الأَرض عنهم سراعاً } أي مصيرهم إلينا في ذلك الوقت تشقق الأرض، أي: تتفتح عنهم أي عن هؤلاء في قبورهم، تشقق كما تشقق الأرض عند طلوع النبات، {سراعاً } أي يأتون إلى المحشر {ذلك حشر علينا يسير } أي سهل علينا، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون } ويقول تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} ويقول تعالى: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } وهذا يدل على يسر ذلك على الله عز وجل {نحن أعلم بما يقولون } وهذا وعيد لهؤلاء الذين يقولون في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقولون، أخبر الله هنا أنه لا يخفى عليه حالهم، وأنه يعلم ما يقولون، ثم قال: {ومآ أنت عليهم بجبار } أي ليست عليه بذي جبروت فتجبرهم على أن يسلموا ويؤمنوا بك، ولهذا قال في آية أخرى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } أي عظ بالقرآن الكريم من يخاف الوعيد، أي من يخاف وعيدي بالعذاب، لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكر بالقرآن، فالقرآن يذكر به جميع الناس، ولكن لا ينتفع به إلا من يخاف الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بكتابه، المتعظين بآياته.
---------------------------------------------
(1)انظر تفصيل ذلك في تفسير قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} سورة البقرة.
(2) انظر تفسير جزء عم لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى.
(3)أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل (رقم 167) ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره (رقم 268) .
(4) أخرجه النسائي، كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي ? يوم الجمعة (1372) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب في فضل الجمعة (1085) والدارمي، كتاب الصلاة، باب في فضل يوم الجمعة (1580).
(5)أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم كتاب بدء الخلق، باب في النجوم.
(6)أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب(13/32)
قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا (61) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة (2811).
(7)أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1456).
(8)أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (46).
(9)أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (482).
(10) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (2621).
(11) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(12) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6018، 6019) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (47).
(13)أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت (6510).
(14)أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب التهجد بالليل (1120) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (769).
(15) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} (رقم 4935)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين (رقم 2955).
(16)أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2887). وفي رواية: (القطيفة) بدل الخميلة.
(17)أخرجه الإمام أحمد (3/30) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (4204).
(18) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته (6661) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2848).
(19) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 59 (2516) والإمام أحمد (1/293، 303، 307) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(20)أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (رقم 3195) ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم(13/33)
الظلم وغصب الأرض وغيرها (رقم 1612).
(21)أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (574) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (635).
(22)أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر (554) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (633).
(23) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين (6396) ومسلم، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى، هي صلاة العصر (205).(13/34)
تفسير سورة الذاريات
{بسم الله الرحمن الرحيم} تقدم الكلام على البسملة، {والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً} أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لأنها دالة على عظمته تبارك وتعالى، ولما فيها من المصالح والمنافع، أما قوله: {والذاريات ذرواً } فالذاريات هي الرياح تذر التراب وغير التراب، قال الله تبارك وتعالى: {فأصبح هشيمًا تذروه الرياح } أي: تفرقه في أمكنة متعددة، وأقسم الله بالذاريات لما فيها من المصالح الكثيرة، ففي تصريفها حكمة بالغة، فمنها الرياح الدافئة، ومنها الرياح الباردة، على حسب ما تقتضيه حكمة الله - عز وجل - ولأن الرياح تثير سحاباً فيسقي به الله الأرض؛ ولأنها تسير السفن، ففيما سبق كانت السفن تجري على الرياح، قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان } .
{فالحاملات وقراً } المراد بها السحاب، تحمل المياه موقرة، أي: مثقلة محملة، قال الله تبارك وتعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشىء السحاب الثقال } فهي ثقيلة محملة بمياه عظيمة بحار، ولذلك تمطر فتجري الأرض أنهاراً بإذن الله - عز وجل - فالذاريات: الرياح، والحاملات: السحب، والارتباط بينهما ظاهر؛ لأن الرياح هي التي تثير السحاب وهي التي تلقح السحاب بالماء، قال الله تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه }
{فالجاريات } هن السفن {يسراً } أي: بسهولة، قال الله تبارك وتعالى: {إنا لما طغا الماء حملنكم في الجارية } أي: في السفينة، هذه السفينة ميسرة بإذن الله عز وجل بما يسره الله تعالى من الرياح الطيبة، وكلما كانت الريح مناسبة كان سيرها أيسر، والآن جاءت السفن النارية التي لا تحتاج إلى الرياح فصارت أيسر وأيسر، تجدها قرى كاملة تمخر عباب الماء وتسير بسهولة، والارتباط بين هذه الثلاثة أن الرياح تحمل(14/1)
الأمطار، وأن السحب تحمل الأمطار، فتنزل إلى الأرض، فيكون الرزق للمواشي والآدميين، والجاريات أي السفن، هي أيضاً تحمل الأرزاق من جهة إلى جهة، فلا يمكن أن تصل الأرزاق من جهة إلى جهة أخرى بينها وبينها بحر إلا عن طريق السفن.
{فالمقسمات أمراً } وهم الملائكة، وجمعهم لأنه يجوز جمع المؤنث باعتبار الجماعات، أي: فالجماعات المقسمات {أمراً } التي تقسم الأمر، أي: شئون الخلق، ويحتمل أن يكون {أمراً } أي: بأمر الله، والمعنى صحيح على كلا التقديرين، فإن الملائكة عليهم الصلاة والسلام يقسمون ما يريد الله - عز وجل - من أرزاق الخلق وغيرها بأمر الله - عز وجل - هذه أربع جمل: الذاريات، الحاملات، الجاريات، المقسمات،كل هذه مقسم بها، والمقسم عليه: {إنما توعدون لصادق } يعني ما وعدكم الله تعالى فهو وعد صادق، والصادق هو المطابق للواقع، وذلك لأن الخبر نوعان: نوع يخالف الواقع، وهذا يسمى كذباً، ونوع يطابق الواقع، وهذا يسمى صدقاً، سواء كان المخبر عنه ماضٍ أو مستقبلاً، فأقسم الله - عز وجل - بهذه المخلوقات على إنما نوعد صادق. فلابد أن يقع إذا وقع ما نوعد، وهوالبعث يوم القيامة يتلوه الجزاء، ولهذا قال: {وإن الدين لواقع } الدين يعني الجزاء، والدين يطلق أحياناً بمعنى الجزاء، وأحياناً بمعنى العمل، ففي قوله تعالى: {لكم دينكم ولى دين } المراد به العمل، وفي قوله تبارك وتعالى: {مالك يوم الدين } المراد به الجزاء، وهنا {وإن الدين لواقع } أي الجزاء لابد أن يقع، لأن الله على كل شيء قدير. وقد قال الله تعالى: {يوم تشقق الأَرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير }
{والسماء ذات الحبك } السماء معروفة، ذات: بمعنى صاحبة {الحبك } يعني الطرق، أي: أنها من حسنها كأنها ذات طرق محبوكة متقنة، كما يكون ذلك في جبال الرمل، يضربها الهواء فتكون مضلعة، إذن السماء كذلك {إنكم لفي قول مختلف } {إنكم } الخطاب للكافرين {لفي قول مختلف } يعني يختلف بعضه(14/2)
عن بعض، فبعض الكفار قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه مجنون، وبعضهم قالوا: إنه ساحر، وبعضهم قالوا: إنه كاهن، وبعضهم قالوا: إنه شاعر، وبعضهم قالوا: إنه كذاب، فهم مختلفون في النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلاف الأقوال يدل على كذبها وفسادها، وكلما رأيت قولاً مختلفاً متناقضاً فاعلم أنه باطل وليس بصحيح؛ لأن الحق لا يمكن أن يتناقض، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام اختلفوا هذا الاختلاف {يؤفك عنه من أفك } بمعنى يصرف {عنه } قيل: إن الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، أي يصرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم من صرف من الناس، وقيل: إن الضمير يعود على القوم، وعلى هذا القول: تكون (عن) بمعنى الباء، أي يؤفك بهذا القول من أفك، يصرف بهذا القول عن الحق من صرف، وهما أي المعنيان متلازمان، والأقرب أن الضمير في قوله {عنه } يعود على القوم؛ لأنه أقرب مذكور {يؤفك عنه } أي عن هذا القول أي بسببه {من أفك } أي من صرف عن الحق، وذلك لأن من البيان لسحراً () فإذا جاءك رجل بليغ فصيح، وصار يورد عليك الشبهات والشكوك ألست تنخدع بقوله؟ بلى، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام عندهم فصاحة وبلاغة وتمويه ودجل، فيصرفون الناس، وقوله {من أفك } هل المراد من قدر الله عليه أن يصرف، أو المراد من أفك؟ أي من صرفه هؤلاء المختلفون. هما متلازمان أيضاً، فإن هؤلاء الذين يضلون الناس لا يمكن أن يضلوهم إلا بإذن الله - عز وجل {ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل} فهم الذين يأفكون الناس أي: يصرفونهم فهم السبب، لكن المقدر للصرف هو الله - عز وجل - ولكن اعلم أخي المسلم أنه لا يمكن أن يصرف عن الحق إلا من علم الله منه أنه ليس أهلاً للحق - نسأل الله السلامة - ولهذا قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته } وكذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته في الذين يمتثلونها ويؤمنون بها. ويدل على هذا الذي(14/3)
قلنا قول الله تبارك وتعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ولكن احذر إذا رأيت ضالاًّ أن تقول: هذا ليس أهلاً للهداية؛ لأن هناك فرقاً بين القول بالعموم، والقول بالتعيين، فالقول بالتعيين حرام؛ لأنك قد ترى شخصاً ضالاًّ وتقول: هذا لا يهتدي، وإذا به يهديه الله عز وجل، والعكس بالعكس، ربما ترى شخصاً مستقيماً تقول: هذا لا يمكن أن يضل، فإذا به يضله الله، فإياك أن تشهد على معين، لكن حقيقة أنك إذا رأيت ضالاًّ متمرداً مستكبراً عن الحق فإنك بقلبك تستبعد أن الله يهديه، لكن لا تقل: إن الله لا يهديه، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لايزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً، وقال للمذنب؟ اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار». قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه () . وفي رواية مسلم: فقال الله تعالى: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك» () نسأل الله العافية، لهذا لا تعجب بنفسك، ولا تيأس من رحمة الله فيما يتعلق بك، ولا فيما يتعلق بغيرك، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، لكن نعلم على سبيل العموم أن الإنسان إذا لم يكن أهلاً للهداية فإنه لن يهتدي، فإذا رأينا هذا الشخص منحرفاً مستكبراً معانداً فلا شك أنه يغلب على ظننا أنه ليس أهلاً للهداية، لكن ليس لنا أن ننطق بذلك، ويحرم أن ننطق بذلك، ويخشى أن يقال لنا كما قيل لهذا الرجل: قد غفرت له وأحبطت عملك، وهنا(14/4)
مسألة مهمة وهي الفرق بين التعيين والإطلاق، فنحن مثلاً نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة، لكن إذا رأينا شخصاً مستقيماً، ويصلي ويزكي، ويصوم، ويحج، ويتصدق، ويحسن، ويبر والديه، ويصل رحمه، فلا نشهد بأنه في الجنة؟ لأن التعيين شيء والإجمال شيء آخر، وإذا رأينا رجلاً كافراً ملحداً مسلطاً على المسلمين، يمزق كتاب الله ويدوسه برجليه ويستهزىء بالله ورسوله فلا نقول: هذا من أهل النار، بل نقول: من فعل هذا فهو من أهل النار. بلا تعيين، لأنه من الجائز في آخر لحظة أن يمنّ الله عليه ويهديه، فأنت لا تدري، لذلك يجب التفريق بين التعيين والإطلاق، أوالتعيين والإجمال، فإذا مات رجل ونحن نعرف أنه مات على النصرانية حسب ما يبدو لنا من حاله، فلا نشهد له بالنار؛ لأنه إن كان من أهل النار فسيدخل ولو لم نشهد، وإن لم يكن من أهل النار فشهادتنا شهادة بغير علم، فمثل هذه المسائل لا داعي لها، فلو قال قائل: مات رجل من الروس، من الملحدين، مات رجل من الأمريكان من الملحدين منهم، مات رجل من اليهود من الملحدين، العنه واشهد له بالنار، نقول: لا يمكن، نحن نقول: من مات على هذا فهو من أهل النار، من مات على هذا لعناه، أما الشخص المعين فلا، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة قالوا: لا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
{قتل الخراصون } {قتل } كثير من المفسرين يفسرها بلعن، واللعن هوالطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولكن الصحيح أنها بمعنى أهلك، لأنه لا داعي أن نصرفها عن ظاهرها، وظاهرها صحيح مستقيم، فمعنى {قتل }: أهلك، و{الخراصون } جمع خراص، وهو الذي يتكلم بالظن والتخمين والارتياب والشك، لأنه منغمر في الجهل والسهو والغفلة، ولهذا وصفهم بقوله: {الذين هم في غمرة ساهون } أي في غمرة من الجهل، قد أحاط بهم الجهل من كل جانب، {ساهون }: غافلون، لا(14/5)
يحاولون أن يقبلوا على ما أنزل الله على رسله - عليهم الصلاة والسلام - ومن جهلهم أنهم {يسئلون أيان يوم الدين }، سؤال استبعاد وإنكار، لو كانوا يسألون سؤال استعلام واستخبار، لعذروا، كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : «أخبرني عن الساعة»، استفهاماً واستخباراً، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» () لكن أولئك الخراصون يسألون: {أيان يوم الدين } يعني متى هو؟ استبعاداً، ولهذا قال الله عنهم في سورة (ق): {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} يعني أنرجع بعد أن كنا تراباً، هذا رجع بعيد، فهم يسألون عن القيامة لا سؤال استفهام واستخبار ليستيقنوا، ولكنْ سؤال استبعاد وإنكار، قال الله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون } هذا الجواب يعني يوم القيامة: {يوم هم على النار يفتنون } وعلى هذا فيوم هنا ظرف خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: يوم القيامة يوم هم على النار يفتنون، ومعنى: {على النار يفتنون } أي: يعرضون عليها فيحترقون بها، لأن الفتنة بمعنى الاحتراق، ولكنها عديت بعلى، لأنها ضمنت معنى العرض، أي: يعرضون على النار فيحترقون بها، هذا هو يوم الدين {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون } ذوقوا هذه جملة مقول لقول محذوف، والتقدير: يقال لهم: ذوقوا فتنتكم، وهذا أمر إهانة وإذلال، أي ذوقوا احتراقكم في النار التي كنتم تنكرونها {هذا الذي كنتم به تستعجلون } لأنهم يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، فيستعجلون بالقيامة استبعاداً لها، كما قال الله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } فيقال لهؤلاء: {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون } ويقال لهم: {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنماتجزون ما كنتم تعملون }(14/6)
يفتنون على النار فيحترقون بها، ويقال: {ذوقوا فتنتكم } هذا توبيخ وإهانة وإذلال يكون به: العذاب القلبي، فيجمع لهم بين العذاب البدني وبين العذاب القلبي، فتجده يكون في أشد ما يكون من الحسرة، يتحسرون يقولون: {ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين }، ولما كان القرآن الكريم مثاني، تثنى فيه المعاني الشرعية والخبرية، إذا ذكر الشيء ذكر ضده، لما ذكر عذاب هؤلاء المكذبين الخراصين قال: {إن المتقين في جنات وعيون } المتقون هم الذين اتقوا الله، والتقوى ترد في القرآن الكريم على وجوه متعددة: بالوصف تارة، وبالفعل تارة، وبالأمر تارة، وتارة تكون مضافة إلى الله، وتارة تكون مضافة إلى العقوبة وغير ذلك، مما يدل على أن التقوى شأنها عظيم في الإسلام، وليست التقوى قولاً يقال باللسان، بل هي قول يتبعه فعل وتطبيق، فإن سألتم ما هي التقوى؟ قلنا: التقوى كلمتان: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، علم وبرهان واحتساب وخوف، تفعل ما أمر الله به، لأنك تعلم أن الله أمر به، تفعل ما أمر الله به لأنك تحتسب ثوابه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، تترك ما نهى الله عنه؛ لأنك تعلم أن الله نهى عنه. تترك ما نهى الله عنه خوفاً من عقاب الله، لأنك موقن بالعذاب، هذه هي التقوى، يقول الله عز وجل عن المتقين: {في جنات وعيون } أي: مستقرون في جنات وعيون، والجنات جمع جنة، ويمر في القرآن (جنة) مفرداً و(جنات) جمعاً، فهل هي جنات متعددة أو هي جنة واحدة؟ هي جنات متعددة، لكن ذكرت بلفظ المفرد من باب ذكر الجنس، وإلا فهي جنات، وفي آخر سورة الرحمن، ذكر الله أربع جنات، قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قال: {ومن دونهما جنتان } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» () إذن فالجنات متعددة وجمعت باعتبار أنواعها وأصنافها، وقد جاءت في القرآن مفردة،(14/7)
مثل قوله: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون }. وجاءت أيضاً مجموعة فهي مفردة باعتبار الجنس، ومجموعة باعتبار النوع، و(عيون): جمع عين، وهي الأنهار الجارية، وقد ذكر الله تعالى أنها أربعة أنواع: {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى }
{ءاخذين مآ ءاتهم ربهم }. قوله: {ءاخذين }: حال من الضمير المستتر بالخبر، أي: حال كونهم آخذين ما آتاهم ربهم، أي: ما أعطاهم من النعيم، وهذه الآية كالآية التي في سورة الطور {فكهين بمآ ءاتهم ربهم }، ثم بيَّن السبب الذي وصلوا به إلى هذا، فقال: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } يعني في الدنيا محسنين، أي: قائمين بطاعة الله على الوجه الذي يرضاه الله - عز وجل - وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» () هذا الإحسان في العبادة، أما الإحسان في معاملة الخلق، فإنَّ أجمع ما يقال فيه ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» () هذا هو الإحسان إلى الناس، أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من حسن الخلق، وطلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى إلى غير ذلك مما هو معروف، فهؤلاء محسنون في عبادة الله، ومحسنون إلى عباد الله، ثم ذكر نوعاً من هذا الإحسان فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون }. (ما) هنا قيل: إنها زائدة في اللفظ، لكنها زائدة في المعنى، وأن التقدير: كانوا قليلاً يهجعون، أي لا ينامون إلا قليلاً: وماذا يصنعون في هذه اليقظة؟ يصنعون ما ذكره الله تعالى في سورة المزمل: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك }. فهم ليسوا يسهرون على اللهو واللغو، أو يستيقظون على مثله، ولكنهم يقل نومهم(14/8)
للتفرغ لطاعة الله عز وجل: {وبالأَسحار هم يستغفرون }. الأسحار: جمع سحر، وهو آخر الليل، {هم يستغفرون }، يعني يسألون الله المغفرة، وهذا من حسن عملهم وعدم إعجابهم بأنفسهم، وكونهم يشعرون بأنهم وإن اجتهدوا فهم مقصرون، فيستغفرون الله بعد فعل الطاعة جبراً لما حصل فيها من خلل، ويشرع في نهاية العبادات أن يستغفر الإنسان ربه مما قد يكون فيها من خلل، فبعد الصلاة يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً، وبعد الحج قال الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } فهم يسألون المغفرة بعد تهجدهم وقيامهم وسهرهم في طاعة الله، خوفاً من أن يكون هناك تقصير، وهذا مما يدل على معرفتهم بأنفسهم، وأنهم يرون أنفسهم مقصرين، خلافاً لما يفعله بعض الناس الآن إذا تعبد لله تعالى بأدنى عبادة شمخ بنفسه وأدل على الله تعالى بها، وظن أنه من عباد الله الصالحين، صحيح أن الإنسان ينبغي أن يرجو ربه إذا أنعم الله عليه بطاعة أن يقبلها، لكن كونه يرى أنه قد أتم كل شيء. فهذا يخشى أن يحبط عمله وهو لا يشعر. {وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم } في أموالهم كلها سواء الأموال الزكوية، أو غير الزكوية فيها حق للسائل والمحروم، إذا أتاهم سائل أعطوه، وإذا رأوا محروماً أي ممنوعاً من الرزق، وهو الفقير أعطوه، فمالهم قد أعدوه لما يرضي الله - عز وجل - من السائلين والمحرومين وغير ذلك من الإنفاق المشروع، فهم يقومون بطاعة الله تهجد في الليل واستغفار وبذل للمال، لكن من غير إسراف ولا مخيلة.
{وفي الأَرض ءايات للموقنين } لم يبين الله هذه الآيات بل جاءت منكرة، ليشمل كل آية في الأرض، سواء كانت الآيات فيما يحدث فيها من الحوادث، أو كانت في نفس طبيعة الأرض وتركيب الأرض، فإن فيها آيات عظيمة من حيث التركيب، كما قال الله - عز وجل -: {وفي الأَرض قطع متجاورت } فتجد الحجر الواحد يشتمل على عدة معادن وهو حجر واحد، وترى أحياناً في {الجبال جدد(14/9)
بيض وحمر مختلف ألونها وغرابيب سود } وتجد فيها الأرض اللينة الرخوة، والأرض الصلبة إلى غير ذلك مما يعرفه علماء الجيولوجيا من الآيات العظيمة، وفيها آيات من جهة الحوادث التي تحدث فيها من الزلازل والبراكين وغيرها، وفيها آيات أيضاً من جهة طبيعة الجو من حر وبرد، ورياح عاصفة، ورياح باردة، ورياح دافئة، وغير ذلك مما إذا تأمله الإنسان عرف به قدرة الله عز وجل من جهة، وعرف حكمته ورحمته أيضاً من جهة أخرى، لأن آيات الله سبحانه وتعالى يتبصر بها الإنسان من حيث القدرة والعظمة، ومن حيث الحكمة والرحمة، لأن كل شيء تجده مناسباً لمكانه وزمانه، وكل شيء تجده من آثار رحمة الله - تبارك وتعالى - فكلمة (آيات) نكرة عامة لكل ما يحدث في الأرض من آيات، ولكل ما فيها من طبيعتها وتركيبها وغير ذلك {ءايات للموقنين } أي لمن أيقن بوجود الله عز وجل وعظمته وجلاله، أما من شك - والعياذ بالله - فإنه لن ينتفع بهذه الآيات، بل قد تكون هذه الآيات ضرراً عليه، فإن الآيات الكونية، أو الشرعية قد تكون خيراً للإنسان، وقد تكون شرًّا، قال الله تبارك وتعالى: {وإذا مآ أنزلت سورة } يعني من القرآن {فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} كذلك الآيات الكونية من الناس من ينتفع بها ويستدل بها على ما فيها من آيات الله - عز وجل - ومن الناس من يكون بالعكس يؤدي ما يجده في الآيات إلى الإلحاد - والعياذ بالله - ولهذا قال: {وفي الأَرض ءايات للموقنين } يعني لا لكل إنسان بل للموقن، أما الشاك والمتردد والكافر فإنه لن ينتفع بهذه الآيات، {وفي أنفسكم }. أيضاً في أنفسكم آيات {أفلا تبصرون } وآيات هنا محذوفة، ولهذا نقول في الإعراب: في أنفسكم، جار ومجرور، خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: وفي أنفسكم آيات. والحكمة - والله أعلم - ونحن في علمنا القاصر(14/10)
نظن أن الله حذف هذه الآيات لأنها أمس بالإنسان من الأرض وأدخل بالإنسان من الأرض، لأنها هي في نفسه، في أنفسكم آيات: ليس في تركيب الجسم فحسب، وليس فيما أودعه الله تعالى من القوة فحسب، بل حتى في تقلبات الأحوال، فالإنسان تجده يتقلب من سرور إلى حزن، ومن غم إلى فرح، تقلبات عجيبة عظيمة، حتى إن الإنسان في لحظة يجد نفسه متغيراً، وأحياناً يجد نفسه متغيراً بدون سبب، يكون منشرح الصدر واسع البال مسروراً، وإذا به يغتم بدون سبب، وأحياناً بالعكس، هذا بالنسبة للأحوال النفسية، كذلك أيضاً بالنسبة للأحوال الإيمانية، وهي أعظم وأخطر، تجد الإنسان في بعض الأحيان يكون عنده من اليقين ما كأنه يشاهد أمور الغيب مشاهدة حسية، كأنما يرى كل ما أخبر به الله من علوم الغيب، وفي بعض الأحيان يقل هذا اليقين، لأسباب قد تكون معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن من الأسباب المعلومة قلة الطاعة، فإن قلة الطاعة من أسباب ضعف اليقين، فإذا قلت طاعة الإنسان ضعف يقينه، قال الله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } ومنها: اللهو، والغفلة، ولهذا قال الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - إنا إذا كنا عندك وذكرت الجنة والنار فكأنما نراها رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلنا عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا (). وهكذا الإنسان كلما لهى قل يقينه وقل إيمانه، ومن ثم نهى الشرع عن اللعب واللهو الباطل، الذي يزداد به الإنسان بعداً من الله وبعداً عن طاعة الله وعن التفكير في آيات الله.
أيضاً في النفس آيات في نفوس الناس: فمن الناس من تجده هيناً ليناً طليق الوجه مسروراً، كل من رآه سر بوجهه، وكل من جلس إليه زال عنه الغم والهم، ومن الناس من هو بالعكس قطوب، عبوس، بمجرد ما تراه لو كنت مسروراً لأتاك الحزن والسوء، فهذا أيضاً من آيات النفس وهي كثيرة جداً، ومن أراد المزيد من هذا والاطلاع على قدرة الله(14/11)
تعالى فيما في أنفسنا من الآيات فعليه بمطالعة كلام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب (مفتاح دار السعادة) يجد العجب العجاب، وكذلك أيضاً كتابه الصغير وهو كبير في المعنى وهو (التبيان في أقسام القرآن). ذكر من ذلك العجب العجاب {أفلا تبصرون }، الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار، كأنما يقول الله - عز وجل - أبصروا في أنفسكم تبصَّروا وتأملوا وتفكروا، فإذا لم تعرفوا هذه الآيات فأنتم لا تبصرون، فيكون الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار ألا نتبصر، وهي دعوة من الله - عز وجل - لعباده أن يتبصروا في الآيات، فإذا لم تتبصر في الآيات فاعلم أنك محروم، قال الله تعالى: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }. إذن إذا لم تنتفع بالآيات فاعلم أنك محروم، وأن إيمانك ناقص {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }. فعليك يا أخي أن تتفكر في آيات الله الكونية، وما في هذا الكون العظيم من آيات الله الدالة على عظمته وسلطانه ورحمته وحكمته، وكذلك في آيات الله الشرعية، ومن فتح الله عليه في الآيات الشرعية ينتفع بها أكثر مما ينتفع بالآيات الكونية، إذا تأمل ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات، والأفعال والأحكام، ازداد إيماناً بالله - عز وجل - وعرف بذلك الحكمة والرحمة، وإذا تأمل فيما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وما يكون فيه من ثواب وعقاب، وجزاء وحساب ازداد إيماناً بالله، وكلما تأمل الإنسان في آيات الله الشرعية ازداد إيماناً، فبعض الناس الموفقين يكون ازدياد إيمانه بالآيات الشرعية أكثر من ازدياد إيمانه بالآيات الكونية، أما الإنسان الذي يفتح الله عليه في هذا وهذا فيا حبذا.
{وفي السماء رزقكم وما توعدون } ذهب كثير من العلماء أن المراد بالرزق هنا المطر، لأن الله تعالى قال: {هو الذي يريكم ءاياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب }. وسمي المطر رزقاً؛ لأنه سبب للرزق، فإذا أنزل الله المطر أخرجت الأرض الماء(14/12)
والمرعى، متاعاً لنا ولأنعامنا، وهذا رزق، كم من ناس يكون رزقهم على ما ينزل من المطر من الزروع والحشيش والمياه وغيرها، بل إن الله تعالى قال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} هل أحد يستطيع أن ينزل من المزن ماءً؟ لا يمكن، وهل أحد يستطيع أن يخلق في المزن ماءً؟ لا يمكن، وإنما الله عز وجل هو الذي يتولى ذلك، هذا هو مادة الرزق، لولا الماء لهلكت، وتأمل قوله تعالى: {أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون}. لم يقل: لو نشاء لم ننزله، مع أنه لو شاء لم ينزله، لكن قال: {لو نشاء جعلناه أجاجاً } يعني لو نشاء أنزلناه لكن جعلناه أجاجاً مالحاً، لا يمكن أن يشرب، وحسرة الإنسان على ماء بين يديه ولكن لا يستطيعه ولا يستسيغه أشد من حسرته على ماء مفقود، لأن ماءً موجوداً لا تنتفع به ولا تستطيع شربه أشد حسرة من ماء مفقود، ولهذا ذكرنا الله هذه الحال، أرأيتك الآن لو أن هذا المطر العذب الزلال اللذيذ صار أجاجاً مالحاً، ماذا تكون الحال؟ تكون صعبة جداً، ولهذا قال: {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون }. {وفي السماء رزقكم } إذن الرزق هو المطر كما في الآية الكريمة {وينزل لكم من السماء رزقاً } ويمكن أن نقول: إن الرزق الذي في السماء أعم من ذلك، فقد يقال: إن في السماء رزقاً من المطر، وما كتبه الله لنا في اللوح المحفوظ من المصالح والمنافع الجسدية من أموال وبنين وغير ذلك، فيكون هذا القول أشمل وأعم، واعلم أنه ينبغي أن يراعي المستدل بالقرآن والسنة قاعدة مفيدة، وهي إذا فسرنا النص القرآني أو النبوي بمعنى أخص وفسرناه بمعنى أعم، فنأخذ بالأعم، لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، إلا إذا دل دليل على أنه خاص، فهذا يتبع فيه الدليل، لكن عندما لا يدل الدليل، فخذ بالأعم، لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، فهنا إذا قلنا: المراد بالرزق ما هو أعم من المطر، فالجواب(14/13)
صحيح، فيدخل فيه المطر وغيره، وقوله: {وما توعدون } يعني وفيه الذي توعدون، والذي نوعد الجنة، فالجنة في السماء وليست في الأرض، ولهذا قال الله تعالى في قصة آدم: {قلنا اهبطوا منها }. والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، فالجنة في السماء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة درجات، وأن أعلاها الفردوس، وأنه أعلاها وأوسطها أيضاً، وهو إشارة إلى أن الجنات مثل القبة أعلاها هو وسطها، قال: «منه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» () إذن هي أعلى شيء، - نسأل الله أن يجعلنا من ساكنيها إنه على كل شيء قدير -، فالذي نوعد هو الجنة، فالرزق في السماء، والجنة التي نوعدها في الآخرة في السماء، إذا نحن أهل الأرض محتاجون إلى السماء في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ففي السماء رزقنا في الدنيا، وفيها ما نوعد في الآخرة وهو الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
{فورب السماء والأَرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون } الفاء عاطفة، والواو للقسم، ورب السماء والأرض هو الله - عز وجل - أقسم بنفسه تبارك وتعالى بمقتضى ربوبيته للسماء والأرض، أن ما يوعدون حق؛ لأنه قال: {وفي السماء رزقكم وما توعدون } {فورب السماء والأَرض } أي: ما توعدون. ويحتمل أن يكون الضمير عائداً للقرآن، ويحتمل أيضاً أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعاني الثلاثة كلها متلازمة، وقوله: {إنه لحق } أي: ثابت، لأن الحق والباطل متقابلان، فالباطل هوالزائل الضائع سداً، والحق هو الثابت الذي فيه الفائدة، وفيه الخير والصلاح، وقوله: {مثل مآ أنكم تنطقون } يعني كما أن الإنسان يتيقن نطقه، فإن هذا القرآن حق، ومعلوم أن كل واحد منا لا ينكر نطقه، وإذا نطق تيقن أنه نطق، إذن هذا القرآن كلام الله - عز وجل - حق مثلما أن نطقنا حق.
{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل له، ولكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، كأنه قال: هل(14/14)
أتاك أيها المخاطب {حديث ضيف إبراهيم المكرمين } والاستفهام هنا للتشويق، كأنه يشوقك إلى أن تسمع هذا الحديث، ونظيره في التشويق قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }. ليس المراد بهذا الاستفهام أنه يستفهم، لكنه أراد أن يشوق المخاطبين إلى ذلك، ويكون الاستفهام للتهديد والإنذار والتخويف في مثل قوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة}
فإذا قال قائل: أي شيء يدلنا على أن الاستفهام للتشويق، أو للتهديد، أو للاستخبار أو ما أشبه ذلك؟
نقول: الذي يدلنا على هذا السياق وقرائن الأحوال، والعاقل يفهم هذا وهذا، {هل أتاك حديث } أي: خبر {ضيف إبراهيم }، ضيف هنا مفرد، لكنه يستوي فيه الجماعة والواحد، وهم جماعة ملائكة كرام عليهم الصلاة والسلام، {ضيف إبراهيم } يعني الذين نزلوا ضيوفاً عنده، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو أبو العرب، وأبو بني إسرائيل كما قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل }. وهو الذي أمرنا الله تعالى أن نتبع ملته، قال الله تعالى: {ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين }. ولهذا ادعت اليهود أن إبراهيم يهودي، والنصارى ادعوا أنه نصراني، ولكن الله تعالى كذبهم في ذلك، فقال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين }. يقول الله - عز وجل -: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } يحتمل أن {إذ دخلوا } متعلق بقوله (المكرمين) يعني الذين أكرمهم حين دخولهم عليه، ويحتمل أنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكر إذ دخلوا على إبراهيم {فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون } (قالوا سلاماً)، أي: نسلم سلاماً، وعليه فسلاماً مصدر عامله محذوف، والتقدير: نسلم، {قال سلام } مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: عليكم سلام، وعلى هذا فيكون التسليم هنا ابتداؤه بالجملة الفعلية، وجوابه بالجملة الاسمية،(14/15)
والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: إن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكمل من تسليم الملائكة، لأن تسليم الملائكة جاء بالصيغة الفعلية، ورد إبراهيم جاء بالصيغة الاسمية، {قوم منكرون }، قوم خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنتم قوم، وإنما قال إنهم قوم؛ لأنهم بصورة البشر، وقوله: {منكرون } أي: غير معروفين، كما قال تعالى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً }. في هذه الآية شاهد لحذف المبتدأ، وحذف الخبر، والشاهد لحذف الخبر (سلام)، لأن التقدير: عليكم سلام. والشاهد لحذف المبتدأ (قوم)، لأن التقدير: أنتم قوم. {فراغ إلى أهله } راغ: انسل بخفية وسرعة، وذلك من حسن ضيافته. لم يقل: انتظروا آتي لكم بالطعام. ولم يقم متباطئاً كأنما يدفع دفعاً، وإنما قام بسرعة منسلاً، لئلا يقوموا إذا رأوه ذهب إلى أهله، فكأنه أخفى الأمر عنهم {أهله } يعني أهل بيته {فجاء بعجل سمين } وفي آية أخرى: {بعجل حنيذ } أي مشوي، واللحم إذا شوي يكون أطعم وألذ، لأن طعمه يبقى فيه لا يمتزج بالماء، بخلاف ما إذا طبخ يمتزج بعضه بالماء، فتقل لذته، لكن إذا كان مشوياً صار أطيب وأحسن، {فجاء بعجل سمين }يعني أنه عليه الصلاة والسلام لا يتخير للضيوف البهائم العجفاء الهزيلة، وإنما يتخير لهم البهائم السمينة، لأنها ألذ وأطيب وأنفع، واختيار العجل إما أن يكون من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكرم الناس بهذا، أو أنه يكرم الضيوف بحسب ما تقتضيه الحال، فإذا كانوا كثيرين أتى بالعجل، وإذا كانوا أقل أتى بالغنم، وما أشبه ذلك حسب عادة الكرماء {فقربه إليهم قال ألا تأكلون } أي لم يجعله بعيداً، ويقول: قوموا إلى طعامكم، بل خدمهم حتى جعله بين أيديهم، وقربه إليهم قال: {ألا تأكلون } ولم يقل: كلوا. إنما عرضه عليهم عرضاً، لأن هذا أبلغ في الإكرام، والعرض أخف وألطف من الأمر، إذ إنه لو قال: كلوا. كان يحتمل أنه أراد(14/16)
أن يستعلي عليهم ويوجه الأمر إليهم، لكن قال: ألا تأكلون؟ والفرق بين العبارتين في الرق، فقوله: {ألا تأكلون } أرق وأرفق.
مسألة: هل نقول: إن السنة والأفضل أن الإنسان إذا دعا ضيوفاً، أو أتاه ضيوف أن يقرب إليهم الطعام في مجلس الجلوس أو نقول: هذا يختلف باختلاف الأحوال؟
الثاني هو الأظهر، لأن عموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» () يدل على أنك تكرمهم بما جرت العادة بإكرامهم به، وعندنا الآن إذا دعوت أصحابك وأصدقاءك وهم قلة فلا يعدون تقديم الطعام في مكان جلوسهم إهانة، لأنهم إخوانكم وأصدقاؤكم، لكن لو نزل بك ضيف أو دعوت ضيفاً ليس بينك وبينه صلة تامة فإنه في عرف الناس الآن ليس من إكرامه أن تقدم الطعام في محل الجلوس، اللهم إلا لضرورة، إذا لم يكن عندك مكان، والآن الإكرام أن تجعل الطعام في مكانه، ثم إذا أراد أن يأكلوا يقول: تفضلوا، ألا تتفضلوا، أو ما أشبه ذلك من الكلمات المتداولة، فالمهم أن قوله تبارك وتعالى عن إبراهيم: {فقربه إليهم قال ألا تأكلون } ينبغي أن يجعل هذا حسب عادة الناس، إذا كان من الإكرام أن تأتي بالطعام إلى محل جلوسهم فأت به، وإذا كان من الإكرام أن تجعله في محل آخر فافعل، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» .
{فأوجس منهم خيفةً } أي: أحس بنفسه بخيفة منهم، وسبب تلك الخيفة أنه عليه الصلاة والسلام لما قدَّم إليهم الطعام لم يأكلوا منه {فأوجس منهم خيفةً } لأن العادة أن الضيف يأكل مما قدم له المضيف، لكن هؤلاء الملائكة، لم يأكلوا؛ لأن الملائكة صمد أي ليس لهم أجواف، كما جاء ذلك مأثوراً عن السلف، ولهذا لا يحتاجون إلى أكل ولا إلى شرب، فأوجس منهم خيفة {قالوا لا تخف } طمأنوه، قالوا: لا تخف لما رأوا على وجهه من علامة الإنكار والخوف، وكل إنسان يعرف حال قلب المرء المواجه له، هل هو في سرور؟ هل هو في(14/17)
انشراح؟ هل هو خائف؟ هل هو مطمئن؟ لأن هذا أمر معلوم بالفطرة، ولا يحتاج إلى كبير فراسة {وبشروه بغلم عليم } البشارة هي الإخبار بما يسر، أي أخبروه بما يسره وهو الغلام العليم، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد بلغ من الكبر عتيًّا قبل أن يولد له، فبشروه بهذا الغلام، وبشروه بأنه عليم أي سيكون عالماً؛ لأن الله تعالى جعله من الأنبياء، والأنبياء هم أعلم الخلق بالله - عز وجل - وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله، وهذا الغلام العليم غير الغلام الحليم، لأن في القرآن أن إبراهيم بُشر بغلام عليم في آيتين من كتاب الله، وبشر بغلام حليم في آية واحدة، وهما غلامان، أما الغلام الحليم فإنه إسماعيل أبو العرب، وأما الغلام العليم فإنه إسحاق أبو بني إسرائيل، ولذلك تجد قصتهما مختلفة، ولقد أبعد عن الصواب، من قال: إن الغلام الحليم هو الغلام العليم، بل ونص صريح في سورة الصافات أنهما غلامان مختلفان، فإن الله تعالى لما ذكر قصة الذبيح في سورة الصافات قال بعدها: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } فكيف يبشر بمن أمر بذبحه، وكان عنده وبلغ معه السعي، كل هذا مما يدل على أن الغلام الحليم غير الغلام العليم، بشروه بغلام عليم، وهذه بشارة بثلاثة أشياء: أولاً بأنه سيأتيه مولود يصل إلى أن يكون غلاماً، ثانياً: أن هذا المولود ذكر لا أنثى لقوله (غلام)، ثالثاً: أنه عليم أي ذو علم، وكل هذه البشارات عظيمة، كل واحدة تكفي أن تكون بشارة {فأقبلت امرأته في صرة } امرأته هذه: سارة أم إسحاق، أقبلت لما سمعت البشرى {في صرة } في صيحة سرور، لأنها جاءتها هذه البشرى بعد أن تقدمت بها السن، تصيح وكأنها والله أعلم تقول: غلام غلام، {فصكت وجهها } أي ضربته بيدها كالمتعجبة، كما يصنع الناس إلى اليوم إذا أتاهم خبر نادى: الله أكبر. وضرب على وجهه {وقالت عجوز عقيم } عجوز خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنا عجوز عقيم، فكأنها تعجبت أن تحصل لها البشرى بهذا(14/18)
الغلام العليم، بعد أن تقدمت بها السن وعقمت من الولد، ولكنهم بينوا لها السبب الوحيد الذي به وجد هذا الولد، فقالوا: {كذلك قال ربك } أي مثلما قلنا وبشرنا به، قال الله - عز وجل - وانظر إلى قوله: {قال ربك } حيث أضاف الربوبية هنا إلى هذه المرأة العجوز العقيم الكبيرة، إشارة إلى أن هذا من عناية الله بها، لأن إضافة الربوبية إلى الشخص المعين تكون ربوبية خاصة، والربوبية العامة لكل أحد، والله رب كل شيء، والخاصة ليست لأحد إلا لمن كان خاصًّا بالله، قال الله عز وجل: {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} الربوبية العامة {برب العالمين }، والربوبية الخاصة {رب موسى وهارون }، هنا قالوا لها: {قال ربك } من باب الربوبية الخاصة التي تقتضي عناية خاصة {قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم } إن شئت فقل: (الحكيم) خبر إن و(هو) ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وإن شئت فقل: (هو) مبتدأ و(الحكيم) خبر هو، والجملة خبر إن، وهنا قدَّم الحكيم على العليم؛ لأن المقام يقتضي هنا تقديم الحكمة على العلم، والحكمة هنا في شيئين: أولاً: تأخير الولادة بالنسبة لهذه المرأة، إن الله لم يؤخر ولادتها إلى أن تبلغ العجز إلا لحكمة، ثانياً: كونها ولدت بعد أن أيست واعتقدت أنها عقيم، فهاهنا حكمتان: حكمة سابقة، وحكمة لاحقة، ومن ثم قدَّم اسم الحكيم على اسم العليم، والقرآن إذا جمع الله فيه بين هذين الاسمين الكريمين: العليم والحكيم يقدم غالباً العليم، لكن هنا قدَّم الحكيم؛ لأن المقام يقتضي ذلك {إنه هو الحكيم العليم } وأكثر الناس يظنون أن معنى (الحكيم) أنه المتصف بالحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في مواضعه، ولكن الواقع أن الحكيم له معنيان: حكيم من الحكمة، وحكيم من الحكم، فالله - عز وجل - حكيم من الحكمة، لأن الله تعالى هو الحكم بين العباد، والحاكم في العباد هو حاكم فيهم، وهو الحكم بينهم، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم {ومن أحسن(14/19)
من الله حكماً لقوم يوقنون }. {أليس الله بأحكم الحاكمين }. وهذا استفهام للتقرير، يعني أن الله تعالى أحكم الحاكمين، وكلاهما في محله المناسب، ففي سورة المائدة ذكر الله {ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون }. {الظالمون}. {الفاسقون}، وتتابعت الآيات حتى قال: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }. فكأن المقام مقام مفاضلة بين الأحكام فبين أن حكم الله أحسن الأحكام، لكن في سورة التين المقام مقام سلطة وقوة، والله أحكم الحاكمين يعني أن حكمه نافذ وسلطته تامة، ولا أحد يعارض حكمه أبداً مهما قويت شوكته، وانظر إلى قول الله تعالى عن عاد {من أشد منا قوةً }. يعني لا أحد أشد منا قوة، فقال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم }. وعذبهم بألطف الأشياء عذبهم بالريح، الهواء اللطيف الذي لا تحس بملمسه، وإن كان قوياً بأن يدفع كل شيء، وهو أقوى من الماء كما هو معروف، وهذا الهواء اللطيف أهلك به هؤلاء القوم الذين يقولون: من أشد منا قوة، أهلكهم به، فالحاصل أن الله أحكم الحاكمين حكمه نافذ صادر عن قوة وسلطان، ثم إن أحكم الحاكمين تضمن أيضاً حسن الحكم، فصار حكم الله - عز وجل - يتضمن أنه الحاكم في العباد، وأنه الحاكم بين العباد، وأن حكمه أحسن الأحكام، وأنه تعالى أحكم الحاكمين، والحكمة البالغة لله ولا شيء من الأفعال القائمة بالوجود أحكم من حكمة الله، وإذا آمنت بهذا أيها المؤمن سهل عليك أمور كثيرة تشكل على كثير من الناس، منها بعض الأحكام الشرعية لا يدرك الناس، أو أكثرهم، أو بعضهم حكمتها، فهل نقول: إذا لم يدرك الحكمة إنه لا حكمة لها، أو نقول: إن لها حكمة، لكن عقولنا قاصرة، نقول: لها حكمة ولكن عقولنا قاصرة، وإذا آمنا هذا الإيمان اطمأننا إلى كثير من الأمور الشرعية التي تخفى علينا حكمتها، فنحن لا ندرك الحكمة في كون الصلوات الخمس خمساً، أو أنها سبع عشرة ركعة، وأشياء(14/20)
كثيرة من الأمور الشرعية لا يدرك الإنسان حكمتها، لكن إذا آمنت أن الله حكيم آمنت بأنه لابد لهذا الشيء من حكمة تقتضيه، كذلك في الأمور القدرية قد يرسل الله سبحانه وتعالى عذاباً يشمل الصالح والطالح، وقد يرسل الله عذاباً على قوم لا تتوقع أن يصيبهم العذاب، فهل تقول: ما الحكمة؟ أو تقول: إن الله عز وجل لابد أن يكون تقديره لهذا عن حكمة؟ ولذلك أقول: إن الواجب علينا فيما أمر الله به من الشرائع، وفيما قضاه من الأقدار أن نستسلم غاية التسليم، وأن لا نعترض قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }. أقسم الله - عز وجل - أنه لا يمكن لأحد أن يؤمن إلا بهذه الشروط الثلاثة، هي: أن يحكموك فيما شجر بينهم، والثاني: ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً، يعني لا تضيق صدورهم بحكم الله، الثالث: أن يسلموا تسليماً، وأكد هذا المصدر تسليماً يعني تسليماً تامًّا، فلا يتهاون الإنسان ويتباطأ في تنفيذ حكم الله، فإذا وجدت من نفسك عيباً يتعلق بهذه الأمور الثلاثة فصحح إيمانك، فإذا رأيت أنك تود أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله فصحح الإيمان، وإذا رأيت من قبلك أنك لا تريد إلا حكم الله ورسوله لكن يضيق صدرك بحكم الله ورسوله تحدث نفسك أنك لا يمكن تتحاكم إلى غير الله ورسوله لكن يضيق صدرك فأنت ناقص الإيمان، وإذا كنت لا يضيق صدرك ولا تريد التحاكم لغير الله ورسوله وأنت منشرح الصدر لحكم الله ورسوله، لكن تتباطأ وتتهاون فأنت ناقص الإيمان، اقرأ قول الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }. لما لم يؤمنوا به أول مرة ولم يقبلوه من أول مرة صارت - والعياذ بالله - قلوبهم متقلبة، وتركهم الله في طغيانهم يعمهون، ولهذا يجب عليك أيها المؤمن أن تبادر بانقياد تام لحكم الله تعالى القدري.
وأتكلم على آداب السلام، حيث إن الملائكة(14/21)
قالوا: (سلاماً)، فقال إبراهيم: (سلام)، ذكرنا فيما سبق أن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحسن من ابتداء الملائكة؛ لأن رد إبراهيم عليه السلام جملة اسمية تفيد الثبوت والاستمرار، بخلاف سلام الملائكة عليهم السلام، واعلم أن رد التحية واجب، لقول الله تبارك وتعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }. فقال: {إذا حييتم} ولم يذكر من يحيينا، فيشمل أي إنسان يحيينا، فإننا نحيه ونرد عليه أحسن من تحيته، أو مثلها كما قال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }. فبدأ بالأحسن، لأنه هو الأفضل، أو ردوها، أي: ردوا مثلها، ويشمل هذا ما إذا سلم علينا أحد من اليهود، أو النصارى، أو البوذيين، أو غيرهم، فنرد عليهم، لكننا لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام، لنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك () ، ثم إن السلام المشروع هو: السلام عليكم، وأما أهلاً وسهلاً، ومرحباً، وكيف حالك وما أشبهها، فهذا ليس بمشروع، المشروع أن تبدأ أولاً بالسلام، ولهذا في حديث المعراج حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالأنبياء فيسلم عليهم، قال: فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح () ، فابدأ أولاً بقولك السلام عليكم، والجواب يكون مثل ذلك أو أحسن، يكون: عليكم السلام، أو وعليكم السلام، أو عليكم السلام ورحمة الله، أو عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كل هذا من المشروع، ونرى كثيراً من الناس إذا سُلِّم عليه يقول: أهلاً وسهلاً، أو يقول: مرحباً بأبي فلان، وهذا لا يجزىء، فلو قال: أهلاً وسهلاً، مدى الدهر فإنه لا يجزىء؛ لأن الله يقول: {فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }، ومعلوم أن الذي يقول: السلام عليك، يدعو لك بالسلام من كل نقص ومن كل آفة، ومن كل مرض في القلب والبدن، ولا يكفي أن تقول مرحباً وأهلاً، بل لابد أن تقول: عليك السلام، أو وعليكم السلام، وإن زدت ورحمة الله وبركاته كان أحسن.
ثانياً: من السنة أن يسلم الصغير(14/22)
على الكبير؛ لأن حق الكبير على الصغير أعظم من حق الصغير على الكبير، فيبدأ الصغير بالسلام على الكبير، ولكن إذا قدر أن الصغير لم يسلم فهل يدع الكبير السلام، لأن الحق له، أو يسلم لئلا تفوت السنة؟
والجواب: يسلم لئلا تفوت السنة، فكون الإنسان يقول: أنا صاحب الحق، لماذا لم يسلم عليَّ، هذا خطأ، صحيح أنك صاحب الحق وأن المشروع أن يسلم هو عليك، لكن إذا لم يفعل فسلم أنت.
ثالثاً: يسلم الماشي على القاعد () ، ولو كان القاعد أصغر، فإذا مر شخص بإنسان قاعد فليسلم عليه، ولو كان أصغر منه سنًّا، أو قدراً، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يسلم على الصبيان إذا مر بهم () ، وفي ذلك فوائد عظيمة منها: التواضع، أن الإنسان يضع نفسه إذا سلم على من هو دونه، ومنها الرحمة؛ لأن سلامك على الصغار نوع من الرحمة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الراحمين يرحمهم الله () - عز وجل -، ومنها تعويد هؤلاء الصبيان على السلام، يعني أن الصبي يعرف شعار المسلمين أن يسلم بعضهم على بعض، فيأخذ من هذا أدباً وخلقاً ينتفع به في شبابه وبعد هرمه.
رابعاً: يسلم القليل على الكثير كالصغير مع الكبير، فإذا تقابل جماعة خمسة وستة فيسلم الخمسة على الستة، لأن الستة فيهم زيادة، فهذه الزيادة لها حق الزائد، فيسلم القليل على الكثير، وإذا لم يفعلوا فليسلم الكثير على القليل، لئلا تفوت السنة بينهم.
خامساً: يسلم الراكب على الماشي، فإذا تقابل رجلان أحدهما يمشي، والثاني راكب في سيارته أو على بعيره فيسلم الراكب على الماشي، لأن الراكب له علو فيسلم على الماشي، لأن السنة جاءت بهذا () ، كذلك الصاعد على النازل، فلو أن اثنين التقيا في درجة سلم فإن الصاعد هو الذي يسلم على النازل، وإذا لم تأت السنة ممن عليه أن يبدأ بها فليبدأ بها الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا،(14/23)
وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» () قال: خيرهما، فدل ذلك على أن من بدأ غيره بالسلام فهو خير، وهو كذلك لأنك إذا سلمت حصلت عشر حسنات، ثم إذا رد صاحبك حصل عشر حسنات، والسبب الذي جعله يحصل عشر حسنات هو البادي، لولا أنه سلم ما رد، فتكون أنت متسبباً لهذا الذي عمل عملاً صالحاً فلك أجره، ولهذا قال العلماء: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، ثم أوردوا على هذا إشكالاً فقالوا: ابتداء السلام أفضل من رده، فكيف تكون السنة أفضل من الواجب؟ والقاعدة الشرعية أن الواجب أفضل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرَّب إليَّ بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه» () أجابوا عن ذلك قالوا هذا الإشكال جوابه: أن هذا الواجب كان مبنيًّا على السنة، فصارت السنة التي بني عليها الواجب، لمن أتى بها ثواب أجره الخاص وثواب أجر الراد.
سادساً: ينبغي أن يكون بصوت مسموع، فبعض الناس يلاقيك ويسلم لكن تشك: هل سلم أو لا؟ لأنه لم يرفع صوته، وهذا غلط، ارفع الصوت على وجه يدل على أنك فرح بهذا الأخ الذي قابلك أو الذي سلمت عليه لا بصوت مزعج ولا بخافت لا يسمع، وعلى العكس من ذلك، بعض الناس يسلم بصوت مزعج، والدين وسط بين الغالي والجافي، فنقول: سلم سلاماً مسموعاً يسمعه أخوك ويكون بأدب واحترام.
سابعاً: من آداب السلام أيضاً: أن يكون المسلم منبسط الوجه منشرح الصدر، فإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق () ، فإن طلاقة الوجه وانشراح الصدر والابتسامة في وجه أخيك لا شك أنها من الأمور المطلوبة لما فيها من إدخال السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك من الأمور المستحبة التي تُؤجر عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل معروف صدقة» () .
ثامناً: رد السلام المحمول إن كان الحامل له شخصاً وقال: فلان يسلم عليك. فقل: عليك وعليه السلام، وإن شئت فقل: عليه السلام، أي على الذي حمله، أما إذا كان محمولاً بكتابة يعني إنسان كتب لك كتاباً، وقال: السلام(14/24)
عليكم ورحمة الله وبركاته. فإن كنت تريد أن تجيبه بكتاب فرد عليه بجوابك، مثلاً: كتب إليك إنسان كتاباً وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تكتب إليه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قرأت كتابك وفهمت ما فيه، والجواب كذا وكذا، وأكثر الناس الآن لا يهتمون بهذا، تجده يكتب الجواب ويقول في ابتدائه: السلام عليكم ورحمة الله. هذا طيب، لكن الذي سلم عليك يريد جواباً فقل: جواب - يعني -: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وصلني كتابك أو قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وهذا الجواب، وتجيبه بما سألك، وإذا كان لا يحتاج إلى جواب مثل أن يكون الشخص كتب إليك كتاباً يخبرك بخبر لا يحتاج إلى جواب، فهنا إذا قرأت الكتاب فقل: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، لا أقول وجوباً، لأن صاحبك لن يسمع، لكن على سبيل الاستحباب، رجل دعا لك بظهر الغيب فادع له أنت بظهر الغيب.
{قال فما خطبكم أيها المرسلون } القائل: ما خطبكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أي ما شأنكم أيهاالمرسلون وهم الملائكة {قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارةً من طين} يعني أرسلنا الله - عز وجل -، لأنه من المعلوم أنه لا يرسل أحداً من الملائكة إلا خالقهم سبحانه وتعالى {إلى قوم مجرمين } أي: ذوي جرم عظيم ألا وهو اللواط - والعياذ بالله -، فإنهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، فيأتون ما لم يخلق لهم، ويدعون ما خلق لهم، كما قال لهم نبيهم لوط عليه الصلاة والسلام: {وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم }، وهذه الفاحشة فاحشة نكراء، لا يقرها عقل، ولا فطرة، ولا دين، ولهذا كانت عقوبتها القتل للفاعل والمفعول به، إذا كانا بالغين عاقلين، سواء كان محصنين أم غير محصنين، بخلاف الزنى، فالزنى أهون عقوبة، لأن الزنى من لم يكن محصناً فعقوبته أن يجلد مائة جلدة ويغرب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع: فعقوبته أن يرجم بالحجارة حتى يموت،(14/25)
أما هذا فعقوبته القتل بكل حال، كما جاء في الحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» () ووقعت هذه الفاحشة في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - فأمر أن يحرق كل من الفاعل والمفعول به، لأن الإحراق أعظم عقوبة يعاقب بها بنو آدم، وكذلك جاء عن بعض الخلفاء أنهم أمروا بإحراق اللوطي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل اللوطي فاعلاً كان أو مفعولاً به، لكنهم اختلفوا: كيف يقتل؟ منهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرمى بالحجارة حتى يموت كالزاني المحصن، ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق في البلد، يعني في مكان مرتفع، أعلى ما يكون في البلد، ثم يتبع بالحجارة حتى يموت، فالمهم أنهم متفقون على قتله، ولا شك أن قتله هو الحكمة، لأن هذه الفاحشة متى دبت في الرجال صار الرجال كالنساء، وبدأ الذل والعار والخزي على وجه المفعول به، لا ينساه حتى يموت، ثم استغنى الرجال بالرجال وبقيت النساء، لأن هذه الفاحشة - والعياذ بالله - إذا ابتلي بها الإنسان لا يلتفت إلى غيرها، لأنها مرض، فتاك ساري، فإذا أعدم هؤلاء وهم في الحقيقة جرثومة فاسدة مفسدة للإنسان، كان ذلك عين المصلحة، ثم اللواط - والعياذ بالله - لا يمكن التحرز منه، لأنه بين ذكرين لا يمكن لأي إنسان يجد ذكرين يمشيان في السوق أن ينكر عليهما اجتماعهما، ولكن الزنى إذا رأيت رجلاً مع امرأة تستنكره أو تتهمه وتتكلم معه، لذلك كانت عقوبة الإعدام في حق اللوطي أوفق ما يكون للحكمة وللرحمة، فهي رحمة بالفاعلين، يعني باللائط والملوط به، حتى لا يبقيا في حياتهما يكتسبان الإثم وتزداد العقوبة عليهما، ورحمة بالمجتمع فتكون عقوبتهما نكالاً حتى لا يفسد المجتمع، لهذا قالت الملائكة لإبراهيم: {إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } وجرمهم - والعياذ بالله - ما سبقوا عليه، كما قال لهم نبيهم {ما سبقكم بها من أحد من العالمين }. {لنرسل عليهم(14/26)
حجارةً من طين مسومةً عند ربك للمسرفين} حجارة من طين، لكنه ليس الطين الذي يتفتت بل الصلب العظيم الذي إذا أصابت هذه الحجارة أحداً من الناس وضربته على رأسه خرجت من دبره، لا يردها عظم ولا لحم، لقوتها وشدتها وصلابتها - والعياذ بالله - {مسومةً عند ربك } أي: معلمة عند الله، يعني عليها علامة، لأن كل شيء عند الله بمقدار، لا تظن أن الأمور التي يقدرها الله - عز وجل - تأتي هكذا صدفة، بل هي بمقدار، حتى تباعد ما بين النجوم، وتفاوت ما بينها من الكبر والإضاءة بمقدار، لم يجىء هكذا فلتة أو جاء صدفة، كل شيء عند الله بمقدار ولابد، فهذه الحجارة معلمة عند الله، وهل هي معلمة بمعنى أن هذه مكتوب عليها مثلاً حجارة عقوبة؟ أو مسومة بالنسبة لمن تقع عليه؟ الجواب: الثاني، لأن هذا أدق، هذه الحجارة لفلان، هذه الحجارة لفلان، مسومة عند ربك {للمسرفين } أي: للمتجاوزين حدودهم، ولا شك أن اللواط مجاوزة للحد والإسراف - والعياذ بالله - قال الله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } أخرجناهم أي: أمرناهم أمراً قدرياً فخرجوا، قال الله تعالى للوط: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك }. فأخرج الله من كان فيها من المؤمنين، وهم لوط وأهله إلا امرأته، ولهذا {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } بيت واحد، قرية كاملة يدعوهم نبيهم إلى توحيد الله وإلى ترك هذه الفاحشة ما اتبعه أحد حتى أهل بيته لم يخلصوا، فيهم من لم يؤمن بلوط، فانتبه يا أخي الداعية، لا تجزع إذا دعوت فلم يستجب لك من المائة إلا عشرة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يبقون في أممهم دهوراً كثيرة ولا يتبعهم إلا القليل، ولوط عليه الصلاة والسلام لم يتبعه من القرية أحد، وتخلف عن دعوته من تخلف، ولهذا قال: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } وهنا يتساءل الإنسان في نفسه: كيف قال: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}، هل(14/27)
المسلمون هنا بمعنى المؤمنين في الآية التي قبلها؟ ذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: إن في هذا دليلاً على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وذهب الآخرون إلى الفرق، وقالوا: أما المؤمنون فقد نجوا، وأما البيت فهو بيت إسلام، لأن المظهر في هذا البيت - بيت لوط - أنه بيت إسلامي، حتى امرأته لم تتظاهر بالكفر، تظاهرت بأنها مسلمة، ولهذا قال الله تعالى في سورة التحريم: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } ليس المعنى خانتاهما بالفاحشة، بل خانتاهما بالكفر، لكنه كفر مستور، وهو خيانة من جنس النفاق، ولهذا يقال للمجتمع الذي فيه المنافقون: إنه مجتمع مسلم، وإن كان فيه المنافقون، لأن المظهر مظهر إسلام، إذن نقول: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } إنما قال: من المسلمين، لأن امرأته ليست مؤمنة، ولكنها مسلمة.
{وتركنا فيها آيةً للذين يخافون العذاب الأَليم } تركنا فيها آية أي علامة، فما العلامة؟ أهي علامة حسية، أم علامة معنوية، أم علامتان معنوية وحسية؟ والقاعدة المفيدة في التفسير: (إذا احتملت الآية أكثر من معنى لا مرجح لأحدهما على الآخر ولا منافاة بينهما، وجب حملها على المعنيين جميعاً) فهذه الآية حسية ومعنوية، أما الحسية: فما نشاهد مكان قريتهم التي تسمى بحيرة لوط، فإن هذا كان موضع القرية، كل يمر به ويراه ويشاهده، كما قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} وآية معنوية كل من قرأ قصتهم في جميع ما وردت فيه من السور الكريمة اعتبر واتعظ وخاف، لكن من الذي ينتبه لهذه الآيات؟ ومن يتعظ؟ {للذين يخافون العذاب الأَليم } أما المنكرون الذين قست قلوبهم فإنهم لن ينتفعوا بالآيات، قال الله تعالى: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بالآيات.
{وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } يعني في موسى آيات من(14/28)
آيات الله عز وجل، حين أرسله الله تعالى إلى فرعون، وفرعون علم جنس على كل من حكم مصر وهو كافر، وموسى بن عمران عليه السلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو في المرتبة الثالثة من الفضل بالنسبة لأولي العزم الخمسة، فإن أفضلهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى {بسلطان مبين }، أي: بحجة بينة في نفسها مبينة لغيرها، فالآيات التي جاء بها الأنبياء بينات واضحة لكل ذي عدل وإنصاف، وهي أيضاً مبينة لصدق ما جاءت به الرسل، ولهذا اعلم أنه كلما جاء في القرآن كلمة: (مبين) فهي بمعنى مبين في ذاته، مبين لغيره، إلا ما دل السياق أن المراد البين في ذاته، فمن الآيات العظيمة التي جاء بها موسى، عصا موسى، التي كان يستعملها ويتوكأ عليها عند الحاجة، ويهش بها على غنمه أوراق الشجر عند رعيها، وله فيها حاجات أخرى، كما قال هو عليه الصلاة والسلام لما سأله الله {وما تلك بيمينك يموسى قال هي عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى}. فهي آية في كونه إذا وضعها على الأرض صارت ثعباناً مبيناً، أي: حية عظيمة تخيف من رآها، ولهذا رهب منها موسى عليه الصلاة والسلام حين ألقاها وولى هارباً، فناداه الله - عز وجل - (لا تخف) ومنها أنه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء في الحال، بيضاء لكن بدون سوء. أي بدون عيب يعني ليست بيضاء برص، ولكنها بيضاء مخالفة للون جلده في الحال، حقيقة لا تخيلاً، وقال الله تعالى في سورة الإسراء: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات } المهم أنه أتى إلى فرعون بسلطان مبين وحجة دامغة بالغة، لكنه - والعياذ بالله - {فتولى بركنه } أي: بقوته وسلطانه وجنده، أعرض عن موسى استكباراً وجحوداً وظلماً وعدواناً، قال الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلماً وعلواً }. {وقال ساحر أو مجنون } يعني أنه اتهم عليه الصلاة والسلام بأنه ساحر، لأنه أتى(14/29)
بآيات تشبه ما يصنعه السحرة، عصا من خشب توضع في الأرض وتكون ثعباناً مبيناً، ويد تدخل في الجيب وتخرج بيضاء في الحال، هذا يشبه السحر، أو {مجنون }، وذلك بكونه يدعي أن الله وحده خالق السموات والأرض وهو الرب وهو الإله، لأنهم كانوا لا يعرفون الإله إلا فرعون، فإذا جاء شخص يقول: إن الله هو رب العالمين، وأن فرعون ليس إلهاً ولا ربًّا. فإنهم يرمونه بالجنون، هذا مجنون خرج عما نعهد، قال الله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم } أي طرحناهم فيه، واليم هو البحر، والبحر الذي هلك فيه فرعون هو البحر الأحمر، الذي بين آسيا وأفريقيا، وذلك أن فرعون جمع جنوده وحشدهم وأراد أن يقضي على موسى وقومه، فخرج موسى عليه السلام وقومه من مصر متجهين إلى الشرق، ولكن حال بينهم وبين مرادهم البحر، فلما وصلوا إلى البحر كان البحر بين أيديهم، وفرعون وقومه خلفهم، فقال قوم موسى: {إنا لمدركون } يعني هلكنا، لأن فرعون خلفنا والبحر أمامنا فكيف النجاة؟! فقال موسى: {كلا إن معى ربي سيهدين }. وهذه معية خاصة، تقتضي النصر والتأييد، قال: {سيهدين } ولم يقل: سوف يهدين، بل قال: {سيهدين } إشارة إلى قرب هذا الحصر وأنه سيزول قريباً، وهذا هو الذي حصل، فأوحى الله تعالى إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق اثنتي عشرة طريقاً في الحال ويبس في الحال، وصار صالحاً للمشي عليه في الحال، كما قال عز وجل: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى }. فعبر موسى وقومه من هذه الطرق العظيمة التي كان الماء بينها كالجبال ولما انتهوا خارجين كان فرعون في أثرهم وانتهوا داخلين، فأمر الله - عز وجل - بقدرته وسلطانه البحر أن يعود إلى ما كان عليه، فانطبق على فرعون وقومه فهلكوا عن آخرهم والحمد لله، ولهذا قال: {وهو مليم } أي: فرعون فاعل ما يلام عليه ولا شك أن رده للرسالة الإلهية، وادعائه أنه الرب وقوله: {ما علمت لكم من إله غيرى }(14/30)
وما أشبه ذلك من الكلمات لا شك أنها كلمات يلام عليها، لأنه قد تبين له الحق، ولكنه عاند وأبى أن ينقاد للحق، كما قال له موسى: {لقد علمت } يعني يا فرعون {مآ أنزل هؤلآء إلا رب السماوت والأَرض بصآئر وإني لأَظنك يفرعون مثبورًا}
ثم قال تعالى: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } يعني وفي عاد آيات {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } عاد في جنوب الجزيرة العربية، وكانوا قوماً أشداء حتى إنهم قالوا: {من أشد منا قوةً } فقال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً }. فأصابهم القحط والجدب، فجعلوا يترقبون المطر، فأرسل الله عليهم الريح العظيمة الشديدة {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } قال الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم }. فأرسل الله عليهم هذه الريح العقيم التي ليس لهم فيها ثمرة ولم تحمل ماء: كالمرأة العقيم التي لا تلد، هذه أيضاً ريح عظيمة لا تحمل سحاباً ولا مطراً، هذه الريح العقيم هي الريح الغربية، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» () أي: بالريح الغربية، أرسل الله عليهم هذه الريح العقيم {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } كل شيء تأتي إليه تجعله كالرميم هامداً، حتى إنها تأخذ الرجل - والعياذ بالله - إلى فوق ثم ترده إلى الأرض {كأنهم أعجاز نخل خاوية }. {كأنهم أعجاز نخل منقعر }. هلكوا عن آخرهم، تأمل الآية، قوم عاد قوم أقوياء أشداء هلكوا بهذه الريح اللطيفة، التي لا ترى لها جسماً، وإنما تحس بها بدون أن ترى شيئاً، ومع ذلك قضت عليهم بأمر الله - عز وجل -، ولهذا قال تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} فهذا فيه آيات من آيات الله - عز وجل -، أرسل الله عليهم هذه الريح، فأهلكتهم عن آخرهم.
{وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } ثمود هم الذين أرسل الله إليهم نبيه صالحاً - عليه الصلاة(14/31)
والسلام -، فوعظهم وذكرهم، وجعل لهم آية وهي الناقة التي شرفها الله تعالى بإضافتها إلى نفسه الكريمة، حيث قال تبارك وتعالى: {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها } أي احذروا ناقة الله أن تعبثوا فيها، أو أن تنكروها، وهذه الآية (لها شرب) تشرب من البئر التي تسمى بئر الناقة، ولهم شرب يوم معلوم يشربونه، فالناقة تشرب يوماً وهم يشربون يوماً، وهذه الناقة ذكروا أنهم: ما جاء أحد يستقي من هذا البئر في يومها التي تشرب منه إلا أخذ بدل شربها شيئاً من لبنها بقدر ما شربت، فالله أعلم: هل هذا هو الواقع أو يختلف؟ لكن على كل حال هذه الناقة لا شك أنها ناقة ليست كسائر النوق، إذ إنها آية من آيات الله - عز وجل -، لكنهم كذبوا وأبوا وتوعدهم عليه الصلاة والسلام أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، ولكنهم مازالوا على كفرهم وإنكارهم، ولهذا قال: {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } وديارهم معروفة الآن، موجودة في مكان يسمى الحجر، ويسمى الآن ديار ثمود، وقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك، لكنه عليه الصلاة والسلام أسرع حين مر بهذه الديار وقنع رأسه، ونهى أمته أن يدخلوا إلى هذه الأماكن، أماكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، قال: «فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها أن يصيبكم ما أصابهم» () وقوله: «أن يصيبكم ما أصابهم». لا يلزم منه أن يراد به ما أصابهم من العذاب الجسمي قد يكون المراد ما أصابهم من العذاب الحسي، وما أصابهم من الإعراض والكفر.
فلو قال قائل: إنه يوجد أناس يذهبون إلى هذه الأماكن وهم غير باكين ولم يصابوا بشيء.
فنقول: الجواب عن هذا من وجهين:
أولاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يؤكد أن يصابوا بهذا، ولكن قال: «حذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم» () .
الوجه الثاني: أن نقول: لا يتعين أن يكون المراد بذلك أن يأخذوا بما أخذ به هؤلاء من العقوبة الحسية الظاهرة، وهي الرجفة والصيحة التي أماتتهم عن آخرهم، فقد(14/32)
يكون المراد مرض القلب، الذي هو الاستكبار والإعراض ورد الحق.
{إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين }، هذا الحين هو ثلاثة أيام {فعتوا عن أمر ربهم } أي: فأبوا ولم يرجعوا عن غيهم {فأخذتهم الصاعقة } التي صعقتهم، وهي رجفة وصيحة، {وهم ينظرون } أي: ينظر بعضهم إلى بعض يتهاوون ويتساقطون أمواتاً {فما استطعوا من قيام } أي: ما استطاعوا أن يقوموا {وما كانوا منتصرين }، أي: لم يتمكن بعضهم أن ينصر بعضاً، بل كلهم هلكوا عن آخرهم، وهكذا يفعل الله تعالى بمن كذب أولياءه، وهكذا يفعل الله تعالى بمن كذب رسله عليهم الصلاة والسلام، إلا أن العذاب المستأصل رفع عن هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه وتعالى ألا يأخذهم بسنة بعامة، أي بعقوبة عامة، لكن ابتلوا بشيء آخر وهو أن يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً () ، والأمر كذلك وقع، فإن هذه الأمة لم تصب بعذاب عام كما أصيبت به الأمم التي قبلها، لكن أصيبت بأن جعل الله بأسهم بينهم منذ زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لما اختلفوا على عثمان وعلي - رضي الله عنهما - وحصلت الفتن تتوالى إلى يومنا هذا، ثم هذه الأمة التي جُعل بأسها بينها ليست هي أمة الإجابة فقط، بل أمة الإجابة وأمة الدعوة، ولهذا نقول: ما حصل من الفتن والبلاء في الأرض مشارقها ومغاربها من الكفار وغير الكفار فإنما هو نتيجة للمعاصي، وهي عقوبة هذه الأمة أن الله يذيقهم بأس بعض.
{وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فسقين } يعني اذكر قوم نوح من قبل، وهم أول أمة أرسل إليهم الرسول، ولكنهم كذبوا، ونوح عليه الصلاة والسلام بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ويذكرهم ويعظهم، ولكنهم - والعياذ بالله - لم يؤمنوا، ما آمن معهم إلا قليل حتى أنه عليه الصلاة والسلام يقول: {كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم }، جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ما يقول، واستغشوا ثيابهم أي(14/33)
تغطوا بها لئلا يبصرون، نسأل الله العافية، وهذا غاية ما يكون من البغضاء لما يقول ولما يفعل، {وأصروا} على باطلهم {واستكبروا استكباراً } فكان آخر ما قال عليه الصلاة والسلام: {رب لا تذر على الأَرض من الكافرين دياراً } ودعا ربه أني مغلوب فانتصر، قال الله تعالى: {ففتحنآ أبوب السماء بماء منهمر وفجرنا الأَرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر} ولهذا والله أعلم سيكون عليهم نصيب من عذاب المكذبين لأنهم هم أول أمة كذبت الرسل، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة () ، كما أن من قتل نفساً فإن على ابن آدم الذي قتل أخاه كفلاً ونصيباً من عذاب القاتل إلى يوم القيامة () .
