأمر كذلك تبين لنا بطلان قول من يقول : إن في القرآن مجازاً، وقد كتب في هذا أهل العلم وبينوه، ومن أبين ما يجعل هذا القول صواباً أن من علامات المجاز صحة نفيه بمعنى أنه يصح أن تنفيه فإذا قال: فلان أسد، صح لك نفيه، وهذا لا يمكن أن يكون في القرآن، فلا يمكن لأحد أن ينفي شيئاً مما ذكره الله تعالىفي القرآن الكريم.
(468) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إطلاق لفظ "السيد" على غير الله تعالى؟
فأجاب بقوله: إطلاق السيد على غير الله تعالى إن كان يقصد معناه وهي السيادة المطلقة فهذا لا يجوز، وإن كان يقصد به مجرد الإكرام فإن كان المخاطب به أهلاً للإكرام فلا بأس به. ولكن لا يقول: السيد بل يقول ياسيد، أو نحو ذلك، وإن كان لا يقصد به السيادة والإكرام وإنما هو مجرد اسم فهذا لا بأس به.
(469) سئل فضيلة الشيخ: من الذي يستحق أن يوصف بالسيادة؟(82/33)
فأجاب بقوله: لا يستحق أحد أن يوصف بالسيادة المطلقة إلا الله - عز وجل - فالله تعالى هو السيد الكامل السؤدد، أما غيره فيوصف بسيادة مقيدة مثل سيد ولد آدم، لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، والسيادة قد تكون بالنسب، وقد تكون بالعلم، وقد تكون بالكرم، وقد تكون بالشجاعة، وقد تكون بالملك، كسيد المملوك، وقد تكون بغير ذلك من الأمور التي يكون بها الإنسان سيداً، وقد يقال للزوج: سيد بالنسبة لزوجته، كما في قوله تعالى: { وألفيا سيدها لدا الباب } (5).
فأما السيد في النسب فالظاهر أن المراد به من كان من نسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم أولاد فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أي ذريتها من بنين وبنات، وكذلك الشريف، وربما يراد بالشريف من كان هاشمياً وأيّاً كان الرجل أو المرأة سيداً أو شريفاً فإنه لا يمتنع شرعاً أن يتزوج من غير السيد والشريف، فهذا سيد بني آدم وأشرفهم، محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد زوج ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان بن عفان، وليس هاشمياً، وزوج ابنته زينب أبا العاص بن الربيع وليس هاشمياً.
(470) وسئل فضيلته عن الجمع بين حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلنا : أنت سيدنا فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). وما جاء في التشهد "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد". وحديث "أنا سيد ولد آدم"؟(82/34)
فأجاب قائلاً: لا يرتاب عاقل أن محمداً ، صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم فإن كل عاقل مؤمن يؤمن بذلك، والسيد هو ذو الشرف والطاعة والإمرة، وطاعة النبي، صلى الله عليه وسلم، من طاعة الله ـ سبحانه وتعالى ـ: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } (1) ونحن وغيرنا من المؤمنين لا نشك أن نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، سيدنا ، وخيرنا ، وأفضلنا عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه المطاع فيما يأمر به ، صلوات الله وسلامه عليه ، ومن مقتضى اعتقادنا أنه السيد المطاع، عليه الصلاة والسلام، أن لا نتجاوز ما شرع لنا من قول أو فعل أو عقيدة ومما شرعه لنا في كيفية الصلاة عليه في التشهد "أن نقول : اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" أو نحوها من الصفات الواردة في كيفية الصلاة عليه، صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم أن صفة وردت بالصيغة التي ذكرها السائل وهي "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد" وإذا لم ترد هذه الصيغة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، فإن الأفضل ألا نصلي على النبي، صلى الله عليه وسلم، بها، وإنما نصلي عليه بالصيغة التي علمنا إياها.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن كل إنسان يؤمن بأن محمداً، صلى الله عليه وسلم، سيدنا فإن مقتضى هذا الإيمان أن لا يتجاوز الإنسان ما شرعه، وأن لا ينقص عنه، فلا يبتدع في دين الله ما ليس منه، ولا ينقص من دين الله ما هو منه، فإن هذا هو حقيقة السيادة التي هي من حق النبي، صلى الله عليه وسلم، علينا.(82/35)
وعلى هذا فإن أولئكم المبتدعين لأذكار أو صلوات على النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يأت بها شرع الله على لسان رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، تنافي دعوى أن هذا الذي ابتدع يعتقد أن محمداً ، صلى الله عليه وسلم، سيد، لأن مقتضى هذه العقيدة أن لا يتجاوز ما شرع وأن لا ينقص منه، فليتأمل الإنسان وليتدبر ما يعنيه بقوله حتى يتضح له الأمر ويعرف أنه تابع لا مشرع.
وقد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أنا سيد ولد آدم" والجمع بينه وبين قوله: "السيد الله" أن السيادة المطلقة لا تكون إلا لله وحده فإنه تعالى هو الذي له الأمر كله فهو الآمر وغيره مأمور، وهو الحاكم وغيره محكوم، وأما غيره فسيادته نسبية إضافية تكون في شيء محدود، وفي زمن محدود، ومكان محدود، وعلى قوم دون قوم، أو نوع من الخلائق دون نوع.
(471)وسئل فضيلته: عن هذه العبارة "السيدة عائشة رضي الله عنها"؟.
فأجاب قائلاً: لا شك أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ من سيدات نساء الأمة، ولكن إطلاق "السيدة" على المرأة و"السيدات" على النساء هذه الكلمة متلقاة فيما أظن من الغرب حيث يسمون كل امرأة سيدة وإن كانت من أوضع النساء، لأنهم يسودون النساء أي يجعلونهن سيدات مطلقاً، والحقيقة أن المرأة امرأة، وأن الرجل رجل، وتسمية المرأة بالسيدة على الإطلاق ليس بصحيح، نعم من كانت منهن سيدة لشرفها في دينها أو جاهها أو غير ذلك من الأمور المقصودة فلنا أن نسميها سيدة، ولكن ليس مقتضى ذلك أننا نسمي كل امرأة سيدة.
كما أن التعبير بالسيدة عائشة، والسيدة خديجة، والسيدة فاطمة وما أشبه ذلك لم يكن معروفاً عند السلف بل كانوا يقولون : أم المؤمنين عائشة أم المؤمنين خديجة، فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.(82/36)
(472)سئل فضيلة الشيخ: عن الجمع بين قول النبي، صلى الله عليه وسلم:"السيد الله تبارك وتعالى" وقوله، صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم" وقوله : "قوموا إلى سيدكم" وقوله في الرقيق: "وليقل : سيدي"؟
فأجاب بقوله: اختلف في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن النهي على سبيل الأدب، والإباحة على سبيل الجواز، فالنهي ليس للتحريم حتى يعارض الجواز.
القول الثاني: أن النهي حيث يخشى منه المفسدة وهي التدرج إلى الغلو، والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
القول الثالث: أن النهي بالخطاب أي أن تخاطب الغير بقولك:"سيدي أو سيدنا" لأنه ربما يكون في نفسه عجب وغلو إذا دعي بذلك، ولأن فيه شيئاً آخر وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له، بخلاف إذا جاء على غير هذا الوجه مثل "قوموا إلى سيدكم" و "أنا سيد ولد آدم".
لكن هذا يرد عليه إباحته صلى الله عليه وسلم، للرقيق أن يقول لمالكه : "سيدي"؟
لكن يجاب عن هذا بأن قول الرقيق لمالكه:"سيدي" أمر معلوم لا غضاضة فيه، ولهذا يحرم عليه أن يمتنع مما يجب عليه نحو سيده والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن هذا جائز لكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلاً لذلك، وأن لا يخشى محذور من إعجاب المخاطب وخنوع المتكلم، أما إذا لم يكن أهلاً، كما لو كان فاسقاً أو زنديقاً فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاهاً، وقد جاء في الحديث "لا تقولوا للمنافق : سيد فإنكم إذا قلتم ذلك أغضبتم الله" وكذلك لا يقال إذا خشي محذور من إعجاب المخاطب أو خنوع المتكلم.
(473) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: "شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا"، "وشاءت الأقدار كذا وكذا"؟.(82/37)
فأجاب قائلاً: قول: "شاءت الأقدار"، و "شاءت الظروف" ألفاظ منكرة، لأن الظروف جمع ظرف وهو الزمن، والزمن لا مشيئة له، وكذلك الأقدار جمع قدر، والقدر لا مشيئة له، وإنما الذي يشاء هو الله - عز وجل - نعم لو قال الإنسان: "اقتضى قدر الله كذا وكذا". فلا بأس به. أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف، إنما الإرادة للموصوف.
(474) وسئل فضيلته: عن حكم قول : "وشاءت قدرة الله" و"شاء القدر"؟
فأجاب بقوله: لا يصح أن نقول : " شاءت قدرة الله" لأن المشيئة إرادة، والقدرة معنى، والمعنى لا إرادة له، وإنما الإرادة للمريد، والمشيئة لمن يشاء، ولكننا نقول :اقتضت حكمة الله كذا وكذا، أو نقول عن الشيء إذا وقع : هذه قدرة الله أي مقدوره كما تقول: هذا خلق الله أي مخلوقه. وأما أن نضيف أمراً يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.
ومثل ذلك قولهم: "شاء القدر كذا وكذا" وهذا لا يجوز لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدّر. والله أعلم.
(475) وسئل فضيلته: هل يجوز إطلاق "شهيد" على شخص بعينه فيقال: الشهيد فلان؟(82/38)
فأجاب بقوله: لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد، حتى لو قتل مظلوماً، أو قتل وهو يدافع عن الحق، فإنه لا يجوز أن نقول : فلان شهيد وهذا خلاف لما عليه الناس اليوم حيث رخصوا هذه الشهادة وجعلوا كل من قتل حتى ولو كان مقتولاً في عصبية جاهلية يسمونه شهيداً ، وهذا حرام لأن قولك عن شخص قتل:هو شهيد يعتبر شهادة سوف تسأل عنها يوم القيامة، سوف يقال لك : هل عندك علم أنه قتل شهيداً ؟ ولهذا لما قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دماً ، اللون لون الدم، والريح ريح المسك" فتأمل قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" ـ يكلم: يعني يجرح ـ فإن بعض الناس قد يكون ظاهره أنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولكن الله يعلم ما في قلبه، وأنه خلاف ما يظهر من فعله، ولهذا بوب البخاري رحمه الله على هذه المسألة في صحيحه فقال: "باب لا يقال : فلان شهيد" لأن مدار الشهادة على القلب، ولا يعلم ما في القلب إلا الله - عز وجل - فأمر النية أمر عظيم، وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض وذلك من أجل النية فقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" والله أعلم.
(476) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: فلان شهيد؟.
فأجاب بقوله: الجواب على ذلك أن الشهادة لأحد بأنه شهيد تكون على وجهين:(82/39)
أحدهما: أن تقيد بوصف مثل أن يقال : كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ونحو ذلك، فهذا جائز كما جاءت به النصوص، لأنك تشهد بما أخبر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونعني بقولنا :ـ جائز ـ أنه غير ممنوع وإن كانت الشهادة بذلك واجبة تصديقاً لخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تقيد الشهادة بشخص معين مثل أن تقول لشخص بعينه : إنه شهيد، فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي، صلى الله عليه وسلم، أو اتفقت الأمة على الشهادة له بذلك وقد ترجم البخاري - رحمه الله - لهذا بقوله: "باب لا يقال : فلان شهيد" قال في الفتح 90/6 : "أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم : فلان شهيد، ومات فلان شهيداً ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:من مات في سبيل الله، أو قُتل فهو شهيد وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر" ا.هـ. كلامه.
ولأن الشهادة بالشيء لا تكون إلا عن علم به، وشرط كون الإنسان شهيداً أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى ذلك: "مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله". وقال: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك".(82/40)
رواهما البخاري من حديث أبي هريرة، ولكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك، ولا نشهد له به ولا نسيء به الظن. والرجاء مرتبة بين المرتبتين، ولكننا نعامله في الدنيا بأحكام الشهداء فإذا كان مقتولاً في الجهاد في سبيل الله دفن بدمه في ثيابه من غير صلاة عليه، وإن كان من الشهداء الآخرين فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
ولأننا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة فإنهم لا يشهدون بالجنة إلا لمن شهد له النبي، صلى الله عليه وسلم، بالوصف أو بالشخص، وذهب آخرون منهم إلى جواز الشهادة بذلك لمن اتفقت الأمة على الثناء عليه وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.
وبهذا تبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد إلا بنص أو اتفاق، لكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك كما سبق، وهذا كاف في منقبته، وعلمه عند خالقه ـ سبحانه وتعالى ـ.
(477)سئل فضيلة الشيخ: عن لقب "شيخ الإسلام" هل يجوز؟
فأجاب بقوله: لقب شيخ الإسلام عند الإطلاق لا يجوز، أي إن الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام لا يجوز أن يوصف به شخص، لأنه لا يعصم أحد من الخطأ فيما يقول في الإسلام إلا الرسل.
أما إذا قصد بشيخ الإسلام أنه شيخ كبير له قدم صدق في الإسلام فإنه لا بأس بوصف الشيخ به وتلقيبه به.
(478)وسئل: ما رأي فضيلتكم في استعمال كلمة "صدفة"؟.
فأجاب بقوله: رأينا في هذا القول أنه لا بأس به وهذا أمر متعارف وأظن أن فيه أحاديث بهذا التعبير صادفْنا رسول الله صادفَنا رسول الله "لكن لا يحضرني الآن حديث معين في هذا الخصوص".(82/41)
والمصادفة والصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمر واقع، لأن الإنسان لا يعلم الغيب فقد يصادفه الشيء من غير شعور به ومن غير مقدمات له ولا توقع له، ولكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا، فإن كل شيء عند الله معلوم وكل شيء عنده بمقدار وهو ـ سبحانه وتعالى ـ لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفة أبداً ، لكن بالنسبة لي أنا وأنت نتقابل بدون ميعاد وبدون شعور وبدون مقدمات فهذا يقال له : صدفة، ولا حرج فيه، وأما بالنسبة لفعل الله فهذا أمر ممتنع ولا يجوز.
(479) سئل فضيلة الشيخ: عن تسمية بعض الزهور بـ "عباد الشمس" لأنه يستقبل الشمس عند الشروق والغروب؟.
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأن الأشجار لا تعبد الشمس، إنما تعبد الله - عز وجل - كما قال الله تعالى: { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } (1). وإنما يقال عبارة أخرى ليس فيها ذكر العبودية كمراقبة الشمس، ونحو ذلك من العبارات.
(480 ) وسئل فضيلة الشيخ: لماذا كان التسمي بعبد الحارث من الشرك مع أن الله هو الحارث؟(82/42)
فأجاب قائلاً: التسمي بعبد الحارث فيه نسبة العبودية لغير الله - عز وجل - فإن الحارث هو الإنسان كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "كلكم حارث وكلكم همام" فإذا أضاف الإنسان العبودية إلى المخلوق كان هذا نوعاً من الشرك، لكنه لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر، ولهذا لو سمي رجل بهذا الاسم لوجب أن يغيره فيضاف إلى اسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ أو يسمى باسم آخر غير مضاف وقد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن" وما اشتهر عند العامة من قولهم: خير الأسماء ما حمد وعبد ونسبتهم ذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فليس ذلك بصحيح أي ليس نسبته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، صحيحة فإنه لم يرد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا اللفظ وإنما ورد "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن".
أما قول السائل في سؤاله: "مع أن الله هو الحارث" فلا أعلم اسماً لله تعالى بهذا اللفظ، وإنما يوصف - عز وجل - بأنه الزارع ولا يسمى به كما في قوله تعالى: { أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (2).
(481) سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارة: "العصمة لله وحده"، مع أن العصمة لا بد فيها من عاصم؟.
فأجاب قائلاً: هذه العبارة قد يقولها من يقولها يريد بذلك أن كلام الله - عز وجل - وحكمه كله صواب، وليس فيه خطأ وهي بهذا المعنى صحيحة، لكن لفظها مستنكر ومستكره، لأنه كما قال السائل قد يوحي بأن هناك عاصماً عصم الله - عز وجل - والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الخالق، وما سواه مخلوق، فالأولى أن لا يعبر الإنسان بمثل هذا التعبير، بل يقول : الصواب في كلام الله، وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم.
(482)وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: "على هواك" وقول بعض الناس في مثل مشهور: "العين وماترى والنفس وما تشتهي"؟(82/43)
فأجاب بقوله: هذه الألفاظ ليس فيها بأس إلا أنها تقيد بما يكون غير مخالف للشرع، فليس الإنسان على هواه في كل شيء، وليست العين في كل شيء تراه، المهم أن هذه العبارة من حيث هي لا بأس بها لكنها مقيدة بما لا يخالف الشرع.
(483)وسئل فضيلة الشيخ: عن عبارة: "فال الله ولا فالك"؟
فأجاب قائلاً: هذا التعبير صحيح، لأن المراد الفأل الذي هو من الله، وهو أني أتفاءل بالخير دونما أتفاءل بما قلت، هذا هو معنى العبارة، وهو معنى صحيح أن الإنسان يتمنى الفأل الكلمة الطيبة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ دون أن يتفاءل بما سمعه من هذا الشخص الذي تشاءم من كلامه.
(484)سئل فضيلة الشيخ: عن مصطلح "فكر إسلامي" و "مفكر إسلامي"؟
فأجاب قائلاً: كلمة "فكر إسلامي" من الألفاظ التي يحذر عنها، إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر.
أما "مفكر إسلامي" فلا أعلم فيه بأساً لأنه وصف للرجل المسلم والرجل المسلم يكون مفكراً.
(485) سئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى رقم "484" أن كلمة الفكر الإسلامي كلمة لا تجوز لأنها تعني أن الإسلام قد يكون عبارة عن أفكار قد تصح أو لا تصح وهكذا، بينما قلتم:إن إطلاق كلمة (المفكر الإسلامي) تجوز لأن فكر الشخص يتغير وقد يكون صحيحاً أو العكس، ولكن الأشخاص الذين يستخدمون مصطلح (الفكر الإسلامي) يقولون: إننا نقصد فكر الأشخاص ولا نتكلم عن الإسلام ككل أو عن الشريعة الإسلامية بالتحديد فهل هذا المصطلح (الفكر الإسلامي) جائز بهذا التفسير أم لا وما هو البديل؟(82/44)
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إنما أقضي بنحو ما أسمع" ونحن لا نحكم على الأفراد إلا بما يظهر منهم فإذا قيل: (الفكر الإسلامي) فهذا يعني أن الإسلام فكر، وإذا كان القائل بهذا التعبير يريد فكر الرجل الإسلامي فليقل: (فكر الرجل الإسلامي) أو (المفكر الإسلامي) وبدلاً من أن نقول: (الفكر الإسلامي) نقول: (الحكم الإسلامي) لأن الإسلام حكم والقرآن الكريم إما خبر وإما حكم كما قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } (1).
(486)سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا شاهد من أسرف على نفسه بالذنوب: "فلان بعيد عن الهداية ، أو عن الجنة، أو عن مغفرة الله" فما حكم ذلك؟.
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأنه من باب التألي على الله - عز وجل - وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه، وكان يمر به رجل آخر فيقول: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله - عز وجل - : "من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان قد غفرت له، وأحبطت عملك". ولا يجوز للإنسان أن يستبعد رحمة الله ـ عز وجل ـ، كم من إنسان قد بلغ في الكفر مبلغاً عظيماً، ثم هداه الله فصار من الأئمة الذين يهدون بأمر الله ـ عز وجل ـ، والواجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله، حيث يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود في المستقبل.
(487)وسئل فضيلته: عن قول الإنسان إذا سئل عن شخص قد توفاه الله قريباً قال: "فلان ربنا افتكره"؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان مراده بذلك أن الله تذكر ثم أماته فهذه كلمة كفر، لأنه يقتضي أن الله - عز وجل - ينسى، والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا ينسى، كما قال موسى، عليه الصلاة والسلام، لما سأله فرعون: { فما بال القرون الأولى. قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } (1). فإذا كان هذا هو قصد المجيب وكان يعلم ويدري معنى ما يقول فهذا كفر.(82/45)
أما إذا كان جاهلاً ولا يدري ويريد بقوله: "إن الله افتكره" يعني أخذه فقط فهذا لا يكفر، لكن يجب أن يطهر لسانه عن هذا الكلام، لأنه كلام موهم لنقص رب العالمين - عز وجل - ويجيب بقوله: "توفاه الله أو نحو ذلك".
(488)سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بقاضي القضاة؟
فأجاب قائلاً: قاضي القضاة بهذا المعنى الشامل العام لا يصلح إلا لله - عز وجل - فمن تسمى بذلك فقد جعل نفسه شريكاً لله - عز وجل - فيما لا يستحقه إلا الله ـ عز وجل ـ، وهو القاضي فوق كل قاضٍ. والحكم وإليه يرجع الحكم كله، وإن قيد بزمان أو مكان فهذا جائز، لكن الأفضل أن لا يفعل، لأنه قد يؤدي إلى الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وإنما جاز هذا لأن قضاء الله لا يتقيد، فلا يكون فيه مشاركة لله - عز وجل - وذلك مثل قاضي قضاة العراق، أو قاضي قضاة الشام، أو قاضي قضاة عصره.
وأما إن قيد بفن من الفنون فبمقتضى التقييد يكون جائزاً، لكن إن قيد بالفقه بأن قيل: عالم العلماء في الفقه سواء قلنا بأن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قوله، صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" أو قلنا بأن الفقه معرفة الأحكام الشرعية العملية كما هو المعروف عند الأصوليين صار فيه عموم واسع مقتضاه أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه فأنا أشك في جوازه والأولى التنزه عنه. وكذلك إن قيد بقبيلة فهو جائز ولكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف حتى لا يغتر ويعجب بنفسه ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، للمادح: "قطعت عنق صاحبك".
(489)وسئل فضيلة الشيخ: عن تقسيم الدين إلى قشور ولب، (مثل اللحية)؟(82/46)
فأجاب فضيلته بقوله: تقسيم الدين إلى قشور ولب، تقسيم خاطئ، وباطل، فالدين كله لب، وكله نافع للعبد، وكله يقربه لله - عز وجل - وكله يثاب عليه المرء، وكله ينتفع به المرء، بزيادة إيمانه وإخباته لربه - عز وجل - حتى المسائل المتعلقة باللباس والهيئات، وما أشبهها، كلها إذا فعلها الإنسان تقرباً إلى الله - عز وجل - واتباعاً لرسوله، صلى الله عليه وسلم، فإنه يثاب على ذلك، والقشور كما نعلم لا ينتفع بها، بل ترمى، وليس في الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ما هذا شأنه، بل كل الشريعة الإسلامية لب ينتفع به المرء إذا أخلص النية لله، وأحسن في اتباعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى الذين يروجون هذه المقالة، أن يفكروا في الأمر تفكيراً جدياً، حتى يعرفوا الحق والصواب، ثم عليهم أن يتبعوه، وأن يدعوا مثل هذه التعبيرات، صحيح أن الدين الإسلامي فيه أمور مهمة كبيرة عظيمة، كأركان الإسلام الخمسة، التي بينها الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقوله: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". وفيه أشياء دون ذلك، لكنه ليس فيه قشور لا ينتفع بها الإنسان، بل يرميها ويطرحها.
وأما بالنسبة لمسألة اللحية: فلا ريب أن إعفاءها عبادة، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر به، وكل ما أمر به النبي، صلى الله عليه وسلم، فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، بامتثاله أمر نبيه، صلى الله عليه وسلم، بل إنها من هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وسائر إخوانه المرسلين، كما قال الله تعالىعن هارون: أنه قال لموسى: { يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } (1). وثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن إعفاء اللحية من الفطرة التي فطر الناس عليها، فإعفاؤها من العبادة، وليس من العادة، وليس من القشور كما يزعمه من يزعمه.(82/47)
(490)سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة "كل عام وأنتم بخير"؟
فأجاب بقوله: قول: "كل عام وأنتم بخير" جائز إذا قصد به الدعاء بالخير.
(491)سئل فضيلة الشيخ: عن حكم لعن الشيطان؟
فأجاب بقوله : الإنسان لم يؤمر بلعن الشيطان، وإنما أمر بالاستعاذة منه كما قال الله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } (1) وقال تعالىفي سورة فصلت: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } (2).
(492 ) وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان متسخطاً: "لو أني فعلت كذا لكان كذا"، أو يقول: "لعنة الله على المرض هو الذي أعاقني"؟
فأجاب بقوله: إذا قال: "لو فعلت كذا لكان كذا" ندماً وسخطاً على القدر، فإن هذا محرم ولا يجوز للإنسان أن يقوله، لقول النبي، عليه الصلاة والسلام: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل : قد قدر الله وما شاء فعل"(3). وهذا هو الواجب على الإنسان أن يفعل المأمور وأن يستسلم للمقدور، فإنه ماشاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن.
وأما من يلعن المرض وما أصابه من فعل الله - عز وجل - فهذا من أعظم القبائح ـ والعياذ بالله ـ لأن لعنه للمرض الذي هو من تقدير الله تعالىبمنزلة سب الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعلى من قال مثل هذه الكلمة أن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى دينه، وأن يعلم أن المرض بتقدير الله، وأن ما أصابه من مصيبة فهو بما كسبت يده، وما ظلمه الله، ولكن كان هو الظالم لنفسه.
(493)وسئل: عن قول: "لك الله"؟
فأجاب بقوله: لفظ "لك الله" الظاهر أنه من جنس "لله درك" وإذا كان من جنس هذا فإن هذا اللفظ جائز، ومستعمل عند أهل العلم وغيرهم، والأصل في هذا وشبهه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه، والواجب التحرز عن التحريم فيما الأصل فيه الحل.(82/48)
(494) سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة لم تسمح لي الظروف؟ أو لم يسمح لي الوقت؟
فأجاب قائلاً: إن كان القصد أنه لم يحصل وقت يتمكن فيه من المقصود فلا بأس به، وإن كان القصد أن للوقت تأثيراً فلا يجوز.
(495)وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استعمال "لو"؟
فأجاب بقوله: استعمال "لو" فيه تفصيل على الوجوه التالية:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها مجرد الخبر فهذه لا بأس بها مثل أن يقول الإنسان لشخص: لو زرتني لأكرمتك، أو لو علمت بك لجئت إليك.
الوجه الثاني: أن يقصد بها التمني فهذه على حسب ما تمناه إن تمنى بها خيراً فهو مأجور بنيته، وإن تمنى بها سوى ذلك فهو بحسبه، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الرجل الذي له مال ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير ورجل آخر ليس عنده مال، قال : لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "هما في الأجر سواء" والثاني رجل ذو مال لكنه ينفقه في غير وجوه الخير فقال رجل آخر: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "هما في الوزر سواء" فهي إذا جاءت للتمني تكون بحسب ما تمناه العبد إن تمنى خيراً فهي خير، وإن تمنى سوى ذلك فله ما تمنى.(82/49)
الوجه الثالث: أن يراد بها التحسر على ما مضى فهذه منهي عنها، لأنها لا تفيد شيئاً وإنما تفتح الأحزان والندم وفي هذه يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان". وحقيقة أنه لا فائدة منها في هذا المقام لأن الإنسان عمل ما هو مأمور به من السعي لما ينفعه ولكن القضاء والقدر كان بخلاف ما يريد فكلمة "لو" في هذا المقام إنما تفتح باب الندم والحزن، ولهذا نهى عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون محزوناً ومهموماً بل يريد منه أن يكون منشرح الصدر وأن يكون مسروراً طليق الوجه، ونبه الله المؤمنين لهذه النقطة بقوله: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذاً الله } (1). وكذلك في الأحلام المكروهة التي يراها النائم في منامه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد المرء إلى أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن يستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وأن ينقلب إلى الجنب الآخر، وألا يحدث بها أحداً لأجل أن ينساها ولا تطرأ على باله قال : "فإن ذلك لا يضره".(82/50)
والمهم أن الشرع يحب من المرء أن يكون دائماً في سرور، ودائماً في فرح ليكون متقبلاً لما يأتيه من أوامر الشرع، لأن الرجل إذا كان في ندم وهم وفي غم وحزن لا شك أنه يضيق ذرعاً بما يلقى عليه من أمور الشرع وغيرها، ولهذا يقول الله تعالىلرسوله دائماً: { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } (2) { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } (3) وهذه النقطة بالذات تجد بعض الغيورين على دينهم إذا رأوا من الناس ما يكرهون تجدهم يؤثر ذلك عليهم، حتى على عبادتهم الخاصة ولكن الذي ينبغي أن يتلقوا ذلك بحزم وقوة ونشاط فيقوموا بما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله على بصيرة، ثم إنه لا يضرهم من خالفهم.
(496)سئل الشيخ رحمه الله تعالى: عن هذه العبارة "لولا الله وفلان"؟(82/51)
فأجاب قائلاً: قرن غير الله بالله في الأمور القدرية بما يفيد الاشتراك وعدم الفرق أمر لا يجوز، ففي المشيئة مثلاً لا يجوز أن تقول : "ما شاء الله وشئت" لأن هذا قرن لمشيئة الله بمشيئة المخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو نوع من الشرك، لكن لابد أن تأتي بـ"ثم" فتقول "ما شاء الله ثم شئت" كذلك أيضاً إضافة الشيء إلى سببه مقروناً بالله بحرف يقتضي التسوية ممنوع فلا تقول : "لولا الله وفلان أنقذني لغرقت" فهذا حرام ولا يجوز لأنك جعلت السبب المخلوق مساوياً لخالق السبب.وهذا نوع من الشرك، ولكن يجوز أن تضيف الشيء إلى سببه بدون قرن مع الله فتقول: "لولا فلان لغرقت" إذا كان السبب صحيحاً وواقعاً ولهذا قال الرسول، عليه الصلاة والسلام، في أبي طالب حين أخبر أن عليه نعلين يغلي منهما دماغه قال: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" فلم يقل : لولا الله ثم أنا مع أنه ما كان في هذه الحال من العذاب إلا بمشيئة الله، فإضافة الِشيء إلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً جائز وإن لم يذكر معة الله - عز وجل - وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً جائز بشرط أن يكون بحرف لا يقتضي التسوية كـ"ثم" وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعاً أو حسّاً بحرف يقتضي التسوية كـ"الواو" حرام ونوع من الشرك، وإضافة الشيء إلى سبب موهوم غير معلوم حرام ولا يجوز وهو نوع من الشرك مثل العقد والتمائم وما أشبهها فإضافة الشيء إليها خطأ محض، ونوع من الشرك لأن إثبات سبب من الأسباب لم يجعله الله سبباً نوع من الإشراك به ، فكأنك أنت جعلت هذا الشيء سبباً والله تعالى لم يجعله فلذلك صار نوعاً من الشرك بهذا الاعتبار.
(497)وسئل فضيلة الشيخ عن قولهم: "المادة لا تفنى ولا تزول ولم تخلق من عدم"؟(82/52)
فأجاب قائلاً: القول بأن المادة لا تفنى وأنها لم تخلق من عدم كفر لا يمكن أن يقوله مؤمن، فكل شيء في السماوات والأرض سوى الله فهو مخلوق من عدم كما قال الله –تعالى- : { الله خالق كل شيء } (1) وليس هناك شيء أزلي أبدي سوى الله.
وأما كونها لا تفنى فإن عنى بذلك أن كل شيء لا يفنى لذاته فهذا أيضاً خطأ وليس بصواب، لأن كل شيء موجود فهو قابل للفناء، وإن أراد به أن من مخلوقات الله مالا يفنى بإرادة الله فهذا حق، فالجنة لا تفنى وما فيها من نعيم لا يفنى، وأهل الجنة لا يفنون، وأهل النار لا يفنون. لكن هذه الكلمة المطلقة "المادة ليس لها أصل في الوجود وليس لها أصل في البقاء" هذه على إطلاقها كلمة إلحادية فتقول: المادة مخلوقة من عدم، فكل شيء سوى الله فالأصل فيه العدم.
أما مسألة الفناء فقد تقدم التفصيل فيها. والله الموفق.
(498)سئل فضيلة الشيخ: ماحكم قول: "شاءت قدرة الله"، وإذا كان الجواب بعدمه فلماذا؟ مع أن الصفة تتبع موصوفها، والصفة لا تنفك عن ذات الله؟
فأجاب قائلاً: لا يصح أن نقول: "شاءت قدرة الله"، لأن المشيئة إرادة، والقدرة معنى، والمعنى لا إرادة له، وإنما الإرادة للمريد، والمشيئة للشائي ولكننا نقول: اقتضت حكمة الله كذا وكذا، أو نقول عن الشيء إذا وقع: هذه قدرة الله، كما نقول : هذا خلق الله، وأما إضافة أمر يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.
وأما قول السائل: "إن الصفة تتبع الموصوف" فنقول: نعم، وكونها تابعة للموصوف تدل على أنه لا يمكن أن نسند إليها شيئاً يستقل به الموصوف، وهي دارجة على لسان كثير من الناس، يقول: شاءت قدرة الله كذا وكذا، شاء القدر كذا وكذا، وهذا لا يجوز، لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدر.
(499)سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارة: "ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا"؟(82/53)
فأجاب قائلاً: يقول الناس :ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا، ويعنون ما توقعت وما ظننت أن يكون هكذا، وليس المعنى ما صدقت أن الله يفعل لعجزه عنه مثلاً، فالمعنى أنه ما كان يقع في ذهني هذا الأمر، هذا هو المراد بهذا التعبير، فالمعنى إذاً صحيح لكن اللفظ فيه إيهام، وعلى هذا يكون تجنب هذا اللفظ أحسن لأنه موهم، ولكن التحريم صعب أن نقول: حرام مع وضوح المعنى وأنه لا يقصد به إلا ذلك.
(500)سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا شاهد جنازة: "من المتوفي" بالياء؟
فأجاب بقوله: الأحسن أن يقال :من المتوفى؟ وإذا قال من المتوفي؟ فلها معنى في اللغة العربية، لأن هذا الرجل توفى حياته وأنهاها.
(501)سئل فضيلة الشيخ:عن قول: "إن فلاناً له المثل الأعلى" ، أو" فلان كان المثل الأعلى"؟.
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، إلا لله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو الذي له المثل الأعلى، وأما إذا قال: "فلان كان المثل الأعلى في كذا كذا"، وقيده فهذا لا بأس به.
(502) سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قولهم : "دفن في مثواه الأخير"؟
فأجاب قائلاً: قول القائل : "دفن في مثواه الأخير" حرام ولا يجوز لأنك إذا قلت : في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له ، وهذا يتضمن إنكار البعث ، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شي ، إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، فالقبر آخر شيء عندهم ، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر وقد سمع أعرابي رجلاً يقرأ قوله تعالى : { ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر } (1) فقال: "والله ما الزائر بمقيم" لأن الذي يزور يمشي فلابد من بعث وهذا صحيح.
لهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر: إنه المثوى الأخير، لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة.
(503) وسئل : عن قول: "مسيجيد، مصيحيف"؟(82/54)
فأجاب قائلاً: الأولى أن يقال : المسجد والمصحف بلفظ التكبير لا بلفظ التصغير، لأنه قد يوهم الاستهانة به.
(504) سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق المسيحية على النصرانية؟ والمسيحي على النصراني؟
فأجاب بقوله: لا شك أن انتساب النصارى إلى المسيح بعد بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، انتساب غير صحيح لأنه لو كان صحيحاً لآمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، فإن إيمانهم بمحمد، صلى الله عليه وسلم، إيمان بالمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، لأن الله تعالىقال: { وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } (2) ولم يبشرهم المسيح عيسى ابن مريم بمحمد، صلى الله عليه وسلم، إلا من أجل أن يقبلوا ما جاء به لأن البشارة بما لا ينفع لغو من القول لا يمكن أن تأتي من أدنى الناس عقلاً، فضلاً عن أن تكون صدرت من عند أحد الرسل الكرام أولي العزم عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي بشر به عيسى ابن مريم بني إسرائيل هو محمد، صلى الله عليه وسلم، وقوله: { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } . وهذا يدل على أن الرسول الذي بشر به قد جاء ولكنهم كفروا به وقالوا :هذا سحر مبين، فإذا كفروا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، فإن هذا كفر بعيسى ابن مريم الذي بشرهم بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا يصح أن ينتسبوا إليه فيقولوا : إنهم مسيحيون، إذ لو كانوا مسيحيين حقيقة لآمنوا بما بشر به المسيح ابن مريم لأن عيسى ابن مريم وغيره من الرسل قد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، كما قال الله ـ تعالى ـ: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.قال:أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من(82/55)
الشاهدين } (1)والذي جاء مصدقا لما معهم هو محمد ، صلى الله عليه وسلم ، لقوله ـ تعالىـ : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } (3).
وخلاصة القول أن نسبة النصارى إلى المسيح عيسى ابن مريم نسبة يكذبها الواقع، لأنهم كفروا ببشارة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وهو محمد،صلى الله عليه وسلم، وكفرهم به كفر بعيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام.
(505) سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: "فلان المغفور له"، "فلان المرحوم"؟.
فأجاب بقوله: بعض الناس ينكر قول القائل : "فلان المغفور له، فلان المرحوم" ويقولون: إننا لا نعلم هل هذا الميت من المرحومين المغفور لهم أو ليس منهم؟ وهذا الإنكار في محله إذا كان الإنسان يخبر خبراً أن هذا الميت قد رحم أو غفر له، لأنه لا يجوز أن نخبر أن هذا الميت قد رحم، أو غفر له بدون علم قال الله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } (4) لكن الناس لا يريدون بذلك الإخبار قطعاً، فالإنسان الذي يقول : المرحوم الوالد، المرحومة الوالدة ونحو ذلك لا يريد بهذا الجزم أو الإخبار بأنهم مرحومون، وإنما يريد بذلك الدعاء أن الله تعالىقد رحمهم والرجاء، وفرق بين الدعاء والخبر، ولهذا نحن نقول : فلان رحمه الله، فلان غفر الله له، فلان عفا الله عنه، ولا فرق من حيث اللغة العربية بين قولنا: "فلان المرحوم" و"فلان رحمه الله" لأن جملة "رحمه الله" جملة خبرية، والمرحوم بمعنى الذي رحم فهي أيضاً خبرية، فلا فرق بينهما أي بين مدلوليهما في اللغة العربية فمن منع "فلان المرحوم" يجب أن يمنع "فلان رحمه الله".(82/56)
على كل حال نقول " لا إنكار في هذه الجملة أي في قولنا : "فلان المرحوم، فلان المغفور له" وما أشبه ذلك لأننا لسنا نخبر بذلك خبراً ونقول : إن الله قد رحمه، وإن الله قد غفر له، ولكننا نسأل الله ونرجوه فهو من باب الرجاء والدعاء وليس من باب الإخبار، وفرق بين هذا وهذا.
(506) وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة: "المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين"؟
فأجاب بقوله: هذا وردت فيه آثار أنه يكتب على الجبين مايكون على الإنسان، لكن الآثار هذه ليست إلى ذلك في الصحة، بحيث يعتقد الإنسان مدلولها، فالأحاديث الصحيحة أن الإنسان يكتب عليه في بطن أمه أجله، وعمله، ورزقه، وشقي أم سعيد.
(507) سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا خاطب ملكاً : "يامولاي"؟
فأجاب بقوله: الولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة وهذه لله عز وجل كالسيادة المطلقة، وولاية الله بالمعنى العام شاملة لكل أحد قال الله تعالى: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } (1) فجعل له سبحانه الولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة، وأما بالمعنى الخاص فهي خاصة بالمؤمنين المتقين قال الله تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } (2) وقال الله تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون } (3) وهذه ولاية خاصة.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة منها الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، قال الله تعالى: { وان تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } (4) وقال، صلى الله عليه وسلم:"من كنت مولاه فعلي مولاه" وقال، صلى الله عليه وسلم:"إنما الولاء لمن أعتق".
وعلى هذا فلا بأس أن يقول القائل للملك: مولاي بمعنى سيدي مالم يخش من ذلك محذور.(82/57)
(508) وسئل فضيلة الشيخ: يحتج بعض الناس إذا نهي عن أمر مخالف للشريعة أو الآداب الإسلامية بقوله: "الناس يفعلون كذا"؟
فأجاب بقوله: هذا ليس بحجة لقوله تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } (5). ولقوله: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } (6). والحجة فيما قاله الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، أو كان عليه السلف الصالح.
(509وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لضيفه: "وجه الله إلا أن تأكل"؟
فأجاب بقوله: لا يجوز لأحد أن يستشفع بالله - عز وجل - إلى أحد من الخلق، فإن الله أعظم وأجل من أن يستشفع به إلى خلقه، وذلك لأن مرتبة المشفوع إليه أعلى من مرتبة الشافع والمشفوع له، فكيف يصح أن يجعل الله تعالىشافعاً عند أحد؟.
(510)سئل الشيخ: عن قولهم : "هذا نوء محمود"؟
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز وهو يشبه قول القائل : مطرنا بنوء كذا وكذا الذي قال فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن الله ـ عز وجل ـ: "من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب".
والأنواء ما هي إلا أوقات لا تحمد ولا تذم، وما يكون فيها من النعم والرخاء فهو من الله تعالىوهو الذي له الحمد أولاً وآخراً، وله الحمد على كل حال.
(511)وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله ـ: عن قول : "لا حول الله"؟
فأجاب قائلاً: قول "لا حول الله"، ما سمعت أحداً يقولها وكأنهم يريدون "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فيكون الخطأ فيها في التعبير، والواجب أن تعدل على الوجه الذي يراد بها، فيقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
(512)سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في هذه العبارة "لا سمح الله"؟(82/58)
فأجاب قائلاً: أكره أن يقول القائل: "لا سمح الله" لأن قوله :"لا سمح الله" ربما توهم أن أحداً يجبر الله على شيء فيقول "لا سمح الله" والله - عز وجل - كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، "لا مكره له". قال الرسول، صلى الله عليه وسلم:"لا يقول أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة فإن الله لا مكره له، ولا يتعاظمه شيء أعطاه" والأولى أن يقول: "لا قدر الله" بدلاً من قوله: "لا سمح الله" لأنه أبعد عن توهم مالا يجوز في حق الله تعالى.
(513) سئل فضيلة الشيخ غفر الله له: ما حكم قول: "لا قدر الله"؟
فأجاب بقوله: "لا قدر الله" معناه الدعاء بأن الله لا يقدر ذلك، والدعاء بأن الله لا يقدر هذا جائز، وقول : "لا قدر الله" ليس معناه نفي أن يقدر الله ذلك، إذ إن الحكم لله يقدر ما يشاء، لكنه نفي بمعنى الطلب فهو خبر بمعنى الطلب بلاشك، فكأنه حين يقول: "لا قدر الله" أي أسأل الله أن لا يقدره، واستعمال النفي بمعنى الطلب شائع كثير في اللغة العربية وعلى هذا فلا بأس بهذه العبارة.
(514)سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا مات شخص: { يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ؟
فأجاب بقوله: هذا لا يجوز أن يطلق على شخص بعينه، لأن هذه شهادة بأنه من هذا الصنف.
(515)سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في قول بعض الناس: "يا هادي، يادليل"؟
فأجاب بقوله: "يا هادي، يا دليل" لا أعلمها من أسماء الله، فإن قصد به الإنسان الصفة فلا بأس كما يقول : اللهم يا مجري السحاب، يا منزل الكتاب وما أشبه ذلك، فإن الله يهدي من يشاء و"الدليل" هنا بمعنى الهادي.
(516)وسئل غفر الله له: عن قول بعض الناس:"يعلم الله كذا وكذا"؟(82/59)
فأجاب بقوله: قول : "يعلم الله" هذه مسألة خطيرة، حتى رأيت في كتب الحنفية أن من قال عن شيء : يعلم الله والأمر بخلافه صار كافراً خارجاً عن الملة، فإذا قلت: "يعلم الله أني ما فعلت هذا" وأنت فاعله فمقتضى ذلك أن الله يجهل الأمر، "يعلم الله أني ما زرت فلاناً" وأنت زائره صار الله لا يعلم بما يقع، ومعلوم أن من نفى عن الله العلم فقد كفر، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - في القدرية قال: "جادلوهم بالعلم فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا" أ.هـ. والحاصل أن قول القائل : "يعلم الله" إذا قالها والأمر على خلاف ما قال فإن ذلك خطير جداً وهو حرام بلا شك.
أما إذا كان مصيباً، والأمر على وفق ما قال فلا بأس بذلك، لأنه صادق في قوله ولأن الله بكل شيء عليم كما قالت الرسل في سورة يس : { قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } (1).
---
(1)( وجنى الجنتين دان)
(1) سورة التوبة، الآية "128".
(2) سورة النمل، الآية "23".
(3) سورة الرحمن، الآيتان "26-27".
(4) سورة الأنبياء، الآية "34".
(5) سورة النساء، الآية "86".
(1) سورة التوبة، الآية "6".
(1) سورة طه، الآية "5".
(2) سورة الأعراف، الآية "33".
(3) سورة الإسراء، الآية "36".
(1) سورة النساء، الآية "113".
(2) سورة التوبة، الآية "105".
(3) سورة الحج، الآية "18".
(1) سورة البقرة، الآية "20".
(2) سورة البقرة، الآية "106".
(3) سورة البقرة، الآية "107".
(4) سورة المائدة، الآية "17".
(5) سورة التحريم، الآية "8".
(1) الشورى، الآية "29".
(2) سورة الجاثية، الآيتان "25-26"
(3) سورة التغابن، الآيات "7-9"
(1) سورة الفتح، الآية "27".
(2) سورة النساء، الآية "86".
(3) سورة لقمان، "الآية "14".
(1) سورة آل عمران، الآية "26"
(2) سورة الأنعام، الآية "92".
(1) راجع الفتوى رقم (103) حيث إنه يشترط أن يلاحظ معنى الصفة.
(1) سورة الحجرات، الآية "17".
(1) سورة القصص، الآية "12".(82/60)
(2) سورة الأنبياء، الآية "95".
(3) سورة النساء، الآية "23".
(4) سورة الأنعام، الآية "145".
(1) سورة آل عمران، الآية "85".
(2) سورة آل عمران، الآية "19".
(1) سورة البقرة، الآية "104".
(1) سورة الحج، الآية "18".
(2) سورة الحج، الآية "18".
(3) سورة الحج، الآية "18".
(4) سورة يوسف، الآية "23".
(1) سورة الحجر، الآية "29".
(2) سورة التحريم، الآية "12".
(3) سورة الحج، الآية "26".
(4) سورة الجاثية، الآية "13".
(5) سورة الشمس، الآية "13".
(1) سورة الإسراء، الآية "85".
(2) سورة الشورى، الآية "52".
(3) سورة الإسراء، الآية "85".
(4) سورة الزمر، الآية "42".
(1) سورة العنكبوت، الآية "31".
(2) سورة الإسراء، الآية "58".
(3) سورة البقرة، الآية "259".
(4) سورة يوسف، الآية "82" .
(5) سورة يوسف، الآية "25".
(1) سورة النساء، الآية "80".
(1) سورة الحج، الآية "18".
(2) سورة الواقعة، الآيتان "63-64"
(1) سورة الأنعام، الآية "115".
(1) سورة طه، الآيتان "51-52".
(1) سورة طه، الآية "94".
(1) سورة الأعراف، الآية "200".
(2) سورة فصلت، الآية "36".
(3) رواه مسلم.
(1) سورة المجادلة، الآية "10".
(2) سورة النحل، الآية "127".
(3) سورة الشعراء، الآية "3".
(1) سورة الزمر، الآية "62".
(1) سورة التكاثر، الآيتان "1-2".
(2) سورة الصف، الآية "6".
(2) سورة آل عمران، الآية "81".
(3) سورة المائدة، الآية "48".
(4) سورة الإسراء، الآية "36".
(1) سورة الأنعام، الآية "62".
(2) سورة محمد، الآية "11".
(3) سورة يونس، الآيتان "62-63".
(4) سورة التحريم، الآية "4".
(5) سورة الأنعام، الآية "116".
(6) سورة يوسف، الآية "103".
(1) سورة يس، الآية "16".(82/61)
مجموع فتاوى و رسائل - 3
شرح حديث جبريل - عليه السلام
محمد بن صالح العثيمين
نص الحديث
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -قال: "بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لايرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : "الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". قال: صدقت . قال: فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإن يراك". قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل". قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان". قال: ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: "يا عمر أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:(83/1)
أيها الإخوة المؤمنون: سأل جبريل النبي، صلى الله عليه وسلم ، عن الإيمان بعد أن سأله عن الإسلام قال: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".
والإيمان هو: "الاعتراف المستلزم للقبول والإذعان" أما مجرد أن يؤمن الإنسان بالشيء بدون أن يكون لديه قبول وإذعان، فهذا ليس بإيمان، بدليل أن المشركين مؤمنون بوجود الله ومؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للأمور، وكذلك أيضاً فإن الواحد منهم قد يقر برسالة النبي، صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون مؤمناً، فهذا أبو طالب عم النبي، صلى الله عليه وسلم ، كان يقر بأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، صادق وأن دينه حق يقول:
لقد علموا أن ابننا لامكذب لدينا ولايعنى بقول الأباطل
وهذا البيت من لاميته المشهورة الطويلة التي قال عنها ابن كثير: ينبغي أن تكون إحدى المعلقات في الكعبة، ويقول أيضاً:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لرأيتني سمحاً بذاك مبينا
فهذا إقرار بأن دين الرسول، صلى الله عليه وسلم ، حق، لكن لم ينفعه ذلك، لأنه لم يقبله ولم يذعن له فكان ـ والعياذ بالله ـ بعد شفاعة النبي، صلى الله عليه وسلم ، في ضحضاح من نار، وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه ـ نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم من النار ـ وهو أهون الناس عذاباً لكنه يرى أنه أشدهم عذاباً، وكونه يرى أنه أشدهم عذاباً، فهذا تعذيب نفسي قلبي، لأن الإنسان إذا رأى غيره مثله في العذاب أو دونه يهون عليه ماهو فيه، ولهذا قال تعالى: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } (1).(83/2)
وعلى هذا فنقول: إن الإيمان ليس مجرد الاعتراف، بل لابد من الاعتراف المستلزم للقبول والإذعان، ولقد عجبت أيما عجب حينما صعد جاجارين الروسي إلى الفضاء، وقال بعد أن صعد الفضاء ورأى وشاهد الآيات العظيمة، قال: إن لهذا الكون مدبراً، ومع ذلك فلم يؤمن.
الركن الأول: الإيمان بالله
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن بالله". والإيمان بالله - عز وجل - يتضمن الإيمان بأربعة أمور:
الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبية الله، والإيمان بألوهية الله، والإيمان بأسمائه وصفاته.
أولاً: الإيمان بوجود الله:
وهو أن تؤمن بأن الله تعالى موجود، والدليل على وجوده العقل، والحس والفطرة، والشرع.
أولاً: الدليل العقلي: فالدليل العقلي على وجود الله ـ عزوجل ـ أن نقول: هذا الكون الذي أمامنا ونشاهده على هذا النظام البديع الذي لا يمكن أن يضطرب ولا يتصادم ولا يسقط بعضه بعضاً بل هو في غاية ما يكون من النظام { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار } (2) فهل يعقل أن هذا الكون العظيم بهذا النظام البديع يكون خالقاً لنفسه؟ كلا لا يعقل، لأنه لا يمكن أن يكون خالقاً لنفسه إذ إن معنى ذلك أنه عدم أوجد موجوداً، ولا يمكن للعدم أن يوجد موجوداً، إذاً فيستحيل أن يكون هذا الكون موجداً لنفسه، ولا يمكن أيضاً أن يكون هذا الكون العظيم وجد صدفة، لأنه على نظام بديع مطرد، وما جاء صدفة فالغالب أنه لا يطرد ولا يمكن أن يأتي صدفة لكن على التنزل.(83/3)
ويذكر عن أبي حنيفة - رحمه الله - وكان معروفاً بالذكاء أنه جاءه قوم دهريون يقولون له: أثبت لنا وجود الله فقال: دعوني أفكر، ثم قال لهم: إني أفكر في سفينة أرست في ميناء دجلة وعليها حمل فنزل الحمل بدون حمال، وانصرفت السفينة بدون قائد، فقالوا : كيف تقول مثل ذلك الكلام فإن ذلك لا يعقل ولايمكن أن نصدقه؟ فقال: إذا كنتم لا تصدقون بها فكيف تصدقون بهذه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض، كيف يمكن أن تصدقوا أنها وجدت بدون موجد؟!.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل العقلي بقوله: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (1).
وسئل أعرابي فقيل له: بم عرفت ربك؟ والأعرابي لا يعرف إلا ما كان أمامه فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى.
ثانياً: الدليل الحسي: فهو ما نشاهده من إجابة الدعاء مثلاً فالإنسان يدعو الله ويقول : ياالله فيجيب الله دعاءه ويكشف سوءه ويحصل له المطلوب وهو إنما قال: ياالله إذاً هناك رب سمع دعاءه، وأجابه، وما أكثر ما نقرأ نحن المسلمين في كتاب الله أنه استجاب لأنبياء الله: { ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له } (2)، { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . فاستجبنا له } (3). والآيات في هذا كثيرة والواقع يشهد بهذا.
ثالثاً: الدليل الفطري: فإن الإنسان بطبيعته إذا أصابه الضر قال: (يا الله) حتى إننا حدثنا أن بعض الكفار الموجودين الملحدين إذا أصابه الشيء المهلك بغتة يقول على فلتات لسانه: (يا الله) من غير أن يشعر، لأن فطرة الإنسان تدله على وجود الرب ـ عز وجل ـ، { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } (4).(83/4)
رابعاً: الدليل الشرعي: وأما الأدلة الشرعية فحدث ولاحرج، كل الشرع إذا تأمله الإنسان علم أن الذي أنزله وشرعه هو الرب - عز وجل - قال الله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (5) فائتلاف القرآن وعدم تناقضه وتصديق بعضه بعضاً كل ذلك يدل على أن القرآن نزل من عند الله - عز وجل - وكون هذا الدين بل كون جميع الأديان التي أنزلها الله - عز وجل - موافقة تماماً لمصالح العباد دليل أنها من عند الله ـ عز وجل ـ.
ولكن حصل على جميع الأديان تحريف وتبديل وتغيير من المخالفين لشرائعه: { يحرفون الكلم عن مواضعه } (1) لكن الدين الذي نزل على الأنبياء كله يشهد بوجود الله - عز وجل - وحكمته وعلمه.
ثانياً: الإيمان بربويته:
ومعنى (الرب): أي الخالق، والمالك، والمدبر، فهذا معنى ربوبية الله ـ عز وجل ـ، ولا يغني واحد من هذه الثلاثة عن الآخر، فهو الخالق الذي أوجد الأشياء من عدم { بديع السموات والأرض } (2)، { الحمد لله فاطر السموات والأرض } (3) فالذي أوجد الكون من العدم هو الله الخالق، المالك أي خلق الخلق وانفرد بملكه له كما انفرد بخلقه له، وتأمل قول الله تعالىفي سورة الفاتحة: { مالك يوم الدين } . وفي قراءة أخرى سبعية: { ملك يوم الدين } (4) وهي قراءة سبعية متواترة، وإذا جمعت بين القراءتين ظهر معنى بديع، الملك أبلغ من المالك في السلطة والسيطرة، لكن الملك أحياناً يكون ملكاً بالاسم لا بالتصرف، وحينئذ يكون ملكاً غير مالك، فإذا اجتمع أن الله تعالى: ملك ومالك تم بذلك الأمر: الملك، والتدبير.
ولهذا نقول: إن الله - عز وجل - منفرد بالملك، كما انفرد بالخلق، كذلك أيضاً منفرد بالتدبير، فهو المدبر لجميع الأمور وهذا بإقرار المشركين، فإنهم إذا سئلوا من يدبر الأمور؟ فسيقولون: الله فهو المنفرد بالتدبير: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } (5).(83/5)
سئل أعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. فالإنسان يعزم أحياناً على الشيء عزماً وتصميماً أكيداً وفي لحظة يجد نفسه قد عزم على تركه ونقض العزم، وقد يهم الإنسان بالشيء متجهاً إليه ثم ينصرف بدون سبب، وهذا يدل على أن للأشياء مدبراً فوق تدبيرك أنت، وهو الله ـ عز وجل ـ.
فإن قال قائل: كيف تقول : إن الله منفرد بالخلق، مع أنه أثبت الخلق للمخلوق وسمى المخلوق خالقاً. قال سبحانه: { ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } (6) وفي الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم ، يقال للمصورين: "أحيوا ما خلقتم"؟.
فالجواب: أن خلق الإنسان ليس خلقاً في الحقيقة، لأن الخلق هو الإيجاد من العدم، والإنسان عندما يخلق لا يوجد من عدم، لكن يغير الشيء من صورة إلى صورة أخرى.
وكذلك (الملك) فإن قال قائل: كيف تقول: إن الله منفرد بالملك مع أن الله سبحانهأثبت الملك لغيره فقال: { إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم } (1) وقال: { أو ماملكتم مفاتحه } ؟(2).
فالجواب: أن يقال: إن ملك الإنسان ليس كملك الله، لأن ملك الله - عز وجل - شامل لكل شيء، ولأن ملك الله تعالىملك مطلق غير مقيد، أما ملك الإنسان للشيء فهو غير شامل، فمثلاً الساعة التي معي لا تملكها أنت/ والساعة التي معك لا أملكها أنا، فهو ملك محدود ليس شاملاً، كذلك أيضاً ليس ملكاً مطلقاً فأنا لا يمكنني أن أتصرف في ساعتي كما أريد، لأنني مقيد بالشرع الذي هو المصلحة، فلو أراد إنسان تكسير ساعته مثلاً فإن ذلك لا يجوز ولا يملك شرعاً أن يفعل ذلك، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، نهى عن إضاعة المال فكيف بإتلافه؟
ولهذا قال العلماء: إن الرجل لو كان بالغاً عاقلاً له زوجة وأولاد، وهو سفيه في المال لا يتصرف فيه تصرف الرشيد فإنه يحجر على ماله.(83/6)
لكن الله - عز وجل - يتصرف في ملكه كما يشاء، يحيي ويميت، ويمرض ويشفي، ويغني ويفقر، ويفعل ما يشاء على أننا نؤمن بأنه - عز وجل - لا يفعل الشيء إلا لحكمة.
إذاً فهناك فارق بين ملك الخالق وملك المخلوق. وبهذا عرفنا أن قولنا: إن الله منفرد بالملك قول صحيح لا يستثنى منه شيء.
وكذلك التدبير، فإنه قد يكون للإنسان، فإنه يدبر مثل أن يدبر خادمه أو مملوكه، أو سيارته، أو ماشيته فله تدبير، لكن هذا التدبير ليس كتدبير الله، فهو تدبير ناقص ومحدود. ناقص إذ لا يملك التدبير المطلق في ماله فأحياناً يدبر البعير لكن البعير تعصيه، وأحياناً يدبر الإنسان ابنه فيعصيه كذلك، وكذلك هو تدبير محدود فلا يمكن أن يدبر الإنسان إلا ماله السيطرة والسلطة عليه التي جعلها الشارع له وبهذا صح أن نقول: إن الله منفرد بالتدبير كما قلنا : إنه منفرد بالخلق، والملك.
ثالثاً: الإيمان بألوهيته:
وهو أن يؤمن الإنسان بأنه سبحانه هو الإله الحق، وأنه لا يشاركه أحد في هذا الحق لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولهذا كانت دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هي الدعوة إلى قول: { لا إله إلا الله } .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (1) { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (2).
لو أن أحداً آمن بوجود الله، وآمن بربوبية الله، ولكنه يعبد مع الله غيره فلا يكون مؤمناً بالله حتى يفرده سبحانهبالألوهية.
وقد يقول قائل: إن الله تعالىأثبت وصف الألوهية لغيره فقال تعالىعن إبراهيم: { أئفكاً آلهة دون الله تريدون } (3) وقال تعالى: { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } (4) إلى غير ذلك من الآيات فكيف يصح أن تقول: إن الله متفرد بالألوهية؟(83/7)
فالجواب: أن الألوهية المثبتة لغير الله ألوهية باطلة، ولهذا صح نفيها نفياً مطلقاً في مثل قول الرسل عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم: { اعبدوا الله مالكم من إله غيره } (5) لأنها آلهة باطلة: { ذلك بأن الله هو الحق وأن مايدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } (6).
رابعاً: الإيمان بأسمائه وصفاته:
وهذا معترك الفرق المنتسبة للإسلام بالنسبة لإفراد الله تعالىبالأسماء والصفات، فقد انقسموا إلى فرق شتى أصولها ثلاثة:
الأول: الإيمان بالأسماء دون الصفات.
الثاني: الإيمان بالأسماء والصفات.
الثالث: الإيمان بالأسماء وبعض الصفات.
وهناك غلاة ينكرون حتى الأسماء، فيقولون: "إن الله - عز وجل - ليس له أسماء ولا صفات" لكننا تركناها لأنها متشعبة.
السلف الصالح الذين كانوا على ماكان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه يقرون بالأسماء والصفات اتباعاً لما جاء في كلام الله - عز وجل - قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1) وهذا دليل إثبات الأسماء لله تعالى، وأما الدليل على إثبات الصفات فقوله تعالى: { ولله المثل الأعلى } (2) ومعنى { المثل الأعلى } أي الوصف الأكمل، ففي الآيتين عمومان: أحدهما: في الأسماء. والآخر: في الصفات. أما التفاصيل فكثيرة في القرآن والسنة.
وهناك من يثبت الأسماء دون الصفات فيقول: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذا هو المشهور في مذهب المعتزلة.
والفريق الثالث: يثبت الأسماء وبعض الصفات، فيثبت من الصفات سبعاً وينكر الباقي، والسبع هي:
1.الحياة.
2.والعلم.
3.والقدرة.
4.والسمع.
5.والبصر.
6.والإرادة.
7.الكلام.
جمعها السفاريني في عقيدته بقوله:
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر
بقدرة تعلقت بممكن كذا إرادة فعِ واستبنِ
يقولون: إن هذه الصفات دل عليها العقل فنثبتها، وما عداها فالعقل لا يدل عليها فلا نثبتها.(83/8)
فيقولون: إن الموجودات دالة على إيجاد، والإيجاد يدل على القدرة، فلا يمكن إيجاد بلا قدرة وهذا دليل عقلي، ويقولون إن التخصيص يدل على إرادة أي كون هذه شمساً ، وهذا قمراً ، وهذه سماء، وهذه أرضاً كل ذلك يدل على إرادة وأن الذي خلقها أراد أن تكون على هذا الوجه، وهذا دليل عقلي أيضاً.
وإذا نظرنا في الخلق وجدناه خلقاً محكماً متقناً، والإحكام يدل على العلم، لأن الجاهل لايتقن.
فثبتت الآن ثلاث صفات: القدرة، والإرادة، والعلم.
ثم قالوا: إن هذه الثلاث لا تقوم إلا بحي ومن ثم ثبت أنه حي، فالحي إما أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، أو أعمى أصم أخرس، والصمم، والعمى، والخرس صفات نقص، والسمع، والبصر، والكلام صفات كمال، فوجب ثبوت الكمال للحي.
فهذه أدلتهم وهي أدلة عقلية، فلذلك أثبتوا هذه الصفات السبع.
فإذا قيل له: تثبت لله رحمة؟ قال: لا أثبت له الرحمة، لأني أفسرها بما أعتقد وأقول: الرحمة إرادة الإحسان، أو هي الإحسان نفسه، فلا يفسرها بصفة.
ولكن نقول: هذا خطأ بل نحن نستدل بالعقل على ثبوت الرحمة بما نشاهد من آثارها، فالنعم التي لاتعد، والنقم التي تدفع عنا هي بسبب الرحمة، ودلالة هذه النعم على صفة الرحمة أقوى من دلالة التخصيص على صفة الإرادة، لأن دلالة هذه النعم على الرحمة يعرفها العامي والخاص، ومع هذا فينكر هؤلاء صفة الرحمة ويثبتون صفة الإرادة.(83/9)
وبذلك تعرف أن كل من حاد عن طريق السلف فهو في تناقض مطرد، لأن الباطل لا يأتلف أبداً: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (1) وموقفنا نحن من الإيمان بأسماء الله وصفاته، أن نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء الصفات، وأن ننزه هذا الإثبات عن محظورين عظيمين وهما: التمثيل، والتكييف، ودليل ذلك السمع والعقل قال تعالى: { ليس كمثله شيء } (2). { فلا تضربوا لله الأمثال } (3) . { هل تعلم له سميّاً } (4) . { فلا تجعلوا لله أنداداً } (5) والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
أما العقل، فإننا نقول: لا يعقل أبداً أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق لما بينهما من التباين العظيم ، فالخالق موجِد، والمخلوق موجَد ، والخالق أزلي أبدي الوجود ، والمخلوق جائز الوجود قابل للفناء بل هو فان قال تعالى : { كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (6).
قال بعض السلف ـ رحمهم الله ـ: إذا قرأت هذه الآية: { كل من عليها فان } (7) فلا تقف عليها فصلها بما بعدها: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (8) ليتميز الفرقان المبين بين الخالق والمخلوق، وليعرف كمال الله - عز وجل - ونقص ما سواه.
لكن لو قال لنا قائل: مما وصف الله به نفسه أن له وجهاً كما قال سبحانه: { ويبقى وجه ربك } (1) وأنا لا أعقل من الوجه إلا مثل وجه المخلوق فيلزم من إثبات الوجه لله التمثيل، لأن القرآن عربي، والوجه هو مايتعارف بين الناس وأكمل الوجوه وجوه البشر، فوجه الله كوجه الإنسان مثلاً فماذا نقول له؟
نقول له: إن هذا الفهم فهم خاطئ، لأن الوجه مضاف إلى الله، والمضاف بحسب المضاف إليه، فوجه الله يليق بالله، ووجه الإنسان يليق بالإنسان، ونقول له أيضاً: أنت لك وجه، والأسد له وجه، والهر له وجه، فإذا قلنا : وجه الإنسان، ووجه الأسد، ووجه الهر، فهل يلزم من ذلك التماثل؟! فلا أحد يقول: إن وجهه يماثل وجه الهر، أو الأسد أبداً.(83/10)
إذاً نعرف من هذا أن الوجه بحسب ما يضاف إليه، فإثباتنا لصفات الله - عز وجل - لا يستلزم أبداً المماثلة بين الخالق والمخلوق بدليل السمع وبدليل العقل.
الثاني: التكييف: أي إن صفات الله - عز وجل - لا تكيف تقديراً بالجنان ولا نطقاً باللسان، ودليل ذلك سمعي وعقلي أيضاً.
الدليل السمعي قوله تعالى: { ولا يحيطون به علماً } (2)، وقوله: { ولا يحيطون بشيء من علمه } (3) على أحد التفسيرين وقوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } (4) وقوله: { ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (5) فمن كيف صفة الله فقد قال على الله مالا يعلم.
أما الدليل العقلي لامتناع التكييف فإننا نقول: لا يمكن لأي إنسان أن يعرف كيفية الشيء إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه.
مثل: لو أني شاهدت مسجلاً بعينه فإني أعرف كيفيته لأنني شاهدته بعيني أو مشاهدة نظيره مثل أن يأتيني رجل ويقول: عندي سيارة واشتريتها موديل 88 مثلاً، وصفتها كذا، ولونها كذا، فإنه يمكنني معرفة هذه السيارة، مع أني لم أشاهدها، لأني أعرف نظيرها وأشاهده.
ومثال الخبر الصادق عندي مثل: أن يأتيني رجل ويقول : عندي بعير صفته كذا وكذا، وعليه الوسم الفلاني، فهذا عرفت كيفيته بالخبر الصادق.
إذا طبقنا هذه القاعدة العقلية على صفات الله ـ عز وجل ـ، فإنه لا يمكن أن نعرف صفات الله - عز وجل - بهذه الوسائل الثلاث، لأننا لم نشاهد ولم نشاهد نظيراً ولم نخبر عنه.
ولهذا قال بعض العلماء : إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف ينزل؟(83/11)
فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل، فعلينا أن نؤمن بما بلغنا وأن نمسك عما لم يبلغنا. ونظير ذلك قول مالك - رحمه الله - حين سأله سائل: { الرحمن على العرش استوى } (1) كيف استوى؟ فأطرق الإمام مالك برأسه تعظيماً لهذا السؤال وتحملاً وتحسباً له حتى علاه الرحضاء ـ أي العرق ـ ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي تعتبر ميزاناً لجميع الصفات قال له: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
فكل من سأل عن كيفية صفة من صفات الله قلنا له: أنت مبتدع فوظيفتك أن تؤمن بما بلغك وتسكت عما لم يبلغك.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة
الملائكة: جمع ملك وأصل (ملك) كما يقول النحويون الذين يحللون ألفاظ اللغة العربية يقولون: أصله (مألك)، ثم زحزت الهمزة إلى مكان اللام وقدمت اللام فصار (ملأك)، ثم حذفت الهمزة للتخفيف فصار (ملك) لماذا؟ قالوا: لأن ملائكة مأخوذة من (الألوكة) وهي الرسالة والهمزة في (الألوكة) مقدمة على اللام.
فالملائكة إذاً هم الرسل كما قال الله تعالى: { جاعل الملائكة رسلاً } (2).
وإذا أردنا أن نعرفهم نقول: هم عالم غيبي خلقهم الله - عز وجل - من نور: { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } (3) يقومون بأمر الله، { لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (4).
والإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة، فهذا مرتبته في الدين، ومن أنكر الملائكة فهو كافر، لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.
كيف نؤمن بالملائكة؟
نؤمن بهم أولاً: بأسماء من علمنا اسمه منهم، ثانياً: بأوصاف من علمنا وصفه، ثالثاً: بأعمال من علمنا عملهم.
أولاً: نؤمن بأسماء من علمنا اسمه: كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، وملك الموت، ومنكر، ونكير، فجبريل، وميكائيل، وإسرافيل كل منهم موكل بما فيه الحياة:(83/12)
فجبريل: موكل بما فيه حياة القلوب وهو الوحي، لأن جبريل هو الذي جعله الله تعالىوكيلاً في نزول الوحي على الرسل، كما قال تعالى: { نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين } (1).
وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الأجساد عند البعث.
وأما: ميكائيل: فهو موكل بالقطر، والنبات، وبالقطر والنبات تكون حياة الأرض.
ولهذا جمع النبي، صلى الله عليه وسلم ، بين هؤلاء الملائكة في حديث استفتاح صلاة الليل، فكان يستفتح صلاة الليل بقوله: "اللهم رب جبرائيل، وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذاًك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
وأما (مالك): فهو موكل بالنار لقوله تعالىعن أهل النار: { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون } (2).
وأما (رضوان): فموكل بالجنة واسمه هذا ليس ثابتاً ثبوتاً واضحاً كثبوت مالك لكنه مشهور عند أهل العلم بهذا الاسم، والله أعلم.
وأما السادس (ملك الموت): وقد اشتهر أن اسمه (عزرائيل)، لكنه لم يصح، إنما ورد هذا في آثار إسرائيلية لاتوجب أن نؤمن بهذا الاسم، فنسمي من وكل بالموت بـ(ملك الموت) كما سماه الله - عز وجل - في قوله: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } (3).
والسابع والثامن وهما (منكر ونكير): وهما الملكان اللذان يسألان الميت في قبره، وقد ورد في ذلك حديث في الترمذي ضعفه بعض العلماء وقال : إنه لا يمكن أن يطلق اسم (منكر ونكير) على الملائكة الذين: { لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (4) .
على كل حال فهما الملكان اللذان يسألان الميت عن ربه، ودينه، ونبيه.
ثانياً: الإيمان بأوصاف من علمنا وصفه:(83/13)
علمنا بما صح عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وهذا يدل على عظمته، ومع ذلك فإنه من الممكن أن يأتي على غير هذه الصفة، كما أتى على صورة رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، كما في الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وجاء مرة على صورة دحية الكلبي، ولكن هذا التحول من الصورة التي هو عليها إلى صورة البشر إنما كان بأمر الله، وقد تمثل جبريل بشراً لمريم بنت عمران كما قال تعالى: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً } (1).
ومن أهم مايجب الإيمان به أن نؤمن بأن كل شخص معه ملكان يكتبان عمله كما قال الله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (2) رقيب حاضر من هؤلاء الملائكة.
فإياك أيها المسلم أن يكتب هذان الملكان عنك مايسوؤك يوم القيامة فكل شيء تقوله وتلفظ به فإنه مكتوب عليك: { مايلفظ من قول } (3) سواء كان لك، أو عليك، أو لغواً لا لك ولا عليك، فاحرص يا أخي على ضبط اللسان حتى لا يكتب عليك كلمات تسوؤك يوم القيامة. ولما دخلوا على الإمام أحمد - رحمه الله - وكان مريضاً فإذا هو يئن أنين المريض فقيل له : يا أبا عبدالله: "إن طاووساً ـ وهو أحد التابعين ـ يقول : إن أنين المريض يكتب عليه" فأمسك عن الأنين، فأنين المريض قد يكتب عليه، فما يلفظ الإنسان من قول إلا لديه رقيب عتيد يكتب عمله، وإذا كان يوم القيامة يخرج له كتابه: { يلقاه منشوراً . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } (4) .
الركن الثالث: الإيمان بالكتب(83/14)
الركن الثالث وهو الإيمان بكتب الله - عز وجل - التي أنزلها على الرسل، وما من رسول إلا أنزل الله معه كتاباً قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } (5) وقال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } (1) فما من رسول إلا أنزل الله معه كتاباً يهتدي به الناس.
كيف نؤمن بالكتب؟
الإيمان بالكتب: أن نؤمن بما علمنا اسمه باسمه، والذي علمنا اسمه من هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى ـ إن قلنا إنها غير التوراة ـ ومالم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً، لأن الله تعالى لا يضيع خلقه بل سينزل عليهم الكتب ليبين لهم الحق، هذا من حيث الإيمان بالكتب.
أما من حيث قبول ماجاء فيها من خبر، فيجب أن نقبل كل ماجاء في هذه الكتب من الخبر، ولكن لا يعني أن نقبل كل خبر فيها الآن، لأنها دخلها التحريف والتغيير والتبديل، لكن نقول: إننا نؤمن بكل خبر جاء في التوراة، أو في الإنجيل، أو في الزبور، أو في صحف إبراهيم.
مثال ذلك: في صحف إبراهيم: "لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ماسعى" وعلمنا ذلك من قوله تعالى: { أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى } (2) وقوله تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى } (3).
فما صح من هذه الكتب فإنه يجب علينا أن نقبل خبرة بدون تفصيل هذا بالنسبة للأخبار.(83/15)
أما بالنسبة للأحكام ـ أي مافي الكتب المنزلة من الأحكام ـ ففيه تفصيل: فما كان في القرآن فإنه يلزمنا التعبد به، وماكان في الكتب السابقة نظرنا إن كان مخالفاً لشريعتنا فإننا لا نعمل به لا لأنه باطل،بل هو حق في زمنه ،ولكننا لا يلزمنا العما به،لأنه نُسخ بشريعتنا وإن وافق شريعتنا فإننا نعمل به لأن شريعتنا أقرته وشرعته،ومالم يكن في شرعنا خلافه ولا وفاقه فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك فمنهم من قال: هو شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرع لنا.
فالذين قالوا : إنه شرع لنا استدلوا بمثل قوله تعالى: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (4) واستدلوا كذلك بأن ماسبق من الشرائع لولا أن فيه فائدة لكان ذكره نوعاً من العبث، والراجح: أننا نعمل به.
مثال ما يخالف شريعتنا كقوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو مااختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } (1).
فاليهود حرم الله عليهم كل ذي ظفر مثل الإبل، وكذلك كل ذي رجل غير مشقوقة أي مالها أصابع ولا فرق بعضها من بعض فهو حرام عليهم، ومن البقر والغنم حرم الله عليهم شحومهما إلا ماحملت ظهورهما، أو الحوايا أو مااختلط بعظم. فهذا منسوخ بشريعتنا، فإن الله تعالىقد أحل لنا ذلك.
وأما مثال ما وافق شريعتنا فكثير مثل قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } (2) ومثل قوله تعالى الذي أشرنا إليه سابقاً: { أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ماسعى... } (3) وأمثلة ذلك كثيرة.(83/16)
وأما مالم يرد شرعنا بخلافه فمثاله الأخذ بقرينة الحال: كحكم سليمان بين المرأتين المتنازعتين، حيث دعا بالسكين ليشقه بينهما فوافقت إحداهما وامتنعت الأخرى فحكم به للتي امتنعت مع أنها هي الصغرى، لأن امتناعها دليل على أنها أمه، وهذا لم يرد مثله في شرعنا بعينه، وإن كان قد ورد مايدل على اعتبار القرائن من حيث الجملة. ولكن القول الراجح فيه: أنه شرع لنا، وأننا نعمل به لما ذكرنا من الدليل من القرآن.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة، والرسل ينقسمون إلى قسمين رسل من البشر، ورسل من الملائكة قال الله تعالى: { إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين } (4) والمراد بالرسول هنا جبريل وهو رسول ملكي، وقال تعالى: { إنه لقول رسول كريم. وماهو بقول شاعر } (5) والمراد به محمد، صلى الله عليه وسلم ، وهو رسول بشري لكن المراد بقولنا: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، المراد بالرسل هنا البشر لأن الرسول الملكي داخل في قولنا: { وملائكته } .
الرسول البشري تعريفه عند جمهور أهل العلم: "أنه من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه" وأول الرسل نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ وآخرهم محمد ، صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (1) والدليل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتمهم قوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } (2).
فإن قلت: هل آدم رسولٌ أم لا؟(83/17)
فالجواب: أنه ليس برسول لكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه أن النبي، صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم: أنبي هو؟ قال: "نعم نبي مكلم". ولكنه ليس برسول والدليل قله تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } (3) وقوله، صلى الله عليه وسلم ، في حديث الشفاعة: "إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض". وهذا نص صريح بأن نوحاً أول الرسل.
كيف نؤمن بالرسل؟
الإيمان بالرسل أن نؤمن بأسماء من علمنا اسمه منهم، وأن نؤمن بكل خبر أخبروا به، وأن نؤمن بأنهم صادقون فيما قالوه من الرسالة، أما من لم نعرف اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً، فإننا لم نعرف أسماء جميع الرسل لقوله تعالى: { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } (4).
وأحكام الرسل السابقة من ناحية إلزامنا بها، أو لا، فالقول فيها كالقول في أحكام الكتب.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين كون محمد، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين وبين ما صح به الحديث من نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان؟
فالجواب: أن عيسى ـ عليه السلام لا ينزل على أنه رسول، لأن رسالته التي بعث بها كانت سابقة قبل رسالة النبي، صلى الله عليه وسلم ، ولأنه إذا نزل فلا يأتي بشرع من عنده، ولكنه يجدد شرع النبي، صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يزول الإشكال بين كون محمد، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين وبين نزول عيسى بن مريم آخر الزمان.
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر:(83/18)
الإيمان باليوم الآخر: وسمي يوماً آخراً لأنه لا يوم بعده، فإن للإنسان أحوالاً أولها العدم لقوله تعالى: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } (1) ثم يصير حملاً، ثم يكون عاملاً في الدنيا، وحاله في الدنيا أكمل من حاله أثناء الحمل، ثم ينتقل إلى الحال الرابعة وهي: البرزخ وحاله في البرزخ أكمل من حاله في الدنيا، ثم ينتقل إلى الحال الخامسة وهي اليوم الآخر وحاله في هذه المرحلة أكمل المراحل السابقة.
وبيان ذلك أن الإنسان في بطن أمه لاشك أنه ناقص عن حاله في الدنيا قال تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } (2) فصار بعد خروجه من بطن أمه عنده العلم، والسمع، والبصر، والعمل، وأحواله في هذه الدنيا ليست على الصفاء دائماً بل فيها صفاء وكدر، وتعب وراحة، وجور وعدل، وصالح وفاسد، يقول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويومٌ نساء ويومٌ نسر
وهي بلا شك حينئذ تكون حياة ناقصة، لأنه ما من لذة فيها إلا وهي منغصة كما قال الشاعر:
لاطيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
فأنت الآن شاب وقوي لكن سيأتيك أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم، فحياة الدنيا منغصة ولهذا سميت الدنيا وهي من الدناءة، ومن الدنو أيضاً، فهي دنيئة بالنسبة للآخرة، وهي أيضاً دنية لنقصانها عن مرتبة الآخرة، وهي دنيا لأنها سابقة للآخرة فهي أدنى منها.
وحاله في البرزخ أكمل حالاً منه في الدنيا، لأن حاله مستقرة، فإذا كان من أهل الخير فهو منعم في قبره، يفتح له في قبره مد البصر، ويفرش من الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة، ولا ينال هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيعطى الكمال المطلق بالنسبة للإنسان حياة كاملة لايمكن أن تنسب إليها حياة الدنيا بأي وجه من الوجوه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى بعد ذلك.(83/19)
كيف نؤمن باليوم الآخر؟
الإيمان باليوم الآخر أن نؤمن بأن الناس سوف يبعثون ويجازون على أعمالهم، وأن نؤمن بكل ماجاء في الكتاب والسنة من أوصاف ذلك اليوم وقد وصف الله تعالى ذلك اليوم بأوصاف عظيمة ولنأخذ منها وصفاً واحداً قال تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم.يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } (1) وأوصاف هذا اليوم الدالة على هوله وعظمته كثيرة في الكتاب والسنة.
ولا يقتصر الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بهذا اليوم الذي يكون بعد البعث، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية: (من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ماأخبر به النبي، صلى الله عليه وسلم ، مما يكون بعد الموت).
أولاً: فتنة القبر:
وأول شيء يكون بعد الموت فتنة القبر فإن الناس يفتنون ـ أي يختبرون ـ في قبورهم فما من إنسان يموت سواء دفن في الأرض، أو رمي في البر، أو أكلته السباع، أو ذرته الرياح، إلا ويفتن هذه الفتنة فيسأل عن ثلاثة أمور: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟.
فأما المؤمن فيقول : ربي الله ـ جعلنا الله منهم ـ وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، وحينئذ يفسح له في قبره مد البصر، ويفرش له فراش من الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، وهذه الحال بلا شك أكمل من حال الدنيا.
أما إذا كان كافراً أو منافقاً فإنه إذا سئل من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.(83/20)
وتأمل ماذا تدل عليه كلمة "هاه هاه"؟ فإنها تدل على أن هذا المجيب كأنه يتذكر شيئاً يبحث عنه ولكن يعجز عن استحضاره، وكون الإنسان يتذكر شيئاً ويعجز عن استحضاره أشد ألماً من كونه لايدري عنه بالكلية، فلو سئلت عن شيء وأنت لاتعلم عنه فقلت : لا أدري. فهذا نقص بلا شك لكن لا يوجب حسرة، لكن لو أنت سئلت عن شيء وكنت تعلمه ثم عجزت عنه فإن ذلك حسرة، ولهذا يقول : "هاه هاه" كأنه يتذكر شيئاً "لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته"، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين ـ (الإنس والجن)ـ، ولو سمعها لصعق، وقد ورد في صفة هذه المرزبة أنه لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها ـ والعياذ بالله ـ.
هذه الفتنة يجب الإيمان بها، لأن الإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر فإن قلت: كيف يكون الإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر وهي في الدنيا؟ فالجواب: أن الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته.
ثانياً: عذاب القبر ونعيمه:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيم القبر ودليل ذلك قوله تعالى: { كذلك يجزي الله المتقين . الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (1) ومحل الدلالة قوله: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون } (2) حال توفّيهم: { سلام عليكم ادخلوا الجنة } (3) وهم وإن كانوا لم يدخلوا الجنة التي عرضها السموات والأرض لكن دخلوا القبر الذي فيه نعيم الجنة.(83/21)
وقال تعالى أيضاً: { فلولا إذا بلغت الحلقوم* وأنتم حينئذ تنظرون* ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون* فلولا إن كنتم غير مدينين *ترجعونها إن كنتم صادقين* فأما إن كان من المقربين* فروح وريحان وجنة نعيم } (4) وهذا يكون إذا بلغت الروح الحلقوم وهذا هو نعيم القبر بل إن الإنسان يبشر بالنعيم قبل أن تخرج روحه يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتفرح الروح بذلك وتخرج خروجاً سهلاً ميسراً.
وأما السنة فإن النبي، صلى الله عليه وسلم ، أخبر في أحاديث كثيرة بما يدل على أن الإنسان ينعم في قبره، وقد أشرنا إلى شيء منها.
وأما عذاب القبر فثابت أيضاً في الكتاب والسنة، فمن القرآن قال الله ـ تبارك وتعالى ـ في آل فرعون: { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (5) فقوله: { يعرضون عليها غدواً وعشياً } (6) هذا قبل أن تقوم الساعة: { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (7) وقال تعالى: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } (8) وكان هؤلاء يشحون بأنفسهم لا يخرجونها، لأنهم يبشرون بالعذاب ـ والعياذ بالله ـ، فترتد الأرواح لاتريد أن تخرج من أجسادها هرباً مما أنذرت به: { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } (9).
ووجه الدلالة من قوله: { اليوم تجزون } (1) لأن (أل) هنا للعهد الحضوري لقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } (2) أي اليوم الحاضر وهو يوم وفاة هؤلاء الظالمين.
وقال تعالى: { وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية حجيم } (3).
وكلنا نقول في الصلاة: (أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر)، فعذاب القبر ثابت بالقرآن، والسنة، والإيمان به من الإيمان باليوم الآخر.
هل العذاب في القبر على البدن أو على الروح؟(83/22)
العذاب في القبر على الروح في الأصل وربما يتصل بالبدن، ومع ذلك فإن كونه على الروح لا يعني أن البدن لا يناله منه شيء بل لابد أن يناله من هذا العذاب أو النعيم شيء وإن كان غير مباشر.
واعلم أن العذاب والنعيم في القبر على عكس العذاب أو النعيم في الدنيا، فإن العذاب أو النعيم في الدنيا على البدن، وتتأثر به الروح، وفي البرزخ يكون النعيم أو العذاب على الروح، ويتأثر به البدن.
فلو قال لنا قائل: كيف تقولون: إن القبر يضيق على الإنسان الكافر حتى تختلف أضلاعه، ونحن لو كشفنا القبر لوجدنا أن القبر لم يتغير، وأن الجسد لم يتغير أيضاً؟
فالجواب على هذا أن نقول: إن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن، فلو كان أمراً محسوساً على البدن، لم يكن من الإيمان بالغيب، ولم يكن منه فائدة، لكنه من الأمور الغيبية المتعلقة بالأرواح، والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم، وذاهب وراجع، وضارب ومضروب، وربما يرى وهو على فراشه نائم أنه قد سافر إلى العمرة، وطاف وسعى، وحلق أو قصر، ورجع إلى بلده، وجسمه على الفراش لم يتغير.
فأحوال الروح ليست كأحوال البدن.
ثالثاً: البعث:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر البعث فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يبعث الأجساد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. حفاة ليس عليهم نعال ولا خفاف: أي ليس عليهم لباس رجل، عراة: ليس عليهم لباس بدن، غرلاً: أي غير مختونين. وفي بعض الأحاديث: (بهماً) أي ليس معهم مال، بل كل واحد وعمله.(83/23)
والبعث هنا إعادة وليس تجديداً، كما قال تعالى: { قال من يحي العظام وهي رميم . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } (1) وقال تعالى: { كما بدأنا أول خلق نعيده } (2)، ولأنه لو كان خلقاً جديداً لكان الجسد الذي يعمل السيئات في الدنيا سالماً من العذاب، ويؤتى بجسد جديد فيعذب، وهذا خلاف العدل، فالنص والعقل قد دل على أن البعث ليس تجديداً ولكنه إعادة، ولكن يبقى النظر كيف تكون إعادة، والإنسان ربما يموت، فتأكله السباع، ويتحول من اللحم إلى الدم في الحيوان الآكل وروث وما أشبه ذلك؟.
فيقال: إن الله على كل شيء قدير يقول للشيء : كن فيكون، فيأمر الله هذه الأجساد التي تفرقت وأكلت وطارت بها الرياح أن تعود فتعود، وهذا ينبني على القاعدة التي سبق أن قررناها وهي: "أن الواجب على الإنسان في الأمور الخبرية الغيبية هو التسليم".
وقد أوردت عائشة ـ رضي الله عنها ـ إشكالاً على قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس حفاة عراة غرلًا فقالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك". فإن في ذلك اليوم لاينظر أحد إلى أحد لأن الله تعالىيقول: { يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } (3) حتى الإنسان يذهل عن أنسابه وأقاربه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } (4).
رابعاً: دنو الشمس من الخلائق:
ومن الإيمان باليوم الآخر أن نؤمن بأن الشمس تدنو من الخلائق بمقدار ميل، والميل يحتمل أن يكون ميل المكحلة، ويحتمل أنه المسافة من الأرض، وسواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة فإن الشمس تكون قريبة من الرؤوس.
فإن قلت: كيف يمكن هذا ونحن الآن حسب ما نعلم أن هذه الشمس لو دنت عما كانت عليه الآن بمقدار شبر واحد لأحرقت الأرض، فكيف يمكن أن تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل؟(83/24)
فالجواب: أن وظيفة المؤمن ـ وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا ـ فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم وألا يسأل عن كيف؟ ولم؟ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول: آمنا وصدقنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل. وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن استواء الله كيف استوى؟ قال : السؤال عنه بدعة، هكذا أيضاً كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم.
أما الجواب الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول: إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي هي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل بل هي تبعث بعثاً كاملاً تاماً، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها ـ ويشهد لهذا ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب، وأن أهل الجنة ينظر الواحد منهم إلى ملكه مسيرة ألف عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه ولا يمكن هذا في الدنيا، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا.
خامساً: محاسبة الخلائق على أعمالهم:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر أن تؤمن بأن الخلائق يحاسبون على أعمالهم، وقد سمى الله يوم القيامة يوم الحساب، لأنه اليوم الذي يحاسب الإنسان فيه على عمله.
ولكن هل الحساب حساب مناقشة كما يحاسب التاجر تاجراً آخر بالفلس والهللة؟(83/25)
الجواب: لا، لكنه حساب فضل وإحسان وكرم بالنسبة للمؤمن فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يحاسب المؤمن فيخلو به ويضع كنفه عليه أي ستره ويقرره بذنوبه فيقول له: عملت كذا في يوم كذا حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ له: "إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم".
وكلنا لا يخلو من الذنوب في هذه الدنيا ذنوب باطنة تتعلق بالقلوب، وذنوب ظاهرة تتعلق بالأبدان، لكن لايراها الناس، فقد تشاهد الرجل ينظر بعينه نظراً محرماً وأنت تظنه ينظر نظراً حلالاً ماتدري ولهذا قال الله تعالى: { يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور } (1) خائنة الأعين أمر يعمل بالحس، لكن لا يعلمه أحد، من يعلم أن هذه العين تنظر نظراً محرماً؟" { وما تخفي الصدور } (2).هذا باطن فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: "سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم".
أما الكفار والعياذ بالله فإنهم لا يحاسبون هذا الحساب بل يقررون بأعمالهم ويقول : عملتم كذا وكذا فإذا أنكروا تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون، حتى الجلود فإنها تشهد فيقولون لجلودهم : { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه رجعون* وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون* وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين* فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } (2)يقرر الكفار بأعمالهم ويخزون بها والعياذ بالله وينادى على رؤوس الأشهاد: { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } (3) فانظر الفرق بين حساب المؤمن وحساب الكفار.
هل ينجو من الحساب أحدٌ؟(83/26)
الجواب: نعم ينجو منه عالم لا يحصيهم إلا الله قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن أمته عرضت عليه وإن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وهم الذي لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
سادساً: الوزن:
مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر: الوزن قال الله تعالى: { والوزن يومئذ الحق } (4) وقال تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } (5) فتوزن الأعمال يوم القيامة بميزان له كفتان توضع في إحداهما الحسنات وفي الأخرى السيئات، والذي يوزن في ظاهر النصوص العمل قال الله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } (6) وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". فيوضع هذا الميزان للخلائق وتوزن فيه الأعمال.
ولكن هنا أسئلة على الميزان:
أولاً: كيف توزن الأعمال وهي أوصاف للعاملين وحركات وأفعال؟
فالجواب: أن القاعدة في ذلك كما أسلفنا أن علينا أن نسلم ونقبل ولا حاجة لأن نقول : كيف؟ ولم؟ ومع ذلك فإن العلماء ـ رحمهم الله ـ قالوا في جواب هذا السؤال: إن الأعمال تقلب أعياناً فيكون لها جسم يوضع في الكفة فيرجح أو يخف، وضربوا لذلك مثلاً بما صح به الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "أن الموت يجعل يوم القيامة على صورة كبش فينادى أهل الجنة يا أهل الجنة فيطلعون ويشرئبون وينادى يا أهل النار: فيطلعون ويشرئبون ما الذي حدث؟ فيؤتى بالموت على صورة كبش فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار: خلود فلا موت". ونحن نعلم جميعاً أن الموت صفة، ولكن الله تعالى يجعله عيناً قائمة بنفسه وهكذا الأعمال.
ثانياً: هل الميزان واحد أم متعدد؟(83/27)
اختلف العلماء في ذلك على قولين وذلك لأن النصوص جاءت بالنسبة للميزان مرة بالإفراد ومرة بالجمع مثل قوله تعالى: { ونضع الموازين القسط } (1)، وكذلك في قوله: { فمن ثقلت موازينه } (2). وأفرد في مثل قوله، صلى الله عليه وسلم: "ثقيلتان في الميزان" فقال بعض العلماء: إن الميزان واحد، وإنه جمع باعتبار الموزون أو باعتبار الأمم فهذا الميزان توزن به أعمال أمة محمد، وأعمال أمة موسى، وأعمال أمة عيسى، وهكذا فجمع الميزان باعتبار تعدد الأمم، والذين قالوا : إنه متعدد بذاته قالوا: لأن هذا هو الأصل في التعدد ومن الجائز أن الله تعالىيجعل لكل أمة ميزاناً، أو يجعل للفرائض ميزاناً، وللنوافل ميزاناً.
والذي يظهر والله أعلم أن المراد أن الميزان واحد، لكنه متعدد باعتبار الموزون.
سابعاً: نشر الكتب:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر نشر الدواوين وهي الكتب، تنشر بين الناس فيختلف الناس في أخذ هذه الكتب، منهم من يأخذها باليمين، ومنهم من يأخذها بالشمال، وقد أشار الله إلى ذلك في سورة الحاقة فقال: { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه* إني ظننت أني ملاق حسابيه* فهو في عيشة راضية* في جنة عالية * قطوفها دانية* كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية* وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه* ولم أدر ماحسابيه } (3) فالمؤمن يقول للناس : خذوا كتابي إقرؤوه مستبشراً مسروراً به، والكافر والعياذ بالله يتحسر ويقول: { ياليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه } (4) .
هذا الكتاب قد كتب فيه ما يعمله الإنسان كما قال تعالى: { كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين } (1)، ويقال للإنسان: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } (2).
قال بعض العلماء: والله لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك.(83/28)
فيجب علينا أن نؤمن بهذه الكتب، وأنها توزع يوم القيامة عن اليمين وعن الشمال، لكن في سورة الانشقاق يقول الله تعالى: { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } (3)، فكيف يمكن الجمع بين قوله: { كتابه بشماله } (4)، وقوله: { كتابه وراء ظهره } (5)؟
فالجواب: أنه يأخذه بشماله، لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره جزاءً وفاقاً.
ثامناً: الحوض:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر أيضاً الحوض. حوض النبي، صلى الله عليه وسلم ـ جعلنا الله ـ ممن يشرب منه ـ هذا الحوض حوض واسع، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء في كثرتها وحسنها، وماءه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، ومن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ويستمد الحوض ماؤه من الكوثر، وهو نهر أعطيه النبي، صلى الله عليه وسلم ، في الجنة يصب منه ميزابان على الحوض فيبقى الحوض دائماً مملوءاً، ويرده المؤمنون من أمة الرسول، صلى الله عليه وسلم ، ويشربون منه، ويكون هذا الحوض في عرصات يوم القيامة عند شدة الحر وتعب الناس وهمهم وغمهم، فيشربون من هذا الحوض الذي لا يظمؤون بعد الشرب منه أبداً.
تاسعاً: الشفاعة:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر كذلك الشفاعة، وهي نوعان: أحدهما: خاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم. والثاني: عام له ولسائر النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
أما الخاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم:(83/29)
فهو أولاً: الشفاعة العظمى التي تكون للقضاء بين الناس، وذلك أن الناس يوم القيامة يلحقهم من الكرب، والهم، والغم، مالا يطيقون، لأنهم يبقون خمسين ألف سنة، والشمس من فوق رؤوسهم، والعرق قد يلجم بعضهم، فيجدون هماً، وغماً، وكرباً، فيطلبون من يشفع لهم إلى الله - عز وجل - فينجيهم من ذلك، فيلهمهم الله - عز وجل - أن يذهبوا إلى آدم الذي هو أبو البشر فيأتون إليه ويسألونه الشفاعة، ولكنه يعتذر بأنه عصى ربه في أكله من الشجرة التي حرم الله عليه أن يأكل منها.
ولكن قد يقول قائل: إن أكله من الشجرة ذنب قد تاب منه وبعد أن تاب اجتباه الله وهداه قال الله تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى . ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } (1).
فالجواب: نعم الأمر كذلك، وآدم بعد الخطيئة خير منه قبلها، لأن الله تعالى قال بعد أن حصلت الخطيئة والتوبة: { اجتباه ربه } (2) فجعله من المجتبين المصطفين، ولكنه يعتذر ـ أي من الشفاعة ـ بأكله من الشجرة، لأن مقام الشفاعة مقام عظيم يحتاج أن يكون الشافع فيه نزيهاً من كل شيء، لأنه شافع يريد أن يتوسط لغيره، فإذا كان مذنباً كيف يمكن أن يكون شافعاً؟
فيذهب الناس إلى نوح ويطلبون منه الشفاعة، ولكنه يعتذر بأنه سأل ماليس له به علم، وكان قد سأل الله تعالىأن ينجي ابنه الكافر من الغرق: { قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين* قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } (3) فيعتذر.
فيأتون إلى إبراهيم خليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام، فيعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، وهو ليس في الواقع كذباً ، ولكنه تورية، لكن التورية ظاهرها الحقيقة والمراد خلاف الظاهر فمن أجل هذا تشبه الكذب من بعض الوجوه، ولكمال أدب إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مع الله هاب أن يشفع وقد كذب هذه الكذبات في ذات الله ـ عز وجل ـ.(83/30)
فيأتون إلى موسى بعد ذلك، فيعتذر بأنه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، والنفس التي قد أشار إلى أنه قتلها بغير حق: أنه خرج عليه الصلاة والسلام، فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته، وهذا من عدوه، أحدهما من بني إسرائيل، والثاني من الأقباط، فاستغاثه الذي من شيعته ـ وهو الإسرائيلي ـ على الذي من عدوه وهو القبطي، وكان موسى عليه الصلاة والسلام رجلاً شديداً، فوكز القبطي، فقضى عليه، فهذه هي النفس التي قتلها قبل أن يؤمر بقتلها، وهذا جعله يعتذر عن الشفاعة للناس.
ثم يأتون إلي عيسي ، عليه الصلاة والسلام ـ وهو الذي ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، رسول – فلا يعتذر، لكنه يعترف بفضل النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول لهم : اذهبوا إلي محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فيطلبون منه الشفاعة، فيشفع إلى الله عز وجل، فينزل الله عز وجل للقضاء بين العباد ، وهذه الشفاعة تسمى العظمى ، وهي من المقام المحمود الذي قال الله فيه : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } (1) . فيشفع النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى الله فينزل الله ـ تعالى ـ للقضاء بين عباده ويريحهم من هذا الموقف.
ثانياً: من الشفاعة الخاصة بالرسول، صلى الله عليه وسلم ، أن يشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فأهل الجنة إذا عبروا الصراط ووصلوا إلى باب الجنة وجدوه مغلقاً، فيشفع النبي، صلى الله عليه وسلم ، إلى الله بأن يفتح لهم باب الجنة وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة فقال تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } (2)، ولم يقل: حتى إذا جاؤوها فتحت، كما قال في أهل النار: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت } (3)، أما في أهل الجنة فقال : { حتى إذا جاءوها وفتحت } لأنها لا تفتح إلا بعد الشفاعة.(83/31)
أما الذي تكون فيه ـ الشفاعة ـ عامة ، له ولسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهما شفاعتان:
الأولى: الشفاعة في أهل النار من المؤمنين أن يخرجوا من النار.