ثم قال عز وجل: {والسماء بنينها بأيد وإنا لموسعون } السماء مفعول لفعل محذوف والتقدير، وبنينا السماء، وقوله: {بأيد } أي: بقوة، كما قال الله تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } فالأيد هنا أي القوة، وليست جمع يد كما يتوهم بعض الناس، ويظنون أن الله تعالى بنى السماء بيديه عز وجل؛ لأن الأيد هنا مصدر آد يئد بمعنى القوة، كما يقال باع يبيع بيعاً، ولهذا لم يضف الله هذه الكلمة إلى نفسه الكريمة كما أضافها إلى نفسه الكريمة في قوله تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعماً } فمن فسر الأيد بالقوة هنا فإنه لا يقال: إنه من أهل التأويل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، بل هو من التأويل الصحيح، والإنسان إذا تأمل وتفكر في السماوات عرف أنها قوية شديدة عظيمة، وأن قوتها تدل على قوة بانيها - عز وجل - {وإنا لموسعون } أي: لموسعون لأرجائها، لأنها واسعة عظيمة، ولهذا كانت السماوات أكبر بكثير من الأرض، وهي محيطة بالأرض من كل جانب، وعلى هذا فتكون أوسع من الأرض، وليست الأرض بالنسبة للسماء إلا شيئاً يسيراً، {والأَرض فرشنها } أي: فرشنا لأهلها، جعلناها لهم كالفراش يأوون إليها ويتمتعون بها، لم يجعلها الله تعالى صعبة ولا سهلة،(14/34)
بل هي متوسطة لو كانت لينة رخوة ما تمكن أحد من البقاء عليها، ولو كانت صعبة ما تمكن أحد من الانتفاع بها، ولكنها كانت كما وصفها الله - عز وجل -: {هو الذي جعل لكم الأَرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} .
{فنعم المهدون } أثنى على نفسه تبارك وتعالى بذلك، لأنه أهل للثناء، وقد جعل الله تبارك وتعالى الأرض على مستوى نافع للعباد، ليست بالقاسية التي يعجز الناس عن الانتفاع بها، وليست باللينة التي لا يستقرون عليها، بل هي مناسبة تماماً لهم، على أن فيها اختلافاً في الليونة وفي الصلابة، لكن هذا لا يمنع الانتفاع بها.
{ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } خلق الله تبارك وتعالى من كل شيء زوجين متقابلين، حتى تتم الحال وتصلح باجتماع بعضهما إلى بعض، فالحيوان كله من إنسان وغيره يكون من زوجين بين ذكر وأنثى، كما قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعرفوا } إلا أن آدم عليه الصلاة والسلام خلقه الله بيده من غير أم ولا أب، وحواء خلقت من أب بلا أم، وعيسى ابن مريم خلق من أم بلا أب، ولهذا ينقسم الناس إلى أربعة أقسام: الأول: من خلق بلا أم ولا أب وهو: آدم، والثاني: من خلق من أب بلا أم وهي: حواء، والثالث: من خلق من أم بلا أب وهو: عيسى، والرابع: بقية البشر خلقوا من ذكر وأنثى، فمن كل شيء خلق الله زوجين، اليابس والرطب، والحرارة والبرودة، واللين والقسوة، وغيره مما إذا تأمله الإنسان عرف بذلك حكمة الله سبحانه وتعالى {لعلكم تذكرون }، أي: بينا ذلك لكم، لأجل أن تذكروا وتتعظوا بآيات الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان كلما كان أعلم بآيات الله الكونية أو الشرعية كان أكثر اتعاظاً واعتباراً، ولهذا حث الله على النظر في الآيات الكونية فقال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوت والأَرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }. وقال تعالى: {أولم يتفكروا في(14/35)
أنفسهم ما خلق الله السماوت والأَرض وما بينهمآ إلا بالحق } ومدح الله تعالى الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض بقوله: {إن في خلق السماوت والأَرض واختلاف الليل والنهار لأَيات لأُولى الأَلباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوت والأَرض ربنآ ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}. لهذا ينبغي الإنسان أن يتعظ ويتذكر ويتدبر آيات الله سبحانه وتعالى الكونية والشرعية.
{ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } هذا كأنه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم {ففروا إلى الله إني لكم منه } أي: من الله،والفرار إلى الله يكون بالقيام بطاعته واجتناب نواهيه، لأنه لا ينقذك من عذاب الله، إلا أن تقوم بطاعة الله، فكأن الإنسان إذا قام بطاعة الله عز وجل كأنه فر من عدو، أرأيت لو أن وادياً عرماً يهدر، أقبل عليك فإنك لن تقف أمامه، بل تهرب منه وتفر منه، كذلك لو أن حريقاً ملتهباً أقبل إليك فإنك لن تقف بل تفر، كذلك نار جهنم أشد وأعظم وأولى بالفرار منها، ولهذا قال: {ففروا إلى الله }، أي: من عذاب الله {إني لكم منه نذير مبين } أي: منذر {مبين } أي: مظهر لما أنذر به ومبين له، فهو عليه الصلاة والسلام نذير من الله تعالى لعباده، ينذر من خالف أمره بالعذاب، ومع هذا هو صلى الله عليه وسلم بشير لمن آمن وأطاع بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } لكن الله تبارك وتعالى يذكر الإنذار فقط في مقام التهديد والوعيد، وهذه السورة كلها ذكر للأمم السابقين وما حل بهم من العقوبة لمخالفتهم أمر الله تبارك وتعالى، {ولا تجعلوا مع الله إلهاً ءاخر }، أي: لا تجعلوا معه معبوداً تعبدونه، والمعبود أنواع وأصناف، فمن الناس من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد(14/36)
النجوم، ومنهم من يعبد الحيوان، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبدالخميصة، تعس عبدالخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط» () فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الذي ليس لهم همٍّ إلا المال فإنه عابد له في الحقيقة، وإن كان لا يركع له ولا يسجد، لكن تعلق قلبه به واهتمامه به، وكونه يرضى لحصوله، ويسخط لمنعه، لا شك أنه قد استولى على قلبه استيلاء تامًّا، لكن المعبود تختلف عبادته في الحكم، فإن كان يصرف له شيء من العبادة، فهذا شرك أكبر، وإن كان لا يصرف له شيء من العبادة، ولكنه يتعلق به القلب تعلقاً كاملاً حتى إنه ليدع الواجبات ويقع في المحرمات من أجل الحصول عليه، فهذه عبادة لا تخرج من الدين لكنها حقًّا عبادة {إني لكم منه نذير مبين } كرر ذلك لأهمية الموضوع، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الاتعاظ والانتفاع بآيات الله تعالى، إنه على كل شيء قدير.
{كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } يعني أن الأمر الذي حصل لك يا محمد حصل لمن قبلك، فقوله (كذلك) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك، يعني أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد، وفسر {كذلك } بقوله: {مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } يعني ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا، و(من) في قوله (من رسول) زائدة من حيث الإعراب، كقوله تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } والمعنى ما جاءنا بشير ونذير، لكن تزاد الحروف في بعض الجمل للتأكيد، فما أتى الذين من قبلهم من رسول يعني ما أتاهم رسول إلا وصفوه بهذين الوصفين إلا قالوا: ساحر أو مجنون، ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان لسحراً» () أو مجنون يعني أو قالوا مجنون باعتبار تصرفاته، لأن هذا التصرف في نظر(14/37)
هؤلاء المكذبين جنون، نسأل الله العافية، وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك، وهان عليه الأمر، ولهذا قالت الخنساء تماضر وهي ترثي أخاها صخراً:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي
وقد دل لذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }. لأن الإنسان إذا شاركه غيره في العذاب هان عليه، لكن يوم القيامة لا ينفع الإنسان أن يشاركه غيره في عقوبته، والمهم أن في هذه الجملة بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام تسلية حتى لا يحزن، فإن ما أصابه قد أصاب غيره، وفيها أيضاً دليل على أن المكذبين للرسل طريقهم واحدة، ولو تباعدت أزمانهم، ولو تباعدت أقطارهم، لأن المجرم أخو المجرم، فالطريقة واحدة، قال الله تعالى: {أتواصوا به } أي بهذا القول {بل هم قوم طاغون } يعني هل هؤلاء المكذبين للرسل الذين اتفقوا على وصف الرسل بأنهم سحرة ومجانين، هل هم تواصوا بذلك؟ يعني هل كل واحد من هؤلاء الأمم كتب وصية إلى الأمم اللاحقة: أن قولوا لأنبيائكم: إنكم سحرة ومجانين؟ الجواب: لا، ولهذا قال: {بل هم قوم طغون } وهذا إضراب إبطال يعني لم يحصل تواصٍ، ولكن تواردت الخواطر، لأن الهدف واحد وهو تكذيب الرسل، فاتفقت الكلمة، وفي قوله (طاغون) وصف بأن هؤلاء طغاة معتدون، وهذا من أعظم الطغيان - والعياذ بالله - أن يوصف دعاة الحق بأنهم سحرة ومجانين، قال الله تعالى: {فتول عنهم } أي: أعرض عن هؤلاء ولا تهتم بهم {فمآ أنت بملوم } يعني لا أحد يلومك لأنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، وصبرت وصابرت، فلقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وصابر على أذى قريش وامتهانهم إياه، ولكنه كانت له العاقبة ولله الحمد، ولهذا قال: {فتول عنهم }، بمعنى أنك لا تتعب نفسك بهم، ولا تهلك نفسك فيهم، فأنت في هذه الحال لا تلام(14/38)
على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قام بما يجب عليه، وفي قوله {فتول عنهم فمآ أنت بملوم } أمران:
الأمر الأول: عذر النبي عليه الصلاة والسلام وإقامة العذر له.
والثاني: تهديد هؤلاء المكذبين: فالله تعالى يهددهم بتولي الرسول عنهم، لأنهم لا خير فيهم.
ثم قال: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } أي: ذكر الناس بآيات الله وبأيامه، وشرائعه وما أوجب الله على العباد. وبأيامه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين، لكن أطلق الله الذكرى وقال: {وذكر } ولم يقل: وذكر المؤمنين، لكن بين أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون فقال: {فإن الذكرى تنفع المؤمنين } لأن المؤمن إذا ذكر فهو كما وصفه الله عز وجل: { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً } بل يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طمأنينة، وفي الآية الدليل على وجوب التذكير على كل حال، وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكر فهو ليس بمؤمن: إما فاقد الإيمان، وإما ناقص الإيمان، وهنا فتش عن نفسك: هل أنت إذا ذكرت بآيات الله وخوفت من الله عز وجل هل أنت تتذكر أم يبقى قلبك كما هو قاسياً، إن كانت الأولى فاحمد الله فإنك من المؤمنين، وإن كانت الثانية فحاسب نفسك، ولا تلومن إلا نفسك، وعليك أن ترجع إلى الله - عز وجل - حتى تنتفع بالذكرى، وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد، وذلك من قاعدة معروفة عند العلماء، وهي: أن الحكم إذا علق بوصف ازداد بزيادته ونقص بنقصانه.
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ما أوجدتهم بعد العدم إلا لهذه الحكمة العظيمة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وحده لا شريك له، واللام في قوله {ليعبدون } للتعليل، لكن هذا التعليل تعليل شرعي، أي لأجل أن يعبدون، حيث آمرهم فيمتثلوا أمري، وليست اللام هنا تعليلاً قدرياً، لأنه لو كان تعليلاً قدرياً للزم أن يعبده جميع الجن والإنس،(14/39)
لكن اللام هنا لبيان الحكمة الشرعية في خلق الجن والإنس، والجن عالم غيبي خلقوا من نار، لأن أباهم هو إبليس كما قال الله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو } فسموا جنًّا لأنهم مستترون عن الأعين، حيث إنهم يروننا ولا نراهم، هذا هو الأصل أنهم عالم غيبي، لكن قد يظهرون أحياناً، والأصل فيهم أنهم كالإنس منهم المسلمون، ومنهم غير المسلمين، ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن الإنس يفضلونهم بأنهم أحسن منهم من حيث الابتداء، حيث إنهم خلقوا من الطين، من التراب، من صلصال كالفخار، وأما أولئك الجن فخلقوا من النار، كذلك يمتاز الإنس عنهم بأن منهم الرسل والأنبياء، وأما الجن فليس منهم رسل، ولكن منهم نُذر، يبلغونهم الرسالات من الإنس، كما في قول الله تعالى: {وإذ صرفنآ إليك نفراً من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } فانظر إلى أدبهم في قولهم: أنصتوا ثم بقائهم حتى انتهى المجلس، ثم ذهبوا دعاة لما سمعوا، قالوا: {أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } {قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى } إلى آخر الآية، وأما الإنس فهم بنو آدم البشر، هؤلاء خلقوا لشيء واحد، لعبادة الله، لا لأجل أن ينفعوا الله بطاعتهم، ولا أن يضروه بمعاصيهم، ولا أن يطعموه، ولهذا قال: {مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون } يعني ما أطلب منهم رزقاً أي عطاءً أنتفع به، ولا أن يطعمون فأنتفع بإطعامهم، قال الله تبارك وتعالى: {قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأَرض وهو يطعم ولا يطعم }، فهو سبحانه وتعالى له الجود والغنى والكرم وهو غني عما سواه، فالحكمة من خلق الجن والإنس العبادة، فلم يخلقوا لأجل أن يعمروا الأرض ،ولا لأجل أن يأكلوا، ولا لأجل أن يشربوا، ولا أن يتمتعوا كما تتمتع الأنعام، وإنما خلقوا لعبادة الله، وخلق لهم ما في الأرض، فنحن مخلوقون للعبادة، وكل ما في الأرض(14/40)
مخلوق لنا، {هو الذي خلق لكم ما في الأَرض جميعاً } والعجب أن قومنا الآن اشتغلوا فيما خلق لهم عما خلقوا له، وهذامن السفه أن يشتغلوا بشيء خلق لهم، عن شيء خلقوا من أجله. والعبادة تطلق على معنيين:
المعنى الأول: التعبد، يعني فعل العبد، فيقال: تعبد لله عبادة.
والثاني: المتعبد به، وهذا المعنى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إنه (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)، فهي اسم جامع لكل شيء، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، وكل ما يقرب إلى الله من قول، أو فعل فإنه عبادة. {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } هو الرزاق يعني هو صاحب العطاء الذي يعطي، فالرزق بمعنى العطاء، ومنه قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } أي: أعطوهم، وكلمة (الرزاق) أبلغ من كلمة (الرازق)؛ لأن (الرزاق) صيغة مبالغة تدل على كثرة الرزق، وعلى كثرة المرزوق، فرزق الله تعالى كثير باعتبار كثرة المرزوقين، فكل دابة في الأرض على الله رزقها، من إنسان وحيوان، ومن طائر وزاحف، ومن صغير وكبير، ولا يمكن أن نحصي أنواع المخلوقات على الأرض، ولو قلت لك أحص العوالم التي في الأرض ما استطعت، فضلاً عن أفرادها، فكل فرد منها فإن الله تعالى متكلف برزقه {وما من دآبة في الأَرض إلا على الله رزقها } فإذا كان الأمر كذلك صار رزق الله كثيراً باعتبار المرزوق، مَن يحصي المرزوقين؟ لا أحد يحصيهم أبداً، ورزقه كثير باعتبار الواحد، فكم لله عليك من رزق كثير لا يحصى، رزق الله لك دارٍّ عليك ليلاً ونهاراً، رزقك عقلاً، وصحة، ومالاً، وولداً، وأمناً وأشياء لا تحصى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }، ولهذا جاء اسم الرزَّاق بالتشديد الدال على الكثرة، وقوله: {ذو القوة } أي: صاحب القوة التي لا قوة تضادها، كما قال(14/41)
الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
فقوة الله عز وجل لا يضاهيها قوة، قوته - عز وجل - لا يعتريها ضعف، بخلاف قوة المخلوق، فقوته تنتهي إلى ضعف، كما قال الله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير } أما الرب عز وجل فقوته لا يلحقها ضعف بأي وجه من الوجوه، ولما قالت عاد: من أشد منا قوة؟ قال الله؟ {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً } وصدق الله - عز وجل - وقوله: {المتين} يعني الشديد، شديد في قوته، شديد في عقابه، شديد في كل ما تقتضي الحكمة الشدة فيه، انظر إلى قول الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأَخر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين }. هذه شدة، والله - عز وجل - أرحم الراحمين، ومع ذلك ينهانا أن تأخذنا الرأفة، في الزانية والزاني {ولا تأخذكم بهما رأفة }، وهذا دليل على القوة، ومن قوته - عز وجل - أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ولم يعِ بخلقهن، ومن قوته وقدرته أنه جل وعلا يبعث الناس كنفس واحدة {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} والأمثلة على هذا كثيرة، فهو جل وعلا له القوة البالغة التي لا يمكن أن تضاهيها أي قوة.
ثم قال الله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون } أي:الذين ظلموا بالكفر لهم {ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } والذنوب في الأصل هو الدلو، أو ما يستقى به، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «أريقوا على بوله ذنوباً من ماء» () والمعنى: هؤلاء الظالمون لهم نصيب مثل نصيب من سبقهم {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } أي نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم، وانظر كيف سمى الله تعالى السابقين بأزمان بعيدة أصحاباً لهؤلاء، وذلك لاتفاقهم في التكذيب، ورمي(14/42)
الرسل بما لا يستحقون، فهم أصحاب في الواقع وإن تباعدت الأزمان والأماكن {فلا يستعجلون }، النون هنا مكسورة على أنها نون الوقاية وحذف الضمير: الياء، وأصله فلا يستعجلوني، فحذفت الياء تخفيفاً، ولهذا لا يشكل على الإنسان فيقول: كيف كانت النون مع أن (لا) ناهية؟ والجواب أن نقول: هذه النون ليست نون الإعراب، ولكنها نون الوقاية، فالفعل إذاً مجزوم، والنون للوقاية، والياء التي هي المفعول محذوفة، وفي قوله: {فلا يستعجلون } تهديد واضح أن هؤلاء سيأتيهم العذاب لا محالة، ولكن لا يستعجلون الله - عز وجل - لأن الله تعالى يملي للظالم ويمهله حتى إذا أخذه لم يفلته، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» () وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
{فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } ويل: بمعنى الوعيد والعذاب، يعني أنه يتوعدهم - عز وجل - من هذا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة؛ لأنهم سيجدون ما أرسل إليهم حقًّا، وسيجدون الذل والعار {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه }. {ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً }. فيكونون من بين هذا العالم - نسأل الله العافية - على هذا الوجه، ولهذا قال: {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } وسيكون هذا اليوم يوماً عسيراً عليهم، لأنهم كفرة والعياذ بالله.
تم تفسير سورة الذاريات.
------------------------------------------------
(1)أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الخطبة (5146).
(2)أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب النهي عن البغي(4901).
(3)أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (2621).
(4)تقدم تخريجه ص 62.
(5)أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {ومن دونهما جنتان} (4878) ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى(14/43)
(180).
(6)تقدم تخريجه ص 62.
(7)أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الأول فالأول (1844).
(8)أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة (2750).
(9)أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله (2790).
(10)تقدم تخريجه ص 94.
(11)حيث قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام. فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه». أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (رقم 2167).
(12) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (349) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ? إلى السموات وفرض الصلوات (163).
(13)أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب يسلم الراكب على الماشي (6232) ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (2160).
(14)أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان (رقم 6247) ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان (رقم 2168).
(15)أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس (1924)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(16)أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب يسلم الراكب على الماشي (رقم 6232) ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (رقم 2160).
(17)أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة (6077) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (2560).
(18)أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (6502).
(19)أخرجه الإمام أحمد (3/344، 360).
(20)أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة (6021).
(21)تقدم ص 86، وهو عند الترمذي (1456).
(22)أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (4105) ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (900).
(23)أخرجه(14/44)
البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب (433)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم (2980) (38).
(24)أخرجه مسلم في الموضع السابق (2980) (39).
(25) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889).
(26) أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (1017).
(27) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (3335)، ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل (1677).
(28) تقدم تخريجه ص (101).
(29)تقدم ص 118 وهو عند البخاري (5146).
(30) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (220) ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات... (284) (99).
(31) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} (4686) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2583).(14/45)
تفسير سورة الطور
{بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها، {والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} هذه أشياء أقسم الله بها، الأول: الطور وهوالجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فإن الله تعالى كلمه أول ما كلمه على جبل الطور، فكان لهذا الجبل من الشرف والفضل ما سبق به غيره من الجبال، ولهذا أطلق كثير من العلماء أن جبل الطور أفضل الجبال وأشرفها، وعلى هذا يكون أشرف وأفضل من جبل حراء الذي ابتدأ فيه الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا ظاهر إطلاق كثير من العلماء، ولكن في هذا الظاهر نظراً، لأن جبل حراء كُلِّم منه الرسول عليه الصلاة والسلام لكن كلمه جبريل عليه السلام مرسلاً من عند الله، فمنه ابتدأت أفضل الرسالات على أفضل الرسل، وأيضاً حراء داخل الحرم المكي، لأنه من الحرم الذي لا يحل صيده ولا قطع شجره، وبقعة الحرم أفضل البقاع، ويمكن أن يحمل إطلاق كثير من العلماء على هذا، فيقال: إلا جبل حراء {وكتاب مسطور في رق منشور} الكتاب المسطور في الرق، اختلف فيه العلماء، وهذا الخلاف ينبني على كلمة (رق) هل الرق كل ما يكتب فيه من جلد وورق وعظم وحجر وغير ذلك؟ أو هو خاص بما يكتب فيه من جلود ونحوها؟ إن قلنا بالأول صار المراد بالكتاب عدة أشياء، منها اللوح المحفوظ، ومنها الكتب التي بأيدي الملائكة، ومنها القرآن الكريم، ومنها التوراة، فيشمل عدة كتب، وإذا قلنا إن الرق هوالورق وشبهه مما يكتب فيه عادة، فاللوح المحفوظ لا يدخل في هذا، وإنما المراد به إما التوراة، وإما القرآن، فالذين قالوا: إنه التوراة رجحوا قولهم بأنه قرن بالطور، والطور هو الذي كلَّم منه موسى عليه الصلاة والسلام، فكان الكتاب المسطور هو التوراة التي جاء بها موسى، ومن قال: إن المراد به القرآن الكريم رجح ذلك بأن الله ذكر الطور الذي أوحي منه إلى موسى، وذكر الكتاب(15/1)
الذي هو القرآن أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون الله تبارك وتعالى ذكر أشرف الرسالات في بني إسرائيل إيماء بذكر الطور، وذكر أشرف الرسالات التي بعث بها من بني إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فيتعين أن يكون المراد بالكتاب المسطور القرآن الكريم {منشور } صفة لكتاب، ويحتمل أن تكون صفة لرق، والمعنى واحد، والمراد بالمنشور يعني المفرق الذي يكون بأيدي كل قارىء، وهذا يصدق تماماً على القرآن الكريم، فإنه - ولله الحمد - بين يدي كل قارىء حتى الصغار من المسلمين يقرؤونه، {والبيت المعمور } هذا هو الثالث مما أقسم الله به في هذه الآيات، وهو بيت في السماء السابعة يقال له: الضراح، هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه () ، فبناءً على هذا كم عدد الملائكة؟ لا يحصيهم إلا الله، من يحصي الأيام؟ ثم من يحصي سبعين ألفاً كل يوم يدخلون هذا البيت المعمور ولا يعودون إليه.
وقيل: إن المراد بالبيت المعمور بيت الله في الأرض وهو الكعبة؛ لأنه معمور بالطائفين والعاكفين، والقائمين، والركع السجود، فهل يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً؟ القاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين على السواء، وليس بينهما منافاة وجب أن تحمل على كل منهما، لأن المتكلم بها وهو الله - جل وعلا - عالم بما تحتمله من المعاني، وإذا لم يبين أن المراد أحد المعاني فإنه يجب أن تحمل على كل ما تحتمله من المعاني الصحيحة لا المعاني الباطلة، وليس هناك منافاة بين أن يكون المقسم به الكعبة، أو البيت المعمور في السماء، لأن كلا البيتين معظم، ذاك معظم في أهل السماء، وهذا معظم في أهل الأرض، ولا مانع، فالصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، إلا إذا وُجد قرينة ترجح أن المراد به البيت المعمور في السماء {والسقف المرفوع } أقسم الله تعالى بالسقف المرفوع وهو السماء، قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد(15/2)
ترونها } وقال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن ءاياتها معرضون }. فالسماء سقف، والسماء مرفوعة، إذن فالسقف المرفوع هو السماء، وسماه الله سقفاً لأنه قد غمر جميع الأرض من جميع الجوانب، كما يغمر السقف الحجرة من جميع الجوانب، وإنما أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من الآيات العظيمة من نجوم وشمس وقمر، وإحكام وإتقان، قال الله عز وجل: {الذي خلق سبع سماوات طباقًا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين}. يعني مرة بعد مرة {ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير } وأخبر أنه ليست للسماء فروج، وليس فيها تشقق وليس فيها عيب، وليس فيها تصدُّع، ولا تبلى على طول المدة، فهي جديرة بأن يقسم الله بها {والبحر المسجور } كلمة البحر قيل: إن المراد به البحر الذي عليه عرش الرحمن - عز وجل - كما قال تعالى، {وكان عرشه على الماء }، وقيل: المراد به البحر الذي في الأرض لأنه المشاهد المعلوم الذي فيه من آيات الله ما يبهر العقول، والصحيح أن المراد به بحر الأرض، لأن (ال) في البحر للعهد الذهني، يعني البحر المعهود الذي تعرفونه، فأقسم الله به لما فيه من آيات الله العظيمة من أسماك وأمواج وغير هذا مما نعلمه وما لا نعلمه، ومن أعظم ما فيه من آيات الله ما أشار إليه تعالى في قوله: {المسجور } يعني الممنوع، ومنه سجرت الكلب يعني ربطته حتى لا يهرب، فالبحر ممنوع بقدرة الله عز وجل، إننا نعلم جميعاً أن الأرض كروية، وهذا البحر لو نظرنا إليه بمقتضى الطبيعة لكان يفيض على الأرض، لأنه لا جدران تمنع، والأرض كروية مثل الكرة فلو نظرنا إلى هذا البحر بمقتضى الطبيعة، لقلنا: لابد أن يفيض على الأرض فيغرقها، ولكن الله تبارك وتعالى أمسكه بقدرته سبحانه وتعالى، فهو مسجور، أي: ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها، وهذه آية من آيات الله، فلو صب فوق الكرة ماء، لذهب يغمرها يميناً وشمالاً، لكن هذا البحر(15/3)
لا يمكن أن يفيض على الأرض بقدرة الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الحكمة تأتي أيام المد والجزر، نفس البحر يمتد امتداداً عظيماً لعدة أمتار وربما أميال، ثم ينحسر، مَن الذي مده؟ ولو شاء لبقي ممتداً حتى يغرق الأرض، ومن الذي رده؟ هو الله، ولهذا كان هذا البحر جديراً بأن يقسم الله به، وفي البحر آيات عظيمة، يقال: إنه ما من شيء على البر من حيوان وأشجار إلا وله نظير في البحر بل أزيد، لأن البحر بالنسبة لليابس يمثل أكثر من سبعين في المائة، وفيه أشياء لا نرى لها نظيراً في البر، وهذا من آيات الله عز وجل، وأعظم آية في البحر هو أنه مسجور، أي ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها.
وقيل: المراد بالمسجور الذي سيسجر، أي: يوقد كما قال الله تعالى: {وإذا البحار سجرت }. أي: أوقدت. وهذا يكون يوم القيامة، هذا الماء الذي نشاهده الآن والذي لو سقطت فيه جمرة، أو مر على جمرة لأطفأها، يوم القيامة يكون ناراً يسجر، وهذا من آيات الله - عز وجل - والمراد به المعنيان جميعاً؛ لأنه لا منافاة بين هذا وهذا، فكلاهما من آيات الله - عز وجل - أي سواء قلنا المسجور الممنوع من أن يفيض على الأرض، أو المسجور الذي سيسجر أي يوقد، فكل ذلك من آيات الله، {إن عذاب ربك لواقع } هذا هو جواب القسم، وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم بخمسة أشياء، وإذا كان قسماً بخمسة أشياء صار كأنه أقسم عليها خمس مرات، والثاني: بأن، والثالث: باللام، {إن عذاب ربك لواقع } يعني لابد أن يقع عذاب الله الذي وعد به، هذه والله جملة عظيمة مؤثرة، لكنها لا تؤثر إلا على قلب لين كلين الزبد أو أشد، أما القلب القاسي فلا يهتم بها، تمر عليه وكأنه حجارة، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية يمرض حتى يعُاد، يمرض من شدة ما يقع على قلبه من التأثر حتى يُعاد، فإذا كان واقعاً وليس له دافع أليس الجدير بنا أن نخاف؟ بلى والله، هذا هو الجدير، وقوله: {إن عذاب ربك لواقع }(15/4)
يعني لابد أن يقع، ولكن هل هذا التأكيد بالنسبة لعذاب المؤمنين أو لعذاب الكافرين؟ لننظر قال الله تعالى: {سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج}. فضم هذه الآية إلى الآية التي في الطور تجد أن قوله: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}. على الكافرين، فعذاب الله على الكافرين ليس له دافع، لا أحد يدفعه، لا قبل وقوعه ولا بعد وقوعه، ولهذا لا تنفعهم الشفاعة فيرفع عنهم العذاب، أما عذاب الله للمؤمن المذنب فإن الأصل أنه واقع، كل ذنب توعد الله عليه بالعذاب فالأصل أنه واقع، لكنه مع ذلك قد يرفع بفضل من الله - عز وجل - وقد يرفع بالشفاعة، وقد يرفع بأعمال صالحة تغمر الأعمال السيئة، أما ترى أن الله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه» () فيرتفع عنه العذاب. وعلى هذا نقول: عذاب الله واقع على الكافرين لا محالة، ولا دافع له، أما على عصاة المؤمنين فإن الأصل الوقوع، وقد أنذر الله العباد وخوَّفهم، وبيَّن لهم، لكن مع ذلك قد يرتفع بأسباب متعددة، {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}، (ما) نافية، و(دافع) مبتدأ مؤخر، دخلت عليها (من) الزائدة للتوكيد، يعني ما من أحد ولو عظمت منزلته وقوته يدفع أو يرفع عذاب الله - عز وجل - لأن (دافع) هنا تشمل المنع قبل الوقوع، والرفع بعد الوقوع، لا أحد يدفع عذاب الله ولا يمنعه عن أن ينزل ولا يرفعه إذا نزل، وإنما ذلك إلى الله وحده، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وما حضر، إنه على كل شيء قدير.
{يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً فويل يومئذ للمكذبين} هذه الآية: {يوم تمور السماء موراً } متعلقة بقوله: {إن عذاب ربك لواقع } يعني أن العذاب يقع في ذلك اليوم، قوله: {يوم تمور(15/5)
السماء موراً } قد يظن الظانّ أن المصدر هنا (موراً) لمجرد التوكيد، ولكنه ليس كذلك، بل هو لبيان تعظيم هذا المور، والمور بمعنى الاضطراب، يعني أن السماء تضطرب وتتشقق، وتتفتح وتختلف عما هي عليه اليوم، كما قال تعالى: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت}. ولا إنسان يتصور أو يعلم حقيقة ذلك اليوم، ولكننا نعلم المعنى بما أخبر الله به عنه، أما الحقيقة فهي شيء فوق ما نتصوره الآن، {وتسير الجبال سيراً } أي: تسير سيراً عظيماً، وذلك أن الجبال تكون هباءً منثوراً، وتتطاير كما تتطاير الغيوم، وتسير سيراً عظيماً هائلاً، لشدة هول ذلك اليوم، وهذه الآية تدل على أن قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون }. فإن هذه الآية هي نفس هذه الآية التي في الطور من حيث المعنى، فيكون قوله تبارك وتعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب } يعني يوم القيامة ولا شك، ومن فسرها بأن ذلك في الدنيا وأنه دليل على أن الأرض تدور فقد حرَّف الكَلم عن مواضعه، وقال على الله ما لا يعلم، وتفسير القرآن ليس بالأمر الهين، لأن تفسير القرآن يعني أنك تشهد على أن الله أراد به كذا وكذا، فلابد أن يكون هناك دليل: إما من القرآن نفسه، وإما من السنة، وإما من تفسير الصحابة - رضي الله عنهم - أما أن يحول الإنسان القرآن على المعنى الذي يراه بعقله أو برأيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» () . والمهم أن تفسير قوله: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب } يراد به ما في الدنيا، تفسير باطل لا يجوز الاعتماد عليه، ولا المعول عليه، أما كون الأرض تدور أو لا تدور، فهذا يعلم من دليل آخر، إما بحسب الواقع، وإما بالقرآن، وإما بالسنة، ولا يجوز(15/6)
أبداً أن نحمل القرآن معاني لا يدل عليها من أجل أن نؤيد نظرية أو أمراً واقعاً، لكنه لا يدل عليه اللفظ، لأن هذا أمر خطير جداً.
قال الله تعالى: {فويل يومئذ للمكذبين } ويل كلمة وعيد وتهديد، وإن كان قد روي أنها واد في جهنم () ، لكن الصواب أنها كلمة تهديد ووعيد، {فويل يومئذ للمكذبين } أي: المكذبين لله ورسوله، الجاحدين لما قامت الأدلة على ثبوته فإنهم سيجدون في ذلك اليوم من العذاب والنكال ما لا يخطر لهم على بال {الذين هم في خوض يلعبون } أي في الدنيا {في خوض } أي: في كلام باطل {يلعبون } أي: لا يقولون الجد ولا يعملون بالجد، وإنما أعمالهم كلها لعب ولهو، ولذلك تجد أعمارهم ليس فيها بركة، تمر بهم الليالي والأيام لا يستفيدون شيئاً {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا } هذه متعلقة بما سبق أيضاً، ويُدَعُّون بمعنى يدفعون بعنف وشدة إلى نار جهنم دعًّا؛ لأنهم - والعياذ بالله - تمثل لهم النار كأنها سراب، أي كأنها حوض نهر، وهم على أشد ما يكونوا من العطش، فيذهبون إليها سراعاً، يريدون أن يشربوا منها حتى يزول عنهم العطش، فإذا بلغوها وإذا هي النار - والعياذ بالله - فكأنهم - والله أعلم - يتوقفون لئلا يتساقطوا فيها، فيدعُّون إليها دعًّا، أي يُدفعون بعنف وشدة فيتساقطون فيها - أجارنا الله من ذلك ويقال لهم: {هذه النار التى كنتم بها تكذبون } كانوا في الدنيا يقولون: لا بعث ولا جزاء، ولا عقوبة ولا نار، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع ولا بعث، فيقال لهم توبيخاً على هذا الإنكار: {هذه النار التى كنتم بها تكذبون } فما أشد حسرتهم إذا وُبِّخوا على أمر كان في إمكانهم أن يتخلوا عنه، ولكنهم الآن لا يستطيعون لذلك سبيلاً، يقولون إذا وقفوا على النار: {ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين }. قال الله تعالى: {بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون }. أي: حتى لو ردوا إلى الدنيا(15/7)
عادوا وكذبوا، فلن يستقيموا على أمر الله، لكن يقولون هذا تمنياً. {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون } يعني أفهذا الذي ترون اليوم سحر كما كنتم تقولون ذلك في الدنيا، حيث يقولون: إن ما جاءت به الرسل سحر، ويصفون الرسول بأنه ساحر، فيقال: أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، يعني لا تبصرون بعين البصيرة، بل أنتم عمي عن الحق - والعياذ بالله - {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } أي: احترقوا بها، والأمر هنا للإهانة، كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون}. فانظر إلى هؤلاء كيف تتهكم بهم الملائكة وتذلهم وتخزيهم - والعياذ بالله - وتهينهم، {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } يعني أن الصبر وعدمه سواء عليكم، ومعنى هذا أنه لن يفرج عنكم، سواء صبرتم أم لم تصبروا، مع أنه في الدنيا إذا أصيب الإنسان بشيء وصبر فإنه يفرج عنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» () . {إنما تجزون ما كنتم تعملون } يعني ما تجزون إلا ما عملتم فلم تُظلموا شيئاً، ثم ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين فقال: {إن المتقين في جنات ونعيم } هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، والتوكيد أسلوب من أساليب اللغة العربية، مستعمل عند العرب، وهذا القرآن نزل بلغة العرب، وإلا ففي الواقع أن خبر الله - عز وجل - لا يحتاج إلى توكيد؛ لأنه أصدق القول، فالرب - عز وجل - إذا أخبر بخبر فإنه لا يحتاج إلى أن يؤكد، لأن خبر الله صدق، لكن لما كان القرآن العظيم نزل بلسان عربي صار جارياً على ما كان يعرفه العرب في لغتهم، فهنا أكد الله - عز وجل - هذه الجملة: {إن المتقين في جنات ونعيم } والمتقون هم الذين قاموا بطاعة الله امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه، هذه هي التقوى، فالتقوى طاعة الله في امتثال أمره واجتناب نهيه، فالذي يصلي امتثالاً لأمر الله نقول: هو متق،(15/8)
والذي يدع الزنا نقول: هو متقٍ بترك الزنا، وإنما سمي ذلك تقوى لأنه وقاية من عذاب الله، فإن الإنسان إذا قام بطاعة الله فقد اتخذ وقاية من عذاب الله - عز وجل - هؤلاء المتقون يقول الله - عز وجل -: {في جنات ونعيم }، وجنات جمع جنة، وهي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين في الآخرة، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأَرض أعدت للمتقين } وإذا قلنا: إن الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى لعباده في الدار الآخرة، فهل يمكن أن تكون في الدنيا؟ نقول: أما بالنسبة لدخول الجنة التي هي الجنة فهذا لا يمكن في الدنيا، أما بالنسبة لكون الإنسان يأتيه من نعيم الجنة ما يأتيه، فهذا يمكن، وذلك في القبر إذا سُئل الإنسان عن ربه، ودينه، ونبيه، فأجاب الصواب، فإنه يفرش له فراش من الجنة، ويُفتح له باب إلى الجنة، ويُفسح له في قبره مُدَّ البصر () ، وجمعت الجنات في الآية لأنها أنواع، ذكر الله في سورة الرحمن أربعة أنواع {ولمن خاف مقام ربه جنتان }. ثم قال: {ومن دونهما جنتان }. هذه الجنان الأربع تختلف بما جاء في وصفها في سورة الرحمن، {إن المتقين في جنات ونعيم } أي نعيم البدن، ونعيم القلب، فهم في سرور دائم، وهم في صحة دائمة، وهم في حياة دائمة، فجميع أنواع النعيم كاملة لهم، نسأل الله أن يجعلنا منهم {فاكهين بمآ ءاتهم ربهم }، الفاكه هو المسرور، كما في قوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين }. أي: مسرورين {بمآ ءاتهم ربهم } أي: بما أعطاهم ربهم من النعيم، {ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } فحصلوا على السلامة من الشرور بوقاية الجحيم، وعلى تمام السرور في جنات النعيم {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون } (كلوا واشربوا) فعل أمر، وهذا الأمر ليس تكليفاً وإنما الأمر هنا للتكريم، أي يقال لهم: كلوا من كل ما في الجنة من النعيم {فيهما من كل فاكهة زوجان }. {فيهما فاكهة ونخل(15/9)
ورمان }. وفيها من كل النعيم، {واشربوا } مما فيها من الأنهار، وأنهار الجنة ذكرها الله تعالى أربعة في سورة القتال {مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم }. هذه أربعة أنهار: من ماء غير آسن، أي: غير متغير، والمياه في الدنيا إذا لم يأتها ما يمدها وبقيت راكدة لابد أن تتغير فتكون آسنة، وماء الجنة لا يتغير، غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، واللبن في الدنيا إذا أبقي يتغير ويفسد، لكن في الآخرة لا يتغير، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وخمر الدنيا فيه رائحة كريهة ثم أنه يقلب العاقل إلى مجنون، وفيه أيضاً الصداع، وفيه فساد المعدة، لكنه في الجنة أنهار من خمر لذة للشاربين، وقد قال الله تعالى في سورة الصافات: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون }. والرابع {وأنهار من عسل مصفى } {هنيئاً بما كنتم تعملون } الهنيء هو الذي لا يكون له عاقبة سيئة، ولا تبعة من تجاوز، أو إسراف {بما كنتم تعملون } أي: بسبب ما كنتم تعملون، (فالباء) هنا للسببية، وليست الباء للعوض، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» () .
فإن قيل: إن الله تعالى قال: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون }، فجعل الله تعالى ذلك بسبب العمل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» مع أن الله يقول: {بما كنتم تعملون }؟
والجواب على هذا الإشكال أن يقال: الباء تأتي للسببية، وتأتي للبدلية، فإذا قيل: دخل الرجل الجنة بعمله، فالمعنى السببية، وإذا قال: لن يدخل الجنة أحد بعمله، فالمعنى البدلية، وأضرب مثلاً يبين هذا: بعتك الثوب بدرهم، فالباء للبدلية، لأن الدرهم صار عوضاً عن الثوب، وإذا قلت: أدبت الولد بعبثه، هذه للسببية، إذن(15/10)
كلنا لن يدخل الجنة بعمله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا على عملنا ما قابل عملنا نعمة من نعم الله، نعمة واحدة. فالنفس الآن الذي هو من ضرورة الحياة يخرج منك ويدخل بدون تعب، وبدون مشقة، وكم يتنفس الإنسان في الدقيقة؟! فلو أننا حوسبنا على أعمالنا بالمعاوضة والمبادلة لكانت نعمة واحدة تستوعب جميع العمل، ونحن الآن لا نحس بنعمة النفس لكن لو أصيب أحد منا بكتم النفس لوجد أن النفس من أكبر نعم الله، لذلك نقول: إن الباء في قوله: {بما كنتم تعملون } للسببية وليست للبدلية، وفي قوله: {بما كنتم تعملون } شمول لكل العمل: الجوارح، والقلب، واللسان. فالجوارح: كالأفعال، كالركوع، والسجود. والأقوال: كالأذكار. والقلوب: كالخوف، والرجاء، والتوكل وما أشبه ذلك، فكل هذه تسمى أعمالنا.
{متكئين على سرر } متكئين حال، أي: حال كونهم متكئين، والمتكىء تدل هيئته على أنه في سرور وانشراح وطمأنينة، لأن الاتكاء يدل على ذلك، والسرر جمع سرير، وهي الكراسي الفخمة المهيئة أحسن تهيئة للجالس عليها، {مصفوفة } أي مصفوف بعضها إلى بعض، يصفها الخدم والولدان، {وزوجنهم بحور عين }، أي: قرناهم بحور عين، والحور جمع حوراء، والعين جمع عيناء، والأصل الحور هو البياض، وأما العيناء فهي التي كانت جميلة العين في سوادها وبياضها، فهن حسان الوجوه، حسان الأعين، ثم قال - عز وجل -{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم } أي: الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً هي الذرية الصغار، فيقول الله -عز وجل - {ألحقنا بهم ذريتهم } أي: جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم، وأما الكبار الذين تزوجوا فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآبائهم، لأن لهم ذرية فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم فإنهم يرقون إلى آبائهم، وهذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال: {ومآ ألتنهم(15/11)
من عملهم من شيء } أي: نقصناهم، يعني أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال: أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعت من درجات الذرية،{كل امرىء بما كسب رهين } هذه قاعدة عامة في جميع العاملين أن كل واحد فإنه رهين بعمله لا ينقص منه شيء، أما الزيادة فهي فضل من الله تبارك وتعالى على من شاء من عباده {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون } أمدهم الله تعالى، أي: أعطاهم عطاء مستمراً إلى الأمد وإلى الأبد بفاكهة وهي ما يتفكه به من المأكولات، {ولحم مما يشتهون } أي: مما يشتهونه ويستلذونه، وقد بين الله تبارك وتعالى نوع هذا اللحم بأنه لحم طير، وهو أشهى ما يكون من اللحم وأبرأه وأمرأه {يتنزعون فيها كأساً } أي: أن أهل الجنة ينازع بعضهم بعضاً على سبيل المداعبة، وعلى سبيل الأنس والانشراح {كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم } والمراد بها كأس الخمر، ومعنى {لا لغو فيها ولا تأثيم } أنه لا يحصل بها ما يحصل من خمر الدنيا، فإن خمر الدنيا يحصل بها السكر والهذيان، ولكن خمر الآخرة ليس فيها لغو ولا تأثيم، أي: لا يلغو بعضهم على بعض، ولا يتكلمون بالهذيان، ولا يعتدي بعضهم على بعض {ويطوف عليهم } أي: يتردد على أهل الجنة وهم على سررهم متكئين {غلمان لهم } أي: غلمان مهيئون لهم في الخدمة التامة المريحة {كأنهم } أي: الغلمان {لؤلؤ مكنون } أي: محفوظ عن الرياح وعن الغبار وعن غير ذلك مما يفسده، {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } أي صار بعضهم يسائل بعضاً، لكنه على وجه الأدب يتكلم معه وهو مقابل له لوجهه فلا يصعر خده له ولا يستدبره، بل يتكلم معه بأدب ومقابلة تامة {قالوا } أي: قال بعضهم لبعض: {إنا كنا قبل } أي: في الدنيا {في أهلنا مشفقين } أي خائفين من عذاب الله {فمن الله علينا } أي: أنعم علينا بنعمة عظيمة، {ووقانا عذاب السموم } أي: عذاب النار {إنا كنا من قبل } أي: قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا {ندعوه } أي: نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق(15/12)
على معنيين: على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين }. وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون }. فقولهم: {إنا كنا من قبل ندعوه } يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء {إنه هو البر الرحيم } (البر) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود (الرحيم) أي ذو الرحمة البالغة، يرحم بها من يشاء من عباده تبارك وتعالى، وفي هذه الآيات بيان نعيم أهل الجنة، وفيها أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر عذاب أهل النار ذكر نعيم أهل الجنة، لأن هذا القرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، إذا ذكر فيه الخير ذكر فيه الشر، وإذا ذكر فيه نعيم المتقين ذكر فيه جحيم الكافرين، وهكذا حتى يكون قارىء القرآن بين الخوف والرجاء، إن قرأ آيات النعيم رجا، وإن قرأ آيات العذاب خاف، فيعبد الله تبارك وتعالى بهذا وهذا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنات الناجين من الدركات، إنه على كل شيء قدير.
{فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون }، الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمذكر محذوف، والتقدير: ذكر الناس، أو إن شئت فقل: ذكر من أرسلت إليهم من الجن والإنس، {فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } هذا نفي لما ادعاه(15/13)
المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن أو مجنون، قال الله تعالى: {فذكر فمآ أنت بنعمة ربك } أي بإنعام ربك عليك بما أنزل عليك، من الوحي لست {بكاهن ولا مجنون }، والكاهن هو الذي يخبر عن الغيبيات في المستقبل، وكانت الكهانة في الجاهلية مشهورة، يكون للإنسان رئي من الجن يصحبه ويخدمه، ثم يصعد الجني إلى السماء يستمع ما يقال في السماء، وينزل به على هذا الكاهن، فيكون هذا علم غيب عن أهل الأرض، لكن الكاهن يزيد عليه أشياء كثيرة يتخرصها، فإذا وقع ما سمعه من السماء صار عظيماً في قومه، لأنه أخبر عن شيء مستقبل فوقع، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء بالوحي رده المشركون وكذبوه، وقالوا: إنما جاء به محمد من الكهانة، لأن الكهان يخبرون عن الشيء فيقع، ولأن الكهان أيضاً يأتون بكلام مسجوع يشبه القرآن، والقرآن آيات مفصلة، أتى بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في كلام حمل بن النابغة الذي قال: (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما هو من إخوان الكهان» () من أجل سجعه الذي سجع، فهم يقولون: إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاهن، فنفى الله ذلك، ثم قالوا: إنه مجنون يأتي بما لا يعرف، فكذبهم الله فقال: {فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } هذه الجملة منفية مؤكدة بالباء، الباء الزائدة إعراباً، المفيدة معنى، وأصلها (فما أنت بنعمة ربك كاهناً ولا مجنوناً) لكن زيدت الباء توكيداً للنفي، ثم قال الله تعالى: {أم يقولون شاعر } يعني بل أيقولون، و(أم) هذه تسمى عند المعربين منقطعة، يعني لا عاطفة، لأن (أم) تأتي عاطفة وتأتي منقطعة، فهنا منقطعة، والتقدير (بل أيقولون شاعر؟) والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار عليهم، والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى ويتضمن شعره أحياناً حكماً، ولهذا جاء في(15/14)
الحديث: «إن من البيان لسحراً» () «وإن من الشعر لحكمة» () فيقولون: محمد شاعر {نتربص به } أي ننتظر به {ريب المنون } أي: حوادث الدهر وقوارعه، فيهلك كما هلك الشعراء من قبله، ولا يكون له أثر، فانظر - والعياذ بالله - كيف يترقبون موت الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون: هذا شاعر من جنس الشعراء يهلك وينتهي أمره، وقوله: {ريب المنون }، قيل: إن المنون هو الدهر، وقيل: إن المنون هو الموت، وهما متلازمان، والمراد بذلك حوادث الدهر المهلكة المبيدة. {قل } في جوابهم {تربصوا } والأمر هنا للتهديد والتحدي أيضاً، تربصوا بهذا الشاعر ريب المنون، وانظروا هل يموت وتموت دعوته، أو أنكم أنتم تموتون وتموت معارضتكم، {فإني معكم من المتربصين } يعني فأنا منتظر أيضاً، انتظروا أنتم، وأنا أنتظر لمن تكون العاقبة، وصارت العاقبة والحمد لله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {أم تأمرهم } أم هنا نقول: إنها منقطعة، وأم المنقطعة تقدر ببل، والتقدير: بل أتأمرهم؟ وهذا انتقال من الأول إلى الثاني {أم تأمرهم أحلمهم بهذآ } فيقولون: إنه مجنون إنه كاهن، إنه شاعر، هل عقولهم تأمرهم بهذا؟ الجواب: {أم تأمرهم أحلمهم بهذآ } أي بل لا تأمرهم عقولهم بهذا، وكثير منهم يعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، لكن غلبتهم الكبرياء - والعياذ بالله - فأنكروا وكذبوا ولهذا قال: {أم هم قوم طاغون } أي: بل هم قوم طاغون معتدون ظالمون، وأصل الطغيان مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء } أي: ازداد وارتفع عن عادته {حملناكم في الجارية } بل هم قوم طاغون.
{أم يقولون تقوله } أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة، والمعنى بل أيقولون تقوله أي: اختلقه وكذب به، وهذاقسم منهم، قالوا: محمد عليه الصلاة والسلام تقوَّل هذا القرآن واختلقه من عنده، وبعضهم يقولون: إنما يعلمه بشر {بل لا يؤمنون } يعني بل هم لا يؤمنون، ولو آمنوا لعلموا أن القرآن لا(15/15)
يمكن أن يتقوَّله بشر، لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه أي كلام، ثم تحداهم فقال: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } يعني إذا كنت أنت تقوَّلته فأنت مثلهم بشر تتكلم كما يتكلمون، وتخطب كما يخطبون، وتقول كما يقولون، فإذا كنت متقوِّلاً له وهو من عندك فليأتوا بحديث مثله، لأن البشر يمكن أن يأتي بكلام يشبه كلام البشر الآخر، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تقوَّله فهاتوا مثله {فليأتوا }، اللام هنا للأمر، والمقصود به التحدي والتعجيز، {إن كانوا صادقين }، وهذا غاية التحدي، فعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا بحديث مثله، مع أنهم أمراء البلاغة، وسلاطين الفصاحة، لكن عجزوا، فدل عجزهم على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله - عز وجل - ولهذا قال: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } ومع قوة المعارضة وقوة البلاغة والفصاحة عجزوا أن يأتوا بحديث مثله فما استطاعوا، فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتقوله، ولن يستطيع أن يأتي بمثله، وفي قوله: {فليأتوا بحديث مثله } كلمة (حديث) نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، لكن جاء في آية أخرى أن الله قال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين }. {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين }. وجاء في آية أخرى الإخبار بأنه لن يستطيع أحد أن يعارض القرآن، فقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا }. فتبين بطلان قولهم: إنه تقوَّله؛ لأن الله تحداهم أن يأتوا بمثله، إن كانوا صادقين في دعواهم أنك تقوَّلته فليأتوا بحديث مثله ولكنهم عجزوا. ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } بمعنى بل، والهمزة (بل أخلقوا من غير شيء) أي:(15/16)
من غير خالق، أم هم الخالقون، والجواب: لا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون، أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق، فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء أن كل محدث لابد له من محدث، فإذا كان كل محدث لابد له من محدث، فإذا نظرنا في أنفسنا فنحن حادثون قال الله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً }. فالواحد منا الذي له عشرون سنة، هو قبل اثنتين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً، ولا يعرف ولا يدرى عنه، إذن نحن حادثون، وكل حادث لابد له من مُحدث، فهل أنتم خلقتم بغير محدث؟ الجواب: لا، وهذا جواب عقلي لا ينكر، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ الجواب: لا، لأنهم قبل أن يوجدوا عدم، وكيف يمكن للعدم أن يخلق؟ لا يمكن هذا، فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق، وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم وهو الله عز وجل، ولا يستطيع أحد منهم أن يقول: إن الذي خلقني أبي أو أمي، فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون، فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق، وأن يعبدوه وحده، كما أنه هو الخالق وحده، وهذه الآية سمعها جبير بن مطعم وكان قد قدم إلى المدينة وهو مشرك، على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر، وغزوة بدر انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم والحمد لله - وقتلوا من قريش سبعين رجلاً، وأسروا سبعين رجلاً، وجاءوا بهم إلى المدينة، وانقسموا إلى أقسام، منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام، ومنّ عليه، ومنهم من فداه بمال، ومنهم من فداه بأسير ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة، وجبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر لأنه من صميم قريش، والأسرى أيضاً من قريش، ويظهر لي - والله أعلم - أن جبيراً سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كان(15/17)
المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» () . وذلك أن مطعم بن عدي لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره، وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة، وأمر أبناءه وهم متقلدي السيوف أن يقف كل واحد على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طف. واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى مطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ قال: لا بل مجير. قال: إذاً لا تُخْفَر. فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه. فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه قال: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى» أي: الأسرى، ووصفهم بأنهم نتنى؛ لأن المشركين نجس، والنتن هو الرائحة الكريهة «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» وجبير ابنه فلعله - والله أعلم - سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور ولما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } قال جبير: (كاد قلبي يطير) لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد، قال: (ووقر الإيمان في قلبي) يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه، سبحان الله، فانظر تأثير القرآن الكريم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعاه في تلك الساعة، لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة، فكاد قلبه يطير، {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } والجواب بكل سهولة: لا، في الأمرين، لا خلقوا من غير شيء، ولا هم الخالقون، بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر، يعني إذا قال: نعم لي خالق خلقني قلنا: إذن لماذا لا تعبده، لأنك عبد له مملوك له {أم خلقوا السماوات(15/18)
والأَرض } انتقل من الأدنى إلى الأعلى خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فانتقل من الأدنى إلى الأعلى {أم خلقوا السماوات والأَرض } والجواب: لا، لأن أم هنا مثل سابقاتها، بل أخلقوا السموات والأرض، والجواب: لا، وهم يقرون بهذا {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأَرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }. ولكن مع ذلك لا يعترفون بالرسالة، ولهذا قال: {بل لا يوقنون }، يعني ليس عندهم إيقان في خلق السموات والأرض أن الذي خلقهم هو الله، لأنه لو كان عندهم يقين لحملهم هذا اليقين على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته. وهذه الإلزامات العظيمة التي ألزم الله تعالى بها قريشاً كل هذا من أجل إقامة الحجة عليهم، ولو شاء سبحانه وتعالى لعاقبهم بدون أن تكون هذه المجادلة وهذه المناقشة.
{أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون } أم هنا بمعنى بل، والهمزة، يعني بل أعندهم خزائن الله، يعني خزائن رزق الله - عز وجل - حتى يمنعوا من شاءوا، ويعطوا من شاءوا، والجواب: ليس عندهم ذلك، ولا يملكون شيئاً من هذا، بل الذي يملك الرزق عطاء ومنعاً هو الله تبارك وتعالى، ولما نفى أن يكون عندهم خزائن الله، قال: {أم هم المسيطرون } يعني بل أهم الذين لهم السيطرة والغلبة والسلطان والكلمة؟ والجواب: لا، فإذا لم يكن لهم شيء من هذا صاروا مربوبين، وصاروا أذلاء أمام قوة الله - عز وجل -، ثم قال تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه } يعني بل ألهم سلم يستمعون فيه، والسلم هو المصعد والمرقى، والمعنى: هل لهم سلم يصعدون فيه على السماء يستمعون ما يقال في السماء؟ والجواب: لا، فإن ادعوا ذلك {فليأت مستمعهم بسلطان مبين } أي: بحجة بينة ظاهرة على أنه استمع ما يقال في السماء، والجواب: لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، اللهم إلا الكهنة الذين لهم رئي من الجن يستمع إلى ما يقال في السماء، ثم يكذب مئة كذبة على ما سمع، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء، ثم قال(15/19)
تعالى: {أم له البنت ولكم البنون } وهذا أيضاً بمعنى بل، والاستفهام للتوبيخ والإنكار، يعني أيكون لله البنات ولهم البنون، لأنهم ادعوا أن جند الله تعالى بنات، وأن لهم البنين، ومعلوم أن من له البنين غالب على من له البنات، لأن جنده رجال ذكور، أقوى وأحزم وأقدم من النساء، وقد جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، كما قال الله تعالى عنهم ذلك قال: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إنثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون }. يعني لم يشهدوا خلقهم حتى يقولوا: إنهم بنات {ستكتب شهادتهم } أي شهادتهم هذه التي هي زور وكذب، {ويسئلون }، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام من قريش قالوا: لهم البنون ولله البنات، قال الله تعالى: {ويجعلون لله البنت سبحانه ولهم ما يشتهون }. والذين يشتهون هم الذكور حتى إن أحدهم إذا بُشِّر بالأنثى {ظل وجهه مسودا وهو كظيم }. أي: مملوء غيظاً وغمًّا {يتوارى من القوم } يختبىء من القوم {من سوء ما بشر به }. ثم يتردد {أيمسكه على هون } أي: على ذل وهوان {أم يدسه في التراب} يرميه فيه وهذه المؤودة {ألا ساء ما يحكمون} .
{أم تسئلهم أجراً فهم من مغرم مثقلون} يعني بل أتسألهم، والاستفهام هنا للنفي وكل (أم) هنا الاستفهام للنفي والتوبيخ، يعني هل أنت يا محمد حين دعوتهم إلى الله - عز وجل - هل أنت تقول أعطوني أجراً مثقلاً كبيراً لا يستطيعونه حتى يردوك، والجواب: لا، قال الله تعالى: {قل مآ أسئلكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين }. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأي واحد: أعطني أجراً على دعوتي إياك، بل هو صلى الله عليه وسلم يبذل المال ليؤلف القلوب، كما أعطى المؤلفة قلوبهم من الأموال شيئاً عظيماً، وليس يطلب من أحد أي عوض على ما جاء به من الرسالة، واستدل بعض أهل العلم على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجراً على تعليم العلم بمعنى مؤاجرة، يقول الإنسان: لا أعلمك إلا بكذا(15/20)
وكذا، لكن هذا فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» () . {أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي: ماغاب عن الناس فهم يحفظونه، والجواب: لا، ليس عندهم علم الغيب، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه لا يعلم شيئاً من الغيب، يكون الشيء في داره لا يعلمه، حتى إنه دخل ذات يوم والبرمة على النار تغلي باللحم، ولم يعلم ما هو، وحتى إن أبا هريرة كان معه فانخنس منه ولم يعلم لأي شيء ذهب، فالحاصل أن الرسول نفسه لا يعلم الغيب، فمن دونه من باب أولى، وقد أمره الله تعالى أن يعلن بأنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك }. وهنا يقول تعالى لهؤلاء المكذبين {أم عندهم الغيب فهم يكتبون }، والجواب: لا، ثم قال: {أم يريدون كيداً } يعني أيريد هؤلاء أن يكيدوا لك يا محمد بإبطال دعوتك، وإهلاكك وإماتتك، الجواب: نعم، ولكن كيدهم ليس بشيء بالنسبة إلى كيد الله عز وجل، قال الله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }. وقد كادوا له أعظم كيد، فإنهم اجتمعوا ماذا يصنعون بمحمد لما رأوا دعوته تنتشر، وأنه لا قبل لهم بردها، اجتمعوا يتشاورون، وذكروا ثلاثة آراء: الحبس، والقتل والإخراج، { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } أي: يحبسوك {أو يقتلوك أو يخرجوك }، قال الله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله } واستقر رأيهم على القتل، لكن من يستطيع أن يقتله، لأن بني هاشم سوف يطالبون؟ قالوا: يجتمع عشرة شبان من قبائل متفرقة من العرب، ويعطى كل واحد منهم سيفاً صارماً، ويضربون محمداً ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فتعجز بنو هاشم عن المطالبة، فعلوا ذلك، ولكنهم مكروا ومكر الله {والله خير الماكرين } فأنجاه الله منهم ثم أذن له أن يهاجر، فهاجر إلى المدينة، {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون } الجملة هنا جملة اسمية معرف طرفاها مفصولة(15/21)
بضمير الفصل، مما يدل على التوكيد والحصر يعني فالكيد للذين كفروا. وهنا قال تعالى: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون } لم يقل: أم يريدون كيداً فهم المكيدون، وهذا الأسلوب عند علماء البلاغة يسمى الإظهار في موضع الإضمار، ومعناه بدل أن يقال: (فهم المكيدون) قال الله تعالى: {فالذين كفروا } ولهذا فائدة بل أكثر، إذا قال (فالذين كفروا) معناه أن هؤلاء كفار، ومعناه أن من كان كافراً فهو المكيد، وإن كان من غير هؤلاء، هاتان فائدتان معنويتان، الفائدة الثالثة: تنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد ربما يغفل الإنسان، لكن إذا جاء شيء يخرج الكلام عن النسق انتبه، ثم قال تعالى: {أم لهم إله غير الله } يعني بل ألهم إله غير الله؟ والجواب حقيقة: لا. وادعاءً: نعم لهم آلهة غير الله يعبدونها: اللات والعزى ومناة، وهبل وغيرها من الأصنام المعروفة عند العرب، ولهذا قال: {سبحان الله عما يشركون } فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عما يشرك به هؤلاء، ليبين أن هذه الأصنام باطلة، وأن الله منزه عن كل شريك.
{وإن يروا كسفاً من السماء سقطاً يقولوا سحاب مركوم }الكسف معناه قطع العذاب، {يقولوا سحاب مركوم } وهذا يدل على أنهم يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، وأن هذا الكسف النازل قطع العذاب ما هي إلا سحب متراكمة، وهذا كقول عاد حين رأوا الرياح مقبلة عليهم قالوا: {هذا عارض ممطرنا }. لأن هؤلاء المكذبين - والعياذ بالله - معاندون يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، فإذا رأوا العذاب قالوا: هذا شيء عادي، ولن نهابه ولن نخافه، قال الله تعالى: {فذرهم } أتركهم {في خوضهم } بأقوالهم {يلعبون } بأفعالهم ويلهون في الدنيا ويرون أنهم على حق {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } وهو يوم موتهم، يعني اترك هؤلاء فإن مآلهم إلى الموت وإن فروا، وهم إذا لاقوا يومهم الذي يوعدون عرفوا أنهم على باطل، وأن محمداً صلى(15/22)
الله عليه وسلم على الحق {يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون } فإذا جاءهم الموت ما أغنى عنهم كيدهم شيئاً؛ لأنهم في قبضة الله، وقد انتهى استعتابهم، وليس أمامهم إلا العذاب {وإن للذين ظلموا } والمراد بهم الكفار، قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون }. {عذاباً دون ذلك }، يعني دون عذاب الموت، وهو ما أصيبوا به من الجدب والقحط والخوف والحروب وغير ذلك مما كان قبل الموت {ولكن أكثرهم لا يعلمون }، بل أكثرهم في غفلة عن هذا، ولا يظنون أن ذلك من العذاب في شيء.
{واصبر لحكم ربك } اصبر يا محمد عليه الصلاة والسلام، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقوله {لحكم ربك } يشمل الحكم الكوني، والحكم الشرعي، يعني اصبر لما حكم به ربك من وجوب إبلاغ الرسالة وإن أصابك ما يصيبك، واصبر لحكم ربك القدري الكوني، وهو ما يقدره الله تعالى عليك من هؤلاء السفهاء من السخرية والعدوان والظلم، ولقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم كما أوذي إخوانه من المرسلين، أوذي إيذاءً عظيماً، وضع الكفار سلا الجزور على ظهره وهو ساجد تحت الكعبة، في أأمن مكان () ، وضرب، ورمي بالحجارة حين خرج إلى أهل الطائف حتى أدموا عقبه صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفق إلا وهو في قرن الثعالب () ، ويلقون القاذورات والأنتان على عتبة بابه عليه الصلاة والسلام، ويقول: «أي جوار هذا» وهذا من امتثال أمر الله، حيث قال الله له: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } أي: فإننا نراك بأعيننا ونراقبك ونلاحظك، ونعتني بك، وهذا كما يقول القائل لمن أشفق عليه وأحبه: أنت في عيني، ومن المعلوم أن مثل هذا الأسلوب لا يعني أن مخاطبه حال في عينه، بل المعنى أنت مني على مرأى، وعلى رقابة، وعلى حماية. وفي هذه الآية إثبات العين لله - عز وجل - وهي حقيقية ولكنها لا تماثل أعين الخلق، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
{وسبح بحمد ربك حين تقوم } أي: قل: سبحان الله وبحمده(15/23)
{حين تقوم } من أي شيء، حين تقوم من مجلسك، أو حين تقوم من منامك، فهي عامة، ولهذا كان كفارة المجلس أن يقول الإنسان: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» () ، فينبغي للإنسان كلما قام من مجلس أن يختم مجلسه بهذا: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك»، {ومن الليل فسبحه } يعني وسبح ربك من الليل لا كل الليل، و(من) هنا للتبعيض، ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بأقوام من أصحابه قال أحدهم: (أنا أقوم ولا أنام) قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما أنا فأقوم وأنام، ومن رغب عن سنتي فليس مني» () ولذلك يكره للإنسان أن يقوم الليل كله حتى لو كان فيه قوة ونشاط، فلا يقوم الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحيي ليلها كله () ، {وإدبار النجوم } يعني وقت أدبارها، وهل المراد أدبار ضوئها بانتشار نور الشمس، أو أدبار ذواتها عند الغروب؟ فالجواب هذا وهذا، والمراد بذلك صلاة الفجر، لأن صلاة الفجر بها تدبر النجوم، وصلاة الفجر وصلاة العصر هما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا» () والمراد بالصلاة قبل طلوع الشمس أي صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة العصر، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة»() والبردان هما صلاة الفجر، وصلاة العصر، فصلاة الفجر براد الليل، وصلاة العصر براد النهار، {ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم } وبهذا انتهى الكلام بما يسر الله عز وجل على سورة الطور، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو(15/24)
الوهاب.
---------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (رقم 3207) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات (رقم 164).
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه (947).
(3) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (2950) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام (3164) وقال: هذا حديث غريب.
(5) الإمام أحمد في المسندد ج1/307، والحاكم في المستدرك ج3/624.
(6)أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر (رقم 4753) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (رقم 4269).
(7) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت (5673) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816).
(8) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الكهانة (5758) ومسلم، كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ (1681) (36).
(9) تقدم ص 118 وهو عند البخاري (5146).
(10) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه (6145).
(11) أخرجه البخاري،كتاب فرض الخمس،باب ما منّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس (3139).
(12) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب (5737).
(13) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته (رقم 240) ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (رقم 1794).
(14) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين (رقم 3231)، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى(15/25)
الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (رقم 1795).
(15) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس (3433) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(16) تقدم ص 29.
(17) أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (رقم 2024) ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (رقم 1174).
(18) تقدم ص 111.
(19) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (رقم 574) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما (رقم 635).(15/26)
تفسير سورة النجم
{بسم الله الرحمن الرحيم}، تقدم الكلام عليها، {والنجم إذا هوى } النجم اسم جنس يُراد به جميع النجوم، وقوله {إذا هوى }: لها معنيان، المعنى الأول: إذا غاب، والمعنى الثاني: إذا سقط منه شهاب على الشياطين التي تسترق السمع وهو مقسم به {ما ضل صاحبكم وما غوى } هذا جواب القسم،أي المقسم عليه {ما ضل صاحبكم } أي: ما جهل،{وما غوى } أي: ما عاند، لأن مخالفة الحق إما أن تكون عن جهل، وأما أن تكون عن غي، قال الله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } فإذا انتفى عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهل، وانتفى عنه الغي تبين أن منهجه صلى الله عليه وسلم علم ورشد، علم ضد الجهل وهو الضلال، {ما ضل صاحبكم } ورشد ضد الغي {قد تبين الرشد من الغي} إذاً النبي عليه الصلاة والسلام كلامه حق وشريعته حق، لأنها عن علم ورشد، وقوله: {ما ضل صاحبكم } يخاطب قريشاً، جاء بهذا الوصف لفائدتين:
الأولى: الإشارة إلى أنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته،فهو ليس شخصاً غريباً عنهم حتى يقولوا لا نؤمن به، لأننا لا نعرفه، بل هو صاحبهم الذي نشأ فيهم،فكيف بالأمس يصفونه بالأمين، والآن يصفونه بالكاذب الخائن.
الثانية: أنه إذا كان صاحبهم فإن مقتضى الصحبة أن يصدقوه وينصروه لا أن يكونوا أعداء له. فهو لم يقل «ما ضل رسول الله» أو«ما ضل محمد»،بل قال: {ما ضل صاحبكم }، فالفائدة من هذا هو أن مقتضى الصحبة أن يكونوا عارفين به، ومقتضى الصحبة أن يكونوا مناصرين له {وما ينطق عن الهوى } أي: لا يتكلم بشيء صادر عن الهوى بأي حال من الأحوال، فما حكم بشيء من أجل الهوى، ولكنه ينطق بما أوحي إليه من القرآن، وما أوحي إليه من السنة، وما اجتهد به صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتهاداً يريد به المصلحة، فنطقه عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام: الأول: أن ينطق بالقرآن. الثاني: أن ينطق بالسنة الموحاة إليه التي أقرها الله(16/1)
تعالى على لسانه. الثالث: أن ينطق باجتهاد لا يريد به إلا المصلحة، أما نحن فننطق عما نريد به المصلحة، وننطق عن الهوى، وليس كل إنسان منا سالم من الهوى، يميل مع صاحبه، ويميل مع قريبه، ويميل مع الغني، ويميل مع الفقير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتكلم عن هوى،وإذا كان لايمكن أن ينطق عن الهوى صار لا ينطق إلا بحق {إن هو إلا وحى يوحى } يعني ما القرآن {إلا وحى يوحى }، أي: وحي من الله - عز وجل - والواسطة بين الله وبين الرسول {علمه شديد القوى } يعني علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي شديد القوى، أي: ذو القوة الشديدة، فهو من إضافة الصفة إلى موصوفها، وهو جبريل عليه السلام، كما قال الله تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} فجبريل عليه السلام قوي شديد أمين كريم، لا يمكن أبداً أن يفرط بهذا الوحي الذي نقله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين }. {ذو مرة فاستوى } المرة: الهيئة الحسنة، فهو ذو قوة، وذو جمال وحسن، وقد رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صورته التي خُلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق () ، فهو الذي نزل بهذا القرآن، حتى ألقاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين}. وقوله: {فاستوى } أي فعلى، أو فكمل؛ لأن الاستواء في اللغة العربية تارة يذكر مطلقاً دون أن يقيد، فيكون معناه الكمال، ومنه قوله تعالى: {ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا } أي: كمل، وتارة يقيد بعلى فيكون معناه العلو، كما في قوله تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأَنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} فقال: {لتستووا على ظهوره }، وقال: {إذا استويتم عليه} أي: علوتم عليه، ومنه قوله تعالى فيما وصف به نفسه: {الرحمن على العرش استوى } أي:(16/2)
علا عليه - عز وجل - العلو الخاص بالعرش، وهذا غير العلو المطلق على جميع المخلوقات، وتارة يتعدى بإلى، ويقال: استوى إلى كذا، فيفسر بأنه القصد والانتهاء، ومنه قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان } وتارة يقيد بالواو فيكون معناه التساوي مثل قولهم: استوى الماء والخشبة، أي ساواه، فقوله هنا: {فاستوى } يحتمل أن المعنى استوى على؛ لأن جبريل ينزل من السماء، فيلقي الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يصعد إلى السماء، ويحتمل معناه كمل، ويكون كامل القوة، والهيئة، وكامل من كل وجه مما يليق بالمخلوقات، {وهو }، أي جبريل عليه الصلاة والسلام{بالأُفق الأَعلى } أي: الأرفع، وهو أفق السماء، {ثم دنا }أي من النبي صلى الله عليه وسلم ، {فتدلى } أي: قرب من فوق، {فكان } أي: جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم {قاب قوسين أو أدنى }، وهذا مثل يضرب للقرب، {قاب قوسين } يعني قريباً جداً، بل أدنى، فقوله {أو أدنى } بمعنى بل، أي بل هو أدنى من ذلك، {فأوحى } أي: جبريل {إلى عبده مآ أوحى } أي: إلى عبدالله، فالضمير في {أوحى } يعود على جبريل والضمير في {عبده ما أوحى } يعود إلى الله عز وجل، أي: أوحى جبريل إلى عبدالله ما أوحى، ولم يبين ما أوحى به تعظيماً له، لأن الإبهام يأتي مراداً به التفخيم والتعظيم، ومنه قوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم } أي: غشيهم شيء عظيم، وهنا أوحى إلى عبده ما أوحى أي من الشيء العظيم، ولا كلام أعظم من القرآن الكريم؛ لأنه كلام الله - عز وجل -.