والثانية: الشفاعة فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخل النار.
شروط الشفاعة:
ولابد للشفاعة من شروط ثلاثة:
أولها: رضا الله عن الشافع،
ثانيها: رضاه عن المشفوع له.
ثالثها: إذاًه.
ودليلها قوله تعالى: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يإذاً الله لمن يشاء ويرضى } (4) وقوله تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (5) وقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذاًه } (1)، وقوله تعالى: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من إذاً له الرحمن ورضي له قولاً } (2).
ولا تنفع هذه الشفاعة المشركين، لأن الله تعالىلا يرضاها، ويشترط رضا الله عن المشفوع له، ولهذا أصنام المشركين التي يتعلقون بها، ويقولون :إنها شفعاؤنا عند الله لا تنفعهم ولا تشفع لهم، بل لا يزدادون بها إلا حسرة، لأن الله تعالى يقول: { إنكم وماتعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } (3)، فتحصب آلهتهم في النار فيزدادون والعياذ بالله غماً إلى غمهم.
عاشراً: الصراط:
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر: الصراط، وهو عبارة عن جسر ممدود على النار يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، منهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، على حسب أعمالهم كل من كان أسرع في الدنيا لقبول الحق والعمل به كان على الصراط أسرع عبوراً، وكلما كان الإنسان أبطأ لقول الحق والعمل به كان على الصراط أبطأ، فيمر أهل الجنة على هذا الصراط فيعبرون، أما الكفار فلا يمرون عليه، لأنه يصار بهم إلى النار والعياذ بالله، فيأتونها ورداً عطاشاً.
الحادي عشر: دخول الجنة أو النار:
وهي آخر المراحل حيث يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، والسؤال: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟(83/32)
فالجواب: نعم، موجودتان ودليل ذلك من الكتاب والسنة: أما الكتاب فقال الله تعالىفي النار: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } (4) والإعداد بمعنى التهيئة، وفي الجنة قال الله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } (5)، والإعداد أيضاً التهيئة.
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة كسوف الشمس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قام يصلي فعرضت عليه الجنة والنار، وشاهد الجنة حتى هم أن يتناول منها عنقوداً، ثم بدا له ألا يفعل، عليه الصلاة والسلام، وشاهد النار ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار والعياذ بالله ـ يعني أمعاءه ـ قد اندلقت من بطنه، فهو يجرها والعياذ بالله في نار جنهم ، لأن هذا الرجل أول من أدخل الشرك على العرب ، فكان له كفل من العذاب الذي يصيب من بعده ، ورأى امرأة تعذب في النار في هرة حبستها حتى ماتت ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض ، ورأى فيها صاحب المحجن ـ والمحجن: عصا محنية الرأس ـ وصاحب المحجن سارق يسرق الحجاج بمحجنه، فإن فطن له الحاج قال: هذا المحجن انشبك بغير إرادتي، وإن لم يفطن له أخذه ومشى، فرأى النبي، صلى الله عليه وسلم ، في النار هذا الرجل يعذب بمحجنه، والعياذ بالله.
فدل ذلك على أن الجنة والنار موجودتان الآن.
هل الجنة والنار تفنيان أم تبقيان؟
الجنة والنار تبقيان، فالجنة تبقى أبد الآبدين، والنار تبقى كذلك أبد الآبدين، ودليل ذلك من القرآن كثير: بالنسبة للجنة قال الله - تعالى - : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه } (1).
وفي النار ذكر الله التأبيد في ثلاث آيات من القرآن:(83/33)
الأولى: في سورة النساء: { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً* إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً } (2).
الثانية: في سورة الأحزاب قال الله تعالى: { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً . خالدين فيها أبداً } (3).
والثالثة: في سورة الجن وهي قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } (4).
وبعد هذا النص الصريح في القرآن، يتبين أن ما قيل من أن النار تفنى قول ضعيف جداً لا يعول عليه، لأنه لا يمكن أن نعول على قول صرح القرآن بخلافه، بل ولا يحل لنا ذلك.
فالنار والجنة موجودتان الآن، وتبقيان، ولا تفنيان أبداً.
الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره
الإيمان بالقدر خيره وشره هو الركن السادس، وهو محل عراك بين العلماء وآرائهم، ومحل عراك بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء.
الإيمان بالقدر معناه أن تؤمن بأن الله - عز وجل - قد قدر كل شيء يكون إلى مالا نهاية له، وأنه قدره عن علم، ولهذا قال العلماء: إن مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم ومعناها: أن تؤمن بأن الله تعالىعالم بكل شيء جملةً وتفصيلاً فيما تعلق بفعله الذي يفعله - عز وجل - بنفسه كالخلق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر وغير ذلك، أو يتعلق بفعل المخلوقين، كأقوال الإنسان، وأفعاله، بل حتى أفعال الحيوان كلها معلومة لله - عز وجل - قبل وقوعها، وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: { وكان الله بكل شيء عليماً } (1)، ومنها قوله: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } (2)، ومنها قوله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (3).(83/34)
ونتكلم عن قوله: { ويعلم ما في البر والبحر... } (4) كلمة { ما } اسم موصول، وكل اسم موصول فهو مفيد للعموم، فكل شيء في البر الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلمه، وكذلك كل شيء في البحر فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلمه.
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } (5) أي ورقة في أي شجرة في أي مكان في رأس جبل، أو في بطن وادٍ، أو في روضة من بقاع الأرض، كل شجرة يسقط منها ورقة فالله تعالىيعلم هذه الورقة، وكل ورقة تنبت فهو عالم بها من باب أولى.
وقوله: { وما تسقط من ورقة } (6)، في هذه الجملة حرف زائد وهو { من } ، فإنه زائد في الإعراب، لكنه يزيد في المعنى: وهو تأكيد العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فإذا جاءت "من" زادته توكيداً.
{ ولا حبةٍ في ظلمات الأرض } (1)، أي حبة، سواء كانت كبيرة، أو صغيرة في ظلمات الأرض إلا يعلمها الله ـ عز وجل ـ، وكلمة { ظلمات } جمع تدل على أن للأرض ظلمات الأرض: وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الطين، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الغبار، فهذه ظلمات ست وقد يكون هناك ظلمات أخرى لم نعلمها ، وهذه الظلمات لا تحول بين الله - عز وجل - وبين هذه الحبة، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ يعلمها ويراها ـ جلا وعلا ـ.
{ ولا رطب ولا يابس } (2) ، وما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس : { إلا في كتاب مبين } (3)، وهو اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب إنما كان عن علم من الله ـ عز وجل ـ.
وعلم الله تعالى بعمل الإنسان موجود في كتاب الله - عز وجل – قال- تعالىـ: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } (4)، فهو يعلم السر والنجوى، والسر: هو ما يسره الإنسان في قلبه، ويحدث به نفسه، وأما النجوى: فهي ما يتناجى به مع صاحبه. وكل هذا معلوم لله ـ عز وجل ـ.(83/35)
وهذا العلم من الله - عز وجل - لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان، ولهذا لما قال فرعون لموسى: { فما بال القرون الأولى . قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } (5)، { لا يضل } ، أي يجهل ، { ولا ينسى } ما كان معلوما ً، بينما علم البشر محفوف بهاتين الآفتين ، جهل سابق، ونسيان لاحق ، { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } (6).
المرتبة الثانية: الكتابة ومعناها: أن تؤمن بأن الله تعالىكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، كل شيء في الوجود، أو يكون إلى العدم فإنه مكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
فالله عز وجل لما خلق القلم، قال له: اكتب قال : رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ودليل هذه المرتبة من الكتاب قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (1)، وقوله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } (2).
قال أهل العلم: والكتابة لها أنواع:
النوع الأول: الكتابة العامة وهي الكتابة في اللوح المحفوظ.(83/36)
النوع الثاني: الكتابة العمرية (نسبة إلى العمر) وهي التي تكون على الإنسان وهو في بطن أمه فإن الإنسان كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق فقال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، لأن الكتاب الأول هو العمدة.
ولكن نحن إذا قرأنا هذا الحديث، فإنه لا ينبغي أن ننسى أحاديث أخرى تبشر الإنسان بالخير، صحيح أن هذا الحديث مروع أن يقول القائل: كيف يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يخذل ـ والعياذ بالله ـ فيعمل بعمل أهل النار؟ لكن هناك ولله الحمد نصوصاً أخرى، تفرج عن المؤمن كربته فيما يتعلق بهذا الحديث، من ذلك: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق الله له ، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة"، ثم تلا قوله تعالى: { فأما من أعطى واتقى . وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى . وكذب . بالحسنى فسنيسره للعسرى } . إذاً هذه بشارة من الرسول، عليه الصلاة والسلام، للإنسان أنه إذا عمل بعمل أهل السعادة فهو دليل على أنه كتب من أهل السعادة فليستبشر .(83/37)
وروى البخاري - رحمه الله - في صحيحه أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، كان في غزاة، وكان معهم رجل شجاع مقدام، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم ، ذات يوم: "إن هذا من أهل النار" مع شجاعته وإقدامه، فعظم ذلك على الصحابة وشق عليهم، فقال أحد الصحابة: والله لألزمن هذا، فلزمه فأصاب هذا الرجل الشجاع سهم من العدو فغضب، ثم وضع سيفه على صدره واتكأ عليه، حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ، فقال له: أشهد أنك رسول قال: وماذاك ؟ قال: إن الرجل الذي قلت لنا إنه من أهل النار فعل كيت وكيت، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار". أسأل الله أن يخلص سريرتي وسرائركم، فالسريرة لها شأن عظيم في توجيه الإنسان، فالقلب هو الموجه للإنسان، وهو الأصل، لذلك يجب أن نلاحظ القلوب، وأن نمحصها ونغسلها من درنها، فقد يكون فيها عرق خبيث، يتظاهر الإنسان بعمل جوارحه بالصلاح، لكن في القلب هذا العرق الفاسد الذي يطيح به في الهاوية في النهاية.
يقول بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص)، الذي ليس بشيء عند كثير منا هذا يحتاج إلى جهاد عظيم، لو كان في الإنسان شيء يسير من الرياء لم يكن مخلصاً تمام الإخلاص وربما يكون هذا الشيء اليسير من الرياء في قلبه ـ ربما يكون ـ سبباً لهلاكه في آخر لحظة.
ذكر ابن القيم - رحمه الله - آثار الذنوب وعقوبتها، ومن جملة ماذكر أن رجلاً منهمكاً في الربا، جعل أهله يلقنونه الشهادة، فكلما قالوا له: قل: لا إله إلا الله. قال: العشرة احد عشر، لأنه ليس في قلبه غير ذلك من المعاملات المحرمة التي رانت على قلبه حتى طبع عليه في آخر لحظة ـ والعياذ بالله ـ .(83/38)
ولما حضرت الوفاة الإمام أحمد - رحمه الله - وناهيك به علماً وعبادة وورعاً وزهداً لما حضرته الوفاة سمعوه إذا غشي عليه يقول: (بعد بعد)، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما قولك: (بعد بعد) قال : رأيت الشيطان يعض على أنامله يقول: (فتني يا أحمد) ، فأقول له: (بعد بعد) أي: لم أفتك ما دامت الروح في البدن، فالإنسان على خطر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
نعود إلى ما سبق من الكتابة العمرية، فالإنسان يكتب عليه وهو في بطن أمه، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.
النوع الثالث: الكتابة الحوليةـ أي عند كل حول: وهي التي تكون ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في السنة كما قال الله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين* فيها يفرق كل أمر حكيم } (1)، { يفرق } أي يبين ويفصل، وقال ـ عز وجل ـ: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } (2)، أي مقدر فيها ما يكون في تلك السنة.
النوع الرابع: كتابة مستمرة كل يوم وهي كتابة الأعمال فإن الإنسان لا يعمل عملاً إلا كتب، إما له وإما عليه، كما قال تعالى: { كلا بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين . يعلمون ما تفعلون } (3)، وقال تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد* إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (4)، لكن هذه الكتابة تختلف عن الكتابات السابقة، فالكتابات السابقة كتابة لما يفعل، وهذه الكتابة كتابة لما فعل، ليكون الجزاء عليه.(83/39)
النوع الخامس: كتابة الملائكة التي تكون عند أبواب المساجد يوم الجمعة، فإن أبواب المساجد يوم الجمعة يكون عليها ملائكة يكتبون الأول فالأول، فمن راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنما قرب بيضة، ومن جاء بعد مجيء الإمام فليس له أجر التقدم، لأن الإمام سبقه، وإذا حضر الإمام طويت الصحف، وحضرت الملائكة يستمعون الذكر.
المرتبة الثالثة: المشيئة ومعناها: أن تؤمن بأن كل كائن وجوداً أو عدماً فهو بمشيئة الله، وقد أجمع المسلمون على هذا في الجملة فكل المسلمين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فكل شيء واقع بمشيئة الله، أما ماكان بفعل الله فهو بمشيئته لا إشكال فيه، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وكذلك ما كان من فعل المخلوق فهو أيضاً بمشيئة الله، ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (5)، والاقتتال فعل العبد فجعله الله - عز وجل - بمشيئته وقال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الإنسان والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه } (1)، وقال تعالىفي آية أخرى: { ولو شاء الله ما فعلوه } (2).
وقال تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (3)، إذاً فأفعالنا واقعة بمشيئة الله.
أما الدليل العقلي فأن يقال:
هل الخلق ملك لله؟
فالجواب: نعم.
هل يمكن أن يكون في ملك الله مالا يريد؟(83/40)
الجواب: لا يمكن، فما دام الشيء ملكه فلن يكون في ملكه مالا يريد إذاً فكل ما كان في ملكه فهو بإرادته وبمشيئته ولا يكون في ملكه مالا يشاء أبداً، إذ لو كان في ملكه مالا يشاء لكان ملكه ناقصاً، وكان في ملكه ما يقع بدون اختياره وبدون علمه.
المرتبة الرابعة: الخلق ومعناها: الإيمان بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالىلكل شيء ودليل ذلك قال الله تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً . الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً } (4)، وقال تعالى: { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } (5)، وقال تعالى: { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } (6)، وقال تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } (7).
والآيات في ذلك واضحة كثيرة: أن كل شيء مخلوق لله - عز وجل - حتى فعل الإنسان مخلوق لله ـ تعالى وإن كان باختياره وإرادته لكنه مخلوق لله ـ تعالى ـ، وذلك أن فعل الإنسان ناشئ من أمرين هما: الإرادة الجازمة، والقدرة التامة.
مثال ذلك: أمامك حجر زنته عشرون كيلو، فقلت لك: احمل هذا الحجر فقلت: لا أريد حمله، فهنا انعدمت إرادتك على حمل الحجر، قلت لك ثانية: احمل هذا الحجر، فقلت: نعم سمعاً وطاعة، ثم أردت أن تحمله فعجزت عن حمله، فهذا أنت لم تحمله لعدم القدرة، قلت لك ثالثة: احمل هذا الحجر فقلت : سمعاً وطاعة وحملته فوق رأسك فهنا حملته لقدرتك وإرادتك.(83/41)
فأفعالنا كلها التي نفعلها ناشئة عن إرادة جازمة، وقدرة تامة، والذي خلق هذه القدرة والإرادة هو الله ـ عز وجل ـ، فلو أن الله جعلك مشلولاً ما قدرت، ولو صرف همتك عن الفعل ما فعلت. ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. فأحياناً يكون الإنسان عنده عزيمة أكيدة على الشيء، ثم تنتقض هذه العزيمة بدون أي سبب. وأحياناً يخرج الإنسان يريد الذهاب لأحد أصدقائه، ثم ينصرف ولا يذهب بدون أي سبب، لكن الله - عز وجل - يلقي في قلبه انصراف الهمة فيرجع.
لهذا نقول: إن أفعال الإنسان مخلوقة لله، لأنها ناشئة عن إرادة جازمة وقدرة تامة، وخالق هذه الإرادة، والقدرة هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ووجه كون الله هو الخالق لهذه الإرادة والقدرة، لأن الإرادة والقدرة وصفان للمريد والقادر خالقه هو الله، وخالق الموصوف خالق للوصف، وبهذا اتضح الأمر وانجلى بأن أفعال الإنسان مخلوقة لله ـ عز وجل ـ.
وها هنا بحوث في باب القدر، لأن هذا الباب كما قلنا في أول الكلام عليه باب شائك مشكل:
المبحث الأول: لله - عز وجل - مشيئة، وله إرادة ومحبة
قال الله تعالى: { ويفعل الله ما يشاء } (1). وقال تعالى: { الله يفعل ما يريد } (2).
أولاً": هل المشيئة والإرادة شيء واحد؟ أم يفترقان؟ الجواب: بل يفترقان.
ثانياً: هل الإرادة والمحبة شيء واحد، يعني أن الله إذا أحب شيئاً أراده، وإذا أراد شيئاً فقد أحبه؟ أو يفترقان؟ الجواب: بل يفترقان.
فعندنا ثلاثة أشياء: المشيئة، والمحبة، والإرادة، وهذه الثلاثة ليست بمعنى واحد، بل تختلف.
المشيئة: تتعلق بالأمور الكونية سواء كانت محبوبة لله أو مكروهة له، أي إن الله تعالىقد يشاء الشيء وهو لا يحبه، وقد يشاء الشيء وهو يحبه.
فالمعاصي كائنة بمشيئة الله، وهو لا يحبها، والفساد في الأرض كائن بمشيئة الله، والله لا يحب الفساد، والكفر كائن بمشيئة الله، والله لا يحب الكفر.(83/42)
فالمشيئة إذاً تتعلق بالأمور الكونية فيشاء الله كوناً مالا يحبه وما يحبه.
المحبة: تتعلق بالأمور الشرعية، فلا تكون إلا فيما يبيحه الله، فالمعاصي غير محبوبة لله، وأما الطاعات فهي محبوبة له سبحانه، سواءً حصلت أم لم تحصل.
الإرادة: ولها جانبان: جانب تكون فيه بمعنى المشيئة، وجانب تكون فيه بمعنى المحبة، فإذا كانت بمعنى المحبة فهي الإرادة الشرعية، وإذا كانت بمعنى المشيئة فهي الإرادة الكونية.
وإذا كانت الإرادة شرعية وهي التي تكون بمعنى المحبة، فإنه لا يلزم منها وقوع المراد مثل قوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } ، فهذه إرادة شرعية بمعنى المحبة، لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لوقعت التوبة على جميع الناس، ونحن نشاهد أن من الناس من يتوب ومنهم من لا يتوب.
وأما الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة فيلزم فيها وقوع المراد، فإذا أراد الله شيئاً كوناً وقع ولابد وهذه الإرادة كالمشيئة، تكون فيما يحبه وفيما لا يحبه، لكن إذا أراد الله شيئاً بهذا المعنى وقع ولا بد،مثل قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد } (1).فإنه كقوله: { ويفعل الله مايشاء } (2)، سواء بسواء ومثل قوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } (3)، فإنها بمعنى يشاء أن يغويكم، وليست بمعنى يحب أن يغويكم، لأن الله تعالىلا يحب أن يغوي عباده.
ويمكن أن تتفق الإرادتان ـ الشرعية والكونية ـ في حادث واحد، مثل إيمان أبي بكر فهذا مراد لله شرعاً وكوناً، لأن الله يحبه فهو مراد له شرعاً، ولأنه وقع فهو مراد له كوناً.
وتنتفي الإرادتان مثل (كفر المؤمن) فهو غير مراد لله شرعاً، لأنه يكرهه، وغير مراد لله كوناً، لأنه لم يقع.
ومثال الإرادة الكونية دون الشرعية مثل (كفر أبي جهل وأبي لهب)، فقد تعلق بكفرهما الإرادة الكونية، لأنه وقع الكفر دون الشرعية، لأن الله لا يحب الكافرين.(83/43)
ومثال الإرادة الشرعية دون الكونية، مثل (إيمان فرعون) فهو مراد شرعاً، لأن الله - عز وجل - أرسل إليه موسى ودعاه، لكن الله لم يرده كوناً، فلذلك لم يقع ولم يؤمن فرعون.
المبحث الثاني: كراهية الله سبحانهللكفر مع إرادته له:
إذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكره الكفر فكيف يريده مع أنه لا أحد يُكْرِه الله ـ عز وجل ـ؟ فالجواب: أن المراد نوعان:
النوع الأول: مراد لذاته: وهو المحبوب، فالشيء المحبوب يريده من يريده لذاته كالإيمان، فالإيمان مراد لله كوناً وشرعاً، لأنه مراد لذاته.
النوع الثاني: المراد لغيره بمعنى أن الله تعالى يقدره لا لأنه يحبه، ولكن لما يترتب عليه من المصالح فهو مراد لغيره، فيكون من هذه الناحية مشتملاً على الحكمة وليس فيه إكراه.
مثال ذلك: الكفر مكروه لله - عز وجل - ولكن الله يقدره على العباد، لأنه لولا الكفر لم يتميز المؤمن من الكافر، ولم يكن المؤمن محلاً للثناء، لأن كل الناس مؤمنون، وأيضاً لو لم يقع الكفر فلم يكن هناك جهاد فمن يجاهد المؤمن إذاً، ولو لم يقع الكفر ما عرف المؤمن قدر نعمة الله عليه بالإسلام، ولو لم يقع الكفر، وكان الناس كلهم مسلمين ما كان للإسلام فضل، ولا ظهر له فضل، ولو لم يقع الكفر لكان خلق النار عبثاً وقد أشار الله تعالىإلى هذا المعنى في قوله: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (1)، فتبين أن المراد الكوني ـ الذي يكون مكروهاً لله ـ يكون مراداً لغيره.(83/44)
وأضرب مثلاً: { ولله المثل الأعلى } (2)، برجل له ابن يحبه حباً جماً، ولو سقطت عليه شرارة من نار، لكانت كالتي سقطت على قلب أبيه، من محبته له، فمرض هذا الابن فعرض على الأطباء، فقال الطبيب: لابد من كيه بمسمار من نار، فقال الأب: وهو كذلك، فهذا الكي للابن ليس محبوباً للأب لذاته بل محبوباً لغيره، فتجد هذا الأب أراد وبكل طمأنينة وراحة وانشراح صدر أراد أن يكوي ابنه بمسمار من نار، مع أنه لو سقطت على الابن شرارة لكانت ساقطة على قلب أبيه.
فعلم الآن أن المكروه قد يفعل، لا لذاته ولكن لغيره، فهكذا الكفر والمعاصي والفساد، يريدها الرب - عز وجل - لما تتضمنه من المصالح، فهي مرادة لغيرها لا لذاتها.
المبحث الثالث: قضاء الله والرضا به:
نحن نؤمن بأن الله سبحانهيقضي كل شيء، فنؤمن بقضاء الله أيّاً كان هذا القضاء، ويجب علينا أن نؤمن به ونرضى به أيا كان، لكن هل يجب علينا أن نرضى بالمقضي؟ أو لا نرضى؟.
نقول: هذا أقسام، فالمقضي نوعان:
الأول: مقضي شرعاً. والثاني: مقضي كوناً.
فالمقضي شرعاً: يجب علينا أن نرضى به، مثل أن قضى الله علينا بوجوب الصلاة، فيجب أن نؤمن بهذا القضاء، وأن نسلم لوجوب الصلاة، ومثل: أن قضى الله بتحريم الزنى، فيجب علينا أن نؤمن بهذا المقضي، وأن الزنى محرم، ومثل أن قضى الله بحل البيع فيجب علينا أن نرضى بذلك وأن نؤمن بأن البيع حلال، ومثل: أن قضى الله بتحريم الربا، فيجب علينا أن نؤمن بهذا، وأن نستسلم لتحريم الربا.
فالخط العريض لهذا المسألة أن القضاء الشرعي يجب الرضا به، والتسليم به ، لأن: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (1).(83/45)
وأما الثاني فهو القضاء الكوني: أي ما يقضي به الله كوناً ـ فإن كان محبوباً للنفس، ملائماً للطبع، فالرضا به من طبيعة الإنسان وفطرته، كما لو قضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإنسان بعلم فإنه يرضى به، وكذلك لو قضى الله سبحانه للإنسان بمال فإنه يرضى به، وكذلك لو قضى بولد فإنه يرضى به.
وإما أن يكون المقضي كوناً غير ملائم للإنسان، ولا موافق لطبيعته مثل المرض، الفقر، الجهل، فقدان الأولاد، أو ما أشبه ذلك، فهذا اختلف العلماء فيه:
فمنهم من قال: يجب الرضا.
ومنهم من قال يستحب الرضا.
والصحيح: أن الرضا به مستحب.
وأحوال الإنسان عند هذا النوع من القضاء وهو القضاء الذي لا يلائم الطبع ويكون مكروهاً للإنسان أحواله عنده أربع: السخط، والصبر، والرضا، والشكر.
أولاً : السخط: وهو محرم كما لو أصيب رجل بمصيبة وهي تلف المال، فأخذ يتسخط من قضاء الله وقدره وصار يخمش وجهه، ويشق ثوبه، ويجد في نفسه كراهة لتدبير الله عز وجل، فهذا محرم، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم، النائحة والمستمعة وقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".
هل هذا الفعل مع كونه محرماً، ومن كبائر الذنوب هل يبرد من حرارة المصيبة؟ أبداً لا يبرد من حرارة المصيبة، بل يزيدها، ويبدأ الإنسان يتسخط ويتحسر ولا يستفيد شيئاً، لأن هذا القضاء الذي قضاه الله ـ عز وجل ـ، لابد أن يقع مهما كان، يعني لا تقدر أنك لو لم تفعل كذا لم يكن كذا فهذا تقدير وهمي من الشيطان، فهذا المقدر لابد أن يكون، ولهذا قال النبي، عليه الصلاة والسلام: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك". فلابد أن يقع كما أراد الله ـ عز وجل ـ، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم :"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء ـ أي بعد أن تحرص على ما ينفعك، وتستعين بالله ـ إن أصابك شيء لا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن (لو) تفتح عمل الشيطان".(83/46)
فلو أن إنساناً خرج للنزهة بسيارته ـ التي هي من أحسن السيارات ـ فأصيب بحادث وتكسرت السيارة فبدأ يقول : لو أني ما خرجت لهذه النزهة مانكسرت السيارة ، ويندم نفسه، ويلوم نفسه، فهل ينفعه هذا؟ أبداً لا ينفع، لأن هذا كتب وسيجري الأمر بما كتب مهما كان.
ثانياً: الصبر: يتألم الإنسان من المصيبة جداً ويحزن، ولكنه يصبر، لا ينطق بلسانه، ولا يفعل بجوارحه، قابض على قلبه، موقفه أنه قال: "اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها". "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فحكم الصبر هنا الوجوب، فيجب على الإنسان أن يصبر على المصيبة، وألا يحدث قولاً محرماً، ولا فعلاً محرماً.
ثالثاً: الرضا: تصيبه المصيبة فيرضى بقضاء الله، والفرق بين الرضا والصبر، أن الراضي لم يتألم قلبه بذلك أبداً، فهو يسير مع القضاء "إن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له"، ولا يرى الفرق بين هذا وهذا بالنسبة لتقبله لما قدره الله ـ عز وجل ـ، أي إن الراضي تكون المصيبة وعدمها عنده سواء. هذه المسألة يقول بعض العلماء: إنها واجبة، لكن جمهور أهل العلم على أنها ليست بواجبة، بل مستحبة، فهذه لاشك أنها أكمل حالاً من الصبر، وأما أن نلزم الناس ونقول : يجب عليكم أن تكون المصيبة وعدمها عندكم سواء، فهذا صعب ولا أحد يتحمله، فالصبر يستطيع الإنسان أن يصبر، ولكن الرضا يعجز أن يرضى.(83/47)
رابعاً: الشكر: وهذه قد يستغربها الإنسان ، فكيف يمكن للإنسان أن يصاب بمصيبة فيشكر الله ، وهل هذا إلا مناف لطبيعة البشر؟ ولكن يكون هذا إذا عرف الإنسان قدر ثواب المصيبة إذا صبر عليها قال تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (1)، وقال: { وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } (1)، فيقول: ما أرخص الدنيا عندي، وما أقلها في عيني، إذا كنت أنال بهذه المصيبة التي صبرت عليها أنال هذه الصلوات وهذه الرحمة من الله - عز وجل - وهذا الأجر الذي أوفاه بغير حساب ، فيشكر الله على هذه النعمة ويرى أن هذه من نعمة الله عليه، لأن كل الدنيا زائلة وفانية، والأجر، والصلوات، والرحمة باقية، فيشكر الله على هذه المصيبة ـ والشكر هنا على المصيبة مستحب وليس بواجب، لأنه أعلى من الرضا ـ أما الشكر على النعم فهو واجب.
فهذه هي مراتب الإنسان بالنسبة للمقضي كوناً مما يخالف الطبيعة ولا يلازم رغبة الإنسان.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: ما تقولون في الرضا بالنسبة لما يفعله الإنسان من الأمور الشرعية كما لو زنى إنسان، أو سرق، فهل ترضون بزناه وسرقته؟.
فالجواب: أن فيها نظرين: الأول باعتبار أن الله قدرها وأوجدها، فهي من هذه الناحية قضاء كوني يجب علينا أن نرضى به، فلا نقول : لماذا جعل الله الزاني يزني، وجعل السارق يسرق، فليس لنا أن نعترض.(83/48)
أما بالنسبة لفعل العبد لها فلا نرضى، ولهذا فإننا نقيم عليه الحد قال تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } (2)،وفي السارق قال الله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعواأيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزحكيم } (3)، ومعلوم أن جلدهما، وقطع يد السارق والسارقة غير رضا، فلو كان رضا ما كنا تعرضنا لهم بالعقوبة.
المبحث الرابع: احتجاج المذنبين بالقدر:
نحن ذكرنا أن كل شيء قد كتبه الله، وكل شيء بمشيئة الله، وكل شيء مخلوق لله، فهل هذا الإيمان يستلزم أن يكون للعاصي حجة على معصية؟ أولا؟ كما لو أمسكنا رجلاً يعصي الله، فقلنا له : لم تفعل المعصية؟ فقال: هذا بقضاء الله وقدره، فهذا صحيح، لكن إذا جاء بهذه الكلمة ليحتج بها على معصية، فنقول: هذه الحجة باطلة، ولا حجة لك بالقدر على معصية الله ـ عز وجل ـ، ودليل ذلك قال الله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } (1)، فلم يقرهم الله سبحانه على احتجاجهم والدليل على أنه لم يقرهم قوله: { حتى ذاقوا بأسنا } ، ولو كان لهم حجة في ذلك ما أذاقهم الله بأساً.
ولكن سيورد علينا مورد خلاف ما قررناه ، سيقول قائل: ألم يقل الله تعالى : { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل } (2)، فيكف تقول : إن الله أبطل حجة الذين قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } (3) والله - عز وجل - يقول لرسوله: { ولو شاء الله ما أشركوا } (4)؟(83/49)
فالجواب: هناك فرق بين المراد في الآيتين، أما قوله: { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا } (5)، فهذا تسلية للرسول، صلى الله عليه وسلم ، يبين الله له أن شركهم واقع بمشيئة الله، من أجل أن يطمئن الرسول، صلى الله عليه وسلم ، ويعلم أنه إذا كان بمشيئة الله فلابد أن يقع، ويكون به الرضا.
أما الآية الثانية: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا.... } (6)، فإنما أبطل الله ذلك لأنهم يريدون أن يحتجوا بالقدر على الشرك والمعصية، فهم لو احتجوا بالقدر للتسليم به مع صلاح الحال لقبلنا ذلك منهم، كما لو أنهم عندما أشركوا قالوا: هذا شيء وقع بمشيئة الله، ولكن نستغفر الله ونتوب إليه من ذلك، لقلنا: أنتم صادقون، أما أن يقولوا حين ننهاهم عن الشرك: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء.... } (1)، فهذا غير مقبول منهم إطلاقاً.
ثانياً: ويدل على بطلان احتجاج العاصي بالقدر أيضاً قول الله تعالىحين ذكر الرسل: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (2)، قال: { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (3) ووجه الدلالة بهذه الآية أن القدر لو كان حجة لم تنقطع هذه الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر قائم حتى بعد إرسال الرسل، فلما كان إرسال الرسل حجة تقطع عذر العاصي تبين أن القدر ليس حجة للعصاة، ولو كان القدر حجة لهم لبقي حجة لهم حتى بعد إرسال الرسل، لأن القدر لا ينقطع بإرسال الرسل.(83/50)
ثالثاً: ومن الأدلة على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال لمن احتج بالقدر: إن أمامه الآن طريقين، طريق خير، وطريق شر، وهو قبل أن يدخل طريق الشر، هل يعلم أن الله قدر له أن يدخل طريق الشر؟ لا يعلم بلا شك، وإذا كان لا يعلم فلماذا لا يقدر أن الله قدر له طريق الخير؟! لأن الإنسان لا يعلم ما قدره الله إلا بعد أن يقع، لأن القضاء كما قال بعض العلماء: "سر مكتوم"، لا يعلم إلا بعد أن يقع ونشاهده فنقول للعاصي: أنت أقدمت على المعصية، وحين إقدامك لا تعلم أن الله قدرها لك ، فإذا كنت لا تعلم فلماذا لا تقدر أن الله قدر لك الخير فتلج باب الخير؟!
رابعاً: أن نقول له: أنت في شؤون دنياك تختار الخير أم الشر؟ فسيقول: الخير، فنقول له : لماذا لا تختار في شؤون الآخرة ما هو خير؟!
ومثل ذلك: إذا قلنا له : أنت الآن ستسافر إلى المدينة قال: نعم. فقلنا له: هناك طريقان طريق اليسار غير مسفلت، وفيه قطاع طريق، وأخطار عظيمة، وأما الطريق الأيمن فهو مسفلت وآمن فمن أين ستسافر؟ بالتأكيد أنه سيقول : من الأيمن، فنقول له: لماذا في أمور الدنيا تذهب إلى الأيمن الذي فيه الخير والنجاة؟! لماذا لا تذهب مع الطريق الأيسر، الذي فيه قطاع الطريق وغير معبد وتقول : هذا مقدر علي؟! فسيقول: أنا لا أعلم المقدر ولكن بنفسي أختار الطيب. فنقول: لماذا لا تختار في طريق الآخرة ما هو طيب؟!(83/51)
مثال آخر: إذا أمسكنا واحداً من الناس، وبدأنا نضربه ضرباً مبرحاً، وهو يصيح ونحن نقول له: هذا قضاء الله وقدره، وكلما صاح ضربناه وقلنا له: هذا قضاء الله وقدره، فهل يقبل هذه الحجة؟ بالتأكيد أنه لن يقبلها، مع أنه إذا عصى الله قال: هذا قضاء الله وقدره ولكن نحن إذا عصينا الله فيه ما يقبل أن نقول له: هذا قضاء الله وقدره، بل يقول: هذا من فعلكم أنتم، أليست هذه حجة عليه؟ ولهذا يذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده، لأن السارق يجب أن تقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فوالله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره، فهو صادق لكن أمامه عمر فقال له رضي الله عنه: ونحن لا نقطعك إلا بقضاء الله وقدره، فأمر بقطعه بقضاء الله وقدره، فاحتج عليه عمر بما احتج به هو على عمر.
فإذا قال قائل: إن لدينا حديثاً أقر فيه النبي، صلى الله عليه وسلم ، الاحتجاج بالقدر وهو: أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى: أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى"، أي غلبه بالحجة مع أن آدم احتج بقضاء الله وقدره. فهل هذا الحديث إلا إقرار للاحتجاج بالقدر؟.
فالجواب أن نقول: إن هذا ليس احتجاجاً بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: "خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة". ولم يقل: عصيت ربك فأخرجت من الجنة.
إذاً احتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبر مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به.(83/52)
أرأيت لو أنك سافرت سفراً، وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر، لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء؟ فبماذا ستجيبه؟ الجواب: أنك ستقول له: هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة فأصبت بالحادث، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة؟ لا فالمصيبة إذاً التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجاً صحيحاً، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى فحج آدم موسى".
مثال آخر: ما تقولون في رجل أصاب ذنباً وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول له: يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء؟ فقال: هذا قضاء الله وقدره. فهل يصح احتجاجه هذا أولا؟ نعم يصح، لأنه تاب فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته، لكنه نادم ومتأسف.
ونظير ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها، فوجدهما نائمين، فكأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، لامهما لماذا لم يقوما؟ فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله فإن شاء الله أمسكها، وإن شاء أرسلها،فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، يضرب على فخذه وهو يقول: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } (1) فهل الرسول قبل حجته؟ لا، لكن الرسول، صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ، يبين أن هذا من الجدل، لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم ، يعلم أن الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازماً، فيحرص على أن يقوم ويصلي.
على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، وكذلك الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز.
المبحث الخامس: هل الانسان مسير أم مخير؟(83/53)
شاعت كلمة بين الناس في هذا الزمن المتأخر وهي قولة: هل الإنسان مسير أم مخير؟
الأفعال التي يفعلها الإنسان يكون مخيراً، فالإنسان مخير، فبإمكانه أن يأكل، ويشرب، ولهذا بعض الناس إذا سمع أذان الفجر قام إلى الماء ليشرب، وذلك باختياره، وكذلك إذا جاء الإنسان النوم فإنه يذهب إلى فراشه لينام باختياره، وإذا سمع أذان المغرب، والتمر أمامه والماء، فإنه يأكل باختياره، وهكذا جميع الأفعال تجد أن الإنسان فيها مخير، ولولا ذلك لكان عقوبة العاصي ظلماً، فكيف يعاقب الإنسان على شيء ليس فيه اختيار له، ولولا ذلك لكان ثواب المطيع عبثاً، فكيف يثاب الإنسان على شيء لا اختيار له فيه؟! وهل هذا إلا من باب العبث؟.
إذاً فالإنسان مخير، ولكن ما يقع من فعل منه فهو بتقدير الله، لأن هناك سلطة فوق سلطته ولكن الله لا يجبره، فله الخيار ويفعل باختياره.
ولهذا إذا وقع الفعل من غير إرادة من الإنسان لا ينسب إليه، قال تعالىفي أصحاب الكهف: { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } (1)، فنسب الفعل { نقلبهم } إليه سبحانه، لأن هؤلاء نوم فلا اختيار لهم، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". فنسب الإطعام والسقي إلى الله، لأن الناسي ما فعل الشيء باختياره فلم يختر أن يفسد صومه بالأكل والشرب.
الحاصل أن هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا في كلام الأئمة، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون، لكن حدثت هذه أخيراً، وبدؤوا يطنطنون بها، "هل الإنسان مسير أم مخير؟" ونحن نعلم أننا نفعل الأشياء باختيارنا وإرادتنا، ولا نشعر أبداً أن أحداً يكرهنا عليها ويسوقنا إليها سوقاً، بل نحن الذين نريد أن نفعل فتفعل، ونريد أن نترك فنترك.(83/54)
لكن كما أسلفنا أولاً في مراتب القدر فإن فعلنا ناشىء عن إرادة جازمة وقدرة تامة، وهذان الوصفان في أنفسنا، وأنفسنا مخلوقة لله، وخالق الأصل خالق للفرع.
فوائد الإيمان بالقضاء والقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر له فوائد:
أولاً: تكميل الإيمان بالله فإن القدر قدر الله - عز وجل - فالإيمان به من تمام الإيمان بالله ـ عز وجل ـ.
ثانياً: استكمال لأركان الإيمان: لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكره ضمن الإيمان في حديث جبريل.
ثالثاً: أن الإنسان يبقى مطمئناً لأنه إذا علم أن هذا من الله رضي واطمأن وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد قلنا : إنه لا يمكن أن يغير الشيء عما وقع أبداً، فلا تحاول، ولا تفكر، ولا تقل : (لو)، فالذي وقع لا يمكن أن يتغير أو يتحول.
رابعاً: أن هذا من تمام الإيمان بربوبية الله، وهذا يشبه الفائدة الأولى، لأن الإنسان إذا رضي بالله رباً استسلم لقضائه وقدره واطمأن إليه.
خامساً: إن الإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله - عز وجل - فيما يقدره من خير أو شر، ويعرف به أن وراء تفكيره وتخيلاته من هو أعظم وأعلم، ولهذا كثيراً ما نفعل الشيء أو كثيراً ما يقع الشيء فنكرهه وهو خير لنا. فأحياناً يشاهد الإنسان رأي العين أن الله يعسر عليه أمراً يريده، فإذا حصل ما حصل وجد أن الخير في عدم حدوث ذلك الشيء. وما أكثر ما نسمع أن فلاناً قد حجز في الطائرة الفلانية على أنه سيسافر، ثم يأتي فيجد أن الطائرة قد أقلعت، وفاته السفر، فإذا بالطائرة يحصل عليها حادث. فهو عندما حضر أولاً ليركب فيها ووجد أنها أقلعت يحزن، لكن عندما يقع الحادث يعرف أن هذا خير له، ولهذا قال الله تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } (1) .(83/55)
بقي علينا في حديث عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -سؤال جبريل النبي، صلى الله عليه وسلم ، عن الإحسان، والساعة حيث قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإحسان ؟ قال النبي، صلى الله ةعليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فقال أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟".
أولاً: الإحسان:
الإحسان: ضد الإساءة، وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى، فيبذل المعروف لعباد الله في ماله، وعلمه، وجاهه، وبدنه.
فأما المال فأن ينفق، ويتصدق، ويزكي، وأفضل أنواع الإحسان بالمال الزكاة، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ولا يتم إسلام المرء إلا بها، وهي أحب النفقات إلى الله ـ عز وجل ـ، ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلاً.
وأما بذل المعروف في الجاه فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي سلطان يشفع له عنده، إما بدفع ضرر عنه، أو بجلب خير له.
وأما بعلمه فأن يبذل علمه لعباد الله، تعليماً في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير والإحسان أن تعلم الناس، ولو كنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن استعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست مجلساً جعلت تعظهم وتتحدث إليهم، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر، لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تكره الخير لكثرة من يقوم ويتكلم.(83/56)
وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة". فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أو تدله على طريق أو ما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله.
وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله: فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم ، وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه ـ سبحانه وتعالى ـ، "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وهذه عبادة الهرب والخوف، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان، إذا لم تكن تعبد الله - عز وجل - كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هو الذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.
وعبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
وعبادة الرحمن غاية حبه
مع ذل عابده هما ركنان
فالعبادة مبنية على هذين الأمرين: غاية الحب، وغاية الذل، ففي الحب الطلب، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هو الإحسان في عبادة الله ـ عز وجل ـ.(83/57)
وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصاً لله ـ عز وجل ـ، لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة، ولا مدحاً عند الناس، وسواء أطلع الناس عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته، وأن تكون عبادته مع ربه سراً، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين أو للإسلام، مثل أن يكون رجلاً متبوعاً يقتدى به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراساً يسيرون عليه، أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدي بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة الإخفاء، لهذا يثني الله - عز وجل - على الذين ينفقون سراً وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا، وإذا كان في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه.
والمؤمن ينظر ما هو الأصلح، كلما كان أصلح وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل.
الساعة وعلامتها:(83/58)
ثم قال جبريل للنبي، صلى الله عليه وسلم: "أخبرني عن الساعة متى تكون؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟". فالمسؤول هو الرسول، صلى الله عليه وسلم ، والسائل جبريل عليه السلام، وكلنا يعلم أن هذين الرسولين أفضل الرسل فجبريل أفضل الملائكة، ومحمد أفضل البشر، بل أفضل الخلق على الإطلاق، عليه الصلاة والسلام، وكلاهما لا يدري متى تقوم الساعة، لأنه لا يدري متى تقوم الساعة إلا الرب - عز وجل - قال تعالى: { يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله } (1)، وقال تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها } (2)، فكأن النبين صلى الله عليه وسلم ، يقول لجبريل: إذا كنت لا تعلمها فأنا أيضاً لا أعلمها، وليس المسؤول بأعلم من السائل، وإذا كانت خفية عليك فهي أيضاً خفية علي، فلا يعلمها إلا الله، قال: "فأخبرني عن أماراتها". أي علاماتها وأشراطها، كما قال تعالى: { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها } (3).
وأشراط الساعة هي العلامات الدالة على قربها، وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أشراط مضت وانتهت.
القسم الثاني: أشراط لم تزل تتجدد وهي وسط .
القسم الثالث: أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة.
فمن الأشراط السابقة المتقدمة: بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم ، فإن بعثة الرسول، صلى الله عليه وسلم ، وكونه خاتم النبيين دليل على قرب الساعة، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى". أي إنهما متقاربان.
وأما الأشراط التي تتجدد وهي صغيرة، فمثل فتح بيت المقدس وغيرها مما جاءت به السنة عن النبي، صلى الله عليه وسلم.(83/59)
وأما الأشراط الكبرى التي تنتظر فمثل طلوع الشمس من مغربها، فإن هذه الشمس التي تدور الآن، إذا غابت استإذاًت من الله - عز وجل - أن تستمر في سيرها، فإن إذاً الله لها وإلا قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع وتخرج من مغربها، وحينئذ يؤمن الناس إذا رأوها، ولكن: { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } (1).
ثم ذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم ، من أشراطها.
أولاً: قال: "أن تلد الأمة ربتها". وفي رواية "أن تلد الأمة ربها"، ومعنى هذا أن من أشراط الساعة أن الأمة التي كانت تباع وتشترى تلد من يكونوأسياداً ومالكين، فهي كانت مملوكة في الأول، وتلد من يكونوأسياداً مالكين.
ويكون معنى قوله : (ربتها) أو (ربها) إضافة إلى الجنس، لا إضافة إلى نفس الوالدة، لأن الوالدة لا يمكن أن يملكها ابنها، ولكن المراد الجنس كما في قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } (2)، فالضمير في { جعلناها } (2) يعود إلى الذي يرمى به الشهب، لكن لما كانت هذه الشهب تخرج من النجوم أضيفت إلى ضمير يعود عليها، كذلك (ربها) أو (ربتها) فالمراد الجنس أي إن الأمة تلد من يكون سيداً أو تلد الأمة من تكون سيدة.
ثانياً: "وأن الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" وهذه الأوصاف تنطبق على الفقراء الذين من البادية يرعون الغنم يتطاولون في البنيان، وهذا يلزم أن أهل البادية يرجعون إلى المدن فيتطاولون في البنيان، بعدما كانوا حفاة، عراة، عالة، يرعون الشاء، وهذا وقع من زمان.
وهنا سؤال: هل الرسول، صلى الله عليه وسلم ، لما قال له جبريل: أخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربها..." إلخ هل أراد الحصر؟ أم أراد التمثيل؟ فالجواب: أنه أراد التمثيل، وفي هذا دليل على أن الشيء قد يفسر ببعض أفراده على سبيل التمثيل، وإلا فهناك أشراط أخرى لم يذكرها النبي، صلى الله عليه وسلم.(83/60)
(فانطلق) ثم قال النبي، عليه الصلاة والسلام: "أتدرون من السائل؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
فجبريل الذي له ستمائة جناح، وقد سد الأفق، أتى على صورة رجل، ثم قال: "يعلمكم دينكم" ومع أن الذي علمنا الدين هو النبي، صلى الله عليه وسلم ، لكن النبي، صلى الله عليه وسلم ، جعل جبريل معلماً، لأنه الذي سأل وكان التعليم بسببه، فيستفاد منه أن المتسبب كالمباشر.
وقد أخذ الفقهاء قاعدة من هذا في باب الجنايات قالوا: { المتسبب كالمباشر } ولهذا سمى النبي، صلى الله عليه وسلم ، جبريل الذي تسبب لتعليم الرسول، صلى الله عليه وسلم ، هذا الدين الذي أجاب به جبريل سماه معلماً.
الثاني: أن الإنسان إذا سأل عن مسألة وهو يعلمها، لكن من أجل أن يعرفها الناس صار هو المعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبهذا انتهى شرح حديث جبريل والحمد لله رب العالمين.
---
(1) سورة الزخرف، الآية: 39.
(2) سورة يس، الآية: 40.
(1) سورة الطور، الآية: 35.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 76.
(3) سورة الأنبياء، الآيتان: 83-84.
(4) سورة الأعراف، الآية: 172.
(5) سورة النساء، الآية: 82.
(1) سورة النساء، الآية: 46.
(2) سورة البقرة، الآية: 117.
(3) سورة فاطر، الآية: 1.
(4) سورة الفاتحة: الآية: 4.
(5) سورة السجدة، الآية: 5.
(6) سورة المؤمنون، الآية 14.
(1) سورة المؤمنون، الآية: 14.
(2) سورة النور، الآية: 6.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 25.
(2) سورة النحل، الآية: 36.
(3) سورة الصافات، الآية: 86.
(4) سورة القصص، الآية: 88.
(5) سورة الأعراف، الآية: 59.
(6) سورة الحج، الآية: 62.
(1) سورة الأعراف، الآية" 180.
(2) سورة النحل، الآية: 60.
(1) سورة النساء، الآية: 82.
(2) سورة الشورى، الآية: 11.
(3) سورة النحل، الآية: 74.
(4) سورة مريم، الآية: 65.
(5) سورة البقرة، الآية: 22.(83/61)
(6) سورة الرحمن، الآيتان: 26-27.
(7) سورة الرحمن، الآية: 26.
(8) سورة الرحمن، الآية: 27.
(1) سورة الرحمن، الآية: 27.
(2) سورة طه، الآية: 110.
(3) سورة البقرة، الآية: 255.
(4) سورة الأعراف، الآية: 33.
(5) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) سورة طه، الآية: 5.
(2) سورة فاطر، الآية: 1.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 20.
(4) سورة التحريم، الآية: 6.
(1) سورة الشعراء، الآيات: 193-194-195.
(2) سورة الزخرف، الآية: 77.
(3) سورة السجدة، الآية: 11.
(4) سورة التحريم، الآية: 6.
(1) سورة مريم، الآية: 17.
(2) سورة ق، الآية: 17-18.
(3) سورة ق، الآية: 18.
(4) سورة الإسراء، الآيتان: 13-14.
(5) سورة الحديد، الآية: 25.
(1) سورة البقرة، الآية: 213.
(2) سورة النجم، الآيات: 36-41 .
(3) سورة الأعلى، الآيات: 16-19.
(4) سورة الأنعام، الآية: 90.
(1) سورة الأنعام، الآية: 146.
(2) سورة البقرة، الآية: 183.
(3) سورة النجم، الآيات: 36-41.
(4) سورة التكوير، الآيات: 19،20.
(5) سورة الحافة، الآيات: 40،41.
(1) سورة النساء، الآية: 163.
(2) سورة الأحزاب، الآية: .40
(3) سورة البقرة، الآية: 213.
(4) سورة غافر، الآية: 87.
(1) سورة الإنسان، الآية: 1.
(2) سورة النحل، الآية: 78.
(1) سورة الحج، الآيتان: 1-2.
(1) سورة النحل، الآيتان: 31-32.
(2) سورة النحل، الآية: 32.
(3) سورة النحل، الآية: 32.
(4) سورة الواقعة، الآيات: 83-89.
(5) سورة غافر، الآية: 46.
(6) سورة غافر، الآية: 46.
(7) سورة غافر، الآية: 46.
(8) سورة الأنعام، الآية: 93.
(9) سورة الأنعام، الآية: 93.
(1) سورة الأنعام، الآية 93.
(2) سورة ا، الآية: 35.
(3) سورة الواقعة، الآيات: 92-94.
(1) سورة يس، الآيات: 78-97.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 104.
(3) سورة عبس، الآيات: 34-37.
(4) سورة المؤمنون، الآية: 101.
(1) سورة غافر، الآية: 19.
(2) سورة غافر، الآية: 19.(83/62)
(2) سورة فصلت، الآيات: 21-24.
(3) سورة هود، الآية: 108.
(4) سورة الأعراف، الآية: 8.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 47.
(6) سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 47.
(2) سورة الأعراف، الآية: 8
(3) سورة الحاقة، الآيات: 19-26.
(4) سورة الحاقة، الآيتان: 25-26.
(1) سورة الانفطار، الآيات: 9-11.
(2) سورة الإسراء، الآية: 14.
(3) سورة الانشقاق، الآية: 10.
(4) سورة الحاقة، الآية: 25.
(5) سورة الانشقاق، الآية: 10.
(1) سورة طه، الآيتان: 121-122.
(2) سورة طه، الآية: 122.
(3) سورة هود، الآيتان: 45-46.
(1) سورة الإسراء، الآية: 79.
(2) سورة الزمر، الآية: 71.
(3) سورة الزمر، الآية: 73.
(4) سورة النجم، الآية: 26.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 28.
(2) سورة البقرة، الآية: 255.
(1) سورة طه، الآية: 109.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 98.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 98.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 98.
(4) سورة آل عمران، الآية: 131.
(5) سورة آل عمران، الآية: 133.
(1) سورة البينة، الآيتان: 7-8.
(2) سورة النساء، الآيتان: 168-169.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان: 64-65.
(4) سورة الجن، الآية: 23
(1) سورة الأحزاب، الآية: 40.
(2) سورة الطلاق، الآية: 12.
(3) سورة الأنعام، الآية: 59.
(4) سورة الأنعام، الآية: 59.
(5) سورة الأنعام، الآية: 59.
(6) سورة الأنعام، الآية: 59.
(1) سورة الأنعام، الآية: 59.
(2) سورة الأنعام، الآية: 59.
(3) سورة الأنعام، الآية: 59.
(4) سورة الزخرف، الآية: 80.
(5) سورة طه، الآيتان: 51-52.
(6) سورة النحل، الآية: 78.
(1) سورة الحج، الآية: 70.
(2) سورة الحديد، الآية: 22.
(1) سورة الدخان، الآيتان: 3-4.
(2) سورة القدر، الآية: 1.
(3) سورة الانفطار، الآيات:9-12.
(4) سورة ق، الآيات: 16-18.
(5) سورة البقرة، الآية: 253.
(1) سورة الأنعام، الآية: 112.
(2) سورة الأنعام، الآية: 137.(83/63)
(3) سورة التكوير، الآيتان: 28-29.
(4) سورة الفرقان، الآيتان: 1-2.
(5) سورة الزمر، الآية: 62.
(6) سورة الأنعام، الآية: 101.
(7) سورة القمر، الآية: 49.
(1) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(2) سورة البقرة، الآية: 253.
(1) سورة البقرة، الآية: 253.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(3) سورة هود، الآية: 34.
(1) سورة هود، الآيتان: 118- 119.
(2) سورة النحل، الآية: 60.
(1) سورة المائدة: الآية: 44.
(1) سورة الزمر، الآية: 10.
(1) سورة البقرة: الآيات: 155-157.
(2) سورة النور، الآية: 2.
(3) سورة المائدة، الآية: 38.
(1) سورة الأنعام، الآية: 148.
(2) سورة الأنعام، الآيتان : 106-107 .
(3) سورة الأنعام، الآية: 148.
(4) سورة الأنعام، الآية: 148
(5) سورة الأنعام،الآيتان: 106-107.
(6) سورة الأنعام، الآية: 148.
(1) سورة الأنعام، الآية: 148.
(2) سورة النساء، الآية: 163.
(3) سورة النساء، الآية: 165.
(1) سورة الكهف، الآية: 54.
(1) سورة الكهف، الآية: 18.
(1) سورة البقرة، الآية: 216.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 63.
(2) سورة النازعات، الآيات: 42-44.
(3) سورة محمد، الآية: 18.
(1) سورة الأنعام، الآية: 158.
(2) سورة الملك، الآية: 5.(83/64)
مجموع فتاوى و رسائل - 3
عقيدة أهل السنة و الجماعة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبدالله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فقد اطلعت على العقيدة القيمة الموجزة، التي جمعها أخونا العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وسمعتها كلها، فألفيتها مشتملة على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، في باب توحيد الله، وأسمائه، وصفاته، وفي أبواب الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
وقد أجاد في جمعها وأفاد وذكر فيها ما يحتاجه طالب العلم، وكل مسلم في إيمانه بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقد ضم إلى ذلك فوائد جمة تتعلق بالعقيدة قد لا توجد في كثير من الكتب المؤلفة في العقائد. فجزاه الله خيراً، وزاده من العلم والهدى، ونفع بكتابه هذا وبسائر مؤلفاته، وجعلنا وإياه، وسائر إخواننا من الهداة المهتدين الداعين إلى الله على بصيرة، إنه سميع قريب.
قال ممليه الفقير إلى الله تعالىعبد العزيز بن عبدالله بن باز سامحه الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى أرسل رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم ، بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين.(84/1)
بين به، وبما أنزل عليه من الكتاب والحكمة كل ما فيه صلاح العباد واستقامة أحوالهم، في دينهم ودنياهم: من العقائد الصحيحة، والأعمال القويمة، والأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، فترك، صلى الله عليه وسلم ، أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فسار على ذلك أمته الذين استجابوا لله ورسوله، وهم خيرة الخلق من الصحابة والتابعين، والذين اتبعوهم بإحسان، فقاموا بشريعته وتمسكوا بسنته، وعضوا عليها بالنواجذ: عقيدة، وعبادة، وخلقاً، وأدباً. فصاروا هم الطائفة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك.
ونحن ـ ولله الحمد ـ على آثارهم سائرون، وبسيرتهم المؤيدة بالكتاب والسنة مهتدون، نقول ذلك تحدثاً بنعمة الله تعالى وبياناً لما يجب أن يكون عليه كل مؤمن.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
ولأهمية هذا الموضوع، وتفرق أهواء الخلق فيه، أحببت أن أكتب على سبيل الاختصار عقيدتنا، عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، سائلاً الله تعالى أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته نافعاً لعباده.
عقيدتنا
عقيدتنا: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره.
فنؤمن بربوبية الله تعالى أي بأنه الرب الخالق، الملك، المدبر لجميع الأمور.
ونؤمن بألوهية الله تعالى، أي بأنه الإله الحق، وكل معبود سواه باطل.
ونؤمن بأسمائه وصفاته، أي بأن له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا.
ونؤمن بوحدانيته في ذلك، أي بأنه لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: { رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } (1).(84/2)
نؤمن بأنه: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذاًه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلم العظيم } (2).
ونؤمن بأنه: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } (3).
ونؤمن بأن له ملك السموات والأرض: { يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير } (4).
ونؤمن بأنه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم } (5).
ونؤمن بأنه: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } (6).
ونؤمن بأنه : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (1).
ونؤمن بأن الله: { عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } (2).
ونؤمن بأن الله يتكلم بما شاء ، متى شاء ، كيف شاء : { وكلم الله موسى تكليماً } (3). { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } (4) { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً } (5).(84/3)
ونؤمن بأنه: { لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } (6). { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } (7).
ونؤمن بأن كلماته أتم الكلمات، صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام وحسناً في الحديث قال الله تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (8). { ومن أصدق من الله حديثاً } (9).
ونؤمن بأن القرآن الكريم، كلام الله تعالى تكلم به حقاً وألقاه إلى جبريل فنزل به جبريل على قلب النبي، صلى الله عليه وسلم: { قل نزَّله روح القدس من ربك بالحق } (10). { وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين.على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين } (11).
ونؤمن بأن الله عز وجل علي على خلقه بذاته، وصفاته لقوله تعالى: { وهو العلي العظيم } (12). وقوله: { وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } (13).
ونؤمن بأنه: { خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } (1). واستواؤه على العرش، علوه عليه بذاته، علواً خاصاً، يليق بجلاله وعظمته، لا يعلم كيفيته إلا هو.
ونؤمن بأنه تعالى مع خلقه، وهو على عرشه، يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويدبر أمورهم، يرزق الفقير ويجبر الكسير، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ومن كان هذا شأنه كان مع خلقه حقيقة، وإن كان فوقهم على عرشه حقيقة (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (2).
ولا نقول كما تقول الحلولية، من الجهمية وغيرهم: إنه مع خلقه في الأرض.
ونرى أن من قال ذلك، فهو كافر أو ضال لأنه وصف الله بما لا يليق به من النقائص.(84/4)
ونؤمن بما أخبر به عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم، أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".
ونؤمن بأنه سبحانه تعالى يأتي يوم المعاد، للفصل بين العباد لقوله تعالى: { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً . وجاء ربك والملك صفاً صفاً . وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } (3).
ونؤمن بأنه تعالى: { فعال لما يريد } (4).
ونؤمن بأن إرادته تعالى نوعان:
كونية: يقع بها مراده، ولا يلزم أن يكون محبوباً له، وهي التي بمعنى المشيئة كقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (5). { إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم } (6).
وشرعية:لا يلزم منها وقوع المراد ، ولا يكون المراد فيها إلا محبوباً له كقوله تعالى:
{ والله يريد أن يتوب عليكم } (1).
ونؤمن بأن مراده الكوني، والشرعي تابع لحكمته، فكل ما قضاه كوناً، أو تعبد به خلقه شرعاً فإنه لحكمة، وعلى وفق الحكمة، سواء علمنا منها ما نعلم، أو تقاصرت عقولنا عن ذلك: { أليس الله بأحكم الحاكمين } (2). { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (3).
ونؤمن بأن الله تعالى يحب أولياءه، وهم يحبونه : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (4). { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } (5). { والله يحب الصابرين } (6). { واقسطوا إن الله يحب المقسطين } (7). { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } (8).
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى ما شرعه من الأعمال والأقوال ، ويكره ما نهى عنه منها : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } (9). { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } (10).
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } (11).(84/5)
ونؤمن بأن الله تعالى يغضب على من يستحق الغضب ، من الكافرين وغيرهم : { الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم } (12). { ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } (13).
ونؤمن بأن لله تعالى وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (1).
ونؤمن بأن لله تعالى يدين كريمتين عظيمتين: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } (2) . { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } (3).
ونؤمن بأن لله تعالى عينين اثنتين حقيقيتين لقوله تعالى: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } (4). وقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الدجال: "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور".
ونؤمن بأن الله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } (5).
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة: { وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة } (6).
ونؤمن بأن الله تعالى لا مثيل له لكمال صفاته { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (7).
ونؤمن بأنه { لا تأخذه سنة ولا نوم } (8). لكمال حياته وقيوميته.
ونؤمن بأنه لا يظلم أحداً، لكمال عدله.
وبأنه ليس بغافل عن أعمال عباده، لكمال رقابته وإحاطته.
ونؤمن بأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، لكمال علمه وقدرته: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } (9).
وبأنه لا يلحقه تعب، ولا إعياء، لكمال قوته: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } (1) أي من تعب ولا إعياء.(84/6)
ونؤمن بثبوت كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، صلى الله عليه وسلم، من الأسماء والصفات، لكننا نتبرأ من محذورين عظيمين هما:
التمثيل: أن يقول بقلبه أو لسانه: صفات الله تعالى كصفات المخلوقين.
والتكييف : أن يقول بقلبه أو لسانه: كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا.
ونؤمن بانتفاء كل ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك النفي يتضمن إثباتاً لكمال ضده.
ونسكت عما سكت الله عنه، ورسوله.
ونرى أن السير على هذا الطريق فرض لابد منه، وذلك لأن ما أثبته الله لنفسه، أو نفاه عنها سبحانه فهو خبر أخبر الله به عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه، وأصدق قيلا، وأحسن حديثاً، والعباد لا يحيطون به علماً.
وما أثبته له رسوله، أو نفاه فهو خبر أخبر به عنه، وهو أعلم الناس بربه، وأنصح الخلق، وأصدقهم وأفصحهم.
ففي كلام الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، كمال العلم، والصدق، والبيان، فلا عذر في رده، أو التردد في قبوله.
فصل
وكل ما ذكرناه من صفات الله تعالى تفصيلاً أو إجمالاً، إثباتاً أو نفياً، فإننا في ذلك على كتاب ربنا، وسنة نبينا معتمدون، وعلى ما سار عليه سلف الأمة وأئمة الهدى من بعدهم سائرون.
ونرى وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة في ذلك على ظاهرها وحملها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل.
ونتبرأ من طريق المحرفين لها، الذين صرفوها إلى غير ما أراد الله بها ورسوله.
ومن طريق المعطلين لها، الذين عطلوها من مدلولها الذي أراده الله ورسوله.
ومن طريق الغالين فيها الذين حملوها على التمثيل، أو تكلفوا لمدلولها التكييف.(84/7)
ونعلم علم اليقين أن ما جاء في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، فهو حق لا يناقض بعضه بعضاً لقوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (1). ولأن التناقض في الأخبار يستلزم تكذيب بعضها بعضاً، وهذا محال في خبر الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
ومن ادعى أن في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو بينهما تناقضاً، فذلك لسوء قصده، وزيغ قلبه فليتب إلى الله ولينزع عن غيه.
ومن توهم التناقض في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو بينهما، فذلك إما لقلة علمه، أو قصور فهمه، أو تقصيره في التدبر، فليبحث عن العلم، وليجتهد في التدبر حتى يتبين له الحق، فإن لم يتبين له فليكل الأمر إلى عالمه وليكف عن توهمه، وليقل كما يقول الراسخون في العلم: { آمنا به كل من عند ربنا } (2). وليعلم أن الكتاب والسنة لا تناقض فيهما ولا بينهما ولا اختلاف.
فصل
ونؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم: { عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } (1).خلقهم الله تعالى فقاموا بعبادته، وانقادوا لطاعته { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون } (2).
حجبهم الله عنا، فلا نراهم، وربما كشفهم لبعض عباده، فقد رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، جبريل على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق، وتمثل جبريل لمريم بشراً سوياً فخاطبته وخاطبها، وأتى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وعنده الصحابة، بصورة رجل لا يعرف ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فجلس إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي، صلى الله عليه وسلم، ووضع كفيه على فخذيه وخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم، وخاطبه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه أنه جبريل.(84/8)
ونؤمن بأن للملائكة أعمالاً كلفوا بها.
فمنهم جبريل الموكل بالوحي، ينزل به من عند الله على من يشاء من أنبيائه ورسله.
ومنهم ميكائيل، الموكل بالمطر والنبات.ومنهم إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور حين الصعق والنشور.ومنهم ملك الموت، الموكل بقبض الأرواح عند الموت.ومنهم ملك الجبال، الموكل بها.ومنهم مالك خازن النار.ومنهم ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام، وآخرون موكلون بحفظ بني آدم، وآخرون موكلون بكتابة أعمالهم، لكل شخص ملكان: { عن اليمين وعن الشمال قعيد.ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (3).وآخرون موكلون بسؤال الميت بعد الانتهاء من تسليمه إلى مثواه ، يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ، ودينه،ونبيه فـ { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } (4).ومنهم الملائكة، الموكلون بأهل الجنة: { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } (5).
وقد أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن البيت المعمور في السماء يدخله ـ وفي رواية يصلي فيه ـ كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل على رسله كتباً حجة على العالمين، ومحجة للعاملين يعلمونهم بها الحكمة، ويزكونهم.
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتاباً لقوله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } (1).
ونعلم من هذه الكتب:
1.التوراة: التي أنزلها الله تعالى على موسى، صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم كتب بني إسرائيل: { فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء } (2).(84/9)
2.الإنجيل: الذي أنزله الله تعالى على عيسى، صلى الله عليه وسلم، وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها: { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } (3). { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } (4).
3.الزبور: الذي آتاه الله تعالى داود، صلى الله عليه وسلم.
4.صحف إبراهيم وموسى، عليهما الصلاة والسلام.
5.القرآن العظيم: الذي أنزله الله على نبيه، محمد خاتم النبيين { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } (5) فكان { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } (6). فنسخ الله به جميع الكتب السابقة، وتكفل بحفظه عن عبث العابثين، وزيغ المحرفين { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (7). لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين، إلى يوم القيامة.
أما الكتب السابقة، فإنها مؤقتة بأمد ينتهي بنزول ما ينسخها، ويبين ما حصل فيها من تحريف وتغيير. ولهذا لم تكن معصومة منه، فقد وقع فيها التحريف والزيادة والنقص.
{ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه } (8).
{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } (1).
{ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } (2).
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } (3).
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } إلى قوله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } (4).
فصل(84/10)
ونؤمن بأن الله تعالى بعث إلى خلقه رسلاً: { مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً } (1).
ونؤمن بأن أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (2). { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } (3).
وأن أفضلهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح، وعيسى ابن مريم، وهم المخصوصون في قوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } (4).
ونعتقد أن شريعة محمد، صلى الله عليه وسلم، حاوية لفضائل شرائع هؤلاء الرسل المخصوصين بالفضل لقوله تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } (5).
ونؤمن بأن جميع الرسل بشر مخلوقون، ليس لهم من خصائص الربوبية شيء. قال الله تعالى عن نوح، وهو أولهم: { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } (6). وأمر الله تعالى محمداً، وهو آخرهم أن يقول: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } (7). وأن يقول: { لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } (8). وأن يقول: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } (9).(84/11)
ونؤمن بأنهم عبيد من عباد الله، أكرمهم الله تعالى بالرسالة، ووصفهم بالعبودية في أعلى مقاماتهم، وفي سياق الثناء عليهم، فقال في أولهم نوح: { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } (1). وقال في آخرهم محمد، صلى الله عليه وسلم: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً } (2). وقال في رسل آخرين: { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } (3). { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } (4). { ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب } (5). وقال في عيسى ابن مريم: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } (6).
ونؤمن بأن الله تعالى ختم الرسالات برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وأرسله إلى جميع الناس لقوله تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (7).
ونؤمن بأن شريعته، صلى الله عليه وسلم، هي دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد ديناً سواه لقوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام } (8)، وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (9). وقوله: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (10).
ونرى أن من زعم اليوم ديناً قائماً مقبولاً عند الله سوى دين الإسلام، من دين اليهودية، أو النصرانية، أو غيرهما، فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لأنه مكذب للقرآن.(84/12)
ونرى أن من كفر برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس جميعاً فقد كفر بجميع الرسل، حتى برسوله الذي يزعم أنه مؤمن به، متبع له، لقوله تعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين } (11). فجعلهم مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يسبق نوحاً رسول. وقال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } (1).
ونؤمن بأنه لا نبي بعد محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى النبوة بعده أو صدق من ادعاها فهو كافر، لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.
ونؤمن بأن للنبي، صلى الله عليه وسلم، خلفاء راشدين خلفوه في أمته: علماً، ودعوة، وولاية على المؤمنين، وبأن أفضلهم وأحقهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا كانوا في الخلافة قدراً كما كانوا في الفضيلة، وما كان الله تعالى وله الحكمة البالغة ليولي على خير القرون رجلاً، وفيهم من هو خير منه وأجدر بالخلافة.
ونؤمن بأن المفضول من هؤلاء قد يتميز بخصيصة يفوق فيها من هو أفضل منه، لكنه لا يستحق بها الفضل المطلق على من فضله، لأن موجبات الفضل كثيرة متنوعة.
ونؤمن بأن هذه الأمة خير الأمم، وأكرمها على الله عز وجل، لقوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } (2).
ونؤمن بأن خير هذه الأمة الصحابة، ثم التابعون، ثم تابعوهم.
وبأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ونعتقد أن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الفتن، فقد صدر عن تأويل اجتهدوا فيه. فمن كان منهم مصيباً كان له أجران، ومن كان منهم مخطئاً فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له.(84/13)
ونرى أنه يجب أن نكف عن مساوئهم، فلا نذكرهم إلا بما يستحقونه من الثناء الجميل، وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد على أحد منهم ، لقوله تعالى فيهم : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } (3). وقول الله تعالى فينا : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } (4).
فصل
ونؤمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة الذي لا يوم بعده ، حين يبعث الناس أحياء للبقاء : إما في دار النعيم، وإما في دار العذاب الأليم.
فنؤمن بالبعث وهو إحياء الله تعالى الموتى، حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } (1).
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال، عراة بلا ثياب، غرلاً بلا ختان { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } (2).
ونؤمن بصحائف الأعمال تعطى باليمين، أو من وراء الظهور بالشمال { فأما من أوتى كتابه بيمينه . فسوف يحاسب حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره . فسوف يدعوا ثبوراً . ويصلى سعيراً } (3). { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } (4).
ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } (5). { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } (6). { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } (7).(84/14)
ونؤمن بالشفاعة العظمى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم ، خاصة، يشفع عند الله تعالى بإذاًه ليقضي بين عباده، حين يصيبهم من الهم والكرب مالا يطيقون فيذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى حتى تنتهي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بالشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أن يخرجوا منها، وهي للنبي، صلى الله عليه وسلم ، وغيره من النبيين، والمؤمنين، والملائكة.
وبأن الله تعالى يخرج من النار أقواماً من المؤمنين بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته.
ونؤمن بحوض رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء حسناً وكثرة، يرده المؤمنون من أمته، من شرب منه لم يظمأ بعد ذلك.
ونؤمن بالصراط المنصوب على جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فيمر أولهم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وأشد الرجال، والنبي، صلى الله عليه وسلم ، قائم على الصراط يقول: "يا رب سلم سلم". حتى تعجز أعمال العباد، فيأتي من يزحف، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة، تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكردس في النار.
ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة، من أخبار ذلك اليوم وأهواله، أعاننا الله عليها.
ونؤمن بشفاعة النبي، صلى الله عليه وسلم ، لأهل الجنة أن يدخلوها. وهي للنبي، صلى الله عليه وسلم ، خاصة.
ونؤمن بالجنة والنار، فالجنة دار النعيم، التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا إذاً سمعت، ولا خطر على قلب بشر { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (1).(84/15)
والنار دار العذاب، التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، فيها من العذاب، والنكال ما لا يخطر على البال { إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً } (2).
وهما موجودتان الآن، ولن تفنيا أبد الآبدين { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } (3).
{ إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً. خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً. يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } (4).
ونشهد بالجنة لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين، أو بالوصف.
فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي بكر،وعمر، وعثمان، وعلي، ونحوهم ممن عينهم النبي، صلى الله عليه وسلم.
ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل مؤمن، أو تقي.
ونشهد بالنار لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين، أو بالوصف.
فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي لهب، وعمرو بن لحي الخزاعي، ونحوهما.
ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل كافر، أو مشرك شركاً أكبر، أو منافق.
ونؤمن بفتنة القبر، وهي سؤال الميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه فـ { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } (1).
فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
ونؤمن بنعيم القبر للمؤمنين { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (2).
ونؤمن بعذاب القبر للظالمين الكافرين { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } (3) .(84/16)
والأحاديث في هذا كثيرة معلومة، فعلى المؤمن أن يؤمن بكل ما جاء به الكتاب والسنة من هذه الأمور الغيبية، وأن لا يعارضها بما يشاهد في الدنيا، فإن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا لظهور الفرق الكبير بينهما. والله المستعان.
فصل
ونؤمن بالقدر: خيره وشره، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان، وما يكون، وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ، ما هو كائن إلى يوم القيامة: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (1).
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته. ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق، فنؤمن بأن الله تعالى { خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل. له مقاليد السموات والأرض } (2).
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه، ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال، أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى، مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها { لمن شاء منكم أن يستقيم. وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (3). { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (4). { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } (5). { والله خلقكم وما تعملون } (6).
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة بهما يكون الفعل.
والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:(84/17)
الأول: قوله تعالى: { فأتوا حرثكم أنى شئتم } (7). وقوله : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } (8) . فأثبت للعبد إتياناً بمشيئته ، وإعداداً بإرادته.
الثاني :توجيه الأمر والنهي إلى العبد ، ولو لم يكن له إختيار وقدرة ؛ لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق ، وهو أمر تاباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (1) .
الثالث : مدح المحسن على إحسانه ، وذم المسئ على إساءته وإثابة كل منهما بما يستحق .
ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره،لكان مدح المحسن عبثاً وعقوبة المسئ ظلماً ، والله تعالى منزه عن العبث والظلم .
والرابع : أن الله تعالى أرسل الرسل { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2) .
ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره، ما بطلت حجته بإرسال الرسل.
الخامس: أن كل فاعل يحس أنه يفعل الشيء، أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم، ويقعد، ويدخل، ويخرج، ويسافر، ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحداً يكرهه على ذلك، بل يفرق تفريقاً واقعياً بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره. وكذلك فرق الشرع بينهما تفريقاً حكمياً، فلم يؤاخذ الفاعل بما فعله مكرهاً عليه، فيما يتعلق بحق الله تعالى.(84/18)
ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى، لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره، من غير أن يعلم أن الله تعالى قدرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } (3) فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج بها، حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه. وقد أبطل الله تعالى هذه الحجة بقوله: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } (4).
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تقدم على الطاعة مقدراً أن الله تعالى قد كتبها لك؟ فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك. ولهذا لما أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، الصحابة بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار قالوا: أفلا نتكل وندع العمل. قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر لمكة، وكان لها طريقان، أخبرك الصادق أن أحدهما مخوف صعب، والثاني آمن سهل، فإنك ستسلك الثاني: ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول: إنه مقدر علي ولو فعلت لعدك الناس في قسم المجانين.
ونقول له أيضاً : لو عرض عليك وظيفتان إحداهما ذات مرتب أكثر ، فإنك سوف تعمل فيها دون الناقصة ، فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو الأدنى ثم تحتج بالقدر؟.
ونقول له أيضاً: نراك إذا أصبت بمرض جسمي، طرقت باب كل طبيب لعلاجك، وصبرت على ما ينالك من ألم عملية الجراحة، وعلى مرارة الدواء، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
ونؤمن بأن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته، قال النبي، صلى الله عليه وسلم، : " والشر ليس إليك" رواه مسلم . فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شراً أبداً ، لأنه صادر عن رحمة وحكمة .(84/19)
وإنما يكون الشر في مقتضياته ؛ لقول النبي ، صلى الله ، في دعاء القنوت الذي علمه الحسن: "وقني شر ما قضيت". فأضاف الشر إلى ما قضاه. ومع هذا فإن الشر في المقضيات ليس شراً خالصاً محضاً، بل هو شر في محله من وجه، خير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر.
فالفساد في الأرض من: الجدب، والمرض، والفقر، والخوف شر، لكنه خير في محل آخر. قال الله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (1).
وقطع يد السارق، ورجم الزاني شر بالنسبة للسارق والزاني في قطع اليد وإزهاق النفس، لكنه خير لهما من وجه آخر، حيث يكون كفارة لهما، فلا يجمع لهما بين عقوبتي الدنيا والآخرة، وهو أيضاً خير في محل آخر، حيث إن فيه حماية الأموال والأعراض والأنساب.
فصل
هذه العقيدة السامية المتضمنة لهذه الأصول العظيمة، تثمر لمعتقدها ثمرات جليلة كثيرة.
فالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، يثمر للعبد محبة الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره واجتناب نهيه، والقيام بأمر الله تعالى واجتناب نهيه، يحصل بهما كمال السعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } (1).
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة:
أولاً: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه.
ثانياً: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
ثالثاً: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل واستغفارهم للمؤمنين.
ومن ثمرات الإيمان بالكتب:
أولاً: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.(84/20)
ثانياً: ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها. وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسباً لجميع الخلق في كل عصر، ومكان إلى يوم القيامة.
ثالثاً: شكر نعمة الله تعالى على ذلك.
ومن ثمرات الإيمان بالرسل:
أولاً: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام، للهداية والإرشاد.
ثانياً: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
ثالثاً: محبة الرسل، وتوقيرهم، والثناء عليهم بما يليق بهم، لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته، وتبليغ رسالته، والنصح لعباده، والصبر على أذاهم.
ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
أولاً: الحرص على طاعة الله تعالى رغبة في ثواب ذلك اليوم، والبعد عن معصيته، خوفاً من عقاب ذلك اليوم.
ثانياً: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا، ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر:
أولاً: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب، لأن السبب والمسبب كليهما بقضاء الله وقدره.
ثانياً: راحة النفس وطمأنينة القلب، لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة، ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشاً، وأروح نفساً، وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر.
ثالثاً: طرد الإعجاب بالنفس، عند حصول المراد، لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فيشكر الله تعالى على ذلك ويدع الإعجاب.
رابعاً: طرد القلق والضجر عند فوات المراد، أو حصول المكروه، لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر.
وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخور } (1).(84/21)
فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذه العقيدة، وأن يحقق لنا ثمراتها ويزيدنا من فضله، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
تمت في 30/10/1404هـ
---
(1) سورة مريم، الآية: 65.
(2) سورة البقرة، الآية: 255.
(3) سورة الحشر، الآيات: 22-24.
(4) سورة الشورى، الآيتان: 49-50.
(5) سورة الشورى، الآيتان: 11-12.
(6) سورة هود، الآية: 6.
(1) سورة الأنعام، الآية: 59.
(2) سورة لقمان، الآية: 34.
(3) سورة النساء، الآية: 164.
(4) سورة الأعراف، الآية: 143.
(5) سورة مريم، الآية: 52.
(6) سورة الكهف، الآية: 109.
(7) سورة لقمان، الآية: 27.
(8) سورة الأنعام، الآية: 115.
(9) سورة النساء، الآية: 87.
(10) سورة النحل، الآية: 102.
(11) سورة الشعراء، الآيات: 192-195.
(12) سورة البقرة، الآية: 255.
(1) سورة يونس، الآية: 3.
13) سورة الأنعام، الآية: 18.
(1) سورة يونس، الآية: 3.
(2) سورة الشورى، الآية: 11.
(3) سورة الفجر، الآيات: 21-23.
(4) سورة هود، الآية: 107.
(5) سورة البقرة، الآية: 253 .
(6) سورة هود، الآية: 34.
(1) سورة النساء، الآية: 27.
(2) سورة التين، الآية: 8.
(3) سورة المائدة، الآية: 50.
(4) سورة آل عمران، الآية: 31.
(5) سورة المائدة، الآية: 54.,
(6) سورة آل عمران، الآية: 146.
(7) سورة الحجرات، الآية: 9.
(8) سورة البقرة، الآية: 195.
(9) سورة الزمر، الآية: 7.
(10) سورة التوبة، الآية: 46.
(11) سورة البينة، الآية: 8.
(12) سورة الفتح، الآية: 6.
(13) سورة النحل، الآية: 106.
(1) سورة الرحمن، الآية: 27.
(2) سورة المائدة، الآية: 64.
(3) سورة الزمر، الآية: 67.
(4) سورة هود، الآية: 37.
(5) سورة الأنعام، الآية: 103.
(6) سورة القيامة، الآيتان: 22-23.
(7) سورة الشورى، الآية: 11.(84/22)
(8) سورة البقرة، الآية: 255.
(9) سورة يس، الآية: 82.
(1) سورة ق، الآية: 38.
(1) سورة النساء، الآية: 82.
(2) سورة آل عمران، الآية: 7.
(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 26-27.
(2) سورة الأنبياء، الآيتان: 19-20.
(3) سورة ق، الآيتان: 18-19.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(5) سورة الرعد، الآيتان: 23-24.
(1) سورة الحديد، الآية: 25.
(2) سورة المائدة، الآية: 44.
(3) سورة المائدة، الآية: 46.
(4) سورة آل عمران، الآية: 50.
(5) سورة البقرة، الآية: 185.
(6) سورة المائدة، الآية: 48.
(7) سورة الحجر، الآية: 9.
(8) سورة النساء، الآية: 46.
(1) سورة البقرة، الآية: 79.
(2) سورة الأنعام، الآية: 91.
(3) سورة آل عمران، الآية: 78-79.
(4) سورة المائدة، الآيات: 15-17.
(1) سورة النساء، الآية: .165
(2) سورة النساء، الآية: 163.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 40.
(4) سورة الأحزاب، الآية: 7
(5) سورة الشورى، الآية: 13.
(6) سورة هود، الآية: 31 .
(7) سورة الأنعام، الآية: 50.
(8) سورة الأعراف، الآية: 188.
(9) سورة الجن، الآيتان: 21-22.
(1) سورة الإسراء، الآية: 3.
(2) سورة الفرقان، الآية: 1.
(3) سورة ص، الآية: 45.
(4) سورة ص، الآية: 17.
(5) سورة ص، الآية: 30.
(6) سورة الزخرف، الآية: 59.
(7) سورة الأعراف، الآية: 158.
(8) سورة آل عمران، الآية: 19.
(9) سورة المائدة، الآية: 3.
(10) سورة آل عمران، الآية: 85.
(11) سورة الشعراء، الآية: 105.
(1) سورة النساء، الآيتان: 150 –151.
(2) سورة آل عمران، الآية: 110.
(3) سورة الحديد، الآية: 10.
(4) سورة الحشر، الآية: 10.
(1) سورة الزمر، الآية: 68.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 104.
(3) سورة الانشقاق، الآيات: 7-12.
(4) سورة الإسراء، الآيات: 13-14.
(5) سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8.
(6) سورة المؤمنون، الآيات: 102-104.
(7) سورة الأنعام، الآية: 160.
(1) سورة السجدة، الآية: 17.(84/23)
(2) سورة الكهف، الآية: 29.
(3) سورة الطلاق، الآية: 11.
(4) سورة الأحزاب، الآيات: 64-66.
(1) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(2) سورة النحل، الآية: 32.
(3) سورة الأنعام، الآية: 93.
(1) سورة الحج، الآية: 70.
(2) سورة الزمر، الآيتان: 62-63.
(3) سورة التكوير، الآيتان: 28-29.
(4) سورة البقرة، الآية: 253.
(5) سورة الأنعام، الآية: 137 .
(6) سورة الصافات، الآية: 96.
(7) سورة البقرة، الآية: 223.
(8) سورة التوبة ، الآية : 46.
(1) سورة البقرة ، الآية: 286.
(2) سورة النساء ، الآية : 165.
(3) سورة لقمان، الآية: 34.
(4) سورة الأنعام، الآية: 148.
(1) سورة الروم، الآية: 41.
(1) سورة النحل، الآية: 97.
(1) سورة الحديد، الآيتان: 22-23.(84/24)
مجموع فتاوى و رسائل - 3
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبدالله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد اطلعت على المؤلف القيم الذي كتبه صاحب الفضيلة العلامة أخونا الشيخ محمد ابن صالح العثيمين، في الأسماء والصفات وسماه: "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى". وسمعته من أوله إلى آخره، فألفيته كتاباً جليلاً، قد اشتمل على بيان عقيدة السلف الصالح في أسماء الله وصفاته، كما اشتمل على قواعد عظيمة، وفوائد جمة في باب الأسماء والصفات، وأوضح معنى المعية الواردة في كتاب الله - عز وجل - الخاصة، والعامة عند أهل السنة والجماعة، وأنها حق على حقيقتها، لا تقتضي امتزاجاً واختلاطاً بالمخلوقين، بل هو سبحانهفوق عرشه كما أخبر عن نفسه، وكما يليق بجلاله سبحانهوإنما تقتضي علمه، واطلاعه، وإحاطته بهم، وسماعه لأقوالهم، وحركاتهم، وبصره بأحوالهم، وضمائرهم، وحفظه، وكلاءته لرسله، وأوليائه المؤمنين، ونصره لهم، وتوفيقه لهم إلى غير ذلك مما تقتضيه المعية العامة والخاصة من المعاني الجليلة، والحقائق الثابتة لله ـ سبحانه ـ، كما اشتمل على إنكار قول أهل التعطيل، والتشبيه، والتمثيل، وأهل الحلول والاتحاد، فجزاه الله خيراً، وضاعف مثوبته، وزادنا وإياه علماً وهدى وتوفيقاً، ونفع بكتابه القراء وسائر المسلمين، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
قاله ممليه الفقير، إلى الله تعالى، عبد العزيز بن عبدالله بن باز سامحه الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
5/11/1404هـ
عبد العزيز بن عبدالله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم(85/1)
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
وبعد:
فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته، أحد أركان الإيمان بالله تعالى، وهي الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
وتوحيد الله به، أحد أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فمنزلته في الدين عالية، وأهميته عظيمة، ولا يمكن أحداً أن يعبد الله على الوجه الأكمل، حتى يكون على علم بأسماء الله تعالى، وصفاته، ليعبده على بصيرة، قال الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1). وهذا يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
فدعاء المسألة، أن تقدم بين يدي مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسباً مثل أن تقول: يا غفور اغفر لي. ويا رحيم ارحمني. ويا حفيظ احفظني. ونحو ذلك.
ودعاء العبادة: أن تتعبد لله تعالى بمقتضى هذه الأسماء، فتقوم بالتوبة إليه لأنه التواب، وتذكره بلسانك لأنه السميع، وتتعبد له بجوارحك لأنه البصير، وتخشاه في السر لأنه اللطيف الخبير، وهكذا.
ومن أجل منزلته هذه، ومن أجل كلام الناس فيه بالحق تارة وبالباطل الناشئ عن الجهل أو التعصب تارة أخرى، أحببت أن أكتب فيه ما تيسر من القواعد، راجياً من الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده.
وسميته: "القواعد المُثْلى في صفات الله تعالى وأسمائِه الحُسْنَى".
قواعد في أسماء الله تعالى
القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى:(85/2)
أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى } (1). وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديراً.
* مثال ذلك: "الحي" اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال. الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر وغيرها.
* ومثال آخر: "العليم" اسم من أسماء الله متضمن للعلم الكامل، الذي لم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان قال الله تعالى: { علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } (2). العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله، أو أفعال خلقه، قال الله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتابٍ مبين } (3). { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } (4). { يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور } (5).
* ومثال ثالث: "الرحمن" اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للرحمة الكاملة، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" يعني أم صبي وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته. ومتضمن أيضاً للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: { ورحمتي وسعت كل شيء } (6)، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } (7).
والحسن في أسماء الله تعالى، يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.(85/3)
مثال ذلك: "العزيز الحكيم". فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيراً. فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم، والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلماً وجوراً وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيء التصرف. وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل.
القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى، أعلام وأوصاف:
فهي أعلام، باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله - عز وجل - وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص في الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم. كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.
وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف، لدلالة القرآن عليه. كما في قوله تعالى: { وهو الغفور الرحيم } (1). وقوله: { وربك الغفور ذو الرحمة } (2) فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة. ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له علم، ولا سميع إلا لمن له سمع، ولا بصير إلا لمن له بصر وهذا أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل.
وبهذا علم ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل التعطيل وقالوا: إن الله تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة وهكذا.. وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء. وهذه العلة عليلة بل ميتة لدلالة السمع(3) والعقل على بطلانها.(85/4)
أما السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة، مع أنه الواحد الأحد. فقال تعالى: { إن بطش ربك لشديد .إنه هو يبدئ ويعيد .وهو الغفور الودود .ذو العرش المجيد. فعال لما يريد } (4). وقال تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى .الذي خلق فسوى .والذي قدر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوى } (5). ففي هذه الآيات الكريمات أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القدماء.
وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف، حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي من صفات من اتصف بها، فهي قائمة به وكل موجود فلا بد له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود، أو ممكن الوجود، وكونه عيناً قائماً بنفسه أو وصفاً في غيره.
وبهذا أيضاً علم أن: "الدهر" ليس من أسماء الله تعالى، لأنه اسم جامد، لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى، ولأنه اسم للوقت والزمن، قال الله تعالى، عن منكري البعث: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } (1) يريدون مرور الليالي والأيام.
فأما قوله، صلى الله عليه وسلم،: قال الله ـ عز وجل ـ: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث لا يريدون الله تعالى، فيكون معنى قوله: "وأنا الدهر" ما فسره بقوله: "بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يمكن أن يكون المقلب (بكسر اللام) هو المقلب (بفتحها)، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مراداً به الله تعالى.
القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعد، تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله ـ عز وجل ـ.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.(85/5)
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها. ولهذا استدل أهل العلم على سقوط الحد عن قطاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى: { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } (2) لأن مقتضى هذين الاسمين أن يكون الله تعالى قد غفر لهم ذنوبهم، ورحمهم بإسقاط الحد عنهم.
مثال ذلك: "السميع" ، يتضمن إثبات السميع اسماً لله تعالى، وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو أنه يسمع السر والنجوى كما قال تعالى: { والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } (3).
وإن دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين:
أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله ـ عز وجل ـ.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله ـ عز وجل ـ.
* مثال ذلك: "الحي"، يتضمن إثبات الحي اسماً لله - عز وجل - وإثبات الحياة صفة له.
القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى، على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وبالالتزام.
* مثال ذلك: "الخالق" ، يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.
ولهذا لما ذكر الله خلق السماوات والأرض قال: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } (1) ودلالة الالتزام مفيدة جداً لطالب العلم إذا تدبر المعنى ووفقه الله تعالى فهماً للتلازم فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة.
واعلم أن اللازم من قول الله تعالى، وقول رسوله، صلى الله عليه وسلم، إذا صح أن يكون لازماً فهو حق وذلك لأن كلام الله ورسوله حق ولازم الحق حق، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازماً من كلامه وكلام رسوله فيكون مراداً.
وأما اللازم من قول أحد سوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات:(85/6)
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به مثل أن يقول من ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها: يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله - عز وجل - أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت : نعم، وأنا ألتزم بذلك فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد ولا نفاد لأقواله وأفعاله كما قال تعالى: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً } (2). وقال: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } (3). وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصاً في حقه.
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع التلازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابهاً للخلق في صفاته. فيقول المثبت: لا يلزم ذلك، لأن صفات الخالق مضافة إليه لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله تعالى ذاتاً وتمنع أن يكون مشابهاً للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟
وحكم اللازم في هاتين الحالين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول.
فإن قيل : إذا كان هذا اللازم لازماً من قوله، لزم أن يكون قولاً له، لأن ذلك هو الأصل لا سيما مع قرب التلازم.
قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه، ونحو ذلك.(85/7)
القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها:
وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يُزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (1). وقوله: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون } (2). ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص.
القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين:
لقوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث المشهور: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك". الحديث رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح.
وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحدٍ حصره، ولا الإحاطة به.
فأما قوله، صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها(1) دخل الجنة"، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: "إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة" أو نحو ذلك.
إذاً فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله "من أحصاها دخل الجنة" جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة.
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، تعيين هذه الأسماء. والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف.(85/8)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي صـ382جـ6 من مجموع ابن قاسم : تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، باتفاق أهل المعرفة بحديثه وقال قبل ذلك ( صـ379 ) : إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه. ا.هـ وقال ابن حجر في فتح الباري ص215جـ11 ط السلفية: ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم)، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج أ.هـ.
ولما لم يصح تعيينها عن النبي، صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه وروي عنهم في ذلك أنواع. وقد جمعت تسعة وتسعين اسماً مما ظهر لي من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن كتاب الله تعالى:
الله
الأحد
الأعلى
الأكرم
الإله
الأول
والآخر
والظاهر
والباطن
البارئ
البَرّ
البصير
التواب
الجبار
الحافظ
الحسيب
الحفيظ
الحفي
الحقّ
المبين
الحكيم
الحليم
الحميد
الحي
القيوم
الخبير
الخالق
الخلاّق
الرؤوف
الرّحمن
الرّحيم
الرّزّاق
الرّقيب
السّلام
السّميع
الشاكر
الشّكور
الشهيد
الصّمد
العالم
العزيز
العظيم
العفُوّ
العليم
العليّ
الغفّار
الغفور
الغنيّ
الفتاح
القادر
القاهر
القدّوس
القدير
القريب
القويّ
القهّار
الكبير
الكريم
اللّطيف
المؤمن
المتعالي
المتكبّر
المتين
المجيب
المجيد
المحيط
المصوّر
المقتدر
المقيت
الملك
المليك
المولى
المهيمن
النّصير
الواحد
الوارث
الواسع
الودود
الوكيل
الوليُّ
الوهّاب
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الجميل(1) الجواد(2) الحكم(3) الحيي(4) الرب(5) الرفيق(6) السُّبّوح(7) السيد(8) الشافي(9) الطيب(10) القابض(11) الباسط(12) المقدم(13) المؤخر(14) المحسن(15) المعطي(16) المنان(17) الوتر(18).(85/9)
هذا ما اخترناه بالتتبع واحد وثمانون اسماً في كتاب الله تعالى وثمانية عشر اسماً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان عندنا تردّد في إدخال (الحفي)، لأنه إنما ورد مقيداً في قوله تعالى عن إبراهيم: { إنه كان بي حفيّاً } (19) وكذلك (المحسن) لأننا لم نطلع على رواته في الطبراني وقد ذكره شيخ الإسلام من الأسماء.
ومن أسماء الله تعالى، ما يكون مضافاً مثل: مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى، هو الميل بها عما يجب فيها. وهو أنواع:
الأول: أن ينكر شيئاً منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم. وإنما كان ذلك إلحاداً لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها.
الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه فجعلها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها.
الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كتسمية النصارى له: (الأب)، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة)، وذلك لأن أسماء الله تعالى، توقيفية فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة ينزه الله تعالى عنها.(85/10)
الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله، على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به، لقوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1). وقوله: { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } (2). وقوله: { له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض } (3) فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق وبأنه يسبح له ما في السموات والأرض فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله - عز وجل - ميل بها عما يجب فيها.
والإلحاد بجميع أنواعه محرم لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله: { وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (4). ومنه ما يكون شركاً، أو كفراً حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قواعد في صفات الله تعالى
القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } (1). والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى.(85/11)
وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة. إما صفة كمال، وإما صفة نقص. والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز. فقال تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } (2) . وقال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون . أمواتٌ غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون } (3). وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه: { يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } (4) وعلى قومه: { أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم . أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } (5).
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به.
وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه، وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟
وإذا كانت الصفة نقصاً لا كمالَ فيها فهي ممتنعة في ق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم ونحوها لقوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } (6). وقوله عن موسى: { في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } (7). وقوله: { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض } (8). وقوله: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور". وقال: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً".(85/12)
وقد عاقب الله تعالى، الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولُعِنُوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } (2).وقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } (3).
ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال سبحانه: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين .والحمد لله رب العالمين } (4). وقال تعالى: { ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } (5).
وإذا كانت الصفة كمالاً في حال ونقصاً في حال لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق فلا تثبت له إثباتاً مطلقاً ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً وذلك كالمكر، والكيد، والخداع ونحوها فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصاً في غير هذه الحال ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها كقوله تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } (6). وقوله: { إنهم يكيدون كيداً .وأكيد كيداً } (7). وقوله: { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون .وأملي لهم إن كيدي متين } (8). وقوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو(85/13)
خادعهم } (1). وقوله: { قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون .الله يستهزىء بهم } (2). ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى: { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم } (3). فقال: { فأمكن منهم } ، ولم يقل: فخانهم، لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقاً.
وبذا عرف أن قول بعض العوام: "خان الله من يخون" منكر فاحش، يجب النهي عنه.
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها قال الله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبْحُرٍ ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } (4).
ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تعالى المجيء، والإتيان، والأخذ والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى كما قال تعالى: { وجاء ربك } (5). وقال: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام } (6). وقال: { فأخذهم الله بذنوبهم } (7). وقال: { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذاًه } (8). وقال: { إن بطش ربك لشديد } (9). وقال: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (10). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا".
فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول : إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به.
القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين ثبوتية وسلبية:(85/14)
فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } (1). فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكوْن محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله ـ عز وجل.
وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادراً ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العيّ بحيث لا يفصح عما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله - عز وجل - فوجب قبول خبره على ما أخبر به.
وهكذا نقول فيما أخبر به النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأصدقهم خبراً وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بياناً، فوجب قبول ما أخبر به على ماهو عليه.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانهعن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب.(85/15)
فيجب نفيها عن الله تعالى ـ لما سبق ـ مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده، لا لمجرد نفيه، لأن النفي ليس بكمال، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء ، فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالاً كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصاً، كما في قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمّةٍ
ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
* مثال ذلك قوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } (1). فنفي الموت عنه، يتضمن كمال حياته.
* مثال آخر قوله تعالى: { ولا يظلمُ ربك أحداً } (2). نفي الظلم عنه، يتضمن كمال عدله.
* مثال ثالث قوله تعالى: { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض } (3). فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته. ولهذا قال بعده: { إنه كان عليماً قديراً } . لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد وإما قصور القدرة عنه فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال.
القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية، كما هو معلوم.