ثم قال الله تبارك وتعالى في قصة المعراج: {ما كذب الفؤاد ما رأى } اعلم أيها الأخ المسلم أن للنبي صلى الله عليه وسلم إسراءً ومعراجاً، فالإسراء ذكره الله في سورة الإسراء. والمعراج ذكره الله في سورة النجم وكلاهما في ليلة واحدة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، أو سنة ونصف، اختلف المؤرخون في هذا، ثم إن الإسراء والمعراج كان ببدن الرسول صلى الله عليه(16/3)
وسلم وروحه، وليس بروحه فقط، وأما قوله تعالى: {وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنةً للناس } فالمراد بها رؤية العين، لا رؤية المنام، يقول الله تعالى في سياق الآيات في المعراج: {ما كذب الفؤاد ما رأى } الفؤاد القلب، والمعنى أن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فإنه رآه بقلبه وتيقنه وعلمه، وذلك أن العين قد ترى شيئاً فيكذبها القلب، وقد يرى القلب شيئاً فتكذبه العين، فمثلاً قد يرى الإنسان شبحاً بعينه فيظنه فلاناً ابن فلان، ولكن القلب يأبى هذا، لأنه يعلم أن فلاناً ابن فلان لم يكن في هذا المكان، فهنا العين رأت، والقلب كذَّب، أو بالعكس، قد يتخيل الإنسان الشيء بقلبه ولكن العين تكذبه، أما ما رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة المعراج فإنه رآه حقًّا ببصره وبصيرته، ولهذا قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى } بل تطابق القلب مع رؤية العين، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاذباً فما رآه من الآيات العظيمة في تلك الليلة بل هو صادق، ولكن المشركين كذبوه، وقالوا: كيف يمكن أن يصل إلى بيت المقدس ويعرج إلى السماء في ليلة واحدة، ولهذا قال: {أفتمارونه على ما يرى } والاستفهام هنا للإنكار والتعجب، ومعنى تمارونه أي: تجادلونه بقصد الغلبة، لهذا عداها بعلى دون(في)، فلم يقل: (أفتمارونه في ما يرى) بل قال {على ما يرى }، إشارة إلى أن الفعل ضمن معنى المغالبة، أي أفتجادلونه تريدون أن تغلبوه على ما يرى، أي: على شيء رآه، ولكنه عبر عن الماضي بالمضارع إشارة إلى استحضار هذا الشيء، وأنه عليه الصلاة والسلام حين أخبر به كأنما يراه الآن، لأن الإنسان إذا حدث عن ماضي فربما يقول قائل: لعله نسي فأخطأ، ولكن إذا عبر بالمضارع صار كأنه يتحدث عن شيء هو يشاهده، فالمعنى على ما رأى من قبل، ولكن عبر عمّا رأى من قبل بالمضارع لحكمة بالغة، والحكمة البالغة، حيث تكون تعبيرات القرآن الكريم إذا عبر بخلاف ما يتوقع فلابد أن(16/4)
يكون هناك حكمة تظهر للمتأمل {ولقد رءاه نزلةً أخرى } رآه الفاعل محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمفعول به جبريل، أي رأى محمدٌ جبريلَ {نزلةً أخرى }، أي: مرة أخرى حين نزل، والمرة الأولى رأى الرسولُ عليه الصلاة والسلام جبريلَ وهو في غار حراء، رآه على خلقته التي كان عليها، رآه وله ستمائة جناح قد سد الأفق، كل الأفق الذي حول الرسول عليه الصلاة والسلام في حراء انسد من أجنحة هذا الملك الكريم،وهذا يدل على عظمته، ولهذا وصفه الله أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، وبأنه ذو مرة أي هيئة حسنة كما سبق في هذه السورة، والمرة الثانية: في السماء فوق السماء، فتارة رآه من تحت السماء من فوق الأرض، وتارة من فوق السماء، ولهذا قال: {ولقد رءاه نزلةً أخرى } أي مرة أخرى {عند سدرة المنتهى }، أي رآه عند السدرة، والسدرة شجرة معروفة في الأرض، لكن السدرة التي في السماء السابعة ليست كصفة السدرة التي في الدنيا، بل نبقها كالقلال، وأوراقها كآذان الفيلة () ، فهي شجرة عظيمة، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها كل صاعد من الأرض، وينتهي إليها كل نازل من عند الله عز وجل () ، فهي منتهى من الطرفين: الطرف الأول: ما يصعد من الأرض إلى السماء، ينتهي عند هذه السدرة، وما ينزل من الرب عز وجل ينتهي عند هذه السدرة،{عندها جنة المأوى }،أي: عند هذه السدرة جنة المأوى، إذاً الجنة فوق السماء السابعة، لأنه إذا كانت السدرة فوق السماء السابعة وكانت الجنة عندها لزم أن تكون الجنة فوق السماء السابعة، وهو كذلك، وأعلاها وأوسطها الفردوس، - جعلنا الله من أهلها - فوقها عرش الرحمن جل وعلا، ولهذا قال تعالى: {كلا إن كتاب الأَبرار لفي عليين } وعليين مبالغة من العلو، يعني في أعلى الشيء، {المأوى } يعني المصير، مأوى من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، يأوون إليها ويخلدون فيها، وأما النار فهي مأوى الكافرين والعياذ بالله، وفي هذا دليل واضح(16/5)
على أن غاية الخلائق الجن والإنس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا ثالث لهما، فالجن والإنس إما في النار وإما في الجنة، قال السفاريني - رحمه الله - في عقيدته:
وكل إنسان وكل جِنةٍ في دار نارٍ أو نعيم جنة
ويستفاد من قوله {المأوى } أن القبور ليست هي المأوى والمثوى، لأن القبور ممر ومعبر، إذ إن وراء القبور بعث، ويذكر أن بعض الأعراب في البادية سمع قارئاً يقرأ قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال الأعرابي بفطرته وعربيته: «والله ما الزائر بمقيم، وإن وراء ذلك شيئاً»، لأن الزائر يزور ويمشي، والقبور يمكث الناس فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها، قال الله تعالى: {ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون } فالناس لابد أن يبعثوا، والعبارة التي نسمعها أو نقرأها أحياناً أن الرجل حملوه إلى مثواه الأخير، يعني إلى المقبرة عبارة غير صحيحة، لأن القبور ليست المثوى الأخير، ولو كان قائلها يعتقد معناها لكان لازم ذلك أنه ينكر البعث {إذ يغشى السدرة ما يغشى } السدرة هي سدرة المنتهى، لأنه تعالى قال: {ولقد رءاه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى}: {إذ يغشى السدرة } وأل في مثل هذه العبارة تسمى عند النحويين (ال) للعهد الذكري كقوله تعالى: {كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذاً وبيلاً} {ما يغشى }، أبهم الله ذلك للتفخيم والتعظيم، يعني غشيها شيء عظيم بأمر الله عزوجل بلحظة، كن فيكون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنه غشيها من الحسن والبهاء ما لايستطيع أحد أن يصفها () ، {ما زاغ البصر وما طغى } البصر بصر النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول العلماء: {زاغ } أي انحرف يميناً وشمالاً،{وما طغى } أي: تجاوز أمامه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان على كمال الأدب في هذا المقام العظيم، لم يلتفت يميناً وشمالاً، ولم يتقدم بصره أكثر مما أذن له فيه، وهذا من كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وجرت(16/6)
العادة أن الإنسان إذا دخل منزلاً غريباً تجده ينظر يميناً وشمالاً في هذا المنزل، وخصوصاً إذا تغير تغيراً عظيماً في هذه اللحظة، لابد أن ينظر ما الذي حدث، لكن لكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم ورباطة جأشه صلوات الله وسلامه عليه وتحمله ما لا يتحمله بشر سواه صار في هذا الأدب العظيم، ولهذا قال تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم} .
ثم قال - عز وجل -: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وأنت أخي المسلم القارىء للقرآن يمر بك مثل هذا التعبير دائماً {ولقد رءاه }، {لقد خلقنا الإنسان في كبد }، {ولقد خلقنا الإنسان من سللة من طين } والأمثلة كثيرة، هذه الجملة يقول العلماء: إنها مؤكدة بأنواع ثلاثة من المؤكدات: الأول: قسم مقدر، والثاني: اللام. والثالث: قد، لأن المعنى: (والله لقد) فتكون جملة مؤكدة بالقسم واللام، وقد، والقسم مقدر لكن دل عليه السياق، ورأى يعني النبي صلى الله عليه وسلم {من آيات ربه الكبرى }، الآية هي العلامة المخصصة لمدلولها التي لا يشركه فيها أحد، وإلا لم تكن آية، فالآية لابد أن تكون خاصة بمدلوها، فليس كل علامة آية، بل هي التي تختص بمدلولها، فهذا الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام من آيات الله كبير عظيم، وقوله {الكبرى } قيل: إنها مفعول ثان لرأى، أي: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، وقيل: إن الكبرى صفة لآياته، والمعنى أنه رأى من آيات الله الكبيرة، والثاني أصح وأقرب، يعني أنه رأى من الآيات الكبرى ما رأى، وليس ما رآه أكبر شيء، بل قد يكون هناك شيء أكبر لا نعلمه، والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذا المعراج من آيات الله الكبير ما لم يكن يره من قبل، وما لا يستطيع الصبر عليه أحد من البشر، ونحن لو رأينا سرادقاً عظيماً لملك من الملوك لانبهرنا وتعجبنا، وجعلنا نلتفت يميناً وشمالاً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتغير عقله ولا اتزانه، بل كان على أكمل ما يكون الاتزان، وإلا فقد أسري به(16/7)
من المسجد الحرام من الحجر عند الكعبة - والحجر من الكعبة - أسري به من ذلك المكان إلى بيت المقدس مسيرة شهرين، في لحظة لأنه ركب البراق، والبراق دابة عظيمة قوية سريعة، خطوته مد بصره، وسريع جداً وصل إلى هناك وصلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماء، والسماء بعيدة جداً، ثم من سماء إلى سماء وتتلقاه الملائكة تسأل جبريل: من معك؟ فيقول: محمد، فيسألونه هل أرسله إلى الناس؟ فيقول: نعم، ثم يسلم على بعض من في السموات من أنبياء، ثم تفرض عليه الصلاة ويتردد بين الله عز وجل وموسى كل هذا وهو ثابت الجأش عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء حقيقي هو بنفسه عليه الصلاة والسلام صعد، ولهذا لما جاء وحدث الناس من الغد أنكرته قريش، لأنها تنكر ما لا يمكن في عقلها، وإنكار ما لا يمكن في العقل ليس خاصًّا بكفار قريش حتى فيمن ينتسب إلى هذه الأمة أنكروا من صفات الله ما أثبته الله لنفسه، لأنه على زعمهم لا يمكن في العقل، فقريش أنكرت هذا المعراج: ولو كان مناماً لم تنكره قريش، لأن المنامات يكون فيها مثل هذا، لكنه أمر حسي حقيقي أسري بالرسول عليه الصلاة والسلام بجسده وعُرج به في ليلة واحدة، وحصلت كل هذه الأمور ثم عاد إلى الأرض وصلى الفجر في مكة عليه الصلاة والسلام.{لقد رأى من ءايات ربه الكبرى }، وفي هذا إشارة إلى أن آيات الله - عز وجل - منها الكبير ومنها ما دون ذلك، ولا نقول: منها الصغير. لأن الكبرى اسم تفضيل. وغلط من قال من المفسرين المتأخرين: إن الكبرى اسم فاعل، بل هي اسم تفضيل، لأن آيات الله - عز وجل - إما كبيرة، وإما كبرى عظمى، فالمعراج الذي حصل لا شك أنه من الآيات الكبرى العظيمة.
ولما بين الله سبحانه وتعالى ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه العظيمة في الآفاق، قال: {أفرءيتم اللات والعزى } وهذا الاستفهام للتحقير وانحطاط رتبة هذه الأصنام التي ذكرها الله - عز وجل - يعني أخبروني بعد أن سمعتم من آيات الله الكبرى ما(16/8)
سمعتم، أخبروني عن شأن هذه الأصنام وما قيمتها، وما مرتبتها، وما عزتها {أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى} هذه ثلاثة أصنام مشهورة عند العرب يعبدونها من دون الله، ويخضعون لها كما يخضعون لله، ويتقربون إليها كما يتقربون لله - عز وجل -، ومع ذلك هم يعتقدون أنها لا تنفعهم عند الشدة، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، وعلموا أنه لا منجي من هذه الشدة إلا رب العالمين، لكن الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم في عبادة هذه الأصنام التي يدعون أنها تقربهم من الله تعالى، كما قال الله عنهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولكن في الحقيقة لا تقربهم إلى الله بل تبعدهم منه، {أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى } الثالثة بالنسبة لاثنتين قبلها {الأُخرى } يعني المتأخرة وكأنها - والله أعلم - دون اللات والعزى في المرتبة عند العرب، ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء المشركين {ألكم الذكر وله الأُنثى } يعني أتجعلون لكم الذكور، ولله الإناث، وذلك بقولهم إن الملائكة بنات الله، وهم لم يشهدوا خلق الملائكة، ولم يطلعوا على ذلك، كما قال الله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم } والجواب: لا، لم يشهدوا خلقهم، ولكن مع ذلك ستكتب هذه الشهادة عليهم ويسألون، نسأل الله العافية، وهم {وإذا بشر أحدهم بالأُنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به}، ومع ذلك يجعلون لرب العالمين الذي خلق الذكر والأنثى البنات، ويجعلون لأنفسهم البنين، وهذه القسمة قسمة جور، {تلك إذاً قسمة ضيزى }، يعني تلك القسمة، وهي أن يجعل لله البنات ولهم البنين {قسمة ضيزى } أي: جائرة مائلة عن الحق، لأننا لو قلنا بأنه جائز أن يكون لله ولد لكان الأولى أن يكون له البنون، لأن البنين أعلى من البنات بلا شك، وهو سبحانه وتعالى أعلى من المخلوقين، فيجب أن يكون الأعلى للأعلى، والأدنى للأدنى، هذه(16/9)
القسمة العادلة، ثم هناك قسمة أخرى دونها في العدل، ولكن فيها عدل أن يجعلوا لله البنات ولهم بنات، ولله البنين، ولهم بنين لكن ما فعلوا هذا، جعلوا الأدنى للخالق، والأعلى لهم، ولهذا قال عز وجل: {تلك إذاً قسمة ضيزى } ثم عاد الله - عز وجل - إلى بيان حقيقة هذه الأصنام المعبودة، فقال: {إن هي إلا أسماء سميتموهآ } {إن } هنا نافية بمعنى ما، وهذا ضابط ينتفع به طالب العلم أنه إذا أتت (إلا) مثبتة بعد (أن) فإن (إن) هنا تكون نافية مثل: إن هذا إلا بشر، إن هذا إلا مجتهد، وما أشبه ذلك فـ(إن) هنا نافية بمعنى، ما هي إلا أسماء سميتموها، يعني ما هذه الأصنام إلا مجردأسماء لا حقيقة لها، سموها إلهاً معبوداً، ولكنه لا حقيقة لذلك، ما هي إلا مجرد أسماء، والاسم لا يدل على مسماه، فلو أنك سميت الحديد خشباً، ما صار خشباً، ولو سميت الخشب حديداً، ما صار حديداً، ولو سميت البغل حماراً، لم يكن حماراً، وهكذا هذه الأصنام يسمونها آلهة، ولا تكون إلهاً، بل مجرد اسم، والاسم بلا مسمى لا فائدة منه، ولهذا قال {إن هي }، أي: ما هذه الأصنام والمسميات {إلا أسماء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان }، المخاطبون هم الذين أدركوا البعثة. وآباؤكم يعني الأجداد السابقين مجرد أسماء {مآ أنزل الله بها من سلطان } (ما) نافية، والمعنى أن الله - عز وجل - لم ينزل بها دليلاً، وسمي الدليل سلطاناً لأن صاحب الدليل معه سلطة يعلو بها على خصمه، ومن ليس له دليل ليس له سلطان، فالسلطان يأتي دائماً بمعنى الحجة أي الدليل، لأن من معه الدليل ذو سلطة على خصمه {إن يتبعون إلا الظن }. (إن) نافية بمعنى (ما) {يتبعون } أي: هؤلاء وآباؤهم {إلا الظن }، أي: الوهم الذي لا حقيقة له، لأنهم يقولون هذه آلهة، واعتمدوا في ذلك على الوهم، فالظن هنا بمعنى الوهم، يعني ما يتبع هؤلاء بقولهم إنها آلهة إلا الظن، أي الوهم الخيال الذي لا حقيقة له، {وما تهوى الأَنفس(16/10)
} ، يعني وما تميل إليه نفوسهم من الباطل، ثم قال - عز وجل -: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى } الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المحذوف، واللام، وقد، وتقديره: والله لقد جاءهم من ربهم الهدى، فيؤكد الله هنا أنه قد جاءهم من ربهم الهدى، وفي قوله: {من ربهم } ولم يقل: من الله. إشارة إلى أنه لا يجوز تلقي الشريعة إلا من عند الله، لأن الله سبحانه وتعالى هو الرب، والرب هو الخالق المالك المدبر {الهدى }، فاعل والمراد به العلم المقابل بقوله {إن يتبعون إلا الظن } فهم يتبعون الظن، والعلم جاء من عند الله، {ولقد جاءهم من ربهم الهدى } أي: العلم على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين خُتموا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم {أم للإنسان ما تمنى } (أم) هنا منقطعة؛ لأنها تأتي منقطعة وتأتي متصلة، فإذا كان هناك مقابل فهي متصلة، وإذا لم يكن مقابل فهي منقطعة، فإذا قلت: أعندك زيد أم عمرو؟ فهي متصلة، وإذا قلت في مثل هذه الآية {أم للإنسان ما تمنى } فهي بمعنى بل، وهمزة استفهام، يعني بل أللإنسان ما تمنى، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، أي ليس للإنسان ما تمنى، كم يتمنى الإنسان من شيء ولكن لا يحصل، لأن هناك مدبراً، وهو الله - عز وجل - فليس للإنسان ما تمنى، وفي هذا إشارة إلى رد صنيع هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأصنام، ويقولون: إنها تقربهم إلى الله، وليس لهم ذلك، وأيضاً رد لقولهم: إن لله البنات ولهم البنين، وليس لهم ذلك، وهم وإن تمنوا ذلك وصار في مخيلتهم فإنه لا يحصل، وليس للإنسان ما تمنى، كثيراً ما يتمنى الإنسان شيئاً ولكن لا يحصل، كثيراً ما يتمنى الشيء ويسعى في أسبابه ولكن لا يحصل، لأن الأمر بيد الله - جل وعلا - ولهذا قال: {فلله الآخرة والأُولى } وبدأ بالآخرة، لأن ملك الله - عز وجل - في الآخرة يظهر أكثر مما في الدنيا، فالدنيا فيها ملوك، وفيها رؤساء، وفيها زعماء، يرى العامة أن لهم تدبيراً، لكن في(16/11)
الآخرة لا يوجد هذا {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } قال الله - عز وجل - {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } كم تكثيرية لأنها تأتي تكثيرية، وتأتي استفهامية، فإذا قلت: كم مالك؟ فهي استفهامية، وهنا {وكم من ملك في السماوات } يعني كثير من الملائكة في السماوات لا تغني شفاعتهم وهنا نقول: كم من ملك وما أكرم الملائكة، كما قال الله تعالى: {بل عباد مكرمون } {في السماوات } لا في الأرض، والسماوات أعلى من الأرض وإذا كان هؤلاء الملائكة الكرام الذين مقرهم السماوات - إلا من أذن له ينزل الأرض - إذا كانت شفاعتهم لا تنفع، فهل يمكن أن تنفع شفاعة اللات والعزى ومناة؟ الجواب: لا، كأن الله تعالى يقول لهؤلاء: ما أصنامكم هذه التي تشفعون بها إلى الله، كم من ملك وهو أشرف من هذه الأصنام في السماوات وهي أشرف من الأرض، لا تغني شفاعتهم شيئاً لو شفع إلا بثلاثة شروط: الأول: أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بأن يشفع فيشفع، الثاني: أن يرضى عن المشفوع له، الثالث: يرضى عن الشافع لأنه لا يمكن أن يأذن للشافع إلا بعد أن يرضى عنه، ولابد أن يرضى عن المشفوع له وإلا فلا تنفع الشفاعة، كما قال عز وجل: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } فأصنامكم هذه لن تنفع ولن يقبل الله شفاعتها، فشروط الشفاعة ثلاثة: الأول: رضى الله عن الشافع بأن يكون أهلاً للشفاعة لكونه من المقربين لله - عز وجل - والثاني: أن يرضى عن المشفوع له، بأن يكون أهلاً لأن يشفع له، أما الكافر فما تنفعهم شفاعة الشافعين. الثالث: الإذن لقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وهذا فيه تيئيس هؤلاء المشركين من شفاعة آلهتهم.
{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة(16/12)
ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى } أكد الله هذا الخبر بمؤكدين هما القسم المقدر واللام: ومعنى {لا يؤمنون بالآخرة } أي: لا يصدقون بها ولا بما فيها من الثواب والعقاب، إذ إن الإيمان بالآخرة لابد أن يكون إيماناً بأن هذا اليوم سيكون، وإيماناً بكل ما ثبت من حصوله ووقعه فيه، إما في القرآن وإما في السنة، حتى إن شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: إن مما يدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان بما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، وصدق رحمه الله، لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وانتهى من الدنيا كأن لم يكن، فكما أنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فسيأتي عليه حين من الدهر لم يكن إلا خبراً من الأخبار، كما قال الشاعر الحكيم:
في الدنيا بين يرى الإنسان فيه مخبراً
حتى يرى خبراً من الأخبار
فأنت الآن تخبر تقول: حصل كذا وحصل كذا، وقال فلان كذا وفي يوم من الأيام. سوف يخبر عنك، قال فلان كذا وأنت رميم، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور: الأول: الإيمان بوقوع اليوم الآخر أنه لابد كائن. الثاني: الإيمان بما سيكون في هذا اليوم من: أهوال، وحساب، وموازين، وصراط، وجنة، ونار لابد من هذا، الثالث: الإيمان باليوم الآخر الإيمان بما يكون في القبر من فتنة القبر، سؤال الملكين الميت عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ {إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة } هل أحد من الناس لا يؤمن بالآخرة؟ نعم كثير من الناس، أكثر الناس لا يؤمنون بالآخرة، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال في الإنسان: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً} يعجزنا فيه {ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم } ما أحسن قوله: {ونسي خلقه} قبل أن يقول مقالة هذا الإنسان، يعني هذا الإنسان قال: {من يحي العظام وهي رميم } {ونسي خلقه }، ما هو خلقه؟ إنه لم يكن شيئاً، خلق من ماء دافق، فصار(16/13)
عظاماً وعصباً ولحماً، وصار إنساناً ينطق ويخاصم {من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وذكر الأدلة على إمكان ذلك () ، فمن الناس من ينكر اليوم الآخر، ويقول: لا بعث. وهذا من سفهه في عقله وضلاله في دينه، وإلا فهل من الحكمة أن تخلق هذه الخليقة وتبتلى بالأمر والنهي، ويحصل الجهاد وقتال الأعداء، واستحلال دمائهم وأموالهم، ونسائهم ثم يكون نتيجة هذا لا شيء، هذا لا يمكن، وتأباه الحكمة، إذاً الذين لا يؤمنون بالآخرة، سفهاء عقولاً، ضلال ديناً {ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى } يعني يجعلون الملائكة إناثاً كالمشركين، قالوا: الملائكة بنات الله، فسموا الملائكة تسمية الأنثى، وهي البنت، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولو آمنوا بالعقاب ما قالوا هذا، لكنهم لا يؤمنون، فيقولون ما يريدون، قال الله تعالى: {وما لهم به من علم} نفى أن يكون لهم بذلك علم، لأن هذا هو الواقع: هل شهدوا خلق الملائكة؟ ولهذا قال الله في آية أخرى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم} والجواب: لا، لكن {ستكتب شهادتهم ويسئلون} حين لا يجدون جواباً فهؤلاء الذين قالوا: الملائكة بنات الله، يقول الله - عز وجل -: {ما لهم به من علم} وعلم هنا مجرورة بحرف الجر وحرف الجر، هنا عند المعربين، حرف جر زائد، الفائدة منه توكيد النفي، ولهذا هنا قاعدة مفيدة: جميع الحروف الزائدة يقصد بها التوكيد، وهي من أدوات التوكيد.
{وما لهم به من علم} يعني لا قليل ولا كثير، لأنهم لم يشهدوا خلقهم {إن يتبعون إلا الظن}، {إن} هنا بمعنى ما، والضابط أنه إذا جاءت {إلا} بعد {إن} فهي بمعنى ما، {إن هذا إلا بشر} أي: ما هذا إلا بشر {إن هذا إلا ملك كريم} أي: ما هذا إلا ملك كريم {إن أنتم إلا بشر مثلنا} أي: ما أنتم إلا بشر مثلنا: {وإن هم إلا يظنون } أي ما هم إلا يظنون، والأمثلة على هذا كثيرة {إن يتبعون إلا الظن} يعني ما يتبعون إلا(16/14)
الظن، والمراد بالظن هنا الوهم الكاذب، وليس المراد بالظن هنا الراجح من أحد الاحتمالين، وانتبه لهذا فالظن يأتي بمعنى التهمة، ويأتي بمعنى رجحان الشيء، ويأتي بمعنى اليقين. قال الله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم} والمراد: اليقين ولا يكفي الظن في اليوم الآخر، بل لابد تيقن، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب () » والتحري هنا يعني هو الظن الغالب.
{وإن هم إلا يظنون } ظن الاتهام يعني يظنون ظنًّا، هو وهم، ليس له أصل، وبعض العلماء أخذ من هذه الآية أنه لا يجوز العمل بالظن في المسائل الفقهية وغيرها، وهذا خطأ، لأن كثيراً من المسائل الفقهية ظنية: إما لخفاء الدليل، أو خفاء الدلالة: ليس كل مسألة في الفقه يقول بها الإنسان على سبيل اليقين أبداً، بل بعضها يقين وبعضها ظن، والظن إذا تعذر اليقين مما أحل الله، ومن نعمة الله أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، فليس كل ظن منكراً، لكن الظن الذي ليس له أصل يبنى عليه منكر. فهؤلاء الذين سموا الملائكة تسمية الأنثى لا علم لهم بذلك بل هو ظن مبني على وهم، وربما يكون مبنياً على أهواء، يعني لم يطرأ على بالهم أنهم إناث، ولكن تبعوا آباءهم {وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي: هذا الظن المبني على الوهم لا على القرائن لا يغني من الحق شيئاً، أي لا يفيد شيئاً من الحق، لأنه وهم باطل، والوهم الباطل لا يمكن أن يفيد، ثم قال - عز وجل -: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} {فأعرض} الخطاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو المراد به كل من يصح أن يوجه إليه الخطاب، فعلى الأول يكون المعنى: أعرض يا محمد، وعلى الثاني يكون: أعرض أيها الإنسان المؤمن {عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } يعني أعرض عنه لا تتبعه ولا يهمنك أمره، وليس المعنى: أعرض عنه لا تنصحه. لأن التذكير واجب، قال الله تعالى: {وذكر فإن(16/15)
الذكرى تنفع المؤمنين } يعني ذكر كل أحد، فمن الناس من ينتفع، ومنهم لا ينتفع، والذي ينتفع هو المؤمن، فعلى هذا نقول معنى أعرض يعني لا تبالي به ولا يهمنك أمره، ولا تستحسر من أجل توليه، بل ادع إلى سبيل الله - عز وجل - أيا كان، لكن من أعرض وتولى لا يهمك أمره، {عن ذكرنا} هو القرآن، ويحتمل أن يكون الذكر بمعنى التذكير، أي عن تذكيرنا، وكلا المعنيين متلازمان صحيحان. لأن القرآن ذكر كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرءان مبين } أو المعنى {عن ذكرنا} أي: عن تذكيرنا بالمواعظ التي ينزلها الله - عز وجل - {ولم يرد إلا الحياة الدنيا } يعني لا يريد الآخرة ولا يهتم بها، بل همه الدنيا ما المركوب؟ وما الملبوس؟ وما المسكن؟ فلا يهتم بالآخرة، وأهم شيء عنده الدنيا، أما ذكر الله القرآن، أو تذكير الله فإنه متول عنه - والعياذ بالله - نسأل الله السلامة والعافية، والحياة الدنيا وصفها بالدنيا من الدنو وهو القرب، وذلك لانحطاط مرتبتها، ولسبقها على الآخرة، لأن الدار الدنيا هي أول دار ينزلها الإنسان، وهي سابقة في الزمن على الآخرة، فهي دنيا قريبة، وهي أيضاً دنيا من حيث المرتبة، ليست بشيء بالنسبة للآخرة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: «لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها () » فليست خيراً من الدنيا التي أنت فيها فقط؛ بل من الدنيا منذ أن خلقها الله إلى أن تفنى، موضع السوط الذي يكون بقدر المتر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إذاً هي دنيا حقيقة، ولهذا إذا مات الإنسان وهو مؤمن - جعلنا الله منهم - ثم حمل من بيته الذي يسكنه ويأوي إليه، وفيه أهله وماله وحشمه، إذا خرج تقول روحه: قدموني قدموني، لأن ما ستذهب إليه خير مما تخرج منه، قال الله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} لكن لمن؟ {لمن اتقى} لكنها شر لمن لم يتق، ويذكر أن ابن حجر - رحمه الله -(16/16)
وكان رئيس القضاء في مصر، مر يوماً من الأيام في موكبه على العربة تجرها البغال، وحوله الجنود برجل يهودي زيَّات يبيع الزيت، قد تدنست ثيابه بالزيت، وشقي في طلب المعيشة فأوقفه اليهودي وقال لابن حَجَر: إن نبيكم يزعم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر! فكيف يتفق هذا الحديث مع الواقع، أنت الآن مؤمن وهو يهودي فأيهما الشقي؟ قال: نعم ما أنا فيه الآن بالنسبة للآخرة سجن، لأن الآخرة خير لمن اتقى، وما أنت فيه بالنسبة للآخرة جنة، لأن الآخرة ليس لك فيها إلا النار وبئس القرار، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فانظر كيف فتح الله عليه حيث ظهر صدق كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بكل سهولة، فالآخرة خير من الدنيا وما فيها، ولهذا ذم الله تعالى الذي أعرض عن ذكر الله،{ولم يرد إلا الحياة الدنيا } ومن أراد الحياة الدنيا لن تحصل له قطعاً، قال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} أي: ما يشاء الله، لا ما يشاء هو {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا}. وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} لأنه يعطى الدنيا والآخرة {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} أي بعضها وليس كلها {وما له في الآخرة من نصيب} .
{ذلك مبلغهم من العلم} والمشار إليه كونهم متولين معرضين، لا يريدون إلا الحياة الدنيا، يعني ذلك منتهى بلوغ علمهم، لأن علمهم قاصر، لا ينظرون إلى المستقبل، ولا يصدقون بخبر، فتجد أكبر همهم أن يصلحوا حالهم في الدنيا معرضين عن حالهم في الآخرة، وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا» () ، ثم قال - عز وجل -: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } هو أعلم - عز وجل - بمن ضل عن سبيله فعلاً، ومن سيضل، لأنه عالم بما كان وبما يكون، فقوله: {بمن ضل} لا(16/17)
تعني أنه لا يعلم إلا من حصل منه الضلال بالفعل بل هو يعلم من حصل منه الضلال بالفعل، ومن سيحصل منه، لأن الله - سبحانه وتعالى - موصوف بالعلم التام في الحاضر والمستقبل والماضي، وقوله: {وهو أعلم بمن اهتدى } ضد الضلال، فالناس بين فئتين: إما مهتدٍ وإما ضال، وإنما بيَّن الله سبحانه وتعالى أنه أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن اهتدى؛ لفائدتين:
الفائدة الأولى: أن نعلم أن ما وقع من الضلال والهداية فهو صادر عن علم الله وبإرادته، إذ لا يمكن أن يوجد في خلقه خلاف معلومه، ولو قدر أن يوجد في خلقه خلاف معلومه لكان الله جاهلاً - وحاشاه من ذلك -.
الفائدة الثانية: التحذير من الضلال، والترغيب في الاهتداء، مادام الإنسان يعلم أن أي عمل صدر منه فعلمه عند الله، فإنه سوف يخشى أن يعصي الله، وسوف يسعى أن يرضي الله - عز وجل -.
كأنه يقول: إن ضللت فالله أعلم بك، وإن اهتديت فالله أعلم بك، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
{ولله ما في السماوات وما في الأَرض}يقول علماء البلاغة: إنه إذا تقدم شيء حقه التأخير فهو دليل على الحصر والتخصيص، فلننظر في هذه الآية هل فيه تأخير وتقديم: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} (لله) خبر مقدم (وما في السموات) مبتدأ مؤخر، إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر؛ لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ. تقول: الرجل قائم ولا تقول: قائم الرجل، فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني، لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة، فهنا الفائدة: الحصر يعني: لله لا لغيره {ما في السماوات وما في الأَرض} ولا أحد يملك ما في السماوات ولا ما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى، ونحن نملك ما نملك من أموالنا ولكن ملكنا ليس عاماً، فملكي ليس ملكاً لك، وملكك ليس ملكاً لي، فأملاكنا ليست عامة، ثم نحن لا نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء، فتصرفنا محدود حسب الشريعة، ولهذا لو تراضى(16/18)
اثنان في بيع الربا قلنا: لا تملكان ذلك، ولو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا: هذا ممنوع، فملك غير الله قاصر، وغير شامل، والملك التام الواسع الشامل لله - عز وجل - ولهذا قال: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} فهو مالك لذواتهما، ومالك لما فيهما أيضاً، وكم من ملك في السماوات، وكم من مخلوق في الأرض كله ملك لله - عز وجل - يتصرف فيه كما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته، وإيماننا بأن لله ملك السماوات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: الرضى بقضاء الله، وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء، فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر، يمضي أو لا يمضي، ويتصرف في الشمس والقمر، ويتصرف في المخلوقات، يتصرف فيك أيضاً كما يشاء، إن شاء أعطاك صحة، وإن شاء سلبها، إن شاء أعطاك عقلاً، وإن شاء سلبك، إن شاء أعطاك مالاً، وإن شاء سلبك، أنت ملكه، فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه.
الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به، لأنك ملكه، إذا قال لك: افعل. فافعل، وإذا قال: لا تفعل. فلا تفعل، أرأيت لو كان لك عبد رقيق فأمرته، ولكنه لم يفعل، أو نهيته ففعل، فالسيادة ناقصة، إذاً أنت إذا عصيت ربك: إما بفعل محرم وإما بترك واجب، فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة؛ لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه، كما أنك خاضع كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره، فانتبه ليس معنى قوله تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} أن يخبرنا أنه مالك فقط، لكن لأجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك، وهو الرضا بقضائه، والرضا بشرعه، هذه حقيقة الملك. {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } جاءت كلمة {ليجزى} كأن قائلاً يقول: وإذا تبين أن الملك لله - عز وجل - فما النتيجة؟ النتيجة أن الناس بين محسن وبين مسيء كما قال - عز وجل -: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}(16/19)
وإذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} الذين أساءوا هم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحظور، هؤلاء الذين أساءوا ليجزيهم بما عملوا، السيئة بالسيئة لا تزيد، أو يعفو - عز وجل - عمن يستحق العفو، وهو كل من مات على غير الشرك {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان، ولهذا قال: {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا}. بدون زيادة {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } ولم يقل: بما عملوا، لأن فضل الله أوسع من أعمالنا، يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فأنت إذا فعلت حسنة فتكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ونضرب مثلاً قريباً، الصلاة المفروضة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج إلى الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها؟ كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة، ويحط عنك بها خطيئة، فخطواتك لا يحصيها إلا الله عز وجل، مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة، لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر مادمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة، وتأهبت في بيتك، أسبغت الوضوء في بيتك، فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، والخطوات لا يحصيها إلا الله، ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله، ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام لصلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي، «لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة» () ، وهذا أحسن من أعمالنا ولهذا قال: {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } أي بما هو أحسن وأكثر من عملهم، وهذا يدلك على سعة فضل الله - عز وجل - وإحسانه وكمال عدله. فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو، والمحسنون يجازيهم بالفضل ثم ذكر شيئاً من أوصافهم فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} أي: يبتعدون عنه، وسمي الابتعاد اجتناباً؛ لأن الإنسان في جانب، والذي أبعد عنه في جانب آخر، فيبعدون، ولا يتصلون بكبائر(16/20)
الإثم والفواحش إلا اللمم {كبائر الإثم} كبائر جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حدها، والصواب الحد، أي أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروا عدداً الظاهر - والله أعلم - أنهم أرادوا المثال، فمثلاً إذا قال الإنسان: هي الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال الإنسان هذه هي الكبائر ليس معنى قوله إنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه أن ذلك على سبيل التمثيل فقط، أما الذين حدوها يعني جعلوا له ضابطاً. فقالوا في ضابطها: (كل ذنب رتب الله عليه لعنة، أو غضباً، أو سخطاً، أو تبرأ منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة)، ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قال: (كل ذنب جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا، أو في الآخرة فهو كبيرة)، فالزنا كبيرة، لأن فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم، والسرقة كبيرة، وقطع الطرق كبيرة، وعقوق الوالدين كبيرة، وهلم جرا، فكلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة، أما الذنب الذي نهى عنه فقط فهو صغيرة: كنظر الرجل للمرأة الأجنبية للشهوة، هذا ليس كبيرة هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه، صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل. ومكالمة المرأة الأجنبية على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار، لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله - عز وجل -، وأنه غير مبال بما حرم الله، وقوله: {والفواحش} أي: كبائر الكبائر، لأن الكبائر منه ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلاً الزنا فاحشة {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} واللواط فاحشة أعظم من الزنا،(16/21)
لأن الله قال في الزنا: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} وقال في اللواط: {أتأتون الفاحشة} فأتى بأل الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش، ونكاح المحارم فاحشة، قال الله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } فهو أشد من الزنا، فلو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلاً صار زناه بأم زوجته أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم، لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم فالزنا بذوات المحارم وصفه الله تعالى: {إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } والزنا وصفه بوصف بواحد وهو: {إنه كان فاحشةً} وجاءت السنة بالتفريق بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية، فجعلت حد الأول القتل بكل حال، وإن لم يتزوج وإن لم يكن ثيباً، لأن هذا أعظم والعياذ بالله، إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها هذا فاحشة عظيمة، إذاً هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والفواحش كبائر الكبائر وأعظم، ونأخذ من هذه الآية الكريمة أن الكبائر والفواحش تختلف؛ لأن كبائر وصف كل ما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، وفيما سقناه من الآيات دليل على ذلك: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} ففرق الله بينها، مع أنها كلها فواحش، لكن بعضها أعظم من بعض.
قوله: {إلا اللمم} قيل: إنه استثناء متصل. وقيل: إنه استثناء منقطع، لأن اللمم الشيء القليل، فهل المعنى إلا الشيء القليل من الكبائر، أي أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر، أو المعنى إلا الصغائر من الذنوب. إن قلنا بالأول، فالاستثناء متصل، وإن قلنا بالثاني، فالاستثناء منقطع.(16/22)
وتكون بمعنى لكن، والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم، لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر، وعلى هذا فيكون معنى {إلا اللمم} يعني: أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر، والصغائر والحمد لله مكفرة بالحسنات، قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئتكم} وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر () ، وقال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» () ، وعلى هذا فيكون المعنى أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر، أو باجتناب الكبائر مضموماً إليها فعل هذه الحسنات العظيمة: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والخلاصة أن الصغائر التي تقع مغفورة للإنسان إذا اجتنب الكبائر، وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان {إن ربك وسع المغفرة} في هذه الجملة إشارة إلى قوله: {إلا اللمم} يعني أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله - عز وجل - فيغفره الله - عز وجل - والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، ولا يكفي ستر الذنب بل لابد من تجاوز، والدليل على هذا أمران: لغوي وسمعي، أما اللغوي فلأن المغفرة مشتقة من المغفر، والمغفر وهو ما يوضع على الرأس عند القتال ويسمى خوذة، ويسمى بيضة، يوضع على الرأس ليتقي السهم. هذا الذي يوضع على الرأس جمع بين أمرين الوقاية والستر، فإذا المغفرة لابد من ستر ووقاية، وأما السمعي فهو أن الله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر قال: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» () فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة، نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر.
وفي قوله تعالى: {إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الصغائر تغفر، وقد ثبت في القرآن الكريم أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، فقال جل(16/23)
وعلا: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً }. ولهذا قال: {إن ربك واسع المغفرة} أما إذا قلنا: اللمم القليل من الفواحش والكبائر، فيكون قوله: {إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الكبائر إذا تاب الإنسان منها غفر الله له، وكأنها لم تكن، وإن لم يتب منها فهو تحت المشيئة: إن شاء غفر الله له، وإن شاء عاقبه بما يستحق، هذه الكبيرة، وللأسف يوجد قوم من هذه الأمة يقولون: إن الكبيرة لا تغفر، وهم الخوارج والمعتزلة يقولون: إن الإنسان إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: خارج من الإيمان داخل في الكفر. والمعتزلة يقولون:خارج من الإيمان غير داخل في الكفر بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن قولهم باطل، والصواب: أن فاعل الكبيرة داخل تحت قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلو قال قائل: إذا قلت هذا فتحت الباب على مصراعيه لفعل الكبائر، لأن أي إنسان يفعل كبيرة ويقول: أنا يمكن أن يغفر الله لي، وهذا يحتج به العوام، يقول: إذا كان الله يقول: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي ما دون الشرك لمن يشاء، إذاً سأفعل الكبائر، ويغفر الله لي، فهذه حجة فكيف تجيبه؟
نجيبه: أن الله تعالى قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولم يقل لكل أحد بل قال: {لمن يشاء} فهل أنت تتيقن أنك ممن يغفر الله له، أأحد يتقين هذا؟ لا أحد يتيقن، إذاً لا حجة في هذه للعاصي، ثم إن قوله تعالى: {لمن يشاء} نعلم أن الله حكيم، لا يشاء أن يغفر للمذنب غير الشرك إلا إذا اقتضت الحكمة أن يغفر ذلك، ومن منا يستطيع أن يقول إن حكمة الله تقتضي أن يغفر لي؟ لا أحد يقول هذا، بل لو قال هذا لقلنا: إن قولك هذا من أسباب المؤاخذة والمعاقبة؛ لأنك تأليت على الله.
ثم قال - عز وجل -: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأَرض} أعلم بنا من ذاك الوقت الطويل البعيد {إذ أنشأكم من الأَرض}، أي بخلق أبينا آدم، لأن آدم(16/24)
خلق من التراب، ثم صار طيناً، ثم صار صلصالاً، ثم خلقه الله بيده جسماً ونفخ فيه الروح، فصار آدميًّا إنساناً، هذا معنى قوله تعالى: {إذ أنشأكم من الأَرض} ، إذاً نحن من الأرض أول نشأة: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} أي الإخراج الذي ليس بعده وفاة يوم القيامة، ولذلك الآن بنو آدم كالأرض تماماً، فيهم الحزم الصلب الشديد، وفيهم السهل، وفيهم ما بين ذلك، وفيهم الأبيض، وفيهم الأحمر، وفيهم الأسود، لأن الأراضي تختلف، هكذا، وقد ذُكر أن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل الأرض سهلها وحزنها، وأسودها وأبيضها كلها () : {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} هذه النشأة الثانية (أجنة) جمع جنين وهو الحمل، وسمي الحمل جنيناً، لأنه مستتر {وإذ أنتم أجنة} أي مستترين {في بطون أمهاتكم}، أي من حين كان الإنسان نطفة، ومن النطفة يخلق، وهذا معنى قوله: {ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين } فمن حين يكون نطفة يكون جنيناً ثم يتطور أربعة، أولاً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، ثم أنشأناه خلقاً آخر. الطور الأخير الذي تحل فيه الروح، إذاً هو عالم بنا حين النشأة الأولى، وحين النشأة الثانية في بطون أمهاتنا: {فلا تزكوا أنفسكم} أي: لا تزكوها وتقول عملت كذا وكذا، وصليت، وزكيت، وصمت، وجاهدت، وحججت، لا تقل هكذا، تُدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز.
فإن قال قائل: أليس الله يقول: {قد أفلح من زكاها }؟
فالجواب: بلى، لكن معنى {من زكاها } أي: من عمل عملاً تزكو به نفسه، وليس المعنى من زكاها من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين، ولهذا نقول: من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزك نفسه. فمن زكى نفسه بمدحها فإنه لم يزكِّ نفسه، وفرق بينهما، فالتزكية التي يحمد عليها الإنسان أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً تزكو به نفسه، والتزكية التي يذم عليها أن يدل(16/25)
بعمله على ربه ويمدح، وكأنه يمن على الله، يقول: صليت، وتصدقت، وصمت، وحججت، وجاهدت، وبريت والدي وما أشبه ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه، وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة ويزكون أنفسهم، ويقولون: وصلنا إلى حد لا تلزمنا الطاعة، وصلنا: إلى عالم الملكوت فليس علينا صلاة، ولا صدقة، ولا صيام، ولا يحرم علينا شيء، وهؤلاء منسلخون من الدين انسلاخاً تامًّا، ولذلك نقول: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة، لأنهم أعجبوا بأعمالهم، وأدلوا بها على الله - عز وجل - وجعلوا لأنفسهم منصباً لم يجعله الله تعالى لهم {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } كأنه يقول: لماذا تزكون أنفسكم؟ أتريدون أن تعلموا الله بما أنتم عليه؟ الجواب: لا، ولهذا قال: {هو أعلم بمن اتقى } يعني إن كنت متقٍ لله، فالله أعلم بك، ولا حاجة أن تقول لله: إني فعلت وفعلت، وفي هذا إشارة إلى أن النطق بالنية عند فعل العبادة قد يدخل في نوع من التزكية، فإذا أردت أن تتوضأ فلا تقل: اللهم إني نويت أن أتوضأ وبعض العلماء يقول: قلها سرًّا، بينك وبين نفسك، وعللوا هذا قالوا: من أجل أن يطابق اللسان القلب، فالقلب نوى، لكن قل باللسان: اللهم إني نويت أن أتوضأ، وأنت تصلي قل: اللهم نويت أن أصلي الظهر مثلاً أو العصر، وبعض العلماء يقول هكذا، وهم علماء أجلاء من الفقهاء.
فيقال: هذا غلط، وهذا قياس في مقابلة النص: والرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرع لأمته النطق بالنية، لا في حديث صحيح ولا ضعيف، ومن الطرف الطريفة أن رجلاً عامياً في المسجد الحرام سمع شخصاً يريد أن يصلي، فقال بعد أن أقيمت الصلاة: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات في المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبر قال الرجل: باقي عليك، قال: ما الباقي؟ قال: باقي التاريخ، قل: في اليوم الفلاني. أنت الآن ذكرت المكان، وذكرت العمل، فاذكر التاريخ قل: في اليوم الفلاني، من الشهر(16/26)
الفلاني، من السنة الفلانية. فانتبه الرجل فقال: هل أنت تعلم ربك بنيتك؟ الله أعلم بنيتك {يعلم خائنة الأَعين وما تخفي الصدور } وعند الصيام مثلاً إذا تسحر الإنسان وأراد أن يصوم فإنه لا يقول: اللهم إني نويت الصيام من الليل؟ لأن هذا من البدع، بقي أن يقال في الحج هل تقول: اللهم إني نويت العمرة، أو نويت الحج، أو نية القران أو التمتع؟ لا تقل هذا، حتى عندما تغتسل وتلبس الإحرام، لا تقل: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج، تكفي التلبية لأنك سوف تقول: لبيك عمرة، إن كنت في عمرة، أو لبيك حجًّا، إن كنت في حج، أو لبيك عمرة وحجًّا، إن كنت قارناً، فلا حاجة إلى التلفظ بالنية فكل العبادات لا ينطق فيها بالنية، ولهذا قال عز وجل: {هو أعلم بمن اتقى} .
{أفرأيت الذي تولى } الخطاب في قوله: {أفرأيت} للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويجوز أن يراد به كل من يتوجه إليه الخطاب، فيكون المعنى على الأول: أفرأيت يا محمد، وعلى القول الثاني: أفرأيت أنت أيها المخاطب أي أخبرني وكلما جاءت (أرأيت) في القرآن فهي بمعنى أخبرني {الذي تولى }، أي: عن طاعة الله - عز وجل - وعن الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعن إقامة شعائر الإسلام، {وأعطى قليلاً وأكدى } يعني أحياناً يعطي، وإذا أعطى أعطى قليلاً، وأحياناً يكدي، أي: يمنع فلا يعطي شيئاً، لأنه ليس ينفق المال ابتغاء وجه الله، فلذلك كانت حاله بين أمرين: إما المن، أو الإعطاء قليلاً، قالوا: وأكدى مأخوذة من الكدية، وهي الصخرة الشديدة التي لا تتفتت إلا بالمعاول، فهذا الرجل ليس مطيعاً لله وليس نافعاً لعباد الله فهو متولٍ عن طاعة الله، وهو مانع فضل الله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {أفرأيت}وهذا الاستخبار ليس لعدم علمه جل وعلا، ولكن لشحذ النفوس والهمم إلى الاستماع إلى ما يلقى، وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى، يزعم أنه إذا بعث فإنه سوف يعطي المال الكثير، وهذه عادة من ينكر البعث،(16/27)
كما في صاحب الجنة الذي قال: {ولئن رددت إلى ربي لأَجدن خيراً منها منقلباً } فهو يظن أنه سوف يمتع في الدنيا ويمتع في الآخرة أكثر وأكثر إن كان آمن بها، قال الله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى} وهذا الاستفهام استفهام استنكار بمعنى النفي، يعني ليس عنده علم الغيب، وهو يرى أنه سينتقل إلى دار أفضل من التي هو فيها، وعلى هذا فتكون الجملة جملة نفي، وليست جملة إثبات، وليست جملة استخبار، بل هي جملة نفي واستنكار، إذ لا أحد عنده علم الغيب، ولولا ما أخبر الله به من النعيم في الجنة والجحيم لأهل النار، ما علمنا بهذا شيء. {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} أم هنا للإضراب والمعنى بل: {لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} ذكر موسى لأن موسى عليه السلام أفضل أنبياء بني إسرائيل والتوراة هي التي عليها عمدة ما نزل على بني إسرائيل. وصحف إبراهيم عليه السلام أنزلها الله تعالى على إبراهيم فيها المواعظ، وفيها الأحكام، لكن لم يبين لنا منها شيئاً سوى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان على التوحيد وعلى الملة المستقيمة، كما قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكراً لأَنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم}. {وإبراهيم الذي وفى } ذكر إبراهيم عليه السلام لأنه أبو الأنبياء، فهو أبو الأنبياء في بني إسماعيل، وأبو الأنبياء في بني إسرائيل، وهنا قدم موسى على إبراهيم، وفي سورة الأعلى قدم إبراهيم على موسى، ولا شك أن الأحق بالتقديم إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أسبق زمناً وأعلى مرتبة، ولكن مراعاة لفواصل الآيات قدم موسى، ولأجل الثناء الخاص بإبراهيم قدم موسى،وقوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى } أي وفَّى بما أمر به ربه، ومن أعظم ما وفاه أنه أمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله - عز وجل - وصمم على تنفيذه، حتى إنه تله على جبينه ليمر السكين على رقبته، ولكن الفرج من عند الله {وفديناه(16/28)
بذبح عظيم } والذي في هذه الصحف قال: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} هذه بيان ما في صحف إبراهيم وموسى{ألا تزر وازرة وزر أخرى} أي: لا تحمل إثم {وزر أخرى} أي: أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره، إلا أنه يستثنى من ذلك، إذا كان صاحب سنة آثمة فإن عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولكن الحقيقة أن هذا لا يتحمل وزر غيره، لأن غيره قد وزر وأثم، لكن هو تحمل إثم السنة السيئة والبدء بالشر، فيكون حقيقة أنه لم يوزر وزر غيره ولكنه وزر بوزر نفسه {ألا تزر وازرة وزر أخرى } وقد كذَّب الله تعالى قول الذين كفروا للذين آمنوا {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} فقال الله تعالى: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون } حتى لو قال لك القائل: افعل هذا الذنب والإثم عليَّ فإنه لا يتمكن من هذا، ولا يمكن، فإن فعل هذا، وقيل له: الإثم عليَّ فالإثم على الفاعل، ثم إن كان الفاعل ممن يغتر بالقول ولا يفهم، فعلى القائل إثم التغرير، أي أنه غرر وخدع {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } يعني ليس للإنسان من الثواب إلا ثواب ما سعى وما عمل، فلا يمكن أن يعطى من ثواب غيره، يعني لا يمكن أن نأخذ من أجر زيد ونعطيه عمراً، كما لا يمكن أن نأخذ من سيئات زيد ونضيفها إلى سيئات عمرو، فهذا لا يمكن إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم، فصار الإنسان مرتهن بكسبه: {كل امرئ بما كسب رهين } {كل نفس بما كسبت رهينة} فلا يمكن أن يؤخذ من حسناته إلى غيره، ولا أن يؤخذ من أوزار غيره فيحمل عليها إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم.
وقد استدل بعض أهل العلم على أنه لا يمكن أن ينتفع الميت بثواب عمل غيره، لأن الله قال: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وعلى هذا فلو أنك صليت ركعتين لزيد وهو ميت، أو صمت يوماً لزيد وهو ميت فإنه لا ينفعه، لعموم قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فإذا أورد عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه(16/29)
وليه» () قالوا: هذا في الواجب، لأن عليه صيام وليس في التطوع، وكذلك الحج الواجب لحديث: «أفحج عنه؟» قال: «نعم» () ، وإذا أورد عليهم أن رجلاً قال يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو بقيت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم» () ، قالوا: هذا مستثنى بالنص، وليس لنا أن نرد النص. والعام يجوز تخصيصه بحكم مخالف، وإذا أورد عليهم قول سعد بن عبادة - رضي الله عنه - في مخارفه أي في نخله الذي يخرف أنه يريد أن يجعله صدقة لأمه فأجاز النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم () قالوا: هذا ورد به النص، وما ورد به النص فإنه لا يمكن أن يرد، لأن نصوص الشريعة الإسلامية جاءت بتخصيص العام، يعني بإخراج بعض أفراد العام، فيحكم له بحكم مخالف لأحكام العام، وعلى هذا نقول: لا يمكن أن ينتفع الإنسان بعمل غيره حيًّا كان أو ميتاً إلا ما وردت به السنة، ولا شك أن هذا القول له وجهة نظر قوية، ولكن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: أي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت أو حي من المسلمين فإن ذلك ينفعه، وقال: إن الذي وقع قضايا أعيان، بمعنى أن رجلاً حصلت له حادثة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجازها، فإذا أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام جنس العبادات ولو كانت مالية دل ذلك على جواز جنس جميع العبادات، وقالوا أيضاً: الصيام ليس عبادة مالية، ومع ذلك قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وإذا أجيز هذا في الواجب، والواجب متحتم، فهو كالدين، والدين إذا قضاه الغير عن المدين أجزى، وحملوا قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } على أن المعنى أنه لا يمكن أن يأخذ من عمل غيره، لكن إذا أهدى إليه غيره من العمل فإنه لا بأس به، كما أن الإنسان ليس له التصرف في مال غيره، ولو أعطاه شخص مالاً لتصرف فيه. وقد نقل الجمل في حاشيته على الجلالين (الفتوحات الإلهية) في هذا الموضع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز إهداء القرب وأن الميت ينتفع بذلك،(16/30)
وذكر لهذا أكثر من عشرين وجهاً، فمن أحب أن يراجعه فليراجعه. وعلى كل حال حتى ولو قلنا بما ذهب إليه الإمام أحمد - رحمه الله - من أي قربة فعلها الإنسان وجعلها لمسلم فإن ما عليه عمل الناس اليوم مخالف لهذا الكلام، إذ إن الناس اليوم تجدهم يهدون كثيراً من العمل الصالح للأموات، يعتمر للميت دائماً ويصوم عنه تطوعاً دائماً، ويضحي عنه دائماً، ولو ضحى لنفسه كل هذا ليس من عمل السلف، والسلف يهتدون بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» () فأرشد إلى الدعاء للميت، لكن كونك كل ما سبحت قلت: اللهم اجعل ثوابه لأبي، لأمي، وكل ما عملت تقول: اجعل ثوابه إلى أبي إلى أمي، أو جدي، أو خالي، أو عمي فهذا غير صحيح، وأنت محتاج إلى العمل كما هم محتاجون للعمل، فلا تجعل عملك لهم، اجعل لهما ما أرشدك إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الدعاء، أما العمل فخص به نفسك. {وأن سعيه سوف يرى } سعيه يعني عمله سوف يرى، وهل المراد ثواب السعي يرى في الآخرة عند الجزاء، أو أن السعي يرى في الدنيا ويعرف، الجواب: أن هذا عام سوف يرى في الدنيا وفي الآخرة، الذي يرى في الآخرة وفي الدنيا هو نفس العمل، ولهذا قال الله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} يعني عملكم لن يخفى علي {فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} .
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن بعض الناس إذا عمل عملاً كمكتبة، أو مسجد، أو عمارة للفقراء أو ما أشبه ذلك كتب: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وهذا لا يجوز، لأن أحد الأطراف الثلاثة لا يمكن أن يراه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، صحيح أن الله - عز وجل - يرى والمؤمنون في هذا الوقت يرون، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرى، ثم هذا في المنافقين وهو تهديد لهم وليس ثناء(16/31)
عليهم، وعلى كل حال نقول: سعي الإنسان سوف يرى، ولكن قد يستر الله تعالى عن العبد ذنوبه فضلاً منه ومنة، وإذا لاقاه في الآخرة خلا به سبحانه وتعالى وقرره بذنوبه وقال: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» () ، لكن في الأصل أن سعي الإنسان سوف يرى {ثم يجزاه الجزاء الأَوفى } أي: بعد أن يرى يجزى عليه الجزاء الأوفى، أي: الأكمل، والأوفى في الصالح زيادة المثوبة، والأوفى في السيء العدل بحيث لا يزاد في سيئاته، وعلى هذا فالأوفى يفسر بمعنى العدل، ويفسر بالزيادة والفضل، العدل في السيئة لا يمكن أن يزاد سيئة. والفضل في الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
{وأن إلى ربك المنتهى } هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى فتح الهمزة: {وأن إلى ربك المنتهى } والثانية كسر الهمزة {وإنَّ إلى ربك المنتهى } وكلاهما قراءتان صحيحتان سبعيتان، إذا قرأ الإنسان بإحداهما صح، بل الأولى للإنسان الذي يعرف القراءات أن يقرأ بهذه القراءة مرة، وبهذه القراءة مرة أخرى، لكن لا يقرأ على ملأ من الناس وسماع منهم، لأن العامة إذا سمعوك تقرأ على خلاف ما يقرأون فسيحصل بذلك مفسدة، إما أن يقولوا: إن هذا الرجل لا يعرف القرآن، وإما أن يتشككوا في القرآن، حيث يظن العامي أن القرآن يمكن أن يبدل أو يغير، لذلك ننصح إخواننا الذين أعطاهم الله تعالى علماً في القراءات أن لا يقرأوا إلا بالقراءة المعروفة عند العامة حتى لا يحصل اللبس، لكن فيما بينك وبين نفسك إذا كنت تدرك القراءة الثانية إدراكاً تامًّا فاقرأ بها أحياناً؛ لأن الكل كلام الله - عز وجل - فإذا كانت بالكسر: {وإنَّ إلى ربك المنتهى } صارت هذه الجملة وما بعدها ليست في {صحف إبراهيم وموسى } بل تكون استئنافية، وإذا كانت بالفتح صارت الجملة وما بعدها مما جاء في صحف إبراهيم وموسى، وعلى كلٌّ فهي كلام الله عز وجل. {وأن إلى ربك المنتهى } أي: المنتهى في أمور(16/32)
الدين والدنيا، فإلى الله المنتهى في مسائل العلم، فعندما تشكل علينا مسألة من مسائل العلم فننتهي إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً من عنده، إنما هو من عند الله - عز وجل - فيكون المنتهى إلى الله في الحكم بين الناس وفي الحكم للناس: {إلى ربك المنتهى } أي منتهى الخلائق أيضاً؛ لأن هذا الخلق الموجود الآن سوف يفنى وينتقل إلى خلق آخر، كما قال الله - عز وجل -: {أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في لبس من خلق جديد } والمنتهى على هذا التقدير هو يوم القيامة، فإلى الله المنتهى، وإلى الله المصير، فمنتهى أحوالنا وأحكامنا وجميع ما يصدر منا وعلينا إلى الله - عز وجل - وإذا كان إلى الله المنتهى، فإلى من تشكو إذا أصابك الضر؟ إلى الله - عز وجل - وإذا أردت النفع فتطلبه من الله عز وجل، لأنه المنتهى، وكم من إنسان انعقدت له أسباب الرزق وإذا هو يحرم منها في آخر لحظة، إذاً لا يجلب لك الخير إلا الله، ولا يمنع عنك الضرر إلا الله - عز وجل - فاجعله منتهاك في كل أمورك، {وأنه هو أضحك وأبكى } هل المراد حقيقة الضحك، أو المراد لازم ذلك وهو الفرح، وكذلك يقال في أبكى: هل المراد حقيقة البكاء، أو المراد الحزن، إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: الضحك الحقيقي، والضحك الحقيقي لا ينشأ إلا عن سرور، وأبكى البكاء الحقيقي، وهو لا يحصل إلا عن حزن، فالله تعالى أضحك في الدنيا وأبكى، وأضحك في الآخرة، وأبكى، والكفار في الدنيا يضحكون على المسلمين، وعلى المؤمنين {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } لكن هذا الضحك سيعقبه بكاء يوم القيامة {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } فالذي أضحك في الدنيا وأبكى، والذي أضحك في الآخرة وأبكى هو الله عز وجل، إذاً هو مقدر ما يكون به الضحك، ومقدر ما يكون به البكاء، وأتى بالأمرين وهما متقابلان، ليعلم بذلك أن الله(16/33)
سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو القادر على خلق الضدين، {وأنه هو أمات وأحيا} أي: أمات في الدنيا وأحيا في الدنيا، وأمات في الدنيا وأحيا في الآخرة، أمات وأحيا البشر، تجد هذا تنفخ فيه الروح اليوم، فيكون الله قد أحياه، والآخر تنزع روحه من بدنه ويكون الله قد أماته، وهكذا دواليك، هو الذي أمات وأحيا، وهناك أيضاً ميتة عامة وحياة عامة، أمات العالم في الدنيا، وأحياهم في الآخرة، فهو الذي خلق الموت، وهو الذي خلق الحياة، وهذان أيضاً متضادان، حياة وموت، كلها من عند الله - عز وجل -، لأن الله تعالى على كل شيء قدير، {وأنه خلق الزوجين الذكر والأُنثى من نطفة إذا تمنى}، الزوج بمعنى الصنف، ومثاله قوله تعالى: {وآخر من شكله أزواج } أي: أصناف، وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} ليس المراد زوجاتهم، بل المراد بأزواجهم، أي: أصنافهم، إذاً الزوجين يعني الصنفين، ثم بين هذين الزوجين فقال: {الذكر والأُنثى } من مادة واحدة، {نطفة} وهي المني {إذا تمنى} أي: تراق وتصب في رحم المرأة، فالله - عز وجل - خلق هذين الصنفين المختلفين خلقاً، والمختلفين مزاجاً، والمختلفين عقلاً، والمختلفين فكراً، خلقهما من شيء واحد من نطفة، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آخر سورة القيامة: {فجعل منه الزوجين الذكر والأُنثى أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى } الجواب: بلى، فالله تعالى خلق الزوجين من شيء واحد، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا - إذ إنه خلق صنفين مختلفين في كل الأحوال: في القوة البدنية والعقلية، والفكرية، والتنظيمية يختلف الذكر عن الأنثى، وبذلك نعرف ضلال أولئك القوم الذين يريدون أن يلحقوا المرأة بالرجل في أعمال تختص بالرجل، فإنهم سفهاء العقول، ضلال الأديان، فكيف يمكن أن نسوي بين صنفين، فرَّق الله بينهما خلقة وشرعاً، فهناك أحكام يطالب بها الرجل ولا تطالب بها المرأة، وأحكام تطالب بها المرأة ولا يطالب بها الرجل، وأما(16/34)
قدراً وخلقة فالأمر واضح، لكن هؤلاء الذين لم يوفقوا وسلب الله عقولهم وأضعف أديانهم يحاولون الآن أن يلحقوا النساء بالرجال، وهذه لا شك أنها فكرة خاطئة مخالفة للفطرة، ومخالفة للطبيعة كما أنها مخالفة للشريعة {وأن عليه النشأة الأُخرى } أي: على الله، وفي هذا دليل على أن الله أوجب على نفسه أن يبعث الناس، لأنه لو كان الناس يحيون ويموتون بلا إرجاع لكان هذا عبثاً محضاً؛ لأننا نعلم الآن أن الناس في الدنيا يختلفون في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والذكاء والعقل وغير ذلك، ولو كان الخلق هكذا فقط بدون إرجاع لكان هذا منافٍ للحكمة تماماً، لكن لابد من رجوع، ولهذا قال: {وأن عليه تصدى} وعلى تفيد الوجوب، فيكون الله أوجب على نفسه أن ينشأ الناس مرة أخرى، ولا مانع من أن الله يفرض على نفسه ما شاء، كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي: أوجب على نفسه الرحمة، كذلك هنا قال: {وأن عليه النشأة الأُخرى } أي أن الله أوجب على نفسه أن ينشىء الناس نشأة أخرى للجزاء، كل بحسب عمله، والنشأة الأخرى تفيد بأن هناك نشأة قبل وهي النشأة الأولى، وهي خلق الناس فابتداء خلق الناس من عند الله - عز وجل - وفي قوله: {الأُخرى } فائدة عظيمة وهي الإشارة إلى أن القادر على الأولى قادر على الآخرة، والنشأة الآخرة أهون من الأولى، كما قال الله عز وجل: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} والهين يختلف باعتبار ذاته لا باعتبار قدرة الله فإنها لا تختلف: كن. فيكون، سواء كان أعلى شيء أو أدنى شيء، لكن بالنسبة للمقدور عليه الإعادة أهون، أما بالنسبة لقدرة الله فكلها واحد، لأن المسألة لا تعدو أن يقول: كن. فيكون، وبهذا نعرف أن بعض المفسرين - رحمهم الله وعفا عنهم - قالوا في قوله: {وهو أهون عليه} (أي: وهو هين عليه) وهذا غلط، كيف يقول الله عن نفسه {وهو أهون عليه} ويقول: وهو هين، لكن نقول الهون له نسبتان: نسبة للمفعول، ونسبة للفاعل،(16/35)
بالنسبة للفاعل هما سواء، لأن كل شيء منهما يتكون بكلمة واحدة كن فيكون، وبالنسبة للمفعول يختلف لا شك أن الأول أشد من الثاني.
{وأنه هو أغنى} أي: أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فهو الذي أغنى من شاء من خلقه {وأقنى } قيل: المعنى أفقر؛ لأنها في مقابلة (أغنى) وقيل: أغنى بالكفاية، وأقنى بما زاد على الكفاية، فالله عز وجل بسط لعباده الرزق، فمنهم من أغناه عن غيره، ومنهم من أقناه، أي: جعل له قنية وهي الزائد عن الكفاية، والقاعدة: أن الكلمة إذا كانت تحتمل معنيين لا منافاة بينهما ولا مرجح لأحدهما على الآخر فإنها تحمل عليهما؛ لأنه أعم للمعنى، فالذي يغني هو الله عز وجل، والذي يقني هو الله عز وجل، وليست هذه الأصنام التي هي مناة والعزى، بل ذلك إلى الله عز وجل.
{وأنه هو رب الشعرى } أتى بضمير الفصل تأكيداً للجملة، و{رب الشعرى } أي: هو خالقها ومالكها ومدبرها، والشعرى هي النجم المضيء الذي يخرج في شدة الحر، ونص على هذا النجم؛ لأن بعض العرب كانوا يعبدونها ويعظمونها، فبين تبارك وتعالى أن الشعرى من جملة المخلوقات المربوبات وليست إلهاً، ولا تستحق أن تعبد، {وأنه} أي: الله - عز وجل - {أهلك عاداً الأُولى } وهم قوم هود، و(الأولى) وصف كاشف، وليس وصفاً مقيداً، يعني ليس هناك عاد أولى وعاد ثانية، بل هي واحدة، لكنها عاد قديمة سابقة، ولهذا وصفها بأنها الأولى أي: أنها القديمة السابقة وليس ثمة عاد أخرى، وهم قوم هود، وكان الله تعالى قد أعطاهم من القوة والنشاط وشدة البطش ما ليس لغيرهم، حتى إنهم قالوا من أشد منا قوة، قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون } فهؤلاء القوم يفتخرون بشدتهم وقوتهم فأهلكهم الله بألطف الأشياء، أهلكهم {بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} ابتدأت من بعد الفجر وانتهت(16/36)
عند الغروب فصارت الأيام ثمانية، والليالي سبعاً، {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } تحمل الإنسان إلى القمة ثم تقذف به على الأرض فصاروا {كأنهم أعجاز نخل خاوية } والعياذ بالله، فهؤلاء القوم مع شدة بطشهم وشدة بأسهم لم يمنعهم ذلك من عذاب الله - عز وجل - وقوله: {وثمود فما أبقى } أي: وأهلك ثموداً وما أبقاهم، وثمود هم أصحاب الحجر، أرسل الله إليهم صالحاً فكذبوه، وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة، وأعطاهم معرفة وعلماً بهندسة البناء، لكن مع ذلك ما دفعوا ما أراد الله بهم، صيح بهم ورجفت بهم الأرض {فأصبحوا في دارهم جاثمين } والعياذ بالله {وقوم نوح من قبل} يعني وأهلك قوم نوح من قبل بالغرق، كما قال الله تعالى عن نبيهم نوح {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} وفي قراءة {ففتَّحنا} مما يدل على الكثرة وشدة الانفتاح {أبواب السماء بماء منهمر } يعني نازل بشدة: {وفجرنا الأَرض عيوناً} الأرض كلها كانت عيوناً يعني ليس فيها موضع شبر إلا وهو يفور، حتى إن التنور الذي هو محل الإيقاد صار يفور مع أن محل الإيقاد أبعد ما يكون عن الرطوبة لكنه فار، فصارت الأرض كلها عيوناً والسماء تمطر، والتقى الماء، ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر، يعني أمر مقدر محدد بدون زيادة ولا نقص، فغرق القوم حتى بلغ الماء قمم الجبال، ويذكر أن امرأة كان معها صبي فكلما علا الماء صعدت الجبل، كلما علا الماء صعدت الجبل، حتى وصل الماء إلى قمة الجبل ووصل إلى المرأة وارتفع إلى جسدها، وكان معها صبي، فحملت الصبي على يديها ترفعه، لئلا يغرق قبلها، وجاء في الحديث: «لو رحم الله أحداً لرحم أم الصبي» () لكن إذا حقت كلمة الله فلا راد لقضاء الله تعالى، أجارني الله وإياكم من العذاب الأليم، وقوله: {إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } اختلف المفسرون في مرجع الضمير فقيل: إن الضمير يعود على قوم نوح فقط.
وقيل: إنه يعود على كل الأمم(16/37)
التي ذكرها الله - عز وجل - ممن أهلكهم.
فعلى القول الأول يكون المعنى أن قوم نوح أظلم وأطغى من قوم ثمود وعاد، ووجه ذلك أنهم حصل منهم عتو واستكبار مع طول المدة، حيث إن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يقول الله تبارك وتعالى عنه: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم} حتى لا يسمعوا {واستغشوا ثيابهم} تغطوا بها حتى لا يبصروا، وهذا يدل على شدة كراهتهم لما يدعوهم إليه عليه الصلاة والسلام، {واستكبروا استكباراً } أي: استكباراً عظيماً فلم يخضعوا لعبادة الله - عز وجل -، فكانوا أظلم وأطغى من عاد ومن ثمود.
وعلى القول الثاني: إن الضمير يعود على كل هؤلاء الأمم، يكون المعنى: أن هؤلاء كانوا أظلم وأطغى من قريش الذين كذبوك يا محمد، فيكون في هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أهلك هؤلاء القوم مع أنهم أظلم وأطغى من قومك، والذي أهلك من سبق قادر على أن يهلك من لحق، وكلا المعنيين صحيح، فهؤلاء الأمم أظلم وأطغى من قريش، وقوم نوح أظلم وأطغى من عاد وثمود، ثم قال - عز وجل -: {والمؤتفكة أهوى } أي: أسقط، والمؤتفكة هي قرى قوم لوط، وأهوى بمعنى أنزل، واختلف المفسرون في قوله {أهوى } هل المعنى أنه أهوى بها من فوق إلى أسفل بناءً على أن الله تعالى رفع هذه القرى إلى فوق ثم قلبها. أو أن المعنى أنه أهوى أسقطها، أي: أرسل عليها الحجارة حتى تهدم البناء فصار أعلى البناء أسفله، المهم أن الله تعالى أخبر عن قوم لوط بأنه أهواهم أي أسقطهم، سواء من الجو، أو من سقوط أعلى البناء على أسفله () {فغشاها} أي: غطاها، {ما غشى } مبهم للتعظيم والتفخيم، كقوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم } أي غشيهم شيء عظيم، فالإبهام أحياناً يراد به التعظيم والتهويل والتفخيم، كما في هذه الآية.