أما الصفات السلبية فلم تذكر غالباً إلاّ في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (4). وقوله: { ولم يكن له كُفُواً أحد } (5).(85/16)
الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: { أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } (6).
الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلّق بهذا الأمر المعين، كما في قوله: { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } (7). وقوله: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لُغُوب } (1).
القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية:
فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، ومنها الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين، كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء كما في قوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } (2). وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته. وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانهلا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } (3).
القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصّفات التخلي عن محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف.
فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل، بدليل السمع، والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (4). وقوله: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } (5). وقوله: { هل تعلم له سمياً } (6). وقوله: { ولم يكن له كُفُواً أحد } (7).(85/17)
وأما العقل فمن وجوه:
الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبايناً في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإِمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى.
الثاني: أن يُقال : كيف يكون الربّ الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهاً في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟! فإن تشبيه الكامل بالناقص بجعله ناقصاً.
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتّفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يداً ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل ، وقد يُفرّق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصّفات ، والتشبيه التسوية في أكثر الصّفات ، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن : { ليس كمثله شيء } (1).
وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيّدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل، بدليل السمع، والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: { ولا يُحيطون به علماً } (2). وقوله: { ولا تقف ماليس لك به علمٌ إن السّمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً } (3). ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.(85/18)
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله - عز وجل - فوجب بطلان تكييفها.
وأيضاً فإننا نقول: أي كيفية تقدّرها لصفات الله تعالى؟
إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، فالله أعظم وأجل من ذلك.
وأي كيفية تقدّرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذباً فيها، لأنه لا علم لك بذلك. وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان، أو تقريراً باللسان، أو تحريراً بالبنان.
ولهذا لما سئل مالك ـ رحمه الله تعالى ـ عن قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (1) كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وروي عن شيخه ربيعة أيضاً: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ". وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك قال الله تعالى: { وإمّا يَنْزَغََنك من الشيطان نزْغ فاستعذْ بالله إنه هو السَّميعُ العليم } (2).
القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا نثبت لله تعالى من الصّفات إلا ما دلّ الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث" (انظر القاعدة الخامسة في الأسماء).
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:
الأول: التصريح بالصّفة كالعزة، والقوة، والرحمة، والبطش، والوجه، واليدين ونحوها.(85/19)
الثاني: تضمن الاسم لها مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع ونحو ذلك (انظر القاعدة الثالثة في الأسماء).
الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين الدال عليها ـ على الترتيب ـ قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (3) وقول النبي، صلى الله عليه وسلم،: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا". الحديث. وقول الله تعالى: { وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً } (4). وقوله: { إنا من المجرمين منتقمون } (5).
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته، هي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله، وصفاته، بغيرهما.
وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته.
وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضدّه.
وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.
وأما معناه فيفصل فيه: فإن أُريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول. وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دلّ عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمّن، أو التزام.
ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها، فضلاً عن أفرادها { ويفعل الله ما يشاء } (1).
ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها.
ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي. فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة.
ومنه: الرِّضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها(1).
ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده:(85/20)
الموت، والنوم، والسِّنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك(1).
ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟.
قلنا له: لفظ، الجهة، لم يرد في الكتاب والسُنة إثباتاً ولا نفياً، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به.
فالأول باطل. لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب، والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع.
والثاني باطل أيضاً: لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
والثالث حق، لأن الله تعالى العليّ فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
ودليل هذه القاعدة السمع والعقل.
فأما السمع فمنه قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } (1) وقوله: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (2) . وقوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (3) وقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } (4). وقوله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً } (5) وقوله: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } (6).
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإِيمان بما جاء في القرآن والسنة.
وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع. والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟(85/21)
وأين الإِيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟
وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟!
ولقد قال الله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تِبْيَاناً لِكُلِّ شيء } (7). ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن.
وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة.
القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لا سيما نصوص الصّفات حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع، والعقل.
أما السمع: فقوله تعالى: { نزل به الرُّوح الأمِينُ .على قلبك لتكون من المنْذِرين. بلسانٍ عربيٍ مُبِين } (1). وقوله: { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (2). وقوله: { إنا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون } (3) وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: { أَفَتطمعُون أن يُؤمنُوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يُحَرِّفُونَه من بعدما عَقَلوه وهم يعلمون } (4). وقال تعالى: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا } (5).
وأما العقل: فلأن المتكلّم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرّقت الأمة.
القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصّفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دلّ على ذلك: السّمع والعقلُ.(85/22)
وأما السمع فمنه قوله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } (6). وقوله تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (7). وقوله ـ جل ذكره ـ: { وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون } (8).
والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكّر الإنسان بما فهمه منه.
وكون القرآن عربيّاً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.
وأما العقل فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يكلّم رسوله، صلى الله عليه وسلم، بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدّها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء لأن ذلك من السفة الذي تأباه حكمة الله تعالى وقد قال الله تعالى عن كتابه: { كتاب أُحْكِمَت آيَاتُه ثم فُصّلَتْْ من لدن حكيم خبير } (1).
هذه دلالة: السمع، والعقل، على علمنا بمعاني نصوص الصفات.
وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية، فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يُفَوِّضُون علم معاني نصوص الصّفات، ويدعون أن هذا مذهب السلف. والسَّلفُ بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً وتفصيلاً أحياناً وتفويضهم الكيفية إلى علم الله ـ عزّ وجلّ ـ.(85/23)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ"العقل والنقل" ص116 جـ1 المطبوع على هامش (منهاج السنة): وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإِعراض عن فهمه ومعرفته وعقله إلى أن قال ص118 : وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه قال : ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرّب عن صفاته.. لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع : الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدًّا لباب الهُدَى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول : إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد أ.هـ. كلام الشيخ وهو كلام سديد، من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد ـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق. وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.(85/24)
فلفظ (القرية)، مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً } (1).
ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } (2).
وتقول: صنعت هذا بيدي فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: { لما خلقت بيدي } (3). لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس.
ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به.
إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله - عز وجل - وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.
وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة" أ.هـ. وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة" أ.هـ. نقل ذلك عن ابن عبدالبر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87-89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم.(85/25)
وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.
الثاني: أن يقال : إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه وكلاهما باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.
القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو: التشبيه وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه:
الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: { ليس كمثله شيء } (1)؟
الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً.
فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله، ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: { ليس كمثله شيء } . ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أنداداً فقال: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } (2) وقال: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } (3). وكلامه تعالىكله حق يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض.(85/26)
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات ومن فرق بينهما فقد تناقض!.
ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى!. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عامّاً في الأسماء والصفات، أم خاصّاً فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معانٍ عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله، ولا مراد له.
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله تعالىخاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي، صلى الله عليه وسلم، خاطبهم بأفصح لسان البشر فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي غير أنه يجب أن يصان عن التكييف، والتمثيل في حق الله ـ عز وجل ـ.(85/27)
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم، لقوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (1). ولقوله ـ سبحانه ـ: { ولا تَقْف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (2).
فالصارف لكلام الله تعالىورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم. وقال على الله مالا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالىورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.
وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولاً بلا علم فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟!.
مثال ذلك قوله تعالى لإبليس: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (1). فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل ـ وأنى له ذلك ـ وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.
الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:
هل أنت أعلم بالله من نفسه؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلاماً أفصح، وأبين من كلام الله تعالى؟ فسيقول: لا.(85/28)
ثم يقال له: هل تظن أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:
هل أنت أعلم بالله من رسوله، صلى الله عليه وسلم؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله عن الله صدق وحق؟ فسيقول : ةنعم.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً، وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا .
ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا.
فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالىلنفسه، وأثبته له رسوله، صلى الله عليه وسلم، على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟
وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالىما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟
أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: { ماذا أجبتم المرسلين } (1).
أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟ فلعل المراد يكون ـ على تقدير جواز صرفها ـ غير ما صرفتها إليه.
الوجه السادس: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
فمن هذه اللوازم:
أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر لأنه تكذيب لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (2). قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري ـ رحمهما الله ـ: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً ا.هـ.(85/29)
ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، تشبيهاً وكفراً أو موهماً لذلك.
ثانياً: أن كتاب الله تعالى، الذي أنزله تبياناً لكل شيء ، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونوراً مبيناً، وفرقاناً بين الحق والباطل لم يبين الله تعالىفيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاؤون وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.
ثالثاً: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه الراشدين، وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالىوسموه تأويلاً.
وحينئذ إما أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة وكلا الأمرين باطل!!.
رابعاً: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعاً للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلاههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً، إن لم يتمكنوا من تكذيبه.
خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله تعالى: { وجاء ربك } (1): إنه لا يجيء وفي قوله ، صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" : إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء ، والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.(85/30)
ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء ـ أيضاً ـ، ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه، أو لا يدل عليه.
فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي.
مثال ذلك أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.
أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع، والعقل عليها.
أما السمع: فمن قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد } (2).
وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة.
ونفوا الرحمة، قالوا: لأنها تستلزم لين الراحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.
وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام.
فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عدداً وتنوعاً من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: { الرحمن الرحيم } (1). والصفة مثل: { وربك الغفور ذو الرحمة } (2). والفعل مثل: { ويرحم من يشاء } (3).
ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل - ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.
وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة، فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة وهذا يستلزم الحاجة والله تعالى منزه عن ذلك.(85/31)
فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.
وبها تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كان تعطيلاً عاماً أم خاصّاً.
وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة.
الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة فيقولون : لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليّاً وأولتم دليله السمعي فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليّاً ونؤول دليله السمعي فلنا عقول كما أن لكم عقولاً فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى.
وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشاعرة والماتريدية ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً: لا تمثيل فيه ولا تكييف وتنزيهاً : لا تعطيل فيه ، ولا تحريف ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
(تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما تعطيل المعطل فظاهر وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثّل أولاً، وعطل ثانياً كما أنه بتعطيله مثّله بالناقص.وأما تمثيل الممثل فظاهر وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه:(85/32)
الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالاً على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل.
الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه.
الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص.
فصل
اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال : كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟
ونحن نجيب ـ بعون الله تعالى ـ عن هذه الشبهة بجوابين مجمل، ومفصل.
أما المجمل فيتلخص في شيئين:
أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات، وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض.
ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلاً من الكتاب والسنة، إما متصلاً، وإما منفصلاً وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم.
وأما المفصل فعلى كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره.
ولنمثل بالأمثلة التالية فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أنه قال: إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". "وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن". "وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن". نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص398جـ5: من مجموع الفتاوي وقال: هذه الحكاية كذب على أحمد.
المثال الأول: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض".(85/33)
والجواب عنه: أنه حديث باطل، لا يثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح . وقال ابن العربي: حديث باطل فلا يلتفت إليه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بإسناد لا يثبت أ.هـ وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمشهور ـ يعني في هذا الأثر ـ إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه". ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه فإنه قال: "يمين الله في الأرض" ولم يطلق فيقول: يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال: "فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يمينه" وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى كما هو معلوم عند كل عاقل ا.هـ ص398 جـ 6مجموع الفتاوي.
* المثال الثاني: "قلوب العباد بين أصبعين(1) من أصابع الرحمن".
والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".(85/34)
وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا : إن لله تعالى أصابع حقيقة نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين أصبعين منها أن تكون مماسة لها حتى يقال : إن الحديث موهم للحلول فيجب صرفه عن ظاهره. فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض وهو لا يمس السماء ولا الأرض ويقال: بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينها وبينهما فقلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن حقيقة ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول.
* المثال الثالث: "إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن".
والجواب: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: "ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن". قال في مجمع الزوائد "رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة" قلت: وكذا قال في التقريب عن شبيب ثقة من الثالثة وقد روى البخاري نحوه في التاريخ الكبير.
وهذا الحديث على ظاهره والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفيساً، مثل فرج يفرج تفريجاً وفرجاً، هكذا قال أهل اللغة كما في النهاية والقاموس ومقاييس اللغة. قال في مقاييس اللغة: النفس كل شيء يفرج به عن مكروب فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالىعن المؤمنين يكون من أهل اليمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات". ا.هـ ص398جـ6 مجموع فتاوي شيخ الإسلام لابن قاسم.
* المثال الرابع: قوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء } (1)
والجواب أن لأهل السنة في تفسيرها قولين:(85/35)
أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: "وأولى المعاني بقول الله ـ جل ثناؤه ـ: { ثم استوى إلى السماء فسواهن } . علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات". ا.هـ. وذكره البغوي في تفسيره: قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف. وذلك تمسكاً بظاهر لفظ { استوى } . وتفويضاً لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله ـ عز وجل ـ.
القول الثاني: أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت. قال ابن كثير: "أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بإلى". وقال البغوي: "أي عمد إلى خلق السماء".
وهذا القول ليس صرفاً للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل { استوى } اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء. فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به ألا ترى إلى قوله تعالى: { عيناً يشرب بها عباد الله } (2).حيث كان معناها يروى بها عباد الله لأن الفعل { يشرب } اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام.
* المثالان الخامس ، والسادس : قوله تعالىفي سورة الحديد : { وهو معكم أين ما كنتم } (3). وقوله في سورة المجادلة : { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } (4).
والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره. ولكن ما حقيقته وظاهره؟
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطاً بهم، أو حالاً في أمكنتهم؟
أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطاً بهم: علماً وقدرةً، وسمعاً، وبصراً، وتدبيراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه؟(85/36)
ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله ـ عز وجل ـ ، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق المصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه.
وتفسير معية الله ـ تعالى ـ لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف لإجماع السلف فما فسرها أحد منهم بذلك، بل كانوا مجمعين على إنكاره.
الثاني: أنه مناف لعلو الله تعالىالثابت بالكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة وإجماع السلف، وما كان منافياً لما ثبت بدليل كان باطلاً بما ثبت به ذلك المنافي وعلى هذا فيكون تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلاً بالكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، وإجماع السلف.
الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ولا يمكن لمن عرف الله تعالىوقدره حق قدره، وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن يقول: إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطاً بهم أو حالاً في أمكنتهم، فضلاً عن أن تستلزم ذلك ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة، جاهل بعظمة الرب ـ جل وعلا ـ.
فإذا تبين بطلان هذا القول تعين أن يكون الحق هو القول الثاني، وهو أن الله تعالىمع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطاً بهم، علماً، وقدرة، وسمعاً وبصراً وتدبيراً وسلطاناً، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه.
وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب، لأنهما حق، ولا يكون ظاهر الحق إلا حقاً ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبداً.(85/37)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103جـ5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } (1). إلى قوله: { وهو معكم أين ما كنتم } (2). دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم ، شهيد عليكم ، ومهيمن عالم بكم ، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه(1). وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } . إلى قوله: { هو معهم أين ما كانوا } (2). الآية.
ولما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لصاحبه في الغار: { لا تحزن إن الله معنا } (3). كان هذا ـ أيضاً ـ حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد.
ثم قال: فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع: يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر. فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق حتى يقال :قد صرفت عن ظاهرها ا.هـ.
ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب - عز وجل - مختلطة بالخلق أن الله تعالىذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال: { ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابِعُهُم ولا خمسةٍ إلا هو سادِسُهُم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانُوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } (4).
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعيّة علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه سبحانهمختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض.(85/38)
أما في آية الحديد، فقد ذكرها الله تعالىمسبوقة بذكر استوائه على عرشه وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد فقال: { هو الذي خلق السّموات والأرض في سِتّةِ أيامٍ ثم استوى على العرشِ يعلم ما يَلجُ في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } (5).
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه لا أنه سبحانهمختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض وإلا لكان آخر الآية مناقضاً لأولها الدّالّ على علوه واستوائه على عرشه.
فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه تعالىمع عباده أنه يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبّر شؤونهم، فيحيي، ويُميت، ويغني، ويُفقر، ويُؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة، ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة(1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص142جـ3 من مجموع الفتاوى لابن قاسم في فصل الكلام على المعية قال: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانهمن أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة". ا.هـ.
وقال في الفتوى الحموية ص102، 103جـ5 من المجموع المذكور: وجِماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً البتة مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم } . وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قبل وجهه" ونحو ذلك فإن هذا غلط.(85/39)
وذلك أن الله معنا حقيقة ، وهو فوق العرش حقيقة ، كما جمع الله بينهما في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } (2).
فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث الأوعال: "والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه". ا.هـ.
واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالىجمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما.
وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبّره حتى يتبين لك، لقوله تعالى: { أفلا يَتَدبّرُون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجَدُوا فيه اختلافاً كثيراً } (1). فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون: { آمنّا به كلٌّ من عند رَبِّنَا } (1). وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه ، واعلم أن القصور في علمك ، أوفي فهمك وأن القرآن لا تناقض فيه.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق: "كما جمع الله بينهما". وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي ص410ط الإمام في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل : إنه مجاز قال: "وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستوياً على عرشه، وقرن بين الأمرين كما قال تعالى: ـ وذكر آية سورة الحديد ـ ثم قال : فأخبر أنه خلق السموات والأرض، وأنه استوى على عرشه وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في حديث الأوعال: "والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه" فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق". ا.هـ.(85/40)
الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا. ولا يعد ذلك تناقضاً ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق ففي حق الخالق المحيط بكل شيء مع علوه سبحانه من باب أولى، وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم حيث قال: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة. أ.هـ.
وصدق ـ رحمه الله تعالى ـ فإن من كان عالماً بك مُطَّلعاً عليك، مهيمناً عليك، يسمع ما تقول، ويرى ما تفعل، ويدبر جميع أمورك، فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة، لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعاً في حقّ الخالق الذي جمع لنفسه بينهما لأن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1).
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص143جـ3 من مجموع الفتاوي حيث قال : وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه. أ.هـ.
(تتمة) انقسم الناس في معيّة الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام:(85/41)
القسم الأول: يقولون: إن معيّة الله لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه.
وهؤلاء هم السلف ومذهبهم هو الحق كما سبق تقريره.
القسم الثاني: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفي علوه واستوائه على عرشه.
وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، ومذهبهم باطل منكر، أجمع السلف على بطلانه وإنكاره كما سبق.
القسم الثالث: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه. ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ص229جـ5 من مجموع الفتاوي.
وقد زعم هؤلاء أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو. وكذبوا في ذلك فضلوا، فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول، لأنه باطل ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلاً.
(تنبيه) اعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم بل المعية تقتضي أيضاً إحاطته بهم سمعاً وبصراً وقدرة وتدبيراً ونحو ذلك من معاني ربوبيته.
(تنبيه آخر) أشرت فيما سبق إلى أن علو الله تعالى ثابت بالكتاب، والسُنة والعقل، والفطرة، والإجماع.
أما الكتاب فقد تنوعت دلالته على ذلك:
فتارة بلفظ العلو ، والفوقية ، والاستواء على العرش ، وكونه في السماء كقوله تعالى: { وهو العلي العظيم } (1). { وهو القاهر فوق عباده } (2). { الرحمن على العرش استوى } (3). { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } (4).
وتارة بلفظ صعود الأشياء ، وعروجها ، ورفعها إليه ، كقوله : { إليه يصعد الكلم الطيب } (5). { تعرج الملائكة والروح إليه } (6). { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ } (7).
وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك كقوله تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك } (8). { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } (9).(85/42)
وأما السنة فقد دلت عليه بأنواعها القولية، والفعلية، والإقرارية، في أحاديث كثيرة، تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة، كقوله، صلى الله عليه وسلم، في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". وقوله: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إنّ رحمتي سبقت غضبي". وقوله: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: (اللهم أغثنا). وأنه رفع يده إلى السماء وهو يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال: (اللهم أشهد). وأنه قال للجارية: (أين الله) قالت: في السماء فأقرها وقال لسيدها: (أعتقها فإنها مؤمنة).
وأما العقل فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص. والعلو صفة كمال والسفل نقص، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يُمْنَةً ولا يُسْرَةً.
واسأل المصلين، يقول الواحد منهم في سجوده، "سبحان ربي الأعلى" أين تتجه قلوبهم حينذاك؟
وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله تعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وكلامهم مشهور في ذلك نصّاً وظاهراً، قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات" وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم ومحال أن يقع في ذلك خلاف وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر طمس على قلبه واجتالته الشياطين عن فطرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلاً وأحق الأشياء وأثبتها واقعاً.(85/43)
(تنبيه ثالث) اعلم أيها القارئ الكريم، أنه صدر مني كتابة لبعض الطلبة تتضمن ما قلته في بعض المجالس في معية الله تعالى لخلقه ذكرت فيها: أن عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً، وقدرة، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وتدبيراً، وأنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن ذلك لا ينافي معيته لأنه تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1).
وأردت بقولي : "ذاتية" توكيد حقيقة معيته تبارك وتعالى.
وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض، كيف وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى : إنه سبحانه منزّه أن يكون مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم وأنه العلي بذاته وصفاته وإن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وقلت فيها أيضاً ما نصه بالحرف الواحد:
"ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها" ا.هـ.
ولا يمكن لعاقل عرف الله وقدره حق قدره أن يقول : إن الله مع خلقه في الأرض وما زلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل مجلس من مجالسي جرى فيه ذكره. وأسأل الله تعالى أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
هذا وقد كتبت بعد ذلك مقالاً نشر في مجلة (الدّعوة)(2) التي تصدر في الرياض نشر يوم الاثنين الرابع من شهر محرم سنة 1404هـ برقم 911 قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ من أن معية الله تعالى لخلقه حق على حقيقتها، وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط بالخلق فضلاً عن أن يستلزمه ورأيت من الواجب استبعاد كلمة "ذاتية". وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية.(85/44)
واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله تعالى في الأرض أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي علوه، أو نفي استوائه على عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة، يجب إنكارها على قائلها كائناً من كان وبأي لفظ كانت.
وكل كلام يوهم ـ ولو عند بعض الناس ـ مالا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء لكن ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه مالا يليق بالله ـ عز وجل ـ .
المثالان السابع والثامن، قوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } (1) وقوله: { ونحن أقرب إليه منكم } (2). حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة.
والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفاً للكلام عن ظاهره لمن تدبره.
أما الآية الأولى فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (3). ففي قوله: { إذ يتلقى } دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين.
وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } (4). ثم إن في قوله: { ولكن لا تبصرون } (5). دليلاً بيناً على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله ـ تعالى ـ.
بقي أن يقال : فلماذا أضاف الله القرب إليه، وهل جاء نحو هذا التعبير مراداً به الملائكة؟
فالجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه، لأن قربهم بأمره، وهم جنوده ورسله.(85/45)
وقد جاء نحو هذا التعبير مراداً به الملائكة، كقوله تعالى: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } (1). فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم، بأمر الله تعالى صحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوطٍ } (2). وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى.
* المثالان التاسع والعاشر: قوله تعالى عن سفينة نوح: { تجري بأعيننا } (3). وقوله لموسى: { ولتصنع على عيني } (4).
والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله، أو أن موسى، عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله تعالى؟!!!.
أو يقال: إن ظاهرة أن السفية تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها.
ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يقضتيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي والقرآن الكريم إنما نزل بلغة العرب قال الله تعالى: { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (5). وقال تعالى: { نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسانٍ عربي مبين } (6). ولا أحد يفهم من قول القائل: فلان يسير بعيني أنه المعنى أن يسير داخل عينه ولا من قول القائل: فلان تخَرّج على عيني أن تخرجه كان وهو راكب على عينه ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلاً عن العقلاء.(85/46)
الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا هو حال في شيء من مخلوقاته ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤن بها. وهذا معنى قول بعض السلف بمرأى مني فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام.
* المثال الحادي عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعإذاًي لأعيذنه } .
والجواب: أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق.
وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته.
ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟
هل يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولي وبصره ويده ورجله؟
أو يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله؟
ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام، بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين:(85/47)
الوجه الأول: أن الله تعالى قال: "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه وقال: ولئن سألني لأعطينه ولئن استعإذاًي لأعيذنه". فأثبت عبداً ومعبوداً ومتقرباً ومتقرباً إليه، ومحباً ومحبوباً، وسائلاً ومسؤولاً، ومعطياً ومعطى، ومستعيذاً ومستعاذاً به، ومعيذاً ومعاذاً. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفاً في الآخر أو جزءاً من أجزائه.
الوجه الثاني: أن سمع الوليّ وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعاً وبصراً ويداً ورجلاً لمخلوق بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير فكيف يسوغ أن يقال: إنه ظاهر الحديث القدسي وإنه قد صرف عن هذا الظاهر ؟سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصاً وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعاً واتباعاً فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة وهذا غاية التوفيق وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
* المثال الثاني عشر: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".(85/48)
وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه وروى نحوه من حديث أبي هريرة أيضاً وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } (1). وقوله: { وجاء ربك والملك صفّاً صفاً } (2). وقوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } (3). وقوله: { الرحمن على العرش استوى } (4). وقوله صلى الله عليه وسلم :"ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ إلا أخذها الرحمن بيمينه". إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.
فقوله في هذا الحديث: تقربت منه وأتيته هرولة من هذا الباب.
والسلف "أهل السنة والجماعة" يُجْرُون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص466جـ5 من مجموع الفتاوي: وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر ا.هـ.
فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟
وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟
وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالاً لما يريد على الوجه الذي يليق به؟(85/49)
وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: "أتيته هرولة". يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل. وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال في الحديث: "ومن أتاني يمشي" ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله - عز وجل - الطالب للوصول إليه لا يتقرب، ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها وتارة بالركوع والسجود ونحوهما وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه كما قال الله تعالى: { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب".
قال :فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله وأن من صدق في الإقبال على ربه وإن كان بطيئاً جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل. وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه.
وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية، لم يكن تفسيره به خروجاً به عن ظاهره ولا تأويلاً كتأويل أهل التعطيل فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد.
وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف.
ويجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة أو من ماهيتها كالطواف والسعي. والله تعالى أعلم.(85/50)
* المثال الثالث عشر: قوله تعالى: { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } (2).
والجواب: أن يقال :ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال: إنها صرفت عنه؟
هل يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟
أو يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها لم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروف في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين:
أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل به القرآن ألاَ ترى إلى قوله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } (2) وقوله: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (3). وقوله: { ذلك بما قدمت أيديكم } (4). فإن المراد ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه وإن عمله بغير يده بخلاف ما إذا قال: عملته بيدي كما في قوله تعالى: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله } (5). فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد.
الثاني: أنه لو كان المراد أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية خلقنا لهم بأيدينا أنعاماً كما قال الله تعالى في آدم: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (6). لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية لقوله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } (7).
وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني وهو أن ظاهر اللفظ أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وعدي بالباء إلى اليد فتنبه للفرق فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم وبه يزول كثير من الإشكالات.(85/51)
* المثال الرابع عشر: قوله تعالى: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } (1)
والجواب: أن يقال: هذه الآية تضمنت جملتين:
الجملة الأولى: قوله تعالى: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وقد أخذ السلف "أهل السنة" بظاهرها وحقيقتها، وهي صريحة في أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في قوله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (2).
ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله تعالى: { إنما يبايعون الله } . أنهم يبايعون الله نفسه ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته لأول الآية والواقع واستحالته في حق الله تعالى.
وإنما جعل الله تعالى مبايعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مبايعة له لأنه رسوله قد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله تعالى ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل من أرسله مبايعة لمن أرسله لأنه رسوله المبلغ عنه كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله لقوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } (3).وفي إضافة مبايعتهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الله تعالى من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد.
الجملة الثانية: قوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } (4). وهذه أيضاً على ظاهرها وحقيقتها فإن يد الله تعالى فوق أيدي المبايعين لأن يده من صفاته وهو سبحانه فوقهم على عرشه فكانت يده فوق أيديهم. وهذا ظاهر اللفظ وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم مبايعة له عز وجل ولا يلزم منها أن تكون يد الله جل وعلا مباشرة لأيديهم ألا ترى أنه يقال: السماء فوقنا مع أنها مباينة لنا بعيدة عنا. فيد الله عز وجل فوق أيدي المبايعين لرسوله صلى الله عليه وسلم مع مباينته تعالى لخلقه وعلوه عليهم.(85/52)
ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله: { يد الله فوق أيديهم } يد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لأن الله تعالى أضاف اليد إلى نفسه، ووصفها بأنها فوق أيديهم. ويد النبي، صلى الله عليه وسلم، عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم، بل كان يبسطها إليهم، فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم، فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم.
* المثال الخامس عشر:قوله تعالى في الحديث القدسي:"يابن آدم مرضت فلم تعدني". الحديث.
وهذا الحديث رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب رقم 43ص1990 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال : يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال : يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال : يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي".(85/53)
والجواب: أن السلف أخذوا بهذا الحديث ولم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به فقوله تعالى في الحديث القدسي: "مرضت واستطعمتك واستسقيتك" بينه الله تعالى بنفسه حيث قال: "أما علمت أن عبدي فلاناً مرض وأنه استطعمك عبدي فلان. واستسقاك عبدي فلان" وهو صريح في أن المراد به مرض عبد من عباد الله واستطعام عبد من عباد الله واستسقاء عبد من عباد الله والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به وهو أعلم بمراده فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه والاستسقاء المضاف إليه، بمرض العبد واستطعامه واستسقائه لم يكن في ذلك صرف للكلام عن ظاهره لأن ذلك تفسير المتكلم به فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداء. وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولاً للترغيب والحث كقوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله } (1).
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يحرفونها بشبه باطلة هم فيها متناقضون مضطربون. إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها كما يقولون لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها ممتنعاً على الله ـ كما زعموا ـ لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث. ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعاً على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال.
ولنكتف بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراساً لغيرها، وإلا فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة معروفة وهي إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في قواعد نصوص الصفات والحمد لله رب العالمين.
الخاتمة(85/54)
إذا قال قائل: قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل لأكثر الصفات فكيف يكون مذهبهم باطلاً وقد قيل : إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟!.
وكيف يكون باطلاً وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟
وكيف يكون باطلاً وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟
قلنا :الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلّم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق.
ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر.
ثم نقول :إن إجماع المسلمين قديماً ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة "وهم الصحابة" الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وهم خير القرون بنص الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإجماعُهم حجة ملزمة، لأنه مقتضى الكتاب والسنة وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات.
والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدّعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم ونزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة قال الله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } (1). وقال عن إبراهيم: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين . شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ } (2).(85/55)
ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الاقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة:
المرحلة الأولى ـ مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاماً يقرره ويناظر عليه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم(1).
المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب(2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص471 من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوي لابن قاسم:
والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة. ا.هـ.
المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة) وهو من آخر كتبه أو آخرها.
قال في مقدمته:
(جاءنا ـ يعني النبي، صلى الله عليه وسلم، ـ بكتاب عزيزٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم ، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عز وجل: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (3). إلى أن قال: فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوتهم، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
ثم ذكر - رحمه الله - أصولاً من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال:(85/56)
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والجهمية، والحرورية، والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟.
قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل) ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية.
والمتأخرون الذين ينتسبون إليه، أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته، والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات، ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت:
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذاك السمع والبصر
على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها.
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما قيل في شأن الأشعرية ص359 من المجلد السادس من مجموع الفتاوي لابن قاسم قال:
ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة وقال قبل ذلك في ص310: وأما الأشعرية فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي وآية الدَّين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ا.هـ.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص312 من شرح الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس الطريـ ق المستقيم لمن له عينان
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا كون المقلد صاحب البرهان(85/57)
ورأوه بالتقليد أولى من سوا ه بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا معناهما عجباً لذي الحرمان
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان ص319جـ2 على تفسير آية استواء الله تعالى على عرشه التي في سورة الأعراف: اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً قال:ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى والقول فيه بما لا يليق به ـ جل وعلا ـ. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } (1). لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وأحرى في العقائد لا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق والنبي صلى الله عليه وسلم، كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله ـ جل وعلا ـ ورسوله، صلى الله عليه وسلم.(85/58)
والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. قال: وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله ـ جل وعلا ـ وعدم الإيمان بها مع أنه ـ جل وعلا ـ هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبّهاً أولاً، ومعطلًا ثانياً فارتكب مالا يليق بالله ابتداء وانتهاء ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي طاهراً من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1). أ.هـ كلامه ـ رحمه الله.
والأشعري أبو الحسن - رحمه الله - كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ومذهب الإنسان ما قاله أخيراً إذا صرح بحصر قوله فيه كما هي الحال في أبي الحسن كما يعلم من كلامه في الإبانة. وعلى هذا فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيراً وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة، لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه.
والجواب عن السؤال الثالث من وجهين:(85/59)
الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال فإن الإنسان بشر يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته فقد يكون الرجل ديناً وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك.
الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أجل وأعظم وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة.
وإذا ارتقيت إلى من فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة.
وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف.
ونحن لا ننكر أن لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري قدم صدق في الإسلام والذب عنه، والعناية بكتاب الله ـ تعالى ـ وبسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطؤوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم ورده لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق.
ولا ننكر أيضاً أن لبعضهم قصداً حسناً فيما ذهب إليه وخفي عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حسن قصد قائله، بل لا بد أن يكون موافقاً لشريعة الله - عز وجل - فإن كان مخالفاً لها وجب رده على قائله كائناً من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".(85/60)
ثم إن كان قائله معروفاً بالنصيحة والصدق في طلب الحق اعتذر عنه في هذه المخالفة وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته.
فإن قال قائل : هل تكفرون أهل التأويل أو تفسقونهم؟
قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا بل هو إىا الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.
والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي. ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما". وفي رواية: "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه". وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال :عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه".
وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين:
أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.(85/61)
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافراً أو فاسقاً لقوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جنهم وساءت مصيراً } (1). وقوله: { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم : إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير } (2).
ولهذا قال أهل العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يبين له.
ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور:منها: أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئناناً به، فلا يكفر حينئذ، لقوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } (3).ومنها أن يغلق عليه فكره، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك.ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حتى يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ ص180جـ12 مجموع الفتاوي لابن قاسم:وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ثم قد يكون فاسقاً. وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته. ا.هـ.(85/62)
وقال في ص229جـ3 من المجموع المذكور في كلام له: "هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية. وذكر أمثلة ثم قال:
وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، إلى أن قال:
والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها، ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. ففعلوا به ذلك فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال : خشيتك فغفر له".
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك.(85/63)
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أولى بالمغفرة من مثل هذا. ا.هـ.وبهذا علم الفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، فليس كل قول أو فعل يكون فسقاً أو كفراً يحكم على قائله أو فاعله بذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص165جـ35 من مجموع الفتاوي:وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال :هي كفر قولاً يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال : إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قالها. إلى أن قال: فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (1). وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان". ا.هـ كلامه.ولهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه. ومن تبين له الحق فأصر على مخالفته تبعاً لاعتقاد كان يعتقده أو متبوع كان يعظمه أو دنيا كان يؤثرها فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق. فعلى المؤمن أن يبني معتقده وعمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجعلهما إماماً له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجهما فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم(85/64)
عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون } (2).
وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين وما سواهما إماماً لا تابعاً! وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى. لا أتباع الهدى وقد ذم الله هذه الطريق في قوله: { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } (3).والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب. ويعرف شدة افتقاره إلى اللجوء إلى ربه في سؤال الهداية والثبات على الحق والاستعاذة من الضلال والانحراف.ومن سأل الله تعالى بصدق وافتقار إليه عالماً بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه هو حري أن يتستجيب الله تعالى له سؤله يقول الله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } (1).
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن رأى الحق حقّاً واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه. وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصلحاء مصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذاً ربهم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404هـ
بقلم مؤلفه الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
نص الكلمة التي نشرناها في مجلة الدعوة السعودية
في عدد 911 الصادر يوم الاثنين الموافق 4/1/1404هـ(85/65)
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً .
أما بعد:
فقد كنا تكلمنا في بعض مجالسنا على معنى معية الله تعالى لخلقه، ففهم بعض الناس من ذلك ما ليس بمقصود لنا ولا معتقد لنا فكثر سؤال الناس وتساؤلهم ماذا يقال في معية الله لخلقه؟
وإننا:
أ - لئلا يعتقد مخطئ أو خاطئ في معية الله ما لا يليق به.
ب - ولئلا يتقول علينا متقول مالم نقله أو يتوهم واهم فيما نقوله ما لم نقصده.
ج - ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن الكريم ووصفه بها نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم.
نقرر ما يأتي:
أولا ً: معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة ، وإجماع السلف ، قال الله تعالى : { وهو معكم أين ماكنتم } (1). وقال تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (2). وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } (3). وقال عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } (4). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت". حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وضعفه بعض أهل العلم وسبق قريباً ما قاله الله تعالى عن نبيه من إثبات المعية له.
وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.(85/66)
ثانياً: هذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق لقوله تعالى عن نفسه: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1). وقوله: { هل تعلم له سيمّاً } (2). وقوله: { ولم يكن له كفواً أحد } (3). وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين.
قال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محدودة". ا.هـ. نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص87 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم.
وقال شيخ الإسلام في هذه الفتوى ص102 من المجلد المذكور: ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك ـ يعني مما جاء في الكتاب والسنة ـ يناقض بعضه بعضاً ألبتة مثل أن يقول القائل : ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم } (4). وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه". ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } (5). فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث الأوعال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه".(85/67)
وذلك أن كلمة ـ مع ـ في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا ويقال هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة، ا.هـ كلامه.
ثالثاً: هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة، وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص بشخص أو صف كقوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } (1). وقوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } (2).
فإن خصت بشخص أو وصف اقتضت مع ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد.
مثال المخصوصة بشخص قوله تعالى لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى } (3). وقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } (4).
ومثال المخصوصة بوصف قوله تعالى: { واصبروا إن الله مع الصابرين } (5). وأمثاله في القرآن الكريم كثيرة.(85/68)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص103 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم قال: ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد. فلما قال: { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } . إلى قوله: { وهو معكم أينما كنتم } . دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. قال: ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار : لا تحزن إن الله معنا، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد، وكذلك قوله: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (6). وكذلك قوله لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى } . هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
إلى أن قال: ففرق بين معنى المعية ومقتضاها وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع. أ.هـ.
وقال محمد بن الموصلي في كتاب (استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) لابن القيم في المثال التاسع ص409ط الإمام: وغاية ما تدل عليه ـ مع ـ المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور وهذا الاقتران في كل موضع بحسبه ويلزمه لوازم بحسب متعلقه فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق العموم كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان ذلك خاصاً كقوله: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (1). كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة.
فمعية الله تعالى مع عبده نوعان عامة وخاصة وقد اشتمل القرآن الكريم على النوعين، وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة. ا.هـ.(85/69)
وذكر ابن رجب في شرح الحديث التاسع والعشرين من الأربعين النووية: أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة وأن العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم.
وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في سورة المجادلة: ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه قال : ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضاً مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانهمطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. ا.هـ.
رابعاً: هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه لأن هذا معنى باطل مستحيل على الله عز وجل ولا يمكن أن يكون معنى كلام الله ورسوله شيئاً مستحيلاً باطلاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 115 ط ثالثة من شرح محمد خليل الهراس: وليس معنى قوله: { وهو معكم } أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغةِ، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. أ.هـ.
ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان. تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً. وكبرت كلمة تخرج من أفواهم، إن يقولون إلا كذباً.
وقد أنكر قولهم هذا من أدركه من السلف والأئمة، لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة المتضمنة لوصفه تعالى بالنقائص وإنكار علوه على خلقه.
وكيف يمكن أن يقول قائل : إن الله تعالى بذاته في كل مكان أو إنه مختلط بالخلق وهو سبحانه قد "وسع كرسيه السموات والأرض، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه"؟(85/70)
خامساً: هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، فإن الله تعالى قد ثبت له العلو المطلق علو الذات وعلو الصفة قال الله تعالى: { وهو العلي العظيم } (1). وقال تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى } (2). وقال تعالى: { ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } (3).
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، والإجماع والعقل، والفطرة على علو الله تعالى.
أما أدلة الكتاب والسنة فلا تكاد تحصر.مثل قوله تعالى: { فالحكم لله العلي الكبير } (4). وقوله تعالى: { وهو القاهر فوق عباده } (5)وقوله: { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً } (6).وقوله: { تعرج الملائكة والروح إليه } (7)وقوله: { قل نزله روح القدس من ربك } (8). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". وقوله: "والعرش فوق الماء والله فوق العرش". وقوله: "ولا يصعد إلى الله إلا الطيب".
ومثل إشارته إلى السماء يوم عرفة. يقول: "اللهم اشهد"، يعني على الصحابة حين أقروا أنه بلّغ.
ومثل إقراره الجارية حين سألها أين الله ؟ قالت في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
وأما الإجماع فقد نقل إجماع السلف على علو الله تعالى غير واحد من أهل العلم.
وأما دلالة العقل على علو الله تعالى فلأن العلو صفة كمال والسفول صفة نقص والله تعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص.
وأما دلالة الفطرة على علو الله تعالى فإنه ما من داع يدعو ربه إلا وجد من قلبه ضرورة بالاتجاه إلى العلو من غير دراسة كتاب ولا تعليم معلم.
وهذا العلو الثابت لله تعالى بهذه الأدلة القطعية لا يناقض حقيقة المعية وذلك من وجوه:
الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض، ولو كانا متناقضين لم يجمع القرآن الكريم بينهما.(85/71)
وكل شيء في كتاب الله تعالى تظن فيه التعارض فيما يبدو لك فأعد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى يتبين لك. قال الله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (1).
الثاني: أن اجتماع المعية والعلو ممكن في حق المخلوق. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ولا يعد ذلك تناقضاً ومن المعلوم أن السائرين في الأرض والقمر في السماء، فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق فما بالك بالخالق المحيط بكل شيء. قال الشيخ محمد خليل الهراس ص115 في شرحه العقيدة الواسطية عند قول المؤلف: بل القمر آية من آيات الله تعالى، من أصغر مخلوقاته وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان قال: وضرب لذلك مثلاً بالقمر الذي هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغيره أينما كان قال: فإذا جاز هذا في القمر وهو من أصغر مخلوقات الله تعالى، أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علماً وقدرة والذي هو شهيد مطلع عليهم يسمعهم ويراهم ويعلم سرهم ونجواهم بل العالم كله سمواته وأرضه من العرش إلى الفرش بين يديه كأنه بندقة في يد أحدنا أفلا يجوز لمن هذا شأنه، أن يقال :إنه مع خلقه مع كونه عالياً عليهم بائناً منهم فوق عرشه؟. أ.هـ.
الوجه الثالث: أن اجتماع العلو والمعية لو فرض أنه ممتنع في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ممتنعاً في حق الخالق فإن الله لا يماثله شيء من خلقه: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص116ط ثالثة من شرح الهراس: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه. أ.هـ.
وخلاصة القول في هذا الموضوع كما يلي:-
1.أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.(85/72)
2.أنها حق على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى من غير أن تشبه معية المخلوق للمخلوق.
أنها تقتضي إحاطة الله تعالى بالخلق علماً وقدرة، وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته، إن كانت المعية عامة وتقتضي مع ذلك نصراً وتأييداً وتوفيقاً وتسديداً إن كانت خاصة.
أنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق، أو حالاً في أمكنتهم، ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه.إذا تدبرنا ما سبق علمنا أنه لا منافاة بين كون الله تعالى مع خلقه حقيقة، وكونه في السماء على عرشه حقيقة. سبحانه وبحمده لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرره الفقير إلى الله تعالى:
محمد الصالح العثيمين في 27/11/1403هـ
تم بحمد الله تعالى ـ المجلد الثالث
ويليه بمشيئة الله ـ عز وجل ـ المجلد الرابع
---
(1) سورة الأعراف، الآية: 180.
(1) سورة الأعراف، الآية: 180.
(2) سورة طه، الآية: 52.
(3) سورة الأنعام، الآية: 59.
(4) سورة هود، الآية: 6.
(5) سورة التغابن، الآية: 4.
(6) سورة الأعراف، الآية: 156.
(7) سورة غافر، الآية: 7.
(1) سورة يونس، الآية: 107.
(2) سورة الكهف، الآية: 58.
(3) السمع هو القرآن والسنة وسيمر بك هذا التعبير كثيراً فانتبه له..
(4) سورة البروج، الآيات: من 12-16.
(5) سورة الأعلى الآية: من1-5.
(1) سورة الجاثية، الآية: 24.
(2) سورة المائدة، الآية: 34.
(3) سورة المجادلة، الآية: 1.
(1) سورة الطلاق، الآية: 12.
(2) سورة الكهف، الآية: 109.
(3) سورة لقمان، الآية: 27.
(1) سورة الإسراء، الآية: 36.
(2) سورة الأعراف، الآية: 33.
(1) إحصاؤها حفظها لفظاً وفهمها معنى وتمامه أن يتعبد لله تعالى بمقتضاها..
(1) مسلم.
(2) أحمد والترمذي وحسنه البيهقي في الشعب.
(3) أبو داود.
(4) أحمد وأبو داود الترمذي.
(5) أحمد والنسائي.
(6) البخاري ومسلم.
(7) مسلم.(85/73)
(8) أحمد وأبو داود.
(9) البخاري.
(10) مسلم.
(11) أبو داود.
(12) أبو داود.
(13) البخاري ومسلم.
(14) البخاري ومسلم.
(15) الطبراني في الأوسط قال الهيثمي : رجاله ثقات.
(16) البخاري ومسلم.
(17) أبو داود والترمذي والنسائي.
(18) البخاري ومسلم.
(19) سورة مريم، الآية:47.
(1) سورة الأعراف، الآية: 180.
(2) سورة طه، الآية: 8.
(3) سورة الحشر، الآية: 24.
(4) سورة الأعراف، الآية: 180.
(1) سورة النحل، الآية: 60.
(2) سورة الأحقاف، الآية: 5.
(3) سورة النحل، الآيتان: 20-21.
(4) سورة مريم، الآية: 42.
(5) سورة الأنبياء، الآيتان: 66-67.
(6) سورة الفرقان، الآية: 58.
(7) سورة طه، الآية: 52.
(8) سورة فاطر، الآية: 44.
(1) سورة الزخرف، الآية: 80.
(2) سورة المائدة، الآية: 64.
(3) سورة آل عمران، الآية: 181.
(4) سورة الصافات، الآيات: 180-182.
(5) سورة المؤمنون، الآية: 91.
(6) سورة الأنفال، الآية: 30.
(7) سورة الطارق، الآيتان: 15-16.
(8) سورة الأعراف، الآيتان: 182-183.
(1) سورة النساء، الآية: 142.
(2) سورة البقرة، الآيتان: 14-15.
(3) سورة الأنفال، الآية: 71.
(4) سورة لقمان، الآية: 27.
(5) سورة الفجر، الآية: 22.
(6) سورة البقرة، الآية: 210.
(7) سورة آل عمران، الآية: 11.
(8) سورة الحج، الآية: 65.
(9) سورة البروج، الآية: 12.
(10) سورة البقرة، الآية: 185.
(1) سورة النساء، الآية: 136.
(1) سورة الفرقان، الآية: 58.
(2) سورة الكهف، الآية: 49.
(3) سورة فاطر، الآية: 44.
(4) سورة الشورى، الآية: 11.
(5) سورة الإخلاص، الآية: 4.
(6) سورة مريم، الآيتان: 91-92.
(7) سورة الأنبياء، الآية: 16.
(1) سورة ق، الآية: 38.
(2) سورة يس، الآية: 82.
(3) سورة الإنسان، الآية: 30.
(4) سورة الشورى، الآية: 11.
(5) سورة النحل، الآية: 17.
(6) سورة مريم، الآية: 65.
(7) سورة الإخلاص، الآية: 04
(1) سورة الشورى، الآية: 11.(85/74)
(2) سورة طه، الآية: 110.
(3) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) سورة طه، الآية: 5.
(2) سورة فصلت، الآية: 36.
(3) سورة طه، الآية: 5.
(4) سورة الفجر، الآية: 22.
(5) سورة السجدة، الآية: 22.
(1) أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد.
(1) سورة الأنعام، الآية: 155.
(2) سورة الأعراف، الآية: 158.
(3) سورة الحشر، الآية: 7.
(4) سورة النساء، الآية: 80.
(5) سورة النساء، الآية: 59.
(6) سورة المائدة، الآية: 49.
(7) سورة النحل، الآية 89.
(1) سورة الشعراء، الآيات: 193-195.
(2) سورة يوسف، الآية: 2.
(3) سورة الزخرف، الآية: 3.
(4) سورة البقرة، الآية: 75.
(5) سورة النساء، الآية: 46.
(6) سورة ص، الآية: 29.
(7) سورة الزخرف، الآية: 3.
(8) سورة النحل، الآية: 44.
(1) سورة هود، الآية: 1.
(1) سورة الإسراء، الآية: 58.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 31.
(3) سورة ص، الآية: 75.
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(2) سورة النحل، الآية: 74.
(3) سورة البقرة، الآية: 22.
(1) سورة الأعراف، الآية: 33.
(2) سورة الإسراء، الآية: 36.
(1) سورة ص، الآية: 75.
(1) سورة القصص، الآية: 65.
(2) سورة الشورى، الآية: 11.
(1) سورة الفجر، الآية: 22.
(2) سورة البقرة، الآية: 253.
(1) سورة الفاتحة، الآية: 3.
(2) سورة الكهف، الآية: 58.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 21.
(1) أصبع مثلث الهمزة والباء ففيه تسع لغات والعاشرة أصبوع كما قيل:
وهمز أنملة ثلث وثالثة التسع في أصبع واختم بأصبوع
أصبوع بضم الهمزة.
(1) سورة البقرة، الآية: 29
(2) سورة الإنسان، الآية: 6.
(3) سورة الحديد، الآية: 4.
(4) سورة المجادلة، الآية: 07.