{فبأي آلاء ربك تتمارى } الاستفهام هنا(16/38)
للتوبيخ و{آلاء }: النعم، و{تتمارى } أي: تتشكك، أي: بأي نعم الله تتشكك أيها الإنسان، إذ إن الواجب أن الإنسان يقر بنعم الله ويشكر الله عليها، لا أن يتشكك، ويقول: هذا من عملي. هذا من كذا. هذا من كذا، كما كانت العرب تقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، يعني بالنجم وينسون الخالق - عز وجل - ثم قال - جل وعلا -: {هذا نذير من النذر الأُولى } المشار إليه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم {نذير} بمعنى منذر، والمنذر هو الذي يعلم بالشيء على وجه التخويف، لأن الإنذار هو إعلام بتخويف، والبشارة إعلام برجاء: {هذا نذير من النذر الأُولى } ولم يقل بشير؛ لأن المقام لا يقتضي إلا ذكر الإنذار، إذ إن الله تحدث من أول السورة إلى آخرها عن قريش، وتكذيبها للرسول صلى الله عليه وسلم وعبادتها للأصنام، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم {نذير من النذر الأُولى } أي: من الرسل السابقين، وكما أن الذين كذبوا الرسل حل بهم العقاب والنكال فأنتم أيها المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يحل بكم النكال والعقوبة، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم مثل غيره نذير من النذر، فإذا كان نذير من النذر فإن من كذبه سوف يقع به مثل ما وقع بالأمم السابقة {أزفت الآزفة } أي: قربت القيامة، ومنه قول الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
فالآزفة هي القيامة، لأن الساعة قريبة، كما قال الله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب } وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } فهي قريبة، ويدل لقربها أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمعناه أن الأمر قريب، وأما كون الله تعالى يذكر أن الأمر قريب وبيننا وبين نزول القرآن أربعة عشر قرناً، ونحن في القرن الخامس عشر، ومع ذلك يذكر الله - عز وجل - أن الساعة قريبة، ومن هنا نعرف أن عُمر الدنيا طويل وبعيد، ولكن هل نأخذ بقول هؤلاء الذين يتخرصون، ويقولون: عمر الدنيا(16/39)
الماضي كذا وكذا؟ والجواب: لا نأخذ بقولهم، ولا نصدقهم ولا نكذبهم، أحياناً يقولون: إنهم عثروا على آثار حيوان له كذا وكذا من ملايين السنين، أو على أحجار، فهذا لا نصدق ولا نكذب، لأنهم لا يعلمون الغيب الماضي، وإنما يقيسونه بحال الحاضر، أي يقيسون عمر هذا الأثر بحسب المؤثرات في الوقت الحاضر، لكن من يعلمنا أن المؤثرات في الوقت الحاضر هي المؤثرات في الوقت الماضي لا ندري، قد يتغير الطقس من حرارة إلى برودة، ومن برودة إلى حرارة، وقد تتغير الرياح والأمطار وغير ذلك، وما نقرأه أو نسمع به من علوم هؤلاء موقفنا نحوه أن لا نصدق ولا نكذب، أما في المستقبل فيجب أن نكذب كل من أخبر عن شيء مستقبل؛ لأنه يدعي الغيب، والله عز وجل يقول: {قل لا يعلم من في السماوات والأَرض الغيب إلا الله} فعليه: {أزفت الآزفة } أي قربت القيامة لكن هل يمكن أن نحدد مدى القرب؟ لا يمكن، ومن ادعى أنه يعلم أنه متى تقوم الساعة فإنه مكذب لله ورسوله، أما الله فقد قال تعالى: {يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإن جبريل لما سأله قال: «أخبرني عن الساعة؟» قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» () يعني إذا كنت تجهلها فأنا مثلك، فمن ادعى أن الساعة تقوم بعد مليون سنة، أو مائة ألف سنة، أو أقل، أو أكثر فإننا يجب علينا أن نكذبه، ونقول: إنه كافر، لأنه مكذب لله ورسوله. {ليس لها من دون الله كاشفة } لها معنيان: المعنى الأول: كاشفة يعني مانعة، يعني لا أحد يكشفها أي: يمنعها، كما في قوله: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}. والمعنى الثاني: كاشفة يعني عالمة تكشفها وتبينها، وعلى كل حال فلا أحد يمنع الساعة إذا شاء الله، ولا أحد اطلع على الساعة متى تكون.
{أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} الخطاب هنا(16/40)
للمكذبين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستفهام في قوله: {أفمن هذا الحديث} للإنكار والتعجب من هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالآيات البينات، وأخبر عن الأمم السابقة، وبيَّن أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نذير من النذر الأولى، ويخشى على من كذبه أن يناله من العذاب ما نال المكذبين للنذر الأولى، يقول الله - عز وجل -: {أفمن هذا الحديث تعجبون } أيها المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى {تعجبون } أي: ترونه عجباً منكراً، ولهذا قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً وحداً إن هذا لشيء عجاب } وقال الله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } فهم يتخذون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عجباً، والمراد عجب الإنكار والاستبعاد، {وتضحكون}: يعني استهزاء بهذا الحديث الذي هو القرآن، وكذلك يضحكون بشرائع هذا الحديث، حيث كانوا يضحكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباداته ويسخرون به، إذاً {تعجبون } إنكاراً {وتضحكون} استهزاء {ولا تبكون }، أي: لا تبكون من هذا الحديث خشية وخوفاً وإنابة إلى الله - عز وجل - بل هم أقسى الناس قلوباً ، - والعياذ بالله - أو من أقسى الناس قلوباً لا تلين قلوبهم ولا يبكون من خشية الله {وأنتم سامدون } أي: غافلون بما تمارسونه من اللغو والغناء وغير ذلك، لأن منهم من إذا سمعوا كلام الله - عز وجل - جعلوا يغنون، كما قال الله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون } فسامدون قيل: المعنى مغنون، وقيل: المعنى غافلون، والصواب أن المراد غافلون عنه بالغناء وغيره مما تتلهون به، حتى لا تسمعوا كلام الله - عز وجل -، وهذا نظير ما قاله المكذبون لأول رسول أرسل إلى بني آدم، حيث قال الله تبارك وتعالى عن قوم نوح: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم} حتى لا يسمعوا {واستغشوا(16/41)
ثيابهم} أي: تغطوا بها حتى لا يروا ولا يبصروا {وأصروا واستكبروا استكباراً } فما كان في أول أمة كان في آخر أمة، {فاسجدوا لله واعبدوا } اسجدوا لله خضوعاً وذلاًّ، والمراد بالسجود هنا الصلوات كلها، وليس الركن الخاص الذي هو السجود، وليس أيضاً سجود التلاوة بل هو عام في كل الصلوات، {واعبدوا }، هذا عام لكل العبادات، وخص الصلاة بالذكر وقدَّمها؛ لأنها أهم العبادات البدنية الظاهرة بعد الشهادتين، وعلى هذا فيكون العطف في قوله: {واعبدوا } على قوله {فاسجدوا} من باب عطف العام على الخاص كما أن قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} من باب عطف الخاص على العام، وبهذا انتهى الكلام الذي منَّ الله به في تفسير هذه السورة، سورة النجم، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم به.
---------------------------------------
(1)أخرجه البخاري، كتاب بدء االق، باب إذا قال أحدكم: آمين (رقم 3232) و(رقم 3235) ومسلم،كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {ولقد رآه نزلة أخرى} (رقم 177) (290).
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ? (162) 259.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى (173) 279.
(4) انظر تفسير الدر المنثور (7/643 652).
(5) انظر تفصيل ذلك في تفسير فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - لسورة يس.
(6)أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (401) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (572).
(7) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
(8) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم 79 (رقم 3502) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(9) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القعود في المسجد وانتظار الصلاة من الفضل (رقم 330) وقال: حديث حسن صحيح.
(10) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ...(16/42)
(رقم 233) (16).
(11) أخرجه البخاري، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها (1773) ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
(12) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (6070) ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول القاتل وإن كثر قتله (2768).
(13) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة البقرة (رقم 2955). وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(14) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم (1952) ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت (1147).
(15) أخرجه البخاري، كتاب الصيد، باب حج المرأة عن الرجل (رقم 1855) ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة أو هرم ونحوهما أو للموت (رقم 1334).
(16) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة (1388) ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (1004).
(17) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز (رقم 2756).
(18) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
(19) تقدم تخريجه ص 234.
(20) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/342) (2/547) وقال في الموضعين: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بقوله: إسناده مظلم، وموسى ليس بذاك. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/203) رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وغيره وضعفه ابن المديني وبقية رجاله ثقات.
(21) انظر وفقك الله تفسير فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى لسورة الصافات ص (289).
(22) تقدم في ص 62.(16/43)
تفسير سورة القمر
{بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها. {اقتربت الساعة وانشق القمر } اقتربت بمعنى قربت، لكن العلماء يقولون: إن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، وهنا اقتربت فيها زيادة المبنى على قربت، والزيادة: الهمزة والتاء، فيدل على أن القرب قريب جداً، فمعنى اقتربت أي قربت جداً، والساعة هي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى فيها: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً فقد جاء أشراطها} أي: علاماتها، ومن علاماتها بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام وكونه خاتم الأنبياء دليل على أنه قد قربت الساعة، ولهذا حقق النبي عليه الصلاة والسلام هذا بقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» () وقال بإصبعه الوسطى والسبابة، والسبابة قريبة من الوسطى ليس بينهما إلا جزء يسير مقدار الظفر، وهذا يدل على قربها، لكن مع ذلك كم بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ نحن في القرن الخامس عشر الهجري بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة، ومع ذلك مازالت الدنيا باقية مما يدل على أن ما مضى طويل جداً، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس قال: «إنه لم يبق من الدنيا - يعني بالنسبة لمن سبقكم - إلا كما بقي من يومكم هذا» () , { وانشق القمر } كأن الله أشار إلى أن هذا من أشراط الساعة، {وانشق القمر } والمعنى أنه صار فرقتين تميز بعضهما عن بعض، أحدهماعلى جبل أبي قبيس، والثانية على جبل قعيقعان يعني فلقة على الصفا وفلقة على المروة، والمسافة السماوية في رؤيا العين ما بين الصفا والمروة بعيدة جداً، قد تستغرق سنوات، انشق القمر بلحظة بأمر الله - عز وجل - وتباعدت أجزاؤه بلحظة، لأن قريشاً كانوا يتحدون الرسول عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه الآيات، وقد قال الله ردًّا عليهم: {قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب(17/1)
يتلى عليهم} لكن لم يكفهم، لأنهم معاندون لا يريدون الحق، أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا: يا محمد أنت تقول إنك رسول، وإنك يأتيك الخبر من السماء وكذا وكذا فأرنا آية، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ودعا ربه فانفلق فرقتين بلحظة () ، ومن يفلق هذا الجسم العظيم الأفقي العالي إلا رب العالمين - عز وجل -؟! أراهم إياه، ولكن لم ينفعهم، وقالوا: سحرنا محمد، وبعضهم قال: سحر القمر، وأنكروا، فقال بعضهم لبعض: اسألوا المسافرين إذا قدموا هل رأوه أم لا؟ فصاروا يسألون المسافرين من كل وجه: هل رأوه أم لا؟ فيقولون: نعم، رأيناه في الليلة الفلانية كذا وكذا، وهذا بالنسبة للقريبين منهم كأهل الجزيرة مثلاً، أما البعيدون فقد لا يرونه، وكما نعلم الآن أن الليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، أو لوجود غيوم وضباب كثير يمنع الرؤيا؛ ولهذا لا يمكن أبداً لأي عاقل أن ينكر انشقاق القمر انشقاقاً حسيًّا، لأنه لم يذكر في تاريخ اليونان، ولم يذكر في تاريخ الهند ولم يذكر في كذا وكذا، هذا ليس حجة يبطل به ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من أن القمر انشق فعلاً انشقاقاً حسيًّا، ونحن نؤمن بأن القادر على أن يطوي السماوات بيمينه كطي السجل للكتب، قادر على أن يفرق القمر فرقتين، ولا شيء يعجزه، {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً } ولهذا لا وجه لإنكار من أنكر ذلك ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويقولون: إن الأفلاك السماوية لا يمكن أن تتغير، نقول: الله أكبر، مَن الذي خلق الأفلاك السماوية أليس الله؟ بلى، إذن هو قادر على أن يغيرها {إنما أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }، فانشقاق القمر انشقاق حسي، انفلق فرقتين، ورآه الناس وشاهدوه، ولكن المكابر المعاند لا يقبل شيئاً، ولهذا قال: {وإن يروا آيةً يعرضوا} {آيةً} نكرة في سياق الشرط، أي آية يرونها يعرضون عنها ولا يقبلونها، ويجمعون بين(17/2)
الإعراض وبين الإنكار باللسان، {يعرضوا} أي: بقلوبهم وأبدانهم، ويقولوا بألسنتهم: {سحر مستمر }، أي: هذا سحر، والسحر لا يؤثر في قلب الأعيان، ولكن يؤثر في رؤية الأعيان، والدليل أن موسى عليه الصلاة والسلام لما ألقى السحرة سحرهم، كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى حية، وانقلب الوادي كله حيات تسعى، حتى إن موسى أوجس في نفسه خيفة من هول ما رأى، لكن هذه الحبال والعصي لم تنقلب إلى حيات، لكن حسب نظر الرائي أنها حيات، فهم يقولون: سحرنا محمد حتى كانت أعيننا ترى القمر وهو واحد تراه فرقتين {ويقولوا سحر مستمر } مستمر، قيل: إن المعنى زائل ذاهب من مر بالشيء إذا تجاوزه، يقولون: هذا سحر ولن يستقر ولا قرار له، وقيل: مستمر يعني أن كل الآيات التي يأتي بها سحر، أي مستمر من مرار الشيء ودوام الشيء، وأيًّا كان فإنهم أنكروا وكذبوا، ولهذا قال تعالى: {وكذبوا}، أي: كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا بآياته، {واتبعوا أهواءهم } أي: ما يريدون من الباطل {وكل أمر مستقر }، أي: كل أمر لابد له من قرار، فهؤلاء المكذبون قرارهم الذل والخسران في الدنيا، والنار في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أمرهم مستقر بالنصر والتأييد في الدنيا، والجنة في الآخرة، جعلنا الله منهم.
{ولقد جاءهم من الأَنباء ما فيه مزدجر } هذه الجملة فيها اللام وقد، وهما من أدوات التوكيد، وفيها قسم مقدر دلت عليه اللام في قوله: {ولقد جاءهم}، وعليه فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، القسم واللام وقد، والله سبحانه وتعالى صادق بغير توكيد لخبره، لكن هذا القرآن بلسان عربي مبين، واللسان العربي من بلاغته تأكيد الأشياء الهامة حتى تثبت وترسخ في الذهن، {ولقد جاءهم} أي: قريشاً جاءهم من الأنباء التي فيها رشدهم وصلاحهم وفلاحهم {ما فيه مزدجر } أي: ازدجار عن الشرك والعصيان، ولكنهم لم ينتفعوا بذلك. {حكمة بالغة} يعني أن الأنباء التي جاءتهم حكمة، وهذا(17/3)
كقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} والحكمة هي تنزيل الشيء منزلته اللائقة به، ولا شك أن شريعة الله حكمة كلها ومطابقة لما فيه صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، وقوله: {بالغة} أي: تامة واصلة إلى الغرض المقصود منها {فما تغني النذر } (ما) يحتمل أن تكون نافية، يعني أن النذر لا تغنيهم شيئاً، ويحتمل أن تكون استفهاماً على وجه التوبيخ، يعني فأي شيء تغنيهم، وكلاهما صحيح، فالنذر لم تغنهم شيئاً، وإذا لم تغنهم هذه النذر المشتملة على حكمة بالغة فأي شيء يغنيهم؟ الجواب: لا شيء، لأنهم معاندون مستكبرون، لهذا قال - عز وجل -: {فتول عنهم}، الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تول عن هؤلاء؛ لأنهم معاندون مستكبرون، سوف يأتيهم ما وُعدوا به، وسوف يتحقق لك ما وُعدت به، ويحسن أن يقف القارىء على قوله: {فتول عنهم} ثم يستأنف ويقول: {يوم يدعو الداع إلى شيء نكر }، لأن القارىء لو وصل لأوهم أن التولي يكون يوم يدع الداع، ومعلوم أن التولي في الدنيا وليس يوم يدع الداع، وقوله: {يوم يدعو الداع} ظرف، والظرف لابد له من عامل، كالجار والمجرور، لابد له من عامل، وكجميع المفعولات لابد لها من عامل، فما هو العامل؟ العامل قوله: يخرجون {خشعاً أبصرهم يخرجون} فهي متعلقة بـ(يخرجون) أي: سوف يأتيهم العذاب في ذلك الوقت يوم {يخرجون من الأَجداث كأنهم جراد منتشر } وقوله: { يوم يدعو الداع إلى شيء نكر } هو داعي يوم القيامة {إلى شيء نكر} أي: منكر عظيم لشدة أهواله، فإنه لا شيء أنكر على النفوس من ذلك اليوم؛ لأنهم لم يشاهدوا له نظيراً {خشعاً أبصارهم} يعني أن أبصارهم خاشعة ذليلة، كما قال الله - عز وجل -: {ينظرون من طرف خفي} هم الآن مستكبرون رافعو رؤوسهم، يرون أن الناس تحتهم، وأنهم فوق الناس، لكن سيأتي اليوم الذي يكونون بالعكس {خشعاً أبصرهم يخرجون من الأَجداث كأنهم جراد منتشر }، الأجداث هي القبور، والجراد المنتشر هو المنبث في الأرض(17/4)
الذي لا يدري أين وجهه ليس له طريق قائمة، لا يعرف كيف ينتهي، ولكنهم منتشرون، وهذا من أدق التشبيهات، لأن الجراد المنتشر تجده يذهب يميناً ويساراً لا يدري أين يذهب، فهم سيخرجون من الأجداث على هذا الوجه، بينما هم في الدنيا لهم قائد، ولهم أمير، ولهم موجِّه يعرفون طريقهم، وإن كان طريقاً فاسداً {مهطعين إلى الداع} يعني أنهم مسرعون خاضعو الأعناق، كالرجل إذا أسرع وركض تجده يقدم رأسه يخضعه، فهم يخرجون من الأجداث مهطعين إلى الداعي، أي مسرعين خافضو رؤوسهم من الفزع والهول والشدة {يقول الكافرون هذا يوم عسر} وتأمل قوله: {يقول الكافرون }ولم يقل: يقول الناس، لأن هذا اليوم العسر لا شك أنه في حد ذاته عسر شديد عظيم ولكنه على الكافرين عسير، وعلى المؤمنين يسير، كما قال الله تبارك وتعالى: {وكان يوماً على الكافرين عسيراً } وقال تعالى: {على الكافرين غير يسير } وأما على المؤمنين فهو يسير، ولله الحمد جعلنا الله منهم.
ثم بدأ الله - عز وجل - بقصص الأنبياء على وجه مختصر في هذه السورة، لكنه مؤثر تأثيراً بالغاً، لو قرأتها بتمهل وتدبر لوجدت أنها مؤثرة جدًّا، كلمات مختصرة لكنها رادعة تماماً {كذبت قبلهم قوم نوح} ونوح هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بدلالة القرآن والسنة، قال الله تبارك وتعالى: {إنا أوحينآ إليك كما أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده} وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} وبهذا نعرف أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن إدريس هو الجد لنوح، كذب لا شك فيه، وليس قبل نوح رسول وفي حديث الشفاعة التصريح بأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض () ، ولذلك كان من عقيدتنا أن أول الرسل نوح، وأن آخر الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، {كذبت قبلهم قوم نوح} لم يفصل الله عز وجل هذا التكذيب، لكنه أنزل في ذلك سورة تامة وهي سورة نوح، فصل الله فيها تفصيلاً تامًّا في تكذيبهم(17/5)
وأخذهم، {فكذبوا عبدنا} وهو نوح وصفه الله بالعبودية، لأن العبودية أشرف ألقاب البشر، وهي التذلل لله بالطاعة والإنابة والتوكل وغير ذلك، والعبودية من حيث هي ثلاثة أنواع:
عبودية عامة: تشمل جميع الخلق، وهي التذلل للأمر الكوني كقوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً }. أي: ما كل من في السموات والأرض إلا هذه حاله: أنه آتي الرحمن عبداً، وهذه العبودية للأمر الكوني، لأن أمر الله عز وجل الكوني لا يمكن لأحد أن يفر منه، مهما كانت قوته.
النوع الثاني: العبودية الخاصة بالمؤمنين: مثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأَرض هوناً} فهذه عامة لكل مؤمن.
الثالث: العبودية الخاصة بالأنبياء: وهذه مثل قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً}. {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده }. {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}. ومن ذلك هذه الآية: {فكذبوا عبدنا }.
وقد لبث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، لكنهم كلما دعاهم إلى الله ليغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قوله، واستغشوا ثيابهم حتى لا يروه، ولا أبلغ من هذا الاستكبار أن يضع الإنسان يده في أذنيه حتى لا يسمع قول الداعي، وأن يستغشي ثوبه فيتغطى به حتى لا يراه {وقالوا مجنون} المجنون فاقد العقل الذي يهذي بما لا يدري قالوا: إنه مجنون، وهذه القولة قيلت لكل الرسل، قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } و(أو) هنا إما للتنويع يعني بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: مجنون، أو أنها للتنويع يعني بمعنى أن بعض المكذبين يقول ساحر، وبعضهم يقول: مجنون، أو أنهم يقولون هذا وهذا. {وازدجر } أي: زجر زجراً شديداً، والزجر هو النهر بشدة وعنف، والدال هنا منقلبة عن تاء، وقد قال العلماء: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمعنى: أنه زجرٌ شديدٌ، وقوله:(17/6)
{وازدجر } ينبغي ألا توصل بما قبلها، لأنك لو وصلت وقلت: {وقالوا مجنون وازدجر } لتوهَّم السامع أنهم يقولون مجنون وازدجر، يعني زجره غيرنا، لكن المعنى خلاف ذلك، المعنى كذبوا وازدجروه، فإذن الأولَى أن تقف على قوله، {وقالوا مجنون} ثم تصل وتقول: {وازدجر } فيكون هنا لم يقتصر هؤلاء المكذبون على أن كذبوا بل كذبوا وزجروا وتوعدوا وسخروا، ولما طال الأمد {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } الله أكبر، كلمتان {أني مغلوب فانتصر } ولقد دعا أهلاً للإجابة - جل وعلا - فأجاب الله قال: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر }، وفي قراءة (فتَّحْنَا) وكلاهما حق، وينبغي لمن علم القراءة الأخرى أن يقرأ بهذه تارة وهذه تارة، بشرط ألا يكون ذلك بحضرة العوام، لأن العوام لا ينبغي أن تقرأ عليهم قراءة خارجة عن المصحف الذي بأيديهم فتحدث لهم تشويشاً، وربما تهبط منزلة القرآن في نفوسهم، أو ينسبوك إلى الغلط والتحريف، لكن عند طلبة العلم وعند التعليم، أو بينك وبين نفسك ينبغي أن تقرأ بالقراءات الثابتة مرة بهذه ومرة بهذه، كما نقول هذا أيضاً في العبادات المتنوعة تفعل هذه مرة وهذه مرة، كالاستفتاحات ونحوها {ففتحنا أبواب السماء} كل باب في السماء انفتح {بماء منهمر } أي: منصب صبًّا شديداً، فكان كأفواه القرب، ليس كالذرات المعروفة، بل أشد، {وفجرنا الأَرض عيوناً}، أي عيوناً من المياه، وتأمل قوله تعالى: {وفجرنا الأَرض عيوناً} ولم يقل فجرنا عيون الأرض، كأن الأرض كلها كانت عيوناً متفجرة، حتى التنور الذي هو أبعد ما يكون عن الماء لحرارته ويبوسته صار يفور، كما قال الله - عز وجل -: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} وفي هذا من الدلالة على قدرة الله تبارك وتعالى ما لا يخفى، وأن هذه الفيضانات التي تحدث إنما تحدث بأمر الله - عز وجل -، وليست كما قال الطبيعيون: إنها من الطبيعة، يقولون: هاجت الطبيعة، غضبت الطبيعة، وما أشبه ذلك نسأل الله العافية، بل هي(17/7)
بأمر من يقول للشيء كن فيكون، {فالتقى الماء على أمر قد قدر } هنا ماءان: ماء نازل من السماء دل عليه قوله: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } وماء من الأرض نابع دل عليه قوله:{وفجرنا الأَرض عيوناً} فلماذا لم يقل فالتقى الماءان، لأن المراد ماء السماء وماء الأرض؟ قال العلماء: إنه أراد الجنس، لأن الجنس هنا واحد، ماء الأرض وماء السماء، أو يقال: لأنه لما كان المقصود بهذين الماءين شيئاً واحداً وهو عذابهم صح إفراده {على أمر قد قدر } أي: على شيء قد قضاه الله تعالى وقدره في الأزل، فإنه ما من شيء يحدث إلا وهو مكتوب، قال الله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } يعني من أعمال بني آدم، ومما يقع في الأرض كل شيء محصى، ولهذا قال {على أمر قد قدر}.
{وحملناه على ذات ألواح ودسر } أي: حملنا نوحاً وأهله إلا من سبق عليه القول منهم، وأمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، حمله الله على ذات ألواح ودسر، يعني على سفينة ذات ألواح ودسر، وكان نوح عليه الصلاة والسلام يصنعها، فيمر به قومه ويسخرون منه قال الله عز وجل: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} وهذه السفينة وصفها الله بأنها ذات ألواح، وألواح جمع منكر يدل على شيئين: الشيء الأول كثرة ألواحها، والثاني: عظمة هذه الألواح، ومتانتها، وحق لسفينة تحمل البشر على ظهرها أن تكون ذات ألواح عظيمة {ودسر } أي: مسامير، وقيل: إن الدسر ما تربط به الأخشاب فيكون أعم من المسامير، لأن الأخشاب قد تربط بالمسامير وقد تربط بالحبال، فالمهم أن توثيق هذه الألواح بعضها ببعض كان قويًّا، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى مادة صنع السفينة، وأنها من الأخشاب والمسامير، أو الروابط التي تربط بين تلك الأخشاب؛ ليكون ذلك تعليماً للبشر أن يصنعوا(17/8)
السفن على هذا النحو، {تجري} أي: تسير على هذا الماء العظيم الذي بلغ قمم الجبال، والتقى فيه ماء الأرض وماء السماء، {بأعيننا} أي: ونحن نراها بأعيننا، ونكلأها ونحفظها، والباء في قوله: {بأعيننا} للمصاحبة يعني أن عين الله - عز وجل - تصحب هذه السفينة، فيراها الله - عز وجل - ويكلأها ويحفظها، لأنها سفينة بنيت لتقوى الله - عز وجل - وإنجاء أولياءه من الغرق، الذي شمل أعداءه {جزاءً لمن كان كفر} أي: مكافأة لمن كان كُفِر به وهو نوح عليه الصلاة والسلام - لأن قومه كفروا به وكذبوه - فبين الله - عز وجل - أن إنجاء نوح بهذه السفينة كان جزاء له، والله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين أكثر من إحسانهم {ولقد تركناها آيةً} الضمير (هاء) اختلف فيها المفسرون هل المعنى: ولقد تركنا هذه القصة - وهي قصة نوح - وإغراق قومه، أبقيناها آية لمن يأتي بعدهم، الوجه الثاني: ولقد تركناها، أي: السفينة، والمراد الجنس، أي جنس هذه السفينة أبقيناها آية لمن بعد نوح، وكلا الأمرين محتمل، والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي بعضهما الآخر، وليس أحدهما بأرجح من الآخر، فإنها تحمل على المعنيين جميعاً، فنقول: إن الله ترك القصة آية وعبرة لمن يأتي بعد نوح، وترك السفينة آية وعبرة يصنع مثلها من يأتي بعده، ويدل لهذا القول وأنه غير ممتنع، أن الضمائر أحياناً تعود إلى الجنس لا إلى الفرد، نظير قول الله تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين} {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } المراد بالإنسان آدم، {ثم جعلناه نطفةً} ليس آدم هو الذي جعل نطفة في قرار مكين، بل الإنسان الذي هو جنس آدم، وهم بنو آدم، ومثل ذلك عند بعض العلماء قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير } ليست المصابيح التي في السماء هي التي ترجم الشياطين، ولكنها شهب تخرج(17/9)
منها فترجم الشياطين.
{فهل من مدكر } الاستفهام هنا للتشويق، يعني هل أحد يدَّكر ويتعظ بما جرى للمكذبين للرسل من إهلاكهم وتدميرهم، وقيل: إن الاستفهام للأمر، وأن المعنى فادكروا، وسواء قلنا للتشويق أو للأمر، فإن الواجب علينا أن نتذكر وأن نخشى من عقاب الله تبارك وتعالى، وعقاب الله تعالى لهذه الأمة خاصة لا يمكن أن يشملهم جميعاً، لكن قد يشمل مناطق معينة تؤخذ بالعذاب بما فعل السفهاء منهم، كما قال الله تعالى: {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } {فكيف كان عذابي ونذر } كيف هنا للتفخيم والتعجب، يعني: ما أعظم العذاب والنذر! وقيل: إن الاستفهام للتقرير، يعني أن الله يقررنا بالعذاب وبالنذر، لكن المعنى الأول أقرب للتفخيم والتعظيم، أي ما أعظم عذابي النازل بأعدائي، وما أعظم نذري التي تنذر وتخوف من العقاب أن ينزل بمن خالف، فهذا العذاب الذي حصل لقوم نوح عذاب يعتبر من النذر المخوفة لنا من مخالفة أمر الله ورسوله، {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر } يعني سهلنا، والقرآن هو كتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وسمي قرآناً، لأنه يقرأ أي يتلى، وقوله {للذكر}، قال بعضهم: للحفظ، وأن القرآن ميسر لمن أراد أن يحفظه، وقيل: يسر معانيه لمن تدبر، ويسر ألفاظه لمن حفظ، وقيل المراد بالذكر الادكار والاتعاظ، يعني أن من قرأ القرآن ليتذكر به ويتعظ به سهل عليه ذلك واتعظ وانتفع، وهذا المعنى أقرب للصواب بدليل قوله: {فهل من مدكر } يعني: هل أحد يدكر، مع أن الله سهل القرآن للذكر، أفلا يليق بنا وقد سهل الله القرآن للذكر أن نتعظ ونتذكر؟ بلى هذا هو اللائق، فهل من مدكر. {كذبت عاد} هذه هي الأمة الثانية ممن قصهم الله علينا في هذه السورة الكريمة، وعاد تتلوا قوم نوح غالباً، وقد تتقدم عليها كما في سورة (الذاريات)، ولكن الغالب أن قصة نوح هي الأولى في قصص الأنبياء لأنه أول نبي(17/10)
أرسل إلى أهل الأرض، وعاد هم قوم هود، كما قال تعالى: {ألا بعدًا لعاد قوم هود } كذبوا نبيهم هوداً عليه الصلاة والسلام، وكانوا أقوياء أشداء، وكانوا يفتخرون بشدتهم وقوتهم، ويقولون: {من أشد منا قوةً}، قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} يقول هنا {كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر }، والجواب: كان شديداً عظيماً واقعاً موقعه، فالاستفهام للتفخيم والتعظيم والتقرير، وهو أن عذاب الله كان عظيماً، وكان واقعاً موقعه، {ونذر } يعني: آياته، كذلك كانت عظيمة واقعة موقعها، فبماذا أهلكهم الله؟ أهلكهم الله بألطف شيء وهو الريح التي تملأ الآفاق، ومع ذلك لا يحس الإنسان بها، لأنها سهلة لينة يخترقها الإنسان بسهولة، مكاننا الذي نحن فيه مملوء بالهواء ومع ذلك نخترقه ولا نحس به، فهي من ألطف الأشياء، فأهلك الله عاداً الذين يفتخرون بقوتهم بهذه الريح، {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر} الجملة هنا مؤكدة بإن و{أرسلنا} يعني الرب - عز وجل - نفسه، وجمع الضمير للتعظيم {عليهم}، أي على عاد {ريحاً صرصراً}، أي: ذات صرير لقوتها وشدتها، حتى إن مجرد نفوذها يسمع له صرير، وإن لم تصطدم بما يقتضي الصرير، لأنها قوية جداً، وهي الريح الغربية، أتت من جهة الغرب لعاد، فقالوا: هذا عارض ممطرنا. وكانوا قد أجدبوا قبل ذلك سنوات، فلما أقبلت بسوادها وعظمتها وزمجرتها قالوا: هذا عارض ممطرنا، ولكن الأمر كان بالعكس، كانت ريحاً فيها عذاب أليم، كانت ريحاً عقيمة ليس فيها مطر، ولا يرجى أن يأتي منها مطر، {في يوم نحس مستمر }، أي: في يوم شؤم مستمر بالنسبة لعاد، وليس كل وقت، فاليوم الذي أهلكوا فيه ليس هو نفسه نحساً مستمر، ولكنه بالنسبة لهؤلاء كان يوم نحس مستمراً، كما قال الله تعالى عن قوم نوح: {أغرقوا فأدخلوا ناراً} هؤلاء أهلكوا بالريح فأدخلوا النار، فالنحس أي(17/11)
الشؤم كان مستمراً معهم، فعذاب الآخرة متصل بعذاب الدنيا {تنزع الناس} أي: تأخذهم بشدة وقوة وترفعهم إلى السماء - نسأل الله العافية - حتى قال بعضهم: ترفعهم حتى يغيب الإنسان عن الرؤية من علوه، ثم تطرحه في الأرض، وإذا سقطوا على الأرض سقطوا على أم رؤوسهم ثم انفصل الرأس عن الجسد من شدة الصدمة، تنزع الناس {كأنهم} في حال سقوطهم الأرض {أعجاز نخل منقعر }، أعجاز أي أصول، والنخل معروف، والمنقعر الساقط من أصله، يعني كأنهم نخل سقط من أصله بقيت جثته، وصاروا كأعواد النخل؛ لأنه ليس لهم رؤوس على ما قال المفسرون، حيث إن رؤوسهم انفصلت من شدة الصدمة، فسبحان القوي العزيز، هؤلاء القوم الأشداء الأقوياء وصلوا إلى هذه الحال بريح من عند الله - عز وجل - تنزع الناس: {كأنهم أعجاز نخل منقعر}.
وهنا قال الله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل منقعر }، وفي الحاقة قال تعالى: {كأنهم أعجاز نخل خاوية }، والمعنى متقارب، لكن من بلاغة القرآن أن يجري الكلام فيه على نسق واحد، فهناك {كأنهم أعجاز نخل خاوية } مناسب للفواصل التي في الحاقة، أما هنا {كأنهم أعجاز نخل منقعر } مناسب للفواصل التي في سورة القمر، لأن تناسب الكلام واتساقه من كمال بلاغته {فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر}، كرر الله تعالى هذا عند آخر كل قصة من أجل أن نحرص على التذكر بالقرآن، وتدبر القرآن، وتفهم القرآن؛ لأنه ميسر، والجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاثة: القسم، واللام، وقد، مما يدل على الترغيب في تذكر القرآن والتذكر به، فهل من مدكر، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المدكرين بكتاب الله - عز وجل -.
{كذبت ثمود بالنذر } أي: بما جاءهم من النذر، وهي الآيات التي جاء بها صالح عليه الصلاة والسلام، وديارهم معروفة الآن ببلاد الحجر في طريق تبوك من المدينة، وكان صالح عليه الصلاة والسلام أُرسل إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كسائر الأنبياء،(17/12)
قال الله تعالى: {ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} أرسله الله عز وجل إلى قومه، وأعطاه آية وهي ناقة لها شرب ولهم شرب، أي أن بئر الناقة الكبير الغزير الماء، وقد ذكروا أنها إذا شربت إناء من الماء فإن الذي يسقيها إناء من الماء يحلب من لبنها بقدر ما أسقاها، وهذا من آيات الله أن ناقة تشرب ماء ثم تخرجه في الحال لبناً، فإن هذا ليس له عادة، ولكنها آية من آيات الله - عز وجل - أراهم الله تبارك وتعالى إياها حتى يعتبروا، لأن الله لم يرسل رسولاً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، رحمة منه وحكمة، لأنه لا يعقل أن رجلاً من بين الناس يأتي ويقول: إني رسول الله إليكم. إلا إذا أتاه الله آيات تدل على صدقه. قال العلماء: وما من آية أوتيها نبي من أنبياء الله السابقين إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثلها أو أشد، ولكن قد تكون غير متوفرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها موجودة في أمته الذين اتبعوه، ولهذا كان من القواعد المقررة عند العلماء. (أن كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه)، لأن هذه الكرامة تشهد بصدق ما كان عليه الولي، وهذا الولي تابع لرسول سابق، فيكون في ذلك آية على أن هذا الشرع الذي عليه هذا الولي حق، وهذه تكون آية للنبي، وعليه فنقول: من آيات موسى أنه يضرب الحجر، وإذا ضربه انفجر عيوناً، تنبع ماء من حجر يابس، فهل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؟ الجواب: كان له أعظم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بقدح من ماء وليس مع الناس ماء إلا ما في هذه الركوة فوضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع يده كالعيون () ، سبحان الله، وهذا أعظم من آية موسى، لأن آية موسى يخرج الماء من الحجر، وخروج الماء من الحجر(17/13)
معتاد، كما قال تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأَنهار} لكن لم تجر العادة أن يخرج الماء من الإناء الذي بينه وبين الأرض فاصل إذن هذه أعظم، وموسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر فانفلق فكان أسواقاً يابسة، وهذه لا شك آية عظيمة، وجرى لهذه الأمة أعظم من هذه، مشوا على الماء دون أن يضرب لهم طريق يبس، مشوا على الماء المائع الهين الذي يغوص فيه من يقع فيه، مشوا بدوابهم وأرجلهم ولم يغرقوا، وذلك في قصة العلاء بن الحضرمي () ، وفي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، مشوا على الماء، وهذا أعظم من أن يمشوا على الأرض التي تفرق عنها الماء، وآية صالح عليه السلام هذه الناقة لها شرب ولثمود شرب، لها يوم ولهؤلاء يوم، وقد وقع مثلها لرسول الله عليه الصلاة والسلام في الهجرة، فإنه مر براعي غنم وعنده ماعز أو ضأن ليس فيها لبن، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها فجعلت تبش من اللبن () ، فالمهم أنه ما من نبي بعثه الله إلا أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، قلنا: هذا رحمة وحكمة: رحمة بالناس من أجل أن تحملهم هذه الآيات على التصديق فينجو من عذاب الله، وحكمة، لأنه ليس من الحكمة أن يقوم إنسان من بين الناس ويقول: أنا رسول الله. حتى يؤتى آيات. يقول عز وجل: {كذبت ثمود بالنذر } النذر جمع نذير، والمراد به الآيات التي أوتيها صالح عليه الصلاة والسلام، فقالوا من جملة ما قالوا في تكذيبهم {أبشراً منا واحداً نتبعه} أنكروا الآيات وما كأنها أتت، يعني أنتبع بشراً منا واحداً، لا نقبل، وهذا النفي بمعنى الإنكار، يعني لا يمكن أن نتبع واحداً منا {إنا إذاً لفي ضلال وسعر } يعني إنا إن اتبعناه لفي ضلال وسعر، أي لفي جهل وفي عذاب، كأنه وعدهم بأنهم إن اتبعوه اهتدوا ونجوا من النار، فقالوا بالعكس: لو اتبعناه لضللنا واحترقنا بالسعر بالنار، عكس ما قال، وهذا من أشد المراغمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، والمحادة لله تبارك وتعالى،(17/14)
{أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر } هذا أيضاً استفهام احتقار، يعني كيف يلقى الذكر عليه من بيننا، ما الذي ميزه، وكل ما ذكروا شبهات، لا دلالات، فكونه بشراً لا يمنع أن يكون رسولاً، بل لابد أن يكون رسول البشر بشراً، لأن الله قال: {وقالوا لولآ أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأَمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} يعني لو أرسلنا ملكاً للزم أن نجلعه في صورة البشر حتى يمكن أن يختلط بالناس ويأتلف بهم، وإذا جعلنا الملك بشراً لبسنا عليهم ما يلبسون، فعادت المسألة مختلطة. الشبهة الثانية: أنه منا لا يتميز علينا بشيء، الثالثة: أنه واحد لم يؤيد، والله عز وجل يقول: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون} وهؤلاء يقولون: واحد لابد يعزز بثانٍ وثالث، الرابعة: أألقي الذكر عليه من بيننا؟ يعني كيف يلقى عليه الذكر والوحي من بيننا؟ هذا لا يمكن، أربع شبهات وهم يرونها حججاً توجب رد صالح عليه الصلاة والسلام، والواقع إنها ليست بحجج، بل هي شبه وتضليل، وهكذا المبطلون في كل زمان ومكان يوردون الشبه على الحق، ولكن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبين الحق، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة، ثم قالوا: {بل هو كذاب أشر } {بل} هنا لإبطال دعواه أنه حق {كذاب} صيغة مبالغة وفي نفس الوقت وصف، لأن كلمة فعال تأتي للمبالغة وتأتي للوصف، فإذا قلت: فلان نجار، يعني من النجارين، وإن لم ينجر إلا مرة واحدة، وإذا قلت فلان نجار لكثرة النجارة صارت مبالغة، فهم يرون - والعياذ بالله - أنه كذاب موصوف بالكذب، ليس له صفة إلا الكذب، وكثير الكذب أيضاً {أشر} أي: بطر متعال، متعاظم مستكبر، مدعٍ ما ليس له، قال الله تعالى: {سيعلمون غداً من الكذاب الأَشر} سيعلمون غداً أي: يوم القيامة، والسين هنا للتحقيق والتقريب، لأنك إذا قلت سيقوم زيد(17/15)
فهذا تأكيد وتقريب أيضاً، فإذا قال قائل: التقرير معروف أن الساعة آتية لا ريب فيها، لكن كيف التقريب؟ قلنا: إن الله يقول: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } ومن الأمثال العابرة (كل آت قريب)، والذي بقي عليه ألف سنة أقرب من الذي لم يمض عليه إلا عشر دقائق، لأن الذي مضى عليه عشر دقائق لا يمكن أن يرجع، لكن المستقبل لابد أن يأتي، {إن ما توعدون لآت} وسمي يوم القيامة غداً لأنه يأتي بعد يومه، {سيعلمون غداً من الكذاب الأَشر }، أصالح هو أم هؤلاء الكذاب الأشر، وهذا وعيد عظيم، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } والإنسان في غفلة عن هذا اليوم العظيم، قال الله تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} يعني من عمل الآخرة، {في غمرة} مغطاة عن عمل الآخرة، {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } يعني أعمال الدنيا هم لها عاملون، وأتى بجملة اسمية يعني أنهم محققون للعمل فيها لا يتركونها ولا يفرطون فيها، وأما الآخرة فهم في غفلة منها {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم} {إنا} يعني نفسه - جل وعلا - وأتى بصيغة الجمع تعظيماً له - جل وعلا - لعظمة صفاته، وكثرة كلماته، وكثرة جنوده، فلذلك يكني عن نفسه بصيغة التعظيم، {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم}، يعني باعثوها فتنة لهم واختباراً، هل يؤمنون أو لا يؤمنون، فلم يؤمنوا، وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى قد يظهر للإنسان من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، حتى إذا استكبر كان استكباره عن علم، فكان عقابه أشد وأوجع، ولهذا جعل الله الناقة فتنة، لأنها أظهرت الحق لهم، ولكن لم يقبلوه، وانتبه لهذا الاستدراج من الله - عز وجل - إذا يسر الله لك أسباب المعصية، فلا تفعل، فإن الله ربما ييسر أسباب المعصية للإنسان فتنة له، أرأيتم أصحاب السبت من بني إسرائيل يسرت لهم أسباب المعصية فتنة، وهي أن الله حرَّم عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت الحوت تأتي يوم السبت شرَّعاً على وجه الماء وبكثرة عظيمة، لكنهم(17/16)
ملتزمون لم يصيدوا السمك في يوم السبت، فلما طال عليهم الأمد عجزوا عن ملك أنفسهم، فرجعوا إلى طبيعتهم وهي الغدر والحيلة والمكر، فاحتالوا على صيد السمك، صاروا يجعلون شباكاً يوم الجمعة فتأتي الحيتان وتدخل في الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوا الحيتان، وهذه حيلة واضحة، فقلبهم الله قردة، قال الله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } وفي صدر هذه الأمة حرم الله على المحرمين الصيد {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فبعث الله الصيد عليهم وهم محرمون تناله أيديهم ورماحهم، يعني أن الذي يمشي على الأرض يمسكونه باليد مثل الأرنب والغزال يمسكه الواحد باليد. والطائر الذي كان لا ينال إلا بالسهم لأنه بعيد، صار يطير وكأنه على الأرض، الرمح يدركه، فتنة، فهنا يسر الله لهم أسباب المعصية، لكن الصحابة - رضي الله عنهم - وهم خير الناس لم يأخذ أحد منهم صيدة واحدة رضي الله عنهم، بينما بنو إسرائيل تحيلوا وخادعوا الله، أما سلف هذه الأمة، وفقنا الله لموافقتهم في الدنيا في أعمالهم وفي الآخرة في مساكنهم فإنهم لم يأخذوا.
وهذه الناقة أرسلها الله تعالى فتنة لثمود لكن ما أغنتهم {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم فارتقبهم واصطبر } أي: ارتقب عذابهم، أو ارتقب أفعالهم، وانظر ماذا يفعلون {واصطبر } يعني اصبر، وأصل اصطبر (اصتبر) بالتاء للمبالغة، لكن قلبت التاء طاء لعلة تصريفية اقتضتها اللغة العربية، يعني أن الله قال لرسولهم صالح عليه السلام: ارتقب هؤلاء واصطبر فالنصر قريب، {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم}، أخبرهم أن الماء قسمة بينهم كل له شرب وللناقة شرب، ولهذا قال {كل شرب محتضر }، يعني كل شرب يحضره من يستحقه، إما الناقة وإما هم، وبقوا على هذا لكن لم يستمروا، {فنادوا صحبهم} الذي يرونه قويًّا شجاعاً، وقالوا له: هذه الناقة ضايقتنا لو أننا عقرناها لكنا نشرب كل يوم، فطلبوا منه أن يعقرها - نسأل الله(17/17)
العافية - وهذا الصاحب القوي الشجاع الذي يرونه أشد منهم إقداماً، بقطع النظر عن اسمه، فبعض المفسرين سماه، لكن لا يهمنا لم يتأخر، بل بادر {فتعاطى فعقر} تعاطى تفاعل من العطاء يعني بذل نفسه وبسرعة، ويدل على السرعة الفاء في قوله {فتعاطى} من حين نادوه، وافق {فعقر}، عقر الناقة - نسأل الله العافية - قطع أطرافها أولاً، ثم نحرها ثانياً، وهي من آيات الله - عز وجل - ومن مصالحهم - لكن نسأل الله العافية - نفوسهم لا تقبل، {فكيف كان عذابي ونذر } يقول الله - عز وجل - مخاطباً الإنسان: {فكيف كان عذابي ونذر }؟ هل وقع موقعه؟ وهل كان شديداً؟ الجواب: نعم، كان في موقعه، وكان شديداً، ما هذا العذاب؟ {إنا أرسلنا عليهم صيحةً واحدة فكانوا كهشيم المحتظر } صيح بهم - والعياذ بالله - مع الرجفة، ففي السماء أصوات، وفي الأرض رجفان، أخذتهم الرجفة والصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأنهم لم يغنوا فيها، كأنهم ما وجدوا {فكانوا كهشيم المحتظر } يعني الحضار يجعله الإنسان لغنمه فالأعرابي في البادية يجعل على الغنم حضار من الشجر اليابس ومن عسب النخل، وما أشبه ذلك، لئلا تخرج، ولئلا تعدو عليها السباع. هذا الحضار مع طول الزمن والشمس والرياح يتفتت حتى يتلاشى، كان هؤلاء الأقوياء الأشداء المكذبين لرسولهم كانوا كهشيم المحتضر، أي كالحضار حينما يتلف، وهذا من آيات الله - عز وجل - وتمام قدرته وسلطانه {إنما أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } فكانوا كهشيم المحتضر {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر } سبق تفسيرها، والمعنى أن الله تعالى يسر القرآن، أي يسر معانيه لمن تدبره، ويسر ألفاظه لمن حفظه، فإذا اتجهت اتجاهاً سليماً للقرآن للحفظ يسره الله عليك، وإذا اتجهت اتجاهاً حقيقيًّا إلى التدبر وتفهم المعاني يسره الله عليك {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر } وهل للتشويق، يشوقنا الله - عز وجل - إلى أن ندكر القرآن فنتعظ به، جعلنا(17/18)
الله ممن يتلونه حق تلاوته لفظاً ومعنى وعملاً، إنه على كل شيء قدير.
{كذبت قوم لوط} قوم لوط هم أناس كفروا بالله - عز وجل - وأشركوا به، وكان مما اختصوا به من المعاصي هذه الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواط، أي إتيان الذكر، وحذرهم نبيهم من هذا وقال لهم {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} ولكنهم - والعياذ بالله - استمروا على هذا حتى جاءهم العذاب {بالنذر } النذر: جمع نذير، وهي الكلمات التي أنذرهم بها لوط عليه الصلاة والسلام، وجمعها يدل على أنه كان يكرر عليهم هذا، ولكنهم أبوا وأصروا على هذا الفعل، فبين الله عقوبتهم بقوله: {إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر } {حاصباً} أي: شيئاً يحصبهم من السماء، أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، فهدمت بيوتهم حتى كان عاليها سافلها، لأن البناء إذا تهدم صار أعلاه أسفله {إلا آل لوط}، آل لوط هم أهل بيته، إلا زوجته كما قال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} وانظر نبي يبعث إلى قومه ولم يتبعه إلا آل بيته إلا امرأته أيضاً فكانت كافرة ومع ذلك فهو صابر حتى أذن له بالخروج {نجيناهم بسحر } أي: في السحر بالصباح، وذلك أن هؤلاء القوم أخذهم العذاب صباحاً، كما ابتدأ عذاب عاد بالصباح، سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، لأنه ابتدأ بالصباح فأخذهم العذاب - والعياذ بالله - في الصباح، فأهلكهم الله {نعمةً من عندنا}، أي: أنعمنا على آل لوط نعمة من عند الله - عز وجل - من وجهين:
الوجه الأول: أن الله أنجاهم.
والوجه الثاني: أن الله أهلك عدوهم، لأن إهلاك العدو من نعمة الله، فصارت نعمة الله على آل لوط بالنجاة وإهلاك العدو {كذلك نجزي من شكر} أي: مثل هذا الجزاء، وهو الإنجاء والنعمة {نجزي من شكر} نعمة الله، وشكر نعمة الله تعالى هي القيام بطاعته، وليست مجرد قول الإنسان: أشكر الله، بل لابد من(17/19)
القيام بالطاعة، ولهذا من قال أشكر الله، وهو مقيم على معاصيه فإنه ليس بشاكر، بل هو كافر بالنعمة مستهزئ بالله - عز وجل -، إذ إن مقتضى النعمة أن يشكر الله، ولكنه عكس الأمر، قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} فكل من شكر الله فإن الله تعالى ينجيه ويهلك عدوه، {ولقد أنذرهم بطشتنا} يعني أن لوطاً عليه الصلاة والسلام أنذر قومه البطشة، وهي الأخذ بالقوة {فتماروا بالنذر } أي: تشككوا فيه ولم يؤمنوا به، {ولقد راودوه عن ضيفه}، أي: راودوا لوطاً عن ضيفه الذي جاء إليه من الملائكة، وكان الله تعالى قد بعث إليه الملائكة على صورة شباب مُرد، ذوي جمال وهيئة، امتحاناً من الله - عز وجل -، فلما سمع قوم لوط بهؤلاء الضيف أتوا يهرعون إليه يسرعون، يريدون هؤلاء الضيف، ليفعلوا بهم الفاحشة - والعياذ بالله - {فطمسنا أعينهم} أي: فطمس الله أعينهم، أما كيف طمس أعينهم هل جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه أو غير ذلك؟ الله أعلم، إنما علينا أن نؤمن بأن الله تعالى طمس أعينهم، حتى أصبحوا لا يبصرون، {فذوقوا عذابي ونذر } الأمر هنا للامتهان، أو إنه أمر كوني، يعني أن الله أمرهم أمر إهانة، أو أمراً كونياً أن يذوقوا العذاب، ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى عن صاحب الجحيم {ذق إنك أنت العزيز الكريم } فإن هذا الأمر أمر إهانة بلا شك وليس أمر إكرام ولا أمر إباحة، {ولقد صبحهم بكرةً عذاب مستقر } يعني أن العذاب صبحهم أتاهم في الصباح على حين قيامهم من النوم، واستقبالهم يومهم وهم فرحون، كل واحد منهم يفكر فيما يفعل هذا اليوم، فإذا بالعذاب يقع بهم، نسأل الله العافية {فذوقوا عذابي ونذر } {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} من العبر في هذه الآية أن هؤلاء الذين قلب الله فطرتهم وطبيعتهم قلب الله عليهم البنيان برميهم بحجارة من سجيل، فتهدم البنيان حتى صار أعلاه أسفله،(17/20)
وقيل: إن الله تعالى قلب بهم ديارهم اقتلعها من أساسها حتى رفعها ثم قلبها، فإن صح هذا فالله على كل شيء قدير، وإن لم يصح فليس لنا إلا أن نأخذ بظاهر القرآن، أنهم أمطروا بحجارة من سجيل، فتهدم البناء عليهم () ، وأخذ أهل العلم من ذلك أن اللوطي يقتل بكل حال، الفاعل والمفعول به، وهذا هو القول الراجح أن اللواط يجب فيه القتل على كل حال وليس كالزنا، فالزنا يفرق فيه بين المتزوج وغير المتزوج، أما اللواط فيقتل فيه على كل حال مادام الفاعل والمفعول به بالغين عاقلين، فإنه يجب قتلهما بكل حال إلا المكره، فليس عليه شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل الفاعل والمفعول به، إلا أنهم اختلفوا كيف يقتلان، فقال بعضهم: يقتلان بالرجم بالحجارة حتى يموتا، وقال بعضهم: يقتلان بأن يلقيا من أعلى مكان في البلد ويتبعان بالحجارة، وحرق أبو بكر - رضي الله عنه - اللوطي بالنار، وكذلك خالد بن الوليد وأحد خلفاء بني أمية حرقوهم بالنار لعظم جرمهم - والعياذ بالله -، ولأن هذه الفاحشة إذا انتشرت في قوم صار الرجال نساء، وصار الواحد منهم يتتبع فحول الرجال حتى يفعلوا به الفاحشة - والعياذ بالله - وانقلبت الأوضاع وضاع النسل بمعنى أن الناس ينصرفون إلى الذكور، ويدعون النساء اللاتي هن حرث للرجال، والتحرز منه صعب، لأنه لا يمكن أن نجد اثنين ونقول: كيف صحبت هذا؟ لكن لو وجدنا رجلاً وامرأة يمكن التحرز منهما، فلذلك كان دواء المجتمع من هذه الفعلة القبيحة الشنيعة أن يقتل الفاعل والمفعول به، وقد جاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» () ولهذا يجب علينا أن نحترز من هذا غاية الاحتراز، وأن نتفقد أبناءنا أين ذهبوا ومن أين جاءوا، ومَن أصدقاءهم، وهل هم على الاستقامة أو لا؛ حتى نحمي المجتمع من هذا العمل الخبيث، ثم قال -(17/21)
عز وجل -: {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر } يسر الله - عز وجل - القرآن للذكر لحفظه ولفهم معناه، وهذا الخبر يراد به الحث على حفظ القرآن وعلى تدبر معناه؛ لأنه ميسر سهل، وأنت جرب تدبَّر في آيات الله - عز وجل - لتفهم معناها، وانظر كيف ييسر الله - عز وجل - لك فهمها حتى تفهم منها ما لا يفهمه كثير من الناس، ولهذا قال {فهل من مدكر }؟ والاستفهام هنا للتشويق، والمعنى هل أحد يدكر ويتعظ بما في القرآن الكريم.
{ولقد جاء ءال فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} الجملة مؤكدة بالقسم المقدر واللام وقد، {ولقد جاء ءال فرعون النذر } يعني قومه وعلى رأسهم فرعون، كما أخبر الله تعالى في آيات أخرى متعددة أنه أرسل موسى إلى فرعون وملئه، والنذر قيل: بمعنى الإنذار والتخويف. وقيل: إنه جمع نذير وهو كل ما ينذر به العبد، والمراد به الآيات التي جاء بها موسى، كما قال الله تعالى: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} وهذا الأخير هو الصحيح أن النذر جمع نذير، وليست بمعنى الإنذار، ويدل لهذا قوله {كذبوا بآياتنا كلها} أي: كل الآيات الدالة على صدق رسالة موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كذبوا بها وقالوا: إن موسى مجنون، وإنه ساحر، حتى إن فرعون من كبريائه قال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون }، ولما كذبوا بالآيات أخذهم الله {أخذ عزيز} أي: غالب، {مقتدر} أي: قادر، ولكنها أبلغ من كلمة (قادر) لما فيها من زيادة الحروف، وإنما ذكر الله تعالى أنه أخذهم {أخذ عزيز مقتدر} لأن فرعون كان متكبراً، وكان يقول: {أنا ربكم الأَعلى }، وكان يسخر من موسى ومن أرسله، فناسب أن يذكر الله تعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر، وقد أجمل الله تعالى هذه القصة في هذه الآية، ولكنه بينها في آيات كثيرة، وأن أخذهم كان بإغراقهم في البحر، فأغرقه الله - عز وجل - بمثل ما كان يفتخر به، لأنه كان يقول لقومه: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار(17/22)
تجري من تحتي، يقررهم بهذا، سيقولون: بلى، أفلا تبصرون. {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين }، يعني بذلك موسى، فأغرقهم الله في اليم حين جمع فرعون جنوده واتبع موسى ومن اتبعه ليقضي عليهم، ولكن الله بحمده وعزته قضى عليهم، ثم قال تعالى: {أكفاركم خير من أولائكم} الخطاب هنا لقريش، أي: يعني هل كفاركم خير من هذه الأمم السابقة التي أهلكها الله؟ {أم لكم براءة في الزبر} يعني أم لكم براءة في الكتب أن الله مبرئكم من عاقبة أفعالكم؟ والجواب لا هذا ولا هذا، يعني إما أن يكون كفاركم خير من الكفار السابقين، وإما أن يكون لكم براءة من الله - عز وجل - كتبها الله لكم ألا يعاقبكم، وكل هذا لم يكن، فليس كفارهم خيراً من الكفار السابقين، وليس لهم براءة في الزبر، ولهم دعوى ثالثة {أم يقولون نحن جميع منتصر }، أم هنا بمعنى بل الإضرابية، وهي إضراب الانتقال، يعني: بل يقولون نحن، والضمير لقريش {جميع منتصر }، جميع هنا بمعنى جمع، ولهذا قال {منتصر }، ولم يقل منتصرون، يعني جمع كثير منتصر على محمد وقومه، هذا معنى كلامهم، فأعجبوا بأنفسهم، وظنوا أنهم قادرون على القضاء على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورسالته، فماذا كان جوابهم من الله تعالى، قال الله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر } أي: يخذلون شر خذيلة، ويولون الدبر، ولا يستطيعون المقاومة ولا المدافعة ولا المهاجمة، مع أنهم كانوا يقولون نحن جميع منتصر، ولكن لا انتصار لهم، وهذا هو الذي وقع ولله الحمد، وأول ما وقع في غزوة بدر حين اجتمع كبراؤهم ورؤساؤهم وصناديدهم في نحو ما بين تسعمائة إلى ألف رجل، في مقابل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فهزموا - والحمد لله - شر هزيمة، وتحدثت بهم الأخبار، وألقي أربعة وعشرون نفراً من رؤسائهم في قليب من قلب بدر خبيثة منتنة، وهذه شر هزيمة لا شك، ولذا قال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر }، هذه عقوبتهم في(17/23)
الدنيا، أما في الآخرة: {بل الساعة موعدهم} يعني أضف إلى ذلك أن الساعة موعدهم وهو يوم البعث {والساعة أدهى وأمر } أي: أشد فتكاً، وأمرُّ مذاقاً، لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، ثم قال الله - عز وجل - مبيناً ماذا يحدث لهم ولأمثالهم فقال: {إن المجرمين في ضلال وسعر } الضلال في الدنيا لا يهتدون، والسعر في الآخرة، أي: في نار شديدة التأجج تحرقهم، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها، ليذوقوا العذاب. ويحتمل أن قوله {في ضلال} أي: في ضلال عن الطريق الذي يهتدون به إلى الجنة، لأنهم ضلوا في الدنيا فضلوا في الآخرة {يوم يسحبون في النار على وجوههم} يسحبون سحباً كما تسحب الجيفة، ليبعد بها عن المنازل، وليسوا يسحبون على ظهورهم ولكن على وجوههم - والعياذ بالله - ويقال: {ذوقوا مس سقر } ولقد قال الله تعالى في آية أخرى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} أي: يتقي بوجهه وكان يتقي في الدنيا الحر بيديه لوقاية وجهه، لكنه في النار ليس له ما يقي وجهه النار، بل يتقي بوجهه نسأل الله العافية، فهم يسحبون في النار على وجوههم، وهذه ليست أساطير الأولين، وليست قصصاً تقال، هذه حقيقة نشهد بها - والله - كأننا نراها رأي العين، لابد أن يكون هذا لكل مجرم {يوم يسحبون في النار على وجوههم} الساحب هم الملائكة الموكلين بهم، لأن للنار ملائكة موكلين بها، ويقال {ذوقوا مس سقر }، انظر إلى الإذلال: جسدي وقلبي، الجسدي هو أنهم يسحبون على وجوههم، والقلبي أنهم يوبخون، ويقال: {ذوقوا مس سقر }، مس أي: صلاها، وسقر من أسماء النار - نسأل الله العافية ثم قال - جل وعلا -: {إنا كل شيء خلقناه بقدر } لما ذكر عذاب أهل النار ثم سيذكر نعيم أهل الجنة، ذكر بينهما أن هذا الخلق وتفاوته بقدر الله - عز وجل - فكل شيء مخلوق فهو بقدر، كل ذرة في رملة فهي مخلوقة بقدر، وكل نقطة تقع على الأرض من السحاب فهي مخلوقة بقدر، وكل شيء تعم ما سوى الخالق،(17/24)
لأنه ما ثم إلا مخلوق وخالق، فإذا كان كل شيء مخلوقاً كان الخالق وحده الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» () العجز يعني تكاسل الإنسان، والكيس يعني حزم الإنسان ونشاطه في طلب ما ينفعه والبعد عما يضره، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الإنسان مخلوق لله تعالى، وأن أفعاله مخلوقة لله، وأن كل شيء قد قدر وانتهى، وإذا كان كذلك فيلجأ الإنسان إذا أصابته ضراء إلى الله الخالق، وإذا أراد السراء أيضاً يلتجىء إلى الله الخالق، لا يفخرن ويعجبن بنفسه إذا حصل له مطلوب، ولا ييأسن إذا أصابه المكروب، فالأمر بيد الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» () القوي في إيمانه، والقوي في إرادته وهمته ونشاطه، وليس المراد القوي في بدنه، فقوة البدن إما لك وإما عليك، إن استعملتها في العمل الصالح فهي لك، وإن عجزت عنه مع فعلك إياه في حال القوة كتب لك، وإن استعملت هذه القوة في معصية الله كانت عليك، لكن المراد بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «القوي» أي: في إيمانه وإرادته، أما قوة البدن فهي لك أو عليك، قال: «وفي كلِّ خير» أي: في كل من القوي والضعيف خير، وهذه الجملة يسميها علماء البلاغة جملة احترازية، لأنه لما قال: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» يظن الظان أن المؤمن الضعيف ليس فيه خير، فقال: «وفي كل خير». ولها نظائر قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} يعني من قبل صلح الحديبية {أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} كلاًّ من هؤلاء وهؤلاء، يعني فلا تظنوا أن هذا التفاوت يحط من قدر الآخرين ويحرمهم الخير، وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل(17/25)
الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» () فإذا فعلت ذلك حرصت على ما ينفع واستعنت بالله، وكنت حازماً نشيطاً وقويًّا في مرادك، إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله يعني هذا قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان، أنت عليك أن تسعى للخير، وليس عليك أن يتم لك ما تريد، المهم أن كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، فمن قدر الله له الهداية، ومن قدر له الشقاء فهو بقدر، ولكن السبب لتقدير الله الشقاء على العبد هو نفس العبد، لقول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين}.
{ومآ أمرنا إلا واحدة} يعني ما أمرنا فيما نريد أن يكون {إلا واحدة} أي: إلا مرة واحدة، بدون تكرار {كلمح بالبصر } بدون تأخر - سبحان الله - أمر الله - عز وجل - واحدة لا تكرار، بسرعة فورية أسرع ما يمكن أن يكون كلمح للبصر، كن فيكون، واشتهر عند العوام يقولون: يا من أمره بين الكاف والنون، وهذا غلط ليس أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون، لأن الله قال: كن فيكون، بعد كن، فقولهم بين الكاف والنون غلط لأنه لا يتم الأمر بين الكاف والنون، بل لا يتم الأمر إلا بالكاف والنون، أي بعد الكاف والنون فوراً كلمح بالبصر، وإن شئت أن ترى عجائب ذلك فانظر إلى الزلازل تصيب مئات القرى، أو آلاف القرى وبلحظة واحدة تعدمها، لو جاءت المعاول والدركترات والقنابل ما فعلت مثل فعل لحظة واحدة من أمر الله - عز وجل -، واسأل الخبراء بالزلازل تجد الجواب، وانظر إلى ما هو أعظم من ذلك، الموتى في قبورهم، والحشرات والحيوانات وكل الأشياء تبعث يوم(17/26)
القيامة بكلمة واحدة، كما قال - جل وعلا -: {إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم جميع لدينا محضرون } صيحة واحدة فقط، {فإذا هم جميع}، كلهم {لدينا} أي عندنا {محضرون} فصدق الله - عز وجل - وعده {ومآ أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } مثل لمح البصر.
{ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر } الخطاب لكفار قريش، وقوله: {أشياعكم فهل من مدكر } أي: أشباهكم من الكفار السابقين، وقد قص الله - سبحانه وتعالى - في هذه السورة من نبئهم ما فيه عبرة وعظة، قص علينا ما حصل لقوم نوح، وما حصل لعاد، ولثمود، ولقوم لوط، ولآل فرعون، وفي هذا مدكر لمن أراد الادكار، ولهذا قال: {فهل من مدكر }، يعني هل من متعظ ومعتبر بما جرى على السابقين أن يجري على اللاحقين، لأن الله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين عباده محاباة أو نسب، بل أكرمهم عند الله أتقاهم له من أي جنس كان، وفي أي مكان كان، وفي أي زمان كان، كما قال الله - تبارك وتعالى -: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ثم قال الله - عز وجل -: {وكل شيء فعلوه في الزبر} كل مبتدأ {في الزبر} خبره، وليس هذا من باب الاشتغال، بل هو خبر محض، لأن (كل) لا يمكن أن تكون مفعولاً لفعلوه، بل هي مبتدأ، {وكل شيء فعلوه} أي: فعلته الأمم السابقة، أو الأمم اللاحقة، فإنه مكتوب {في الزبر} أي في الكتب، وكتابة الأعمال كتابة سابقة، وكتابة لاحقة. والكتابة السابقة كتابة على أن هذا سيفعل كذا، وهذه الكتابة لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، لأن المرء لم يكلف بها بعد، وكتابة لاحقة وهي كتابة أنه فعل، فإذا فعل الإنسان حسنة كتبها الله، وإذا فعل سيئة كتبها الله، وهذه الكتابة اللاحقة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وبما قررناه يزول الإشكال عند بعض الناس في قول الله تبارك وتعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} فإن بعض الناس قد(17/27)
يشكل عليه هذه الآية، كيف يقول - عز وجل - {حتى نعلم} وهو قد علم؟ فيقال: {حتى نعلم} يعني العلم الذي يترتب عليه الثواب، وأما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الثواب ولا العقاب.
والكتابة السابقة معناها أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما جاء في الحديث الصحيح: «أن الله لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة» () . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، نؤمن بهذا، قال الله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأَرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير }. وقال - عز وجل -: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأَرض يرثها عبادي الصالحون } أما الكتابة اللاحقة فهي أن الله سبحانه وتعالى إذا عمل الإنسان عملاً كتبه، قال الله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} وهذه الكتابة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، {وكل شيء فعلوه في الزبر}، ومعنى الآية: أن كل شيء يفعله الإنسان فإنه مكتوب، فلا تظن أنه يضيع عليك شيء أبداً، كما قال عز وجل: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا}. سبحان الله، بعد مئات السنين التي لا يعلمها إلا الله يجدونه حاضراً، لا يظلم ربك أحداً، {وكل صغير وكبير مستطر }، كل صغير وكبير مما يحدث في هذا الكون من المخلوقات، وأوصافها، وأعمالها، {مستطر }، أي: مسطر في الكتاب العزيز، اللوح المحفوظ، كل صغير وكبير حتى الشوكة يشاكها الإنسان تكتب، حتى ما يزن مثقال ذرة من الأعمال يكتب، كل صغير وكبير، وإذا آمنت بذلك ويجب عليك أن تؤمن به، فإنه يجب عليك الحذر من المخالفة، فإياك أن تخالف بقولك، أو فعلك، أو تركك، لأن(17/28)
كل شيء مكتوب، قال الله - عز وجل -: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وما يفعل من فعل كذلك لديه رقيب عتيد، لأنه إذا كانت الأقوال تكتب وهي أكثر بآلاف المرات من الأفعال، فما تنطق به لا يحصى، فإذا كانت الأقوال تكتب، فالأفعال من باب أولى، فعليك أن تتقي الله - عز وجل - ولا تخالف الله، إذا سمعت الله يقول خبراً، فقل: آمنت به وصدقت، وإذا سمعت الله يقول شيئاً أمراً، فقل: آمنت به سمعاً وطاعة، نهياً آمنت به، وسمعاً وطاعة. فاترك المنهي عنه، وافعل المأمور به، {إن المتقين في جنات ونهر} هذا مقابل قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم} {إن المتقين في جنات ونهر} الجنات جمع جنة، وقد ذكر الله تعالى أصنافها في سورة الرحمن فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال: {ومن دونهما جنتان} فهي إذن أربع ذكرها الله في سورة الرحمن، إذاً {في جنات} يعني في هذه الجنات الأربع، هذه الأصناف لكن أنواعها كثيرة، والجنات نفسرها بأنها شرعاً هي: (الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، لكن عندما تقرأ قول الله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} تفسر الجنة بأنها البستان الكثير الأشجار، وعندما تقرأ: {كلتا الجنتين آتت أكلها} تفسر بأنها بستان كثير الأشجار، لكن لا تفسر جنة النعيم في الآخرة بهذا التفسير، لأنك إن فسرتها بهذا التفسير قلَّت الرغبة فيها وهبطت عظمتها في قلوب الناس، لكن قل: هي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سكانها خير البشر، النبيون، والصديقون، والشهداء والصالحون، حتى تحفز النفوس على العمل لها، وحتى لا يتصور الجاهل أن ما فيها كأمثال ما في الدنيا وقوله: {ونهر} يعني بذلك الأنهار، وذكر الله تعالى أصنافها أربعة في سورة القتال: {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه(17/29)
وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى}. أما المكان: {في مقعد صدق عند مليك} يعني في مقعد صدق ليس فيه كذب لا في الخبر عنه ولا في وصفه، كله حق وعند من؟ {عند مليك مقتدر } وهو الله جل وعلا، - اللهم اجعلنا منهم - عند مليك مقتدر، يتنعمون بلذة النظر إلى الله - عز وجل - وهو أنعم ما يكون لأهل الجنة، قال الله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، وقال تعالى {وجوه يومئذ ناضرة} يعني حسنة بهية يكسوها الله تعالى نضراً، أي: حسناً وجمالاً وبهاءً؛ لتكون مستعدة للنظر إلى الله - عز وجل - {إلى ربها ناظرة} ثم ينظرون إلى الله فيزدادون حسناً إلى حسنهم، ولهذا إذا رجعوا إلى أهلهم، قال لهم أهلوهم: إنكم ازددتم بعدنا حسناً بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى () ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا أن تجعلنا من هؤلاء بمنك وكرمك، إنك على كل شيء قدير.
-----------------------------------------
(1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ?: بعثت أنا والساعة كهاتين (6504) ومسلم، كتاب الفتنة وأشراط الساعة، باب قرب الساعة (2951).
(2) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (رقم 557).
(3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} (رقم 4864) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر (رقم 2800).
(4) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً} (4712) ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194).
(5) أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب البركة والماء المبارك (رقم 5639).
(6) انظر: صفة الصفوة (1/352 - 353).
(7) انظر: صفة الصفوة (1/70 - 71) .
(8) انظر تفسير فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - سورة الصافات، الآيات: 133 - 138.
(9) تقدم (ص(17/30)
86).
(10) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر (2655).
(11) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز (2664).
(12) تقدم ص 292.
(13) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ن والقلم (رقم 3319) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(14) أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم الجمال (رقم 2833).(17/31)
تفسير سورة الرحمن
{بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها، {الرحمن علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان} {الرحمن } مبتدأ، وجملة {علم القرءان } خبر، {خلق الإنسان } خبر ثان، {علمه البيان } خبر ثالث، والمعنى أن هذا الرب العظيم، الذي سمى نفسه بالرحمن تفضل على عباده بهذه النعم، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء}. وابتدأ هذه السورة بالرحمن عنواناً على أن ما بعده كله من رحمة الله تعالى، ومن نعمه {علم القرءان } أي: علمه من شاء من عباده، فعلمه جبريل عليه السلام أولاً، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً، ثم بلغه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثالثاً إلى جميع الناس، والقرآن هو هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله تعالى باللغة العربية، كما قال الله تعالى: {إنا جعلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون } وقال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} وتعليم القرآن يشمل تعليم لفظه، وتعليم معناه، وتعليم كيف العمل به، فهو يشمل ثلاثة أشياء، {خلق الإنسان } المراد الجنس، فيشمل آدم وذريته، أي: أوجده من العدم، فالإنسان كان معدوماً قبل وجوده، وقبل خلقه، قال الله - عز وجل -: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} يعني أتى عليه حين من الدهر قبل أن يوجد، وليس شيئاً مذكوراً ولا يعلم عنه، وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان وإلا فمن المعلوم أن خلق الإنسان سابق على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظم منة من الله - عز وجل - على العبد قدمه على خلقه {علمه} أي: علم الإنسان {البيان }، أي: ما يبين به عما في قلبه، وأيضاً ما يستبين به عند المخاطبة، فهنا بيانان: البيان الأول من المتكلم، والبيان(18/1)
الثاني من المخاطب، فالبيان من المتكلم يعني التعبير عما في قلبه، ويكون باللسان نطقاً، ويكون بالبنان كتابة، فعندما يكون في قلبك شيء تريد أن تخبر به، تارة تخبر به بالنطق، وتارة بالكتابة، كلاهما داخل في قوله {علمه البيان }، وأيضاً {علمه البيان } كيف يستبين الشيء وذلك بالنسبة للمخاطب يعلم ويعرف وما يقول صاحبه، ولو شاء الله تعالى لأسمع المخاطب الصوت دون أن يفهم المعنى فالبيان سواء من المتكلم، أو من المخاطب كلاهما منة من الله - عز وجل - فهذه ثلاث نعم: {علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان}.