(1) سورة الحديد، الآية: 4.
(2) سورة الحديد، الآية: 4.(85/75)
(1) كان هذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه لأنه إذا كان معلوماً أن الله تعالى معنا مع علوه لم يبق إلا أن يكون مقتضى هذه المعية أنه تعالى عالم بنا مطلع شهيد مهيمن لا أنه معنا بذاته في الأرض.
(2) سورة المجادلة، الآية: 7 .
(3) سورة التوبة، الآية: 40.
(4) سورة المجادلة، الآية: 7.
(5) سورة الحديد، الآية: 4.
(1) وقد سبق أن المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان..
(2) سورة الحديد، الآية: 4.
(1) سورة النساء، الآية: 82.
(2) سورة آل عمران، الآية: 7.
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(1) سورة البقرة، الآية: 255.
(2) سورة الأنعام، الآية: 18.
(3) سورة طه، الآية: 5.
(4) سورة الملك، الآية: 16.
(5) سورة فاطر، الآية: 10.
(6) سورة المعارج، الآية: 4.
(7) سورة آل عمران، الآية: 55.
(8) سورة النحل، الآية: 102.
(9) سورة السجدة، الآية: 5.
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(1) انظر نص المقال ص .
(1) سورة ق، الآية: 16.
(3) سورة الواقعة، الآية: 85
(3) سورة ق، الآيات: 16-18.
(4) سورة الأنعام، الآية: 61.
(5) سورة الواقعة، الآية: 85.
(1) سورة القيامة، الآية: 18.
(2) سورة هود، الآية: 74.
(3) سورة القمر، الآية: 14.
(4) سورة طه، الآية: 39.
(5) سورة يوسف، الآية: 2.
(6) سورة الشعراء، الآيات: 193ـ195.
(1) سورة البقرة، الآية: 186.
(2) سورة الفجر، الآية: 22.
(3) سورة الأنعام، الآية: 158.
(4) سورة طه، الآية: 5.
(1) سورة آل عمران، الآية: 191.
(2) سورة يس، الآية: 71.
(2) سورة الشورى، الآية: 30.
(3) سورة الروم، الآية: 41.
(4) سورة آل عمران، الآية: 182.
(5) سورة البقرة، الآية: 79.
(6) سورة ص، الآية: 75.
(7) سورة النحل، الآية: 89.
(1) سورة الفتح، الآية: 10.
(2) سورة الفتح، الآية: 18.
(3) سورة النساء، الآية: 80.
(4) سورة الفتح، الآية: 10.
(1) سورة البقرة، الآية: "245".
(1) سورة السجدة، الآية: 24.(85/76)
(2) سورة النحل، الآيتان: 120-121.
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص72جـ4.
(2) مجموع الفتاوى ص556 جـ5.
(3) سورة الحشر، الآية: 7.
(1) سورة النحل، الآية: 44.
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(1) سورة النساء، الآية: 115.
(2) سورة التوبة، الآيتان: 115-116.
(3) سورة النحل، الآية: 106.
(1) سورة النساء، الآية: 165.
(2) سورة الأنعام، الآية: 153.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 71.
(1) سورة البقرة، الآية: 186.
(1) سورة الحديد، الآية: 4.
(2) سورة النحل، الآية: 128.
(3) سورة طه، الآية: 46.
(4) سورة التوبة، الآية: 40.
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(2) سورة مريم، الآية: 65.
(3) سورة الإخلاص، الآية: 4.
(4) سورة الحديد، الآية: 4.
(5) سورة الحديد، الآية: 4.
(1) سورة الحديد، الآية: 4.
(2) سورة المجادلة، الآية: 7.
(3) سورة طه، الآية: 46.
(4) سورة التوبة، الآية: 40.
(5) سورة الأنفال، الآية: 46
(6) سورة النحل، الآية: 128
(1) سورة النحل، الآية: 128.
(1) سورة البقرة، الآية: 255.
(2) سورة الأعلى، الآية: 1.
(3) سورة النحل، الآية: 60.
(4) سورة غافر، الآية: 12.
(5) سورة الأنعام، الآية: 18.
(6) سورة الملك، الآية: 17.
(7) سورة المعارج، الآية: 4.
(8) سورة النحل، الآية: 102.
(1) سورة النساء، الآية: 82.
(2) سورة الشورى، الآية: 11.(85/77)
مجموع فتاوى و رسائل - 4
فتح رب البرية بتخليص الحموية
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن الله تعالى: بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وبين للناس جميع ما يحتاجون إليه في أصول دينهم وفروعه، فلم يدع خيراً إلا بينه وحث عليه، ولم يترك شراً إلا حذر الأمة عنه، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلهاكنهارها، فسار عليها أصحابه نيرة مضيئة، وتلقاها عنهم كذلك القرون المفضلة، حتى تجهم الجو بظلمات البدع المتنوعة التي كاد بها مبتدعوها الإسلام وأهله، وصاروا يتخبطون فيها خبط عشواء، ويبنون معتقداتهم على نسج العنكبوت وأوهن. والرب تعالى: يحمي دينه بأوليائه الذين وهبهم من الإيمان، والعلم، والحكمة ما به يصدون هؤلاء الأعداء، ويردون كيدهم في نحورهم فما قام أحد ببدعة إلا قيض الله وله الحمد من أهل السنة من يدحض بدعته، ويبطلها.
وكان في مقدمة القائمين على هؤلاء المبتدعة: شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي المولود في حران يوم الاثنين الموافق 10 ربيع الأول سنة 661 هجرية والمتوفى محبوساً ظلماً في قلعة دمشق في ذي القعدة سنة 728 هجرية.(86/1)
وله المؤلفات الكثيرة في بيان السنة، وتوطيد أركانها، وهدم البدع ومما ألفه في هذا الباب رسالة " الفتوى الحموية" التي كتبها جواباً لسؤال ورد عليه في سنة 698 هجرية من " حماة" بلد في الشام يسأل فيه عما يقوله الفقهاء وأئمة الدين في آيات الصفات وأحاديثها؟ فأجاب بجواب يقع في حوالي 83 صفحة وحصل له بذلك محنة، وبلاء فجزاه الله تعالى: عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
ولما كان فهم هذا الجواب والإحاطة به مما يشق على كثير من قرائه أحببت أن ألخص المهم منه مع زيادات تدعو الحاجة إليها وسميته " فتح رب البرية بتلخيص الحموية ".
وقد طبعته لأول مرة في سنة 1380 هجرية، وها أنا أعيد طبعه للمرة الثانية، وربما غيرت ما رأيت من المصلحة تغييره من زيادة أو حذف.
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه ونافعاً لعباده إنه جواد كريم.
الباب الأول
فيما يجب على العبد في دينه
الواجب على العبد في دينه هو اتباع ما قاله الله، وقاله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون المهديون من بعده من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وذلك أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالبينات، والهدى ، وأوجب على جميع الناس أن يؤمنوا به، ويتبعوه ظاهراً وباطناً فقال تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".(86/2)
والخلفاء الراشدون هم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في العلم النافع، والعمل الصالح، وأحق الناس بهذا الوصف هم الصحابة رضي الله عنهم، فإن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، ولم يكن الله تعالى: ليختار وهو العليم الحكيم لصحبة نبيه إلا من هم أكمل الناس إيماناً وأرجحهم عقولاً، وأقومهم عملاً، وأمضاهم عزماً، وأهداهم طريقاً، فكانوا أحق الناس أن يتبعوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أئمة الدين الذين عرفوا بالهدى والصلاح.
الباب الثاني
فيما تضمنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من بيان الحق
في أصول الدين وفروعه
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن شيئين هما: العلم النافع، والعمل الصالح كما قال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } (1).
فالهدى هو: العلم النافع. ودين الحق هو: العمل الصالح الذي اشتمل على الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلم النافع يتضمن كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها، ومعادها، وأول ما يدخل في ذلك العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله، فإن العلم بذلك أنفع العلوم. وهو زبدة الرسالة الإلهية، وخلاصة الدعوة النبوية، وبه قوام الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً.
ومن أجل هذا كان من المستحيل أن يهمله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يبينه بياناً ظاهراً ينفي الشك ويدفع الشبهة، وبيان استحالته من وجوه:
الأول: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على النور والهدى: فإن الله بعثه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأعظم النور وأبلغه ما يحصل للقلب بمعرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلابد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بينه غاية البيان.(86/3)
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته جميع ما تحتاج إليه من أمور الدين، والدنيا، حتى آداب الأكل، والشرب، والجلوس، والمنام وغير ذلك. قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً". ولا ريب أن العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، داخل تحت هذه الجملة العامة، بل هو أول ما يدخل فيها لشدة الحاجة إليه.
الثالث: أن الإيمان بالله تعالى:، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، هو أساس الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، وهو أوجب وأفضل ما اكتسبته القلوب وأدركته العقول، فكيف يهمله النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعليم ولا بيان مع أنه كان يعلّم ما هو دونه في الأهمية والفضيلة ؟!
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بربه وهو أنصحهم للخلق، وأبلغهم في البيان والفصاحة، فلا يمكن مع هذا المقتضي التام للبيان أن يترك باب الإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، ملتبساً مشتبهاً.
الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم لابد أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب لأن ضد ذلك إما السكوت وإما القول بالباطل، وكلاهما ممتنع عليهم:
أما امتناع السكوت فوجهه أن السكوت إما أن يكون عن جهل منهم بما يجب لله تعالى: من الأسماء والصفات وما يجوز عليه منها وما يمتنع، وإما أن يكون عن علم منهم بذلك ولكن كتموه، وكل منهما ممتنع:(86/4)
أما امتناع الجهل: فلأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة، ووعي وطلب للعلم، ونهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همه هو البحث في الإيمان بالله تعالى:، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ذلك علماً واعتقاداً، ولا ريب أن القرون المفضلة وأفضلهم الصحابة هم أبلغ الناس في حياة القلوب، ومحبة الخير، وتحقيق العلوم النافعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وهذه الخيرية تعم فضلهم في كل ما يقرب إلى الله من قول، وعمل، واعتقاد.
ثم لو فرضنا أنهم كانوا جاهلين بالحق في هذا الباب لكان جهل من بعدهم من باب أولى، لأن معرفة ما يثبت لله تعالى: من الأسماء والصفات، أو يُنفى عنه إنما تتلقى من طريق الرسالة، وهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأمة، وعلى هذا الفرض يلزم أن لا يكون عند أحد علم في هذا الباب وهذا ظاهر الامتناع.
وأما امتناع كتمان الحق: فلأن كل عاقل منصف عرف حال الصحابة رضي الله عنهم وحرصهم على نشر العلم النافع، وتبليغه الأمة فإنه لن يمكنه أن ينسب إليهم كتمان الحق ولا سيما في أوجب الأمور وهو معرفة الله وأسمائه وصفاته.
ثم إنه قد جاء عنهم من قول الحق في هذا الباب شيء كثير يعرفه من طلبه وتتبعه.
وأما امتناع القول بالباطل عليهم فمن وجهين:
أحدهما : أن القول بالباطل لا يمكن أن يقوم عليه دليل صحيح ، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أبعد الناس عن القول فيما لم يقم عليه دليل صحيح ، خصوصاً في أمر الإيمان بالله تعالى: ، وأمور الغيب فهم أولى الناس بامتثال قوله تعالى: : { ولا تقف ما ليس لك به علم } (1).وقوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (2) .(86/5)
ثانيهما: أن القول الباطل إما أن يكون مصدره الجهل بالحق، وإما أن يكون مصدره إرادة ضلال الخلق وكلاهما ممتنع في حق الصحابة رضي الله عنهم.
أما امتناع الجهل فقد تقدم بيانه.
وأما امتناع إرادة ضلال الخلق: فلأن إرادة ضلال الخلق قصد سيئ لا يمكن أن يصدر من الصحابة الذين عرفوا بتمام النصح للأمة ومحبة الخير لها.
ثم لو جاز عليهم سوء القصد فيما قالوه في هذا الباب لجاز عليهم سوء القصد فيما يقولون في سائر أبواب العلم والدين، فتعدم الثقة بأقوالهم وأخبارهم في هذا الباب وغيره، وهذا من أبطل الأقوال، لأنه يستلزم القدح في الشريعة كلها.
وإذا تبين أن الصحابة رضي الله عنهم لابد أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب فإنهم إما أن يكونوا قائلين ذلك بعقولهم، أو من طريق الوحي. والأول ممتنع، لأن العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله تعالى: من صفات الكمال، فتعين الثاني وهو أن يكونوا تلقوا هذه العلوم من طريق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم على هذا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الحق في أسماء الله وصفاته وهذا هو المطلوب.
الباب الثالث
في طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته
أهل السنة والجماعة: هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها ظاهراً، وباطناً في القول، والعمل، والاعتقاد.
وطريقتهم في أسماء الله وصفاته كما يأتي:
أولاً: في الإثبات: فهي إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
ثانياً: في النفي: فطريقتهم نفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أوعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده لله تعالي.(86/6)
ثالثاً: فيما لم يَردْ نفيه ولا إثباته مما تنازع الناس فيه كالجسم، والحيز والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه فلا يثبتونه ولا ينفونه لعدم ورود ذلك، وأما معناه فيستفصلون عنه، فإن أريد به باطل ينزه الله عنه ردوه، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله قبلوه.
وهذه الطريقة هي الطريقة الواجبة، وهي القول الوسط بين أهل التعطيل، وأهل التمثيل.
وقد دل على وجوبها العقل، والسمع:
فأما العقل فوجه دلالته : أن تفصيل القول فيما يجب، ويجوز، ويمتنع على الله تعالى: لا يدرك إلا بالسمع فوجب اتباع السمع في ذلك بإثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه.
وأما السمع:فمن أدلته قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (1). وقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (2). وقوله: { ولا تقف ما ليس لك به علم } (3).
فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل لأنهما من الإلحاد.
والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل.
والآية الثالثة: دلت على وجوب نفي التكييف، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته أو نفيه.
وكل ما ثبت لله من الصفات فإنها صفات كمال، يحمد عليها، ويثنى بها عليه، وليس فيها نقص بوجه من الوجوه فجميع صفات الكمال ثابتة لله تعالى: على أكمل وجه.
وكل ما نفاه الله عن نفسه فهوصفات نقص، تنافي كماله الواجب، فجميع صفات النقص ممتنعة على الله تعالى: لوجوب كماله. وما نفاه الله عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية وإثبات كمال ضدها، وذلك أن النفي لا يدل على الكمال حتى يكون متضمناً لصفة ثبوتية يحمد عليها، فإن مجرد النفي قد يكون سببه العجز فيكون نقصاً كما في قول الشاعر:
قبيله لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقد يكون سببه عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً كما لو قلت: الجدار لا يظلم.(86/7)
إذا تبين هذا فنقول: مما نفى الله عن نفسه الظلم، فالمراد به انتفاء الظلم عن الله مع ثبوت كمال ضده وهو العدل، ونفي عن نفسه اللغوب وهو التعب والإعياء فالمراد نفي اللغوب مع ثبوت كمال ضده وهو القوة وهكذا بقية ما نفاه الله عن نفسه والله أعلم.
التحريف:
التحريف لغة: التغيير.
وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظاً، أو معنى. والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى وقد لا يتغير فهذه ثلاثة أقسام:
1. تحريف لفظي يتغير معه المعنى، كتحريف بعضهم قوله تعالى: { وكلم الله موسى تكليماً } (1). إلى نصب الجلالة ليكون التكليم من موسى.
2. وتحريف لفظي لا يتغير معه المعنى، كفتح الدال من قوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } (2)وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل إذ ليس فيه غرض مقصود لفعله غالباً.
3. تحريف معنوي وهوصرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل، كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك .
التعطيل:
التعطيل لغة: التفريغ والإخلاء.
وفي الاصطلاح هنا: إنكار ما يجب لله تعالى: من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه فهو نوعان:
1. تعطيل كلي، كتعطيل الجهمية الذين ينكرون الصفات وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً.
2. تعطيل جزئي، كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم.
التكييف .
التكييف: حكاية كيفية الصفة، كقول القائل: كيفية يد الله أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا.
التمثيل، والتشبيه:
التمثيل: إثبات مثيل للشيء.
والتشبيه: إثبات مشابه له.
فالتمثيل يقتضي المماثلة، وهي المساواة من كل وجه، والتشبيه يقضي المشابهة وهي المساواة في أكثر الصفات، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
والفرق بينهما وبين التكييف من وجهين:(86/8)
أحدهما: أن التكييف أن يحكي كيفية الشيء سواء كانت مطلقة أم مقيدة بشبيه، وأما التمثيل والتشبيه فيدلان على كيفية مقيدة بالمماثل والمشابه.
ومن هذا الوجه يكون التكييف أعم، لأن كل ممثل مكيف ولا عكس.
ثانيهما: أن التكييف يختص بالصفات، أما التمثيل فيكون في القدر، والصفة، والذات، ومن هذا الوجه يكون أعم لتعلقه بالذات، والصفات والقدر.
ثم التشبيه الذي ضل به من ضل من الناس على نوعين:
أحدهما: تشبيه المخلوق بالخالق.
والثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق.
فأما تشبيه المخلوق بالخالق فمعناه: إثبات شيء للمخلوق مما يختص به الخالق من الأفعال، والحقوق، والصفات.
فالأول: كفعل من أشرك في الربوبية ممن زعم أن مع الله خالقاً.
والثاني: كفعل المشركين بأصنامهم حيث زعموا أن لها حقّاً في الألوهية فعبدوها مع الله.
والثالث: كفعل الغلاة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره مثل قول المتنبي يمدح عبد الله بن يحيى البحتري:
فكن كما شئت يا من لا شبيه له وكيف شئت فما خلق يدانيكا
وأما تشبيه الخالق بالمخلوق فمعناه: أن يثبت لله تعالى: في ذاته، أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك، كقول القائل: إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين، واستواءه على عرشه كاستوائهم ونحو ذلك.
وقد قيل: إن أول من عرف بهذا النوع هشام بن الحكم الرافضي والله أعلم.
الإلحاد:
الإلحاد في اللغة: الميل.
وفي الاصطلاح: الميل عما يجب اعتقاده، أو عمله وهو قسمان:
أحدهما: في أسماء الله.
الثاني: في آياته.
فأما الإلحاد في أسمائه:فهوالعدول عن الحق الواجب فيها وهو أربعة أنواع:
1. أن ينكر شيئاً منها، أو مما دلت عليه الصفات، كما فعل المعطلة.
2. أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه، كما فعل المشبهة.
3. أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه، لأن أسماء الله توقيفية كتسمية النصارى له "أبا " وتسمية الفلاسفة إياه " علة فاعلة " ونحو ذلك.(86/9)
4. أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كاشتقاق" اللات "من الإله و" العزى" من العزيز.
وأما الإلحاد في آياته: فيكون في الآيات الشرعية. وهي ما جاءت به الرسل من الأحكام، والأخبار، ويكون في الآيات الكونية. وهي ما خلقه الله ويخلقه في السموات والأرض.
فأما الإلحاد في الآيات الشرعية: فهو تحريفها: أو تكذيب أخبارها، أو عصيان أحكامها.
وأما الإلحاد في الآيات الكونية: فهو نسبتها إلى غير الله، أو اعتقاد شريك، أو معين له فيها.
الباب الرابع
في بيان صحة مذهب السلف وبطلان القول بتفضيل مذهب الخلف
في العلم والحكمة على مذهب السلف
سبق القول في بيان طريقة السلف وذكر الدليل على وجوب الأخذ بها، أما هنا فإننا نريد أن نبرهن على أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح وذلك من وجهين:
أحدهما: أن مذهب السلف دل عليه الكتاب، والسنة، فإن من تتبع طريقتهم بعلم، وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً ولا بد فإن الله تعالى: أنزل الكتاب ليدبر الناس آياته، ويعملوا بها إن كانت أحكاماً، ويصدقوا بها إن كانت أخباراً، ولا ريب أن أقرب الناس إلى فهمها وتصديقها والعمل بها هم السلف، لأنها جاءت بلغتهم وفي عصرهم، فلا جرم أن يكونوا أعلم الناس بها فقهاً، وأقومهم عملاً.
الثاني: أن يقال: إن الحق في هذا الباب إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله الخلف. والثاني باطل، لأنه يلزم عليه أن يكون الله ورسوله، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قد تكلموا بالباطل تصريحاً، أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة بالحق الذي يجب اعتقاده لا تصريحاً ولا ظاهراً فيكون وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، وترك الناس بلا كتاب ولا سنة خيراً لهم وأقوم، وهذا ظاهر البطلان.
هذا وقد قال بعض الأغبياء: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
ومنشأ هذا القول أمران:(86/10)
أحدهما: اعتقاد قائله- بسبب ما عنده من الشبهات الفاسدة - أن الله تعالى: ليس له في نفس الأمر صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص.
الثاني: اعتقاده أن طريقة السلف هي الإيمان بمجرد ألفاظ نصوص الصفات من غير إثبات معنى لها، فيبقى الأمر دائراً بين أن نؤمن بألفاظ جوفاء لا معنى لها وهذه طريقة السلف على زعمه- و بين أن نثبت للنصوص معاني تخالف ظاهرها الدال على إثبات الصفات لله وهذه هي طريقة الخلف، ولا ريب أن إثبات معاني النصوص أبلغ في العلم والحكمة من إثبات ألفاظ جوفاء ليس لها معنى، ومن ثمَ فضل هذا الغبي طريقة الخلف في العلم والحكمة على طريقة السلف.
وقول هذا الغبي يتضمن حقاً وباطلاً: فأما الحق فقوله: " إن مذهب السلف أسلم" وأما الباطل فقوله: " إن مذهب الخلف أعلم وأحكم " وبيان بطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنه يناقض قوله: ( إن طريقة السلف أسلم) فإن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، وهو لازم لهذا الغبي لزوماً لا محيد عنه.
الوجه الثاني: أن اعتقاده أن الله ليس له صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص اعتقاد باطل، لأنه مبني على شبهات فاسدة (*) ولأن الله تعالى: قد ثبتت له صفات الكمال عقلاً، وفطرة، وشرعاً:
فأما دلالة العقل على ثبوت صفات الكمال لله فوجهه أن يقال: إن كل موجود في الخارج فلابد أن يكون له صفة إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، وبذلك استدل الله تعالى: على بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بصفات النقص والعجز بكونها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر، ولا تخلق، ولا تنصر فإذا بطل الثاني تعين الأول وهو ثبوت صفات الكمال لله.(86/11)
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، والله سبحانه هو الذي أعطاه إياها فمعطي الكمال أولى به.
وأما دلالة الفطرة على ثبوت صفات الكمال لله فلأن النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله، وتعظيمه، وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته.
وأما دلالة الشرع على ثبوت صفات الكمال لله:فأكثر من أن تحصر مثل قوله تعالى: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } (1)وقوله: { وله المثل الأعلى في السموات والأرض } (2)وقوله تعالى: { الله لا إله إلاهو الحي القيوم } (3).إلى قوله: { وهو العلي العظيم } .ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً، بصيراً، قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
الوجه الثالث: أن اعتقاده أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ النصوص بغير إثبات معناها، اعتقاد باطل كذب على السلف، فإن السلف أعلم الأمة بنصوص الصفات لفظاً ومعنى، وأبلغهم في إثبات معانيها اللائقة بالله تعالى: على حسب مراد الله ورسوله.
الوجه الرابع: أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان. أما أولئك الخلف فقد تلقوا ما عندهم من المجوس، والمشركين وضلال اليهود، واليونان(*). فكيف يكون ورثة المجوس، والمشركين، واليهود، واليونان، وأفراخهم، أعلم، وأحكم في أسماء الله وصفاته من ورثة الأنبياء والمرسلين؟!(86/12)
الوجه الخامس: أن هؤلاء الخلف الذين فضل هذا الغبي طريقتهم في العلم والحكمة على طريقة السلف كانوا حيارى مضطربين بسبب إعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، والتماسهم علم معرفة الله تعالى: ممن لا يعرفه بإقراره على نفسه وشهادة الأمة عليه حتى قال الرازي وهو من رؤسائهم مبيناً ما ينتهي إليه أمرهم:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } (1). { إليه يصعد الكلم الطيب } (2)واقرأ في النفي: { ليس كمثله شيء } (3) { ولا يحيطون به علماً } (4) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي أ هـ كلامه.
فكيف تكون طريقة هؤلاء الحيارى الذين أقروا على أنفسهم بالضلال والحيرة أعلم، وأحكم من طريقة السلف الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، والذين أدركوا من حقائق الإيمان والعلوم ما لو جمع إليه ما حصل لغيرهم لاستحيا من يطلب المقارنة فكيف بالحكم بتفضيل غيرهم عليهم ؟ !
وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم.
الباب الخامس
في حكاية بعض المتأخرين لمذهب السلف
قال بعض المتأخرين: " مذهب السلف في الصفات إمرار النصوص على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد". أهـ.
وهذا القول على إطلاقه فيه نظر فإن لفظ " ظاهر" مجمل يحتاج إلى تفصيل:(86/13)
فإن أريد بالظاهر ما يظهر من النصوص من الصفات التي تليق بالله من غير تشبيه فهذا مراد قطعاً، ومن قال: إنه غير مراد فهو ضال إن اعتقده في نفسه، وكاذب أو مخطئ إن نسبه إلى السلف.
وإن أريد بالظاهر ما قد يظهر لبعض الناس من أن ظاهرها تشبيه الله بخلقه، فهذا غير مراد قطعاً، وليس هو ظاهر النصوص لأن مشابهة الله لخلقه أمر مستحيل، ولا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة أمراً مستحيلاً، ومن ظن أن هذا هو ظاهرها فإنه يبين له أن ظنه خطأ، وأن ظاهرها بل صريحها إثبات صفات تليق بالله وتختص به.
وبهذا التفصيل نكون قد أعطينا النصوص حقها لفظاً ومعنى والله أعلم .
الباب السادس
في لبس الحق بالباطل من بعض المتأخرين
قال بعض المتأخرين: " إنه لا فرق بين مذهب السلف ومذهب المؤولين في نصوص الصفات فإن الكل اتفقوا على أن الآيات والأحاديث لا تدل على صفات الله، لكن المتأولون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إليه وعينوا المراد، وأما السلف فأمسكوا عن التعيين لجواز أن يكون المراد غيره". أ هـ.
هذا كذب صريح على السلف فما منهم أحد نفى دلالة النصوص على صفات الله التي تليق به، بل كلامهم يدل على تقرير جنس الصفات في الجملة، والإنكار على من نفاها، أو شبه الله بخلقه كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: " من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً". أهـ وكلامهم هذا كثير.
ومما يدل على إثبات السلف للصفات، وأنهم ليسوا على وفاق مع أولئك المتأولين: أن أولئك المتأولة كانوا خصوماً للسلف، وكانوا يرمونهم بالتشبيه، والتجسيم، لإثباتهم الصفات، ولو كان السلف يوافقونهم في عدم دلالة النصوص على صفات الله لم يجعلوهم خصوماً لهم، ويرموهم بالتشبيه والتجسيم وهذا ظاهر. ولله الحمد.
الباب السابع
في أقوال السلف المأثورة في الصفات(86/14)
اشتهر عن السلف كلمات عامة وأخرى خاصة في آيات الصفات وأحاديثها فمن الكلمات العامة قولهم: " أمروها كما جاءت بلا كيف".
روي هذا عن مكحول، والزهري، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي.
وفي هذه العبارة رد على المعطلة والمشبهة، ففي قولهم: " أمروها كما جاءت" رد على المعطلة. وفي قولهم: " بلا كيف" رد على المشبهة.
وفيها أيضاً دليل على أن السلف كانوا يثبتون لنصوص الصفات المعاني الصحيحة التي تليق بالله تدل على ذلك من وجهين:
الأول: قولهم: "أمروها كما جاءت". فإن معناها إبقاء دلالتها على ما جاءت به من المعاني، ولا ريب أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة بالله تعالى: ولو كانوا لا يعتقدون لها معنى لقالوا: " أمروا لفظها ولا تتعرضوا لمعناها ". ونحو ذلك.
الثاني: قولهم: " بلا كيف " فإنه ظاهر في إثبات حقيقة المعنى، لأنهم لو كانوا لا يعتقدون ثبوته ما احتاجوا إلى نفي كيفيته، فإن غير الثابت لا وجود له في نفسه، فنفي كيفيته من لغو القول.
فإن قيل: ما الجواب عما قاله الإمام أحمد في حديث النزول وشبهه: " نؤمن بها ونصدق، لا كيف، ولا معنى".
قلنا: الجواب على ذلك: أن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد في كلامه هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم، وحرفوا به نصوص الكتاب والسنة عن ظاهرها إلى معانٍ تخالفه.
ويدل على ما ذكرنا أنه نفى المعنى، ونفى الكيفية، ليتضمن كلامه الرد على كلتا الطائفتين المبتدعتين: طائفة المعطلة، وطائفة المشبهة.
ويدل عليه أيضاًما قاله المؤلف في قول محمد بن الحسن:" اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير،ولا وصف،ولا تشبيه".أ هـ. .
قال المؤلف: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة، والتابعون من الإثبات. أ هـ.(86/15)
فهذا دليل على أن تفسير آيات الصفات وأحاديثها على نوعين:
الأول: تفسير مقبول: وهو ما كان عليه الصحابة والتابعون من إثبات المعنى اللائق بالله عز وجل الموافق لظاهر الكتاب والسنة.
الثاني: تفسير غير مقبول: وهو ما كان بخلاف ذلك.
وهذا المعنى منه مقبول ومنه مردود على ما تقدم.
فإن قيل: هل لصفات الله كيفية؟
فالجواب: نعم! لها كيفية لكنها مجهولة لنا، لأن الشيء إنما تعلم كيفيته بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق غير موجودة في صفات الله. وبهذا عرف أن قول السلف: " بلا كيف " معناه بلا تكييف لم يريدوا نفي الكيفية مطلقاً لأن هذا تعطيل محض. والله أعلم.
الباب الثامن
في علو الله تعالى: وأدلة العلو
علو الله تعالى: من صفاته الذاتية، وينقسم إلى قسمين:
علو ذات، وعلو صفات.
فأما علو الصفات فمعناه: أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى: أعلاها وأكملها سواء كانت من صفات المجد والقهر، أم من صفات الجمال والقدر.
وأما علو الذات فمعناه: أن الله بذاته فوق جميع خلقه، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
فأما الكتاب والسنة فإنهما مملوءان بما هو صريح، أو ظاهر في إثبات علو الله تعالى: بذاته فوق خلقه وقد تنوعت دلالتهما على ذلك:
فتارة بذكر العلو، والفوقية ، والاستواء على العرش ، وكونه في السماء مثل قوله تعالى: : { وهو العلي العظيم } (1). { سبح اسم ربك الأعلى } (2) . { يخافون ربهم من فوقهم } (3) { الرحمن على العرش استوى } (4). { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } (5). وقوله صلى الله عليه وسلم :"والعرش فوق ذلك والله فوق العرش". "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".(86/16)
وتارة بصعود الأشياء،وعروجها ،ورفعها إليه مثل قوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب } (6). { تعرج الملائكة والروح إليه } (7) { بل رفعه الله إليه } (8). وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصعد إلى الله إلا الطيب" " فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم " " يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل".
وتارة بنزول الأشياء منه ونحو ذلك مثل قوله تعالى: { تنزيل من رب العالمين } (1). { قل نزله روح القدس من ربك } (2).وقوله صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر".
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم في علو الله تعالى: على خلقه تواتراً يوجب علماً ضرورياً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها عن ربه وتلقتها أمته عنه.
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وأئمة أهل السنة على أن الله تعالى: فوق سمواته على عرشه، وكلامهم مملوء بذلك نصّاً وظاهراً قال الأوزاعي: " كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى: ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات). قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم النافي لصفات الله وعلوه ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف مذهب جهم.
ولم يقل أحد من السلف قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه، بل قد أشار إليه أعلم الخلق به في حجة الوداع يوم عرفة في ذلك المجمع العظيم حينما رفع إصبعه إلى السماء يقول: " اللهم اشهد"، يشهد ربه على إقرار أمته بإبلاغه الرسالة صلوات الله وسلامه عليه.
وأما العقل: فإن كل عقل صريح يدل على وجوب علو الله بذاته فوق خلقه من وجهين:(86/17)
الأول: أن العلو صفة كمال ، والله تعالى: قد وجب له الكمال المطلق من جميع الوجوه فلزم ثبوت العلو له تبارك وتعالى:.
الثاني: أن العلو ضده السُفْل، والسفل صفة نقص، والله تعالى: منزه عن جميع صفات النقص، فلزم تنزيهه عن السُفْل، وثبوت ضده له وهو العلو.
وأما الفطرة: فإن الله تعالى: فطر الخلق كلهم العرب، والعجم حتى البهائم على الإيمان به وبعلوه فما من عبد يتوجه إلى ربه بدعاء أو عبادة إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو وارتفاع قلبه إلى السماء لا يلتفت إلى غيره يميناً، ولا شمالاً، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين والأهواء.
وكان أبو المعالي الجويني يقول في مجلسه: " كان الله ولا شيء وهو الآن على ما كان عليه" (يعرض بإنكار استواء الله على عرشه) فقال أبو جعفر الهمداني: " دعنا من ذكر العرش- أي لأنه ثبت بالسمع - وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارف قط: يا الله. إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة، ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا؟ ".
فصرخ أبو المعالي ولطم رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني.
فهذه الأدلة الخمسة كلها تطابقت على إثبات علو الله بذاته فوق خلقه.
فأما قوله تعالى: : { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } (1) . وقوله: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } (2) . فليس معناهما أن الله في الأرض كما أنه في السماء، ومن توهم هذا، أو نقله عن أحد من السلف فهو مخطئ في وهمه وكاذب في نقله.
وإنما معنى الآية الأولى: أن الله مألوه في السموات وفي الأرض، كل من فيهما فإنه يتأله إليه ويعبده وقيل:معناها أن الله في السموات ثم ابتدأ فقال: { وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } (3). أي: إن الله يعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس علوه فوق السموات بمانع من علمه سركم وجهركم في الأرض.(86/18)
وأما الآية الثانية فمعناها: أن الله إله في السماء، وإله في الأرض، فألوهيته ثابتة فيهما، وإن كان هو في السماء، ونظير ذلك قول القائل: فلان أمير في مكة، وأمير في المدينة. أي: إن إمارته ثابتة في البلدين، وإن كان هو في أحدهما وهذا تعبير صحيح لغة وعرفاً والله أعلم.
الباب التاسع
في الجهة
نريد بهذه الترجمة أن نبين هل الجهة ثابتة لله تعالى:، أو منتفية عنه؟
والتحقيق في هذا: أنه لا يصح إطلاق الجهة على الله تعالى: لا نفياً، ولا إثباتاً، بل لابد من التفصيل:
فإن أريد بها جهة سُفل، فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه لأن الله تعالى: قد وجب له العلو المطلق بذاته، وصفاته.
وإن أريد بها جهة علو تحيط به، فهي منتفية عن الله، وممتنعة عليه أيضاً فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟
{ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى: عما يشركون } (1).
وإن أريد بها جهة علو تليق بعظمته وجلاله من غير أحاطة به، فهي حق ثابت لله تعالى: واجبة له. قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلاني في كتابه " الغنية ": " وهو سبحانه بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك". أ هـ.
ومعنى قوله: " محتو على الملك " أنه محيط بالملك تبارك وتعالى:.
فإن قيل : إذا نفيتم أن يكون شيء من مخلوقات الله محيطاً به ، فما الجواب عما أثبته الله لنفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه المسلمون من أن الله سبحانه في السماء؟
فالجواب: أن كون الله في السماء لا يقتضي أن السماء تحيط به، ومن قال ذلك فهو ضال إن قاله من عنده وكاذب أو مخطئ إن نسبه إلى غيره فإن كل من عرف عظمة الله تعالى: وإحاطته بكل شيء، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، وأنه يطوي السماء كطي السجل للكتب فإنه لن يخطر بباله أن شيئاً من مخلوقاته يمكن أن يحيط به.(86/19)
وعلى هذا فيخرج كونه ( في السماء ) على أحد معنيين:
الأول: أن يراد بالسماء العلو فيكون المعنى أن الله في العلو أي في جهة العلو، والسماء بمعنى العلو ثابت في القرآن قال الله تعالى: { وينزل عليكم من السماء ماء } (2) . أي من العلو لا من السماء نفسها، لأن المطر ينزل من السحاب.
الثاني: أن تجعل " في " بمعنى " على " فيكون المعنى أن الله على السماء وقد جاءت "في" بمعنى " على"في مواضع كثيرة من القرآن وغيره قال الله تعالى: { فسيحوا في الأرض } (1) . أي على الأرض.
الباب العاشر
في استواء الله على عرشه
الاستواء في اللغة: يطلق على معان تدور على الكمال والانتهاء، وقد ورد في القرآن على ثلاثة وجوه:
1. مطلق كقوله تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى } (1). أي كمل.
2. ومقيد بـ" إلى " كقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء } (2)أي قصد بإرادة تامة.
3. ومقيد بـ " على " كقوله تعالى: { لتستووا على ظهوره } (3)ومعناه حينئذ العلو والاستقرار.
فاستواء الله على عرشه معناه علوه واستقراره عليه، علوًّا واستقراراً يليق بجلاله وعظمته، وهو من صفاته الفعلية التي دل عليها الكتاب، والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (4).
ومن أدلة السنة: ما رواه الخلال في كتاب السنة بإسناد صحيح على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه "(5).
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: "إنه مذكور في كل كتاب أنزله الله على كل نبي" أهـ.
وقد أجمع أهل السنة على أن الله تعالى: فوق عرشه، ولم يقل أحد منهم : إنه ليس على العرش، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم ذلك لا نصًّا ولا ظاهراً.(86/20)
وقال رجل للإمام مالك رحمه الله: يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } (6)كيف استوى؟ ! فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ( العرق ) ثم قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً " ثم أمر به أن يخرج.
وقد روي نحو هذا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك.
فقوله: " الاستواء غير مجهول" أي غير مجهول المعنى في اللغة فإن معناه العلو والاستقرار.
وقوله: " والكيف غير معقول" معناه أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا، وإنما طريق ذلك السمع، ولم يرد السمع بذكر الكيفية فإذا انتفى عنها الدليلان العقلي، والسمعي كانت مجهولة يجب الكف عنها.
وقوله: " الإيمان به واجب"، معناه: أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب، لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه والإيمان به.
وقوله: " والسؤال عنه بدعة" معناه أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأنه لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهذا الذي ذكره الإمام مالك رحمه الله في الاستواء ميزان عام لجميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن معناها معلوم لنا، وأما كيفيتها فمجهولة لنا، لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبر عن كيفيتها ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فإذا كنا نثبت ذات الله تعالى: من غير تكييف لها، فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف.
قال بعض أهل العلم: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل.
وقال آخر: إذا قال لك الجهمي في صفة من صفات الله : كيف هي؟
فقل له: كيف هو بذاته؟ فإنه لا يمكن أن يكيف ذاته فقل له: إذا كان لا يمكن تكييف ذاته فكذلك لا يمكن تكييف صفاته، لأن الصفات تابعة للموصوف.(86/21)
فإن قال قائل: إذا كان استواء الله على عرشه بمعنى العلو عليه لزم من ذلك أن يكون أكبر من العرش، أو أصغر، أو مساوياً وهذا يقتضي أن يكون جسماً، والجسم ممتنع على الله.
فجوابه أن يقال: لا ريب أن الله أكبر من العرش، وأكبر من كل شيء، ولا يلزم على هذا القول شيء من اللوازم الباطلة التي ينزه الله عنها.
وأما قوله: " إن الجسم ممتنع على الله" فجوابه: أن الكلام في الجسم وإطلاقه على الله نفياً أو إثباتاً من البدع التي لم ترد في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف وهو من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى تفصيل:
فإن أريد بالجسم الشيء المحدث المركب، المفتقر كل جزء منه إلى الآخر، فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم.
وإن أريد بالجسم ما يقوم بنفسه، ويتصف بما يليق به، فهذا غير ممتنع على الله تعالى:، فإن الله قائم بنفسه، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به.
لكن لما كان لفظ الجسم يحتمل ما هو حق، وباطل بالنسبة إلى الله صار إطلاق لفظه نفياً، أو إثباتاً ممتنعاً على الله.
وهذه اللوازم التي يذكرها أهل البدع ليتوصلوا بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال على نوعين:
الأول: لوازم صحيحة لا تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه حق يجب القول بها وبيان أنها غير ممتنعة على الله.
الثاني: لوازم فاسدة تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه باطلة يجب نفيها، وأن يبين أنها غير لازمة لنصوص الكتاب، والسنة، لأن الكتاب حق ومعانيها حق، والحق لا يمكن أن يلزم منه باطل أبداً.
فإن قال قائل: إذا فسرتم استواء الله على عرشه بعلوه عليه، أوهم ذلك أن يكون الله محتاجاً إلى العرش ليقلّه.
فالجواب: أن كل من عرف عظمة الله تعالى:، وكمال قدرته، وقوته، وغناه فإنه لن يخطر بباله أن يكون الله محتاجاً إلى العرش ليقله، كيف والعرش وغيره من المخلوقات مفتقر إلى الله، ومضطر إليه لا قوام له إلا به، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره؟!(86/22)
فإن قيل: هل يصح تفسير استواء الله على عرشه باستيلائه عليه كما فسره به المعطلة فراراً من هذه اللوازم؟
فالجواب: أنه لا يصح وذلك لوجوه منها:
1- إن هذه اللوازم إن كانت حقًّا فإنها لا تمنع من تفسير الاستواء بمعناه الحقيقي، وإن كانت باطلاً فإنه لا يمكن أن تكون من لوازم نصوص الكتاب والسنة، ومن ظن أنها لازمة لها فهو ضال.
2- أن تفسيره بالاستيلاء يلزم عليه لوازم باطلة لا يمكن دفعها كمخالفة إجماع السلف، وجواز أن يقال: إن الله مستو على الأرض ونحوها مما ينزه الله عنه، وكون الله تعالى: غير مستولٍ على العرش حين خلق السموات والأرض.
3- أن تفسيره بالاستيلاء غير معروف في اللغة فهو كذب عليها والقرآن نزل بلغة العرب فلا يمكن أن نفسره بما لا يعرفونه في لغتهم.
4- أن الذين فسروه بالاستيلاء كانوا مقرين بأن هذا معنى مجازي والمعنى المجازي لا يقبل إلا بعد تمام أربعة أمور:
الأول: الدليل الصحيح المتقضي لصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه.
الثاني: احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه من حيث اللغة.
الثالث: احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه في ذلك السياق المعين، فإنه لا يلزم من احتمال اللفظ لمعنى من المعاني من حيث الجملة أن يكون محتملاً له في كل سياق، لأن قرائن الألفاظ والأحوال قد تمنع بعض المعاني التي يحتملها اللفظ في الجملة.
الرابع: أن يبين الدليل على أن المراد من المعاني المجازية هو ما ادعاه لأنه يجوز أن يكون المراد غيره فلابد من دليل على التعيين والله أعلم.
فصل
والعرش في اللغة:سرير الملك قال الله تعالى: عن يوسف: { ورفع أبويه على العرش } (1) وقال عن ملكة سبأ: { ولها عرش عظيم } (2) .(86/23)
وأما عرش الرحمن الذي استوى عليه: فهو عرش عظيم محيط بالمخلوقات، وهو أعلاها، وأكبرها كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
قال المؤلف رحمه الله في الرسالة العرشية: " والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في المسند وغيرهم" أ هـ.
والكرسي في اللغة: السرير وما يقعد عليه.
أما الكرسي الذي أضافه الله إلى نفسه فهو موضع قدميه تعالى:، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل". رواه الحاكم في المستدرك، وقال: إنه على شرط الشيخين وقد روي مرفوعاً. والصواب أنه موقوف.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما في الكرسي هو المشهور بين أهل السنة، وهو المحفوظ عنه، وما روي عنه أنه العلم فغير محفوظ، وكذلك ما روي عن الحسن أنه العرش ضعيف لا يصح عنه قاله ابن كثير رحمه الله تعالى:.
الباب الحادي عشر
في المعية
أثبت الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مع خلقه.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } (1). { وأن الله مع المؤمنين } (2) { إنني معكما } (3).
ومن أدلة السنة: قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت". وقوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر وهما في الغار: " لا تحزن إن الله معنا".
وقد أجمع على ذلك سلف الأمة، وأئمتها.
والمعية في اللغة: مطلق المقارنة والمصاحبة لكن مقتضاها ولازمها يختلف باختلاف الإضافة وقرائن السياق والأحوال:
فتارة تقتضي اختلاطاً، كما يقال: جعلت الماء مع اللبن.
وتارة تقتضي تهديداً وإنذاراً، كما يقول المؤدب للجاني: اذهب فأنا معك.(86/24)
وتارة تقتضي نصراً وتأييداً، كمن يقول لمن يستغيث به: أنا معك، أنا معك إلى غير ذلك من اللوازم والمقتضيات المختلفة باختلاف الإضافة والقرائن والأحوال، ومثل هذا اللفظ الذي يتفق في أصل معناه ويختلف مقتضاه وحكمه باختلاف الإضافات والقرائن يسميه بعض الناس مشككاً لتشكيك المستمع هل هو من قبيل المشترك الذي اتحد لفظه واختلف معناه نظراً لاختلاف مقتضاه وحكمه؟ أو هو من قبيل المتواطئ الذي اتحد لفظه ومعناه نظراً لأصل المعنى؟
والتحقيق أنه نوع من المتواطئ، لأن واضع اللغة وضع هذا اللفظ بإزاء القدر المشترك، واختلاف حكمه ومقتضاه إنما هو بحسب الإضافات والقرائن لا بأصل الوضع، لكن لما كانت نوعاً خاصاً من المواطأة ؟ فلا بأس بتخصيصها بلفظ، إذا تبين ذلك فقد اتضح أن لفظ المعية المضاف إلى الله مستعمل في حقيقته لا في مجازه، غير أن معية الله لخلقه معية تليق به، فليست كمعية المخلوق للمخلوق بل هي أعلى، وأكمل، ولا يلحقها من اللوازم والخصائص ما يلحق معية المخلوق للمخلوق.
هذا وقد فسر بعض السلف معية الله لخلقه: بعلمه بهم، وهذا تفسير للمعية ببعض لوازمها، وغرضهم به الرد على حلولية الجهمية الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان واستدلوا بنصوص المعية، فبين هؤلاء السلف أنه لا يراد من المعية كون الله معنا بذاته، فإن هذا محال عقلاً، وشرعاً، لأنه ينافي ما وجب من علوه ويقتضي أن تحيط به مخلوقاته وهو محال.
أقسام معية الله لخلقه:
تنقسم معية الله لخلقه إلى قسمين: عامة، وخاصة:
فالعامة هي التي تقتضي الإحاطة بجميع الخلق من مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر في العلم، والقدرة، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني الربوبية.
وهذه المعية توجب لمن آمن بها كمال المراقبة لله عز وجل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت".(86/25)
ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } (1) { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } (2) .
وأما الخاصة فهي التي تقتضي النصر والتأييد لمن أضيفت له وهي مختصة بمن يستحق ذلك من الرسل وأتباعهم.
وهذه المعية توجب لمن آمن بها كمال الثبات والقوة.
ومن أمثلتها قوله تعالى: { وأن الله مع المؤمنين } (3) { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } (4) { إنني معكما أسمع وأرى } (5). وقوله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: { لا تحزن إن الله معنا } (6).
فإن قيل: هل المعية من صفات الله الذاتية أو من صفاته الفعلية؟
فالجواب: أن المعية العامة من الصفات الذاتية، لأن مقتضياتها ثابتة لله تعالى: أزلاً وأبداً، وأما المعية الخاصة فهي من الصفات الفعلية، لأن مقتضياتها تابعة لأسبابها توجد بوجودها وتنتفي بانتفائها.
الباب الثاني عشر
في الجمع بين نصوص علو الله بذاته ومعيته
قبل أن نذكر الجمع بينهما نحب أن نقدم قاعدة نافعة أشار إليها المؤلف رحمه الله في كتاب( العقل والنقل ) ص 43-44 ج 1 وخلاصتها:
أنه إذا قيل بالتعارض بين دليلين فإما أن يكونا قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما قطعياً والآخر ظنياً فهذه ثلاثة أقسام:
الأول: القطعيان: وهما ما يقطع العقل بثبوت مدلولهما، فالتعارض بينهما محال، لأن القول بجواز تعارضهما يستلزم إما وجوب ارتفاع أحدهما وهو محال، لأن القطعي واجب الثبوت، وإما ثبوت كل منهما مع التعارض وهو محال أيضاً، لأنه جمع بين النقيضين.
فإن ظن التعارض بينهما فإما أن لا يكونا قطعيين، وإما أن لا يكون بينهما تعارض بحيث يحمل أحدهما على وجه، والثاني على وجه آخر، ولا يرد على ذلك ما يثبت نسخه من نصوص الكتاب والسنة القطعية، لأن الدليل المنسوخ غير قائم فلا معارض للناسخ.(86/26)
الثاني: أن يكونا ظنيين إما من حيث الدلالة، وإما من حيث الثبوت فيطلب الترجيح بينهما ثم يقدم الراجح.
الثالث: أن يكون أحدهما قطعياً، والآخر ظنياً، فيقدم القطعي باتفاق العقلاء، لأن اليقين لا يدفع بالظن.
إذا تبين هذا فنقول: لا ريب أن النصوص قد جاءت بإثبات علو الله بذاته فوق خلقه وأنه معهم، وكل منهما قطعي الثبوت والدلالة وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } (1).
ففي هذه الآية أثبت الله تعالى: استواءه على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأثبت أنه معنا وليس بينهما تعارض فإن الجمع بينهما ممكن وبيان إمكانه من وجوه:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما فيمتنع أن يكون اجتماعهما محالاً لأن النصوص لا تدل على محال ومن ظن دلالتها عليه فقد أخطأ فليعد النظر مرة بعد أخرى، مستعيناً بالله، سائلاً منه الهداية والتوفيق، باذلاً جهده في الوصول إلى معرفة الحق فإن تبين له الحق فليحمد الله على ذلك، وإلا فليكل الأمر إلى عالمه وليقل: " آمنا به كل من عند ربنا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".