{الشمس والقمر بحسبان} لما تكلم عن العالم السفلي بين العالم العلوي فقال: {الشمس والقمر بحسبان}أي: بحساب دقيق معلوم متقن منتظم أشد الانتظام، يجريان كما أمرهما الله - عز وجل - ولم تتغير الشمس والقمر منذ خلقهما الله عز وجل إلى أن يفنيهما يسيران على خط واحد، كما أمرهما الله، وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى، وكمال سلطانه، وكمال علمه أن تكون هذه الأجرام العظيمة تسير سيراً منظماً، لا تتغير على مدى السنين الطوال، {والنجم والشجر يسجدان } النجم اسم جنس، والمراد به النجوم تسجد لله - عز وجل - فهذه النجوم العليا التي نشاهدها في السماء تسجد لله - عز وجل - سجوداً حقيقياً، لكننا لا نعلم كيفيته، لأن هذا من الأمور التي لا تدركها العقول، والشجر يسجد لله عز وجل سجوداً حقيقياً، لكن لا ندري كيف ذلك، والله على كل شيء قدير، وانظر إلى الأشجار إذا طلعت الشمس تتجه أوراقها إلى الشمس تشاهدها بعينك، وكلما ارتفعت، ارتفعت الأشجار، وإذا مالت للغروب مالت، لكن هذا ليس هو السجود، إنما السجود حقيقة لا يُعلم، كما قال - عز وجل -: {تسبح له السماوات السبع والأَرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليمًا غفورًا } فالنجوم كلها تسجد لله، والأشجار كلها تسجد لله - عز وجل - قال الله تعالى: {ألم تر أن الله(18/2)
يسجد له من في السماوات ومن في الأَرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} ويقابله،{وكثير حق عليه العذاب} فلا يسجد - والعياذ بالله - {والسماء رفعها} يعني ورفع السماء ولم يحدد في القرآن الكريم مقدار هذا الرفع، لكن جاءت السنة بذلك، فهي رفيعة عظيمة ارتفاعاً عظيماً شاهقاً، {ووضع الميزان } أي: وضع العدل، والدليل على أن المراد بالميزان هنا العدل قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} يعني العدل، وليس المراد بالميزان هنا الميزان ذا الكفتين المعروف ولكن المراد بالميزان العدل، ومعنى وضع الميزان أي أثبته للناس، ليقوموا بالقسط أي بالعدل {ألا تطغوا في الميزان } يعني ألا تطغوا في العدل، يعني وضع العدل لئلا تطغوا في العدل فتجوروا، فتحكم للشخص وهو لا يستحق، أو على الشخص وهو لا يستحق، {وأقيموا الوزن بالقسط } ، يعني وزنكم للأشياء، أقيموه ولا تبخسوه فتنقصوا، لهذا قال: {ولا تخسروا الميزان } أي لا تخسروا الموزون، فصار الميزان يختلف في مواضعه الثلاثة: {ووضع الميزان } أي: العدل {ألا تطغوا في الميزان } لا تجوروا في الوزن {ولا تخسروا الميزان } أي: الموزون.
{والأَرض وضعها للأَنام } يعني: أن من نعم الله - عز وجل - أن الله وضع الأرض للأنام أي: أنزلها بالنسبة للسماء، والأنام هم الخلق، ففيها الإنس، وفيها الجن، وفيها الملائكة، تنزل بأمر الله - عز وجل - من السماء، وإن كان مقر الملائكة في السماء لكن ينزلون إلى الأرض، مثل الملكين اللذين عن اليمين وعن الشمال قعيد، والملائكة الذين يحفظون من أمر الله المعقبات، والملائكة الذين ينزلون في ليلة القدر وغير ذلك، {فيها}، أي في الأرض {فاكهة} أي: ثمار يتفكه بها الناس، وأنواع الفاكهة كثيرة، كالعنب والرمان والتفاح والبرتقال وغيرها {والنخل ذات الأَكمام } نص على النخل، لأن ثمرتها أفضل الثمار فهي حلوى وغذاء وفاكهة،(18/3)
وشجرتها من أبرك الأشجار وأنفعها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم شبه النخلة بالمؤمن فقال: «إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن»، فخاض الصحابة - رضي الله عنهم - في الشجر حتى أخبرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها النخلة () وقوله: {ذات الأَكمام } جمع كم وهو غلاف الثمرة، فإن ثمرة النخل أول ما تخرج يكون عليها كم قوي، ثم تنمو في ذلك الكم حتى يتفطر وتخرج الثمرة، {والحب ذو العصف} الحب يعني الذي يؤكل من الحنطة والذرة والدخن والأرز وغير ذلك، وقوله: {ذو العصف} يعني ما يحصل من ساقه عند يبسه وهو ما يعرف بالتبن؛ لأنه يعصف أي تطؤه البهائم بأقدامها حتى ينعصف، {والريحان } هذا الشجر ذو الرائحة الطيبة، فذكر الله في الأرض الفواكه، والنخل، والحب، والريحان، لأن كل واحد من هذه الأربع له اختصاص يختص به، وكل ذلك من أجل مصلحة العباد ومنفعتهم {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } الخطاب للجن والإنس، والاستفهام للإنكار، أي: أي نعمة تكذبون بها {خلق الإنسان من صلصال كالفخار } خلق الإنسان يعني جنسه من صلصال، والصلصال هو الطين اليابس الذي له صوت، عندما تنقره بظفرك يكون له صوت كالفخار، هو الطين المشوي، وهذا باعتبار خلق آدم عليه السلام، فإن الله خلقه من تراب، من طين، من صلصال كالفخار، من حمأ مسنون، كل هذه أوصاف للتراب ينتقل من كونه تراباً، إلى كونه طيناً، إلى كونه حمأ، إلى كونه صلصالاً، إلى كونه كالفخار، حتى إذا استتم نفخ الله فيه من روحه فصار آدمياً، {وخلق الجآن} وهم الجن {من مارج من نار }، المارج هو المختلط الذي يكون في اللهب إذا ارتفع صار مختلطاً بالدخان، فيكون له لون بين الحمرة والصفرة، فهذا هو المارج من نار، والجان، خلق قبل الإنس، ولهذا قال إبليس لله - عز وجل -: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } أي: بأي نعمة من نعم الله تكذبون، حيث خلق الله - عز وجل - الإنسان من هذه(18/4)
المادة، والجن من هذه المادة، وأيهما خير التراب أم النار؟ التراب خير، لا شك فيه، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليرجع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب «إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان» {رب المشرقين ورب المغربين } يعني هو رب، فهي خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو رب المشرقين ورب المغربين، يعني أنه مالكهما ومدبرهما، فما من شيء يشرق إلا بإذن الله، ولا يغرب إلا بإذن الله وما من شيء يحوزه المشرق والمغرب إلا لله - عز وجل - وثنى المشرق هنا باعتبار مشرق الشتاء ومشرق الصيف، فالشمس في الشتاء تشرق من أقصى الجنوب، وفي الصيف بالعكس، والقمر في الشهر الواحد يشرق من أقصى الجنوب ومن أقصى الشمال، وفي آية أخرى قال الله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} فجمعها، وفي آية ثالثة {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً } فما الجمع بينها؟ نقول: أما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف،أما جمع المغارب والمشارق فباعتبار مشرق كل يوم ومغربه، لأن الشمس كل يوم تشرق من غير المكان الذي أشرقت منه بالأمس، فالشمس يتغير شروقها وغروبها كل يوم، ولاسيما عند تساوي الليل والنهار، فتجد الفرق دقيقة، أو دقيقة ونصفاً بين غروبها بالأمس واليوم، وكذلك الغروب، أو باعتبار الشارقات والغاربات، لأنها تشمل الشمس والقمر والنجوم، وهذه لا يحصيها إلا الله - عز وجل -، أما قوله: {رب المشرق والمغرب} فباعتبار الناحية، لأن النواحي أربع: مشرق، ومغرب، وشمال، وجنوب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } أي: بأي شيء من نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فما جوابنا على هذه الاستفهامات بهذه الآيات كلها؟ جوابنا: ألا نكذب بشيء من آلائك يا ربنا، ولهذا ورد حديث في إسناده ضعف عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن(18/5)
مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله{فبأي ءالآء ربكما تكذبان } قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد». لكن هذا الحديث ضعيف () ، يذكره المفسرون هنا، وكل آية أعقبت {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } فهي تتضمن نعماً عظيمة، فما النعم التي يتضمنها اختلاف المشرق والمغرب؟ النعم ما يترتب على ذلك من مصالح الخلق: صيفاً، وشتاء، ربيعاً، وخريفاً، وغير ذلك مما لا نعلم، فهي نعم عظيمة باختلاف المشرق والمغرب، ثم قال سبحانه وتعالى: {مرج البحرين يلتقيان } مرج بمعنى أرسل البحرين، يعني المالح والعذب {يلتقيان }، يلتقي بعضهما ببعض، البحر المالح هذه البحار العظيمة، البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأطلسي، وهذه البحار كلها مالحة، وجعلها الله تبارك وتعالى مالحة، لأنها لو كانت عذبة لفسد الهواء وأنتنت، لكن الملح يمنع الإنتان والفساد، والبحر الآخر البحر العذب وهو الأنهار التي تأتي: إما من كثرة الأمطار، وإما من ثلوج تذوب وتسيح في الأرض، فالله سبحانه وتعالى أرسلهما بحكمته وقدرته حيث شاء - عز وجل - {يلتقيان } أي: يلتقي بعضهما ببعض عند مصب النهر في البحر فيمتزج بعضهما ببعض، لكن حين سيرهما أو حين انفرادهما، يقول الله - عز وجل -: {بينهما برزخ} وهو اليابس من الأرض {لا يبغيان } أي: لا يبغي أحدهما على الآخر، ولو شاء الله تعالى لسلط البحار ولفاضت على الأرض وأغرقت الأرض، لأن البحر عندما تقف على الساحل لا تجد جداراً يمنع انسيابه إلى اليابس مع أن الأرض كروية، ومع ذلك لا يسيح البحر لا هاهنا، ولا هاهنا بقدرة الله عز وجل، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - لساحت مياه البحر على اليابس من الأرض ودمرتها، إذن البرزخ الذي بينهما هو اليابس من الأرض هذا قول علماء الجغرافيا، وقال بعض أهل العلم: بل البرزخ أمر معنوي يحول بين المالح والعذب أن يختلط بعضهما ببعض، وقالوا: إنه يوجد الآن في عمق البحار عيون عذبة تنبع من الأرض، حتى إن(18/6)
الغواصين يغوصون إليها ويشربون منها كأعذب ماء، ومع ذلك لا تفسدها مياه البحار، فإذا ثبت ذلك فلا مانع من أن نقول بقول علماء الجغرافيا وقول علماء التفسير، والله على كل شيء قدير {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي: يخرج من البحرين العذب والمالح اللؤلؤ والمرجان، وهو قطع من اللؤلؤ أحمر جميل الشكل واللون مع أنها مياه، وقوله تعالى: {منهما} أضاف الخروج إلى البحرين العذب والمالح، وقد قيل: إن اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح ولا يخرج من العذب، والذين قالوا بهذا اضطربوا في معنى الآية، كيف يقول الله {منهما} وهو من أحدهما؟ فأجابوا: بأن هذا من باب التغليب، والتغليب أن يغلب أحد الجانبين على الآخر، مثلما يقال: العمران، لأبي بكر وعمر، ويقال: القمران، للشمس والقمر، فهذا من باب التغليب، فـ {منهما} المراد واحد منهما، وقال بعضهم: بل هذا على حذف مضاف، والتقدير: يخرج: من أحدهما، وهناك قول ثالث: أن تبقى الآية على ظاهرها لا تغليب ولا حذف، ويقول {منهما} أي: منهما جميعاً يخرج اللؤلؤ والمرجان، وإن امتاز المالح بأنه أكثر وأطيب.
فبأي هذه الأقوال الثلاثة، نأخذ؟ نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، فالله - عز وجل - يقول: {يخرج منهما} وهو خالقهما وهو يعلم ماذا يخرج منهما، فإذا كانت الآية ظاهرها أن اللؤلؤ يخرج منهما جميعاً وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا شك أن اللؤلؤ من الماء المالح أكثر وأطيب، لكن لا يمنع أن نقول بظاهر الآية، بل يتعين أن نقول بظاهر الآية، وهذه قاعدة في القرآن والسنة: إننا نحمل الشيء على ظاهره، ولا نؤول، اللهم إلا لضرورة، فإذا كان هناك ضرورة، فلابد أن نتمشى على ما تقتضيه الضرورة، أما بغير ضرورة فيجب أن نحمل القرآن والسنة على ظاهرهما {فبأي ءالاء ربكما تكذبان } لأن ما في هذه البحار وما يحصل من المنافع العظيمة، نِعم كثيرة لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً.
{وله الجوار المنشئات في البحر(18/7)
كالأَعلام } أي لله - عز وجل - ملكاً وتدبيراً وتيسيراً {الجوار} بحذف الياء للتخفيف، وأصلها الجواري جمع جارية، وهي السفينة تجري في البحر كما قال الله - عز وجل -: {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله} {المنشئات} أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: {في البحر} متعلق بالجواري أي الجواري في البحر، وليست فيما يظهر متعلقة بالمنشآت، يعني الجواري التي تصنع في البحر، لأن السفن تصنع في البر أولاً، ثم تنزل في البحر، وقوله: {كالأَعلام } تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل، كما قال الشاعر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
كأنه جبل، ومن شاهد السفن في البحار رأى أن هذا التشبيه منطبق تماماً عليها، فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله - عز وجل -، وإنما نص الله عليها لأنها تحمل الأرزاق من جانب إلى جانب، ولولا أن الله تعالى يسرها لكان في ذلك فوات خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها، وفي هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى، لكنها تجري في الجو، كما تجري هذه في البحر، وهي الطائرات، فهي منة من الله - عز وجل - كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن السيارات أيضاً من جواري البر، فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحرية، وبرية، وجوية، وكلها من نعم الله - عز وجل -، ولهذا قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } أي بأي: نعمة من نعم الله تكذبان، والخطاب للإنس والجن، ثم قال - عز وجل -: {كل من عليها} أي: كل من على الأرض {فان } أي: ذاهب من الجن والإنس والحيوان والأشجار، قال الله تبارك وتعالى: {إنا جعلنا ما على الأَرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي: خالية، وقال الله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً} أي: يذر الأرض قاعاً صفصفاً، أو يذر الجبال بعد أن كانت عالية شامخة قاعاً كالقيعان(18/8)
مساوية لغيرها، صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } أي: يبقى الله - عز وجل - ذو الوجه الكريم، وكان بعض السلف إذا قرأ هاتين الآيتين وصل بعضهما ببعض، قال: ليتبين بذلك كمال الخالق ونقص المخلوق () ؛ لأن المخلوق فانٍ والرب باقٍ، وهذه الملاحظة جيدة أن تصل فتقول: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وهذا هو محط الثناء والحمد على الله - عز وجل - أن تفنى الخلائق ويبقى الله - عز وجل - وقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فيه إثبات الوجه لله - سبحانه وتعالى - ولكنه وجه لا يشبه أوجه المخلوقين، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } يعني أنت تؤمن بأن لله وجهاً، لكن يجب أن تؤمن بأنه لا يماثل أوجه المخلوقين بأي حال من الأحوال، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ولما ظن بعض أهل التعطيل أن إثبات الوجه يستلزم التمثيل أنكروا أن يكون لله وقالوا: المراد بقوله {ويبقى وجه ربك} أي ثوابه، أو أن كلمة {وجه} زائدة، وأن المعنى: ويبقى ربك! ولكنهم ضلوا سواء السبيل، وخرجوا عن ظاهر القرآن وحرفوه وخرجوا عن طريق السلف الصالح، ونحن نقول: إن لله وجهاً، لإثباته له في هذه الآية، ولا يماثل أوجه المخلوقين لنفي المماثلة في قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وبذلك نسلم ونجري النصوص على ظاهرها، المراد بها، وقوله: {ذو الجلال} أي: ذو العظمة {والإكرام } أي: إكرام من يطيع الله - عز وجل - كما قال تعالى: {أولئك في جنات مكرمون } فالإكرام أي أنه يكرم من يستحق الإكرام من خلقه، ويحتمل أن يكون لها معنى آخر وهو أنه يُكْرَم من أهل العبادة من خلقه، فيكون الإكرام هذا المصدر صالحاً للمفعول والفاعل، فهو مكرَم ومكرِم {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} وهذه الآية تكررت عدة مرات في هذه السورة، ومعناها أنه بأي نعمة من نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس،(18/9)
وهذا كالتحدي لهم، لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذه النعم، ثم قال سبحانه وتعالى: {يسأله من في السماوات والأَرض كل يوم هو في شأن } أي: يسأل الله من في السماوات والأرض، والذي في السماوات هم الملائكة يسألون الله - عز وجل - ومن سؤالهم أنهم {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } إلى آخره، ويسأله من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله - عز وجل - قسمان: الأول: السؤال بلسان المقال، وهذا إنما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربه دائماً حاجاته، لأنه يعلم أنه لا يقضيها إلا الله - عز وجل - وسؤال المؤمن ربه عبادة، سواء حصل مقصوده أم لم يحصل، فإذا قلت: يا رب أعطني كذا. فهذه عبادة، كما جاء في الحديث: «الدعاء عبادة () ». وقال تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } فقال {ادعوني} ثم قال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} وهذا دليل على أن الدعاء عبادة، النوع الثاني: دعاء بلسان الحال، وهو أن كل مخلوق مفتقر إلى الله ينظر إلى رحمته، فالكفار مثلاً ينظرون إلى الغيث النازل من السماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحة الحيوان، وإلى كثرة الأرزاق وهم يعلمون إنهم لا يستطيعون أن يجدوا ذلك بأنفسهم، فهم إذن يسألون الله بلسان الحال، ولذلك إذا مستهم ضراء اضطروا إلى سؤال الله بلسان المقال {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين}. {كل يوم هو في شأن } من يحصي الأيام؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - ومن يحصي الشهور؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - {كل يوم هو في شأن }، يغني فقيراً، ويفقر غنيًّا، ويمرض صحيحاً، ويشفي سقيماً، ويؤمّن خائفاً ويخوف آمناً، وهلم جرا، كل يوم يفعل الله تعالى ذلك، هذه الشئون التي تتبدل عن حكمة ولا شك، قال الله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } وقال تعالى: {أيحسب(18/10)
الإنسان أن يترك سدًى } فنحن نؤمن أن الله لا يقدر قدراً إلا لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلم، ولهذا قال: {كل يوم هو في شأن }، ولكن اعلم أيها المؤمن أن الله تعالى لا يقدر لك قدراً إلا كان خيراً لك، إن أصابتك ضراء فاصبر وانتظر الفرج، وقل: الحمد لله على كل حال. وكما يقال: دوام الحال من المحال، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس هذا لأحد إلا للمؤمن {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } نقول فيها ما قلنا في الآيات السابقة أن المعنى بأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ والجواب: لا نكذب بشيء من نعم الله، بل نقول: هي من عند الله، فله الحمد وله الشكر، ومن نسب النعمة إلى غير الله فهو مكذب. وإن لم يقل إنه مكذب قال الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } وهذه الآية يعني بها قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه على إثر مطر كان، قال لهم بعد صلاة الصبح: «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب» () .
{سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي ءالآء ربكما تكذبان} هذه الجملة المقصود بها الوعيد، كما يقول قائل لمن يتوعده سأتفرغ لك، وأجازيك. وليس المعنى أن الله تعالى يشغله شأن عن شأن ثم يفرغ من هذا، ويأتي إلى هذا، هو سبحانه يدبر كل شيء في آن واحد في مشارق الأرض ومغاربها وفي السماوات، وفي كل مكان يدبره في آن واحد، ولا يعجزه. فلا تتوهمن أن قوله: {سنفرغ} أنه الآن مشغول وسيفرغ. بل هذه جملة وعيدية تعبر بها العرب، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب وفي قوله: {سنفرغ لكم} من التعظيم ما هو ظاهر حيث أتى بضمير الجمع، {سنفرغ} تعظيماً لنفسه - جل وعلا - وإلا فهو واحد، وقوله: {أيها الثقلان(18/11)
} يعني الجن والإنس، وإنما وجه هذا الوعيد إليهما، لأنهما مناط التكليف، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } سبق تفسيرها فلا حاجة إلى التكرار {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأَرض فانفذوا} بعد الوعيد قال: {إن استطعتم أن تنفذوا} أي: مما نريده بكم {من أقطر السماوات والأَرض فانفذوا} ولكنكم لا تستطيعون هذا، فالأمر هنا للتعجيز، ولهذا قال: {لا تنفذون إلا بسلطان } يعني ولا سلطان لكم، ولا يمكن أحد أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض إلى أين يذهب؟ لا يمكن ثم قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار} يعني لو استطعتم، أو لو حاولتم لكان هذا الجزاء {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس} أي: محمى بالنار {فلا تنتصران} أي: فلا ينصر بعضكم بعضاً، وهذه الآية في مقام التحدي، وقد أخطأ غاية الخطأ من زعم أنها تشير إلى ما توصل إليه العلماء من الطيران، حتى يخرجوا من أقطار الأرض ومن جاذبيتها، وإلى أن يصلوا كما يزعمون إلى القمر أو إلى ما فوق القمر، فالآية ظاهرة في التحدي، والتحدي هو توجيه الخطاب إلى من لا يستطيع، ثم نقول: إن هؤلاء هل استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات، لو فرضنا أنهم نفذوا من أقطار الأرض ما نفذوا من أقطار السماوات، فالآية واضحة أنها في مقام التحدي، وأنها لا تشير إلى ما زعم هؤلاء أنها تشير إليه، ونحن نقول الشيء الواقع لا نكذبه، ولكن لا يلزم من تصديقه أن يكون القرآن دل عليه أو السنة، الواقع واقع، فهم خرجوا من أقطار الأرض، وهذا واقع لا يحتاج إلى دليل، وهذه الآية في سياقها إذا تأملتها وجدت أن هذا التحدي يوم القيامة، لأنه قال: {كل من عليها فان }، ثم ذكر {يسأله من في السماوات والأَرض} ثم ذكر {يا معشر الجن}، ثم ذكر ما بعدها يوم القيامة، {فإذا انشقت السماء} يعني تفتحت وذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها(18/12)
وتخلت وأذنت لربها وحقت أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} {فكانت وردةً} أي: مثل الوردة في الحمرة {كالدهان }، كالجلد المدهون، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } {فيومئذ} أي: إذا انشقت {لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن } لماذا؟ لأن كل شيء معلوم، والمراد لا يسأل سؤال استرشاد واستعلام، لأن كل شيء معلوم، أما سؤال تبكيت فيسأل مثل قوله تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأَنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} وقال - عز وجل -: {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} وقال - عز وجل - لأهل النار وهم يلقون فيها: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} وأمثالها كثير، إذن لا يسأل عن ذنبه سؤال استرشاد واستعلام، وإنما يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ، وما جاء من سؤال الإنس والجن عن ذنوبهم: هل أنت عملت أو لم تعمل؟ فهو سؤال تبكيت وتوبيخ، وهناك فرق بين سؤال الاسترشاد وسؤال التوبيخ فلا تتناقض الآيات، فما جاء أنهم يسألون فهو سؤال توبيخ، وما جاء أنهم لا يسألون فهو سؤال استرشاد واستعلام، لأن الكل معلوم ومكتوب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم} أي: بعلامتهم يعرفون، ومن علاماتهم - والعياذ بالله - أنهم سود الوجوه، قال الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وأنهم يحشرون يوم القيامة زرقاً إما أنهم زرق أحياناً وسود أحياناً، وإما أنهم سود الوجوه زرق العيون، وإما أنهم زرق زرقة يعني بالغة يحسبها الإنسان سوداء {يعرف المجرمون بسيمهم فيؤخذ بالنواصي والأَقدام } النواصي مقدم الرأس، والأقدام معروفة، فتؤخذ رجله إلى ناصيته، هكذا يطوى طيًّا إهانة له وخزياً له، فيؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقون في النار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون} يعني يقال هذه جهنم التي تكذبون بها، وقال {المجرمون } ولم يقل: تكذبون بها، إشارة إلى(18/13)
أنهم مجرمون، وما أعظم جرم الكفار الذين كفروا بالله ورسوله، واستهزؤا بآيات الله واتخذوها هزواً ولعباً، {يطوفون بينها} أي: يترددون بينها {وبين حميم ءان } أي: شديد الحرارة - والعياذ بالله -. أما كيف يكون ذلك فالله أعلم، لكننا نؤمن بأنهم يطوفون بينها وبين الحميم الحار الشديد الحرارة، والله أعلم بذلك، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم ذكر جزاء أهل الجنة فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان } يعني أن من خاف المقام بين يدي الله يوم القيامة، فإن له جنتين. وهذا الخوف يستلزم شيئين: الشيء الأول: الإيمان بلقاء الله - عز وجل - لأن الإنسان لا يخاف من شيء إلا وقد تيقنه. والثاني: أن يتجنب محارم الله، وأن يقوم بما أوجبه الله خوفاً من عقاب الله تعالى، فعليه يلزم كل إنسان أن يؤمن بلقاء الله - عز وجل -، لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } وقال تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}، وأن يقوم بما أوجبه الله، وأن يجتنب محارم الله فمن خاف هذا المقام بين يدي الله - عز وجل - فله جنتان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } سبق الكلام عليها {ذواتآ أفنان} أي صاحبتا أفنان، والأفنان جمع فنن وهو الغصن، أي أنهما مشتملتان على أشجار عظيمة ذواتي أغصان كثيرة وهذه الأغصان كلها تبهج الناظرين {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم قال {فيهما عينان تجريان } أي: في الجنتين عينان تجريان، وقد ذكر الله تعالى أن في الجنة أنهاراً من أربعة أصناف، فقال - جل وعلا -: {مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} والعينان اللتان تجريان، يظهر - والله أعلم - أنهما سوى هذه الأنهار الأربعة{فبأي ءالآء ربكما تكذبان } وقوله: {فيهما من كل فاكهة زوجان } أي: في هاتين الجنتين من كل فاكهة،والفاكهة كل ما يتفكه الإنسان به مذاقاً ونظراً،(18/14)
فيشمل أنواع الفاكهة الموجودة في الدنيا، وربما يكون هناك فواكه أخرى ليس لها نظير في الدنيا، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } {متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان } أي: يتنعمون بهذه الفاكهة حال كونهم متكئين، وعلى هذا فكلمة متكئين حال من فاعل والفعل المحذوف، أي: يتنعمون ويتفكهون، متكئين، والاتكاء قيل: إنه التربع، لأن الإنسان أريح ما يكون إذا كان متربعاً، وقيل {متكئين} أي: معتمدين على مساند من اليمين والشمال ووراء الظهر {على فرش} يعني جالسين {على فرش بطآئنها من إستبرق} يعني بطانة الفراش وهو ما يدحى به الفراش من استبرق وهو غليظ الديباج، وأما أعلى هذه الفرش فهو من سندس، وهو رقيق الديباج، وكله من الحرير {وجنى الجنتين دان } تأمل أو تصور هذه الحال إنسان متكىء مطمئن مستريح يريد أن يتفكه من هذه الفواكه هل يقوم من مكانه الذي هو مستقر فيه متكىء فيه ليتناول الثمرة؟ بيّن الله بقوله تعالى ذلك {وجنى الجنتين دان } قال أهل العلم: إنه كلما نظر إلى ثمرة وهو يشتهيها، مال الغصن حتى كانت الثمرة بين يديه لا يحتاج إلى تعب وإلى قيام، بل هو متكىء، ينظر إلى الثمرة مشتهياً إياها، فتتدلى له بأمر الله - عز وجل - مع أنها جماد، لكن الله تعالى أعطاها إحساساً بأن تتدلى عليه إذا اشتهاها ولا تستغرب فهاهي الأشجار في الغالب تستقبل الشمس، انظر إلى وجوه الأوراق أول النهار تجدها متجهة إلى المشرق، وفي آخر النهار تجدها متجهة إلى المغرب ففيها إحساس، كذلك أيضاً جنى الجنتين دان قريب يحس، إذا نظر إليه الرجل أو المرأة فإنه يتدلى حتى يكون بين يديه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف} {فيهن} أكثر العلماء يقولون: إن الضمير يعود إلى الجنتين، وأن الجمع باعتبار أن لكل واحد من الناس جنة خاصة به، فيكون {فيهن} أي في جنة كل واحد ممن هو في هاتين الجنتين قاصرات الطرف، وعندي أن قوله {فيهن} يشمل الجنات الأربع، هاتين(18/15)
الجنتين، والجنتين اللتين بعدهما، {قاصرات الطرف} يعني أنها تقصر طرفها أي نظرها على زوجها فلا تريد غيره، والوجه الآخر: قاصرات الطرف، أي: أنها تقصر طرف زوجها عليها فلا يريد غيرها، وعلى القول الأول يكون قاصرات مضافة إلى الفاعل، وعلى الثاني مضاف إلى المفعول {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } أي: لم يجامعهن، وقيل: إن الطمث مجامعة البكر، والمعنى أنهن أبكار لم يجامعهن أحد من قبل لا إنس ولا جن، وفي هذا دليل واضح على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان} أي: في الحسن والصفاء كالياقوت والمرجان، وهما جوهران نفيسان، الياقوت في الصفاء، والمرجان في الحمرة، يعني أنهن مشربات بالحمرة مع صفاء تام {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم قال - عز وجل -: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } يعني ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، الإحسان الأول: العمل، والإحسان الثاني: الثواب، أي: ما جزاء إحسان العمل إلا إحسان الثواب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان} أي: من دون الجنتين السابقتين جنتان من نوع آخر، وقد جاء ذلك مبيناً في السنة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما () » والآية صريحة أن هاتين الجنتين دون الأوليان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان مدهآ متان} أي: سوداوان من كثرة الأشجار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان} أي: تنضخ بالماء، أي: تنبع، وفي الجنتين السابقتين قال: {فيهما عينان تجريان }، والجري أكمل من النبع، لأن النبع لايزال في مكانه لكنه لا ينضب، أما الذي يجري فإنه يسيح، فهو أعلى وأكمل، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان } وهناك يقول: {فيهما من كل فاكهة زوجان }، أما هذا فقال {فيهما فاكهة ونخل ورمان }، والنخل والرمان معروفان في الدنيا، ولكن يجب أن تعلم أنه لا يستوي هذا وهذا. الاسم واحد(18/16)
والمسمى يختلف اختلافاً كثيراً، ودليل ذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون } ولو كانت النخل والرمان كالنخل والرمان في الدنيا لكنا نعلم، لكننا لا نعلم، فالاسم واحد، ولكن الحقيقة مختلفة، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط» () ، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان} {فيهن} وهذا جمع، وقد قال قبل ذلك {فيهما}، لأن هذا الجمع يعود على الجنان الأربع، ففي الجنان الأربع قاصرات الطرف كما سبق، وفي الجنان الأربع {خيرات حسان } أي: في الأخلاق. الأخلاق طيبة، حسان الوجوه والبدن، فالأول حسن الباطن وهذا حسن الظاهر {فبأي ءالآء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام} الحوراء هي الجميلة، التي جملت في جميع خلقها، وبالأخص العين: شديدة البياض، شديدة السواد، واسعة مستديرة من أحسن ما يكون، {مقصورات} أي: مخبئات، {في الخيام }: جمع خيمة، والخيمة معروفة هي بناء له عمود وأروقة، لكن الخيمة في الآخرة ليست كالخيمة في الدنيا، بل هي خيمة من لؤلؤة طولها في السماء مرتفع جداً، ويرى من في باطنها من ظاهرها، ولا تسأل عن حسنها وجمالها، هؤلاء الحور مقصورات مخبئات في هذه الخيام على أكمل ما يكون من الدلال والتنعيم {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } يعني لم يجامعهن أحد، بل هي باقية على بكارتها إلى أن يغشاها زوجها، جعلنا الله منهم، {ولا جآن } أي: ولا جن، وهذا يدل على أن الجن يدخلون الجنة مع الإنس وهو كذلك، لأن الله لا يظلم أحداً، والجن منهم صالحون، ومنهم دون ذلك، ومنهم مسلمون ومنهم كافرون، كالإنس تماماً، كما أن الإنس فيهم مطيع وعاصٍ، وفيهم كافر ومؤمن، كذلك الجن، والجن المسلم فيه خير، ويدل على الخير، وينبىء بالخير، ويساعد أهل الصلاح من الإنس، والجن الفاسق أو الكافر مثل الفاسق أوالكافر من بني آدم سواء بسواء، وكافرهم يدخل النار ، بإجماع(18/17)
المسلمين كما في القرآن: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} وهذا نص القرآن، وأجمع العلماء على أن الكافر من الجن يدخل النار، ومؤمن الجن يدخل الجنة، وقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } يدل على أن الجن يدخلون الجنة، وهو كذلك {فبأي ءالآء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} أي: معتمدين بأيديهم وظهورهم {على رفرف} أي: على مساند ترفرف مثل ما يكون على أطراف المساند، ويكون في الأسرّة، هكذا يرفرف، {متكئين على رفرف خضر}، لأن اللون الأخضر أنسب ما يكون للنظر، وأشد ما يكون بهجة للقلب، {وعبقري حسان }، العبقري هو الفرش الجيدة جداً، ولهذا يسمى الجيد من كل شيء عبقري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية التي رآها حين نزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «فما رأيت عبقرياً يفري فريه» () أي: ينزع نزعه: من قوته رضي الله عنه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } المعنى التقرير، يعني أن النعم واضحة فبأي شيء تكذبون؟ الجواب: لا نكذب بشيء، نعترف بآلاء الله ونعمه ونقر بها ونعترف بأننا مقصرون، لم نشكر الله تعالى حق شكره، ولكننا نؤمن بأن الله أوسع من ذنوبنا، وأن الله تبارك وتعالى عفو كريم يحب توبة عبده، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم» وذكر الرجل في فلاة أضل راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فطلبها ولم يجدها، فأيس منها فاضطجع في ظل شجرة ينتظرالموت، آيس من الحياة، فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، فأخذه وقال:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك» () ، يريد أنت ربي وأنا عبدك، لكن من شدة الفرح أخطأ فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل بناقته، اللهم تب علينا يا رب العالمين {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } ختم الله تبارك وتعالى هذه السورة بهذه الجملة العظيمة، أي ما أعظم(18/18)
بركة الله - عز وجل - وما أعظم البركة باسمه، حتى إن اسم الله يحلل الذبيحة أو يحرمها، لو ذبح الإنسان ذبيحة ولم يقل باسم الله تكون ميتة حراماً نجسة مضرة على البدن، حتى لو ذبح ونسي أن يقول: بسم الله. فهي حرام نجسة تفسد البدن، فيجب أن يسحبها للكلاب، لأنها نجسة، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} فانظر البركة، والإنسان إذا توضأ ولم يسم فوضوؤه عند بعض العلماء فاسد لابد من الإعادة، لأن البسملة واجبة عند بعض أهل العلم، والإنسان إذا رأى الصيد الزاحف، أو الطائر فيرميه ولم يسمِ يكون هذا الصيد حراماً ميتة نجساً مضراً على البدن، فانظر البركة، والإنسان إذا أتى أهله يعني جامع زوجته وقال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا» كان هذا حماية لهذا الولد الذي ينشأ من هذا الجماع، حماية له من الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً () » والإنسان يسعى يميناً وشمالاً لحماية ولده ويخسر الدراهم الكثيرة، وهنا هذا الدواء من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يسير من ناحية العمل، وسهل، وكل هذا دليل على بركة اسم الله عز وجل، {ذي الجلال والإكرام } أي: ذي العظمة والإكرام،{ذي الجلال والإكرام }: بمعنى صاحب، وهي صفة لرب، لا لـ(اسم) ولو كانت صفة لـ(اسم) لكانت ذو، والإكرام يعني هو يُكرِم وهو يُكرَم، فهو يكرم ويحترم ويعظم - عز وجل - وهو أيضاً يكرم، قال الله تعالى في أصحاب الجنة {أولئك في جنات مكرمون } فهو ذو الجلال والإكرام يكرم من يستحق الإكرام، وهو يكرمه - عز وجل - عباده الصالحون جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
----------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا (رقم 61)(18/19)
ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة (رقم 2811).
(2) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن (3291) وقال: هذا حديث غريب.
(3) انظر: تفسير ابن كثير رحمه الله سورة الرحمن حيث نسبه للشعبي رحمه الله.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة (2969) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(5)أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (71).
(6) تقدم ص (124).
(7) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (رقم 124).
(8) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: لو كنت متخذاً خليلاً (3676) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2393).
(9) أخرجه البخاري كتاب الدعوات، باب التوبة (6308، 6309) ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747).
(10) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع (141) ومسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434).(18/20)
تفسير سورة الواقعة
{بسم الله الرحمن الرحيم}، البسملة تقدم الكلام عليها {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأَرض رجاً} حذف الله جواب الشرط في هذه الآيات من أجل أن يذهب الذهن في تقديره كل مذهب، يعني إذا وقعت الواقعة صارت الأهوال العظيمة، وصار انقسام الناس، وحصل ما حصل مما أخبر به الله ورسوله مما يكون في يوم القيامة، وقوله: {إذا وقعت الواقعة } كقوله: {الحاقة ما الحآقة} والمراد بذلك يوم القيامة {ليس لوقعتها كاذبة } أي: ليست لوقعتها كذب، بل وقعتها حق ولابد، والإيمان بيوم القيامة أحد أركان الإيمان الستة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» () وكثيراً ما يقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر يحدو بالإنسان أن يعمل العمل الصالح، وأن يبتعد عن العمل السيء لأنه يؤمن أن هناك يوماً آخر يجازى فيه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {خافضة رافعة } يعني هي خافضة رافعة، أي: يخفض فيها الناس ويرفع فيها آخرون. ولكن من الذي يرفع؟ قال الله - عز وجل -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فأهل العلم والإيمان هم الذين لهم الرفعة في الدنيا والآخرة، ومن سواهم فإنهم موضوعون بحسب بعدهم عن الإيمان والعلم، وتخفض أهل الجهل والعصيان، وكم من إنسان في الدنيا رفيع الجاه، معظم عند الناس يكون يوم القيامة من أحقر عباد الله، والجبارون المتكبرون يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم () ، مع أنهم في الدنيا متبخترون مستكبرون عالون على عباد الله، لكنهم يوم القيامة موضوعون مهينون قد أخزاهم الله - عز وجل - {إذا رجت الأَرض رجاً } يعني زلزلت زلزلة عظيمة، ولهذا قال: {رجاً } أي: رجًّا عظيماً، وأنت تصور أنك(19/1)
ترج إناء فيه ماء كيف يكون اضطراب الماء فيه، فالأرض يوم القيامة ترج بأمر الله - عز وجل -، وهذا كقوله تعالى: {إذا زلزلت الأَرض زلزالها } وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم }، {وبست الجبال بساً } أي: بعثرت وهبطت وصارت كثيباً مهيلاً، ولهذاقال: {فكانت هباءً منبثاً } كالهباء الذي نراه حينما تنعكس أنوار الشمس في حجرة مظلمة، ترى هذا الهباء من خلال ضوء الشمس منبثًّا متفرقاً، هذه الجبال الصم الصلبة التي يكون الصخر فيها أكبر من الجبال، بل ربما يكون الجبل الواحد صخرة واحدة يكون يوم القيامة هباء منبثًّا بأمر الله - عز وجل -، فتبقى الأرض ليس فيها جبال ولا شجر ولا أودية ولا رمال، كما قال الله - عز وجل -: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ينسفها ربي نسفاً فيذرها} أي الأرض {قاعاً صفصفاً لا ترىفيها عوجاً ولا أمتاً } {وكنتم} الخطاب للآدميين عموماً {أزواجاً ثلاثة } أي أصنافاً، كما قال الله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أي: أصنافهم، وقال تعالى: {وءاخر من شكله أزواج } أي: أصنافاً، فمعنى أزواجاً يعني أصنافاً (ثلاثة) لا رابع لها: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، فينقسم الناس يوم القيامة ثلاثة أقسام لا رابع لها {فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة مآ أصحاب المشئمة والسابقون السابقون} ذكرهم الله تعالى غير مرتبين في الفضل، فبدأ الله بأصحاب الميمنة ثم ثنَّى بأصحاب الشمال، ثم ثلَّث بالسابقين، لكن عند التفصيل بدأ بهم مرتبين على حسب الفضل فبدأ بالسابقين، ثم بأصحاب اليمين، ثم بأصحاب الشمال، وهذا التفصيل المرتب خلاف الترتيب المجمل، وهو من أساليب البلاغة، {فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة }. يعني أنه - عز وجل - أخبر بأن أحد الأصناف أصحاب الميمنة، ثم قال {مآ أصحاب الميمنة } من هم، وسيأتي إن شاءالله ذكرهم مفصلاً، {وأصحاب المشئمة} أي: ذوو الشؤم،(19/2)
وسيأتي أيضاً ذكرهم مفصلاً، {والسابقون السابقون } هؤلاء أفضل الأصناف، وقوله {والسابقون السابقون }. أصح الأعاريب فيها أن قوله {والسابقون} مبتدأ، وخبره {السابقون }، يعني أن السابقين إلى الأعمال الصالحة هم السابقون إلى الثواب في الآخرة، فكأنه قال: السابقون في الدنيا بالأعمال الصالحة هم السابقون في الآخرة بالثواب {أولئك المقربون }، أي: إلى الله - عز وجل - فهم في أعلى الجنان، وأعلى الجنان أقرب إلى الرحمن - عز وجل -، لأن الفردوس وهو أعلى درجات الجنة فوقه عرش الله - عز وجل -، {أولئك المقربون } ذكر منزلتهم قبل ذكر منزلهم، وكما يقال: الجار قبل الدار، وكما قالت امرأة فرعون: {رب ابن لى عندك} بدأت بالجوار {بيتاً في الجنة} وهنا قال: {أولئك المقربون } قبل أن يبدأ بذكر الثواب؛ لأن قربهم من الله - عز وجل - فوق كل شيء، جعلنا الله منهم {أولئك المقربون في جنات النعيم} أي في هذا المقر العظيم الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأضاف الجنات إلى النعيم، لأن ساكنها منعم في بدنه، ومنعم في قلبه، كما قال - عز وجل - في سورة الإنسان: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً} نضرة في الوجوه، وسروراً في القلوب، فهم في نعمتين: هما نعيم البدن، ونعيم القلب، {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير } هذا من نعيم البدن أيضاً {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } هذا من نعيم البدن إلى غير ذلك مما ذكره الله - عز وجل - من النعيم في الجنة، ولو لم يكن فيها إلا أن الإنسان يخلد فيها لا يموت، ويصح فلا يسقم، ويشب يكون شابًّا دائماً فلا يهرم، وفوق ذلك كله النظر إلى وجه الله - عز وجل -، كما قال الله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يعني فوق الحسنى وفسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله () ،(19/3)
اللهم اجعلنا ممن ينظرون إليك في جنات النعيم {ثلة من الأَولين } قيل: إن المراد بذلك الأمم السابقة {وقليل من الأَخرين } يعني أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا القول تكون قلة هذه الأمة باعتبار كثرة الأمم السابقة، وليس المعنى أن الذين يدخلون الجنة من الأمم السابقين باعتبار كل نبي أكثر من الذين يدخلون الجنة من هذه الأمة، وقيل: المراد بالأولين أول هذه الأمة، أي: ثلة من أول هذه الأمة، وقليل من آخرها، وهذا القول هو الصحيح، بل هو المتعين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» () أي نصفهم، وفي حديث آخر: «إن أهل الجنة مائة وعشرون صفًّا منهم ثمانون من هذه الأمة» () وعلى هذا لا يصح أن نقول قليل من هذه الأمة، وكثير من الأمم السابقة، بل نقول: ثلة أي كثير من هذه الأمة من أولها، وقليل من آخرها، {على سرر موضونة } سرر جمع سرير، وهو ما يتخذه الإنسان للجلوس والنوم، {موضونة } قال العلماء: منسوجة من الذهب، {متكئين عليها} أي: معتمدين على أيديهم وعلى ظهورهم، فهم في راحة في اليد وفي الظهر {متقابلين } أي: يقابل بعضهم بعضاً، وهذا يدل على سعة المكان، لأن المكان إذا كان ضيقاً لا يمكن أن يكون الناس متقابلين، وهذه الآية تدل على أن الأمكنة واسعة وهو كذلك، ولهذا كان أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه ألفي عام () ، ينظر أقصاه كما ينظر أدناه، والله على كل شيء قدير، والجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، ومن يحيط بسماء واحدة، كيف وهي عرض السماوات السبع، والسماوات السبع بعضها من فوق بعض؟! وكلما كان الشيء فوق كانت دائرته أوسع، فمن يحيط بهذا إلا الله - عز وجل -، إذن هم متقابلون لأن أمكنتهم واسعة، ولأن لديهم من كمال الأدب ما لا يمكن أن يستدبر أحدهم الآخر، كلهم مؤدبون، كلهم قلوب صافية، قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين } ولهذا نهى(19/4)
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن التدابر () . والتدابر يشمل التدابر القلبي بحيث يكون كل واحد متجه إلى وجه، والتدابر البدني إلا عند الحاجة أو الضرورة، وإلا فمتى أمكن التقابل فهو أفضل، فلو أن أحداً يكلمك وقد ولاَّك ظهره هل يكون سماعك له ومحبتك له كما لو كان يحدثك مستقبلاً إياك؟ وهذا شيء مشاهد معلوم، فأهل الجنة على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين، وفي حال الاتكاء {يطوف عليهم ولدان مخلدون} الولدان جمع ولد، أو جمع وليد: كغلمان جمع غلام {يطوف عليهم} يتردد عليهم، {ولدان مخلدون } أي: خلقوا ليخلدوا، وهم غلمان شباب إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، لجمالهم وصفائهم وكثرتهم وانتشارهم في أملاك أسيادهم، إذا رأيتهم أي: إذا رأيت الولدان، فإذا كان الولدان تحسبهم لؤلؤاً منثوراً، فكيف بالسادة؟ أعظم وأعظم {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين} أكواب هي عبارة عن كؤوس لها عرى، والأباريق أيضاً أواني لها عرى {وكأس من معين } ليس له عروة، قوله: {من معين } أي: من خمر معين {لا يصدعون عنها ولا ينزفون } يعني لا يوجع بها الرأس، ولا ينزف بها العقل، بخلاف خمر الدنيا فإنها تؤلم الرأس وتذهب العقل، {وفاكهة} معطوفة على قوله بأكواب، أي: ويطوف عليهم الولدان بفاكهة {مما يتخيرون } لطيبها منظراً، وطيبها مشمًّا، وطيبها مأكلاً، وهذه الفاكهة طيبة في منظرها، وطيبة في رائحتها، وطيبة في مأكلها ومذاقها؛ لأن الله قال: {مما يتخيرون } والإنسان لايعاف الشيء إلا لقبح منظره، أو لقبح رائحته، أو لقبح مأكله، والفاكهة في الجنة طيبة في لونها، وحجمها، وريحها، ومذاقها، وسبحان الله يؤتون بها متشابهة في اللون والحجم والرائحة، لكن في المذاق مختلفة، وهذا مما يزيد الإنسان فرحاً وسروراً وإيماناً بقدرة الله - عز وجل - {ولحم طير مما يشتهون } أي: ويطوف عليهم هؤلاء الولدان بلحم طير، وذكر لحم الطير؛ لأن لحوم الطير أنعم(19/5)
اللحوم وألذها، وهذا الطير من أين يتغذى؟ الجواب: ليس لنا أن نسأل عن هذا، لأن أمور الغيب يجب علينا أن نؤمن بها بدون سؤال، فنقول: إن كانت هذه الطيور تحتاج إلى غذاء فما أكثر ما تتغذى به، لأنها في الجنة، وإن كان لا تحتاج إلى غذاء، فالله على كل شيء قدير.
{وحور عين } الحور هن البيض، وعين: أي حسنات الأعين، وهن ذات العيون الواسعة الجميلة {كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي: المغطى حتى لا تفسده الشمس ولا الهواء ولا الغبار فيكون صافياً من أحسن اللؤلؤ {جزاءً بما كانوا يعملون } أي: يجزون بهذا الثواب الجزيل {جزاءً بما كانوا يعملون } أي: بعملهم، أو بالذي كانوا يعملونه لأن (ما) في قوله {بما كانوا يعملون } يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون اسماً موصولاً، والباء هنا للسببية، والباء لها معانٍ كثيرة بحسب السياق فتكون للعوض كقولهم: بعت الثوب بدينار، وتكون للسببية كما في قوله تعالى: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} فقوله: {فأخرجنا به} أي: بسببه، ولا يصح أن تكون الباء في قوله تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون } للعوض؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» () فالباء في قوله: {جزاءً بما كانوا يعملون } أي: بسبب عملهم، وليس المعنى أنه عوض؛ لأن الله تعالى لو أراد أن يعاوضنا لكانت نعمة واحدة تحيط بجميع أعمالنا {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فانتبه لهذا، ولذلك استشكل بعض العلماء قوله تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون } والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» والجواب أن الباء في النفي باء العوض، والباء في الإثبات باء السببية {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاما سلاما} أي: أهل الجنة لا يسمعون كلاماً لا فائدة منه، ولا كلاماً يأثم به الإنسان، فالكلام الذي لا خير فيه،(19/6)
والكلام القبيح لا يوجد في الجنة {إلا قيلاً سلاما سلاما } الاستثناء هنا استثناء منقطع؛ لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فالسلام ليس من اللغو ولا من التأثيم، وعلامة الاستثناء المنقطع أن تجعل بدل {إلا } (لكن) فيستقيم الكلام، وهنا لو قيل في غير القرآن: لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ولكن قيلاً سلاماً سلاماً لاستقام الكلام. ومثل ذلك قوله تعالى: {فذكر إنمآ أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأَكبر} فالاستثناء هنا {إلا من} منقطع؛ لأن ما بعد {إلا} ليس من جنس ما قبلها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس بمصيطر لا على الكافرين ولا على غيرهم، فتكون {إلا} بمعنى لكن، ولهذا جاءت الفاء {فيعذبه الله العذاب الأَكبر } وعليه لو أن قارئاً وقف على قوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر } فالوقف صحيح.
{سلاما سلاما } أي: إلا قول فيه السلامة وإدخال السرور والفرح بين أهل الجنة جعلنا الله منهم {وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين } هذه الطبقة الثانية وهي دون الأولى، والاستفهام في قوله: {مآ أصحاب اليمين } استفهام تعجب وتفخيم، يعني: أي قوم هؤلاء؟! {في سدر مخضود } السدر شجر معروف ظله بارد ومنشط، ولكن السدر الذي في الجنة ليس كالسدر الذي في الدنيا، الاسم واحد والمعنى مختلف، كما قال تعالى: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون } ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم. والمخضود الذي لا شوك فيه {وطلح منضود } الطلح قيل: إنه شجر الموز، والمنضود الذي ملىء ثمرة {وظل ممدود } أي: لا نهاية له؛ لأن الجنة ليس فيها شمس بل هي ظل، وصفها بعض السلف بأنها كالنور الذي يكون قرب طلوع الشمس، تجد الأرض مملوءة نوراً ولكن لا تشاهد شمساً، فهو ظل ممدود في المساحة والزمن {وماء مسكوب } أي: ماء مستمر دائماً، كما قال تعالى: {فيهما عينان تجريان } وغير الماء أنهار أخرى من عسل(19/7)
ولبن وخمر، فالأنواع أربعة، وقد ورد أن هذه الأنهار تجري في غير أخدود، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
فإذا قال قائل: هل هذا ممكن؟!
فالجواب: نقول لا تتحدث هل هذا ممكن، بل صدق، وأخبار الغيب لا يمكن أن يرد عليها هذا السؤال، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر () ؟ الجواب: بلى، والواجب التصديق، وأن لا نقول: كيف؟ ولِمَ؟ لأن أمور الغيب ثابتة في القرآن والسنة فلا تسأل مثل هذا السؤال، لأنه لا يمكن الإحاطة بها، بل قل: آمنت بالله ورسوله، واستقم.
{وفاكهة كثيرة } الفاكهة كل طعام أو شراب يتفكه به الإنسان؛ لأن الطعام والشراب يكون أحياناً ضرورياً معتاداً لا تتفكه به بل هو ضروري للبقاء، وأحياناً يكون الطعام والشراب فاكهة يتفكه به الإنسان {كثيرة } أي: في أي وقت من الأوقات تجد هذه الفاكهة بينما في الدنيا الفواكه لها أوقات معينة تنقطع، ولهذا قال تعالى: {لا مقطوعة} أي: لا تقطع أبداً في كل الأوقات {ولا ممنوعة } أي: لا أحد يمنعها، بل قد قال الله تعالى: {قطوفها دانية } أي: ما يقطفه الإنسان من الثمرة داني، حتى إنه إذا اشتهى الإنسان الثمرة وهي فوق تدلى الغصن حتى يكون بين يديه بدون تعب، وفاكهة الدنيا مقطوعة تأتي في وقت دون وقت، وممنوعة فلا يمكن أن تدخل بستان أحدٍ إلا بإذنه، أما في الآخرة فلا {وفرش مرفوعة } الفراش ما ينام عليه الإنسان {مرفوعة } أي عالية، ولما كان الذي مع الإنسان في الفراش الحور العين، قال الله تعالى: {إنآ أنشأناهن إنشاءً } أي: أنشأناهن إنشاءً عجيباً غريباً بديعاً، وفسر هذا الإنشاء بقوله تعالى: {فجعلناهن أبكاراً } أي: هؤلاء الزوجات أبكار مهما أتاها زوجها عادت بكراً {إنمآ أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ونساء الدنيا إذا افتض الزوج بكارة الزوجة(19/8)
لا تعود، ولكن في الآخرة تعود بكراً {عرباً أتراباً } العرب المتحببات إلى أزواجهن، وهذا يدل على كمال المتعة أن تكون الزوجة تتحبب إلى زوجها وتتقرب إليه وتغريه بنفسها، وتفعل كل ما يوجب محبته لها، {أتراباً } أي: على سن واحدة لا تختلف {لأصحاب اليمين } أي: ذلك المذكور من النعيم النفسي والبدني لأصحاب اليمين.
{ثلة من الأَولين وثلة من الأَخرين} هؤلاء هم أصحاب اليمين الذين هم في المرتبة الثانية، والمرتبة الأولى السابقون السابقون، قال الله تعالى فيهم: {ثلة من الأَولين وقليل من الأَخرين} يعني ثلة من الأولين من هذه الأمة، وقليل من الآخرين، فإن خير قرون الأمة القرن الأول الذي هو قرن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم تتناقص، أما أصحاب اليمين فقال الله تعالى فيهم: {ثلة من الأَولين وثلة من الأَخرين} أي: جماعة من هؤلاء وجماعة من هؤلاء، ثم ذكر الله القسم الثالث، فقال: {وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال} وهم الكفار والمنافقون {في سموم وحميم } هذا القسم في سموم، أي: حرارة شديدة - والعياذ بالله -، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة كيفيتها، فقال الله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً } وأخبر أنه {يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد} والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقوله: {حميم}، الحميم هو الماء الحار الشديد الحرارة، فهم - والعياذ بالله - محاطون بالحرارة من كل وجه، ومن كل جانب {وظل من يحموم } اليحموم هو الدخان المحض، وقد وصفه الله بأنه {لا بارد ولا كريم} يعني ليس بارداً يقيهم الحر، ولا كريم حسن المنظر يتنعمون به، ويستريحون فيه فهو لا بارد كما هو الشأن في الظل، ولا كريم، أي: حسن المظهر لأنه دخان كريه منظره حار مخبره - نسأل الله العافية -، ثم(19/9)
بين حالهم من قبل فقال: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين }، وذلك في الدنيا، قد أترف الله أبدانهم، وهيأ لهم من نعيم البدن ما وصلوا فيه إلى حد الترف، لكن هذا لم ينفعهم - والعياذ بالله - ولم ينجهم من النار، {وكانوا يصرون على الحنث العظيم }، يصرون أي: يستمرون عليه، والحنث العظيم هو الشرك؛ لأن الأصل في الحنث الإثم، والعظيم هو الشرك، قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم } وكانوا أيضاً ينكرون البعث: {وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون أو ءابآؤنا الأَولون } ينكرون هذا إنكاراً عظيماً، يقولون: أإذا بليت عظامنا وصارت رفاتاً هل نبعث؟ وأيضاً هل يبعث آباؤنا الأولون؟ ولهذا يحتجون يقولون: {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين}، وهذه حجة باطلة؛ لأنه لا يقال لهم: إنكم ستبعثون اليوم، وإنما تبعثون يوم القيامة، فكيف تتحدون وتقولون هاتوا آباءنا؟ فاليوم الآخر ليس هو اليوم الحاضر حتى يتحدوا ويقولوا هاتوا آباءنا نقول: إن هذا يكون يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {قل إن الأَولين والأَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} الأولون من المخلوقين والآخرون كلهم سيبعثون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لا جبال ولا أشجار، ولا كروية بل تمد الأرض مسطحة، يرى أقصاهم كما يرى أدناهم، والآن لما كانت الأرض كروية فإن البعيد لا تراه؛ لأنه منخفض، لكن إذا كان يوم القيامة سطحت الأرض، وصارت كالأديم، أي: كالجلد الممدود، فيبعث الخلائق كلهم على هذا الصعيد، وقوله: {إلى ميقات يوم معلوم } أي: عند الله - عز وجل - لقول الله: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} {ثم إنكم} أي بعد البعث {أيها الضآلون المكذبون } الضالون في العمل فهم لا يعملون، المكذبون للخبر فهم لا يصدقون - والعياذ بالله - {لأَكلون من شجر من زقوم } أي: آكلون من شجر، وهذا الشجر نوعه من زقوم، كما تقول: خاتم من حديد، وباب من خشب، وجدار(19/10)
من طين، فقوله {من شجر من زقوم } من شجر متعلقة بأكلهم، ومن زقوم بيان للشجر، وسمي زقوماً لأن الإنسان - والعياذ بالله - إذا أكله يتزقمه تزقماً، لشدة بلعه لا يبتلعه بسهولة {فمالئون منها البطون } أي: أنهم يملأون البطون من هذا الشجر، مع أن هذا الشجر مرّ خبيث الرائحة، كريه المنظر، لكن لشدة جوعهم يأكلونه كما يأكل الجائع المضطر، فهم يأكلونه على تكره، كما قال الله - عز وجل -: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت}، فهم يأكلون من هذا الشجر، ويملأون البطون منها، يأتيهم شغف عظيم جداً للأكل، حتى يملأوا بطونهم مما يكرهونه، وهذا أشد في العذاب - نسأل الله العافية - ثم إذا ملأوا بطونهم من هذا الطعام اشتدت حاجتهم إلى الشرب، فكيف يشربون؟ قال الله تعالى: {فشاربون عليه من الحميم} الحميم: هو الماء الحار، يشربون ماءً حارًّا بعد أن يستغيثوا مدة طويلة، وقد وصف الله هذا الماء بقوله: {بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقًا } وقال الله - عز وجل -: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم } فتأمل يا أخي هذا: إذا قربوه من الوجه يشويه وإذا دخل بطونهم قطع أمعاءهم، ومع ذلك يشربونه بشدة: {شرب الهيم }، أي: شرب الإبل، والهيم: جمع هائمة، أو جمع هيماء، يعني أنها شديدة العطش لا يرويها الشيء القليل، فيملأون بطونهم - والعياذ بالله - من الشجر الزقوم، ويشربون من الحميم شرب الهيم، أسأل الله أن يجيرني وإياكم من النار.
{هذا نزلهم يوم الدين } أي: هذه ضيافتهم، بخلاف المؤمنين فإن ضيافتهم جنات الفردوس {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنهاحولاً } ثم قال - عز وجل -: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون } وهذا أمر لا أحد ينكره: أن خالقنا هو الله، حتى المشركون الذين يشركون مع الله إذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله، {نحن خلقناكم فلولا تصدقون } أي: أول(19/11)
مرة {فلولا تصدقون } أي: في إعادتكم ثاني مرة، ولولا هنا بمعنى هلا تصدقون، كان الواجب عليهم وهم يصدقون بأن خالقهم أول مرة هو الله، أن يصدقوا بالخلق الآخر؛ لأن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الآخر من باب أولى، كما قال - عز وجل -: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}. وقال - عز وجل -: {وأن عليه النشأة الأُخرى} ثم ضرب الله تعالى أمثالاً بما فيه وجودنا، وما فيه بقاؤنا، وما فيه استمتاعنا، فقال: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} أي: أخبروني عن هذا المني الذي يخرج منكم: هل أنتم تخلقونه أم الله؟ والجواب: الله - عز وجل - هو الذي يخلقه، فيخرج من بين الصلب والترائب، وهو الذي يخلقه في الرحم خلقاً من بعد خلق، فنحن لا نوجد هذا المني ولا نطوره في الرحم، بل ذلك إلى الله - عز وجل - {أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } الجواب: بل أنت يا ربنا. {نحن قدرنا بينكم الموت} أي: قضيناه بينكم، {كل نفس ذآئقة الموت}، ولابد حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون } {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} أي: لا أحد يسبقنا فيمنعنا أن نبدل أمثالكم، بل نحن قادرون على ذلك، وسوف يبدل الله تعالى أمثالنا أي ينشئنا خلقاً آخر وذلك يوم القيامة. {وننشئكم في ما لا تعلمون } وذلك يوم القيامة {ولقد علمتم النشأة الأُولى} وهي أنكم نشأتم في بطون أمهاتكم، وأخرجكم الله - عز وجل - من العدم {فلولا تذكرون } أي: فهلا تذكرون وتتعظون، وهذا دليل عقلي من الله - عز وجل - يعرضه على عباده ومعناه: إنا بدأناكم أول مرة فإذا بدأناكم أول مرة، فلسنا بمسبوقين على أن نعيدكم ثاني مرة.
{أفرءيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} أي: أخبروني أيها المكذبون بالبعث عن الذي تزرعونه بالحرث: هل أنتم الذين تخرجونه زرعاً بعد الحب(19/12)
أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا، أنت الذي تزرعه، أي تنبته حتى يكون زرعاً، كما قال - جل وعلا -: {إن الله فالق الحب والنوى} فلا أحد يستطيع أن يفلق هذه الحبة حتى تكون زرعاً، ولا هذه النواة حتى تكون نخلاً، إلا الله - عز وجل - {لو نشاء لجعلناه حطاماً} ولم يقل - عز وجل - لو نشاء لم نخرجه بل قال: {لجعلناه حطاماً} أي: بعد أن يخرج ويكون زرعاً وتتعلق به النفوس يجعله الله تعالى حطاماً، وهذا أشد ما يكون سبباً للحزن والأسى؛ لأن الشيء قبل أن يخرج لا تتعلق به النفوس، فإذا خرج وصار زرعاً ثم سلط الله عليهم آفة، فكان حطاماً، أي: محطوماً لا فائدة منه، فهو أشد حسرة {فظلتم تفكهون } أي: تتفكهون بالكلام تريدون أن تذهبوا الحزن عنكم، فتقولون {إنا لمغرمون } أي لحقنا الغرم بهذا الزرع الذي صار حطاماً، ثم تستأنفون فتقولون: {بل نحن محرومون} أي: حرمنا هذا الزرع، وصار حطاماً ففقدناه، ثم انتقل الله - عز وجل - إلى مادة أخرى، وهي مادة الحياة، وهي الماء فقال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون } أي: أخبرونا عنه من الذي خلقه؟ من الذي أوجده {أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون }؟ والجواب: بل أنت يا ربنا، والمعنى: هل أنتم أنزلتم الماء الذي تشربونه من المزن أي من السحاب أم نحن المنزلون؟ الجواب: هو الله - عز وجل -، لأنه يرسل إلينا السحاب فينزل المطر فمنه ما يبقى على الأرض، وما شربته الأرض يسلكه الله تعالى ينابيع في الأرض، ويستخرج من الآبار، ويجري من العيون، فأصل الماء الذي نشرب من المزن، من السحاب، ولذلك إذا قلَّ المطر في بعض الجهات قل الماء وغار، واحتاج الناس إلى الماء {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } أي: جعلناه مالحاً، كريه الطعم لا يمكن أن يشرب، وهنا يقول: {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } ولم يقل: لو نشاء لغورناه، أو منعنا إنزاله؛ لأن كونهم ينظرون إلى الماء رأي العين ولكن لا يمكنهم شربه، أشد حسرة(19/13)
مما لو لم يكن موجوداً، والله - عز وجل - يريد أن يتحداهم بما هو أعظم شيء في حسرة نفوسهم {فلولا تشكرون } أي فهلا تشكرون الله - عز وجل - على إنزاله من المزن، وعلى كونه سائغاً عذباً لذيذ الطعم سريع الهضم، ثم انتقل الله تعالى إلى أمر ثالث يصلح به الطعام والشراب وهو النار، فقال: {أفرءيتم النار التى تورون } أي: توقدون {أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون } والجواب: بل أنت يا ربنا، وشجرة النار هي شجر معروف الحجاز، وربما يكون معروفاً غيره، يسمى المرخ والعفار، وهذا الشجر له خاصية إذا ضرب بالمرو أو بشيء ينقدح مع المماسة، اشتعل ناراً يوقد منه وهو معروف، ولهذا يقال :
في كل شجر النار واستنجد المرخ والعفار
يعني صار أعظمها، هذه النار التي نوقدها، ونطبخ عليها طعامنا، ونسخن مياهنا وننتفع بها أنشأها الله عز وجل {نحن جعلناها تذكرةً} أي: تذكر هذه النار بنار الآخرة، مع أن نار الآخرة فضلت بتسعة وستين جزءاً على نار الدنيا كلها، لما فيها من النيران الحارة الشديدة {ومتاعا للمقوين } أي: للمسافرين يتمتعون بالنار بالتدفئة، والدلالة على المكان، لأنهم في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان الناس يستدلون على الأمكنة بنار يضعونها على مكان مرتفع تهدي الضال، ويضرب المثل في الدلالة بالعلم عليه النار، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
{فسبح باسم ربك العظيم } أي: سبح الله - عز وجل - بهذا الاسم، فقل: سبحان ربي العظيم، والتسبيح يعني أن الله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، فإذا قلت: سبحان الله، فالمعنى أني أنزهك يا ربي من كل نقص وعيب، وقوله: {العظيم } أي: ذو العظمة البالغة، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزلت {سبح اسم ربك الأَعلى } قال: «اجعلوها في سجودكم» ()، ولهذا ينبغي للإنسان إذا كان يصلي وقال: سبحان ربي العظيم. أن(19/14)
يستحضر أمر الله في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم } وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «اجعلوها في ركوعكم» حتى يجمع بين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} يخبر الله تبارك وتعالى أنه يقسم بمواقع النجوم، ولا في قوله {فلا أقسم} للتنبيه والتوكيد وليست للنفي؛ لأن المراد إثبات القسم وليس نفيه وهذا كقوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد } وقوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة } وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} وأمثال ذلك يؤتى بـ (لا) بصورة النفي، والمراد بذلك التوكيد والتنبيه. والقسم تأكيد الشيء بذكر معظم بأدوات مخصوصة، وهي الواو والباء والتاء، وقوله: {بمواقع النجوم } اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فمنهم من قال: إن المراد بذلك أوقات نزول القرآن؛ لأن القرآن نزل مفرقاً، والشيء المفرق يسمى منجماً، كما يقال في الدين المقسط على سنوات أو أشهر، يقال: إنه دين منجم، وقيل: المراد بمواقع النجوم مواقع الطلوع والغروب؛ لأن مواقع غروبها إيذان بالنهار، ومواقع طلوعها إيذان بالليل، وتعاقب الليل والنهار من آيات الله العظيمة الكبيرة التي لا يقدر عليها إلا الله - عز وجل - فيكون الله تبارك وتعالى أقسم بما يدل على إقبال الليل وإدباره، وقيل المراد بمواقع النجوم: الأنواء، وكانوا في الجاهلية يعظمونها حتى إنهم يقولون: إن المطر ينزل بالنوء. ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والمهم أن الله تعالى أقسم بمواقع النجوم على أمر من أعظم الأمور، وهو قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرءان كريم} لكن الله بين عظم هذا القسم قبل أن يبين المقسم عليه، فقال {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وأتى بالجملة الاعتراضية في قوله: {لو تعلمون} إشارة على أنه يجب أن نتفطن لهذا القسم وعظمته حتى نكون ذوي علم به {إنه لقرءان كريم } أي: إن الذي نزل على محمد صلى الله عليه(19/15)
وسلم {لقرءان كريم }، والكرم يراد به الحسن والبهاء والجمال، كما في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن وأمره أن يبين للناس أن عليهم زكاة في أموالهم قال: «إياك وكرائم أموالهم» () والكرائم جمع كريمة، والمراد بها الشاة الحسنة الجميلة، وهو كريم أعني القرآن كريم في ثوابه، فالحرف بحسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، وهو كريم في آثاره على القلوب وصلاحها، فإن قراءة القرآن تلين القلوب، وتوجب الخشوع لله - عز وجل - وكريم في آثاره بدعوة الناس إلى شريعة الله كما قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً } فالمهم أن القرآن كريم بكل معنى الكرم {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} اختلف العلماء - رحمهم الله - في الكتاب المكنون، فقيل: إنه اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ}. وقيل: المراد به الكتب التي بأيدي الملائكة كما قال تعالى: {فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} وهذا القول رجحه ابن القيم - رحمه الله - في كتابه «التبيان في أقسام القرآن» وأكثر المفسرين على أن المراد به اللوح المحفوظ.
{لا يمسه} أي: لا يمس هذا الكتاب المكنون {إلا المطهرون} وهم الملائكة طهرهم الله تعالى من الشرك والمعاصي، ولهذا لا تقع من الملائكة معصية، بل هم ممتثلون لأمر الله قائمون به على ما أراد الله، وذهب بعض المفسرين إلى قول غريب، وقالوا: المراد بقوله: {لا يمسه إلا المطهرون } أي لا يمس القرآن إلا طاهر، ولكن هذا قول ضعيف لا تدل عليه الآية () ، لأنه لو كان المراد ذلك لقال (إلا المتطهرون) يعني المتطهرين ولكنه قال: {المطهرون } أي من قبل الله - عز وجل -، فهذا القول ضعيف، ولولا أنه يوجد في بعض التفاسير التي بأيدي الناس ما تعرضنا له، لأنه لا قيمة له، والصواب أن المراد بذلك الملائكة، فإن قلنا: إن المراد بالكتاب المكنون الصحف(19/16)
التي بأيديهم فواضح في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون } وإذا قيل المراد به اللوح المحفوظ فكذلك المطهرون قد يمسونه بأمر الله - عز وجل -، وقد لا يمسونه. {تنزيل من رب العالمين } أي: هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، نزل من عند الله - عز وجل -، لأنه كلامه، وكلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن القرآن ليس بمخلوق، لأنه نزل من الله فهو كلامه، وكلامه من صفاته تعالى، وصفاته غير مخلوقة، وفي قوله: {تنزيل من رب العالمين } إشارة إلى أنه يجب علينا أن نعمل به؛ لأن الذي أنزله هو الرب المطاع الخالق الرازق، الذي يجب أن نطيعه بما أمر، وننتهي عما نهى عنه وزجر و{العالمين } كل من سوى الله، وسموا عالمين؛ لأنهم علم على خالقهم، فإن هذا الخلق إذا تأمله الإنسان دله على ما لله - عز وجل - من عظمة وسلطان ورحمة وغير ذلك من صفاته {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } يعني أبعد هذا البيان لعظمة القرآن الكريم تدهنون به الكفار وتسكتون عن بيانه وعن العمل به، وهذا الاستفهام للإنكار، لأن الواجب على من آمن بأنه {تنزيل من رب العالمين }، وأنه قرآناً كريماً، وأنه لا يمسه إلا المطهرون الواجب أن يصارح ويصرح ولا يدهن، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى: {ودوا لو تدهن فيدهنون } ولكن هذا ليس بحاصل، فالواجب على المؤمن أن يبرز بدينه ويفتخر به ويظهره، خلاف ما كان عليه كثير من الناس اليوم مع الأسف، تجد الرجل منهم إذا قام ليصلي يستحي أن يصلي، وربما يداهن ويؤخر الصلاة عن وقتها موافقة لهؤلاء الذين لا يصلون، وهذا غلط عظيم، بل الواجب أن يكون الإنسان صريحاً فلا يداهن في دين الله - عز وجل - {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} أي: تجعلون عطاء الله إياكم تكذيباً له كما قال - عز وجل -: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها} ومن ذلك أن ينسب الإنسان نعمة الله - عز وجل - إلى السبب متناسياً المسبب سبحانه وتعالى، كقوله مثلاً: مطرنا بنوء كذا(19/17)
فينسب المطر إلى النوء لا إلى الخالق - عز وجل -، فهذا نوع من الشرك، كما جاء ذلك صريحاً في حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى بهم صلاة الصبح ذات يوم في الحديبية وقد نزل مطر، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر» يعني انقسموا إلى قسمين مؤمن وكافر، «فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» () .
{فلولا إذا بلغت الحلقوم } أي: الروح، والذي يعين المرجع هنا السياق كما في قول الله تبارك وتعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب } أي: الشمس، ولم يسبق لها ذكر، ولكن السياق يدل على ذلك، فمرجع الضمير تارة يكون مذكوراً، وتارة يكون معلوماً: إما بالسياق وإما بشيء آخر، والحلقوم هو مجرى النفس، وفي جانب الرقبة الأسفل مجريان: مجرى الطعام والشراب، ويسمى المريء، ومجرى النفس وهو الحلقوم، وهو عبارة عن خرزات دائرية لينة منفتحة، أما المريء فإنه بالعكس فإنه كواحد من الأمعاء، ووجه ذلك أن مجرى النفس لابد أن يكون مفتوحاً، لأن النفس لو كان مجراه مغلقاً لكان التنفس شديداً، لكن برحمة الله جعل الله هذا مثل الأنبوب، لكنه لين، خرزات مستديرة، حتى يهون على المرء رفع رأسه وخفضه، أما المريء فهو مثل الأمعاء العادية، والطعام والشراب قوي يفتحه عند النزول إليه، وذكر الله الحلقوم دون المريء، لأن الحلقوم مجرى النفس، وبانقطاعه يموت الإنسان، فإذا بلغت الروح الحلقوم وهي صاعدة من أسفل البدن إلى هذا الموضع، حينئذ تنقطع العلائق من الدنيا، ويعرف الإنسان أنه أقبل على الآخرة وانتهى من الدنيا {وأنتم حينئذ تنظرون } أي تنظرون إلى الميت وما يعانيه من المشاق والسكرات، ولا تستطيعون أن تردوا ذلك(19/18)
عنه، ولو كنتم أقرب قريب إليه، وأحب حبيب إليه فإنه لا يقدر أحد على منع الروح إذا بلغت الحلقوم {ونحن أقرب إليه منكم} يعني أن الله تعالى أقرب إلى الحلقوم من أهله، ولكن المراد أقرب بملائكتنا، ولهذا قال: {ولكن لا تبصرون } والله تعالى يضيف الشيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته، لأن الملائكة رسله عليهم السلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولكنه من باب تفسير الشيء بما يقتضيه السياق، لأنه ربما يقول قائل: إن ظاهر الآية {ونحن أقرب إليه منكم} أن الأقرب هو الله - عز وجل - فلماذا تحرفونه؟ فنقول: نحن لا نحرفها، بل فسرناها بما يقتضيه ظاهرها، لأن الله قال : { ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } وهذا يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى، وأيضاً فإن القرب مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة لقوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون }، فإن قيل: كيف يضيف الله الشيء إلى نفسه والمراد الملائكة؟
قلنا: لا غرابة في ذلك، فإن الله يضيف الشيء إلى نفسه وهو من فعل الملائكة لأنهم رسله، ففعلهم فعله، ألم تر إلى قول الله تبارك وتعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} والمراد قراءة جبريل عليه السلام لا قراءة الله، لكنه أضاف فعل جبريل إليه لأنه بأمره، وهو الذي أرسله به، إذن {ونحن أقرب إليه منكم} يعني ملائكتنا أقرب إليه منكم، لأنهم حضروا لقبض الروح، والله تبارك وتعالى قد حفظ الإنسان في حياته وبعد مماته، ففي حياته هناك ملائكة يحفظونه من أمر الله، وبعد مماته ملائكة يقبضون الروح ويحفظونها لا يفرطون فيها إطلاقاً، فهم قريبون من الميت ولكننا نحن لا نبصرهم، لأن الملائكة عالم غيبي لا يُرون {فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ} أي: فهلا إن كنتم(19/19)
غير مجزيين: أي غير مبعوثين ومجازين على أعمالكم ترجعونها إن كنتم صادقين، الجواب: لا يمكن، وحينئذ يجب أن تصدقوا بالبعث والجزاء، لأنكم لا تقدرون على رد الروح حتى لا تجازى، فأيقنوا بالبعث.
ثم قسم الله تعالى المحتضرين إلى ثلاثة أقسام فقال في القسم الأول: {فأمآ إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم} - اللهم اجعلنا منهم - وهم الذين أتوا بالواجبات، وتركوا المحرمات، وأتوا بالمستحبات، وتنزهوا عن المكروهات، أي: أكملوا دينهم، والمقربون هم السابقون، الذين ذكروا في أول السورة، السابقون إلى الخيرات {فروح وريحان وجنت نعيم } اختلف المفسرون - رحمهم الله - في قوله: {فروح}، فقيل: فراحة، لأن المؤمن وإن كان يكره الموت لكنه يستريح به، لأنه يبشر عند النزع بروح وريحان، ورب غير غضبان، فيسر ويبتهج ولا يكره الموت حينئذ بل يحب لقاء الله - عز وجل -، وهذا لا شك راحة له من نكد الدنيا ونصبها وهمومها، وقيل: الروح بمعنى الرحمة، كما قال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام حين قال لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايييسوا من روح الله } أي: من رحمته، وهذا المعنى أعم من الأول، لأن الرحمة أعم من أن تكون راحة، أو راحة مع حصول المقصود، وإذا كان المعنى أعم كان حمل الآية عليه أولى، إذن {فروح} أي: رحمة، ومن الرحمة الراحة {وريحان} قيل: المراد بالريحان كل ما يسر النفس، وليس خاصًّا بالريحان ذي الرائحة الطيبة، بل كل ما فيه راحة النفس ولذتها من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومنكوح ومشموم، فهو شامل، وقيل: المراد بالريحان الرائحة الطيبة كالريحان المعروف، والأول: أشمل. فتحمل الآية عليه {وجنت نعيم } أي: جنة ينعم بها، وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه - جعلنا الله منهم - ينعم الإنسان فيها ببدنه وقلبه، فهو لا يتعب ولا ينصب، ولا يمرض ولا يحزن، ولا يهتم ولا يغتم، بل هو في نعيم دائم، والدنيا فيها نعيم لكنه نعيم منغص على(19/20)
حد قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وهكذا الدنيا إذا سرَّت يوماً فاستعد للإساءة من غد، وإذا أساءت يوم فقد تنعم في الثاني، أو لا تنعم، أما الجنة في الآخرة فهي دار نعيم في القلب ونعيم في البدن {وأمآ إن كان من أصحاب اليمين } وهم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرمات، لكنَّ فيهم نقصاً في المستحبات والتنزه عن المكروهات {فسلام} أي: سلامة {لك} أي: أيها المحتضر {من أصحاب اليمين } أي: أنت من أصحاب اليمين، والمعنى: فسلام لك حال كونك من أصحاب اليمين، والأولون هم المقربون إليهم، وأصحاب اليمين لا سابقين ولا مخذولين، بين بين، لكنهم ناجون من العذاب، ولهذا قال: {فسلام لك من أصحاب اليمين } وهذا القسم الثاني، أما القسم الثالث: {وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين } بالخبر {الضآلين } في العمل فلا تصديق ولا التزام، فكل كافر داخل في هذه الآية حتى المنافق {فنزل من حميم } أي: فله نزل من حميم، والنزل بمعنى الضيافة التي تقدم للضيف أول ما يقدم، فهؤلاء - والعياذ بالله - حظهم هذا النزل نزل من حميم، والحميم هو شديد الحرارة {وتصلية جحيم } أي يصلون الجحيم فيخلدون فيها، والجحيم من أسماء النار - اعاذنا الله وإياكم منها - {إن هذا لهو حق اليقين } أي: إن هذا المذكور لكم، وهو انقسام الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة {لهو حق اليقين } أي: اليقين المتحقق المتأكد وصدق الله - عز وجل - لا يمكن أن يخرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة. وهم المقربون، وأصحاب اليمين، والمكذبون الضالون، لا يمكن يخرجوا عن هذا {فسبح باسم ربك العظيم } سبح بمعنى نزه، والذي ينزه الله - عز وجل - عنه كل نقص وعيب، أو مماثلة للمخلوق، فهو منزه عن كل نقص لكمال صفاته وعن مماثلة المخلوق، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال: {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أي: من تعب وإعياء، وقوله:(19/21)
{باسم ربك} قيل: إن الباء زائدة، وأن المعنى سبح اسم ربك، كما قال الله تعالى: {سبح اسم ربك الأَعلى} وقيل: إنها ليست بزائدة، وأن المعنى سبح الله باسمه فلابد من النطق بالتسبيح، فتقول: سبحان الله، أما لو نزهته بقلبك فهذا لا يكفي، فعلى هذا تكون الباء للمصاحبة يعني سبح الله تسبيحاً مصحوباً باسمه {باسم ربك العظيم } الرب هو الخالق المالك المدبر، والعظيم ذو العظمة والجلال - جل وعلا -.
هذه السورة لو لم ينزل في القرآن إلا هي، لكانت كافية في الحث على فعل الخير وترك الشر، فقد ذكر الله تعالى في أولها يوم القيامة {إذا وقعت الواقعة } ثم قسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، ثم ذكر الله في آخرها حال الإنسان عند الموت، وقسم كل الناس إلى ثلاثة أقسام: مقربون، وأصحاب يمين، ومكذبون ضالون، وكذلك ذكر الله فيها ابتدأ الخلق في قوله: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والرزق من طعام وشراب وما يصلحهما فهي سورة متكاملة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتدبرها إذا قرأها، كما يتدبر سائر القرآن لكن هي اشتملت على معاني عظيمة والله الموفق.
------------------------------------
( 1 ) تقدم ص (62).
( 2 ) أخرجه الترمذي، كتاب صفةالقيامة، باب 47 (رقم 2492) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
( 3 ) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (رقم 181).
( 4 ) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (222).
( 5 ) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (رقم 239) والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أهل الجنة (رقم 2546) وقال: هذا حديث حسن.
( 6 ) أخرجه الإمام أحمد (2/13، 64) وعبد بن حميد (رقم 819) والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب منه رقم 17 (رقم 2553)(19/22)
وفي كتاب التفسير، باب ومن سورة القيامة (رقم 3330).
( 7 ) قال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام». أخرجه البخاري، كتاب الآدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (رقم 6065) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر (رقم 2559).
( 8 ) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت (رقم 5673) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى (رقم 2816).
( 9 ) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (رقم 1145) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (رقم 758).
( 10 ) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (رقم 869) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود (رقم 887).
( 11 ) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (1496) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (19).
( 12 ) انظر حكم مس المصحف بغير طهارة في فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - (11/212).
( 13 ) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (رقم 4147) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (رقم 71).(19/23)
تفسير سورة الحديد
{بسم الله الرحمن الرحيم} تقدم الكلام عليها، {سبح لله ما في السماوات والأَرض وهو العزيز الحكيم } معنى سبح أي نزه الله - عز وجل - عن كل عيب ونقص، وعن مماثلة المخلوقين، ودليل تنزهه عن كل عيب ونقص قول الله تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } واللغوب يعني التعب والإعياء، وهذا يدل على كمال قوته - عز وجل - وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } وقال تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون } فنزه الله تعالى نفسه عن الغفلة، وقال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً } فنزه نفسه عن العجز، ودليل تنزهه عن مماثلة المخلوقين، قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وأثبت الله لنفسه وجهاً في قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }، وأثبت الله لنفسه أنه استوى على العرش، والإنسان يستوي على البعير، أي يركب البعير ويستقر عليه ويعلو عليه، ليس استواؤه سبحانه وتعالى على العرش كاستواء الإنسان على البعير، والدليل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فكل صفة يثبتها الله لنفسه وللمخلوق مثلها فإن ذلك موافقة للاسم فقط، أما في الحقيقة فليس كمثله شيء، مثال ذلك: أثبت الله لنفسه علماً، وأثبت للمخلوق علماً، فقال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} فأثبت الله لنا علماً، وأثبت لنفسه علماً {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} وليس العلم الذي أثبته لنفسه كعلم المخلوق والدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فالله - عزوجل - لا يمكن أن يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته، ولا في صفاته، ولهذا لا يمكننا أن ندرك الله - عز وجل - نعلمه بآياته وصفاته وأفعاله، لكنا لا ندرك حقيقته - عز وجل - لأنه مهما قدرت من شيء فالله تعالى مخالف له غير مماثل،(20/1)
وقوله: {ما في السماوات والأَرض} أي: كل ما في السماوات والأرض، فإنه يسبح الله - عز وجل - وينزهه، ويشمل الآدمي، والجن، والملائكة، والحشرات، والحيوانات، وكل شيء، فكل ما في السماوات والأرض يسبح الله، وهل يسبحه بلسان المقال بمعنى يقول: سبحان الله، أو بلسان الحال، بمعنى أن تنظيم السماوات والأرض والمخلوقات على ما هي عليه يدل على كمال الله - عز وجل - وتنزهه عن كل نقص، الجواب: أنه يسبح الله بلسان الحال وبلسان المقال، إلا الكافر، فإنه يسبح الله بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الكافر يصف الله بكل نقص، يقول: اتخذ الله ولداً، ويقول: إن معه إلهاً، وربما ينكر الخالق أصلاً، لكن حاله وخلقته وتصرفه تسبيح لله - عز وجل -. وهل الحشرات والحيوانات تسبح الله بلسان المقال؟ الجواب: نعم، قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} الحشرات كلها تسبح الله بلسان المقال، والحصى يسبح الله كما كان ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم () {وهو العزيز الحكيم } العزيز يعني ذو العزة، والعزة هي الكبرياء والغلبة والسلطان وما أشبه ذلك، فالعزيز هو ذو السلطان الكامل والغلبة الكاملة، فلا أحد يغلبه - عز وجل - يقول الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
والحكيم لها معنيان: المعنى الأول: ذو الحكمة، والمعنى الثاني: ذو الحكم التام، فهي مشتقة من شيئين: من الحكمة والحكم، فالحكمة هي أن جميع أفعاله وأقواله وشرعه حكمة، وليس فيه سفه بأي حال من الأحوال، ولهذا قيل في تعريف الحكمة: (إنها وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها)، فما من شيء من أفعال الله، أو من شرع الله إلا وله حكمة، فإذا قدر الله الحر الشديد الذي يهلك الثمار فهو حكمة لا شك، وإذا منع الله المطر فهو حكمة، وإذا ألقى الله الموت بين الناس فهو حكمة، وكل شيء فهو حكمة، والشرائع كلها حكمة فإذا أحل الله البيع وحرم الربا(20/2)
فهو حكمة ، لأنا نعلم أن الله حكيم، ففرق الله - عز وجل - بين البيع والربا، فالبيع أحله الله، والربا حرمه، فإذا قال قائل: لماذا؟ قلنا: الله أعلم، الله حكيم - عز وجل -، ولهذا لما قالت المرأة لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ما بال الحائض تقضي الصوم - يعني إذا حاضت في رمضان - ولا تقضي الصلاة؟ سؤال فيه إشكال، لماذا الحائض إذا أفطرت في رمضان يلزمها قضاء الصوم، وإذا تركت الصلاة لا يلزمها قضاء الصلاة، وكلاهما فرض، قالت لها - رضي الله عنها -: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة () » فاستدلت - رضي الله عنها - بالحكم على الحكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم - عز وجل - فلم يوجب عليها قضاء الصوم دون قضاء الصلاة إلا لحكمة، لكن أحياناً نعرف الحكمة وأحياناً لا نعرفها، لماذا أحل الله البيع وحرم الربا؟ نقول: لأن الله أحل البيع وحرم الربا، ولذلك لما قال أهل الربا: إنما البيع مثل الربا. رد الله قولهم فقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، فإذا حكم الله بشيء شرعاً، أو حكم بشيء قدراً فلا يشكل عليك، إن وفقك الله لمعرفة الحكمة فهذا خير، وإن لم تعرف فاعلم أن الله حكيم وله أيضاً الحكم - عز وجل - قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} من يستطيع أن يرفع حكم الله - عز وجل - فيما إذا نزل به الموت؟ لا أحد، قال الله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ إن كنتم صادقين} لا يمكن، لأن الله حكم بهذا، وإذا حكم - عز وجل - بحروب وفتن من يرفع هذا إلا الله عز وجل، والله تعالى له الحكم في الأمور الشرعية قال الله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فالحكم لله - عز وجل - فإذا عرفت أن الله تعالى له الحكمة فيما شرع، وفيما خلق، وقدر، حينئذ تستسلم ولا تجادل، لأن الذي حكم بذلك هو الله، وإذا(20/3)
علمت أن الحكم لله - عز وجل - بين العباد فترجع الأمور الشرعية، إلى الكتاب والسنة، وفي الأمور القدرية ترجع إلى الله، فإذا حكم عليك بالمرض تفزع إلى الله - عز وجل -، وإذا حكم عليك بالفقر تفزع إلى الله، اللهم أغنني من الفقر، واقضِ عني الدين ، فإذا آمن الإنسان بأن الحكم كله لله إن كان حكماً قدرياً استسلم، وقال: هذا أمر الله، وأنا عبدالله ولا يمكن أن يكون سوى ما كان، وإذا كان شرعيًّا. قال الله - عز وجل - أعلم وأحكم بما يصلح العباد.
{له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله عزوجل {يحي ويميت} أي: يجعل الجماد حياً، ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } ثم يبقى في الأرض ثم يعدم ويفنى، فإذا هو خبر من الأخبار {وهو على كل شيء قدير } هذه جملة خبرية عامة في كل شيء من موجود ومعدوم، والقدرة صفة تقوم بالقادر حيث يفعل الفعل بلا عجز.
{هو الأَول والأَخر والظاهر والباطن} أربعة أشياء {الأَول} أي الذي ليس قبله شيء، لأنه لو كان قبله شيء لكان الله مخلوقاً، وهو عز وجل الخلق، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم {الأَول} الذي ليس قبله شيء () ، فكل الموجودات بعد الله فليس معه أحد ولا قبله {والأَخر} الذي ليس بعده شيء ، لأنه لو كان بعده شيء لكان ما يأتي بعده غير مخلوق لله، والمخلوقات كلها مخلوقة لله عز وجل، فهو الأول لا ابتداء له، والآخر لا انتهاء له، ليس بعده شيء {والظاهر}، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء» فكل المخلوقات تحته جل وعلا، فليس فوقه شيء {والباطن} قال النبي صلى الله عليه وسلم « الذي ليس دونه شيء» () أي: لا يحول دونه شيء، خبير عليم بكل شي، لا يحول دونه جبال، ولا أشجار، ولا جدران(20/4)
ولا غير ذلك، ليس دونه شيء، {الأَول والأَخر} اشتملا على عموم الزمان، {والظاهر والباطن} على عموم المكان.
{وهو بكل شيء عليم }، كل شيء فالله عليم به، {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء } فلو عمل الإنسان في جوف بيته في حجرة مظلمة فإن الله تعالى يعلم عمله، بل زد على ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك كما قال الله - عز وجل -: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}. وأنت إذا فكرت في شيء فالله يعلم به قبل أن يكون، ويعلم الماضي البعيد، ويعلم المستقبل البعيد ويعلم بكل شيء، ولهذا قال موسى - عليه الصلاة والسلام - لما سأله فرعون: {فما بال القرون الأُولى } يعني شأنها قصها علينا {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } لا يضل معناه لا يجهل، لأن الضلال معناه الجهل، كما قال الله - عز وجل - في نبيه: {ووجدك ضآلا فهدى } ضال ليس معناها فاسق، بل معناه أنه جاهل لا يدري كما قال تعالى: {وكذلك أوحينآ إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } إذن الله بكل شيء عليم، وإذا علمت أن الله بكل شيء عليم هل يمكنك أن تقدم على معصية الله وأنت في خفاء عن الناس؟ لا، لأنك تعلم أن الله يعلمك ، قال الله - عز وجل -: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} الجواب: بلى، {ورسلنا لديهم يكتبون }، فإذن إذا آمنت بأن الله - جل وعلا - عليم بكل شيء فإنه يستلزم أن لا تقوم بمعصيته ولو في الخفاء، وأن لا تترك طاعته ولو في الخفاء، ولقد قال الله - عز وجل - عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم} لأجل أن لا يسمعوا، {واستغشوا ثيابهم} لئلا يبصروا بها - والعياذ بالله - لأنهم يكرهون الحق وقوله: {وهو بكل شيء عليم } يشمل أفعال العباد وأقوال العباد، بل إنه يعلم سبحانه وتعالى ما(20/5)
في قلب الإنسان وإن لم يظهره، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} فإياك أن تضمر في قلبك شيئاً يحاسبك الله عليه، لكن الوساوس التي تطرأ على القلب ولا يميل الإنسان إليها بل يحاربها، ويحاول البعد عنها بقدر إمكانه لا تضره شيئاً، بل هي دليل على إيمانه لأن الشيطان إنما يأتي إلى القلب فيلقي عليه الوساوس إذا كان قلباً سليماً، أما إذا كان قلباً غير سليم فإن الشيطان لا يوسوس له، لأنه قد انتهى. {هو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأَرض} خلق السماوات والأرض أي: أوجدها - عز وجل - بكل نظام وتقدير، والسماوات سبع والأرضون سبع، والأرض سابقة على السماء، لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ أتينا طآئعين}، لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها أشرف من الأرض وأعلى من الأرض، والسماوات بينها مسافة بعيدة جداً جداً، وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا ويليها الثانية والثالثة، كل واحدة أوسع من الأخرى سعة عظيمة، وهي طباق متطابقة بعضها فوق بعض، وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففتح له () ، والأرض جعلها تعالى في القرآن بصيغة الإفراد ، لكن الله تعالى أشار إلى أنها متعددة في قوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} أي: مثلهن في العدد لا في الصفة، لأن التماثل في الصفة بين الأرض والسماء بعيد جداً، لكن مثلهن في العدد، وصرحت بذلك السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة به من سبع أراضين» () وخلقها الله عزوجل في ستة أيام، والأيام أطلقها الله - عز وجل - ولم يبين أن اليوم خمسين ألف(20/6)
سنة، أو أقل، أو أكثر، وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، () فالجمعة منتهى خلق السماوات والأرض ومبتدئه الأحد، والسبت ليس فيه خلق لا ابتداء ولا انتهاء.
فإذا قال قائل: أليس الله قادراً على أن يخلقها في لحظة؟
فالجواب: بلى، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن. فيكون، وإنما خلقها في ستة أيام - والله أعلم - لحكمتين: الحكمة الأولى: أن هذه المخلوقات يترتب بعضها على بعض، فرتب الله تعالى بعضها على بعض حتى أحكمها، وانتهى منها في ستة أيام. الحكمة الثانية: أن الله علّم عباده التؤدة والتأني، وأن الأهم إحكام الشيء لا الفراغ منه، حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه، فعلم الله سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها، وكلا الأمرين وجيه، وقد تكون هناك حكم أخرى لا نعلمها، ومع هذا لا نجزم به ونقول: الله أعلم {ثم استوى على العرش}، استوى عليه يعني على وجه يليق بجلاله، ولا يمكن أن نمثله بخلقه لأن الله ليس كمثله شيء، والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه - عز وجل -، وقد جاء في الحديث: أن السماوات السبع، والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، الحلقة حلقة الدرع المكون من حلق من الحديد، فالحلقة من الحديد من الدرع تكون بالنسبة للفلاة لا شيء، فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع ماذا تكون نسبتها وماذا تشغل من الأرض؟! لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم : «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» () إذن لا يعلم قدره إلا الله - عز وجل - وليس لنا أن نسأل: من أين مادة الكرسي؟ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ؟ ليس لنا الحق في أن نتكلم في هذا. هو عرش عظيم كما وصفه الله {رب العرش العظيم } {ذو العرش(20/7)
المجيد }، عرش عظيم جداً جداً، لا يعلم قدره إلا الله، استوى الله عليه لكمال سلطانه - جل وعلا - و(ثم) في قوله: {ثم استوى على العرش} تدل على الترتيب، أي أن خلق السماوات والأرض سابق على الاستواء على العرش، ومعنى {استوى} أي: على؛ لأن الاستواء في اللغة العربية إذا تعد بـ (على) كان معناها العلو، مثاله قول الله تبارك وتعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}، ومن ذلك قوله تعالى عن نوح: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظلمين}.
فقوله: {استويت أنت ومن معك على الفلك} يعني علوت عليه، إذن {استوى على العرش} يعني على العرش، وإذا رأيت من يقول استوى على العرش أي استولى على العرش، فقد كذب على الله - عز وجل - لأن الله تعالى نزل هذا القرآن العظيم باللغة العربية، واللغة العربية تدل على أن استوى إذا تعدت بعلى فهي بمعنى العلو لا غيره، فيكون الذي يفسرها باستولى كاذب على الله - عز وجل - جانياً على نصوص الكتاب، محرفاً لها، وجنايته عليها من وجهين:
الوجه الأول: صرفها عن ظاهرها.
والوجه الثاني: إحداث معنى لا يدل عليه الظاهر، وهذا قد يوجد كثيراً في كتب الأشاعرة، سواء كانوا مفسرين أو غير مفسرين لكنهم بهذا والله والله والله قد ضلوا ضلالاً مبيناً، نسأل الله العافية، فمن الذي استولى على العرش حين خلق السماوات والأرض؟! إذا كان الله لم يستولِ عليه إلا بعد خلق السماوات والأرض فهو لمن من قبل؟! نعم يلزمهم أن يقولوا لغير الله، وإلا فقد أخطأوا يعني تبين خطأهم وهم مخطئون والحمد لله، {يعلم ما يلج في الأَرض} أي: ما يدخل فيها من جثث الموتى، ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله، ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها، وغير ذلك من الحشرات وغيرها، فكل ما يلج في الأرض(20/8)
يعلمه الله.
{وما يخرج منها} أي: من النبات والمياه والمعادن وغيرها، {وما ينزل من السماء} أي: من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك، {وما يعرج فيها}أي: إليها، لكن جاءت بلفظ {فيها} بدل إليها لنستفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: العروج يعني الصعود.
الفائدة الثانية: الدخول، لأن {في} يناسبها من الأفعال الدخول، تقول: دخل في المكان، أما عرج ويعرج فالذي يناسبها إلى، لكن الله - عز وجل - عدل عن قوله (يعرج إليها) إلى قوله {يعرج فيها} ليفيد الصعود، والدخول.
وضمن يعرج معنى يدخل. والتضمين موجود في القرآن الكريم، وفي اللغة العربية قال الله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً } المناسب ليشرب (من) كما قال تعالى: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } يعني منه، {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} وهنا قال: {يشرب بها} قال العلماء: الحكمة أن يشرب هنا ضمنت معنى يروى، أي: يروى بها. ومعلوم أنك إذا قلت: يروى بها. فقد تضمن معنى يشرب، وزيادة. والتضمين فن مهم في باب البلاغة، ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه، حتى يستفيد إذا اختلفت الحروف مع عواملها، {يعرج فيها} من الأشياء ما يصل إلى السماء الدنيا ويقف، ومنها ما يعرج في السماء الدنيا حتى يصل إلى الله - عزوجل - {وهو معكم} هو الضمير يعود إلى الله - عز وجل - {معكم} أي: مصاحب لكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» () لكن هذه الصحبة ليست صحبة مكان. بمعنى أننا إذا كنا في مكان كان الله معنا. حاشا وكلا، لا يمكن هذا، وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا، وكرسيه وسع السماوات والأرض؟! هذا مستحيل، والكرسي موضع القدمين، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه () ، فإذا كان كذلك هل يعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة(20/9)
والواسعة؟ لا يمكن، إذا {معكم} أي: مصاحب لكم، والمصاحب قد يكون بعيد عنك، يقول العرب في أسلوبهم: ما زلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والقطب معنا. ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا، وليس معهم في مكانهم. ومعلوم أن القمر في السماء، والنجم في السماء، والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام، ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان، وكوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هوعالم بنا، سميع لأقوالنا، بصير بأفعالنا، له القدرة علينا والسلطان، ومدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية، واعلم أن من الضلال من يقول: إن الله معنا في أمكنتنا، نسأل الله العافية، وينكرون أن الله في السماء عالياً فأتوا داهيتين عظيمتين، الأولى: إنكار علو الله. والثانية: اعتقاد أنه في الأرض. سبحان الله! هل يعقل أن يعتقد عاقل فضلاً عن مؤمن أنه إذا كان في المرحاض كان الله معه؟ أعوذ بالله، الذي يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر، لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط من قدر الله هو هذا، ثم نقول: إذا كان الله - كما يقولون - في كل مكان يعني أنه في الحجرة، وفي السوق، وفي المسجد، ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة، وأناس في الشارع؟ أهما إلهان؟ لا يمكن أن يقولوا إنه متعدد، هل هو متجزء؟ إذن بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا لأنه إما أن يكون متعدداً، وإما أن يكون متجزءاً، وكلاهماباطل، قررت هذا لأنه يوجد من يعتقد أن الله في كل مكان فنقول: المعية هي المصاحبة، ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان، وكيف يمكن أن يكون الله معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أنه في كل مكان ما قدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوا عظمته وجلاله قال الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأَرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا، فيجب(20/10)
على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن الكريم ظاهره معظماً لله حق تعظيمه {أين ما كنتم} أي: في أي مكان، لأن أين ظرف مكان {والله بما تعملون بصير } أي: بما تعملون من الأعمال كلها بصير، والبصر هنا يشمل بصر الرؤية قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» () ويشمل بصر العلم، فمن المعلوم أن أعمالنا قد تكون مرئية الحركة، وقد تكون مسموعة كالأقوال، فرؤية المسموع العلم.
{له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله - عز وجل - لا استقلالاً ولا مشاركة، قال تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأَرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } فنفى الاستقلال ونفى المشاركة {وما له} أي: ما لله {من ظهير } أي: من مساعد ساعده على خلق السماوات والأرض، فله ملك السماوات والأرض وعددها سبع، قال الله تعالى: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم } والأرضون أيضاً عددهم سبع كما جاء ذلك ظاهراً في القرآن وصريحاً في السنة، قال الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} يعني في العدد، وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين» () {وإلى الله ترجع الأُمور }، كل الأمور أي الشؤون العامة والخاصة، الدينية، والدنيوية، والأخروية كلها ترجع إلى الله - عز وجل - يتصرف كما شاء يحكم بما شاء ولا معقب لحكمه - عز وجل - فكل أمور الإنسان الخاصة ترجع إلى الله، ولذلك يجب عليك إذا ألمَّت بك ملمة أن ترجع إلى الله - عز وجل - لأن المشركين وهم مشركون - إذا ألمت بهم الملمات التي يعجزون عنها يرجعون إلى الله - عز وجل - فإذا عصفت بهم الرياح في أعماق البحار على السفن يلجئون إلى الله عز وجل،(20/11)
ويرجعون إلى الله، ويسألونه أن ينجيهم وهم مشركون، فكيف بك أنت أيها المسلم، فالجأ إلى الله في كل صغير أو كبير، ديني أو دنيوي خاص بك أو بأهلك، لا تلجأ لغير الله، فمن أنزل حاجته بالله قُضيت، ومن أنزل حاجته بغير الله وُكل إليه، فنقول: إلى الله ترجع الأمور عامة: الأمور الدينية والدنيوية والأخروية، والخاصة والعامة، وإذا آمنت بهذا ويجب أن تؤمن به صرت لا تلجأ إلا إلى الله - عز وجل - {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل}، يولج أي يُدخل الليل في النهار، ويولج النهار أي يُدخله في الليل، وهذا يعني اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر، أحياناً يبدأ الليل في الزيادة فيدخل على النهار، فهذا {يولج الليل في النهار}. وأحياناً يبدأ الليل ينقص ويزيد النهار، فيدخل النهار على الليل، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم، والملائكة ما استطاعوا أن يولجوا دقيقة واحدة من الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله - عز وجل - يولج الليل في النهار أو من النهار في الليل، ثم هذا الإيلاج لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يأتي تدريجياً شيئاً فشيئاً، أول ما يبدأ بالزيادة تجده يأخذ قليلاً في اليومين أو الثلاثة دقيقة واحدة، ثم يبدأ يزداد حتى يكون عند تساوي الليل والنهار يأخذ حوالي دقيقتين في اليوم تدريجيًّا، أرأيتم لو جاء دفعة واحدة، كنا مثلاً في أطول يوم في السنة وإذا بنا في اليوم الثاني إلى أقصر يوم في السنة، فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة؛ لأن الناس سينقلبون من حر مزعج إلى برد مؤلم في خلال أربع وعشرين ساعة، وهذا لا شك أنه مضر بالأبدان والنبات والجو، ولكنه - عز وجل - يولجه على تنظيم موافق للحكمة تماماً، ولا أحد يستطيع أن يفعل هذا أبداً مهما بلغ من القوة، {وهو عليم بذات الصدور }، أي: صاحبة الصدور يعني القلوب، والدليل أنها القلوب قول الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن(20/12)
تعمى القلوب التى في الصدور } إذن هو عليم بما في القلب، وإذا كنت تصدق بذلك فهل يمكن أن تضمر في قلبك ما لا يرضاه الله، إن كنت مؤمناً؟ لا يمكن، فطهِّر قلبك من الرياء والنفاق، والغل على المسلمين والحقد والبغضاء، لأن قلبك معلوم عند الله - عز وجل -، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا. فطهر القلب من هذا، واملأه محبة لله تعالى وتعظيماً، كما يليق به ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيماً، كما يليق به، ومحبة للمؤمنين، ومحبة لشريعة الله تعالى، فلا تضمر في هذا القلب شيئاً يكرهه الله، فإن فعلت فالله عليم به لا يخفى عليه، فطهر قلبك حتى يكون نقياً سليماً، لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم كما قال - عز وجل -: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وتغيرات القلب تغيرات سريعة وعجيبة، ربما ينتقل من كفر إلى إيمان، أو من إيمان إلى كفر في لحظة، نسأل الله الثبات، وتغير القلب يكون على حسب ما يحيط بالإنسان، وأكثر ما يوجب تغير القلب إلى الفساد حب الدنيا، فحب الدنيا آفة، والعجب أننا متعلقون بها، ونحن نعلم أنها متاع الغرور، وأن الإنسان إذا سرّ يوماً أسيء يوماً آخر، كما قال الشاعر:
ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
كل لذة في الدنيا فهي محوطة بمنغص، لذلك احرص على تطهير القلب من التعلق بالدنيا إلا فيما ينفعك في الآخرة، كأن تتعلق بالدنيا لتصبح غنياً تنفق مالك في سبيل الله وفيما يرضي الله، - عز وجل - فهذا شيء آخر، وطلب المال للأعمال الصالحة خير، لكن طلب المال لمزاحمة أهل الدنيا في دنياهم شر.
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} {آمنوا}، الخطاب للعباد كلهم، {بالله} رب العالمين {ورسوله} محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأمر هنا للوجوب الذي هو أشد أنواع الوجوب تحتماً، والإيمان بالله أن تؤمن بأنه رب العالمين، وأن تؤمن بأنه الإله المعبود(20/13)
حقًّا الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن تؤمن بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن تؤمن بأنه الفعال لما يريد، وأن تؤمن أنه لا معقب لحكمه وهو السميع العليم، وأن تؤمن أن مرجع الخلائق إليه في الأحكام الشرعية والأحكام الكونية، فمن يدبر الخلق إلا الله - عز وجل - والذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون هو الله - عز وجل - {ورسوله} محمد عليه الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى إلى جميع الخلق والإنس والجن. وختم به النبوات، فلا نبي بعده، والدليل {ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً }. يعني كان رسول الله خاتم النبيين فلا نبي بعده، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، يجب أن يقص عنقه إلا أن يتوب ويرجع، {وأنفقوا}، الإنفاق البذل، {مما جعلكم مستخلفين فيه} يعني المال؛ لأن الله جعلنا مستخلفين في المال فهو الذي ملكنا إياه، فلا منة لنا على الله بما ننفق، بل المنة لله علينا بما أعطى، والمنة له علينا بما شرع لنا من الإنفاق، ولولا أن الله شرع لنا أن ننفق لكان الإنفاق ضياعاً وبدعة، ولكن شرع لنا أن ننفق، فلله تعالى المنة أولاً فيما ملكنا من المال، وله المنة ثانياً بما شرع لنا من إنفاقه، وله المنة ثالثاً بالإثابة عليه {فالذين آمنوا منكم} أي: آمنوا بالله ورسوله؛ لأنه قال: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} أي مما جعلهم مستخلفين فيه، {لهم أجر كبير}، والآيات في هذا كثيرة{لهم أجر كبير } ،{ولهم أجر عظيم} {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، فوصف الله الأجور على العمل بأنه كبير عظيم كثير، الكثير نأخذه من قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وبهذا نعرف منة الله علينا: يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً، أجراً عظيماً، أجراً كبيراً، منة عظيمة كبيرة، فعلينا أن نشكر الله، وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه، فهل ننفق كل ما نملك أو بعض ما نملك؟ قال الله تعالى:(20/14)
{وأنفقوا مما} ومن هذه هل هي للتبعيض أو هي لبيان ما ينفق منه إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما رزقكم وليس كله.
إذا جعلناها للبيان، فالمعنى أنفقوا مما جعلكم حسب ما تقتضيه المصلحة: إما الكل وإما البعض، والأحسن أن تجعل {مما} للبيان، وإذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً ينفق كل ماله، أو بعض ماله، أكثره أو أقله، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان الأخذ به كان أولى، والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتسابقون إلى الخير، كل واحد يحب أن يكون هو السابق، فقال عمر - رضي الله عنه -: اليوم أسبق أبا بكر؛ لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر أشد من حب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عمه وزوج ابنته، لكن أبا بكر - رضي الله عنه - يحبه أشد وأكثر، فقد سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «أبو بكر () » وقال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر () » والمهم أن عمر كان هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - كفرسي رهان، يحب أن يسبقه لا حسداً لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن حبًّا للفضل لنفسه، قال: اليوم أسبق أبا بكر، فجاء بنصف ماله لينفقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر، «ماذا تركت لأهلك»؟ قال: تركت لهم الشطر، يعني النصف، وجاء أبو بكر فقال: «ما تركت لأهلك»؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، أي أتى بكل ماله، فقال عمر: - رضي الله عنه - والله لا أسابقك على شيء بعد هذا () ، عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر، والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - تصدق بجميع ماله، فإذا رأى الإنسان المصلحة في أن يتصدق بجميع ماله، وأن عنده من قوة التوكل(20/15)
والاعتماد على الله واكتساب الرزق ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه، فحينئذ نقول: تصدق بجميع مالك، وإذا كان الأمر بالعكس فكان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب، وليس هناك داع أن ينفق كثيراً، فهنا نقول: الأولى أن تنفق بعض المال، وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته، وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى إلى سبيله، وأن ينفق من المال، والمال محبوب قال الله تعالى: {وتحبون المال حباً جماً } وقال - عز وجل -: {وإنه لحب الخير لشديد } ولا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه إلا لما هو أحب، فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاءً لرضوان الله، علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من المال، وبذلك يتحقق الإيمان، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من ذوي العلم الراسخ والإيمان الثابت، إنه على كل شيء قدير.
{وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } هذا معطوف على الآية التي قبلها وهي {آمنوا بالله ورسوله} {وما لكم لا تؤمنون بالله} يعني أي شيء يمنعكم من الإيمان بالله، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان به، وذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال عز وجل: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} يعني أخذ الله تعالى العهد أن تؤمنوا به وبرسوله، فصار هناك سببان للإيمان، الأول: دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه، والثاني: الميثاق الذي أخذه الله علينا، وذلك بما أعطانا - عز وجل - من الفطرة والعقل والفهم الذي ندرك به ما ينفعنا ويضرنا، هذا هو الصحيح في معنى الميثاق، وقيل: إنه الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين أخرجهم من ظهره، إن صح الحديث الوارد في ذلك () المهم أن الله تعالى ينكر على من لم يؤمن فيقول: ما الذي حملك على أن لا تؤمن، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان بدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى(20/16)
آله وسلم، وبأخذ الميثاق {إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مؤمنين فالزموا الإيمان بالله ورسوله، {هو الذي ينزل على عبده ءايات بينات} لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الإيمان بين أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم {ءايات} أي: علامات دالة على صدقه، وأن ما جاء به هو الحق، {بينات} ظاهرات بما اشتملت عليه من القصص النافعة، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والفصاحة التامة، والبيان العجيب، حتى إن العرب وهم أئمة البلاغة وأمراؤها تحداهم الله - عز وجل - عدة مرات أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولم يستطيعوا، {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} قوله: {ليخرجكم} يحتمل أن يكون المراد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أي يكون سبباً في إخراجكم من الظلمات إلى النور، ويحتمل أن يعود إلى الله - عز وجل - أي ليخرجكم الله تعالى بهذه الآيات من الظلمات إلى النور، وكلا المعنيين حق، قال الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} وقال الله تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} فالنبي صلى الله عليه وسلم سبب في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأما المخرج حقيقة فهو الله - عز وجل -، والمراد بالظلمات: ظلمات الجهل، وظلمات الشرك، وظلمات العدوان، وظلمات العصيان، وكل ما خالف الحق فهو ظلمة، وكل ما وافقه فهو نور، {وإن الله بكم لرءوف رحيم }، هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، واللام {لرءوف رحيم } الرأفة أرق الرحمة، والرحمة أعم، فهو - عز وجل - رؤوف رحيم، أي ذو رحمة بالمؤمنين كما قال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} ورحمة الله سبحانه وتعالى إما عامة وإما خاصة، فالعامة الشاملة لجميع الناس، والخاصة بالمؤمنين، كما قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً } فإذا قال قائل: أي رحمة من الله للكافر؟ فالجواب: أمده بأنعام وبنين، وعقل، وأمن، ورزق، بل الكفار قد عجلت لهم طيباتهم في حياتهم(20/17)
الدنيا قال الله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} فإذا سألك سائل: هل لله رحمة على الكافر؟ لا تقل: نعم ولا لا، أما بالمعنى العام فنعم رحمة، ولولا رحمة الله به لهلك، وأما بالمعنى الخاص فلا، الرحمة الخاصة للمؤمنين فقط قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً } {وإن الله بكم لرءوف رحيم } ولما أمرنا أن ننفق مما جعلنا مستخلفين قال: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني أي شيء يمنعهم، والإنفاق في سبيل الله يشمل كل شيء أمر الله بالإنفاق فيه، ففي سبيل الله هنا عامة، وعليه يدخل في ذلك الإنفاق على النفس، والإنفاق على الزوجة، والإنفاق على الأهل، والإنفاق على الفقراء واليتامى، والإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فكل ما أمر الله تعالى بالإنفاق فيه فهو داخل في هذه الآية حتى إنفاقك على نفسك صدقة، وإنفاقك على زوجك صدقة، ولكن لاحظ النية، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» () ، فلزم هذا القيد، لابد أن تبتغي بها وجه الله إلا أجرت، أي: أثبت عليها، {ولله ميراث السماوات والأَرض} يعني كيف لا تنفق والذي سيرث السماوات والأرض هو الله، ومن جملة ذلك مالك الذي بخلت به سيرثه الله - عز وجل - وترجع الأمور كلها لله سبحانه وتعالى. قال أهل العلم: إن الشح في إنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فإذا ورث مالك من بعدك فإما أن يرثه صالح فيكون أسعد به منك، وإما أن يرثه مفسد فتكون خلفت له ما يستعين به على إفساده، فإذا خلفت المال فإما أن تخلفه إلى من ينفقه في سبيل الله فيكون هو أسعد بمالك منك، وإما أن تخلفه لمفسد يستعين به على معصية الله فتكون أعنته على معصية الله، بما خلفت له من المال، إذن اللائق بك أن تنفقه في(20/18)
سبيل الله حتى يكون لك غنم وتسلم من غائلته لو ورثه من يفسد به، فتذكر يا أخي عندما تفكر في الإنفاق فيأتيك الشيطان فيأمرك بالبخل ويعدك الفقر، فكر أنك إذا خلفت هذا المال فلابد أن يورث، لن يدفن معك، لابد أن يورث ويكون الإرث دائراً بين الأمرين السابقين. {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون: «إنه دين المساواة»، هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة، حتى يقول: المرأة والرجل، والمؤمن والكافر سواء، ولا فرق، وسبحان الله إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس، بل لابد من فرق، بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وآيات كثيرة، فاحذر أن تتابع فتكون كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، بدل من أن تقول: (الدين الإسلامي دين مساواة) قل: (دين العدل الذي أمر الله به، يعطي كل ذي حق حقه)، أرأيت المرأة مع الرجل في الإرث، وفي الدية، وفي العقيقة، وفك الرهان يختلفون. وفي الدين: المرأة ناقصة إذا حاضت لم تصل ولم تصم، وفي العقل المرأة ناقصة: شهادة الرجل بشهادة امرأتين، وهلم جرا، والذين ينطقون بكلمة مساواة إذا قررنا هذا وأنه من القواعد الشرعية الإسلامية ألزمونا بالمساواة في هذه الأمور، وإلا لصرنا متناقضين، فنقول: دين الإسلام هو دين العدل يعطي كل إنسان ما يستحق، حتى جاء في الحديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود () » يعني إذا أخطا الإنسان الشريف الوجيه في غير الحدود فاحفظ عليه كرامته وأقله، هذا الذي تقيله إذا كان من الشرفاء، إقالتك إياه أعظم تربية من أن تجلده ألف جلدة، لأنه كما قيل: الكريم إذا أكرمته ملكته، لكن لو وجد إنسان فاسق ماجن فهذا اشدد عليه العقوبة وأعزره، ولهذا لما كثر شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب - رضي(20/19)
الله عنه - ضاعف العقوبة بدل أربعين جعلها ثمانين () ، كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: «من شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه» () ، لأن لا فائدة في جلده، ثلاث مرات نعاقبه ولا فائدة إذن خير له ولغيره أن يقتل، وإذا قتلناه استراح من الإثم، كما قال الله عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأَنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } والخلاصة أن التعبير بأن دين الإسلام دين ااساواة غلط وليس بصحيح، بل هو دين العدل ولا شك، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى () » فيتناقضون، والحديث لم ينف مطلقاً، وإنما قال: «إلا بالتقوى» فهم يختلفون بالتقوى، ثم إن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه قال: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم () » ففضل، ولا شك أن جنس العرب أفضل من جنس غير العرب لا شك عندنا في هذا، والدليل على هذا أن الله جعل في العرب أكمل نبوة ورسالة، محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فالأجناس تختلف، وقال عليه الصلاة والسلام: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا () » فاحذر أن تتابع في العبارات التي ترد من المحدِثين المحدَثين حتى تتأملها وما فيها من الإيحاءات التي تدل على مفاسد ولو على المدى البعيد، أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} أي: لا يكونوا سواء، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش، وذلك في ذي القعدة من عام(20/20)
ستة من الهجرة، وسمي فتحاً، لأنه صار فيه توسيع للمسلمين وتوسيع أيضاً للمشركين. واختلط الناس بعضهم ببعض، وأمن الناس بعضهم بعض حتى يسر الله - عز وجل - أن نقضت قريش العهد، فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم، فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان قال الله - عز وجل -: {أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم، فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال: {وكلا وعد الله الحسنى} أي: كل من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى، يعني الجنة، {والله بما تعملون خبير } أي: عليمببواطن أموركم كظواهركم لا يخفى عليه شيء، وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي - جل وعلا - كل عامل بما عمل، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }.ثم قال - عز وجل -: حاثًّا ومرغباً في الإنفاق في سبيله، فقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} أي: أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي: ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين: إلى الإخلاص في قوله، {من ذا الذي يقرض الله} يعني لا يرى سوى الله - عز وجل - والمتابعة في قوله: {حسناً}؛ لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل: أن يكون مخلصاً لله، وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهاً بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره، لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرده عليك، هكذا أيضاً العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك،بل {فيضاعفه له} والمضاعفة هنا الزيادة، وقد بين الله(20/21)
تبارك وتعالى قدرها في سورة البقرة، فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} فأنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله - عز وجل - والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر كما جاء في الحديث إلى أضعاف كثيرة، {وله أجر كريم }، أي: حسن واسع، وذلك فيما يجده في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال - عز وجل -: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} أي: أذكر للأمة يوم ترى أيها الإنسان {المؤمنين والمؤمنات} يوم القيامة {يسعى نورهم بين أيديهم} أي: أمامهم {وبأيمانهم} يكون من الأمام ومن اليمين، أما من الأمام فلأجل أن يقتدي الإنسان به، وأما عن اليمين فتكريماً لليمين يكون بين أيديهم وبأيمانهم، وقوله: {يسعى نورهم} يفيد أن هذا النور على حسب الإيمان، لأن الحكم إذا علق بوصف كان قويًّا بقوة ذلك الوصف، وضعيفاً بضعفه، إذن نورهم على حسب إيمانهم الذكر والأنثى.
{بشراكم اليوم جنات} تقول الملائكة لهم {بشراكم} أي: ما تبشرون به {اليوم} يعني يوم القيامة {جنات تجرى من تحتها الأنهار} هذه الجنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما يشاءون، كما قال الله عز وجل: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } وجمعها لأنها جنات متعددة متنوعة، ودرجات مختلفة حسب قوة الإيمان والعمل وقوله {تجرى من تحتها الأنهار} أي: تسير، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة القتال أنها أربعة {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} وهذه الأنهار لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى جدول، بل تسير على سطح الأرض، حيث شاء أهلها، قال ابن القيم - رحمه الله -:
أنهارها من غير أخدود جرت(20/22)
سبحان ممسكها عن الفيضان
فلا تذهب يميناً ولا شمالاً إلا حيث أراد أهلها، وقوله {من تحتها} إشارة إلى علو قصورها وأشجارها، يعني تكون هذه الأنهار من تحت هذه القصور العالية والأشجار الرفيعة {خالدين فيها} أي: ماكثين فيها، وقد جاءت آيات متعددة بأن هذا المكث دائم ليس فيه زوال ولا انقطاع ولا تغير، {ذلك هو الفوز العظيم} المشار إليه ما وعدهم الله به الجنات التي تجري من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم، و{هو} يسميها العلماء ضمير فصل، وهو مفيد للتوكيد والاختصاص، أي هذا الذي ذكر هو الفوز العظيم، لأنه لا فوز مثله، كما أنه لا فوز أعظم منه، نسأل الله أن يجعلنا من أهله إنه على كل شيء قدير.
{يوم يقول المنافقون والمنافقت للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } {يوم يقول} أي: اذكر يوم يقول، فكلمة {يوم يقول} ظرف زمان، ولابد للظرف الزماني والمكاني، والجار والمجرور من شيء تتعلق به، والعلماء يقدرون المحذوف في كل مكان بما يناسب، وهنا المناسب أن يكون التقدير: اذكر أيها الإنسان يوم يقول المنافقون، هذا اليوم هو يوم القيامة، والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} ولم يظهر النفاق إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً على الكفار، فلما بزغ فجر الإسلام وقويت شوكته ظهر النفاق. والنفاق هو أن الإنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فظهر ذلك في المسلمين، فكانوا يأتون إلى الناس ويحضرون الجماعة لكنها ثقيلة عليهم، «وأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر () »، لأنه ليس هناك أضواء يشاهدون فيها، وهم إنما يصلون يراءون الناس، وفي يوم القيامة يظهر نور للمؤمنين والمنافقين، ثم ينطفىء نور(20/23)
المنافقين، وأنت تعلم أيها الإنسان أن انطفاء النور بعد ظهوره يكون أشد ظلمة مما لو لم يكن هناك نور، ولهذا لو أطفأت النور القوي ثم فتحت عينيك لم تر شيئاً إلا بعد برهة من الزمن، فيكون انطفاء النور بعد وجوده أشد عليهم مما لو لم يكن هناك نور، ثم تكون الحسرة أشد، فيقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم}، أي: نأخذ شيئاً قليلاً بقدر الحاجة، {قيل ارجعوا وراءكم}، والقيل هذا إما من المؤمنين، أو من الملائكة، فالله أعلم لا ندري.{ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} وهل هو حقيقة يريدون أن يذهبوا إلى مكان النور، الذي انطفأ فيه النور لعله يتجدد النور، أو أن هذا من الاستهزاء بهم والسخرية؟ الآية محتملة هذا وهذا {فضرب بينهم} أي بين المنافقين والمؤمنين {بسور له باب} هذا سور عظيم، له باب يمنع من القفز، له باب يدخل منه المؤمنون ويمنع منه المنافقون، {باطنه فيه الرحمة} أي: باطن هذا السور فيه الرحمة للمؤمنين، {وظاهره من قبله العذاب } للمنافقين، وأنت لا تستطيع أن تتصور هذه الحال، لأن الحال أعظم من أن نتصورها، حال عظيمة {ينادونهم}، المنادى المنافقون، والمنادى المؤمنون، {ألم نكن معكم} يعني في الدنيا كنا نصلي معكم ونتصدق ونذكر الله، {قالوا بلى} يعني أنتم معنا، ولكن في الظاهر دون الباطن، ولهذا قالوا: {ولكنكم فتنتم أنفسكم} يعني أضللتموها {وتربصتم}، انتظرتم بنا الدوائر {وارتبتم} شككتم في الأمر، فليس عندكم إيمان { وغرتكم الأماني} أي: ظننتم أنكم محسنون لأنكم تقولون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، نوفق بين المؤمنين والكافرين، وبين الإيمان والكفر، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فهم مع المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، فهم مع الكفار، ظنوا أنهم بهذه المداهنة كسبوا المعركة، فغرتهم الأماني {حتى جاء أمر الله}، وذلك بموتهم {وغركم بالله الغرور }. الغرور هو الشيطان ودليل هذا قول الله تبارك(20/24)
وتعالى عنه حين وسوس إلى أبوينا قال الله عنه {فدلاهما بغرور}، فالغرور هو الشيطان، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} الأسير في الدنيا يمكن أن يفدي نفسه ويبذل المال فيسلم، لكن في الآخرة ليس فيه فدية، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، {ولا من الذين كفروا} الذين أعلنوا الكفر وصاروا أشجع من هؤلاء المنافقين فلا فدية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، {مأواكم النار} أي: مثواكم ومآلكم النار {هي مولاكم} الذي تتولونه، والتي تتولاكم، فهم يتولون النار بعمل أهلها، والنار تتولاهم لأنهم مستحقون لها {وبئس المصير } أي: المرجع وهذا تقبيح لها، أعاذنا الله منها، نسأل الله أن يجعلنا ممن زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن الفائزين المتقين المفلحين.
{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} أي: ألم يحق لهؤلاء المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: أن تذل وتنقاد غاية الانقياد لذكر الله تعالى في القلوب واللسان والجوارح {وما نزل من الحق}، يعني القرآن الكريم، وهو من ذكر الله، وذكره بخصوصه لأهميته، {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأَمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }، الذين أوتوا الكتاب من قبل هم اليهود والنصارى {فطال عليهم الأَمد} يعني طال بهم الزمن ونسوا حظهم مما ذكروا به فقست قلوبهم - والعياذ بالله - وكثير منهم فاسقون وبعضهم مستقيم، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله - تبارك وتعالى - انه قد حق للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولكتاب الله، وأن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم لبعدهم عن زمن الرسالات، وفي هذا إشارة إلى أن أول الأمة خير من آخرها، وأخشع قلوباً؛ وذلك لقربهم من عهد الرسالة، وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» () وفي هذا التنديد التام باليهود والنصارى لأنها قست قلوبهم لما(20/25)
طال عليهم الأمد، وفيه العدالة التامة في حكم الله - عز وجل - حيث قال: {وكثير منهم فاسقون } ولم يعمم، وهذا هو الواجب على من تحدث عن قوم أن يبين الواقع؛ لأن بعض الناس إذا رأى من قوم زيغاً في بعضهم عمم الحكم على الجميع، والواجب العدل إن كان الأكثر هم الفاسقون، فقل: أكثرهم، وإن كان كثير منهم فاسقين فعبر بالكثير على حسب ما تقتضيه الحال، لأن الواجب أن يقوم الإنسان بالعدل ولو على نفسه أو والديه والأقربين.
{اعلموا أن الله يحي الأَرض بعد موتها قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون } اعلموا: فعل أمر، فأمر بالعلم بهذه القضية الهامة، وهي أن الله يحيي الأرض بعد موتها، يعني أن الأرض تجدها يابسة ليس بها نبات فينزل الله عليها المطر فتنبت وتحيا وتنمو، إذا علمنا هذا ونحن عالمون به ونشاهده، فإننا نستدل به على قدرة الله - تبارك وتعالى - على إحياء الموتى، فإن الناس أحياء الآن، ثم يموتون، ثم يبعثون يوم القيامة، فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها من أجل الحساب والجزاء؛ لأنه ليس من الحكمة أن يخلق الله - تبارك وتعالى - خلقاً يأمرهم وينهاهم ويبيح دماء من لم يستجب وأموالهم ثم تكون النتيجة أن يموت الإنسان فقط، بل لابد من حياة، هي الحياة الحقيقية، كما قال - عز وجل -: {وإن الدار الأَخرة لهي الحيوان} ومعنى الحيوان، أي: الحياة الحقيقية التامة الكاملة التي ليس بعدها موت، وليس المراد بالحيوان الحيوانات الدواب، فالقادر على أن يجعل العيدان اليابسة خضراء نامية، قادر على أن يحيي الموتى وبكلمة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقال عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } وقال - عز وجل -: . {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون } أي: أظهرناها لكم، والآيات هي العلامات الدالة على كمال قدرة الله - جل(20/26)
وعلا - وعلى كمال رحمته وسلطانه، وأضرب لذلك مثلاً: إذا أنزل الله المطر ونبتت الأرض، وشبعت البهائم، وطابت الأجواء فهذا من آثار رحمته، فنستدل بهذا على رحمة الله، ونستدل بما خلق الله في الكون من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق الله تعالى في الأرض من الجبال والأنهار وغيرها على كمال حكمة الله - عز وجل - لأنك إذا تدبرتها وجدت فيها من الحكمة ما يبهر العقل، {لعلكم تعقلون } لعل هنا للتعليل وليست للرجاء، مع أنها في اللغة العربية تأتي للرجاء كثيراً، لكنها هنا للتعليل؛ لأن الرجاء لا يمكن في حق الله، إذ إن الرجاء طلب شيء فيه نوع من العسر، لكن الله - عز وجل - لا يتصور في حقه الرجاء، لكن تأتي لعل للتعليل، أي لأجل أن تعقلوا، والمراد بالعقل هنا: عقل الرشد، أي: تعقلوا عقلاً ترشدون به، ويكون دليلاً لكم على ما فيه الخير {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم }، {إن المصدقين} أصلها: إن المتصدقين، لكن قلبت التاء صاداً لعلة تصريفية معروفة عند أهل النحو، {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أي: أنفقوا في سبيل الله إنفاقاً حسناً، والإنفاق الحسن ما جمع شرطين، الأول: الإخلاص لله - عز وجل -. والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمرائي الذي ينفق رياء لم يقرض الله قرضاً حسناً، ومثال ذلك: إنسان تصدق على فقير من أجل أن يراه الناس، فيقولون: إن فلاناً كثير الصدقة، فهذا مرائي وصدقته لا تنفعه، ولا تقبل منه؛ لأن كل عمل يراد به غير الله فهو غير مقبول، قال الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» () وإنسان آخر يتعبد لله تعالى بعبادات غير مشروعة، صاحب بدعة لكنه مخلص، لو سألته لِمَ فعلت هذا؟ قال: أريد ثواب الله، وأريد التقرب إلى الله، فلا تنفعه هذه العبادة، لعدم المتابعة، فقوله - عز وجل -: {وأقرضوا(20/27)
الله قرضاً حسناً} أي: مخلصين فيه لله، متبعين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن قال قائل: لماذا عبر الله تعالى بالقرض وهو الغني سبحانه وتعالى؟
فالجواب: يقول هذا - جل وعلا - ليبين أن أجرهم مضمون، كما أن القرض مضمون، وسيرد عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لكن كيف تكون الواحدة بعشرة وهي ربا في القرض، كيف يكون هذا؟ الجواب: أولاً: لا ربا بين العبد وبين ربه. ثانياً: القرض إذا أعطاك المقترض شيئاً بدون شرط فهو حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استقرض بكراً، والبكر يعني بعيراً صغيراً، وردَّ خيراً منه وقال: «خيركم، أحسنكم قضاء» () ، ولهذا عبارة الفقهاء: (كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو ربا)، ولم يقولوا كل زيادة، {يضاعف لهم} هذا خبر (إن) يعني إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا قرضاً حسناً يضاعف لهم، أي: يعطون أجرهم مضاعفاً، عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {ولهم أجر كريم } أي: ثواب كريم، والكريم هو الحسن الطيب، وذلك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأصل الكرم الحسن، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما بعثه لليمن: «إياك وكرائم أموالهم» يعني إذا أخذت الزكاة اجتنب كرائم الأموال، يعني أحاسنه، «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» () ثم قال - عز وجل -: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء:
الأول: الإيمان بوجوده.
الثاني: الإيمان بربوبيته.
الثالث: الإيمان بألوهيته.
والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.
والإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع، لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لابد له من موجد ومنظم، والموجد والمنظِّم هو الله - عز وجل - لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحد من البشر أن(20/28)
يتصرف بهذا الكون، مَن الذي يأتي بالليل مع وجود النهار؟ ومن الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل؟ لا أحد يقدر، إذن كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه، مؤمن بوجود الله - عز وجل -، وجه ذلك أن هذه الخليقة العظيمة لابد لها من مدبر، لو قال قائل: إنها جاءت هكذا صدفة، فنقول: إن الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً، ولو قال قائل: هي أوجدت نفسها، نقول: هذا أيضاً محال عقلاً، كيف توجد نفسها وهي عدم، هذا لا يمكن، إذن لابد لها من موجد، ولهذا قال الله تعالى في سورة الطور: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والجواب: بل أنت يا ربنا، نحن لا نقدر أن نخلق جنيناً في بطن أمه أبداً، قال الله - عز وجل -: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} استمعوا يا أيها الناس، خطاب للناس كلهم: الكافر والمؤمن، ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه {ولو اجتمعوا له}، كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذباباً وهو من أصغر الحيوان وأذلها، زد على هذا، {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه} يعني لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منه، قال أهل العلم: المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام وامتص من الطيب الذي فيها، لأنهم يطيبون أصنامهم، ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه، {ضعف الطالب والمطلوب }، فلا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله - عز وجل - أبداً، لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لابد له من مُحدث، ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله - عز وجل -.
الثاني: الإيمان بربوبيته، أي أنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للكون إلا الله، ولا مالك للكون إلا الله - عز وجل - حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقيًّا، والدليل أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء، لو أردت أن أحرقه منعت(20/29)
شرعاً، وحرام عليَّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال () ، إذن ملك الإنسان ما بيده ليس ملكاً حقيقياً، بل إنه يختص به عن غيره فقط.
الثالث: الألوهية: هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله - عز وجل - وعبادة الأصنام غير حق، كما قال - عز وجل -: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} إذن الألوهية أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وما عبد من دونه فهو باطل، وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله.
الرابع: الإيمان بالأسماء والصفات: قال الله - عز وجل -: {ولله الأسماء الحسنى} وصفاته كذلك عليا ليس فيها صفة نقص، قال الله تبارك وتعالى: {للذين لا يؤمنون بالأَخرة مثل السوء ولله المثل الأَعلى} أي الوصف الأعلى، وأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت، والدليل على ذلك حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - «ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» () . فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام، ما أنزله في كتابه، مثال الاسم الذي جاء في القرآن (الرحمن) أو علمته أحداً من خلقك مثل (الرب، الشافي)، جاء في السنة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» () . وقال عليه الصلاة والسلام: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب» () فهذا مما علمه أحداً من خلقه. «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» هذا القسم الثالث ما استأثر الله به في علم الغيب، واستأثر بمعنى انفرد، وما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق لا يمكن الإحاطة به إذن أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها ولا هي محصورة بعدد، لأننا لا(20/30)
نعلمها، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» () فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هذا المعنى، ومعنى (أحصاها) أي: عرفها لفظاً، وعرفها معنى، وتعبد لله بمقتضاها، وليس المراد أن تحفظها فقط، بل لابد من حفظ اللفظ وفهم المعنى، والتعبد لله بها بمقتضاها، فمثلاً: إذا علمت أن الله - سبحانه وتعالى - غفور فتعرض للمغفرة، لا تقل: الله غفور، وتفعل الذنب متى شئت، بل تعرض للمغفرة واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً، وإذا علمت أن الله عزيز فتتعبد الله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر، وهلم جرا.
أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم كلهم من أولهم إلى آخرهم بما أخبروا به، إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا يلزمنا العمل إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» () {أولئك }، أي: الذين آمنوا بالله ورسله {هم الصديقون} أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً، لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، وإذا قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» () . الثاني: الصدق في القول بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله(20/31)
تعالى على الصادقين، وأمرنا أن نكون معهم، فقال - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه، ورغَّب فيه، فقال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولايزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولايزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً» () . أما الصدق بالفعل فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدعي من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } وقد سمى بعض السلف هذه الآية آية المحنة، يعني الامتحان، فمن ادعى حب الله ورسوله قلنا له: عليك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق، {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم من قُتلوا في سبيل الله، والقتال في سبيل الله: أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا، قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه: أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» () .
فالشجاع يحب القتال، كالصياد يحب أن يصيد، ويخرج ويتجشم المصائب ليصيد الصيد، وإذا صادها صارت عنده أرخص من كل شيء، فهذا يقاتل شجاعة، لأنه شجاع يحب أن يقاتل، ويقاتل حمية يعني عصبية لقومه، ويقاتل ليُرى مكانه، أي: رياء كما جاء في اللفظ الآخر،(20/32)
«ويقاتل رياء» قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ومن قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فهو من باب الحمية إلا إذا قال: أريد أن أستردها لأقيم عليها شعائر الإسلام، فهذا في سبيل الله، أما من قاتل لأن هذه أرضه ويريد أن ترد إليه، فهذا حمية ليس له أجر الشهداء إذا قتل، هؤلاء الشهداء {لهم أجرهم عند ربهم} أي: ثوابهم العظيم كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بمآ ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} ولما ذكر - عز وجل - أهل الإيمان وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك قال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} لأن القرآن مثاني، تثنى فيه الأمور والمعاني، ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار، وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله، والحكمة من ذلك أن لا يمل الإنسان، لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان، وحكمة أخرى أن يكون الإنسان سائراً إلى الله، أي متعبداً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ لأنه إذا مرت به صفات المؤمنين قوي جانب الرجاء، وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف.
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} عطف التكذيب على الكفر وهو نوع منه؛ لأنه أشد، فالذي يكفر ولم يكذب أهون من الذي يكفر ويكذب، فعطف كذبوا بآياتنا على كفروا من باب عطف الخاص على العام، كعطف الروح على الملائكة وهو منهم، قال الله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} والروح جبريل وهو من الملائكة، {أولئك أصحاب الجحيم }. الجحيم اسم من أسماء النار، وأصحابها يعني الملازمين لها، ولهذا إذا مرت آية فيها (أصحاب) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها، نسأل الله العافية، وفي هذه الآيات الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات، لأن الله تعالى لم يذكر(20/33)
لنا هذه الأمور لنتطلع عليها فقط، ولكن لنسعى لها، وفيها التحذير من الكفر والتكذيب؛ لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم.
لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا، كل يعمل على شاكلته، بين حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر، {اعلموا أنما الحياة الدنيا} وهي حياتنا هذه {لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال}، خمسة أشياء: اللعب بالجوارح، بأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم، وغفلة القلب - اعاذنا الله منها وأحيا قلوبنا - الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعة، وتحرم من جميع آثارها لقول الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه، بل قال: {من أغفلنا قلبه}، وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب، وينقص الآثار المترتبة على الذكر من صلاح القلب، والاتجاه إلى الله، والإنابة إليه وغير ذلك: {وزينة} أي: زينة بالملابس، وزينة بالمراكب، وزينة بالمساكن، وزينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته، وكذلك سيارته عند الزواج إذا أراد الزواج يركب سيارة يجعلون عليها عقوداً من الأزهار وغيرها من الزينة {وتفاخر بينكم} أي: كل واحد يفخر على الثاني، إما بالقبيلة، أو بالعلم، يكون هذاعنده علم بالطب، وهذا لا يعرف، وهذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف، فيفخر عليه، وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي، لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً، وأن يعرف نفسه وقدر نفسه، ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين ومن التفاخر كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات(20/34)
مما نسمع. {وتكاثر في الأموال والأولاد} أي يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً. وهذا كقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} هذه حقيقة الدنيا، ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة لا تبقى، فلابد أن تزول، وإذا طال الزمان عاد الإنسان إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول: ما بعد ذلك؟! ما الذي بعده، إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم، وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملونك، ولهذا أشار الله - عز وجل - إلى هذه الحالة فقال: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف} لأنهما إذا بلغاالكبر اختل تفكيرهما وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت وإلا تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا، وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت، فنأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى» بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم» () وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكثر الفسقة، وأكثر الكفرة من الملأ والأشراف، واقرأوا القرآن، مَن يكذب الرسل؟ هم الملأ والأشراف، واعتبروا بالواقع الآن، أكثر من يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء، الذين فتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب، وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة.
ثم ضرب الله لها مثلاً؛ لأن الأمثال تقرب المعاني، إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس {كمثل غيث} أي: مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة، {كمثل غيث(20/35)
أعجب الكفار نباته} أي النبات الناشىء عنه، وأعجبهم: أي استحسنوه، والكفار هم الكافرون بالله - عز وجل - لأن الكافر تعجبه الدنيا ويفرح بها ويسر بها، وقلبه متعلق بها ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد أعجب الكفار بالله، وخص الكفار لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا ويعجبون بها وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة، وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جداً، هذا إن صح، والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الزارع يكفر الحب، أي: يستره في الأرض، ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب: أن المراد بالكفار، هم الكفار بالله، يعجب الكفار نباته ثم بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه {يهيج} أي: ييبس ويجف، {فتراه مصفراً} بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفرًّا دائماً، {ثم يكون حطاماً} يعني: يتحطم ويتكسر؛ لأنه يبس، فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع؟ التلف، والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم، كم من غني كان مسروراً في أهله، منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه، وفي كل أحواله، وإذا به يعود فقيراً، فتتحطم دنياه، فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراق هذه الدنيا، فلابد من أحد أمرين: فإما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا، وهذا أمر لا يشك فيه في الواقع، لكن النفوس معها غفلة يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام، ويستبعد زوال الدنيا، أو زواله هو عن الدنيا، أما الآخرة فاستمع إليها، قال: {وفي الأَخرة عذاب شديد} للكافرين، {ومغفرة من الله ورضوان} للمؤمنين، فأيما أحق أن يؤثر الإنسان؟ الدنيا التي مآلها الفناء والزوال، أو الآخرة؟! يؤثر الآخرة هذا العقل، لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة(20/36)
عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، {ومغفرة} للذنوب {ورضوان} بالحسنات، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } هذه الجملة فيها حصر طريقة النفي والإثبات، وهو أعلى طرق الحصر، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }، يغتر بها الإنسان، فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول، كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل - وهو أعلم - أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة، ومن زهد بالدنيا ورغب في الآخرة لم يفته شيء من نعيم الدنيا حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، ودليل هذا من القرآن والسنة، قال الله - عز وجل -: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً} لم يقل لنكثرن ماله وأولاده وقصوره {فلنحيينه حياة طيبةً} مطمئنة مستريح البال فيها، {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }، وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له» () .
ثم قال - عز وجل -: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} أمر بالمسابقة، وقد جاء الأمر في آية أخرى بالمسارعة فيجمع الإنسان بين المسابقة وهي شدة العدو في حال السير، وبين المسارعة يعني المبادرة إلى فعل الخير {إلى مغفرة من ربكم} وذلك بفعل أسباب المغفرة، ومن أسباب المغفرة أن تسأل الله المغفرة، تقول: اللهم اغفر لي، أو تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ومن أسباب المغفرة فعل ما تكون به المغفرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه» () وكقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه، غفر الله بهما ما تقدم من ذنبه () ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : «من قال سبحان الله وبحمده، مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»(20/37)
() والأمثلة على هذا كثيرة، {وجنة} هي دار النعيم التي أعدها الله - عز وجل - للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها فاكهة ونخل ورمان، وعسل ولبن وغير ذلك، لكن لا تظن أن ما فيها يشابه ما في الدنيا؛ لأن الله يقول: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين} وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، اسم رمان لكن يختلف عن رمان الدنيا، فاكهة تختلف عن فاكهة الدنيا، فرش يختلف عن فرش الدنيا، وهلم جرا، وفي الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» () {عرضها كعرض السماء والأَرض}، وفي سورة آل عمران: {عرضها السماوات والأَرض} ولا منافاة لأن الأول: عرضها كعرض السماء تشبيه. والثاني: عرضها السماوات والأرض أيضاً تشبيه، لكن يسميه أهل البلاغة تشبيه بليغ {كعرض السماء والأَرض}، ومَن يستطيع أن يقدر عرض السماء والأرض؟ لا أحد يستطيع، السماوات بسعتها، السماء الدنيا واسعة جدًّا، كم بينها وبين الأرض من مسافة وهي محيطة بها، والسماء الثانية فوقها وهي أوسع منها، والثالثة أوسع وهلم جرا، إلى أن تصل إلى الكرسي. والكرسي يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» () حلقة المغفر صغيرة، ألقها في فلاة في الأرض ماذا تكون بالنسبة للفلاة؟ لا شيء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» () فلن نستطيع أن ندرك عرض السماوات والأرض، والجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولذلك كان أقل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسافة ألفي سنة () ، وإنما ذكر الله تعالى أن عرضها عرض السماوات والأرض من أجل أن نحرص على ملء هذه الأرض أرض الجنة، وفي الحديث: «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اقرىء أمتك مني السلام،(20/38)
وأخبرهم أن الجنة قيعان، وإن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» () فاحرص يا أخي على أن تملأ ما تستحقه من هذه الجنة بذكر الله، وتلاوة كتابه، وغير ذلك مما يقرب إلى الله {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} أعدها الله - عز وجل - كما قال - عز وجل - {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}، ومعنى الإعداد التهيئة للشيء، {للذين آمنوا بالله ورسله} آمنوا بالله، وبكل ما أوجب الله الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقوله {ورسله} يشمل جميع الرسل الذين أولهم نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لكن إيماننا بالرسل يختلف عن إيماننا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإيماننا بالرسل بأن نؤمن بأنهم صادقون مبلغون عن الله، ونؤمن بكل ما صح من أخبارهم، أما اتباعهم فلا اتباع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم يشتركون مع الرسول بأن نؤمن بأنهم صادقون، وأن كل ما أخبروا به صدق، وأن كل ما جاءوا به فهو عدل ومناسب لأحوال أممهم في وقتهم، أما الاتباع فلا نتبع إلا واحداً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله: {آمنوا بالله ورسله} يدل على أن أهل الكتاب اليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة، لأنهم لم يؤمنوا برسل الله، والدليل أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والكافر برسول من الرسل كافر بالجميع، كيف وقد جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنسخ جميع الشرائع السابقة، قال الله - عز وجل -: {كذبت قوم نوح المرسلين } مع أنه لم يسبق نوحاً أحد من الرسل؛ لأن من كذب رسولاً من الرسل فقد كذب جميع الرسل، فكيف بمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، والذي قال الله فيه: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} أخذ ميثاق النبيين كلهم. {قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا(20/39)
أقررنا} وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ، الرسل كلهم يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا في ليلة الإسراء كان محمد صلى الله عليه وسلم إمامهم في صلاتهم، فاليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يؤمنوا برسله، لأنهم كفروا بمحمد، بل هم كفروا برسلهم أيضاً، لقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين } ولأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشرهم بمحمد، قال الله - عز وجل - في سورة الصف {وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فلما جاءهم هذا الرسول الذي بشر به عيسى، قالوا: هذا سحر مبين، وكفروا به، فهم كفروا بعيسى وردوا بشارته وأنكروها، ولا يجوز لنا أبداً أن نقول أو نعتقد أن أديان اليهود والنصارى اليوم أديان صحيحة أبداً، بل هي أديان باطلة، غير مقبولة عند الله، كما قال الله - عز وجل -: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} أي ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين بالله ورسله فضل الله في أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسله واتبعوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثيبوا بهذه الجنات، {يؤتيه من يشاء} المشيئة هنا مقترنة بالحكمة، يعني من كان أهلاً للفضل آتاه الله الفضل، ومن لم يكن أهلاً له لم يؤته، والدليل قول الله - تبارك وتعالى -: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فلن يجعل رسالته إلا فيمن هو أهل لها، وقال الله - عز وجل - {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال - عز وجل -: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون } فلا تظن أن الله يعطي الفضل لمن شاء بدون سبب، لابد من سبب، فمتى علم الله في قلب الإنسان خيراً آتاه الخير، قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأَسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم(20/40)
خيراً ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} فأصلح قلبك فيما بينك وبين الله تجد الخير كله، {والله ذو الفضل العظيم }، أي: صاحب الفضل العظيم - عز وجل -، فلا أحد أعظم منة من الله تعالى، أوجدك من العدم، وأعدك وأمدك بالنعم، يسر لك الهدى، فلا أحد أعظم منة من الله، ولهذا قال الله - عز وجل -: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} ولما جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار في غزوة حنين حين قسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم كان يقرر عليهم قال لهم: «ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي» قالوا: الله ورسوله أمن. قال: «ألم أجدكم متفرقين فألف الله قلوبكم بي»؟ () قالوا: الله ورسوله أمن. كلما قال قولاً قالوا: الله ورسوله أمن، يعني أعظم منة، فالحاصل أن الله تعالى ذو الفضل العظيم، ولكن يؤتي فضله من هو مستحق له، كما قال - عز وجل -: {ويؤت كل ذي فضل فضله} اللهم إني أسألك من فضلك العظيم أن تهدي قلوبنا وتصلح أعمالنا، وتختم لنا بخير إنك على كل شيء قدير.