الثاني: أنه لا منافاة بين معنى العلو والمعية، فإن المعية لا تستلزم الاختلاط والحلول في المكان كما تقدم فقد يكون الشيء عالياً بذاته وتضاف إليه المعية كما يقال: " ما زلنا نسير والقمر معنا " مع أن القمر في السماء، ولا يعد ذلك تناقضاً لا في اللفظ ولا في المعنى، فإن المخاطب يعرف معنى المعية هنا، وأنه لا يمكن أن يكون مقتضاها أن القمر في الأرض، فإذا جاز اجتماع العلو والمعية في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى.(86/27)
الثالث: أنه لو فرض أن بين معنى العلو والمعية تناقضاً وتعارضاً في حق المخلوق فإن ذلك لا يلزم في حق الخالق، لأن الله تعالى: ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فلا تقاس معيته بمعية خلقه، ولا تقتضي معيته لهم أن يكون مختلطاً بهم أو حالاً في أمكنتهم لوجوب علوه بذاته، ولأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته بل هو بكل شيء محيط.
وبنحو هذه الوجوه يمكن الجمع بين ما ثبت من علو الله بذاته وكونه قبل المصلي، فيقال: الجمع بينهما من وجوه:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما والنصوص لا تأتي بالمحال.
الثاني: أنه لا منافاة بين معنى العلو والمقابلة، فقد يكون الشيء عالياً وهو مقابل، لأن المقابلة لا تستلزم المحاذاة، ألا ترى أن الرجل ينظر إلى الشمس حال بزوغها فيقول: إنها قبل وجهي. مع أنها في السماء، ولا يعد ذلك تناقضاً في اللفظ ولا في المعنى، فإذا جاز هذا في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى.
الثالث: أنه لو فرض أن بين معنى العلو والمقابلة تناقضاً وتعارضاً في حق المخلوق فإن ذلك لا يلزم في حق الخالق، لأن الله تعالى: ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فلا يقتضي كونه قبل وجه المصلي أن يكون في المكان أو الحائط الذي يصلي إليه. لوجوب علوه بذاته، ولأنه لا يحيط به شيء من المخلوقات، بل هو بكل شيء محيط.
الباب الثالث عشر
في نزول الله إلى السماء الدنيا
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له".
وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثمان وعشرين نفساً من الصحابة رضي الله عنهم، واتفق أهل السنة على تلقي ذلك بالقبول.
ونزوله تعالى: إلى السماء الدنيا من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وحكمته وهو نزول حقيقي يليق بجلاله وعظمته.(86/28)
ولا يصح تحريف معناه إلى نزول أمره، أو رحمته، أو ملك من ملائكته، فإن هذا باطل لوجوه:
الأول: أنه خلاف ظاهر الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف النزول إلى الله، والأصل أن الشيء إنما يضاف إلى من وقع منه أو قام به فإذا صرف إلى غيره كان ذلك تحريفاً يخالف الأصل.
الثاني: أن تفسيره بذلك يقتضي أن يكون في الكلام شيء محذوف والأصل عدم الحذف.
الثالث: أن نزول أمره أو رحمته لا يختص بهذا الجزء من الليل، بل أمره ورحمته ينزلان كل وقت.
فإن قيل: المراد نزول أمر خاص، ورحمة خاصة وهذا لا يلزم أن يكون كل وقت.
فالجواب: أنه لو فرض صحة هذا التقدير والتأويل، فإن الحديث يدل على أن منتهى نزول هذا الشيء هو السماء الدنيا وأي فائدة لنا في نزول رحمة إلى السماء الدنيا حتى يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها ؟!
الرابع: أن الحديث دل على أن الذي ينزل يقول:" من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". ولا يمكن أن يقول ذلك أحد سوى الله تعالى:.
فصل
في الجمع بين نصوص علو الله تعالى: بذاته، ونزوله إلى السماء الدنيا
علو الله تعالى: من صفاته الذاتية التي لا يمكن أن ينفك عنها، وهو لا ينافي ما جاءت به النصوص من نزوله إلى السماء الدنيا والجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن النصوص جمعت بينهما، والنصوص لا تأتي بالمحال كما تقدم.
الثاني: أن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فليس نزوله كنزول المخلوقين حتى يقال: إنه ينافي علوه ويناقضه والله أعلم.
الباب الرابع عشر
في إثبات الوجه لله تعالى:
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله وجهاً حقيقياً يليق به موصوفاً بالجلال والإكرام. وقد دل على ثبوته لله الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (1) .
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور: " وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك".(86/29)
فوجه الله تعالى: من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به.
ولا يصح تحريف معناه إلى الثواب لوجوه منها:
أولاً: أنه خلاف ظاهر النص، وما كان مخالفاً لظاهر النص فإنه يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك.
ثانياً: أن هذا الوجه ورد في النصوص مضافاً إلى الله تعالى: والمضاف إلى الله: إما أن يكون شيئاً قائماً بنفسه، وإما أن يكون غير قائم بنفسه، فإن كان قائماً بنفسه فهو مخلوق وليس من صفاته كبيت الله، وناقة الله، وإنما أضيف إليه إما للتشريف، وإما من باب إضافة المملوك والمخلوق إلى مالكه وخالقه. وإن كان غير قائم بنفسه فهو من صفات الله، وليس بمخلوق كعلم الله، وقدرته، وعزته، وكلامه، ويده، وعينه ونحو ذلك، والوجه بلا ريب من هذا النوع فإضافته إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
ثالثاً: أن الثواب مخلوق بائن عن الله تعالى:، والوجه صفة من صفات الله غير مخلوق ولا بائن، فكيف يفسر هذا بهذا؟!
رابعاً: أن ذلك الوجه وصف في النصوص بالجلال والإكرام، وبأن له نوراً يستعاذ به، وسبحات تحرق ما انتهى إليه بصر الله من خلقه، وكل هذه الأوصاف تمنع أن يكون المراد به الثواب. والله أعلم.
الباب الخامس عشر
في يدي الله عز وجل
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى: يدين، اثنتين، مبسوطتين بالعطاء والنعم. وهما من صفاته الذاتية الثابتة له حقيقة على الوجه اللائق به.
وقد دل على ثبوتهما الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (1).
ومن أدلة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه".
وقد أجمع أهل السنة على أنهما يدان حقيقيتان لا تشبهان أيدي المخلوقين، ولا يصح تحريف معناهما إلى القوة، أو النعمة أو نحو ذلك لوجوه منها:
أولاً: أنه صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه بلا دليل.(86/30)
ثانياً: أنه معنى تأباه اللغة في مثل السياق الذي جاءت به مضافة إلى الله تعالى: فإن الله قال: { لما خلقت بيدي } (2)ولا يصح أن يكون المعنى لما خلقت بنعمتي، أو قوتي.
ثالثاً: أنه ورد إضافة اليد إلى الله بصيغة التثنية، ولم يرد في الكتاب والسنة ولا في موضع واحد إضافة النعمة والقوة إلى الله بصيغة التثنية فكيف يفسر هذا بهذا؟!
رابعاً: أنه لو كان المراد بهما القوة لصح أن يقال: إن الله خلق إبليس بيده ونحو ذلك. وهذا ممتنع ولو كان جائزاً لا حتج به إبليس على ربه حين قال له: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (3).
خامساً: أن اليد التي أضافها الله إلى نفسه تصرفت تصرفاً يمنع أن يكون المراد بها النعمة، أو القوة فجاءت بلفظ اليد، والكف، وجاء إثبات الأصابع لله تعالى:، والقبض، والهز كقوله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله سمواته بيده والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك".
وهذه التصرفات تمنع أن يكون المراد بها النعمة، أو القوة.
الباب السادس عشر
في عيني الله تعالى:
مذهب أهل السنة والجماعة أن لله عينين، اثنتين، ينظر بهما حقيقة على الوجه اللائق به. وهما من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { تجري بأعيننا } (1) .
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن ربكم ليس بأعور " " ينظر إليكم أزلين قنطين" "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
فهما عينان حقيقيتان لا تشبهان أعين المخلوقين. ولا يصح تحريف معناهما إلى العلم، والرؤية لوجوه منها:
أولاً: أنه صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه بلا دليل.
ثانياً: أن في النصوص ما يمنع ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ينظر إليكم" " لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". " وإن ربكم ليس بأعور".
الباب السابع عشر
في الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين(86/31)
وردت صفتا اليدين، والعينين في النصوص مضافة إلى الله تعالى: على ثلاثة أوجه: الإفراد، والتثنية، والجمع.
فمن أمثلة الإفراد: قوله تعالى: { تبارك الذي بيده الملك } (1). { ولتصنع على عيني } (2).
ومن أمثلة الجمع: قوله تعالى: : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } (3) . { تجري بأعيننا } (4).
ومن أمثلة التثنية: قوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان } (5).وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قام العبد في الصلاة قام بين عيني الرحمن". هكذا هو في مختصر الصواعق عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعزه ولم ترد صفة العينين في القرآن بصورة التثنية.
هذه هي الوجوه الثلاثة التي وردت عليها صفتا اليدين، والعينين.
والجمع بين هذه الوجوه أن يقال:
إن الإفراد لا ينافي التثنية، ولا الجمع، لأن المفرد المضاف يعم فيتناول كل ما ثبت لله من يد، أو عين واحدة كانت أو أكثر.
وأما الجمع بين ما جاء بلفظ التثنية وبلفظ الجمع: فإن قلنا : أقل الجمع اثنان فلا منافاة أصلاً بين صيغتي التثنية والجمع لاتحاد مدلوليهما، وإن قلنا : أقل الجمع ثلاثة وهو المشهور فالجمع بينهما أن يقال : إنه لا يراد من صيغة الجمع مدلولها الذي هو ثلاثة فأكثر، وإنما أريد بها والله أعلم التعظيم والمناسبة، أعني مناسبة المضاف للمضاف إليه، فإن المضاف إليه، وهو " نا " يراد به هنا التعظيم قطعاً فناسب أن يؤتى بالمضاف بصيغة الجمع ليناسب المضاف إليه فإن الجمع أدل على التعظيم من الإفراد والتثنية، وإذا كان كل من المضاف والمضاف إليه دالاً على التعظيم حصل من بينهما تعظيم أبلغ.
الباب الثامن عشر
في كلام الله سبحانه وتعالى:
اتفق أهل السنة والجماعة على أن الله يتكلم، وأن كلامه صفة حقيقية ثابتة له على الوجه اللائق به.
وهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت، كيف يشاء، متى شاء، فكلامه صفة ذات باعتبار جنسه، وصفة فعل باعتبار آحاده.(86/32)
وقد دل على هذا القول الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } (1)وقوله: { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ } (2)وقوله: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا } (3).
ففي الآية الأولى: إثبات أن الكلام يتعلق بمشيئته، وأن آحاده حادثة.
وفي الآية الثانية: دليل على أنه بحرف فإن مقول القول فيها حروف.
وفي الآية الثالثة: دليل على أنه بصوت إذ لا يعقل النداء والمناجاة إلا بصوت.
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار".
وكلامه سبحانه هو اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو اللفظ وحده أو المعنى وحده هذا هو قول أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى:، أما أقوال غيرهم فإليك ملخصها من مختصر الصواعق المرسلة:
1. قول الكرامية: وهو كقول أهل السنة إلا أنهم قالوا: " إنه حادث بعد أن لم يكن" فراراً من إثبات حوادث لا أول لها.
2. قول الكلابية: " إنه معنى قائم بذاته لازم لها كلزوم الحياة، والعلم فلا يتعلق بمشيئته، والحروف والأصوات حكاية عنه خلقها الله لتدل على ذلك المعنى القائم بذاته، وهو أربعة معان: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار".
3. قول الأشعرية: وهو كقول الكلابية إلا أنهم يخالفونهم في شيئين:
أحدهما: في معاني الكلام فالكلابية يقولون : إنه أربعة معانٍ.
والأشعرية يقولون: إنه معنى واحد فالخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي كل واحد منها هو عين الآخر وليست أنواعاً للكلام، بل صفات له، بل التوراة والإنجيل، والقرآن كل واحد منها عين الآخر لا تختلف إلا بالعبارة.
الثاني: أن الكلابية قالوا: " إن الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله". وأما الأشعرية فقالوا: " إنها عبارة عن كلام الله".(86/33)
4. قول السالمية: "إنه صفة قائمة بذاته لازمة لها كلزوم الحياة، والعلم، فلا يتعلق بمشيئته، وهو حروف وأصوات متقارنة لا يسبق بعضها بعضاً، فالباء والسين والميم في البسملة مثلاً كل حرف منها مقارن للآخر في آن واحد ومع ذلك لم تزل ولا تزال موجودة".
5. قول الجهمية والمعتزلة: " إنه مخلوق من المخلوقات وليس من صفات الله".
ثم من الجهمية من صرح بنفي الكلام عن الله، ومنهم من أقر به وقال: إنه مخلوق.
6. قول فلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو: " إنه فيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها وقبولها فيوجب لها تصورات، وتصديقات بحسب ما قبلته منه، وهذه التصورات والتصديقات المتخيلة تقوى حتى تصور الشيء المعقول صوراً نورانية تخاطبها بكلام تسمعه الآذان.
7. قول الاتحادية- القائلين بوحدة الوجود - إن كل كلام في الوجود كلام الله كما قال قائلهم:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وكل هذه الأقوال مخالفة لما دل عليه الكتاب، والسنة، والعقل، ومن رزقه الله علماً وحكمة فهم ذلك.
فصل
في أن القرآن كلام الله
مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم به حقيقة، وألقاه إلى جبريل فنزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد دل على هذا القول الكتاب، والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { وإن أحدمن المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } (1) يعني القرآن وقوله:)كتاب أنزلناه إليك } (2). { نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } (3) .(86/34)
ومن أدلة السنة قوله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على الناس في الموقف: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل". وقوله صلى الله عليه وسلم ، للبراء ابن عازب: " إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت".
وقال عمرو بن دينار: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: " الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" أ هـ.
ومعنى قولهم : " منه بدأ " أن الله تكلم به ابتداء ، وفيه رد على الجهمية القائلين بأنه خلقه في غيره.
وأما قولهم: "وإليه يعود" فيحتمل معنيين:
أحدهما: أنه تعود صفة الكلام بالقرآن إليه بمعنى أن أحداً لا يوصف بأنه تكلم به غير الله، لأنه هو المتكلم به، والكلام صفة للمتكلم.
الثاني: أنه يُرفع إلى الله تعالى: كما جاء في بعض الآثار أنه يسري به من المصاحف والصدور وذلك إنما يقع والله أعلم حين يُعرض الناس عن العمل بالقرآن إعراضاً كلياً فيرفع عنهم تكريماً له والله المستعان.
فصل
في اللفظ والملفوظ
الكلام في هذا الفصل يتعلق بالقرآن فإنه قد سبق أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكن اللفظ بالقرآن هل يصح أن نقول: إنه مخلوق، أو غير مخلوق، أو يجب السكوت؟(86/35)
فالجواب أن يقال: إن إطلاق القول في هذا نفياً أو إثباتاً غير صحيح وأما عند التفصيل فيقال: إن أريد باللفظ التلفظ الذي هو فعل العبد فهو مخلوق، لأن العبد وفعله مخلوقان، وإن أريد باللفظ الملفوظ به فهو كلام الله غير مخلوق، لأن كلام الله من صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ويشير إلى هذا التفصيل قول الإمام أحمد رحمه الله: " من قال : لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي " فقوله : يريد به القرآن يدل على أنه إن أراد به غير القرآن وهو التلفظ الذي هو فعل فليس بجهمي. والله أعلم.
الباب التاسع عشر
في ظهور مقالة التعطيل واستمدادها
شاعت مقالة التعطيل بعد القرون المفضلة الصحابة والتابعين وتابعيهم وإن كان أصلها قد نبغ في أواخر عصر التابعين.
وأول من تكلم بالتعطيل الجعد بن درهم فقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. فقتله خالد بن عبد الله القسري الذي كان والياً على العراق لهشام بن عبد الملك، خرج به إلى مصلى العيد بوثاقه ثم خطب الناس وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً ثم نزل وذبحه وذلك في عيد الأضحى سنة 119 هـ.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في النونية:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال: إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ثم أخذها عن الجعد رجل يقال له:الجهم بن صفوان وهو الذي ينسب إليه مذهب الجهمية المعطلة،لأنه نشره فقتله سالم بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار وذلك في مرو سنة 128 هـ.
وفي حدود المائة الثانية عُرِّبت الكتب اليونانية والرومانية فازداد الأمر بلاء وشدة.(86/36)
ثم في حدود المائة الثالثة انتشرت مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقتِه الذين أجمع الأئمة على ذمهم وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم. وصنف عثمان بن سعيد الدارمي كتاباً رد به على المريسي سماه " نقض عثمان بن سعيد على الكافر العنيد فيما افترى على الله من التوحيد" من طالع هذا الكتاب بعلم وعدل تبين له ضعف حجة هؤلاء المعطلة، بل بطلانها، وأن هذه التأويلات التي توجد في كلام كثير من المتأخرين كالرازي، والغزالي، وابن عقيل وغيرهم هي بعينها تأويلات بِشْر.
وأما استمداد مقالة التعطيل فكان من اليهود والمشركين وضلال الصابئين والفلاسفة.
فإن الجعد بن درهم أخذ مقالته على ما قيل من أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الجعد كان على ما قيل من أرض حران وفيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، ولا ريب أن للبيئة تأثيراً قوياً في عقيدة الإنسان وأخلاقه.
وكان مذهب النفاة من هؤلاء أن الله ليس له صفات ثبوتية، لأن ثبوت الصفات يقتضي على زعمهم أن الله مشابه لخلقه، وإنما يثبتون له صفات سلبية، أو إضافية، أو مركبة منهما.
فالسلبية: ما كان مدلولها عدم أمر لا يليق بالله عز وجل مثل قولهم: " إن الله واحد" بمعنى أنه مسلوب عنه القسمة بالكَم، أو القول ومسلوب عنه الشريك.
والإضافية: هي التي لا يوصف الله بها على أنها صفة ثابتة له، ولكن يوصف بها باعتبار إضافتها إلى الغير كقولهم عن الله تعالى: "إنه مبدأ وعلة" فهو مبدأ وعلة، باعتبار أن الأشياء صدرت منه لا باعتبار صفة ثابتة له هي البداء والعلية.
والمركبة منهما هي:التي تكون سلبية باعتبار، وإضافية باعتبار، كقولهم عن الله تعالى: : "إنه أول " فهي سلبية باعتبار أنه مسلوب عنه الحدوث إضافية باعتبار أن الأشياء بعده.(86/37)
فإذا كان هذا هو ما تستمد منه طريقة النفاة فكيف تطيب نفس مؤمن أو عاقل أن يأخذ به ويترك سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟.
الباب العشرون
في طريقة النفاة فيما يجب إثباته أو نفيه من صفات الله
اتفق النفاة على أن يثبتوا لله من الصفات ما اقتضت عقولهم إثباته وأن ينفوا عنه ما اقتضت عقولهم نفيه، سواء وافق الكتاب والسنة، أم خالفهما فطريق إثبات الصفات لله أو نفيها عنه عندهم هو العقل.
ثم اختلفوا فيما لا يقتضي العقل إثباته، أو نفيه، فأكثرهم نفوه وخرجوا ما جاء منه على المجاز، وبعضهم توقف فيه وفوض علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات.
وهم يزعمون أنهم وفقوا بهذه الطريقة بين الأدلة العقلية والنقلية، ولكنهم كذبوا في ذلك لأن الأدلة العقلية والنقلية متفقة على إثبات صفات الكمال لله، وكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله فإنه لا يخالف العقل، وإن كان العقل يعجز عن إدراك التفصيل في ذلك.
وقد شابه هؤلاء النفاة في طريقتهم طريقة من قال الله فيهم: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } (1).
ووجه مشابهتهم لهم من وجوه:
الأول: أن كل واحد من الفريقين يزعم أنه مؤمن بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم لا يقبلون كل ما جاء به.
الثاني: أن هؤلاء النفاة إذا دعوا إلى ما جاء به الكتاب والسنة من إثبات صفات الكمال لله أعرضوا وامتنعوا، كما أن أولئك المنافقين إذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.(86/38)
الثالث: أن هؤلاء النفاة لهم طواغيت يقلدونهم ويقدمونهم على ما جاءت به الرسل ويريدون أن يكون التحاكم عند النزاع إليهم لا إلى الكتاب والسنة، كما أن أولئك المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.
الرابع: أن هؤلاء النفاة زعموا أنهم أرادوا بطريقتهم هذه عملاً حسناً وتوفيقاً بين العقل والسمع، كما أن أولئك المنافقين يحلفون أنهم ما أرادوا إلا إحساناً وتوفيقاً.
وكل مبطل يتستر في باطله ويتظاهر بالحق فإنه يأتي بالدعاوى الباطلة التي يروج بها باطله، ولكن من وهبه الله علماً، وفهماً، وحكمة، وحسن قصد فإنه لا يلتبس عليه الباطل ولا تروج عليه الدعاوى الكاذبة. والله المستعان.
فصل
فيما يلزم على طريقة النفاة من اللوازم الباطلة
يلزم على طريقة النفاة لوازم باطلة منها:
أولاً: أن الكتاب والسنة صرحا بالكفر والدعوة إليه لأنهما مملوءان من إثبات صفات الله التي زعم هؤلاء النفاة أن إثباتها تشبيه وكفر.
ثانياً: أن الكتاب والسنة لم يبينا الحق، لأن الحق عند هؤلاء هو نفي الصفات، وليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على نفي صفات الكمال عن الله لا نصاً ولا ظاهراً.
وغاية المتحذلق من هؤلاء أن يستنتج ذلك(1).من مثل قوله تعالى: { هل تعلم له سمياً } (2). و { لم يكن له كفواً أحد } (2).
ومن المعلوم لكل عاقل أن المقصود من أمثال هذه النصوص إثبات كمال الله تعالى:، وأنه لا شبيه له في صفاته، ولا يمكن أن يراد بها بيان انتفاء الصفات عنه إذ لا ريب أن من دل الناس على انتفاء الصفات عن الله بمثل هذا الكلام فهو إما ملغز في كلامه، أو مدلس، أو عاجز عن البيان، وكل هذه الأمور ممتنعة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كلامهما قد تضمن كمال البيان والإرادة، فليس المقصود به إرادة ضلال الخلق والتعمية عليهم، وليس فيه نقص في البيان والفصاحة.(86/39)
ثالثاً: أن السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان كانوا قائلين بالباطل وكاتمين للحق، أو جاهلين به، فإنه قد تواتر النقل عنهم بإثبات صفات الكمال لله الذي زعم هؤلاء أنه باطل، ولم يتكلموا مرة واحدة بنفي الصفات الذي زعم هؤلاء أنه الحق وهذا اللازم ممتنع على خير القرون وأفضل الأمة.
رابعاً: أنه إذا انتفت صفة الكمال عن الله لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، فإن كل موجود في الخارج لابد له من صفة فإذا انتفت عنه صفات الكمال لزم أن يكون متصفاً بصفات النقص، وبهذا ينعكس الأمر على هؤلاء النفاة ويقعون في شر مما فروا منه.
فصل
فيما يعتمد عليه النفاة من الشبهات
يعتمد نفاة الصفات على شبهات باطلة(1) يعرف بطلانها كل من رزقه الله علماً صحيحاً وفهماً سليماً.
وغالب ما يعتمدون عليه ما يأتي:
1. دعوى كاذبة مثل أن يدعي الإجماع على قوله، أو أنه هو التحقيق أو أنه قول المحققين، أو أن قول خصمه خلاف الإجماع ونحو ذلك.
2. شبهة مركبة من قياس فاسد مثل قولهم: إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه، لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة.
3. تمسك بألفاظ مشتركة بين معان يصح نسبتها إلى الله تعالى: ومعان لا يصح نسبتها إليه مثل: الجسم والحيز، والجهة فهذه الألفاظ المجملة يتوصلون بإطلاق نفيها عن الله إلى نفي صفاته عنه (2).
ثم هم يصوغون هذه الشبهات بعبارات مزخرفة طويلة غريبة يحسبها الجاهل بها حقًّا بما كسيته من زخارف القول فإذا حقق الأمر تبين له أنها شبهات باطلة كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
والرد على هؤلاء من وجوه:
الأول: نقض شبهاتهم وحججهم، وأنه يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فيما نفوه.(86/40)
الثاني: بيان تناقض أقوالهم واضطرابها، حيث كانت كل طائفة منهم تدعي أن العقل يوجب ما تدعي الأخرى أنه يمنعه ونحو ذلك، بل الواحد منهم ربما يقول قولاً يدعي أن العقل يوجبه، ثم ينقضه في محل آخر، وتناقض الأقوال من أقوى الأدلة على فسادها.
الثالث: بيان ما يلزم على نفيهم من اللوازم الباطلة فإن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
الرابع: أن النصوص الواردة في الصفات لا تحتمل التأويل، ولئن احتمله بعضها فليس فيه ما يمنع إرادة الظاهر فتعين المصير إليه.
الخامس: أن عامة هذه الأمور من الصفات يعلم بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها، فتأويلها بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية للصلاة، والصوم، والحج ونحو ذلك.
السادس: أن العقل الصريح - أي السالم من الشبهات، والشهوات - لا يحيل ما جاءت به النصوص من صفات الله، بل إنه يدل على ثبوت صفات الكمال لله في الجملة، وإن كان في النصوص من التفاصيل في هذا الباب ما تعجز العقول عن إدراكه والإحاطة به.
وقد اعترف الفحول من هؤلاء أن العقل لا يمكنه الوصول إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وعلى هذا فالواجب تلقي ذلك من النبوات على ما هو عليه من غير تحريف والله أعلم.
الباب الحادي والعشرون
في أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل
قد جمع بين التعطيل والتمثيل
المعطل: هو من نفى شيئاً من أسماء الله، أو صفاته، كالجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم.
والممثل: هو من أثبت الصفات لله ممثلاً له بخلقه. كمتقدمي الرافضة ونحوهم.
وحقيقة الأمر أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما المعطل فتعطيله ظاهر. وأما تمثيله فوجهه: أنه إنما عطل لأنه اعتقد أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فأخذ ينفي الصفات فراراً من ذلك فمثل أولاً، وعطل ثانياً.
وأما الممثل فتمثيله ظاهر وأما تعطيله فمن وجوه ثلاثة:(86/41)
أحدها: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله، لا على مشابهة الله لخلقه.
الثاني: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهته لخلقه. مثل قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (1) { ولم يكن له كفواً أحد } (2).
الثالث: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب، حيث شبه الرب الكامل من جميع الوجوه بالمخلوق الناقص.
الباب الثاني والعشرون
في تحذير السلف عن علم الكلام
علم الكلام هو ما أحدثه المتكلمون في أصول الدين من إثبات العقائد بالطرق التي ابتكروها، وأعرضوا بها عما جاء الكتاب والسنة به، وقد تنوعت عبارات السلف في التحذير عن الكلام وأهله لما يفضي إليه من الشبهات والشكوك حتى قال الإمام أحمد: " لا يفلح صاحب كلام أبداً".
وقال الشافعي: " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام " أهـ.
وهم مستحقون لما قاله الإمام الشافعي من وجه ليتوبوا إلى الله ويرتدع غيرهم عن اتباع مذهبهم، وإذا نظرنا إليهم من وجه آخر وقد استولت عليهم الحيرة واستحوذ عليهم الشيطان فإننا نرحمهم ونرق لهم ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاهم به.
فلنا فيهم نظران، نظر من جهة الشرع: نؤدبهم ونمنعهم به من نشر مذهبهم، ونظر من جهة القدر نرحمهم ونسأل الله لهم العافية، ونحمد الله الذي عافانا من حالهم.
وأكثر من يخاف عليهم الضلال هم الذين دخلوا في علم الكلام ولم يصلوا إلى غايته.
ووجه ذلك أن من لم يدخل فيه فهو في عافية، ومن وصل إلى غايته فقد تبين له فساده ورجع إلى الكتاب والسنة كما جرى لبعض كبارهم([1][1]) . فيبقى الخطر على من خرج عن الصراط المستقيم ولم يتبين له حقيقة الأمر.(86/42)
وقد نقل المؤلف رحمه الله في هذه الفتوى كثيراً من كلام من تكلم في هذا الباب من المتكلمين قال: " وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام، ولكن كثيراً من الناس قد صار منتسباً إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسناً للظن بهم دون غيرهم، ومتوهماً أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أُتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم". ثم قال: " وليس كل من ذكرنا قوله من المتكلمين وغيرهم نقول بجميع ما يقوله في هذا وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به" أهـ.
فبين رحمه الله أن الغرض من نقله بيان الحق من أي إنسان، وإقامة الحجة على هؤلاء من كلام أئمتهم والله أعلم.
الباب الثالث والعشرون
في أقسام المنحرفين عن الاستقامة
في باب الإيمان بالله واليوم الآخر
طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان على الصراط المستقيم علماً، وعملاً يعرف ذلك من تتبعها بعلم وعدل فقد حققوا الإيمان بالله واليوم الآخر، وأقروا بأن ذلك حق على حقيقته، وهم في عملهم مخلصون لله، متبعون لشرعه، فلا شرك، ولا ابتداع، ولا تحريف، ولا تكذيب.
وأما المنحرفون عن طريقتهم فهم ثلاث طوائف:
أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأما أهل التخييل: فهم الفلاسفة، والباطنية ومن سلك سبيلهم من المتكلمين وغيرهم. وحقيقة مذهبهم أن ما جاءت به الأنبياء مما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر أمثال وتخييلات لا حقيقة لها في الواقع، وإنما المقصود بها انتفاع العامة وجمهور الناس، لأن الناس إذا قيل لهم : إن لكم رباً عظيماً، قادراً، رحيماً، قاهراً، وأمامكم يوماً عظيماً تبعثون فيه، وتجازون بأعمالكم ونحو ذلك استقاموا على الطريقة المطلوبة منهم، وإن كان هذا لا حقيقة له على زعم هؤلاء.
ثم إن هؤلاء على قسمين: غلاة، وغير غلاة.(86/43)
فأما الغلاة فيزعمون أن الأنبياء لا يعلمون حقائق هذه الأمور وأن من المتفلسفة الإلهية ومَن يزعمونهم أولياء من يعلم هذه الحقائق، فزعموا أن من الفلاسفة من هو أعلم بالله واليوم الآخر من النبيين الذين هم أعلم الناس بذلك.
وأما غير الغلاة فيزعمون أن الأنبياء يعلمون حقائق هذه الأمور ولكنهم ذكروا للناس أموراً تخييلية لا تطابق الحق لتقوم مصلحة الناس، فزعموا أن مصلحة العباد لا تقوم إلا بهذه الطريقة التي تتضمن كذب الأنبياء في أعظم الأمور وأهمها.
فالطائفة الأولى حكمت على الرسل بالجهل. والطائفة الثانية حكمت عليهم بالخيانة والكذب.
هذا هو قول أهل التخييل فيما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر.
أما في الأعمال فمنهم من يجعلها حقائق يؤمر بها كل أحد، ومنهم من يجعلها تخييلات ورموزاً يؤمر بها العامة دون الخاصة فيؤولون الصلاة بمعرفة أسرارهم، والصيام بكتمانها، والحج بالسفر إلى شيوخهم ونحو ذلك. وهؤلاء هم الملاحدة من الإسماعيلية والباطنية ونحوهم.
وفساد قول هؤلاء معلوم بضرورة الحس، والعقل، والشرع فإننا نشاهد من الآيات الدالة على وجود الله وكمال صفاته ما لا يمكن حصره:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فإن هذه الحوادث المنتظمة لا يمكن أن تحدث إلا بمدبر حكيم قادر على كل شيء.
والإيمان باليوم الآخر دلت عليه جميع الشرائع واقتضته حكمة الله البالغة، ولا ينكره إلا مكابر، أو مجنون، وأهل التخييل لا يحتاجون في الرد عليهم إلى شيء كثير، لأن نفور الناس عنهم معلوم ظاهر.
وأما أهل التأويل: فهم المتكلمون من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم.(86/44)
وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من نصوص الصفات لم يقصد به ظاهره، وإنما المقصود به معان تخالفه يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم لكنه تركها للناس يستنتجونها بعقولهم ثم يحاولون صرف ظواهر النصوص إليها، وغرضه بذلك امتحان عقولهم، وكثرة الثواب بما يعانونه من محاولة صرف الكلام عن ظاهره وتنزيله على شواذ اللغة وغرائب الكلام.
وهؤلاء هم أكثر الناس اضطراباً وتناقضاً، لأنهم ليس لهم قدم ثابت كأم هنا نقصاً يمكن تأويله وما لا يمكن، ولا في تعيين المعنى المراد.
ثم إن غالب ما يزعمونه من المعاني يعلم من حال المتكلم وسياق كلامه أنه لم يرده في ذلك الخطاب المعين الذي أولوه.
وهؤلاء كانوا يتظاهرون بنصر السنة ويتسترون بالتنزيه، ولكن الله تعالى: هتك أستارهم برد شبهاتهم ودحض حججهم، فلقد تصدى شيخ الإسلام وغيره(1) للرد عليهم أكثر من غيرهم لأن الاغترار بهم أكثر من الاغترار بغيرهم لما يتظاهرون به من نصر السنة.
فصل
مذهب أهل التأويل في نصوص المعاد: الإيمان بها على حقيقتها من غير تأويل، ولما كان مذهبهم في نصوص الصفات صرفها عن حقائقها إلى معانٍ مجازية تخالف ظاهرها، استطال عليهم أهل التخييل فألزموهم القول بتأويل نصوص المعاد كما فعلوا في نصوص الصفات. فقال أهل التأويل لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات المعاد، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوته.
وهذا جواب صحيح وحجة قاطعة تتضمن الدفاع عنهم في عدم تأويلهم نصوص المعاد وإلزامهم أهل التخييل أن يقولوا بإثبات المعاد وإجراء نصوصه على حقائقها، لأنه إذا قام الدليل، وانتفى المانع وجب ثبوت المدلول.(86/45)
وقد احتج أهل السنة على أهل التأويل بهذه الحجة نفسها ليقولوا بثبوت الصفات وإجراء نصوصها على حقيقتها فقالوا لأهل التأويل: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات الصفات لله ، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوتها، وهذا إلزام صحيح وحجة قائمة لا محيد لأهل التأويل عنها، فإن من منع صرف الكلام عن حقيقته في نصوص المعاد يلزمه أن يمنعه في نصوص الصفات التي هي أعظم وأكثر إثباتاً في الكتب الإلهية من إثبات المعاد، وإن لم يفعل فقد تبين تناقضه وفساد عقله.
فصل
وأما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف.
وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من نصوص الصفات ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأحاديث الصفات ولا يعرف معناها.
ثم هم مع ذلك يقولون: ليس للعقل مدخل في باب الصفات.
فيلزم على قولهم أن لا يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة السلف في هذا الباب علوم عقلية ولا سمعية وهذا من أبطل الأقوال.
وطريقتهم في نصوص الصفات إمرار لفظها مع تفويض معناها ومنهم من يتناقض فيقول: تُجرى على ظاهرها مع أن لها تأويلاً يخالفه لا يعلمه إلا الله. وهذا ظاهر التناقض فإنه إذا كان المقصود بها التأويل الذي يخالف الظاهر وهو لا يعلمه إلا الله فكيف يمكن إجراؤها على ظاهرها؟
وقد قال الشيخ رحمه الله عن طريقة هؤلاء في كتاب ( العقل والنقل) ص 121 ج1: "فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " أ هـ.
والشبهة التي احتج بها أهل التجهيل هي وقف أكثر السلف على { إلا الله } من قوله تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } (1).(86/46)
وقد بنوا شبهتهم على مقدمتين:
الأولى: أن آيات الصفات من المتشابهة.
الثانية: أن التأويل المذكور في الآية: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر فتكون النتيجة أن لآيات الصفات معنى يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن نسألهم ماذا يريدون بالتشابه الذي أطلقوه على آيات الصفات. أيريدون اشتباه المعنى وخفاءه، أم يريدون اشتباه الحقيقة وخفاءها؟
فإن أرادوا المعنى الأول وهو مرادهم فليست آيات الصفات منه لأنها ظاهره المعنى، وإن أرادوا المعنى الثاني فآيات الصفات منه لأنه لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلا الله تعالى:. وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق التشابه على آيات الصفات بل لابد من التفصيل السابق.
الثاني: أن قولهم: " إن التأويل المذكور في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر" غير صحيح ، فإن هذا المعنى للتأويل اصطلاح حادث لم يعرفه العرب والصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم، وإنما المعروف عندهم أن التأويل يراد به معنيان:
إما التفسير ويكون التأويل على هذا معلوماً لأولي العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" وعليه يحمل وقف كثير من السلف على قوله تعالى: { والراسخون في العلم } (1)من الآية السابقة.
وإما حقيقة الشيء ومآله وعلى هذا يكون تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر غير معلوم لنا، لأن ذلك هو الحقيقة والكيفية التي هو عليها وهو مجهول لنا كما قاله مالك وغيره في الاستواء وغيره، وعليه يحمل وقف جمهور السلف على قوله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله } (2). من الآية السابقة.(86/47)
الوجه الثالث: أن الله أنزل القرآن للتدبر، وحثنا على تدبره كله ولم يستثن آيات الصفات، والحث على تدبره يقتضي أنه يمكن الوصول إلى معناه وإلا لم يكن للحث على تدبره معنى، لأن الحث على شيء لا يمكن الوصول إليه لغو من القول ينزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وهذا - أعني الحث على تدبره كله من غير استثناء- يدل على أن لآيات الصفات معنى يمكن الوصول إليه بالتدبر، وأقرب الناس إلى فهم ذلك المعنى هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولأنهم أسرع الناس إلى امتثال الحث على التدبر خصوصاً فيما هو أهم مقاصد الدين.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهما كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً. فكيف يجوز مع هذا أن يكونوا جاهلين بمعاني نصوص الصفات التي هي أهم شيء في الدين؟!
الرابع: إن قولهم يستلزم أن يكون الله قد أنزل في كتابه المبين ألفاظاً جوفاء لا يبين بها الحق، وإنما هي بمنزلة الحروف الهجائية والأبجدية، وهذا ينافي حكمة الله التي أنزل الله الكتاب وأرسل الرسول من أجلها.
تنبيه: علم مما سبق أن معاني التأويل ثلاثة:
أحدها: التفسير وهو إيضاح المعنى وبيانه، وهذا اصطلاح جمهور المفسرين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وهذا معلوم عند العلماء في آيات الصفات وغيرها.
الثاني: الحقيقة التي يؤول الشيء إليها، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة كما قال تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله } (1). { ذلك خير وأحسن تأويلاً } (2). فتأويل آيات الصفات بهذا المعنى هو الكنه والحقيقة التي هي عليها، وهذا لا يعلمه إلا الله.(86/48)
الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر وهو اصطلاح المتأخرين من المتكلمين وغيرهم. وهذا نوعان: صحيح وفاسد:
فالصحيح: ما دل الدليل عليه مثل تأويل قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } (3) إلى أن المعنى إذا أردت أن تقرأ.
والفاسد: ما لا دليل عليه كتأويل استواء الله على عرشه باستيلائه ويده بقوته ونعمته ونحو ذلك.
فصل
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " تفسير القرآن على أربعه أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب" أهـ.
فالتفسير الذي تعرفه العرب من كلامها هو تفسير مفردات اللغة كمعرفة معنى القرء، والنمارق، والكهف ونحوها.
والتفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته هو تفسير الآيات المكلف بها اعتقاداً، أو عملاً كمعرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة اليوم الآخر، والطهارة، والصلاة، والزكاة وغيرها.
والتفسير الذي يعلمه العلماء هو ما يخفى على غيرهم مما يمكن الوصول إلى معرفته كمعرفة أسباب النزول، والناسخ، والمنسوخ، والعام، والخاص، والمحكم، والمتشابه، ونحو ذلك.
وأما التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو حقائق ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فإن هذه الأشياء نفهم معناها، لكن لا ندرك حقيقة ما هي عليه في الواقع.
مثال ذلك: أننا نفهم معنى استواء الله على عرشه، ولكننا لا ندرك كيفيته التي هي حقيقة ما هو عليه في الواقع. وكذلك نفهم معنى الفاكهة والعسل، والماء، واللبن، وغيرها مما أخبر الله أنه في الجنة ولكن لا ندرك حقيقته في الواقع كما قال تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } (1)قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء.(86/49)
وبهذا تبين أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله كحقائق أسمائه وصفاته وما أخبر الله به عن اليوم الآخر. وأما معاني هذه الأشياء فإنها معلومة لنا وإلا لما كان للخطاب بها فائدة. والله أعلم.
الباب الرابع والعشرون
في انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها
المراد بأهل القبلة من يصلي إلى القبلة وهم كل من ينتسب إلى الإسلام.
وقد انقسم أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها إلى ست طوائف:
طائفتان قالوا: تُجرى على ظاهرها.
وطائفتان قالوا: تُجرى على خلاف ظاهرها.
وطائفتان واقفتان.
فالطائفتان الذين قالوا : تُجرى على ظاهرها هم:
1. طائفة المشبهة الذين جعلوها من جنس صفات المخلوقين ومذهبهم باطل أنكره عليهم السلف.
2. طائفة السلف الذين أجروها على ظاهرها اللائق بالله عز وجل ومذهبهم هو الصواب المقطوع به لدلالة الكتاب، والسنة، والعقل عليه دلالة ظاهرة إما قطعية، وإما ظنية، كما تقدم دليل وجوبها وصحتها في البابين الثالث والرابع.
والفرق بين هاتين الطائفتين، أن الأولى تقول بالتشبيه، والثانية تنكره.
فإن قال المشبه في علم الله ونزوله ويده مثلاً: أنا لا أعقل من العلم والنزول، واليد إلا مثل ما يكون للمخلوقين من ذلك.
فجوابه من وجوه:
الأول: أن العقل، والسمع قد دل كل منهما على مباينة الخالق للمخلوق في جميع صفاته، فصفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، فمن أدلة السمع على مباينة الخالق للمخلوق قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (1) ومن أدلة العقل أن يقال: كيف يكون الخالق الكامل من جميع الوجوه، الذي الكمال من لوازم ذاته، وهو معطي الكمال مشابهاً للمخلوق الناقص، الذي النقص من لوازم ذاته، وهو مفتقر إلى من يكمله؟!
الثاني: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه ذات المخلوقين؟(86/50)
فسيقول : بلى. فيقال له: فلتعقل إذاً أن لله صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض.
الثالث: أن يقال: نحن نشاهد من صفات المخلوقات صفات اتفقت في أسمائها، وتباينت في كيفيتها فليست يد الإنسان كيد الحيوان الآخر فإذا جاز اختلاف الكيفية في صفات المخلوقات مع اتحادها في الاسم فاختلاف ذلك بين صفات الخالق والمخلوق من باب أولى، بل التباين بين صفات الخالق والمخلوق واجب كما تقدم.
وأما الطائفتان الذين قالوا : تُجرى على خلاف ظاهرها، وأنكروا أن يكون لله صفات ثبوتية، أو أنكروا بعض الصفات، أو أثبتوا الأحوال دون الصفات فهم:
1. أهل التأويل من الجهمية وغيرهم الذين أولوا نصوص الصفات إلى معان عينوها كتأويل اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء ونحو ذلك.
2. أهل التجهيل المفوضة الذين قالوا: الله أعلم بما أراد بنصوص الصفات، لكننا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى:، وهذا القول متناقض فإن قولهم: " نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية له" يناقض التفويض، لأن حقيقة التفويض أن لا يحكم المفوض بنفي ولا إثبات وهذا ظاهر.
والفرق بين هاتين الطائفتين: أن الأولى أثبتوا لنصوص الصفات معنى لكنه خلاف ظاهرها، وأما الثانية فيفوضون ذلك إلى الله من غير إثبات معنى، مع قولهم: " إنه لا يراد من تلك النصوص إثبات صفة لله عز وجل".
وأما الطائفتان الذين توقفوا فهم:
1. طائفة جوزوا أن يكون المراد بنصوص الصفات إثبات صفة تليق بالله، وأن لا يكون المراد ذلك، وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم.
2. طائفة أعرضوا بقلوبهم وألسنتهم عن هذا كله ولم يزيدوا على قراءة القرآن والحديث.
والفرق بين هذه الطائفة والتي قبلها: أن الأولى تحكم بتجويز الأمرين: الإثبات وعدمه، وأما الثانية، فلا تحكم بشيء أبداً. والله أعلم.
الباب الخامس والعشرون
في ألقاب السوء التي وضعها المبتدعة على أهل السنة(86/51)
من حكمة الله تعالى: أن جعل لكل نبي عدواً من المجرمين يصدون عن الحق بما استطاعوا من قول وفعل بأنواع المكايد، والشبهات، والدعاوي الباطلة، ليتبين بذلك الحق، ويتضح ويعلو على الباطل،وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذا شيئاً كثيراً كما قال تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً } (1). فقد وضع أولئك الظالمون المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ألقاب التشنيع والسخرية: مثل ساحر، مجنون، كاهن، كذاب، ونحو ذلك.
ولما كان أهل العلم والإيمان هو ورثة النبي صلى الله عليه وسلم لقوا من أهل الكلام والبدع مثل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أولئك المشركين، فكانت كل طائفة من هذه الطوائف تلقب أهل السنة بما برأهم الله منه من ألقاب التشنيع والسخرية إما لجهلهم بالحق حيث ظنوا صحة ما هم عليه وبطلان ما عليه أهل السنة، وإما لسوء القصد حيث أرادوا بذلك التنفير عن أهل السنة، والتعصب لآرائهم مع علمهم بفسادها.
فالجهمية ومن تبعهم من المعطلة سموا أهل السنة " مشبهة " زعماً منهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
والروافض سموا أهل السنة " نواصب " لأنهم يوالون أبا بكر وعمر كما كانوا يوالون آل النبي صلى الله عليه وسلم والروافض تزعم أن من والى أبا بكر وعمر فقد نصب العداوة لآل البيت، ولذلك كانوا يقولون: " لا ولاء إلا ببراء" أي لا ولاية لآل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر.
والقدرية النفاة قالوا: أهل السنة " مجبرة " لأن إثبات القدر جبر عند هؤلاء النفاة.
والمرجئة المانعون من الاستثناء في الإيمان يسمون أهل السنة " شكاكاً " لأن الإيمان عندهم هو إقرار القلب، والاستثناء شك فيه عند هؤلاء المرجئة.(86/52)
وأهل الكلام والمنطق يسمون أهل السنة " حشوية " من الحشو وهو ما لا خير فيه ويسمونهم "نوابت ". وهي بذور الزرع التي تنبت معه ولا خير فيها. ويسمونهم " غثاء " وهو ما تحمله الأودية من الأوساخ، لأن هؤلاء المناطقة زعموا أن من لم يحط علماً بالمنطق فليس على يقين من أمره، بل هو من الرعاع الذين لا خير فيهم.
والحق أن هذا العلم الذي فخروا به لا يغني من الحق شيئاً كما قال الشيخ رحمه الله في كتابه " الرد على المنطقيين ": " إني كنت دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ". أ هـ.
الباب السادس والعشرون
في الإسلام والإيمان
الإسلام لغة: الانقياد.
وشرعاً: استسلام العبد لله ظاهراً وباطناً بفعل أوامره واجتناب نواهيه فيشمل الدين كله قال الله تعالى: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } (1) { . إن الدين عند الله الإسلام } (2) { . ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (3) .
وأما الإيمان فهو لغة: التصديق قال الله تعالى: { وما أنت بمؤمن لنا } (4).
وفي الشرع: إقرار القلب المستلزم للقول والعمل، فهو اعتقاد وقول وعمل، اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب والجوارح.
والدليل على دخول هذه الأشياء كلها في الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره". وقوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ".
فالإيمان بالله وملائكته إلخ اعتقاد القلب.
وقول : لا إله إلا الله قول اللسان.
وإماطة الأذى عن الطريق عمل الجوارح. والحياء عمل القلب.(86/53)
وبذلك عرف أن الإيمان يشمل الدين كله، وحينئذ لا فرق بينه وبين الإسلام وهذا حينما ينفرد أحدهما عن الآخر، أما إذا اقترن أحدهما بالآخر فإن الإسلام يفسر بالاستسلام الظاهر الذي هو قول اللسان، وعمل الجوارح، ويصدر من المؤمن الكامل الإيمان، والضعيف الإيمان قال الله تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } (5)ومن المنافق لكن يسمى مسلماً ظاهراً ولكنه كافر باطناً.
ويفسر الإيمان بالاستسلام الباطن الذي هو إقرار القلب وعمله، ولا يصدر إلا من المؤمن حقاً كما قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً } (1).
وبهذا المعنى يكون الإيمان أعلى. فكل مؤمن مسلم ولا عكس.
فصل
في زيادة الإيمان ونقصانه
من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } (2).
ومن أدلة السنة قوله صلى الله عليه وسلم في النساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".
ففي الآية إثبات زيادة الإيمان، وفي الحديث إثبات نقص الدين.
وكل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس، لأن الزيادة والنقص متلازمان لا يعقل أحدهما بدون الآخر.
وقد ثبت لفظ الزيادة والنقص منه عن الصحابة ولم يعرف منهم مخالف فيه، وجمهور السلف على ذلك قال ابن عبد البر: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار. وذكر عن مالك روايتين في إطلاق النقص إحداهما: التوقف. والثانية: موافقة الجماعة.
وخالف في هذا الأصل طائفتان:(86/54)
إحداهما: المرجئة الخالصة الذين يقولون: إن الإيمان إقرار القلب وزعموا أن إقرار القلب لا يتفاوت فالفاسق والعدل عندهم سواء في الإيمان.
الثانية: الوعيدية من المعتزلة والخوارج الذين أخرجوا أهل الكبائر من الإيمان وقالوا: إن الإيمان إما أن يوجد كله، وإما أن يعدم كله، ومنعوا من تفاضله.
وكل من هاتين الطائفتين محجوج بالسمع والعقل.
أما السمع فقد تقدم في النصوص ما دل على إثبات زيادة الإيمان ونقصه.
وأما العقل فنقول للمرجئة: قولكم: " إن الإيمان هو إقرار القلب، وإقرار القلب لا يتفاوت" ممنوع في المقدمتين جميعاً.