{مآ أصاب من مصيبة في الأَرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير } يعني جميع المصائب التي تصيب الإنسان في الأرض أو في نفسه قد كتبت من قبل. والمصيبة في الأرض كالجدب، وقلة الأمطار، وغور المياه وصعوبة منالها، وربما يقال أيضاً الفتن والحروب وغيرها {ولا في أنفسكم} أي: في نفس الإنسان ذاته من مرض، أو فقد حبيب، أو فقد مال، أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها {إلا في كتاب}، هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، لما خلق الله سبحانه وتعالى القلم قال له: اكتب قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة () . سبحان الله ما أعظم هذا اللوح الذي يسع كل شيء إلى يوم القيامة، ولكن ليس هذا بغريب على قدرة الله - عز وجل -، لأن أمر الله(20/41)
تعالى إذا أراد شيئاً، يقول له: كن. فيكون، ولقد كان الإنسان يتعجب من قبل ولكن لا يستبعد أن يكتب في هذا اللوح مقادير كل شيء، فقد ظهر الآن من صنع الآدمي قطعة صغيرة يسجل فيها آلاف الكلمات وهي عبارة عن لوحة صغيرة كالقرص تسجل فيها آلاف الكلمات، وقد يسجل فيها جميع كتب الحديث المؤلفة، أو جميع التفاسير، أو جميع كتب الفقهاء وهي من صنع الآدمي، فكيف بصنع من يقول للشيء كن فيكون، ولما قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمصائب التي تصيب الناس هي في أمر سابق، ولهذا قال: {إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ}، وقوله: {نبرأهآ} قيل: إنها تعود على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على النفس، وقيل: على الجميع، والصحيح أنها على الجميع، أي من قبل أن نبرأ كل هذه الأشياء، أي: أن نخلقها، وذلك لأن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، {إن ذلك على الله يسير } يعني إن كتابة هذه المصائب يسير على الله - عز وجل - لأنه قال للقلم اكتب فكتب وهذا يسير، كلمة واحدة حصل بها كل شيء {إن ذلك على الله يسير }، كل شيء فهو يسير على الله، لأن الأمر كلمة واحدة كن فيكون، أرأيتم الخلائق يوم القيامة تبعث بكلمة واحدة، قال الله عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } وقال - عز وجل -: {فإنما هي زجرة واحدة } أي: على وجه الأرض خرجوا من القبور، هذا يسير، ولما قال زكريا لله - عز وجل - حين بشره بالولد قال: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعآئك رب شقياً } يعني من الكبر {وقد بلغت من الكبر عتياً } قال الله - عز وجل -: {كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } فالله - عز وجل - لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عنه شيء، ولا يتأخر عن أمره الكوني شيء، {لكيلا تأسوا على ما فاتك} أي: أخبرناكم بأن كل مصيبة تقع فهي في كتاب، {لكيلا تأسوا}(20/42)
اللام للتعليل، وكي بمعنى أن، أي: لأن لا تأسوا، ومعنى تأسوا تندمواعلى ما فاتكم مما تحبون {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي: لا تفرحوا فرح بطر واستغناء عن الله بما آتاكم من فضله، فإذا علمت أن الشيء مكتوب من قبل فلا تندم على ما فات لأنه مكتوب، والمكتوب لابد أن يقع، ولا تفرح فرح بطر واستغناء إذا آتاك الله الفضل، لأنه من الله مكتوب من قبل، فكن متوسطاً لا تندم على ما مضى، ولا تفرح فرح بطر واستغناء بما آتاك الله من فضله، لأنه من الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف». القوي في إيمانه وليس القوي في بدنه، وأصحاب الرياضة يجعلون هذا عنواناً: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» ويقول: المراد بالمؤمن القوي في بدنه. وهذا غلط، (المؤمن القوي) هنا وصف يعود إلى ما سبقه وهو الإيمان، «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»، وهذا يسميه البلاغيون الاحتراس، بمعنى أنه قد يظن الظان أن الضعيف لا خير فيه، قال: «وفي كل خير» ثم قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» () والإنسان إذا علم أن كل شيء مقدر ولابد أن يقع رضي بما وقع، وعلم أنه لا يمكن رفع ما وقع أبداً، ولهذا يقال: دوام الحال من المحال، وتغيير الحال - بمعنى رفع الشيء بعد وقوعه - من المحال، {والله لا يحب كل مختال فخور }، مختال في فعله، فخور في قوله، ومن الاختيال في الفعل أن يجر ثوبه، أو مشلحه، أو عباءته، أو غير ذلك مما يدل على الخيلاء، حتى وإن لبس ثوباً وإن لم يكن نازلاً لكنه يعد خيلاء فهو خيلاء، الفخور هو المعجب بنفسه الذي يقول: فعلت وفعلت وفعلت، يفخر به على الناس، لأنك مادمت فاعلاً الشيء تريد ثواب الله فلا حاجة أن تفخر(20/43)
به على الناس، بل اشكر الله عليه، وحدِّث به على أنه من نعمة الله عليك. ثم ذكر الله تعالى أوصافهم فيما بعد فقال {الذين يبخلون} أي: يمنعون ما يجب عليهم بذله من مال، أو جاه، أو علم، مثال الأول: الذي يبخل بالزكاة وهي أعظم وأوجب ما ينفق، والإنفاق على من تجب نفقته من الأقارب والزوجات. ومثال الثاني: أن يجد الإنسان شخصاً مسلماً واقعاً في مظلمة يتطلب المقام أن يشفع فيها، ليرفع عنه هذا الظلم ولكنه يبخل، فهذا بخل بجاه. ومثال الثالث: أن يبخل بتعليم الناس مما علمه الله - عز وجل - وأن يبخل بالجواب والفتوى إذا استفتي عن مسألة دينية وتعين عليه أن يفتي فيها، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «البخيل من إذا ذكرت عنده ولم يصلِّ عليَّ» () اللهم صلِّ وسلم عليه، وهذا نوع من البخل، لأنه بخل بما يجب عليه، إذ إن القول الراجح أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب على من سمعه أن يصلي عليه، بدليل الحديث الذي في السنن أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «رغم أنف امرء ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك. قل: آمين. فقال: آمين» () {ويأمرون الناس بالبخل} أي: يقولون للرجل: لا تنقص من مالك، لا تتعب نفسك في الشفاعة لفلان، لا تتعب نفسك في تعليم العلم، فهؤلاء أمروا بالبخل فصاروا - والعياذ بالله - فاسدين مفسدين، قال الله - عز وجل -: {ومن يتول} أي: يعرض عن طاعة الله، {فإن الله هو الغنى الحميد}، من يتول فإن الله ليس بحاجة إليه فهو - عز وجل - غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهوالحميد، أي: المحمود على غناه، لأنه ليس كل غني يكون محموداً، فالغني البخيل غير محمود، لكن الله - عز وجل - غني حميد يحمد على غناه؛ لأن الله - عز وجل - واسع العطاء، كثير العطاء، وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان الذي يتولى عن طاعة الله إنما يضر نفسه، ولا يضر الله شيئاً، فإن الله غني، وفي الحديث القدسي:(20/44)
«يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» () .
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} هذه جملة مؤكدة باللام وقد، والقسم المقدر، والتقدير: والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، ولعل قائلاً يقول: كيف يقسم الله - عز وجل -؟ وكيف يؤكد الله خبره بالقسم وهو الصادق بدون ذلك؟
والجواب أن يقال: القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين يؤكد الأشياء الهامة، أو الأشياء المنكرة بأنواع المؤكدات حتى يطمئن المخاطب ولا يرتاب المرتاب، وهذا يذكر في القرآن كثيراً، والتوكيد هنا ليس منصباً على إرسال الرسل، لأن إرسال الرسل معلوم {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } لكنه منصب على قوله بالبينات أي أن الرسل جاءوا بالبينات، والبينات صفة لموصوف محذوف، والتقدير بالآيات البينات أي العلامات البينة الدالة على صدق رسالتهم وصحتها، فإن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهذا من الحكمة والرحمة، أما كونه من الحكمة فليس من الحكمة أن يأتي رجل من بني آدم ويقول للناس: أنا رسول الله إليكم بدون آية، بدون بينة، ولو كلف الناس بالإيمان برسل الله بدون بينة لكان في ذلك مشقة عظيمة، ومن رحمة الله أن الله أيد الرسول بالآيات البينات الظاهرة، قال العلماء: والله تعالى من حكمته ورحمته جعل لكل نبي من الآيات ما يتبين به رسالتهم، مثال ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وأعطاه آيات بينات، قال الله تعالى: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} منها العصا العجيبة، عصا عادية فيها آيات من آيات الله، منها أنه لما اجتمع السحرة الفجار بأمر فرعون ومساندته وألقوا حبالهم وعصيهم، وصارت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين أرهبت الناس حتى موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة، لأنها فوق ما يتصور، سحرة مهرة أتوا بكل قوتهم وألقوا فملؤوا الأرض(20/45)
حبالاً وعصياً، فجعلت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين، {فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم }، أوحى الله إليه أن يلقي العصا، فانقلبت هذه العصا حية، وجعلت تلقف ما يأفكون. كل الحبال التي جاءوا بها أكلتها هذه الحية، فهذه من آيات الله العظيمة، كيف تكون هذه الحية تأكل كل هذه الحبال والعصي، أين تذهب؟ لكنها - والله أعلم - بمجرد ما تأكلها تكون كالبخار، وإلا فبطن هذه الحية لا يسعها، لكن هذه آية، ونحن نتصور هذه الواقعة خبراً، ولكن لو رأيناها نظراً كان الأمر أشد وأعظم، فنحن الآن لا نتصورها إلا في الخبر وفي الذهن فقط، ولكن لو شاهدت عرفت أن الآية عظيمة. والآية الثانية في هذه العصا أن موسى استسقاه قومه وطلبوا منه الماء فضرب حجراً من الحجارة فتفجر عيوناً، اثنتا عشرة عيناً، لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة، والآية الثالثة: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أدركه فرعون وحشره إلى البحر أيقن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هالكون، وقالوا: إنا لمدركون، ليس لنا مفر، البحر أمامنا، إن خضناه غرقنا، وفرعون وجنوده خلفنا سيقضون علينا، قال أصحابه: إنا لمدركون. ولكن انظر إلى الإيمان واليقين، قال: {كلا} لن ندرك، {إن معى ربي سيهدين } أي: سيدلني على ما فيه النجاة. فأوحى الله إليه بأن اضرب بعصاك البحر فانفلق، فضرب البحر مرة واحدة بالعصا فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد قبائل بني إسرائيل، وكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل، وانظر إلى الإيمان أيضاً كيف دخلوا في هذه الطرق والمياه على أيمانهم وعلى شمائلهم ولكنه الإيمان، لأنهم عرفوا أنهم ناجون ولابد. وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى آيات بينات، كان يبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله، وهذان المرضان لا حيلة للأطباء فيهما إلى الآن، اللهم إلا الأكمه، وكان يحيي الموتى بإذن الله، يقول للجنازة أمام الناس: احيي. فتحيا بإذن(20/46)
الله، وكان يخرج الموتى من قبورهم، يقف على القبر ويأمر صاحب القبر بأن يخرج ويخرج حيًّا، من يستطيع هذا إلا الله - عز وجل - وجعله آية لهذا النبي عليه السلام. وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخه فيطير، قال الله - عز وجل -: {فيكون طيرًا بإذن الله} وفي قراءة ثانية: (يكون طائراً)، وإذا جمعت بين القراءتين صار المعنى طيراً بإذن الله يطير، لأنه ما كل طير يطير، فالنعامة لها جناح ولكنها لا تطير، لكن يكون طيراً يطير يشاهد في الجو وهو خلقه من طين، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وجعله الله آية لعيسى.
فإن قال قائل: لماذا خص الله موسى بالعصا وخص عيسى بإحياء الموتى وخلق الطيور؟
قال أهل العلم: إن الله - عز وجل - حكيم يجعل لكل نبي من الآيات ما يناسب الوقت، وحال الناس حتى يعجزهم، فالسحر ترقى إلى حد بعيد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام فأراهم الله آية يعجزون عنها بالسحر، ولهذا السحرة في قصة موسى العارفون بالسحر ما ملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا، ألقي السحرة ساجدين، كأنهم بغير اختيار، فسجدوا وقالوا إعلاناً: {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وعيسى عليه الصلاة والسلام ترقى في عهده الطب ترقياً عظيماً فأعطاه الله آية لا يستطيع الأطباء أن يأتوا بمثلها، أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه بعث في زمن البلاغة العظيمة التي ترقت إلى أعلى ما يكون في العرب واللسان العربي المبين أفصح الألسنة وأدلها على ما في الضمير، فبعثه الله - عز وجل - بقرآن كريم أعجز العرب أن يأتوا بمثله، ولن يأتي أحد بمثله لا الجن ولا الإنس، قال الله - عز وجل -: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} وصدق الله - عز وجل - فالقرآن كلام الله فكما أن الله ليس كمثله شيء، فكلامه ليس مثله كلام، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ما بعث نبيًّا إلا آتاه من(20/47)
الآيات ما يؤمن على مثله البشر حتى تقوم الحجة، قال: «وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» () ، وحصل ما توقع والحمد لله، لأن آيته الكبرى هي القرآن العظيم، والقرآن العظيم باق، وكل الناس يقرأونه ويستنتجون منه من الآيات ما يزدادون به إيماناً، ويعلمون به صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قال قائل: ما الحاجة إلى إعطاء الأنبياء آيات؟ فنقول: الحاجة واقعة بل للضرورة، بل العقل أيضاً، لأنه ليس من العقل أن يأتي شخص ويقول: إنه رسول ثم يتبع، لابد أن يكون هناك بينة تدل على أنه رسول، ولو جاء إنسان في غير أمة محمد عليه الصلاة والسلام وقال: إنه رسول ولم يأت بآية، فالناس معذورون إذا لم يتبعوه، وإلا لكان كل واحد يدعي أنه رسول، أما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبوة انقطعت؛ لأنه كان خاتم النبيين، لذلك لابد أن يكون مع الأنبياء آيات تدل على صدقهم وعلى صحة ما جاءوا به من الشريعة {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} الكتاب: هو الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليهم وما من رسول إلا معه كتاب، بخلاف النبي، فالنبي قد لا يكون معه كتاب، لكن الرسول لابد أن يكون معه كتاب، لأن الرسول لابد أن يعطي الناس الذين يدعوهم ما يشاهدونه بأعينهم. وفيه الأمر والنهي، والخبر والقصص وغير ذلك مما تقتضيه الحال. وقوله: {الكتاب} المراد الجنس، يعني الكتب، وقوله: {والميزان} أي: العدل الذي توزن به الأشياء ويعرف قدرها وحالها، وهذا يدل دلالة واضحة على أن القياس الصحيح مما بعث به الرسل، لأن القياس تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وقد قال الله - عز وجل -: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} أي: العدل والمقايسة بين الأمور {ليقوم الناس بالقسط} أي ليقوم الناس في الدين والدنيا بالقسط بالعدل في حق الله، وفي حق العباد، والعدل في حق الله ما ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال(20/48)
له: «أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» (). يعني أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئاً، أما حق المخلوق، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» () هذا الشاهد، أي: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولو أننا عاملنا الناس بهذا لاستقام العدل ولم يتجرأ أحد على ظلم أحد، ولو أننا شعرنا للناس بما نشعر به لأنفسنا لحلت في قلوبنا الرحمة والتواضع، لأن كل إنسان يحب أن يعامله الناس بالرحمة والتواضع، فعامل الناس أيضاً بالرحمة والتواضع.
فاللام في قوله {ليقوم} للتعليل يعني أرسلنا الرسل وأنزلنا معهم الكتاب، وأنزلنا معهم الميزان لهذه الحكمة، ليقوم الناس بالقسط، ولهذا لا تجد أعدل من دين الله - عز وجل - في كل زمان ومكان، وكل ما خالف دين الله - عز وجل - فهو جور وظلم، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أظلم الظلم أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك. ثم سئل: أي الظلم أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» () فلو مشى الناس على شريعة الله لقاموا بالقسط، لكن كل من لم يتمش على شريعة الله فهو جائر، قال الله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر} يعني من السبيل ما هو جائر وهو سبيل الظالمين، ثم ذكر الله تبارك وتعالى ما يحصل به النصر من جهة أخرى، لأن النصر يكون بالوحي ويكون بالبأس وهو ما ذكره في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} أنزلنا الحديد يعني خلقناه لهم من المعادن واستنبط بعض العلماء من قوله: {وأنزلنا الحديد} على أن المعدن إذا كان في قمم الجبال فهو أقوى وأنفع مما إذا كان في أسفل، لأن النزول إنما يكون من أعلى،(20/49)
فالله أعلم هذا يرجع إلى علم الجيولوجيا، لكن أنزلنا بمعنى وضعنا لهم الحديد، وهو معدن معروف من أقوى المعادن {فيه بأس شديد} أي: في الحرب، تصنع منه السيوف والخناجر وجميع آلات الحرب، وإنما ذكره بعد ذكر الكتب، لأن الدين لا يقوم إلا بهذا: بالدعوة والقتال. فإذا أبى الكفار أن يكون دين الله هو العالي فحينئذ يقاتلون، بالحديد {ومنافع للناس} جمع المنافع لأنها لا تحصى أجناسها، فضلاً عن أنواعها وأفرادها، فمن يحصي المنافع التي تحصل بالحديد؟! ولهذا جاءت بالجمع المعروف بصيغة منتهى الجموع، {ومنافع للناس} دينية ودنيوية، فردية وجماعية {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} معطوفة على {ليقوم الناس بالقسط} والمراد علم الظهور الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، أما علم أنه سيكون، فهذا سابق على إرسال الرسل وإنزال الكتب، لأنه سبحانه لم يزل ولايزال عالماً بكل شيء، ولكن لا يشكل عليك الأمر، لا تقل: إن الله لا يعلم إلا بعد هذا، نقول: العلم علمان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم بالشيء بعد وجوده. والعلم السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب حتى يمتحن للناس، {من ينصره}، أي: ينصر دينه، وليس المعنى ينصر نفس الله، لأن الله غني عن العالمين، ولهذا قال الله تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم}. فلو قال قائل: كيف تفسر الآية ينصر دينه والله يقول: {من ينصره} هذا تفسير مخالف للفظ وأنتم تنكرون على من يفسر القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ، فما الجواب؟ فالجواب: نحن لا ننكر على الناس إذا فسروا القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ إذا كان ذلك بدليل، ولهذا إذا قال قائل في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } المعنى إذا قرأت القرآن أي أردت قراءته، فهذا فسره بخلاف ظاهره، ولكنه تفسير صحيح، لأن الإنسان يستعيذ بالله إذا أراد أن يقرأ، وليس إذا تم القراءة. بدليل(20/50)
فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأن هذا هو الذي يفيد أن يستعيذ الإنسان بالله قبل أن يقرأ ليقرأ والشيطان بعيد عنه، على كل حال إذا قال لك قائل: كيف تفسر قوله تعالى: {من ينصره} أي من ينصر دينه وأنت تنكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره، فالجواب: أننا لا ننكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره إذا كان في ذلك دليل صحيح، والدليل على أن المراد ينصر دينه قوله: {إن الله قوى عزيز } ليس به حاجة، ولا يحتاج إلى أحد، فهو قوي عزيز غالب، غالب بقوة، لا يلحقها ضعف، وقوله - عز وجل -: {ورسله} نصر الرسل، إذا كان الرسول حيًّا فالمراد ينصر الرسول نفسه وشريعته، وبعد موته ينصر شريعته، وفي هذا دليل على أن نصر الشريعة نصر لمن جاء بها، فلا يشكل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قد يميت الرسول قبل أن يرى النصر الواسع له، لأننا نقول: نصر شريعته نصر له، وقوله: {بالغيب} أي: أنه ينصر الله - عز وجل - وينصر رسله وهو لم ير الله، لأن الله تعالى ينصر ولا يُبصَر في الدنيا، ولهذا قال بعض السلف: (ينصرونه ولا يبصرونه) تفسيراً لقوله: {بالغيب} ينصرونه ولا يبصرونه، فالمراد لا يبصرونه في الدنيا، أما في الآخرة فنظر الله تعالى حق ثابت بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - إذن بالغيب، أي: ينصرون الله وهو غائب، ويحتمل أن يكون المعنى بالغيب، أي: بغيبتهم عن الناس، فيكون في هذا دليل على إخلاصهم، وأنهم ليسوا ممن يعبدون الله إذا كانوا بين الناس، بل يعبدون الله تعالى في الغيب والشهادة {إن الله قوى عزيز } هذه الجملة استئنافية لبيان أن نصر الله - عز وجل - ليس عن ضعف ولا عن قهر، بل هو قوي عزيز لا يحتاج إلى أحد ينصره بنفسه، ولكن النصر لدينه، نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه إنه على كل شيء قدير.
{ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول: القسم المحذوف. والثاني:(20/51)
اللام. والثالث: قد، ونوح عليه الصلاة والسلام هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام من أولي العزم الخمسة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء من بعده، وإليه يرجع الأنبياء، أي: إلى ملته، ولهذا يتنازع فيه المسلمون واليهود والنصارى، فاليهود يقولون: إنه يهودي، والنصارى يقولون: إنه نصراني، والمسلمون يقولون: إنه حنيف مسلم، وهذا هو الحق، والعجب أن اليهود والنصارى يقولون: إنه يهودي أو نصراني، وما كانوا يهوداً ونصارى إلا من بعده، ولكنهم ليس لهم عقول، {وجعلنا في ذريتهما} أي: ذرية نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام النبوة والكتاب، يعني الرسل عليهم الصلاة والسلام. وفي هذا دليل على أن آدم ليس برسول، وأن إدريس ليس قبل نوح كما ذكره بعض المؤرخين، وهو خطأ مخالف للقرآن الكريم، فليس قبل نوح رسول، وآدم نبي مكلم كلمه الله - عز وجل - بما شاء من وحيه، ثم سار على نهجه بنوه من بعده، فلما انتشر الناس وكثروا صار بينهم اختلاف، كما قال - عز وجل -: {كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}. وقوله: {الكتاب}، المراد الجنس، لأن كل رسول معه كتاب، كما قال - عز وجل -: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} {فمنهم مهتد} أي: بعضهم مهتد، وحذفت الياء كما هي القاعدة في اللغة العربية، وأصلها مهتدي بالياء، لكن حذفت للتخفيف {وكثير منهم فاسقون } أي: غير مهتدين، وهذا هو الواقع أن بني آدم أكثرهم ضال، كما قال - عز وجل -: {وإن تطع أكثر من في الأَرض يضلوك عن سبيل الله}. {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتينه الإنجيل} قفينا بمعنى اتبعنا، مأخوذ من القفا، لأن من يمشى من قفاك هو تابع لك {على آثارهم} أي: آثار نوح وإبراهيم ومن كان من الرسل الآخرين عليهم الصلاة والسلام {برسلنا} أي: التابعين لهم، {وقفينا بعيسى ابن مريم} نص على(20/52)
عيسى عليه السلام لأنه ليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسول، بل ولا نبي أيضاً، ليس بينه رسول ولا نبي، وما يقال: إن خالد بن معادن وغيره له النبوة فكله كذب، {وءاتينه الإنجيل} هو كتاب أنزله الله - عز وجل - على عيسى، ويعتبر مكملاً للتوراة، لأن التوراة هي أم الكتب في بني إسرائيل، {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها}، ثلاثة أشياء جعلها الله في قلوب النصارى الذين اتبعوا عيسى {رأفةً} الرأفة نوع من الرحمة ولكنها أرق وألطف {ورحمةً} فهم من أرق الناس قلوباً، وأرحمهم بالخلق لما كانوا على شريعة عيسى عليه السلام، ولكن بعد أن كفروا بمحمد صاروا أغلظ الناس، أو من أغلظ الناس، كما جرى بين المسلمين وبين النصارى في الحروب الصليبية وغيرها {ورهبانيةً} الانقطاع عن الدنيا للعبادة، {ابتدعوها} يعني من عند أنفسهم، كما فعلت بعض فرق المسلمين، ابتدعوا رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان، لكن معهم رقة ورحمة {ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} يعني أنا لم نفرضها عليهم، ولكن هم طلبوا رضوان الله، ولهذا نقول: {إلا ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع، ولكن مع كونهم ابتدعوها واختاروا بأنفسهم {فما رعوها حق رعايتها} يعني ما قاموا برعايتها الواجبة من إحسان هذه الرهبانية التي ابتدعوها، وإنما تصرفوا فيها كما يشاؤون، {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} أي: ثوابهم {وكثير منهم فاسقون } أي: كثير من هؤلاء النصارى فاسق، أي: خارج عن طاعة الله - عز وجل -، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا ابتدع بدعة فإنه لا يوفق لإقامتها، فيكون ضالاًّ في الأصل، وضالاًّ في الفرع، حتى لو اجتهد، حتى لو خشع، إنك تجد كثيراً من الناس الذين ابتدعوا أذكاراً، أو صلوات، أو أدعية، أو ما أشبه ذلك تجدهم خاشعين، قلوبهم باكية، قلوبهم خاشعة لكن لا ينفعهم ذلك، لأنهم على ضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
{يا أيها الذين آمنوا(20/53)
اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم } يا أيها الذين آمنوا، المراد بهم هذه الأمة، فيكون قوله: {اتقوا الله وآمنوا برسوله} يعني اثبتوا على الإيمان، ولا تبدلوا الإيمان، لأن الإيمان قد حصل، حيث قال {يا أيها الذين آمنوا}، فيكون المعنى {يا أيها الذين آمنوا} بقلوبكم {اتقوا الله} بجوارحكم {وآمنوا برسوله} أي: حققوا الإيمان واثبتوا عليه، وليس كل من آمن يكون مؤمناً حقًّا، وهذا هو ما يعنيه العلماء بقولهم، هذا نفي كمال الإيمان مثل قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» () ، ليس المراد نفي مطلق الإيمان، بل نفي الإيمان المطلق الكامل، وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية في أهل الكتاب، لأنه قال: {وآمنوا برسوله}، ولكن هذا قول ضعيف جدًّا، ولا يمكن أن ينادي الله - عز وجل - أهل الكتاب وهم كفرة بوصف الإيمان أبداً، لا يمكن أن يكون المراد بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} يا أيها اليهود والنصارى، لأنهم حين نزول القرآن إذا بقوا على يهوديتهم ونصرانيتهم ليسوا بمؤمنين، والمراد برسوله هنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان بجميع الرسل، كما قال - عز وجل -: {آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} يعني في الإيمان به، لا في الاتباع، ففي الاتباع نفرق بين الرسل، فتبع منهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، لكن الإيمان كلهم على حد سواء، نؤمن بأنهم رسل الله حقًّا، {يؤتكم كفلين من رحمته} أي: نصيبين من رحمة الله، ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه الأمة بالنسبة لما قبلها كرجل استأجر أجراء، منهم طائفة من أول النهار إلى نصف النهار، وطائفة من نصف النهار إلى العصر، وطائفة من العصر إلى غروب الشمس، فالطائفة الأولى أعطى كل واحد منهم(20/54)
ديناراً، والطائفة الثانية أعطى كل واحد ديناراً، والثالثة أعطى كل واحد دينارين فاحتج الأولون: لماذا تعطي هؤلاء دينارين، وهم أقل منا عملاً؟ فأجابهم بقوله: «هل نقصتكم من أجركم شيئاً»؟ قالوا: لا، قال: «ذلك فضلي أوتيه من أشاء» () ، فالحمد لله هذه الأمة لها مثل أجر الأمم السابقة مرتين، {ويجعل لكم نوراً تمشون به}، أي: أنكم إذا آمنتم وحققتم الإيمان مع التقوى يثبكم ثوابين {ويجعل لكم نوراً تمشون به} أي: علماً تسيرون به إلى الله - عز وجل - على بصيرة، وفي هذا دليل على أن التقوى من أسباب حصول العلم، وما أكثر الذين ينشدون العلم، وينشدون الحفظ، ويطلبون الفهم، فنقول: إن تحصيله يسير، وذلك بتقوى الله - عز وجل - وتحقيق الإيمان، الذي هو موجب العلم، فاعمل بما علمت يحصل لك علم ما لم تعلم، فتقوى الله - عز وجل - من أسباب زيادة العلم ولا شك، ولهذا قال{ويجعل لكم نوراً تمشون به} أي: تسيرون به، أي: بسببه سيراً صحيحاً يوصلكم إلى الله - عز وجل - {ويغفر لكم} أي: يسترها عليكم، ويعفو عنكم، فلا عقاب ولا فضيحة {والله غفور رحيم } أي: ذو مغفرة ورحمة، كما قال الله - عز وجل -: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} وقال - عز وجل -: {وربك الغفور ذو الرحمة} فالغفور يعني ذا المغفرة، والرحيم يعني ذي الرحمة، وذلك أن الإنسان محتاج إلى مغفرة ذنوب وقعت منه، وإلى رحمة تسدده ويتجنب بها المعاصي، ويهتدي إلى التوبة إن عصى، ثم قال: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله} أي: جعل لكم هذا الثواب، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم لا يستطيعون أن يحسدوكم على ما آتاكم اللهمن فضله، مع محاولتهم الشديدة أن يحسدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم} فيقول - عز وجل - هنا {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على(20/55)
شيء من فضل الله} لا إعطاء ولا منعاً {وأن الفضل بيد الله} - عز وجل - وهو المدبر لكل ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته {والله ذو الفضل العظيم } أي: صاحب الفضل العظيم، وما أعظم فضل الله - عز وجل - على عباده، فقد قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون } نسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( 1 ) انظر: فتح الباري (6/592) حيث عزاه الحافظ ابن حجر إلى البزار والطبراني في الأوسط.
(2 ) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) (69).
( 3 ) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم (رقم 2713).
( 4 ) تقدم تخريجه في ص 361.
( 5 ) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (رقم 349)، ومسلم، كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله ? إلى السماوات وفرض الصلوات (رقم 163).
( 6 ) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2453) ومسلم كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610).
( 7 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله ? بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة...».
وأخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام (رقم 2789).
( 8 ) أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة (2/569 - 570رقم 206). وابن حبان كما في الموارد (1/191- 192 رقم 94) والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 109).
( 9 ) أخرجه(20/56)
مسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره (1342).
( 10 ) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (12/39 رقم 12404) والحاكم (2/282) والخطيب البغدادي في تاريخه (9/251 252) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/313): رجاله رجال الصحيح.
( 11 ) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام وفي قوله حجابة النور... (رقم 179).
( 12 ) تقدم ص 364.
( 13 ) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: لو كنت متخذاً خليلاً (3662) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384).
( 14 ) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر (رقم 3654) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382).
( 15 ) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (رقم 3675) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
( 16 ) أخرجه الحاكم (1/27 28) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر. ووافقه الذهبي وأخرجه أيضاً في (2/544) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
( 17 ) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب رقى النبي ? سعد بن خولة (1295) ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (1628).
( 18 ) أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع (4375). وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1185).
( 19 ) أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (رقم 6779).
( 20 ) أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه (1444) وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 6309).
( 21 ) أخرجه الإمام أحمد (5/411). وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (3/269): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
( 22 ) أخرجه مسلم، كتاب(20/57)
الفضائل، باب فضل نسب النبي ? وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (رقم 2276).
( 23 ) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (3353) ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام (2378).
( 24 ) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل العشاء في الجماعة (657) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها (651) (252).
(25) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2652) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2533).
( 26 ) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (2985).
( 27 ) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه (رقم 1601).
( 28 ) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (رقم 1496)، ومسلم كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (رقم 19).
( 29 ) أخرجه البخاري معلقاً، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (ص 278).
( 30 ) أخرجه الإمام أحمد (1/391، 452) والحاكم (1/509 - 510) وأبو يعلى (رقم 5297) وابن السني (رقم 339، 340).
( 31 ) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم (ص 367).
( 32 ) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479).
( 33 ) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحداً (7392) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (6).
( 34 ) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ? إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (153).
( 35 ) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (رقم 2985).
( 36 ) أخرجه البخاري، كتاب(20/58)
الأدب، باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (6094) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607).
( 37 ) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً (123) ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1904).
( 38 ) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب 12 (4015) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق (2961).
( 39 ) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999).
( 40 ) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان (38) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (759).
( 41 ) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء (164) ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله (226).
( 42 ) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (6405) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (2691).
( 43) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} (7498) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824).
( 44 ) تقدم ص 365.
( 45 ) تقدم ص 365.
( 46 ) تقدم ص 332.
( 47 ) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب 58 (3462) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
( 48 ) تقدم ص 69.
( 49 ) تقدم ص 296.
( 50) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (2664).
( 51 ) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله ?: رغم أنف رجل (3346) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
( 52 ) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله ?: رغم أنف رجل (3545) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
( 53) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (رقم 2577).
( 54 ) أخرجه البخاري، كتاب(20/59)
الاعتصام، باب قول النبي ?: بعثت بجوامع الكلم (رقم 7274). ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ? إلى جميع الناس (رقم 152).
( 55 ) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي ? أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (7373)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (30).
( 56 ) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844).
( 57 ) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى {ولا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} (رقم 4477) ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (رقم 86).
( 58 ) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (رقم 13) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير (رقم 45).
( 59 ) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (رقم 557) .(20/60)
تفسير سورة النبأ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَكُمْ أَزْوَجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّتٍ أَلْفَافاً}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{عم يتساءلون} يعني عم يتساءل هؤلاء، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال: {عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون} وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولاسيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الاخر والبعث والجزاء، وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمنهم من آمن به وصدق، ومنهم من كفر به وكذب، فبين الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، ولهذا قال سبحانه هنا: {كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون} والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيداً باعتبار اصطلاح النحويين؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من الحروف. والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به.(21/1)
ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال: {ألم نجعل الأرض مهاداً} أي جعل الله الأرض مهاداً ممهدة للخلق ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به. {والجبال أوتاداً} أي جعلها الله تعالى أوتاداً بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به، وهو أيضاً ثابت كما قال تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها} [فصلت: 10]. وهذه الأوتاد قال علماء الأرض: إن هذه الجبال لها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح وهذا من تمام قدرته ونعمته. {وخلقناكم أزواجاً} أي أصنافاً ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة. {وجعلنا نومكم سباتاً} أي قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة وهو أيضاً من آيات الله كما قال الله تعالى: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله}. [الروم: 23]. {وجعلنا الليل لباساً} أي جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس كأن الأرض تلبسه ويكون جلباباً لها، وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا إذا صعد فوق ظل الأرض، وقد رأينا ذلك من الايات العجيبة إذا صعدت في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كسيت بلباس أسود. {وجعلنا النهار معاشاً} أي معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب(21/2)
درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد. {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]. أي بنيناها بقوة. {وجعلنا سراجاً وهَّاجاً} يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضاً ذات حرارة عظيمة. {وهاجاً} أي وقَّادة، وحرارتها في أيام الصيف حرارة شديدة مع بعدها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر في شدة حرها من فيح جهنم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم». وقال عليه الصلاة والسلام: «اشتكت النار إلى الله فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم، وأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم». ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق فهي توفر على الخلق أموالاً عظيمة في أيام النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تستخرج منها تكون فيها فوائد كثيرة، وكذلك إنضاج الثمار وغير هذا من الفوائد العديدة من هذا السراج الذي جعله الله عز وجل لعباده.(21/3)
ولما ذكر السراج الوهاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال: {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً} والماء فيه رطوبة وفيه برودة، وهذا الماء أيضاً تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف إلى هذا ماء السماء وحرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون. {وأنزلنا من المعصرات} يعني من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا الماء عند نزوله عصراً، كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، وقوله: {ماء ثجَّاجاً} أي كثير التدفق واسعاً. {لنخرج به حبًّا ونباتاً} أي لنخرج بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض فتنبت الأرض ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه البر والشعير والذرة وغيرها. {وجنات ألفافا} أي بساتين ملتفاً بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض، وهي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها سواء خرج منه مباشرة أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22]. وقال تعالى في آية أخرى: {فسلكه ينابيع في الأرض}. [الزمر: 21].
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على العباد ذكر حال اليوم الاخر وأنه ميقات يجمع الله به الأولين والاخرين فقال تعالى:(21/4)
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّغِينَ مََاباً * لَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَآءً وِفَقاً * إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بَِايَتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَهُ كِتَباً * فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.(21/5)
قال تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه أيضاً بين أهل الجنة والنار، فريق في الجنة وفريق في السعير. {كان ميقاتاً} يعني موقوتاً لأجل معدود كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} [هود: 104]. وما ظنك بشيء له أجل معدود وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعاً يوماً بعد يوم حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يوماً بعد يوم حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} كل شيء معدود فإنه ينتهي. {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} والنافخ الموكل فيها إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم تعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} وفي الاية إيجاز بالحذف أي فتحيون فتأتون أفواجاً؛ فوجاً مع فوج أو يتلو فوجاً، وهذه الأفواج ـ والله أعلم ـ بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبواباً {يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميماً. يبصرونهم} [المعارج: 8 ـ 11]. {وسيرت الجبال فكانت سراباً} أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير {وسيرت الجبال فكانت(21/6)
سراباً}. قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مئاباً. لابثين فيها أحقاباً} الطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. [الذاريات: 56]. فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهو الطاغي، فجهنم كانت للطاغين مآبهم ومرجعهم وأنهم لابثون فيها أحقاباً. {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم. {إلا حميماً وغساقاً} الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة. {يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29]. {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم}. [محمد: 15]. {وغساقاً} قال المفسرون: إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم ـ والعياذ بالله ـ بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين: من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك. وعلى كل حال فالاية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطع أمعاءهم من حرارته، ويفطّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية. وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم. {جزاء وفاقاً} أي يجزون بذلك جزاء موافقاً لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44]. فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم. ثم بين وجه الموافقة أي موافقة هذا العذاب للأعمال فقال: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كِذَّاباً} فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} أي لا يؤملون أن(21/7)
يحاسبوا بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث يقولون: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فلا يرجون حساباً يحاسبون به لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم، أما ألسنتهم فيكذبون يقولون هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسل الله، كما قال عز وجل: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52]. وقال الله تعالى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} [ص: 4]. وقالوا إنه شاعر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30]. {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} [الحجر: 7]. ولولا أن الله ثبت أقدام الرسل وصبرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذية العظيمة بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقاً مطابقاً لعمله كما في هذه الاية الكريمة: {جزاء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كذاباً}. قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتاباً} {كل شيء} يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير {أحصيناه} أي ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف. {كتاباً} يعني كتباً، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. رقيب يعني مراقب، والعتيد يعني الحاضر. ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه فقال له: يا أبا عبدالله إن طاووساً وهو أحد التابعين المشهورين(21/8)
يقول: إن أنين المريض يكتب، فتوقف رحمه الله عن الأنين خوفاً من أن يكتب عليه أنين مرضه. فكيف بأقوال لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طوال الليل والنهار ولا يحسب لها الحساب، فكل شيء يكتب حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من همّ بالسيئة فلم يعملها عاجزاً عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، فلا يضيع شيء كل شيء أحصيناه كتاباً. {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني يقال لأهل النار: ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخاً فلن نزيدكم إلا عذاباً ولن نخفف عنكم بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه لا نزيدكم إلا عذاباً في قوته ومدته ونوعه، وفي آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]. تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه:
أولاً: أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم. لأن الله قال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}. [المؤمنون: 108]. فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يسألوا الله ويدعوه إلا بواسطة.
ثانياً: أنهم قالوا: {ادعوا ربكم} ولم يقولوا: ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم أي بأن يقولوا ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلاً لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا {ربكم}.
ثالثاً: لم يقولوا يرفع عنا العذاب بل قالوا: {يخفف} لأنهم آيسون نعوذ بالله، آيسون من أن يرفع عنهم.
رابعاً: أنهم لم يقولوا يخفف عنا العذاب دائماً، بل قالوا {يوماً من العذاب} يوماً واحداً، بهذا يتبين ما هم عليه من العذاب والهوان والذل {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]. أعاذنا الله منها.(21/9)
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}.
ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم بعد قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً}. لأن القرآن مثاني إذا ذكر فيه العقاب ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه». لذلك تجد القرآن الكريم يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها. وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.(21/10)
{إن للمتقين مفازاً} المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، وأحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار} [آل عمران: 130]. فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]. فأمر بتقوى يوم الحساب، وكل هذا يدور على معنى واحد وهو: أن يتقي الإنسان محارم ربه فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته، فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله واجتنبوا نواهي الله، هؤلاء لهم {مفازاً}، والمفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم، وفائزون في أيامهم. {حدائق وأعنابا} هذا نوع المفاز، {حدائق} أي بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة الأشجار. {وأعناباً} الأعناب جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر. {وكواعب أترابا} الكواعب جمع كاعب وهي التي تبين ثديها ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر. {وأتراباً} أي على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنها لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب. {وكأساً دهاقاً} أي كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر. وربما يكون للخمر وغيره، لأن الجنة فيها {أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {لا يسمعون فيها لغواً} لا يسمعون في الجنة لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه. {ولا كذاباً} أي ولا كذباً فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخواناً. {جزاء من ربك عطاء} أي أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم(21/11)
الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله. {حساباً} أي كافياً، مأخوذة من الحسب وهو الكفاية أي أن هذا الكأس كأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره لكمال لذته وتمام منفعته.
{رَّبِّ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً * يَوْمَ يَقُومُالرُّوحُ وَالْمَلَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مََاباً * إِنَّآ أَنذَرْنَكُمْ عَذَاباًقَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيْتَنِى كُنتُ تُرَباً }.(21/12)
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91]. فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وما بينهما} أي ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله: {لا يملكون منه خطاباً} يعني أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك {يوم يقوم الروح} وهو جبريل {والملائكة صفًّا} أي صفوفاً. صفًّا بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث: «تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من وراءهم، ثم الثالثة والرابعة والخامسة» وهكذا.. صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى. {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} أي لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108]. {إلا من أذن له الرحمن} بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له. {وقال صواباً} أي قال قولاً صواباً موافقاً لمرضات الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة إذا أذن الله لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أُذن له. {ذلك اليوم الحق} أي ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل أي الثابت الذي يقوم فيه الحق، ويقوم فيه العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} أي من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى. وقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28، 29]. يعني أننا لنا(21/13)
الخيار فيما نذهب إليه لا أحد يكرهنا على شيء؛ لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} وإنما بين الله ذلك في كتابه من أجل أن لا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله، حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى. لا يقول الإنسان أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل. {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} أي خوفناكم من عذاب قريب وهو يوم القيامة. ويوم القيامة قريب، ولو بقيت الدنيا ملايين السنين فإنه قريب {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46]. فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب، ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان. {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} المرء: أي كل امرىء ينظر ما قدمت يداه ويكون بين يديه ويعطى كتابه، ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهده من العذاب: {يا ليتني كنت تراباً} أي ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول كوني تراباً فتكون تراباً يتمنى أن يكون مثل البهائم فقوله: {كنت تراباً} تحتمل ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: يا ليتني كنت تراباً فلم أُخلق، لأن الإنسان خُلق من تراب.
المعنى الثاني: ياليتني كنت ترابًا فلم أُبعث، يعني كنت ترابًا في أجواف القبور.(21/14)
المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني تراباً فكانت تراباً قال: ليتني كنت تراباً أي كما كانت هذه البهائم ـ والله أعلم ـ وإلى هنا تنتهي سورة النبأ، وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا، وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم.(21/15)
تفسير سورة النازعات
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَرُهَا خَشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَفِرَةِ * أَءِذَا كُنَّا عِظَماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(22/1)
{والنازعات غرقا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها {غرقا} أي نزعاً بشدة. {والناشطات نشطا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قالت عائشة: يا رسول الله: إنَّا لنكره الموت، فقال: «ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه»، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. {والسابحات سبحا} هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح(22/2)
في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار {كل في فلك يسبحون} فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 38 ـ 40]. يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به {فلما رآه مستقرّاً عنده} في الحال رآه {قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءَأَشكر أم أكفر} قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. {فالسابقات سبقاً} أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. [التحريم: 6]. وقال عز وجل: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20]. فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. {فالمدبرات أمراً} أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس(22/3)
ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضاً من حملة العرش، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات، وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به. فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة} هذه {يوم ترجف} متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة}، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاءالله، والنفخة الثانية يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات:: 13، 14]. إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرافدة انقسم الناس إلى قسمين: {قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون إنا لمردودون في الحافرة. أإذا كنا عظاماً نخرة قالوا تلك إذاً كرة خاسرة} وهذه قلوب الكفار {واجفة} أي: خائفة خوفاً شديداً. {أبصارها خاشعة} يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ لذلهم قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}[الشورى: 45]. {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: {فإنما هي زجرة واحدة.(22/4)
فإذا هم بالساهرة} وهذا كقوله تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50]. يعني أنَّ الله إذا أراد شيئاً إنما يقول له: (كن) مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة {إلا واحدة كلمح بالبصر} والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة}.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الاَْيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْوْلَى * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}.(22/5)
ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} والخطاب في .........................................قوله: {هل أتاك} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (هل أتاك يا محمد)، وعلى المعنى الثاني: (هل أتاك أيها الإنسان) {حديث موسى} وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} [الأحزاب: 7]. والثاني في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]. وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: {هل أتاك حديث موسى} تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا}[مريم: 52]. وقوله: {بالواد المقدس} هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: {طوى} اسم للوادي. {اذهب إلى فرعون إنه طغى} فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره {قال يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري} فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى(22/6)
عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى فرعون وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ وفي سورة طه قال: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} [طه: 43]. ولا منافاة بين الايتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون عليه الصلاة والسلام مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: {إنه طغى} أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. {فقل هل لك إلى أن تزكى} الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون} [فصلت: 6، 7]. ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 ـ 10]. {وأهديك إلى ربك} أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. {فتخشى} أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:: 28]. وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحاً لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. أي فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول(22/7)
آية تدل على صدقه، وهنا قال: {فأراه الاية الكبرى} يعني أرى موسى فرعون الاية الكبرى، فما هي هذه الاية؟ الاية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فوراً إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الاية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة الذين تصدوا لموسى عليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برىء بإذن الله {يبرىء الأكمه والأبرص} مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وHشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا(22/8)
بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [الإسراء: 88]. يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الاية الكبرى ولكن لم ينتفع بالايات {وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: {فكذب وعصى} كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً بل قال {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27]. وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه. {ثم أدبر يسعى} أي تولى مدبراً يسعى حثيثاً. {فحشر فنادى} حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى عليه الصلاة والسلام. {فقال أنا ربكم الأعلى} يعني لا أحد فوقي لأن {الأعلى} اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله: {أنا ربكم الأعلى} وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم {يا قومِ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف:: 51، 52]. فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم. {فأخذه الله نكال الاخرة والأولى} أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، {نكال الاخرة والأولى} يعني أنه نكّل به في الاخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين. {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {إن في ذلك} أي فيما جرى من إرسال موسى إلى(22/9)
فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة، {لمن يخشى} أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ولو أن أحداً انتدب لجمع القصة من الايات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العبر لكان جيداً، يعني يأتي بالقصة كلها في كل الايات، لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الاخر، فإذا جمعها وقال مثلاً يؤخذ من هذه القصة العظيمة العبر التالية ثم يسردها، كيف أرسله الله عز وجل إلى فرعون؟ كيف قال لهما {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44]. مع أنه مستكبر خبيث؟ وكيف كانت النتيجة؟ وكيف كان موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب كما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة يترقب، وصارت العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ولموسى عليه الصلاة والسلام، لكن العاقبة للرسول صلى الله عليه وسلّم بفعله وأصحابه، عذب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر.
{أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَهَا * وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَهَا * مَتَعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَمِكُمْ}.(22/10)
{ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. فيقول الله عز وجل: {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء كما قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [غافر: 57]. {بناها} هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله {أم السماء} ثم يستأنف فيقول: {بناها} فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، {بناها} أي بناها الله عز وجل وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال: {والسماء بنيناها بأيد} أي بقوة {وإنا لموسعون}. {رفع سمكها فسواها} رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد كما قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2]. {فسواها} أي جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك} [الانفطار: 6، 7]. فسواك: أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل. {وأغطش ليلها} أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء: 12]. {وأخرج ضحاها} بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها. {والأرض بعد ذلك} أي بعد خلق السماوات والأرض {دحاها} بين سبحانه هذا الدحو بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: {قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا(22/11)
أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين} [فصلت: 9 ـ 12]. فالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات. {والجبال أرساها} أي جعلها راسية في الأرض تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق. {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها.
ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل:
{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى}.(22/12)
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} وذلك قيام الساعة، وسماها طامة لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها. {الكبرى} يعني أكبر من كل طامة. {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، يتذكره مكتوباً، عنده يقرأه هو بنفسه قال الله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13، 14]. إذا قرأه تذكر ما سعى أي ما عمل، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيىء، لكن كل هذا ننساه، وفي يوم القيامة يعرض علينا هذا في كتاب ويقال اقرأ كتابك أنت بنفسك {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. فحينئذ يتذكر ما سعى {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]. {وبُرِّزت الجحيم لمن يرى} {برزت} أظهرت تجيء تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام فيه سبعون ألف ملك يجرونها، إذا ألقي منها الظالمون مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً تأتي ـ والعياذ بالله ـ لمن يرى ويبصر فتنخلع القلوب ويشيب المولود ولهذا قال: {فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا} هذان وصفان هما وصفا أهل النار، الطغيان وهو مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الاخرة بتقديمها على الاخرة وكونها أكبر هم الإنسان، والطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي لأنه تجاوز الحد، أنت مخلوق لا لتأكل وتتنعم وتتمتع كما تتمتع الأنعام، أنت مخلوق لعبادة الله فاعبد الله عز وجل، فإن لم تفعل فقد طغيت هذا هو الطغيان ألا يقوم الإنسان بعبادة الله. {وآثر الحياة الدنيا} هما متلازمان فإن الطاغي عن عبادة الله مؤثر للحياة الدنيا لأنه يتعلل بها عن طاعة الله، ويتلهى بها عن طاعة الله، إذا أذن الفجر آثر النوم على الصلاة،(22/13)
إذا قيل له أذكر الله آثر اللغو على ذكر الله وهكذا... {فإن الجحيم هي المأوى} أي هي مأواه، والمأوى هو المرجع والمقر وبئس المقر مقر جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ {وأما من خاف مقام ربه} يعني خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه ويقول عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا كما جاء في الصحيح، فإذا أقر قال الله له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، هذا الذي خاف هذا المقام، {ونهى النفس عن الهوى} أي عن هواها، والنفس أمَّارة بالسوء لا تأمر إلا بالشر. ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة؛ وللإنسان ثلاث نفوس: مطمئنة، وأمارة، ولوامة، وكلها في القرآن، أما المطمئنة ففي قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي} [الفجر:: 27 ـ 30]. وأما الأمَّارة بالسوء ففي قوله تعالى: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} [يوسف: 53]. وأما اللوامة ففي قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة: 1، 2]. والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس؛ يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير يفعله هذه هي النفس المطمئنة، يرى أحياناً في نفسه نزعة شر يفعله هذه نفس أمارة بالسوء، تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير، فإن من الناس من قد يلوم نفسه على فعل الخير وعلى مصاحبة أهل الخير ويقول: كيف أصاحب هؤلاء الذين صدوني عن حياتي.. عن شهواتي.. عن لهوي، وما أشبه ذلك. فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة مرة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء، وتندم الإنسان، وقد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير. {فإن الجنة هي المأوى} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز(22/14)
وجل لأوليائه فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت، إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج قالت: أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} [النحل: 32]. يقولونه حين التوفي {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} فيبشر بالجنة فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدث النبي عليه الصلاة والسلام فقال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قالت عائشة: يا رسول الله: كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر ذلك ـ كلنا يكره الموت بمقتضى الطبيعة ـ ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله أحب الموت وسهل عليه»، وإن الكافر إذا بشر ـ والعياذ بالله ـ بما يسوؤه عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه تفرقت في جسده حتى ينتزعوها منه كما ينتزع السفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جر عليه السفود وهو معروف عند الغزالين يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه هكذا روح الكافر والعياذ بالله ـ تتفرق في جسده لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، فالجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، وقد قال أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ: «يا رسول الله، والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد»، وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، وجدان حقيقي، قال ابن القيم رحمه الله: (إن بعض الناس قد يدرك الاخرة وهو في الدينا)، ثم انطلق فقاتل وقُتل رضي الله عنه، فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(22/15)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَهَا
{يسألونك عن الساعة إيَّان مرسها} {يسألونك} يعني يسألك الناس كما قال تعالى في آية أخرى: {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله} [الأحزاب: 63]. سؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين: سؤال استبعاد وإنكار وهذا كفر كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}. وسؤال عن الساعة يسأل متى الساعة ليستعد لها وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله متى الساعة؟ قال له: «ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. قال: «المرء مع من أحب»، فالناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، ومهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله ولهذا قال: {فيمَ أنت من ذكراها} يعني أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لأن علمها عند الله كما قال تعالى في آية أخرى: {قل إنما علمها عند الله} [الأحزاب: 63]. وقد سأل جبريل عليه السلام وهو أعلم الملائكة، سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق من البشر قال: أخبرني عن الساعة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، يعني أنت إذا كانت خافية عليك فأنا خافية علي، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما، وبهذا نعرف أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا وفي كذا وفي زمن معين كله كذب، نعلم أنه كذب؛ لأنه لا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل. {إنما أنت منذر من يخشاها} يعني ليس عندك علم(22/16)
منها ولكنك منذر {من يخشاها} أي يخافها وهم المؤمنون، أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفع فيه {وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. ولهذا نقول أنت لا تسأل متى تموت ولا أين تموت لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أمر مفروغ منه ولابد أن يكون ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً بل كما قال تعالى هنا: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ولكن السؤال الذي يجب أن يرد على النفس ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو على أي حال تموت؟! ولست أريد على أي حال تموت هل أنت غني أو فقير، أو قوي أو ضعيف، أو ذو عيال أو عقيم، بل على أي حال تموت في العمل، فإذا كنت تساءل نفسك هذا السؤال فلابد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يفجَؤُك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قيمصه وزر أزرته ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة. فانظر الان وفكر على أي حال تموت، ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 105، 106]. وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. والاستغفار هو الهدى، لذلك أوصيكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس حتى نكون على أهبة الاستعداد خشية أن يفجؤُنا الموت ـ نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة ـ. {كأنهم يوم يرونها} أي يرون القيامة(22/17)
{لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} العشية من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى من طلوع الشمس إلى زوالها، يعني كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع لو سألنا الان كم مضى من السنوات علينا؟ هل نشعر الان بأنه سنوات أو كأنه يوم واحد؟ لا شك أنه كأنه يوم واحد. والإنسان الان بين ثلاثة أشياء: يوم مضى فهذا قد فاته، ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أو لا يدركه، ووقت حاضر هو المسؤول عنه، وأما ما مضى فقد فات وما فات فقد مات، هلك عنك الذي مضى، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسؤول عنه. نسأل الله تعالى أن يحسن لنا العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة إنه جواد كريم.(22/18)
تفسير سورة عبس
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الاَْعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(23/1)
{عبس وتولى} هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى {عبس} أي كلح في وجهه يعني استنكر الشيء بوجهه. ومعنى {تولى} أعرض. {أن جاءه الأعمى} الأعمى هو عبدالله بن عمرو ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ـ ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً لإسلام من تحتهم وكان طمع النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم شديداً ـ فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله ويستقرىء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين. الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء. والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقر عندهم، ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله، وأن الناس عنده سواء بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه. {وما يدريك} أي: أي شيء يريبك أن يتزكى هذا الرجل ويقوي إيمانه. {لعله} أي لعل ابن أم مكتوم {يزكى} أي يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو منه فإنه أحق أن يلتفت إليه. {أو يذكر فتنفعه الذكرى} يعني وما يدريك لعله يذكر أي يتعظ فتنفعه الموعظة فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن(23/2)
يتعظ ويتذكر. {أما من استغنى} يعني استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته فهذا {فأنت له تصدى} أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه. {وما عليك ألا يزكى} يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى هذا المستغني؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ، فبيّن الله سبحانه وتعالى أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء. {وما عليك ألا يزكى} يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ. ثم قال تعالى: {وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى} هذا مقابل قوله: {أما من استغنى. فأنت له تصدى}. {وأما من جاءك يسعى} أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وهو يخشى} أي يخاف الله عز وجل بقلبه. {فأنت عنه تلهى} أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. {كلا} يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول: إن {كلا} هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. {إنها تذكرة} {إنها} أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {تذكرة} تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب. {فمن شاء ذكره} أي فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ لقول الله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. فالله جعل للإنسان الخيار قدراً بين أن يؤمن ويكفر، أما شرعاً فإنه لا يرضى لعباده الكفر، وليس الإنسان lخير شرعاً بين الكفر والإيمان بل هو مأمور بالإيمان ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القدر هو مخير وليس كما يزعم بعض الناس مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم. {فمن شاء ذكره} أي ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، ومن شاء لم يذكره، والموفق من(23/3)
وفقه الله عز وجل. {في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة} أي أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الايات {في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة} معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه القول. {بأيدي سفرة} السفرة الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْرِ وهو الكتاب كقوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [الجمعة: 5]. وقيل: السفرة الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم قال: «وكنت السفير بينهما» أي الواسطة. المهم أن السفرة هم الملائكة وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي، والكتبة الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضاً يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته. {كرام بررة} كرام في أخلاقهم.. كرام في خلقتهم لأنهم على أحسن خلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، وأنهم عليهم الصلاة والسلام لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وهذه الايات فيها تأديب من الله عز وجل للخلق ألا يكون همهم هًّما شخصيًّا بل يكون همهم هًّما معنويًّا وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه، ولا عظيماً لعظمته، ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد، وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى} ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه لكن جاءت بالغيبة {عبس}(23/4)
فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع بمثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسان عربي مبين، وهذا من بيانه، وفي الايات أيضاً دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه مثل الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، الأعرج عن أبي هريرة، الأعمش عن ابن مسعود... وهكذا، قال أهل العلم واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام؛ لأن الأول ـ إذا كان المقصود به تبيين الشخص ـ تدعو الحاجة إليه، والثانية ـ إذا كان المقصود به التعيير ـ فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة وقد جاء في الأثر «لا تظهر الشماتة في أخيك فيرحمه الله ويبتليك».
{قُتِلَ الإِنسَنُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَنُ إِلَى طَعَامِهِ * ط{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَمِكُمْ}.(23/5)
{قتل الإنسان} {قتل} تأتي في القرآن كثيراً فمن العلماء من يقول: إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك؛ لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه فيقولون مثلاً: قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: {قتل الإنسان} قال بعض العلماء: المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس كل إنسان لقوله فيما بعد {ما أكفره} ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح: أن الله يقول يقوم القيامة: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين»، فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى. {ما أكفره} قال بعض العلماء إن {ما} هنا استفهامية أي: أي شيء أكفره؟ ما الذي حمله على الكفر؟ وقال بعض العلماء: إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره! وإنما كان كفر الإنسان عظيماً لأن الله أعطاه عقلاً، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيماً. والفرق بين القولين أنه على القول الأول تكون {ما} استفهامية أي: ما الذي أكفره؟ وعلى القول الثاني تكون تعجبية يعني عجباً له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى!! والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيراً من الكفار كذبوا بالبعث، وقالوا: لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميماً كما قال تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. ولهذا قال: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله: {من نطفة خلقه} يعني أنت أيها الإنسان كيف تكفر بالبعث؟ من أي شيء خلقت؟ ألم تخلق من العدم لم تكن شيئاً مذكوراً من قبل فوجدت وصرت(23/6)
إنساناً فكيف تكفر بالبعث؟ ولهذا قال: {من نطفة خلقه} والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل {فقدره} أي جعله مقدراً أطواراً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فالإنسان مقدر في بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير؟ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل به بواسطة السرة من دم أمه؟ إلا الله عز وجل، ولهذا قال: {ثم السبيل يسره} السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضاً بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10]. يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات، وأنزل عليه من الكتب، ثم بعد هذا {أماته} الموت مفارقة الروح للبدن. {فأقبره} أي جعله في قبر، أي مدفوناً ستراً عليه وإكراماً واحتراماً؛ لأن البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جثثاً ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله(23/7)
تعالى: {فأقبره} قال: أكرمه بدفنه. {ثم إذا شاء أنشره} أي إذا شاء الله عز وجل {أنشره} أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله. وقوله: {ثم إذا شاء أنشره} يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد ولهذا قال: {كلا لما يقضي ما أمره} {لما} هنا بمعنى (لم) لكنها تفارقها في بعض الأشياء، والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كوناً وقدراً، أي أن الأمر لم يتم لنشر أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الان، وهذا القول منهم تحدي مكذوب؛ لأن الرسل لم تقل لهم إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعاً بعد أن تموتوا جميعاً. ثم قال عز وجل مذكراً للإنسان بما أنعم الله عليه {فلينظر الإنسان إلى طعامه}. أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وهل أحدٌ خلقه؟ وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الاية قول الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون. إنا لمغرمون بل نحن محرومون} [الواقعة: 65، 67]. من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعاماً لنا؟ هو الله عز وجل، ولهذا قال {لو نشاء لجعلناه حطاماً} أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به. {أنا صببنا الماء صبًّا} يعني من السحاب {ثم شققنا الأرض شقًّا} بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات. {فأنبتنا فيها} أي في الأرض {حبًّا} كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب الكثيرة {وعنباً} معروف {وقضباً} قيل: إنه القت المعروف {وزيتوناً} معروف {ونخلاً} معروف {وحدائق غلباً} حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار {وفاكهة} يعني ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه {وأبًّا} الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل {متاعاً لكم ولأنعامكم} يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها(23/8)
أودكم، وتتمتعون بها أيضاً بالتفكه بهذه النعم.
ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش، ذكر حاله الاخرة في قوله:
{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.(23/9)
{فإذا جاءت الصاخة} يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة {يوم يفر المرء من أخيه} من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه {وأمه وأبيه} الأم والأب المباشر، والأجداد أيضاً، والجدات يفر من هؤلاء كلهم {وصاحبته} زوجته {وبنيه} وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه. ويفر من هؤلاء كلهم. قال أهل العلم: يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد في ذلك اليوم لا يحب أبداً أن يكون له أحد يطالبه بشيء {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاً» قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض»؟ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض»، ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال: {وجوه يومئذ مسفرة} مسفرة من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح {ضاحكة} يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم {مستبشرة} أي قد بشرت بالخير لأنها تتلقاهم الملائكة بالبشرى يقولون {سلام عليكم} {ووجوه يومئذ} يعني يوم القيامة {عليها غبرة} أي شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة {ترهقها قترة} أي ظلمة {أولئك هم الكفرة الفجرة} الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم.(23/10)
تفسير سورة التكوير
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
البسملة: تقدم الكلام عليها.(24/1)
{إذا الشمس كورت} هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي تحصبون في جهنم {أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]. ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الاية {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101، 102]. {وإذا النجوم انكدرت} انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الاية الثانية. {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2]. فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها {وإذا الجبال سُيرت} هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى: {وسيّرت الجبال فكانت سراباً} [النبأ: 20]. {وإذا العشار عُطلت} العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الاخرة تعطل ولا يلتفت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 34 ـ 37]. {وإذا الوحوش حشرت} الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} [الأنعام: 38]. تحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس(24/2)
لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه {وإذا البحار سُجّرت} البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر. هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر، أي توقد ناراً، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً {وإذا النفوس زوجت} النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7]. أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى: {وآخر من شكله أزواج} [ص: 58]. أي أصناف، وقال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات: 22]. أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض {وترى كل أمة جاثية} لوحدها {كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية 28]. إذاً {وإذا النفوس زوجت} يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها {وإذا المؤؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت} الموؤدة هي الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأثنى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، ممتلىء هًّما وغمًّا {يتوارى من القوم} يعني يختفي منهم {من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} [النحل 59]. يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ـ ببنت ـ اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا. فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز(24/3)
أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم، يقول عز وجل: {وإذا المؤودة سئلت} تسأل يوم القيامة {بأي ذنب قتلت} هل أذنبت؟ فإذا قال قائل: كيف تُسأل وهي المظلومة... هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل؟ قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه فيقال: بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم: بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتداً عليه ليس له ذنب. لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية. {وإذا الصحف نشرت} الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال. واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يعني عمله في عنقه {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} مفتوحاً {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء 14]، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيراً أو ليصمت»، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلمُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف(24/4)
تنشر لك يوم القيامة. {وإذا السماء كشطت} السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد. قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات:: 47]. أي بقوة. وقال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. أي قوية. في يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]. {كطي السجل للكتب} [الأنبياء: 104]. يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]. يكون بدل السماء التي فوقنا الان يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض ويقول: «أنا الملك، أين ملوك الأرض»، {وإذا الجحيم سعرت} الجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها. تُسعر أي توقد. وما وقودها الذي توقد به؟ وقودها الذي وقد به قال الله عنه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6]. بدل ما توقد بالحطب والورق يكون الوقود الناس يعني الكفار. والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم {وإذا الجنة أزلفت} الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {أزلفت} يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين، وانظر الفرق بين هذا وذاك. دار الكفار تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب {وإذا الجنة أزلفت} كل هذا يكون يوم القيامة، إذا قرأنا هذه الايات: {إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا النفوس زوجت. وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت.(24/5)
وإذا الشماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت} هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب. لأن كلها في ضمن الشرط {إذا الشمس كورت} فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} أي ما قدمته من خير وشر {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء} [آل عمران: 30]. يعني يكون محضراً أيضاً {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30]. فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى. نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه؟ بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الايات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يكذب، صدق، لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم. قد ترى
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاُْفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَنٍ رَّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ}.(24/6)
{فلا أقسم بالخنس} قوله تعالى: {فلا أقسم} قد يظن بعض الناس أن {لا} نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها بمثل هذا التركيب للتأكيد. فالمعنى {أقسم بالخنس} والخنس جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين، {الجوار} أصلها (الجواري) بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و{الكنس} هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها. فأقسم الله بهذه النجوم ثم أقسم بالليل والنهار فقال: {والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} معنى قوله: {عسعس} يعني أقبل، وقيل: معناه أدبر، وذلك أن الكلمة {عسعس} في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا. لكن الذي يظهر أن معناها «أقبل» ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم. وهو قوله: {والصبح إذا تنفس} فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله. وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار، قال الله عز وجل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}. [القصص: 71]. {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [القصص: 73]. فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله: {إنه لقول رسول كريم} {إنه} أي القرآن {لقول رسول كريم} هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم. ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى: {ذو مرة فاستوى} [النجم: 6]. {ذو مرة} قال العلماء: المرة: الخلق(24/7)
الحسن والهيئة الجميلة، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بهذا الوصف: {كريم} {ذي قوة عند ذي العرش مكين} {ذي قوة} وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ست مئة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام، وقوله: {عند ذي العرش} أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا، والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل. قال الله تعالى: {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر: 15]. فذو العرش هو الله. وقوله: {مكين} أي ذو مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده، وهو الوحي فإن النعم لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان: نِعَم يستوي فيها البهائم والإنسان، وهي متعة البدن الأكل والشرب، والنكاح والسكن، هذه النعم يستوي فيها الإنسان والحيوان، فالإنسان يتمتع بما يأكل، وبما يشرب، وبما ينكح، وبما يسكن، والبهائم كذلك. ونِعمٌ أخرى يختص بها الإنسان، وهي الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. المؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الاخرة. والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، والأمراء وأبناء الأمراء، والأغنياء وأبناء الأغنياء، لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحاً لوجدت الثاني أطيب عيشة، وأنعم بالاً، وأشرح صدراً، لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السموات والأرض تكفل. قال: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} تجد المؤمن العامل للصالحات مسرور القلب، منشرح الصدر، راضياً بقضاء الله(24/8)
وقدره، إن أصابه خير شكر الله على ذلك، وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع، وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَّراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له»، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إذن أكبر نعمة أنزلها الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والاخرة، والحياة الحقيقية هي حياة الاخرة، والدليل قوله تعالى في سورة الفجر: {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24]. فالدنيا ليست بشيء. الحياة حقيقة حياة الاخرة، والذي يعمل للاخرة يحيا حياة طيبة في الدنيا، فالمؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين: حياة الدنيا، وحياة الاخرة. والكافر هو الذي خسر الدنيا والاخرة {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر: 15]. {مطاع ثمَّ} أي هناك {أمين} على ما كُلف به. جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه؟ قال العلماء: تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع، فله إمرة وله طاعة على الملائكة. ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}. [المائدة: 92].(24/9)
في هذه الايات {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين} أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي جبريل عليه الصلاة والسلام، وفي آية أخرى بين الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم بشري في قوله تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر} [الحاقة: 38 ـ 41]. فالرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، والرسول هناك رسول بشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام، والدليل على هذا واضح. هنا قال: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} وهذا الوصف لجبريل، لأنه هو الذي عند الله، أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو في الأرض. هناك قال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر} ردًّا لقول الكفار الذين قالوا إن محمداً شاعر {ولا بقول كاهن} فأيهما أعظم قسماً {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة} أو {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}، الثاني أعظم، ليس فيه شيء أعمّ منه {بما تبصرون وما لا تبصرون} كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها. إذن أقسم الله بكل شيء. وهنا أقسم بالايات العلوية {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} هذه آيات علوية أفقية تناسب الرسول الذي أُقسم على أنه قوله وهو جبريل؛ لأن جبريل عند الله.
فإذا قال قائل: كيف يصف الله القرآن بأنه قول الرسول البشري، والرسول الملكي؟
فنقول: نعم الرسول الملكي بلّغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى الأمة، فصار قول هذا بالنيابة، قول جبريل بالنيابة وقول محمد بالنيابة، والقائل الأول هو الله عز وجل، فالقرآن قول الله حقيقة، وقول جبريل باعتبار أنه بلغه لمحمد، وقول محمد باعتبار أنه بلغه إلى الأمة.(24/10)
{وما صاحبكم بمجنون} أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتأمل أنه قال: {وما صاحبكم} كأنه قال: ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائماً، بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين {وما صاحبكم بمجنون} يعني ليس مجنوناً، بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام، أكمل الناس عقلاً بلا شك وأسدّهم رأياً. {ولقد رآه} أي رأى جبريل {بالأفق المبين} أي البين الظاهر العالي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين: مرة في غار حراء، ومرة في السماء السابعة لما عُرج به عليه الصلاة والسلام، وهذه الرؤية هي التي في غار حراء، لأنه يقول {رآه بالأفق} إذن محمد في الأرض {وما هو} يعني ما محمد صلى الله عليه وسلّم {على الغيب} يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله {بضنين} بالضاد أي ببخيل، فهو عليه الصلاة والسلام ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به، بل هو أشد الناس بذلاً لما أوحي إليه، يعلم الناس في كل مناسبة، وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه عليه الصلاة والسلام، وفي قراءة {بظنين} بالظاء المشالة، أي: بمتهم، من الظن وهو التهمة. {وما هو بقول شيطان رجيم} أي ليس بقول أحد من الشياطين، وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين. {فأين تذهبون. إن هو إلا ذكر للعالمين} {إن} هنا بمعنى (ما) وهذه قاعدة: «أنه إذا جاءت (إلا) بعد (إن) فهي بمعنى (ما)» أي أنها تكون نافية لأن «إن» تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخففة من الثقيلة، والذي يبين هذه المعاني هو السياق فإذا جاءت (إن وبعدها إلا) فهي نافية، أي ما هو أي القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم ونزل به جبريل على قلبه {إلا ذكر للعالمين}، ذكر يشمل التذكير والتذكّر، فهو تذكير للعالمين، وتذكر لهم، أي أنهم يتذكرون به ويتعظون به (والمراد(24/11)
بالعالمين) من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: {تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1]. فالمراد بالعالمين هنا من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لمن شاء} هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي (إلا) أي: «إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم» وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]. فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن، ولكن إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟(24/12)
نقول: نعم مشيئة الإنسان باخيتاره. فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل، فما نفعله هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك، كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره، فللإنسان مشيئة ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253]. فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا.