أما المقدمة الأولي: فتخصيصكم الإيمان بإقرار القلب مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة من دخول القول والعمل في الإيمان.
وأما المقدمة الثانية فقولكم: "إن إقرار القلب لا يتفاوت" مخالف للحس، فإن من المعلوم لكل أحد أن إقرار القلب إنما يتبع العلم ولا ريب أن العلم يتفاوت بتفاوت طرقه فإن خبر الواحد لا يفيد ما يفيده خبر الاثنين وهكذا، وما أدركه الإنسان بالخبر لا يساوي في العلم ما أدركه بالمشاهدة فاليقين درجات متفاوتة وتفاوت الناس في اليقين أمر معلوم، بل الإنسان الواحد يجد من نفسه أنه يكون في أوقات وحالات أقوى منه يقيناً في أوقات وحالات أخرى.
ونقول: كيف يصح لعاقل أن يحكم بتساوي رجلين في الإيمان أحدهما مثابر على طاعة الله تعالى: فرضها ونفلها، متباعد عن محارم الله وإذا بدرت منه المعصية بادر إلى الإقلاع عنها والتوبة منها، والثاني مضيع لما أوجب الله عليه ومنهمك فيما حرم الله عليه غير أنه لم يأت ما يكفره، كيف يتساوى هذا وهذا؟ !(86/55)
وأما الوعيدية فنقول لهم: قولكم : إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، فإذا تبين ذلك فكيف نحكم بتساوي رجلين في الإيمان أحدهما مقتصد فاعل للواجبات تارك للمحرمات، والثاني ظالم لنفسه يفعل ما حرم الله عليه، ويترك ما أوجب الله عليه من غير أن يفعل ما يكفر به؟ !
ونقول ثانياً: هب أننا أخرجنا فاعل الكبيرة من الإيمان، فكيف يمكن أن نحكم على رجلين بتساويهما في الإيمان وأحدهما مقتصد، والآخر سابق بالخيرات بإذن الله ؟ !
فصل
ولزيادة الإيمان أسباب منها:
1. معرفة أسماء الله وصفاته فإن العبد كلما ازداد معرفة بها وبمقتضياتها، وآثارها ازداد إيماناً بربه وحباً له وتعظيماً.
2. النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة، والحكمة البالغة ازداد إيماناً ويقيناً بلا ريب.
3. فعل الطاعة، فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل وجنسه وكثرته، فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة.
وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون، وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر، وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزيد بزيادته.
4. ترك المعصية خوفاً من الله عز وجل وكلما قوي الداعي إلى فعل المعصية كانت زيادة الإيمان بتركها أعظم، لأن تركها مع قوة الداعي إليها دليل على قوة إيمان العبد وتقديمه ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
وأما نقص الإيمان فله أسباب:
1. 1. الجهل بالله تعالى: وأسمائه وصفاته.
2. 2. الغفلة والإعراض عن النظر في آيات الله وأحكامه الكونية والشرعية، فإن ذلك يوجب مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.(86/56)
3. 3. فعل المعصية فينقص الإيمان بحسب جنسها، وقدرها، والتهاون بها وقوة الداعي إليها أو ضعفه.
فأما جنسها وقدرها فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محترم، ونقصه بمعصيتين أكثر من نقصه بمعصية واحدة وهكذا.
وأما التهاون بها فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى: شديد الخوف منه لكن فرطت منه المعصية.
وأما قوة الداعي إليها فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير، وزنى الشيخ أعظم إثماً من استكبار الغني، وزنى الشاب كما في الحديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم": وذكر منهم الأشمط ؟ الزاني والعائل المستكبر لقلة داعي تلك المعصية فيهما.
4. 4. ترك الطاعة فإن الإيمان ينقص به والنقص به على حسب تأكد الطاعة فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة.
ثم إن نقص الإيمان بترك الطاعة على نوعين نوع يعاقب عليه وهو ترك الواجب بلا عذر. ونوع لا يعاقب عليه وهو ترك الواجب لعذر شرعي، أو حسي، وترك المستحب، فالأول كترك المرأة الصلاة أيام الحيض، والثاني كترك صلاة الضحى. والله أعلم.
فصل
في الاستثناء في الإيمان
الاستثناء في الإيمان: أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله.
وقد اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: تحريم الاستثناء، وهو قول المرجئة، والجهمية ونحوهم.
ومأخذ هذا القول: أن الإيمان شيء واحد يعلمه الإنسان من نفسه وهو التصديق الذي في القلب، فإذا استثنى فيه كان دليلاً على شكه، ولذلك كانوا يسمون الذين يستثنون في الإيمان "شكاكاً ".(86/57)
والثاني: وجوب الاستثناء، وهذا القول له مأخذان:
1. 1. أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه فالإنسان إنما يكون مؤمناً وكافراً بحسب الموافاة، وهذا شيء مستقبل غير معلوم. فلا يجوز الجزم به، وهذا مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، لكن هذا المأخذ لم يعلم أن أحداً من السلف علل به وإنما كانوا يعللون بالمأخذ الثاني وهو:
2. 2. أن الإيمان المطلق يتضمن فعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، وهذا لا يجزم به الإنسان من نفسه، ولو جزم لكان قد زكى نفسه وشهد لها بأنه من المتقين الأبرار، وكان ينبغي على هذا أن يشهد لنفسه بأنه من أهل الجنة وهذه لوازم ممتنعة.
القول الثالث: التفصيل فإن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم، بل كفر، لأن الإيمان جزم والشك ينافيه، وإن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً، وعملاً واعتقاداً فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور، وإن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله فهذا جائز.
والتعليق بالمشيئة على هذا الوجه - أعني بيان التعليل - لا ينافي تحقق المعلق فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } (1).
وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء بل لابد من التفصيل السابق والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 8 من ذي القعدة سنة 1380هـ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
---
(1) سورة الأعراف: الآية 158.
(1) سورة التوبة: الآية " 33".
(1) سورة الإسراء: الآية 36.
(2) سورة الأعراف: الآية 33.
(1) سورة الأعراف: الآية 180.
(2) سورة الشورى: الآية 11.
(3) سورة الإسراء: الآية 36.
(1) سورة النساء: الآية 164.(86/58)
(2) سورة الفاتحة: الآية 2.
(*) راجع ص (95) في الفصل الثاني من الباب العشرين .
(1) سورة الحشر: الآيات 22-24.
(2) سورة الروم: الآية 27.
(3) سورة البقرة: الآية 255.
(*) راجع ص (91) في الباب التاسع عشر .
(1) سورة طه: الآية 5.
(2) سورة فاطر: الآية 10 .
(3) سورة الشورى: الآية 11.
(4) سورة طه: الآية 110.
(1) سورة البقرة: الآية 255.
(2) سورة الأعلى: الآية 1.
(3) سورة النحل: الآية 50.
(4) سورة طه: الآية 5.
(5) سورة الملك: الآية 16.
(6) سورة فاطر: الآية 10.
(7) سورة المعارج: الآية 4.
(8) سورة النساء: الآية 158.
(1) سورة الواقعة: الآية 80.
(2) سورة النحل: الآية 102.
(1) سورة الأنعام: الآية 3.
(2) سورة الزخرف: الآية 84.
(3) سورة الأنعام: الآية 3.
(1) سورة الزمر: الآية 67.
(2) سورة الأنفال: الآية 11.
(1) سورة التوبة: الآية 2.
(1) سورة القصص: الآية 14.
(2) سورة البقرة: الآية 29.
(3) سورة الزخرف: الآية 13.
(4) سورة طه: الآية 5.
(5) ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 34.
(6) سورة طه : الآية 5.
(1) سورة يوسف: الآية 100.
(2) سورة النمل: الآية 23.
(1) سورة الحديد: الآية 4.
(2) سورة الأنفال: الآية 19.
(3) سورة طه: الآية 46.
(1) سورة الحديد: الآية 4.
(2) سورة المجادلة : الآية 7.
(3) سورة الأنفال: الآية 19.
(4) سورة النحل: الآية 128.
(5) سورة طه: الآية 46.
(6) سورة التوبة: الآية 40.
(1) سورة الحديد: الآية 4.
(1) سورة الرحمن: الآية 27.
(1) سورة ص: الآية 75.
(2) سورة ص: الآية 75.
(3) سورة ص: الآية 75.
(1) سورة القمر: الآية 14.
(1) سورة الملك: الآية 1.
(2) سورة طه: الآية 39.
(3) سورة يس: الآية 71.
(4) سورة القمر: الآية 14.
(5) سورة المائدة: الآية 64.
(1) سورة الأعراف: الآية 143.
(2) سورة آل عمران: الآية 55.
(3) سورة مريم: الآية 52.
(1) سورة التوبة: الآية 6.
(2) سورة ص: الآية 29.(86/59)
(3) سورة الشعراء: الآيات 193-195.
(1) سورة النساء: الآيات 60-61.
(1) أي ما يدعيه من نفي الصفات.
(2) سورة مريم: الآية 65.
(2) سورة الإخلاص: الآية 4.
(1) ومنها ما تقدم من قوله تعالى: { هل تعلم له سميًّا } { ولم يكن له كفواً أحد } .
(2) انظر الكلام في الجهة ص 68 الباب التاسع والكلام في الجسم ص 71 الباب العاشر وأما الحيز فيفصل فيه فإن أريد أن الله تحوزه المخلوقات فهو ممتنع وإن أريد أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها فصحيح.
(1) سورة الشورى: الآية 11.
(2) سورة الإخلاص: الآية 4.
([1][1]) راجع ص 59 من الباب الرابع
(1) انظر الرد عليهم ص 95 في الباب العشرين.
(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(1) سورة أل عمران: الآية 7.
(2) سورة آل عمران: الآية 7.
(1) سورة الأعراف: الآية 53.
(2) سورة النساء: الآية 59.
(3) سورة النحل: الآية 98.
(1) سورة السجدة: الآية 17.
(1) سورة الشورى: الآية 11.
(1) سورة آل عمران: الآية 186.
(1) سورة المائدة: الآية 3.
(2) سورة آل عمران: الآية 19.
(3) سورة آل عمران: الآية 85.
(4) سورة يوسف: الآية 17.
(5) سورة الحجرات: الآية 14.
(1) سورة الأنفال: الآيات2-4.
(2) سورة الفتح: الآية 4.
(1) سورة الفتح: الآية 27.(86/60)
مجموع فتاوى و رسائل - 4
تقريب التدمرية
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى: بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وأئمة الهدى من بعدهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم بياناً كاملاً شاملاً في دقيق أمورهم، وجليلها، وظاهرها، وخفيها حتى علمهم ما يحتاجون إليه في مآكلهم، ومشاربهم، ومناكحهم، وملابسهم، ومساكنهم فعلمهم آداب الأكل، والشرب، والتخلي منهما، وآداب النكاح، واللباس ودخول المنزل، والخروج منه، كما علمهم ما يحتاجون إليه في عبادة الله عز وجل كالطهارة والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج وغير ذلك.
وما يحتاجون إليه في معاملة الخلق من بر الوالدين، وصلة الأرحام وحسن الصحبة والجوار وغير ذلك.
وعلمهم كيف يتعاملون بينهم في البيع، والشراء، والرهن، والارتهان والتأجير، والاستئجار، والهبة، والاتهاب وغير ذلك. حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً ".(87/1)
وفي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه أنه قيل له:قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: "أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول.."، وذكر تمام الحديث، هذا فضلاً عن أسس هذه العبادات، والأخلاق والمعاملات، وهو ما يعتقده العباد في إلههم ومعبودهم في ذاته، وأسمائه، وصفاته وأفعاله، وما ينشأ عن ذلك من أحكامه الكونية والشرعية المبنية على بالغ الحكمة، وغاية الرحمة فأخذ عنه ذلك الصحابة معيناً صافياً نقياً مبنياً على التوحيد الكامل المتضمن لركنين أساسيين: نفي، وإثبات.
فأما الإثبات فهو: إثبات ما يجب لله تعالى: من الربوبية، والألوهية والأسماء والصفات، والأفعال.
وأما النفي فهو: نفي مشاركة غير الله تعالى: لله فيما يجب له.
ومضى عليه التابعون لهم بإحسان ممن أدركوا زمن الصحابة أو جاؤوا بعدهم من أئمة الهدى المستحقين لرضا الله عز وجل حيث يقول الله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } (1). ثم خلف خلوف عموا عن الحق أو تعاموا عنه فضلوا، وأضلوا قصوراً أو تقصيراً، أو عدواناً وظلماً، فأحدثوا في دين الله تعالى: ما ليس منه في العقيدة، والعبادة، والسلوك، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة، أو كذبوها إن أمكنهم ذلك.(87/2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " إلى أن قال: فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكاً ظهر النقص في الأمراء فلا بُدَّ أن يظهر أيضاً في أهل العلم والدين فحدث في آخر خلافة علي رضي الله عنه بدعتا الخوارج والرافضة إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة وتوابع ذلك من الأعمال والأحكام الشرعية.
وكان ملك معاوية ملكاً ورحمة، فلما ذهب وجاءت إمارة يزيد وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة وحصروا مكة لما قام عبد الله بن الزبير، ثم مات يزيد وتفرقت الأمة: ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام، ووثب المختاربن أبي عبيد وغيره بالعراق وذلك في أواخر عصر الصحابة وقد بقي فيهم مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري وغيرهم حدثت بدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة... مع ما كانوا يردونه هم وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق، ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم، ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث تابعو التابعين ينقرض أكثرهم.(87/3)
فإن الاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه. وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل. وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك. وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية وصار في ولاة الأمور كثير من الأعاجم وخرج كثير من الأمور عن ولاية العرب وعُرِّبت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس، والهند، والروم وظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ويحلف ولا يستحلف".
حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوّف.
وحدث التجهم وهو نفي الصفات وبإزائه التمثيل إلى أن قال :فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعاً إذ المرء مالم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة أهـ (1).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: بدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة فأنكرها من كان منهم حياً كعبد الله بن عمر، وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة فتكلم فيها كبار التابعين الذين أدركوها، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين واستفحل أمرها واستطار شرها في زمن الأئمة كالإمام أحمد وذويه، ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول وظهر أمرها في زمن الحسين الحلاج، وكلما أظهر الشيطان بدعة من هذه البدع وغيرها أقام الله لها من حزبه وجنده من يردها ويحذر المسلمين منها نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله ولأهل الإسلام أ هـ (2).
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح البخاري: فمما حدث تدوين الحديث، ثم تفسير القرآن، ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة من الرأي المحض، ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب.
فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون.(87/4)
وأما الثاني: فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي.
وأما الثالث: فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده.
ومما حدث أيضاً تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة فبالغ الأول حتى شبه، وبالغ الثاني حتى عطل واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة، وأبي يوسف، والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور. وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر شيء من الأهواء يعني بدع الخوارج، والروافض، والقدرية، وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة ويجعل الأول المقصود بالأصالة. أ هـ(1).
ولما كان من حكمة الله البالغة أن يجعل للحق معارضين يتبين بمعارضتهم صواب الحق وظهوره على الباطل فإن خالص الذهب لا يظهر إلا بعرضه على النار، قيض الله جل وعلا بقدرته التامة ولطفه الواسع وقهره الغالب من يدحض حجج هؤلاء المعارضين ويبين زيف شبههم وأنها كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًّا وكل كاسر مكسور(87/5)
وقال الإمام أحمد رحمه الله في خطبة كتاب " الرد على الجهمية: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم فنعود بالله من فتن المضلين. أهـ(2).
وكان من جملة من قيضهم الله تعالى: لنصرة دينه والذب عنه باللسان والبنان والسنان شيخ الإسلام: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المولود في حران يوم الاثنين العاشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، المتوفى محبوساً ظلماً في قلعة دمشق ليلة الاثنين الموافق العشرين من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وصلي عليه في الجامع الأموي بعد صلاة الظهر ولم يتم دفنه لكثرة الزحام إلا قبل العصر بيسير، رحمه الله تعالى: رحمة واسعة، وجمعنا به مع من أنعم الله عليهم في جنات النعيم.
ولقد كان له رحمه الله مصنفات كثيرة في مجادلة أهل البدع ومجالدة أفكارهم ما بين مطولة ومتوسطة وقليلة وحصل بذلك نفع كبير أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء منها في النونية حيث قال:
وإذا أردت ترى مصارع من خلا من أمة التعطيل والكفران
إلى أن قال:
فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني
أعني أبا العباس أحمد ذلك الـ بحر المحيط بسائر الخلجان(87/6)
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثان
وكذاك منهاج له في رده قول الروافض شيعة الشيطان
ثم ذكر عدة من كتبه ورسائله وقال:
هي في الورى مبثوثة معلومة تبتاع بالغالي من الأثمان
إلى أن قال:
وله المقامات الشهيرة في الورى قد قامها لله غير جبان
نصر الإله ودينه وكتابه ورسوله بالسيف والبرهان
أبدى فضائحهم وبين جهلهم وأرى تناقضهم بكل زمان
إلى أن قال:
ومن العجائب أنه بسلاحهم أرداهم تحت الحضيض الداني
كانت نواصينا بأيديهم فما منا لهم إلا أسير عانِ
فغدت نواصيهم بأيدينا فما يلقوننا إلا بحبل أمان
وغدت ملوكهم مماليكاً لأنـ ـصار الرسول بمنة الرحمن(1)
وكان من جملة رسائل الشيخ رحمه الله رسالة: " تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع " المعروفة باسم:
التدمرية
والظاهر أن هذه الرسالة ضمن أجوبة أجاب بها الشيخ أهل تدمر(2) وكانت هذه الرسالة من أحسن وأجمع ما كتبه في موضوعها على اختصارها ومن أجل ذلك فإني أستعين الله عز وجل في لم شعثها وجمع شملها وتقريب معانيها لقارئها مع زيادة ما تدعو الحاجة إليه وحذف ما يمكن الاستغناء عنه على وجه لا يخل بالمقصود(3). وسميته:
" تقريب التدمرية"
وأسال الله تعالى: أن يجعل عملي خالصاً لوجهه موافقاً لمرضاته نافعاً لعباده إنه جواد كريم.
بيان سبب تأليف هذه الرسالة
بين المؤلف سبب تأليف هذه الرسالة بقوله:
أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر.
ثم علل وجوب إجابتهم بأمرين:(87/7)
أحدهما: مسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين لأنه لابد أن يخطر على القلب في هذين الأصلين ما يحتاج معه إلى بيان الهدى من الضلال، والحق من الباطل.
الثاني: كثرة اضطراب أقوال الناس فيهما، والخوض فيهما بالحق تارة وبالباطل تارات فيلتبس الحق بالباطل على كثير من الناس، ومن ثم احتيج إلى البيان.
الكلام في التوحيد والصفات
وفي الشرع والقدر
الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، الدائر بين النفي والإثبات من قبل المتكلم، المقابل بالتصديق أو التكذيب من قبل المخاطب لأنه خبر عما يجب لله تعالى: من التوحيد وكمال الصفات، وعما يستحيل عليه من الشرك والنقص ومماثلة المخلوقات.
مثال ذلك قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } (1). ففي قوله: { لا إله إلا هو } إثبات التوحيد، وفي قوله : { الحي القيوم } إثبات كمال الصفات، وفي قوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } نفي النقائص عن الله المتضمن لإثبات الكمالات.
وأما الكلام في الشرع والقدر فهو من باب الطلب، الدائر بين الأمر والنهي من قبل المتكلم، المقابل بالطاعة أو المعصية من قبل المخاطب، لأن المطلوب إما محبوب لله ورسوله فيكون مأموراً به، وإما مكروه لله ورسوله فيكون منهياً عنه.
مثال ذلك قوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } (2)ففي قوله : { اعبدوا الله } الأمر بعبادة الله، وفي قوله : { ولا تشركوا به شيئاً } النهي عن الإشراك به.(87/8)
والفرق بين الخبر والطلب في حقيقتيهما وحكمهما معلوم، فالواجب على العباد إزاء خبر الله ورسوله: التصديق والإيمان به على ما أراد الله ورسوله تصديقاً لا تكذيب معه، وإيماناً لا كفر معه، ويقيناً لا شك معه لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } (1).
والواجب على العباد إزاء الطلب: امتثاله على الوجه الذي أراد الله ورسوله من غير غلو ولا تقصير، فيقومون بالمأمور ويجتنبون المحظور لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون . ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون . إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } (2).
فصل
إذا تبين ذلك فهاهنا أصلان:
الأصل الأول في الصفات وهو: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما جمع الله تعالى: بينهما في قوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (3).
فقوله : { ليس كمثله شيء } نفي متضمن لكمال صفاته مبطل لمنهج أهل التمثيل ، وقوله: { وهو السميع البصير } إثبات لأسمائه وصفاته وإبطال لمنهج أهل التحريف والتعطيل، فنثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفى الله عن نفسه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. وهذا هو المنهج السليم الواجب المبني على العلم والحكمة والسداد في القول والاعتقاد وله دليلان أثري ونظري، وإن شئت فقل : سمعي وعقلي:
أما الأثري السمعي فمنه قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (4).(87/9)
وقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (5)وقوله: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } (6)وقوله: { ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } (7).
وأما النظري العقلي فلأن القول في أسماء الله وصفاته من باب الخبر المحض الذي لا يمكن للعقل إدراك تفاصيله فوجب الوقوف فيه على ما جاء به السمع.
فصل
والجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات هو حقيقة التوحيد فيه وذلك لأن التوحيد مصدر وَحَّد يوحد. ولا يمكن صدق حقيقته إلا بنفي وإثبات، لأن الاقتصار على النفي المحض تعطيل محض. والاقتصار على الإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك: لو قلت: ما زيد بشجاع فقد نفيت عنه صفة الشجاعة وعطلته منها.
ولو قلت: زيد شجاع فقد أثبت له صفة الشجاعة لكن ذلك لا يمنع أن يكون غيره شجاعاً أيضاً.
ولو قلت: لا شجاع إلا زيد فقد أثبت له صفة الشجاعة، ونفيت أن يشاركه غيره فيها فكنت موحداً له في صفة الشجاعة.
إذاً لا يمكن توحيد أحد بشيء إلا بالجمع بين النفي والإثبات.
واعلم أن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه كلها صفات كمال، والغالب فيها التفصيل، لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما لم يكن معلوماً من قبل، ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه.
وأما الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص ولا تليق به كالعجز، والتعب، والظلم، ومماثلة المخلوقين، والغالب فيها الإجمال لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقص في الموصوف.(87/10)
ألا ترى أنك لو مدحت ملكاً فقلت له: أنت كريم، شجاع محنك، قوي الحكم، قاهر لأعدائك إلى غير ذلك من صفات المدح لكان هذا من أعظم الثناء عليه، وكان فيه من زيادة مدحه وإظهار محاسنه ما يجعله محبوباً محترماً لأنك فصلت في الإثبات.
ولو قلت: أنت ملك لا يساميك أحد من ملوك الدنيا في عصرك لكان ذلك مدحاً بالغاً لأنك أجملت في النفي.
ولو قلت: أنت ملك غير بخيل، ولا جبان، ولا فقير، ولا بقال، ولا كناس ولا بيطار، ولا حجام، وما أشبه ذلك من التفصيل في نفي العيوب التي لا تليق به لعُد ذلك استهزاءً به وتنقصاً لحقه.
وقد يأتي الإجمال في أسماء الله تعالى: وصفاته الثبوتية كقوله تعالى: في الأسماء: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1) وقوله في الصفات: { ولله المثل الأعلى } (2). أي الوصف الأعلى .
وقد يأتي التفصيل في الصفات المنفية لأسباب منها:
1. نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون المفترون كقوله تعالى: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } (3).
2. دفع توهم نقص في كماله كقوله تعالى: { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } (4).
3. بيان عموم كماله في قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفواً أحد } .
أمثلة التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي
الأمثلة على التفصيل في الإثبات كثيرة جداً فمنها:
قوله تعالى: في سورة الحشر الآية: 22: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } . إلى آخر السورة فقد تضمنت هذه الآيات أكثر من خمسة عشر اسماً، وكل اسم منها قد تضمن صفة، أو صفتين، أو أكثر.
وكقوله تعالى: في سورة الحج الآية: 59: { ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم } . إلى قوله: { إن الله بالناس لرؤف رحيم } . فهذه سبع آيات متوالية ختمت كل آية منها باسمين من أسماء الله عز وجل وكل اسم منها متضمن لصفة، أو صفتين، أو أكثر.(87/11)
وأما أمثلة الإجمال في النفي فمنها قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (5) وقوله تعالى: { هل تعلم له سمياً } (6). وقوله: { ولم يكن له كفواً أحد } (7).
فصل
واعلم أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، كما دل على ذلك السمع، والعقل، والحس.
أما السمع:فقد قال الله عن نفسه: { إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً } (1) وقال عن الإنسان: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } (2) . ونفى أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير فقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (3). وأثبت لنفسه علماً وللإنسان علماً فقال عن نفسه: { علم الله أنكم ستذكرونهن } (4). وقال عن الإنسان: { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } (5). وليس علم الإنسان كعلم الله تعالى: فقد قال الله عن علمه: { وسع كل شيء علماً } (6). وقال: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } (7). وقال عن علم الإنسان: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } (8).
وأما العقل: فمن المعلوم بالعقل أن المعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه، فكما أن الأشياء مختلفة في ذواتها فإنها كذلك مختلفة في صفاتها وفي المعاني المضافة إليها ، فإن صفة كل موصوف تناسبه لا يفهم منها ما يقصر عن موصوفها أو يتجاوزه، ولهذا نصف الإنسان باللين والحديد المنصهر باللين، ونعلم أن اللين متفاوت المعنى بحسب ما أضيف إليه.
وأما الحس: فإننا نشاهد للفيل جسماً وقدماً وقوة، وللبعوضة جسماً وقدماً وقوة، ونعلم الفرق بين جسميهما، وقدميهما، وقوتيهما.(87/12)
فإذا علم أن الاشتراك في الاسم والصفة في المخلوقات لا يستلزم التماثل في الحقيقة مع كون كل منها مخلوقاً ممكناً، فانتفاء التلازم في ذلك بين الخالق والمخلوق أولى، وأجلى، بل التماثل في ذلك بين الخالق والمخلوق ممتنع غاية الامتناع.
فصل
في الزائغين عن سبيل الرسل وأتباعهم
في أسماء الله وصفاته
الزائغون عن سبيل الرسل، وأتباعهم في أسماء الله وصفاته قسمان: ممثلة، ومعطلة.
وكل منهم غلا في جانب، وقصر في جانب، فالممثلة غلوا في جانب الإثبات وقصّروا في جانب النفي والمعطلة غلوا في جانب النفي، وقصروا في جانب الإثبات، فخرج كل منهم عن الاعتدال في الجانبين.
فالقسم الأول: الممثلة وطريقتهم أنهم أثبتوا لله الصفات على وجه يماثل صفات المخلوقين فقالوا: لله وجه، ويدان، وعينان، كوجوهنا، وأيدينا وأعيننا، ونحو ذلك.
وشبهتهم في ذلك أن الله تعالى: خاطبنا في القرآن بما نفهم ونعقل قالوا: ونحن لا نفهم، ولا نعقل إلا ما كان مشاهداً فإذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد.
ومذهبهم باطل مردود بالسمع، والعقل، والحس.
أما السمع:فقد قال الله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1). وقال: { فلا تضربوا لله الأمثال } (2). ففي الآية الأولى نفى أن يكون له مماثل مع إثبات السمع والبصر له.
وفي الثانية نهى أن تضرب له الأمثال فجمع في هاتين الآيتين بين النفي والنهي.
وأما العقل فدلالته على بطلان التمثيل من وجوه:
الأول: التباين بين الخالق والمخلوق في الذات والوجود، وهذا يستلزم التباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به فالمعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه.
الثاني: أن القول بالمماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه، لأن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.(87/13)
الثالث: أن القول بمماثلة الخالق للمخلوق يقتضي بطلان العبودية الحق، لأنه لا يخضع عاقل لأحد ويذل له على وجه التعظيم المطلق إلا أن يكون أعلى منه.
وأما الحس: فإننا نشاهد في المخلوقات ما تشترك أسماؤه وصفاته في اللفظ، وتتباين في الحقيقة فللفيل جسم وقوة وللبعوضة جسم وقوة، والتباين بين جسميهما وقوتيهما معلوم فإذا جاز هذا التباين بين المخلوقات كان جوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى ، بل التباين بين الخالق والمخلوق واجب والتماثل ممتنع غاية الامتناع.
وأما قولهم: إن الله تعالى: خاطبنا بما نعقل ونفهم فصحيح لقوله تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (1)وقوله: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } (2). وقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } (3)ولولا أن الله أراد من عباده عقل وفهم ما جاءت به الرسل لكان لسان قومه ولسان غيرهم سواء، ولما حصل البيان الذي تقوم به الحجة على الخلق.
وأما قولهم: إذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن ما أخبر الله به عن نفسه إنما أخبر به مضافاً إلى نفسه المقدسة فيكون لائقاً به لا مماثلاً لمخلوقاته، ولا يمكن لأحد أن يفهم منه المماثلة إلا من لم يعرف الله تعالى:، ولم يقدره حق قدره، ولم يعرف مدلول الخطاب الذي يقتضيه السياق.
الثاني: أنه لا يمكن أن تكون المماثلة مرادة لله تعالى: لأن المماثلة تستلزم نقص الخالق جل وعلا، واعتقاد نقص الخالق كفر وضلال، ولا يمكن أن يكون مراد الله تعالى: بكلامه الكفر والضلال كيف وقد قال:
{ يبين الله لكم أن تضلوا } (4). وقال: { ولا يرضى لعباده الكفر } (5).
فصل(87/14)
والقسم الثاني(1): المعطلة وهم الذين أنكروا ما سمى الله تعالى: ووصف به نفسه إنكاراً كلياً، أو جزئياً، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة فهم محرفون للنصوص، معطلون للصفات، وقد انقسم هؤلاء إلى أربع طوائف:
الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن ضاهاهم من الماتريدية وغيرهم وطريقتهم أنهم أثبتوا لله الأسماء، وبعض الصفات، ونفوا حقائق أكثرها، وردوا ما يمكنهم رده من النصوص، وحرفوا مالا يمكنهم رده، وسموا ذلك التحريف " تأويلاً ".
فأثبتوا لله من الصفات سبع صفات: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعض هذه الصفات.
وشبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم اعتقدوا فيما نفوه أن إثباته يستلزم التشبيه أي التمثيل. وقالوا فيما أثبتوه : إن العقل قد دل عليه فإن إيجاد المخلوقات يدل على القدرة، وتخصيص بعضها بما يختص به يدل على الإرادة، وإحكامها يدل على العلم، وهذه الصفات " القدرة، والإرادة، والعلم" تدل على الحياة لأنها لا تقوم إلا بحي، والحي إما أن يتصف بالكلام والسمع والبصر وهذه صفات كمال، أو بضدها وهو الخرس والصمم والعمى وهذه صفات نقص ممتنعة على الله تعالى: فوجب ثبوت الكلام، والسمع والبصر.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمة من بعدهم، فما منهم أحد رجع إلى العقل في ذلك وإنما يرجعون إلى الكتاب والسنة، فيثبتون لله تعالى: من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل : " نصف الله بما وصف به نفسه ولا نتعدى القرآن والحديث".(87/15)
الثاني: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف للعقل لأن هذا الباب من الأمور الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال وإنما تتلقى من السمع فإن العقل لا يمكنه أن يدرك بالتفصيل ما يجب، ويجوز، ويمتنع في حق الله تعالى: فيكون تحكيم العقل في ذلك مخالفاً للعقل.
الثالث: أن الرجوع في ذلك إلى العقل مستلزم للاختلاف والتناقض فإن لكل واحد منهم عقلاً يرى وجوب الرجوع إليه كما هو الواقع في هؤلاء فتجد أحدهم يثبت ما ينفيه الآخر، وربما يتناقض الواحد منهم فيثبت في مكان ما ينفيه، أو ينفي نظيره في مكان آخر، فليس لهم قانون مستقيم يرجعون إليه.
قال المؤلف رحمه الله في الفتوى الحموية: " فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء "(1). ومن المعلوم أن تناقض الأقوال دليل على فسادها.
الرابع: أنهم إذا صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معنى زعموا أن العقل يوجبه فإنه يلزمهم في هذا المعنى نظير ما يلزمهم في المعنى الذي نفوه مع ارتكابهم تحريف الكتاب والسنة.
مثال ذلك: إذا قالوا : المراد بيدي الله عز وجل: القوة دون حقيقة اليد لأن إثبات حقيقة اليد يستلزم التشبيه بالمخلوق الذي له يد.
فنقول لهم: يلزمكم في إثبات القوة نظير ما يلزمكم في إثبات اليد الحقيقية، لأن للمخلوق قوة فإثبات القوة لله تعالى: يستلزم التشبيه على قاعدتكم.
ومثال آخر: إذا قالوا : المراد بمحبة الله تعالى: إرادة ثواب المحبوب أو الثواب نفسه دون حقيقة المحبة، لأن إثبات حقيقة المحبة يستلزم التشبيه.(87/16)
فنقول لهم: إذا فسرتم المحبة بالإرادة لزمكم في إثبات الإرادة نظير ما يلزمكم في إثبات المحبة، لأن للمخلوق إرادة فإثبات الإرادة لله تعالى: يستلزم التشبيه على قاعدتكم، وإذا فسرتموها بالثواب، فالثواب مخلوق مفعول لا يقوم إلا بخالق فاعل، والفاعل لابد له من إرادة الفعل وإثبات الإرادة مستلزم للتشبيه على قاعدتكم.
ثم نقول: إثباتكم إرادة الثواب، أو الثواب نفسه مستلزم لمحبة العمل المثاب عليه، ولولا محبة العمل ما أثيب فاعله فصار تأويلكم مستلزماً لما نفيتم فإن أثبتموه على الوجه المماثل للمخلوق ففي التمثيل وقعتم، وإن أثبتموه على الوجه المختص بالله واللائق به أصبتم ولزمكم إثبات جميع الصفات على هذا الوجه.
الخامس: أن قولهم فيما نفوه: " إن إثباته يستلزم التشبيه" ممنوع لأن الاشتراك في الأسماء والصفات، لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما تقرر سابقاً، ثم إنه منقوض بما أثبتوه من صفات الله، فإنهم يثبتون لله تعالى: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، مع أن المخلوق متصف بذلك فإثباتهم هذه الصفات لله تعالى: مع اتصاف المخلوق بها مستلزم للتشبيه على قاعدتهم.
فإن قالوا: إننا نثبت هذه الصفات لله تعالى: على وجه يختص به ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منها.
قلنا: هذا جواب حسن سديد فلماذا لا تقولون به فيما نفيتموه فتثبتونه لله على وجه يختص به ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منه ؟ !
فإن قالوا: ما أثبتناه فقد دل العقل على ثبوته فلزم إثباته.
قلنا: عن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لا يصح الاعتماد على العقل في هذا الباب كما سبق.
الثاني: أنه يمكن إثبات ما نفيتموه بدليل عقلي يكون في بعض المواضع أوضح من أدلتكم فيما أثبتموه.
مثال ذلك: الرحمة التي أثبتها الله تعالى: لنفسه في قوله: { وربك الغفور ذو الرحمة } (1) وقوله: { وهو الغفور الرحيم } (2). فإنه يمكن إثباتها بالعقل كما دل عليها السمع.(87/17)
فيقال: الإحسان إلى الخلق بما ينفعهم ويدفع عنهم الضرر يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة بل هو أبين وأوضح لظهوره لكل أحد.
الثالث: أن نقول: على فرض أن العقل لا يدل على ما نفيتموه فإن عدم دلالته عليه لا يستلزم انتفاءه في نفس الأمر، لأن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر. فإذا قدرنا أن الدليل العقلي لا يثبته فإن الدليل السمعي قد أثبته، وحينئذ يجب إثباته بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم.
فإن قالوا: بل العقل يدل على انتفاء ذلك لأن إثباته يستلزم التشبيه والعقل يدل على انتفاء التشبيه.
قلنا: إن كان إثباته يستلزم التشبيه فإن إثبات ما أثبتموه يستلزم التشبيه أيضاً، فإن منعتم ذلك لزمكم منعه فيما نفيتموه إذ لا فرق، وحينئذ إما أن تقولوا بالإثبات في الجميع فتوافقوا السلف، وإما أن تقولوا بالنفي في الجميع فتوافقوا المعتزلة ومن ضاهاهم، وأما التفريق فتناقض ظاهر.
فصل
الطائفة الثانية: المعتزلة ومن تبعهم من أهل الكلام وغيرهم.
وطريقتهم أنهم يثبتون لله تعالى: الأسماء دون الصفات، ويجعلون الأسماء أعلاماً محضة، ثم منهم من يقول : إنها مترادفة فالعليم، والقدير، والسميع، والبصير شيء واحد، ومنهم من يقول: إنها متباينة ولكنه عليم بلا علم ، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه لأنه لا يوجد شيء متصف بالصفات إلا جسم، والأجسام متماثلة، فإثبات الصفات يستلزم التشبيه.
والرد عليهم من وجوه:(87/18)
الأول: أن الله تعالى: سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بصفات فإن كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه فإثبات الأسماء كذلك، وإن كان إثبات الأسماء لا يستلزم التشبيه فإثبات الصفات كذلك، والتفريق بين هذا وهذا تناقض، فإما أن يثبتوا الجميع فيوافقوا السلف، وإما أن ينفوا الجميع فيوافقوا غلاة الجهمية والباطنية، وإما أن يفرقوا فيقعوا في التناقض.
الثاني: أن الله تعالى: وصف أسماءه بأنها حسنى ، وأمرنا بدعائه بها فقال: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (1). وهذا يقتضي أن تكون دالة على معانٍ عظيمة تكون وسيلة لنا في دعائنا ولا يصح خلوها عنها.
ولو كانت أعلاماً محضة لكانت غير دالة على معنى سوى تعيين المسمى، فضلاً عن أن تكون حسنى ووسيلة في الدعاء.
الثالث:أن الله تعالى: أثبت لنفسه الصفات إجمالاً وتفصيلاًمع نفي المماثلة فقال تعالى: { ولله المثل الأعلى } (2). وقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (3). وهذا يدل على أن إثبات الصفات لا يستلزم التمثيل ولو كان يستلزم التمثيل لكان كلام الله متناقضاً.
الرابع: أن من لا يتصف بصفات الكمال لا يصلح أن يكون رباً ولا إلهاً، ولهذا عاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه باتخاذه ما لا يسمع ولا يبصر إلهاً فقال: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } (4).
الخامس: أن كل موجود لابد له من صفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، وحينئذ لابد أن يكون الخالق الواجب الوجود متصفاً بالصفات اللائقة به.(87/19)
السادس: أن القول" بأن أسماء الله أعلام محضة مترادفة لا تدل إلا على ذات الله فقط" قول باطل لأن دلالات الكتاب والسنة متضافرة على أن كل اسم منها دال على معناه المختص به مع اتفاقها على مسمى واحد وموصوف واحد فالله تعالى: هو الحي القيوم، السميع، البصير، العليم، القدير، فالمسمى والموصوف واحد، والأسماء والصفات متعددة. ألا ترى أن الله تعالى: يسمي نفسه باسمين أو أكثر في موضع واحد كقوله: { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } (1). فلو كانت الأسماء مترادفة ترادفاً محضاً لكان ذكرها مجتمعة لغواً من القول لعدم الفائدة.
السابع: أن القول " بأن الله تعالى: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة وسميع بلا سمع ونحو ذلك" قول باطل مخالف لمقتضى اللسان العربي وغير العربي فإن من المعلوم في جميع لغات العالم أن المشتق دال على المعنى المشتق منه، وأنه لا يمكن أن يقال : عليم لمن لا علم له، ولا قدير لمن لا قدرة له، ولا سميع لمن لا سمع له ونحو ذلك.
وإذا كان كذلك تعين أن تكون أسماء الله تعالى: دالة على ما تقتضيه من الصفات اللائقة به فيتعين إثبات الأسماء والصفات لخالق الأرض والسموات.
الثامن: أن قولهم: " لا يوجد شيء متصف بالصفات إلا جسم" ممنوع فإننا نجد من الأشياء ما يصح أن يوصف وليس بجسم، فإنه يقال: ليل طويل، ونهار قصير، وبرد شديد، وحر خفيف ونحو ذلك، وليست هذه أجساماً. على أن إضافة لفظ الجسم إلى الله تعالى: إثباتاً أو نفياً من الطرق البدعية التي يتوصل بها أهل التعطيل إلى نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
التاسع: أن قولهم: " الأجسام متماثلة " باطل ظاهر البطلان فإن تفاوت الأجسام ظاهر لا يمكن إنكاره. قال الشيخ " المؤلف": ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل(2).
فصل
الطائفة الثالثة: غلاة الجهمية، والقرامطة، والباطنية ومن تبعهم.(87/20)
وطريقتهم أنهم ينكرون الأسماء والصفات ولا يصفون الله تعالى: إلا بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون : إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق(1). فلا يقال : هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير وإنما هذه أسماء لمخلوقاته أو مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم تشبيهه بالموجود الحي، العليم، القدير ويقولون : إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى فلا فرق بين العلم، والقدرة والسمع، والبصر ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم التشبيه والتعدد ووجه ذلك في الأسماء أنه إذا سمي بها لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم فإذا أثبتنا " الحي " مثلاً لزم أن يكون متصفاً بالحياة لأن صدق المشتق يستلزم صدق المشتق منه وذلك يقتضي قيام الصفات به وهو تشبيه.
وأما في الصفات فقالوا : إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد وهو تركيب ممتنع مناقض للتوحيد.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الله تعالى: جمع فيما سمى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات " وقد سبق أمثلة من ذلك " فمن أقر بالنفي وأنكر الإثبات فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض، والكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله. قال الله تعالى: منكراً على بني إسرائيل: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } (2).
وقال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً . أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } (3).
الثاني: أن الموجود المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج المحسوس وإنما هو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة، فتكون حقيقة القول به نفي وجود الله تعالى: إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر.(87/21)
الثالث: قولهم: " إن الصفة عين الموصوف وإن كل صفة عين الصفة الأخرى" مكابرة في المعقولات، سفسطة في البدهيات، فإن من المعلوم بضرورة العقل، والحس أن الصفة غير الموصوف، وأن كل صفة غير الصفة الأخرى فالعلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، كما أن العلم والقدرة، والكلام، صفات متغايرة.
الرابع: أن وصف الله تعالى: بصفات الإثبات أدل على الكمال من وصفه بصفات النفي، لأن الإثبات أمر وجودي يقتضي تنوع الكمالات في حقه، وأما النفي فأمر عدمي لا يقتضي كمالاً إلا إذا تضمن إثباتاً وهؤلاء النفاة لا يقولون بنفي يقتضي الإثبات.
الخامس: قولهم: " إن إثبات صفات متغايرة مغايرة للموصوف يستلزم التعدد.. " قول باطل مخالف للمعقول، والمحسوس فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف فها هو الإنسان الواحد يوصف بأنه حي، سميع بصير، عاقل متكلم إلى غير ذلك من صفاته ولا يلزم من ذلك تعدد ذاته.
السادس: قولهم في الأسماء: " إن إثباتها يستلزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم فيقتضي أن يكون إثباتها تشبيهاً ".
جوابه: أن المعاني التي تلزم من إثبات الأسماء صفات لائقة بالله تعالى: غير مستحيلة عليه، والمشاركة في الاسم، أو الصفة لا تستلزم تماثل المسميات والموصوفات.
السابع: قولهم: " إن الإثبات يستلزم تشبيهه بالموجودات ".
جوابه: أن النفي ـ الذي قالوا به ـ يستلزم تشبيهه بالمعدومات على قياس قولهم وذلك أقبح من تشبيهه بالموجودات وحينئذ فإما أن يقروا بالإثبات فيوافقوا الجماعة، وإما أن ينكروا النفي كما أنكروا الإثبات فيوافقوا غلاة الغلاة من القرامطة والباطنية وغيرهم، وأما التفريق بين هذا وهذا فتناقض ظاهر.
فصل
الطائفة الرابعة: غلاة الغلاة من الفلاسفة، والجهمية، والقرامطة والباطنية وغيرهم.(87/22)
وطريقتهم أنهم أنكروا في حق الله تعالى: الإثبات والنفي، فنفوا عنه الوجود، والعدم، والحياة والموت، والعلم، والجهل ونحوها وقالوا: إنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي، ولا ميت، ولا عالم، ولا جاهل ونحو ذلك.
وشبهتهم أنهم اعتقدوا أنهم إن وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإن وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن تسمية الله ووصفه بما سمى ووصف به نفسه ليس تشبيهاً ولا يستلزم التشبيه، فإن الاشتراك في الاسم والصفة لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، وتسميتكم ذلك تشبيهاً ليس إلا تمويهاً وتلبيساً على العامة والجهال ولو قبلنا مثل هذه الدعوى الباطلة لأمكن كل مبطل أن يسمي الشيء الحق بأسماء ينفر بها الناس عن قبوله.
الثاني: أنه قَدْ علم بضرورة العقل والحس أن الموجود الممكن لابد له من موجد واجب الوجود، فإننا نعلم حدوث المحدثات ونشاهدها، ولا يمكن أن تحدث بدون محدث، ولا أن تحدث نفسها بنفسها لقوله تعالى: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (1). فتعين أن يكون لها خالق واجب الوجود وهو الله تعالى:. ففي الوجود إذاً موجودان:
أحدهما: أزلي واجب الوجود بنفسه.
الثاني: محدث ممكن الوجود، موجود بغيره، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يتفقا في خصائصه، فإن وجود الواجب يخصه، ووجود المحدث يخصه.
فوجود الخالق واجب أزلي ممتنع الحدوث أبدي ممتنع الزوال، ووجود المخلوق ممكن حادث بعد العدم قابل للزوال، فمن لم يثبت ما بينهما من الاتفاق والافتراق لزمه أن تكون الموجودات كلها إما أزلية واجبة الوجود بنفسها أو محدثة ممكنة الوجود بغيرها وكلاهما معلوم الفساد بالاضطرار (2).(87/23)
الثالث: أن إنكارهم الإثبات والنفي، يستلزم نفي النقيضين معاً وهذا ممتنع، لأن النقيضين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، بل لابد من وجود أحدهما وحده فيلزم على قياس قولهم تشبيه الله بالممتنعات لأنه يمتنع أن يكون الشيء لا موجوداً، ولا معدوماً، ولا حياً، ولا ميتاً، إلا أمراً يقدره الذهن ولا حقيقة له، ووصف الله سبحانه بهذا مع كونه مخالفاً لبداهة العقول كفر صريح بما جاء به الرسول.
فإن قالوا: نفي النقيضين ممتنع عما كان قابلاً لهما أما ما كان غير قابل لهما كالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بالسمع والصمم فإنه يمكن نفيهما عنه فيقال : ليس بسميع ولا أصم.
فالجواب من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا لا يصح فيما قالوه من نفي الوجود والعدم فإن تقابلهما تقابل سلب وإيجاب باتفاق العقلاء فإذا انتفى أحدهما لزم ثبوت الآخر، فإذا قيل : ليس بموجود. لزم أن يكون معدوماً. وإذا قيل: ليس بمعدوم لزم أن يكون موجوداً، فلا يمكن نفيهما معاً ولا إثباتهما معاً.
الوجه الثاني: أن قولهم في الجماد : إنه لا يقبل الاتصاف بالحياة، والموت، والعمى، والبصر، والسمع، والصمم ونحوها مما يكون تقابله تقابل عدم وملكة قول اصطلاحي لا يغير الحقائق مردود بما ثبت من جعل الجماد حياً كما جعل الله عصا موسى حية تلقف ما صنعه السحرة وقد وصف الله تعالى: الجماد بأنه ميت في قوله: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون . أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } (1). وأخبر أن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها وهي ما عمل عليها من خير وشر وهذا يستلزم سمعها لما قيل ورؤيتها لما فعل.(87/24)
الوجه الثالث: أن الذي يقبل الاتصاف بالكمال أكمل من الذي لا يقبله فما يقبل أن يوصف بالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ولو كان خالياً منه أكمل مما لا يقبل ذلك، فقولكم إن الرب لا يقبل أن يتصف بذلك يستلزم أن يكون أنقص من الإنسان القابل لذلك حيث شبهتموه بالجماد الذي لا يقبله.
الوجه الرابع: أنه إذا كان يمتنع انتفاء الوجود والعدم فانتفاء عدم قبول ذلك أشد، وعلى هذا يكون قولهم : إن الرب لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم مستلزماً لتشبيهه بأشد الممتنعات.
فصل
علم مما سبق أن كل طائفة من هؤلاء الطوائف الأربع واقعون في محاذير:
الأول: مخالفة طريق السلف.
الثاني: تعطيل النصوص عن المراد بها.
الثالث: تحريفها إلى معان غير مرادة بها.
الرابع: تعطيل الله عن صفات الكمال التي تضمنتها هذه النصوص.
الخامس: تناقض طريقتهم فيما أثبتوه وفيما نفوه.
فنقول لكل واحد منهم في جانب الإثبات: أثبت ما نفيت مع نفي التشبيه، كما أثبت ما أثبت مع نفي التشبيه.
ونقول له في جانب النفي: انف ما أثبت خوفاً من التشبيه، كما نفيت ما نفيت خوفاً ما التشبيه وإلا كنت متنافضاً.
والقول الفصل المطرد السالم من التناقض ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من إثبات ما أثبته الله تعالى: لنفسه من الأسماء والصفات ، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل ، وإجراء النصوص على ظاهرها على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل.
ويتبين هذا بأصلين، ومثلين، وخاتمة:
فأما الأصلان:
فأحدهما: أن يقال لمن يثبت بعض الصفات دون بعض:
" القول في بعض الصفات كالقول في بعض ".
أي إن من أثبت شيئاً مما أثبته الله لنفسه من الصفات أُلزم بإثبات الباقي، ومن نفى شيئاً منه ألزم بنفي ما أثبته وإلا كان متناقضاً.
مثال ذلك: إذا كان المخاطب يثبت لله تعالى: حقيقة الإرادة، وينفي حقيقة الغضب ويفسره: إما بإرادة الانتقام، وإما بالانتقام نفسه.(87/25)