فإن قال قائل: إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله.(24/13)
فالجواب: أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟ وقع بإرادتنا ومشيئتنا، لهذا لا يتجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}. [الأنعام: 148]. فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله، لسَلِموا من بأس الله، ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله، وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلداً آمناً مطمئناً، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر بلدٌ خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيهما يذهب؟ بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته، وهكذا الان طريق الخير وطريق الشر، فالله بيّن لنا: هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة، وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب. فأيهما نسلك؟ بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الامن الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان. لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم، ويُنادى علينا بالسفه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا، إذاً ففي قوله: {لمن شاء أن يستقيم} تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره، ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد(24/14)
نفسه مصروفاً عنه؛ لأن الله لم يشأه، كثيراً ما نريد أن نذهب مثلاً إلى المسجد لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا. ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. (بنقض العزائم) يعني الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً وإذا به ينتقض!! من نقض عزيمته، لا يشعر، ما يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله (صرف الهمم) يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تماماً وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه سواء كان الصارف مانعاً حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار.. اختار الإنسان أن ينصرف، كل هذا من الله عز وجل. فالحاصل أن الله يقول: {لمن شاء منكم أن يستقيم} والاستقامة هي الاعتدال، ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته، في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا. ولهذا كان من العبارات المعروفة «أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال». لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق. انظر مثلاً الإنسان يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص؛ لأن الدين صالح لكل زمان ومكان. يجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم. عدل إلى التيمم، فإن لم يوجد ولا تراب، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم، كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، ليس فيها جور، ليس فيها ظلم، ليس فيها حرج، ليس فيها مشقة، ولهذا قال: {أن يستقيم} وضد الاستقامة انحرافان: انحراف إلى جانب الإفراط(24/15)
والغلو، وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير، ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال: طرفان ووسط، طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت، وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل. الثالث: وسط بين الإفراط والتفريط، مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد. أما الأول الغالي، والثاني الجافي فكلاهما هالك.. هالك بحسب ما عنده من الغلو، أو من التقصير، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون»، لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل، كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142]. فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولهذا قال هنا: {لمن شاء منكم أن يستقيم} لا يميل يميناً ولا شمالاً، يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضاً في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس، وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجه، ولين من وجه، ولهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في القاضي: «ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف». فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور، فبعض الناس مثلاً يعامل الناس دائماً بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته، وهذا خطأ، ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ، فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام يشتدّ في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين. فيجمع الإنسان هنا بين(24/16)
الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} يعني لا يمكن أن تشاؤا شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، فمشيئة الإنسان ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز جل، لو شاء الله لم يشأ، ولو شاء الله أن لا يكون الشيء ما كان ولو شئته. حتى لو شئت والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون، بل يقيض الله تعالى أسباباً تحول بينك وبينه حتى لا يقع، وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها، أن يعلم أن فعله بمشيئته مشيئة تامة بلا إكراه، لكن هذه المشيئة مقترنة بمشيئة الله. يعلم أنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله، وأن الله لو شاء ألا يكون لم يشأه الإنسان، أو شاءه الإنسان ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع، {رب العالمين} قال: {رب العالمين} إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة ولكن يجب أن نعلم أن العالمين هنا ليست كالعالمين في قوله {إن هو إلا ذكر للعالمين} فالعالمين الأولى {ذكر للعالمين} من أُرسل إليهم الرسول، أما هنا {رب العالمين} فالمراد بالعالمين كل من سوى الله، فكل من سوى الله فهو عالم؛ لأنه ما ثمّ إلا رب ومربوب، فإذا قيل رب العالمين تعيّن أن يكون المراد بالعالمين كل من سوى الله، كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ: «وكل ما سوى الله فهو عالم، وأنا واحد من ذلك العالم».
والحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به، نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية إنه على كل شيء قدير.(24/17)
تفسير سورة الإنفطار
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يأَيُّهَا الإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ * كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَفِظِينَ * كِرَاماً كَتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.
البسملة سبق الكلام عليها.(25/1)
{إذا السماء انفطرت} يعني انشقت كما قال الله تبارك وتعالى: {إذا السماء انشقت. وأذنت لربهاوحقت} [الانشقاق: 1، 2]. {وإذا الكواكب انتثرت} يعني النجوم صغيرها وكبيرها تنتثر وتتفرق وتتساقط لأن العالم انتهى، {وإذا البحار فجِّرت} أي فُجر بعضها على بعض وملئت الأرض {وإذا القبور بعثرت} أي أخرج ما فيها من الأموات حتى قاموا لله عز وجل، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت {علمت نفس ما قدمت وأخرت} {نفس} هنا نكرة لكنها بمعنى العموم إذ أن المعنى: علمت كل نفس ما قدمت وأخرت، وذلك بما يُعرض عليها من الكتاب، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه ويخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً. وفي ذلك اليوم يقول المجرمون: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيعلم الإنسان ما قدم وأخر، بينما هو في الدنيا قد نسي، لكن يوم القيامة يعرض العمل فتعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، والغرض من هذا التحذير تحذير العبد من أن يعمل مخالفة لله ورسوله؛ لأنه سوف يعلم بذلك ويحاسب عليه، {يا أيها الإنسان} المراد بالإنسان هنا قيل: هو الكافر، وقيل: الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، ظلوم كفار {إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]. فيقول الله عز وجل: {يا أيها الإنسان} ويخاطب الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن ديانته {ما غرك بربك الكريم} يعني أي شيء غرك بالله حيث تكذبه في البعث، تعصيه في الأمر والنهي، بل ربما يوجد من ينكر الله عز وجل فما الذي غرك؟! قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {ما غرك بربك الكريم} إشارة إلى الجواب، وهو أن الذي غر الإنسان كرم الله عز وجل وإمهاله وحلمه، لكنه لا يجوز أن يغتر الإنسان بذلك فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، إذاً ما غرك بربك الكريم؟ الجواب: كرمه وحلمه هذا هو الذي غر الإنسان وصار يتمادى في المعصية في التكذيب، يتمادى في(25/2)
المخالفة {الذي خلقك} خلقك من العدم، وأوجدك من العدم، {فسواك} أي جعلك مستوي الخلقة ليست يد أطول من يد، ولا رجل أطول من رجل، ولا أصبع أطول من أصبع، بحسب اليدين والرجلين، فتجد الطويل في يد هو الطويل في اليد الأخرى، والقصير هو القصير، وهلم جرى، سوّى الله عز وجل الإنسان من كل ناحية من ناحية الخلقة {فعدَلك} وفي قراءة سبعية {فعدَّلك} أي جعلك معتدل القامة، مستوي الخلقة لست كالبهائم التي لم تكن معدّلة بل تسير على يديها ورجليها، أما الإنسان فإنه خصّه الله بهذه الخصيصة {في أي صورة ما شاء ركبك} يعني الله ركبك في أي صورة شاء، من الناس من هو جميل، ومنهم من هو قبيح، ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم ما بين ذلك، أي صورة يركبك الله عز وجل على حسب مشيئته، ولكنه عز وجل شاء للإنسان أن تكون صورته أحسن الصور ثم قال: {كلا بل تكذبون بالدين} {كلا} للاضراب يعني مع هذا الخلق والإمداد والإعداد تكذبون بالدين أي بالجزاء، وتقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، فتكذبون بالدين أي بالجزاء، وربما نقول: وتكذبون أيضاً بالدين نفسه، فلا تقرّون بالدين الذي جاءت به الرسل والاية شاملة لهذا وهذا؛ لأن القاعدة في علم التفسير وعلم شرح الحديث: «أنه إذا كان النص يحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فإنه يُحمل عليهما». {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} تأكيد بمؤكدين «إن» و«اللام» {وإن عليكم لحافظين} الإنسان عليه حافظ يحفظه ويكتب كل ما عمل، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. فعلى كل إنسان حفظة يكتبون كل ما قال وكل ما فعل، وهؤلاء الحفظة كرام ليسوا لئاماً، بل عندهم من الكرم ما ينافي أن يظلموا أحداً، فيكتبوا عليه ما لم يعمل، أو يهدروا ما عمل؛ لأنهم موصوفون بالكرم {يعلمون ما تفعلون} إما بالمشاهدة إن كان فعلاً، وإما بالسماع إن كان(25/3)
قولاً، بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من هم بالحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، ومن همّ بالسيئة ولم يعملها كتبت حسنة كاملة»، لأنه تركها لله عز وجل والأول يثاب على مجرد الهم بالحسنة.
{إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.(25/4)
{إن الأبرار لفي نعيم} هذا بيان للنهاية والجزاء {إن الأبرار} جمع بر وهم كثيروا فعل الخير، المتباعدون عن الشر {لفي نعيم} أي نعيم في القلب، ونعيم في البدن ولهذا لا تجد أحداً أطيب قلباً، ولا أنعم بالاً من الأبرار أهل البر، حتى قال بعض السلف: «لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف»، وهذا النعيم الحاصل يكون في الدنيا وفي الاخرة، أما في الاخرة فالجنة، وأما في الدنيا فنعيم القلب وطمأنينته ورضاه بقضاء الله وقدره، فإن هذا هو النعيم الحقيقي، ليس النعيم في الدنيا أن تترف بدنيًّا، النعيم نعيم القلب {وإن الفجار} الفجار هم الكفار ضد الأبرار {لفي جحيم} أي في نار حامية {يصلونها} يعني يحترقون بها {يوم الدين} أي يوم الجزاء وذلك يوم القيامة {وما هم عنها بغائبين} أي لن يغيبوا عنها فيخرجوا منها كما قال الله تبارك وتعالى: {وما هم بخارجين منها} [المائدة: 37]. لأنهم مخلدون بها أبداً ـ والعياذ بالله ـ {وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين} هذا الاستهفام للتفخيم والتعظيم يعني أي شيء أعلمك بيوم الدين؟ والمعنى أعلم هذا اليوم، وأقدره قدره {يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً} في يوم القيامة لا أحد يملك لأحد شيئاً لا بجلب خير ولا بدفع ضرر إلا بإذن الله عز وجل لقوله: {والأمر يومئذ لله} في الدنيا هناك أناس يأمرون من الأمراء، والوزراء، والرؤساء، والاباء، والأمهات، لكن في الاخرة الأمر لله عز وجل، ولا تملك نفس لنفس شيئاً إلا بإذن الله، ولهذا كان الناس في ذلك اليوم يلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، ثم يطلبون الشفاعة من آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إلى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيشفع بإذن الله فيريح الله العالم من الموقف، {والأمر يومئذ لله}.
فإن قال قائل: أليس الأمر لله في ذلك اليوم وفي غيره؟(25/5)
قلنا: بلى الأمر لله تعالى في يوم الدين وفيما قبله، لكن ظهور أمره في ذلك اليوم أكثر بكثير من ظهور أمره في الدنيا؛ لأن في الدنيا يخالف الإنسان أوامر الله عز وجل ويطيع أمر سيده، فلا يكون الأمر لله بالنسبة لهذا، لكن في الاخرة ليس فيه إلا أمر لله عز وجل. وهذا كقوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. والملك لله في الدنيا وفي الاخرة، لكن في ذلك اليوم يظهر ملكوت الله عز وجل وأمره، ويتبين أنه ليس هناك آمر في ذلك اليوم إلا الله عز وجل، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(25/6)
تفسير سورة المطففين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ويل} كلمة ويل تكررت في القرآن كثيراً، وهي على الأصح كلمة وعيد يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره، أو ارتكب نهيه على الوجه المفيد في الجملة التي بعدها فهنا يقول عز وجل {ويل للمطففين} فمن هؤلاء المطففون؟ هؤلاء المطففون فسرتهم الايات التي بعدها فقال: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. {إذا اكتالوا على الناس يستوفون} يعني اشتروا منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملاً بدون نقص {وإذا كالوهم أو وزنوهم} يعني إذا كالوا لهم أي هم الذين باعوا الطعام كيلاً، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئاً وزناً إذا وزنوا نقصوا {يخسرون} فهؤلاء يستوفون حقهم كاملاً، وينقصون حق غيرهم، فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل، الشح: في طلب حقهم كاملاً بدون مراعاة أو مسامحة، والبخل: بمنع ما يجب عليهم من إتمام الكيل والوزن، وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو مثال، فيقاس عليه كل ما أشبه، كل من طلب حقه كاملاً ممن هو عليه ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الاية الكريمة، فمثلاً الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملاً ولا يتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكي النساء من هذا الطراز من الأزواج ـ والعياذ بالله ـ حيث إن كثيراً من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقه كاملاً، لكنه هو لا يعطيها حقها كاملاً، ربما ينقص أكثر حقها من النفقة والعشرة بالمعروف وغير ذلك، إن ظلم(26/1)
الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه في حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الادميين ليس داخلاً تحت المشيئة لابد أن يوفى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من تعدون المفلس فيكم؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ـ كثيرة ـ فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»، فنصيحتي لهؤلاء الذين يفرطون في حق أزواجهم أن يتقوا الله عز وجل فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أوصى بذلك في أكبر مجمع شهده العالم الإسلامي في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة في حجة الوداع، قال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، فأمرنا أن نتقي الله تعالى في النساء وقال: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي بمنزلة الأسرى لأن الأسير إن شاء فكه الذي أسره وإن شاء أبقاه، والمرأة عند زوجها كذلك إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده فليتق الله فيها، كذلك أيضاً نجد بعض الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقه على التمام لكنه مفرط في حقهم، فيريد من أولاده أن يبروه ويقوموا بحقه، أن يبروه في المال، وفي البدن، وفي كل شيء يكون به البر، لكنه هو مضيع لهؤلاء الأولاد، غير قائم بما يجب عليه نحوهم، نقول هذا مطفف، كما نقول في المسألة الأولى في مسألة الزوج مع زوجته إنه إذا أراد منها أن تقوم بحقه كاملاً وهو يبخس حقها نقول إنه «مطفف» هذا الأب الذي أراد من أولاده أن يبروه تمام البر وهو مقصر في حقهم نقول إنك «مطفف» ونقول له تذكر قول الله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا(26/2)
اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ثم قال تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} يعني ألا يتيقن هؤلاء ويعلموا علم اليقين؛ لأن الظن هنا بمعنى اليقين، والظن بمعنى اليقين يأتي كثيراً في القرآن مثل قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة:: 46]. فقال: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} وهم يتيقنون أنهم ملاقوا الله، لكن الظن يستعمل بمعنى اليقين كثيراً في اللغة العربية، وهنا يقول عز وجل: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين {ليوم عظيم} هذا اليوم عظيم ولا شك أنه عظيم كما قال تعالى: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1]. عظيم في طوله، في أهواله، فيما يحدث فيه، في كل معنى تحمله كلمة عظيم، لكن هذا العظيم هو على قوم عسير، وعلى قوم يسير، قال تعالى: {على الكافرين غير يسير} [المدثر: 10]. وقال تعالى: {يقول الكافرون هذا يوم عسر} [القمر: 8]. لكنه بالنسبة للمؤمنين ـ جعلنا الله منهم ـ يسير كأنما يؤدي به صلاة فريضة من سهولته عليه ويسره عليه، لاسيما إذا كان ممن استحق هذه الوقاية العظيمة، وكان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهذا اليوم عظيم لكنه بالنسبة للناس يكون يسيراً ويكون عسيراً {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يعني هذا اليوم العظيم هو {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يقومون من قبورهم حفاة ليس لهم نعال ولا خفاف، عراة ليس عليهم ثياب لا قُمص ولا سراويل ولا أزر ولا أردية، غرلاً أي غير مختونين بمعنى أن القلفة التي تقطع في الختان تعود يوم القيامة مع صاحبها كما قال الله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]. ويعيده الله عز وجل لبيان كمال قدرته تعالى، وأنه يعيد الخلق كما بدأهم، والقلفة إنما قطعت في الدنيا من أجل النزاهة عن الأقذار؛ لأنها إن بقيت فإنه ينحبس فيها شيء من البول وتكون(26/3)
عرضة للتلويث، لكن هذا في الاخرة لا حاجة إليه؛ لأن الاخرة ليست دار تكليف بل هي دار جزاء إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يكلف فيها امتحاناً كما قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم:: 43]. فالناس يقومون على هذا الوصف حفاة، عراة، غرلاً، وفي بعض الأحاديث بُهماً قال العلماء: البهم يعني الذين لا مال معهم، ففي يوم القيامة لا مال يفدي به الإنسان نفسه من العذاب في يوم القيامة، ليس هناك ابن يجزي عن أبيه شيئاً، ولا أب يجزي عن ابنه شيئاً، ولا صاحبة ولا قبيلة كلٌّ يقول نفسي نفسي. {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]. نسأل الله تعالى أن يعيننا على أهواله وأن ييسره علينا.
قال تعالى: {لرب العالمين} وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا ملك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيئاً. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} [غافر: 16 ـ 17].
{كَلاَّ إِنَّ كِتَبَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَبٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَتُنَا قَالَ أَسَطِيرُ الاَْوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.(26/4)
{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} {كلا} إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق، قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى حقًّا، وقد يكون لها معانٍ أخرى يعينها السياق؛ لأن الكلمات في اللغة العربية ليس لها معنى ذاتي لا تتجاوزه، بل كثير من الكلمات العربية لها معانٍ تختلف بحسب سياق الكلام، في هذه الاية يقول الله عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} فتحتمل أن تكون بمعنى حقًّا إن كتاب الفجار لفي سجين، أو تكون بمعنى: الردع عن التكذيب بيوم الدين، وعلى كل حال فبين الله تعالى في هذه الاية الكريمة أن كتاب الفجار في سجين، والسجين قال العلماء: إنه مأخوذ من السجن وهو الضيق، أي في مكان ضيق، وهذا المكان الضيق هو نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تبارك وتعالى: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً} [الفرقان 13، 14]. وجاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في قصة المحتضر وما يكون بعد الموت أن الله سبحانه وتعالى يقول: «اكتبوا كتاب عبدي في السجين يعني ـ الكافر ـ في الأرض السابعة السفلى» فسجين هو أسفل ما يكون من الأرض الذي هو مقر النار نعوذ بالله منها فهذا الكتاب في سجين ثم عظم الله عز وجل هذا السجين بقوله: {وما أدراك ما سجين} فالاستفهام هنا للتعظيم أي ما الذي أعلمك بسجين؟ وهل بحثت عنه؟ وهل سألت عنه حتى يبين لك، والتعظيم قد يكون لعظمة الشيء رفعة، وقد يكون لعظمة الشيء نزولاً، وهذا التعظيم في سجين ليس لرفعته وعلوه ولكنه لسفوله ونزوله، ثم قال تعالى: {كتاب مرقوم} كتاب هذه لا تعود على سجين وإنما تعود على كتاب في قوله: {كلا إن كتاب الفجار} فما هذا الكتاب فقال: {كتاب مرقوم} يعني مكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ولا يبدل ولا يغيّر، بل هذا مآلهم ومقرهم ـ والعياذ بالله ـ أبد الابدين {ويل يومئذ للمكذبين} ويل سبق الكلام عليها في أول هذه(26/5)
السورة {الذين يكذبون بيوم الدين} الكلام من أول السورة إلى آخرها كله في يوم الدين والجزاء، هؤلاء الذين يكذبون بيوم الدين توعدهم الله بالويل؛ لأن هؤلاء المكذبين بيوم الدين لا يمكن أن يستقيموا على شريعة الله. لا يستقيم على شريعة الله إلا من آمن بيوم الدين؛ لأن من لم يؤمن به وإنما آمن بالحياة فقط، فهو لا يهتم بما ورائها، ولا يعمل لذلك، وإنما يبقى كالأنعام يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم. والله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الاخر دائماً؛ لأن الإيمان بالله ابتداء والإيمان باليوم الاخر انتهاء. فتؤمن بالله ثم تعمل لليوم الاخر الذي هو المقر، فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ كذبوا بيوم الدين، ومن كذب به لا يمكن أن يعمل له أبداً؛ لأن العمل مبني على عقيدة، فإذا لم يكن هناك عقيدة فكيف يعمل، ولهذا قال: {وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم} أي ما يكذب بيوم الدين وينكره {إلا كل معتد أثيم}: {معتد} في أفعاله {أثيم} في أقواله، وقيل: {معتد} في أفعاله {أثيم} في كسبه أي أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان فلا يمكن أن يكذب بيوم الدين إلا رجل معتد أثيم، آثم كاسب للاثام التي تؤدي به إلى نار جهنم نعوذ بالله {إذا تتلى عليه آياتنا} يعني إذا تلاها عليه أحد، وهو يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله ولكنها تتلى عليه فإذا تليت عليه {قال أساطير الأولين} أي هذه أساطير الأولين وأساطير: جمع أسطورة وهي الكلام الذي يذكر للتسلي ولا حقيقة له ولا أصل له، فيقول: هذا القرآن أساطير الأولين، ولم ينتفع بالقرآن وهو أبلغ الكلام وأشده تأثيراً على القلب حتى قال الله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]. لأنه يكذب بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم، فلم يكن مؤمناً فلم يصل نور آيات الله عز وجل إلى قلبه، بل يراها مثل أساطير الأولين التي يتكلم بها العجائز وليس لها أي(26/6)
حقيقة وليس فيها أي جد. قال الله عز وجل {كلا بل} أي ليست أساطير الأولين ولكن هؤلاء {ران على قلوبهم} أي اجتمع عليها وحجبها عن الحق {ما كانوا يكسبون} أي من الأعمال السيئات؛ لأن الأعمال السيئات تحول بين المرء وبين الهدى كما قال الله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. فمن اهتدى بهدي الله واتبع ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وصدق بما أخبر الله به، وفعل مثل ذلك فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أن قلبه يستنير وأنه يرى الحق حقًّا، ويرى الباطل باطلاً، ويعظم آيات الله عز وجل، ويرى أنها فوق كل كلام، وأن هدي محمد صلى الله عليه وسلّم فوق كل هدي، هذا من أنار الله قلبه بالإيمان، أما من تلطخ قلبه بأرجاس المعاصي وأنجاسها فإنه لا يرى هذه الايات حقًّا بل لا يراها إلا أساطير الأولين كما في هذه الاية. {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وفي {بل} سكتة لطيفة عند بعض القراء وعند آخرين لا سكتة فيجوز على هذا أن تقول {كلا بل. ران} ويجوز أن تقول: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وهذه لا تغير المعنى سواء سكتّ أم لم تسكت فالمعنى لا يتغير. {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} أي حقًّا إنهم عن ربهم لمحجوبون، وذلك في يوم القيامة فإنهم يحجبون عن رؤية الله عز وجل كما حُجبوا عن رؤية شريعته وآياته فرأوا أنها أساطير الأولين. وبهذه الاية استدل أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله عز وجل، ووجه الدلالة ظاهر فإنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا وقد مكن للأبرار من رؤيته تعالى في حال الرضا، فإذا كان هؤلاء محجوبون فإن الأبرار غير محجوبين، ولو كان الحجب لكل منهم لم يكن لتخصيصه بالفجار فائدة إطلاقاً. ورؤية الله عز وجل ثابتة بالكتاب، ومتواتر السنة، وإجماع الصحابة والأئمة، لا إشكال في هذا أنه تعالى يُرى حقًّا بالعين كما قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها(26/7)
ناظرة} [القيامة: 23]. وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله تعالى، وكما في قوله تعالى: {لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} [ق: 35]. والمزيد هنا هو بمعنى الزيادة في قوله {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وكما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية، ولهذا كانت هذه الاية مما اسjدل به السلف على رؤية الله، واستدل به الخلف على عدم رؤية الله، ولا شك أن الاية دليل عليهم، لأن الله لم ينف بها الرؤية وإنما نفى الإدراك، ونفي الإدارك يدل على ثبوت أصل الرؤية. فالحاصل أن القرآن دل على ثبوت رؤية الله عز وجل حقًّا بالعين، وكذلك جاءت السنة الصحيحة بذلك حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته»، وقد آمن بذلك الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة وأئمتها، وأنكر ذلك من حُجبت عقولهم وقلوبهم عن الحق فقالوا: إن الله لا يمكن أن يُرى بالعين، وإنما المراد بالرؤية في الايات هي رؤية القلب أي اليقين، ولا شك أن هذا قول باطل مخالف للقرآن والسنة وإجماع السلف، ثم إن اليقين ثابت لغيرهم أيضاً حتى الفجار يوم القيامة سوف يرون ما وُعدوا به حقًّا ويقينًا، وليس هذا موضع الإطالة في إثبات رؤية الله عز وجل والمناقشة في أدلة الفريقين؛ لأن الأمر ولله الحمد من الوضوح أوضح من أن يطال الكلام فيه، {ثم إنهم لصالوا الجحيم} أي هؤلاء الفجار {لصالوا الجحيم} أي يصلونها يصلون حرارتها أو عذابها نسأل الله العافية، ثم يقال تقريعاً لهم وتوبيخاً {هذا الذي كنتم به تكذبون} فيجتمع عليهم العذاب البدني والألم البدني بصلي النار وكذلك(26/8)
العذاب القلبي بالتوبيخ والتنديم حيث يقال: {هذا الذي كنتم به تكذبون} ولهذا يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، قال الله تعالى: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}. [الأنعام: 28].
{كَلاَّ إِنَّ كِتَبَ الاَْبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَمُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَفِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.(26/9)
{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} هذه الاية يذكر الله عز وجل خبراً مؤكدا «بإن» لأن {إن} في اللغة العربية من أدوات التوكيد. فإنك إذا قلت: الرجل قائم، هذا خبر غير مؤكد، فإذا قلت: إن الرجل قائم. صار خبراً مؤكداً فيقول الله عز وجل: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} وهذا مقابل {إن كتاب الفجار لفي سجين} فكتاب الفجار في سجين في أسفل الأرض، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، أي أنهم في هذا المكان العالي قد كُتب ذلك عند الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {وما أدراك ما عليون} أي ما الذي أعلمك ما عليون؟ وهذا الاستفهام يراد به التفخيم والتعظيم. يعني أي شيء أدراك به فإنه عظيم قال الله تعالى: {كتاب مرقوم} هذا بيان لقوله: {إن كتاب الأبرار} أي أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم مكتوب لا يتغير ولا يتبدل {يشهده المقربون} يشهده أي يحضره، أو يشهد به المقربون، و{المقربون} عند الله هم الذين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته. وكلما كان الإنسان أكثر طاعة لله كان أقرب إلى الله. وكلما كان الإنسان أشد تواضعاً لله كان أعز عند الله، وكان أرفع عند الله، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]. فالمقربون هم الذين تقربوا إلى الله تعالى بصالح الأعمال، فقربهم الله من عنده {إن الأبرار} الأبرار: جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة، كثير الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منّ الله عليهم بفعل الخيرات، وترك المنكرات {لفي نعيم} والنعيم هنا يشمل نعيم البدن ونعيم القلب، أما نعيم البدن فلا تسأل عنه فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71]. وقال تعالى: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وأما نعيم القلب فلا تسأل(26/10)
عنه أيضاً فإنهم يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح يقال لهم: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويقال لهم: ادخلوها بسلام، ويقال لهم: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وكل هذا مما يدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن، والملائكة يدخون عليهم من كل باب يقولون لهم {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24]. جعلنا الله منهم، وقوله تعالى: {على الأرائك} الأرائك جمع أريكة وهي السرير المزخرف المزيّن الذي وَضع عليه مثل الظل، وهو من أفخر أنواع الأسرة فهم على الأرائك على هذه الأسرة الناعمة الحسنة البهية {ينظرون} يعني ينظرون ما أنعم الله به عليهم من النعيم الذي لا تدركه الأنفس الان {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. وقال بعض العلماء: إن هذا النظر يشمل حتى النظر إلى وجه الله، وجعلوا هذه الاية من الأدلة على ثبوت رؤية الله عز وجل في الجنة {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي تعرف أيها الناظر إليهم {في وجوههم نضرة النعيم} أي حسن النعيم وبهاءه، أي التنعم، وأنتم تشاهدون الان في الدنيا أن المنعمين المترفين وجوههم غير وجوه الكادحين العاملين. تجدها نضرة، تجدها حسنة، تجدها منعمة، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي التنعم والسرور؛ لأنهم أسّر ما يكون، وأنعم ما يكون، ثم قال الله تعالى في بيان ما لهم من النعيم {يسقون من رحيق مختوم} الضمير في قوله: {يسقون} يعني الأبرار، يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله: {يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين. لا يصدعون عنها ولا ينزفون} [الواقعة: 17، 19]. {يسقون من رحيق} أي من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر فيه على العقل، ولا ألم فيه في الرأس، بخلاف شراب الدنيا فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس. أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى {مختوم. ختامه(26/11)
مسك} أي بقيته وآخره مسك أي طيّب الريح. بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة. فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أعطوها يوم القيامة. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي وفي هذا الثواب والجزاء {فليتنافس المتنافسون} أي فليتسابق المتسابقون سباقاً يصل بهم إلى حد النفس، وهو كناية عن السرعة في المسابقة. يقال: نافسته أي سابقته سباقاً بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والبعد عما يسخط الله ثم قال عز وجل: {ومزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون} أي مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار {من تسنيم}: أي من عين رفيعة معنى وحسًّا، وذلك لأن أنهار الجنة تفجّر من الفردوس، والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم أي: من المكان المسنَّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن {عيناً يشرب بها المقربون} أي أن هذه العين والمياه النابعة، والأنهار الجارية يشرب بها المقربون.
وهنا سيقول قائل: لماذا قال: {يشرب بها}؟ هل هي إناء يُحمل حتى يقال شرب بالإناء؟(26/12)
فالجواب: لا. لأن العين والنهر لا يُحمل. إذن لماذا لم يقل يشرب منها المقربون؟ والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين: فمن العلماء من قال: (الباء) بمعنى (من) فمعنى {يشرب بها} أي يشرب منها. ومنهم من قال: إن يشرب بمعنى يروى ضمّنت معنى يروى فمعنى {يشرب بها} أي يروى بها المقربون. وهذا المعنى أو هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما: أولاً: إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي. والثاني: أن الفعل {يشرب} ضمَّن معنى أعلى من الشرب وهو الري، فكم من إنسان يشرب ولا يروى، لكن إذا روي فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يضمّن الفعل {يشرب} بمعنى يروى.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَفِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.(26/13)
{إن الذين أجرموا} أي قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة {كانوا} أي في الدنيا {من الذين آمنوا يضحكون} استهزاءاً وسخرية واستصغاراً لهم، {وإذا مروا} الفاعل يصح أن يكون إذا مر المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مر المجرمون بالمؤمنين، والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير: أن الاية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الاخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أعم، فإذا جعلناها للأمرين صار المعنى: أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضاً فتكون شاملة للحالين: حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين. {يتغامزون} يعني يغمز بعضهم بعضاً، انظر إلى هؤلاء سخرة واستهزاء واستصغاراً. {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم {انقلبوا فكهين} يعني متفكهين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين، فهم يستهزؤن ويسخرون ويتفكهون بهذا، ظنًّا منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين، ولكن الأمر بالعكس. ثم قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} {إذا رأوهم} أي رأى المجرمون المؤمنين {قالوا إن هؤلاء لضالون}، ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون متشددون إلى غير ذلك من الألقاب، ولقد كان لهؤلاء السلف خلف في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، من الناس من يقول عن أهل الخير: إنهم رجعيون، إنهم متخلفون ويقولون عن المستقيم: إنه متشدد متزمت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل عليهم الصلاة والسلام إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون}. [الذاريات: 52]. فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع أهل التعطيل للسلف أهل الإثبات بأنهم حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس(26/14)
عن الطريق السوي {وما أرسلوا عليهم حافظين} أي أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم، بل الحكم لله عز وجل ثم قال تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} اليوم يعني يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار فـ{فالذين} مبتدأ و{يضحكون} خبره و{من الكفار} متعلق بيضحكون، والمعنى: فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين بالمؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور {على الأرائك ينظرون} أي أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، والأرائك هي السرر الفخمة الحسنة النضيرة {ينظرون} أي ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون بهم في الدنيا، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله كما قال الله تعالى: {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمدينون. قال هل أنتم مطلعون} [الصافات: 51 ـ 54]. يقول لأصحابه في الجنة يعرض عليهم أن يطلعوا إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} في قعره وأصله قال له: {تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} فأنت ترى أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار والمؤمنون في الجنة. ثم قال تعالى: {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} {ثوب} أي جوزي، و{هل} هنا للتقرير أي أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل. فحكمه دائر بين العدل والفضل، بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل، فالحمد لله رب العالمين، وبهذا تم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين. إنه جواد كريم.(26/15)
تفسير سورة الانشقاق
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الاَْرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يأَيُّهَا الإِنسَنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(27/1)
{إذا السماء انشقت} انشقت: انفتحت وانفرجت كقوله تعالى: {وإذا السماء فُرجت} [المرسلات: 9]. وكقوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فبأي ألاء ربكما تكذبان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39]. إذاً فانشقاقها يوم القيامة. {وأذنت لربها} أذنت: بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى {سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47]. أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى {وحقت} أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع؛ لأن الذي أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. فتأمل أيها الادمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق. في ابتداء الخلق قال: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} في انتهاء الخلق {إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت} حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع. ثم أعاد قال: {وأذنت لربها وحقت} تأكيداً لاستماعها لربها وطاعتها لربها. {وإذا الأرض مدت} هذه الأرض التي نحن عليها الان هي غير ممدودة، أولاً: أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً ـ أي ممتدة قليلاً ـ فهي مدورة الان، ثانياً: ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة {وإذا الأرض مدت} أي تمد مدًّا واحداً كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تُمد حتى إن الذين عليها ـ وهم الخلائق ـ يُسمعهم الداعي،(27/2)
وينفذهم البصر، لكن الان لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث: «يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والاخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر». {وألقت ما فيها وتخلت} أي جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً، عارياً، أغرل إلا أن بعض الناس قد يخلق مختوناً لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة: يا رسول الله: الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض»، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]. والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً عمل لهذا اليوم، {وأذنت لربها وحقت} أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتداداً واحداً. ثم قال عز وجل: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله: {إلى ربك} يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، كدحاً يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]. ولهذا قال: {كادح إلى ربك كدحاً} حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26]. لكن الفرق بين المطيع(27/3)
والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله: {يا أيها الإنسان} يعم كل إنسان مؤمن وكافر {إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} الفاء يقول النحويون: إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن قرب {إن ما توعدون لات} [الأنعام: 134]. وكل آت قريب {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى: 17]. وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة. كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة. إذاً هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة، والإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة، وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم، ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه {قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم}. وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات؟ نقول نعم، السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس(27/4)
أشياء تطيل عليه الزمن، لكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: {فملاقيه} أي (بالفاء) الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل. ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، {فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً} لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه {كادحاً} أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى: {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123]. لما ذكر هذا قال: {فأما من أوتي كتابه بيمينه}، إشارة إلى أن هؤلاء العاملين منهم من يؤتى كتابه بيمينه، ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره {فأما من أوتي كتابه بيمينه} و{أوتي} هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله، فمن الذي يؤتيه؟ يحتمل أنه الملائكة، أو غير ذلك لا ندري، المهم أنه يعطى كتابه بيمينه أي يستلمه باليمنى. {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} أي يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب يسير، ليس فيه أي عسر كما جاءت بذلك السنة: أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، فيقول: عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، ويقر بذلك ولا ينكر فيقول الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، ولا شك أن هذا حساب يسير يظهر فيه منّة الله على العبد، وفرحه بذلك واستبشاره. والمحاسب له هو الله عز وجل كما قال تعالى: {إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26]. {وينقلب إلى أهله مسروراً} ينقلب من الحساب إلى أهله في الجنة مسروراً، أي مسرور القلب،(27/5)
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم هم بعد ذلك درجات، وهذا يدل على سرور القلب؛ لأن القلب إذا سُر استنار الوجه {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعو ثبورًا. ويصلى سعيًرا} هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله، يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، وفي الاية الأخرى في سورة الحاقة {وأما من أوتي كتابه بشماله} [الحاقة: 25]. فقيل: إن من لا يؤتى كتابه بيمينه ينقسم إلى قسمين: منهم من يؤتى كتابه بالشمال، ومنهم من يؤتى كتابه وراء ظهره، والأقرب والله أعلم أنه يؤتى كتابه بالشمال، ولكن تلوى يده حتى تكون من وراء ظهره، إشارة إلى أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، فيكون الأخذ بالشمال ثم تلوى يده إلى الخلف إشارة إلى أنه قد ولى ظهره كتاب الله عز وجل ولم يبال به، ولم يرفع به رأساً، ولم ير بمخالفته بأساً. {فسوف يدعو ثبوراً} أي يدعو على نفسه بالثبور، يقول: واثبوراه يا ويلاه، وما أشبه ذلك من كلمات الندم والحسرة، ولكن هذا لا ينفع في ذلك اليوم؛ لأنه انتهى وقت العمل فوقت العمل، هو في الدنيا، أما في الاخرة فلا عمل وإنما هو الجزاء {ويصلى سعيًرا} أي يصلى النار التي تسعر به ويكون مخلداً فيها أبداً، لأنه كافر {إنه كان في أهله مسروراً} إنه كان في الدينا في أهله مسروراً، ولكن هذا السرور أعقبه الندم والحزن الدائم المستمر، واربط بين قوله تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه {وينقلب إلى أهله مسروراً}، وهذا {كان في أهله مسروراً} تجد فرقاً بين السرورين، فسرور الأول سرور دائم ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ وسرور الثاني سرور زائل، ذهب {كان في أهله مسروراً} أما الان فلا سرور عنده {إنه ظن أن لن يحور} أي: ألا يرجع بعد الموت، ولهذا كانوا ينكرون البعث ويقولون لا بعث، ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم {إنه ظن أن لن يحور} قال تعالى: {بلى} أي سيحور ويرجع {إن ربه كان به بصيراً} يعني أنه(27/6)
سيرجع إلى الله عز وجل الذي هو بصير بأعماله، وسوف يحاسبه عليها على ما تقتضيه حكمته وعدله.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
{فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق. لتركبن طبقاً عن طبق}. هذه الجملة مكونة من قسم، ومُقسم به، ومقسم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله: {لا أقسم بالشفق} قد يظن الظان أن معنى {لا أقسم} نفي، وليس كذلك بل هو إثبات و{لا} هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام ولها نظائر مثل {لا أقسم بهذا البلد}. {لا أقسم بيوم القيامة}. {فلا أقسم برب المشارق}. {فلا أقسم بما تبصرون}. وكلها يقول العلماء: إن (لا) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت، أما المقسِم فهو الله عز وجل فهو مُقْسِم ومُقْسَم به، فهو سبحانه مقسم، أما المقسَم به في هذه الاية فهو الشفق وما عطف عليه.
فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟
قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جارياً على اللسان العربي الذي نزل به القرآن.(27/7)
وقوله: {بالشفق} الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس. وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء وبعضهم قال إذا غاب البياض وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور، ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه: هو أن الشفق هو الحمرة وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب {والليل وما وسق} هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، يعني وأقسم بالليل وما وسق وهذان قسمان {والليل وما وسق} الليل معروف {وما وسق} أي ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض. {والقمر إذا اتسق} القمر معروف. ومعنى {إذا اتسق} يعني إذا جتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار. فأقسم الله عز وجل {بالليل وما وسق} أي ما جمع. وبالقمر لأنه آية الليل، ثم قال بعد ذلك: {لتركبن طبقاً عن طبق} والخطاب هنا لجميع الناس، أي لتركبن حالاً عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب:
الأول: أحوال الزمان تتنقل {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140]. فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر:
ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق.(27/8)
الثاني: الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم التالي منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الاخرة، وما قبل الاخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة. القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال الأعرابي: «والله ما الزائر بمقيم» فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد «فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير» أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الاخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
الثالث: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [الروم: 54]. أول ما يخلق الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا، ثم لايزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلىء نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.(27/9)
الرابع: حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب؟! أحوال القلوب هي النعمة وهي النقمة، القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فالقلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا؛ لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا. وأصحاب الدنيا هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها. لكن أصحاب الاخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب؟ أين ذهبت؟ لماذا تنصرف عن الله؟ لماذا تلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس، حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه(27/10)
يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله؟ فيقال: يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مصل؟ صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها، ربعها، ثلثها، عشرها، خمسها» حسب ما تعقل منها، إذاً فالقلوب تركب طبقاً عن طبق ثم قال تعالى: {فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} {ما لهم} أي شيء يمنعهم من الإيمان، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله، أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا، قال مؤمن آل فرعون: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم} [غافر: 28]. فأي شيء على الإنسان إذا آمن؟ ولهذا قال موبخاً لهم: {فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} أي لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض لكن يسجد القلب ويلين ويذل إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين {إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} [الأنفال: 2]. وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبهٌ من المشركين الذين إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون، ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلاً له وخضوعاً، وقد استدل بعض العلماء بهذه الاية على وجوب سجود التلاوة. وقال: إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً. والصحيح: أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب(27/11)
الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد فقال رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يُنكر عليه أحد. وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب، لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت في الصباح، أو في المساء، في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إن سجدت في الصلاة فلابد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم السجود في الصلاة. قال الله تعالى: {بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون} لما ذكر سبحانه وتعالى أنهم إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بيّن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلا بد أن يمتثل الأمر، وأن يجتنب النهي، لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات، أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات فاعلم أن إيمانه ضعيف إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال تعالى هنا: {بل الذين كفروا يكذبون} أي في تركهم السجود كان ذلك بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل {والله أعلم بما يوعون} أي أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه أي بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفة الرسل، بل محاربة الرسل وقتالهم، والكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم(27/12)
يجمعون لهم ويكيدون لهم فتوعدهم الله تعالى في هذه الاية {والله أعلم بما يوعون} أي بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم قال: {فبشرهم بعذاب أليم} أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله: {فبشرهم} عام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، وأن نبشر كل كافر بعذاب أليم، فنحن نبشر كل كافر بعذاب أليم ينتظره، كما قال تعالى: {وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30]. ثم قال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} {إلا} هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلاً، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستنثى منه فهو استثناء منقطع وتقدر {إلا} بـ(لكن) أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون. الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون.
فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟
فالجواب: أن العمل الصالح ما جمع شيئين:
الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا.
الثاني: أن يكون متبعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سببه. وما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه.(27/13)
{لهم أجر} أي ثواب {غير ممنون} أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الابدين، والايات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، فأجر الاخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(27/14)
تفسير سورة البروج
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَبُ الاُْخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والسماء ذات البروج} الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء {ذات البروج} أي صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجاً لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثني عشر برجاً جمعت في قول الناظم:(28/1)
حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسدٌ سنبلة ميزانفعقربٌ قوسٌ فجدي وكـ ذا دلو وذي آخرها الحيتان فهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، قوله تعالى: {واليوم الموعود} اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتماً، كما قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنَّا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]. {وشاهد ومشهود} ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا، ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس، وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر، ومن الملائكة يشهدون يوم القيامة فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله {وشاهد} وأما {المشهود} فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود: 103]. فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود. {قتل أصحاب الأخدود} {قتل} يعني أهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و{أصحاب الأخدود} هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدوداً حُفراً ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها ـ والعياذ بالله ـ(28/2)
ولهذا قال: {النار ذات الوقود} يعني أن الأخدود هي أخدود النار. {ذات الوقود} أي الحطب الكثير المتأجج. {إذ هم عليها قعود} يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا ـ والعياذ بالله ـ عندهم قوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئاً لم يكن، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي. {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته. {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي: إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها. وقوله: {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} قال الله تبارك وتعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. وقوله: {الحميد} بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قاg: «الحمد لله الذي بنعمته تتم(28/3)
الصالحات»، وإذا جاءه خلاف ذلك قال: «الحمد لله على كل حال»، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه «الحمد لله على كل حال» أما ما يقوله بعض الناس (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) فهذا خلاف ما جاءت به السنة به، قل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله على كل حال» أما أن تقول: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) فكأنك الان تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يصبر الإنسان على ما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً»، فالله عز وجل محمود على كل حال من السراء أو الضراء؛ لأنه إن قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر} [النمل: 40]. فإذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضاً ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].(28/4)
ويجوز أن يكون معنى قوله: {الحميد} أنه هو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 64]. الله يسألنا، أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء لجعلناه حطاماً} بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطاماً، ولم يأت التعبير «لو نشاء لم ننبته» لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطاماً أشد وقعاً على النفس من كونه لا ينبت أصلاً {لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون} ثم ذكر الشرب فقال: {أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء لجعلناه أجاجاً} أي مالحاً غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه {فلولا تشكرون} يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يأت التعبير «لو نشاء لم ننزله من المزن»، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلاً فتأملوا القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير.(28/5)
{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض} {الذي له ملك السماوات والأرض} له وحده ملك السماوات والأرض، لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأراضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال: مثلاً هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكاً حقيقياً؛ لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فلا يملك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال، لو أراد إنسان أن يحرق سيارته بدون سبب فلا يملك هذا. ولو أنه فعل لحجر القاضي عليه بمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، {والله على كل شيء شهيد} أي: مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، ولكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا}.
قال العلماء: {فتنوا} بمعنى أحرقوا كما قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} [الذاريات: 13، 14]. فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات في النار.(28/6)
وقيل: فتنوهم أي صدوهم عن دينهم. والصحيح: أن الاية شاملة للمعنيين جميعاً، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم معانيه أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علماً، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الاية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعاً، فنقول: هم فتوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضاً. {ثم لم يتوبوا} أي يرجعوا إلى الله {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقاً.
في هذه الايات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.(28/7)
وفي هذه الايات من العبر: أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئاً واحداً وهو: أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
وفي الاية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن التوبة لا تكون توبة نصوحاً مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة:
الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار}. [هود: 15، 16].
الثاني: من شروط كون التوبة نصوحاً: الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم.(28/8)
الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لايزال يرابي فلا تصح توبته، لو قال: أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فلا تصح توبته، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فلا تصح توبته، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصاً أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، فنقول له: رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه.
الشرط الرابع: أن يعزم عزماً تاماً ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزماً أكيداً على ألا يعود.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالين:(28/9)
الحال الأولى: إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان} [النساء: 18]. بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة أن فرعون لما أدركه الغرق {قال آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل} يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالاً لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والان يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعاً لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له {آلان} تتوب، آلان تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91]. إذاً إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلم أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير تغسيله؟! ألم تعلم أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل؟! كل هذا واقع، لذا يجب أن تبادر بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب.
الحال الثانية: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لكن الله يقول: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158].
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}.(28/10)
ثم قال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتبعة فيما يراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه في الإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. {إن الذين آمنوا} هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره»، وأما قوله: {وعملوا الصالحات} فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».(28/11)
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضاً، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله فهذا أيضاً مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شرك أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيماً له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة، وكذلك أيضاً من ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكاراً معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحاً، أو تحميداً، أو تكبيراً، أو تهليلاً ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين الإيمان بالله؟ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرج عن الملة وقد بينا أدلة(28/12)
ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن إعادتها هنا. {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} {لهم} يعني عند الله {جنات تجري من تحتها الأنهار} وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وقال الله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات: نخل، ورمان، وفاكهة، ولحم طير، وعسل، ولبن، وماء، وخمر، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في الدنيا أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما تتصوره، فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الاخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط)، أما الحقائق فهي غير معلومة. وقوله: {تجري من تحتها الأنهار} قال العلماء: {من تحتها} أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان(28/13)
الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الاية وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال ـ سورة محمد ـ قال: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {ذلك الفوز الكبير} {ذلك} المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم {الفوز الكبير} يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.(28/14)
ثم قال تعالى: {إن بطش ربك لشديد} {بطش} يعني أخذه بالعقاب شديد كما قال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [المائدة: 98]. فبطش الله يعني انتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب، ما أكثر ما يستر من العيوب، ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، وتلى قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}، وعلى هذا فنقول: {بطش ربك} أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه {إنه هو يبدىء ويعيد} يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال {يبدأ} ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه {يبدأ} كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل {وهو الغفور الودود} {الغفور} يعني ذا المغفرة، والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وجده مكتوباً على باب بيته فضيحة وعاراً، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره(28/15)
من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال: {وهو الغفور} أي الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها. {الودود} مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]. فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضاً محبوب يحبه أولياؤه {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا واد وهو أيضاً مودود، أي أنه يِحب ويَحب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب»؟ قالوا: يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، ثم أعطاه الراية وقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام». الشاهد قوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ{قل هو الله أحد} فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأن عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ {قل هو الله أحد} غير معروف، فقال: «سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك»؟ فسألوه فقال: إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أخبروه إن الله يحبه»، فهنا المحبة علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل: {إن الله يحب المتقين} {إن الله(28/16)
يحب المحسنين} {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]. هذا ليست في شخص معين لكن في شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن «أحب البقاع إلى الله مساجدها»، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مكة أحب البقاع إلى الله هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يِحب ويَحب ولهذا قال: {وهو الغفور الودود}. ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله: {ذو العرش المجيد. فعال لما يريد} {ذو العرش} أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة»، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الان التباين العظيم في أحجامها. ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن ـ جل وعلا ـ كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. وقوله: {المجيد} فيها قراءتان (المجيدِ) و(المجيدُ) فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد. {فعال لما يريد} كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل؛ لأنه تام السلطان(28/17)
لا أحد يمانعه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه {وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11]. فكل ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدنيا وإن عظمت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع، أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم الذي لا يرد ما أراده شيء {فعال لما يريد} وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون فإنه بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه فيكون واقعاً بإرادته، ولكن الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله فإنه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها. {هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود. بل الذين كفروا في تكذيب. والله من ورائهم محيط} {الذين كفروا} يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو النصارى أو غيرهم؛ وذلك لأن اليهود والنصارى الان وبعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم ليسوا على دين ولا تنفعهم أديانهم لأنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلّم ـ خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إن من لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلاً من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لغيره من الرسل، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم: أنتم كافرون بموسى كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم (بالمسيحيين) أنهم مؤمنون بعيسى قلنا لهم: كذبتم أنتم كافرون بعيسى؛ لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام، والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد عليه الصلاة والسلام مع أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن العناد والكبرياء والحسد منعهم أن(28/18)
يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]. فالحاصل أن قوله تعالى: {بل الذين كفروا} يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يعني أمة الدعوة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار»، كل الكفار في تكذيب وقال {في تكذيب} فجعل التكذيب كالظرف لهم يعني أنه محيط بهم من كل جانب {والله من ورائهم محيط} يعني أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب لا يشذون عنه لا عن علمه ولا سلطانه ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} {بل هو} أي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام {قرآن مجيد} أي ذو عظمة ومجد، ووصف القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصف للقرآن نفسه فقط، بل هو وصف للقرآن، ولمن تحمل هذا القرآن فحمله وقام بواجبه من تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون لهم المجد والعزة والرفعة. وقوله تعالى: {في لوح محفوظ} يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. وهذا اللوح كتب الله به مقادير كل شيء، ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم فهو في لوح محفوظ، قال العلماء {محفوظ} لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه.(28/19)
الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكاً موكلاً بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
النوع الثالث: كتابة حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4]. فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة.(28/20)
النوع الرابع: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون قال الله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 9 ـ 12]. فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13، 14]. يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت: اقرأ وحاسب نفسك، قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف؟! بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحًا أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} يقول اللسان: نطقت بكذا {وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} تقول اليد: بطشت، تقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، الجلود تشهد بما لمست {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} [فصلت: 21]. فالأمر ليس بالأمر الهين ـ نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرته ـ وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن(28/21)
العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحداً يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو: التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعاً، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقيًّا إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء؛ وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد جدًّا، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، إنه على كل شيء قدير.(28/22)
تفسير سورة الطارق
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
البسملة سبق الكلام عليها.
{والسماء والطارق} ابتدأالله عز وجل هذه السورة بالقسم، أقسم الله تعالى بالسماء والطارق وقد يشكل على بعض الناس كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات مع أن القسم بالمخلوقات شرك لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت». فلا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالكعبة، ولا بالوطن، ولا بأي شيء من المخلوقات؟(29/1)
والجواب على هذا الإشكال أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وإقسامه بما يقسم به من خلقه يدل على عظمة الله عز وجل، لأن عِظم المخلوق يدل على عِظم الخالق، وقد أقسم الله تعالى بأشياء كثيرة من خلقه، ومن أحسن ما رأيته تكلم على هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) وهو كتاب جيد ينفع طالب العلم كثيراً، فهنا يقسم الله تعالى بالسماء، والسماء هو كل ما علاك، فكل ما علاك فهو سماء، حتى السحاب الذي ينزل منه المطر يسمى سماءً، كما قال الله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} [الرعد: 17]. وإذا كان يطلق على كل ما علاك فإنه يشمل ما بين السماء والأرض ويشمل السماوات كلها لأنها كلها قد علتك وهي فوقك. وأما قوله: {والطارق} فهو قسم ثان، أي أن الله أقسم بالطارق فما هو الطارق؟ ليس الطارق هو الذي يطرق أهله ليلاً بل فسره الله عز وجل بقوله: {النجم الثاقب} هذا هو الطارق، والنجم هنا يحتمل أن يكون المراد به جميع النجوم فتكون (ال) للجنس، ويحتمل أنه النجم الثاقب، أي: النجم اللامع، قوي اللمعان، لأنه يثقب الظلام بنوره، وأيًّا كان فإن هذه النجوم من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته، في سيرها وانتظامها، واختلاف أشكالها واختلاف منافعها أيضاً، قال الله تبارك وتعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16]. وقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} [الملك: 5]. فهي زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. ثم بين الله المقسم عليه بقوله: {إن كل نفس لما عليها حافظ} {إن} هنا نافية يعني ما كل نفس، و{لما} بمعنى (إلا) يعني ما كل نفس إلا عليها حافظ من الله، وبين الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الحافظ بقوله: {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 ـ 12]. هؤلاء الحفظة يحفظون على الإنسان عمله، ما له(29/2)
وما عليه، ويجده يوم القيامة كتاباً منشوراً يقول له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. هؤلاء الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل، سواء كان ظاهراً كأقوال اللسان، وأعمال الجوارح، أو باطناً حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان فإنه يكتب عليه لقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمن وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق 16 ـ 18]. هذا الحافظ يحفظ عمل بني آدم، وهناك حفظة آخرون ذكرهم الله في قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. {فلينظر الإنسان مما خلق} (اللام) هنا للأمر، والمراد بالنظر هنا نظر الاعتبار وهو النظر بالبصيرة، يعني ليفكر الإنسان مما خلق؟ هل خلق من حديد؟ هل خلق من فولاذ؟ هل خلق من شيء قاسٍ قوي؟ والجواب على هذه التساؤلات: أنه {خلق من ماء دافق} وهو ماء الرجل، ووصفه الله تعالى في آيات أخرى بأنه ماء مهين ضعيف السيلان ليس كالماء العادي المنطلق، ووصفه الله تعالى في آية أخرى أنه نطفة أي قليل من الماء، هذا الذي خلق منه الإنسان، والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين، ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة ـ والعياذ بالله ـ إلا من ألان الله قلبه لدين الله، ثم بين أن هذا الماء الدافق {يخرج من بين الصلب والترائب} من بين صلب الرجل وترائبه أعلى صدره، وهذا يدل على عمق مخرج هذا الماء، وأنه يخرج من مكان مكين في الجسد، وقال بعض العلماء: {يخرج من بين الصلب} أي صلب الرجل {والترائب} ترائب المرأة. ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، والصواب أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو ماء الرجل، لأن الله تعالى وصفه بذلك. ثم قال تعالى: {إنه على رجعه لقادر} {إنه} أي الله عز وجل. {على رجعه} أي على رجع الإنسان {لقادر} وذلك يوم القيامة لقوله {يوم تبلى(29/3)
السرائر} فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين، قادر على أن يعيده يوم القيامة، وهذا من باب الاستدلال بالمحسوس على المنظور المترقب، وهو قياس عقلي، فإن الإنسان بعقله يقول إذا كان الله قادراً على أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ويحييه قادر على أن يعيده مرة ثانية {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]. ولهذا يستدل الله عز وجل بالمبدأ على المعاد لأنه قياس جلي واضح، ينتقل العقل من هذا إلى هذا بسرعة وبدون كلفة، وقوله: {يوم تبلى السرائر} أي تختبر السرائر، وهي القلوب، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح، ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين حيث كان يُستأذن في قتلهم فيقول: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلانًا منافق، وفلانًا منافق، لكن العمل في الدنيا على الظاهر ويوم القيامة على الباطن {يوم تبلى السرائر} أي تختبر وهذا كقوله: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10]. ولهذا يجب علينا العناية بعمل القلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، عمل الجوارح علامة ظاهرة، لكن عمل القلب هو الذي عليه المدار، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج يخاطب الصحابة يقول: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم ـ يعني أنهم يجتهدون في الأعمال الظاهرة لكن قلوبهم خالية والعياذ بالله ـ لا يتجاوز الإسلام حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»، قال الحسن البصري رحمه الله: (والله ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صوم، وإنما سبقهم بما وقر في قلبه من الإيمان) والإيمان إذا وقر في القلب حمل الإنسان على العمل، لكن العمل الظاهر قد لا يحمل الإنسان على إصلاح قلبه، فعلينا أن نعتني بقلوبنا وأعمالها، وعقائدها، واتجاهاتها،(29/4)
وإصلاحها وتخليصها من شوائب الشرك والبدع، والحقد والبغضاء، وكراهة ما أنزل الله على رسوله وكراهة الصحابة رضي الله عنهم، وغير ذلك مما يجب تنزيه القلب عنه.
ثم قال تعالى: {فما له من قوة} يعني يوم القيامة ما للإنسان من قوة ذاتية {ولا ناصر} وهي القوة الخارجية، هو بنفسه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنه، قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. في الدنيا يتساءلون، يسأل بعضهم بعضاً، ويحتمي بعضهم ببعض، لكن يوم القيامة لا أنساب يعني لا قرابة، لا تنفع القرابة ولا يتساءلون.
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالاََرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.(29/5)
بعد أن ذكر الله تعالى الإقسام {والسماء والطارق} إلى آخره... إلى قوله {يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} قال تعالى: {والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع} هذا هو القسم الثاني للسماء، والقسم الأول ما كان في أول السورة، فهناك قال: {والسماء والطارق. وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب} هنا قال: {والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع. إنه لقول فصل} والمناسبة بين القسمين ـ والله أعلم ـ أن الأول فيه إشارة إلى الطارق الذي هو النجم، والنجم تُرمى به الشياطين الذين يسترقون السمع، وفي رمي الشياطين بذلك حفظ لكتاب الله عز وجل، أما هنا فأقسم بالسماء ذات الرجع أن هذا القرآن قول فصل، فأقسم على أن القرآن قول فصل، فصار القسم الأول مناسبته أن فيه الإشارة إلى ما يحفظ به هذا القرآن حال إنزاله، وفي القسم الثاني الإشارة إلى أن القرآن حياة، يعني يقال: {والسماء ذات الرجع} الرجع هو المطر، يسمى رجعاً لأنه يرجع ويتكرر، ومعلوم أن المطر به حياة الأرض. {والأرض ذات الصدع} الصدع هو الانشقاق يعني الشتقق بخروج النبات منه، فأقسم بالمطر الذي هو سبب خروج النبات، وبالتشقق الذي يخرج منه النبات، وكله إشارة إلى حياة الأرض بعد موتها، والقرآن به حياة القلوب بعد موتها، كما قال الله تبارك وتعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52]. فسمى الله القرآن روحاً لأنه تحيى به القلوب.(29/6)
يقول عز وجل: {والسماء ذات الرجع} أي ذات المطر. {والأرض ذات الصدع} أي ذات الانشقاق لخروج النبات منها. {إنه} أي القرآن {لقول فصل} وصفه الله تعالى بأنه قول فصل، وهو قول الله عز وجل، فهو الذي تكلم به وألقاه إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أضاف الله القرآن قولاً إلى جبريل، وإلى محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى في الأول: {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثمَّ أمين} [التكوير: 19 ـ 21]. وقال في الثاني إضافته إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} [الحاقة: 40، 41]. ففي الأول أضاف القول إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، لأنه بلغه عن الله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي الثاني أضافه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه بلغه إلى الناس، وإلا فإن الذي قاله ابتداءً هو الله سبحانه وتعالى. {إنه لقول فصل} فصل يفصل بين الحق والباطل، وبين المتقين والظالمين، بل إنه فصل أي قاطع لكل من ناوأه وعاداه، ولهذا نجد المسلمين لما كانوا يجاهدون الكفار بالقرآن نجدهم غلبوا الكفار، وقطعوا دابرهم، وقضي بينهم، فلما أعرضوا عن القرآن هُزموا وأذلوا بقدر بُعدهم عن القرآن، وكلما أبعد الإنسان عن كتاب الله ابتعدت عنه العزة، وابتعد عنه النصر حتى يرجع إلى كتاب الله عز وجل. {وما هو بالهزل} أي ما هو باللعب والعبث واللغو، بل هو حق، كلماته كلها حق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، وتلاوته أجر، لو تلاه الإنسان كل أوانه لم يمل منه، وإذا تلاه بتدبر وتفكر فتح الله عليه من المعاني ما لم يكن عنده من قبل، وهذا شيء مشاهد، اقرأ القرآن وتدبره، كلما قرأته وتدبرته حصل لك من معانيه ما لم يكن يحصل لك من قبل، كل هذا لأنه فصل وليس بالهزل، لكن الكلام اللغو من كلام الناس كلما كررته مججته وكرهته ومللته(29/7)
أما كتاب الله فلا. ثم قال تعالى: {إنهم يكيدون كيداً} {إنهم} يعني الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم {يكيدون كيداً} أي كيداً عظيماً، يكيدون للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكيدون لمن اتبعه، وانظر ماذا كانوا يفعلون بالمؤمنين أيام كانوا في مكة من التعذيب والتوبيخ والتشريد، هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة كل ذلك فراراً بدينهم من هؤلاء المجرمين، الذين آذوهم بكل كيد، وأعظم ما فعلوه بالنبي عليه الصلاة والسلام حين الهجرة حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمد؟ فكلما ذكروا رأياً نقضوه، قالوا هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم فيما ذكره أهل التاريخ الشيطان الذي جاء بصورة رجل وقال لهم: إني أرى أن تختاروا عشرة شبان من قبائل متفرقة، وتعطوا كل واحد منهم سيفاً حتى يقتلوا محمداً قتلة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتص من القبائل كلها فيرضخون إلى أخذ الدية. وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي واستحسنوا هذا الرأي، وفعلاً جلس الشبان العشرة ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقتلوه، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من الباب وهم جلوس ولم يشاهدوه، وذكر التاريخ أنه جعل يذر التراب على رؤوسهم إذلالاً لهم، ويقرأ قول الله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 9]. ولا تتعجب كيف خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تعجب من هذا، فها هم قريش حين اختبأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار لما خرج من مكة يريد المدينة اختبأ في الغار ثلاثة أيام ليخف عنه الطلب؛ لأن قريش صارت تطلبه، وجعلت لمن جاء به مئة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مئتي بعير، وهذه جائزة كبيرة، فوقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر،(29/8)
وكلنا يعلم أن الغار المفتوح إذا كان فيه أحد فسوف يُرى، ولكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا. فقال: «لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما». فاطمأن أبو بكر. هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصور في السمع، ولا قصور في البصر، ولا قصور في الذكاء، ولكن أعمى الله أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، فلا تعجبوا أن خرج من بين هؤلاء الشبان العشرة كما قال أهل التاريخ، وجعل يذر التراب على رؤوسهم ويقول: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. وقال الله تعالى في سورة الأنفال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} يعني يحبسوك {أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30]. {إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً} ثم قال عز وجل: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} مهل وأمهل معناهما واحد يعني انتظر بمهلة ولا تنتظر بمهلة طويلة، {رويداً} أي قليلاً، ورويداً تصغير رود أو إرواد، والمراد به الشيء القليل. وفي هذه الاية تهديد لقريش، وتسلية للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووعد له بالنصر. وحصل الأمر كما أخبر الله عز وجل، خرج النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً منهم، وحصل بينه وبينهم حروب، وفي السنة الثانية من الهجرة قُتل من صناديد قريش وكبرائهم وزعمائهم نحو أربعة وعشرين رجلاً، منهم قائدهم أبو جهل، وبعد ثماني سنوات بل أقل من ثماني سنوات دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة فاتحاً منصوراً ظافراً، حتى إنه قال كما جاء في التاريخ وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة وقريش تحته قال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم»؟ لأن أمرهم أصبح بيده عليه الصلاة والسلام، «ما ترون أني فاعل بكم»؟ قالوا: أخٌ كريم، وابن أخ كريم. فقال: «إني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: {لا(29/9)
تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وإنما منّ عليهم هذه المنة عليه الصلاة والسلام لأنهم أسلموا، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن ينفعنا به، وأن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(29/10)
تفسير سورة الأعلى
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاََعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الاَْشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}.
البسملة سبق الكلام عليها، وإنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أي سورة من القرآن، لكنها آية مستقلة تنزل في ابتداء كل سورة سوى سورة (براءة).
{سبح اسم ربك الأعلى} الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به.
القسم الثاني: أن يقوم الدليل على أنه عام فيعم.
القسم الثالث: أن لا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظاً، عامًّا له وللأمة حكماً.
مثال الأول: قوله تبارك وتعالى: {ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2]. ومثاله أيضاً قوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} [النساء: 79]. فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(30/1)
ومثال الثاني الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه قرينة تدل على العموم: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. فوجه الخطاب أولاً للرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا أيها النبي} ولم يقل «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم» قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم}، ولم يقل: (يا أيها النبي إذا طلقت) قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم} فدل هذا على أن الخطاب الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام موجه له وللأمة.
وأما أمثلة الثالث: فهي كثيرة جداً يوجه الله الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، والمراد الخطاب له لفظاً وللعموم حكماً.
هنا يقول الله عز وجل: {سبح اسم ربك الأعلى} {سبح} يعني نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني التنزيه، إذا قلت: سبحان الله، يعني أنني أنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى (السلام، القدوس) لأنه منزه عن كل عيب. وأضرب أمثلة: من صفات الله تعالى: الحياة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وحياة المخلوق فيها نقص، أولاً: لأنها مسبوقة بالعدم فالإنسان ليس أزلياً. وثانياً: أنها ملحوقة بالفناء {كل من عليها فان} [الرحمن: 26].(30/2)
مثال آخر: سمع الله عز وجل ليس فيه نقص يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تُحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]. ولهذا قالت عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)، إن المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها. إذن معنى {سبح} نزه الله عن كل عيب ونقص. وقوله: {اسم ربك الأعلى} قال بعض المفسرين: إن قوله {اسم ربك} يعني مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناها: سبح ربك ذاكراً اسمه، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96]. يعني سبح تسبيحاً مقروناً باسم، وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب، بالعقيدة، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعاً، والمقصود أن يسبح بهما جميعاً بقلبه لافظاً بلسانه. وقوله {ربك} الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، والمشركون يقرون بذلك {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا {أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31]. فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره، وهذا من الجهل، كيف تقر بأن الله وحده هو الخالق، المالك، المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره!! إذن معنى الرب هو الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور، وكل(30/3)
إنسان يقر بذلك يلزمه أن لا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الايات الكثيرة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]. قال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} يعني لا تعبدون غيره. {الأعلى} من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات، أما علو الصفة: فإن أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60].
وأما علو الذات: فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه، والإنسان إذا قال: يا الله أين يتجه؟ يتجه إلى السماء إلى فوق، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه. إذن {الأعلى} إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته، وعال بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى، يتذكر بسفوله هو، لأنه هو الان نزل، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن تقول: سبحان ربي الأعلى، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته، والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات. ثم قال: {الذي خلق فسوى} {خلق} يعني أوجد من العدم، كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} [الحج: 23]. وهو مثل عظيم، كل الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الالهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونحن في هذا العصر وقد تقدمت الصناعة هذا التقدم الهائل لو اجتمع كل هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذباباً ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون: صنعوا آدمياً(30/4)
آلياً ما يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، هذا الادمي الالي ما هو إلا الالات تتحرك فقط، لكن لا تجوع، ولا تعطش، ولا تحتر، ولا تبرد، ولا تتحرك إلا بتحريك، الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وبماذا يخلق؟ بكلمة واحدة {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]. {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. كلمة واحدة، الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض، وتأكلها السباع، وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة أخرجي فتخرج. {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13]. {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة. إذن فالله عز وجل وحده هو الخالق ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه ويكون بكلمة واحدة. وقوله {فسوى} يعني سوى ما خلقه على أحسن صورة، وعلى الصورة المتناسبة، الإنسان مثلاً قال الله تعالى في سورة الانفطار: {الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار: 7، 8]. {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا أول من يدخل في قوله: {فسوى} هو تسوية الإنسان {الذي خلق فسوى} كل شيء يسوى على الوجه الذي يكون لائقاً به. {والذي قدر فهدى} قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2]. قدره في حاله، وفي مآله، وفي ذاته، وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، فالاجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، وكل شيء مقدر تقديراً كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}. وقوله: {فهدى} يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية، الهداية الكونية: أن الله(30/5)
هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى: {فمن ربكما يا موسى. قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 49، 50]. تجد كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، فالطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه، وانظر إلى أدنى الحشرات النمل مثلاً لا تصنع بيوتها إلا في مكان مرتفع على ربوة من الأرض تخشى من السيول تدخل بيوتها فتفسدها، وإذا جاء المطر وكان في جحورها، أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشمس تنشره لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة لئلا تنبت فتفسد عليهم، هذا الشيء مشاهد مجرب من الذي هداها لذلك؟ إنه الله عز وجل، وهذه هداية كونية أي: أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه.(30/6)
أما الهداية الشرعية ـ وهي الأهم بالنسبة لبني آدم ـ فهي أيضاً بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّن لهم، قال الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنه هو الخالق بعد العدم وأصابنا المرض نلجأ إلى الله لأن الذي خلقك وأوجدك من العدم قادر على أن يصحح بدنك، إذاً الجأ إلى ربك، اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فالذي شفاك هو الله عز وجل، هو الذي جعل هذا الدواء سبباً لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدواء سبباً لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلها إلى الله عز وجل، إذا علمنا أنه هو الهادي فإننا نستهدي بهدايته، بشريعته حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة. {سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى} هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له: {لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 16 ـ 19]. فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه، وهنا يقول: {سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله} يعني إلا ما شاء أن تنساه فإن الأمر بيده عز وجل {يمحو الله ما يشاء ويثبت} [الرعد: 39]. {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون(30/7)
الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 106، 107]. وربما نُسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {إنه يعلم الجهر} أي أن الله تعالى يعلم الجهر، والجهر: ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعاً. {وما يخفى} أي ما يكون خفيًّا لا يُظهر فإن الله يعلمه كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16]. فهو يعلم عز وجل الجهر ويعلم أيضاً ما يخفى. {ونيسرك لليسرى} وهذا أيضاً وعد من الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولاسيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما من أحد من الناس إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، كل بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ومقعده من النار إن كان من أهل النار، قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل ـ يعني على ما كتب ـ قال: «لا. اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسرة لليسرى} وهذا الحديث يقطع حُجة من يحتج بالقدر على معاصي الله فيعصي الله ويقول: هذا مكتوب علي. وهذا ليس بحجة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» هل أحد يحجزك عن العمل الصالح لو أردته؟ أبداً. هل أحد يجبرك على المعصية لو لم تردها؟ أبداً لا أحد، ولهذا لو أن أحداً أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى إن الكفر وهو أعظم الذنوب، قال الله تعالى فيه: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106]. إذن نقول اعمل أيها الإنسان،(30/8)
اعمل الخير وتجنب الشر، حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعده الله بأن ييسره لليسرى فيسهل عليه الأمور، ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شدة وضنك إلا وجد له مخرجاً عليه الصلاة والسلام. ثم أمره تعالى أن يذكر فقال: {فذكر إن نفعت الذكرى} يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عظهم، {إن نفعت الذكرى} يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون {إن} شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الاية.
وقال بعض العلماء: المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير، فالمعنى على هذا القول: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع. تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضاً، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئاً، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.
وقال بعض العلماء: إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر.
ولكن على كل حال نقول: لابد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس: لو كان هذا محرماً لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجباً لذكَّر به العلماء، فلابد من التذكير ولابد من نشر الشريعة سواء نفعت أم لم تنفع. ثم ذكر الله عز وجل من سيذكر ومن لا يتذكر فقال: {سيذكر من يخشى. ويتجنبها الأشقى} فبين تعالى أن الناس ينقسمون بعد الذكرى إلى قسمين:(30/9)
القسم الأول: من يخشى الله عز وجل، أي يخافه خوفاً عن علم بعظمة الخالق جل وعلا، فهذا إذا ذكر بآيات ربه تذكر كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعمياناً} [الفرقان: 73]. فمن يخشى الله ويخاف الله إذا ذكر ووعظ بآيات الله اتعظ وانتفع.
أما القسم الثاني: فقال: {ويتجنبها الأشقى} أي يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها الأشقى و{الأشقى} هنا اسم تفضيل من الشقاء وهو ضد السعادة كما في سورة هود: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالأشقى المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى، ولهذا قال: {الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى} الذي يصلى النار الموصوفة بأنها {الكبرى} وهي نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الاخرة»، أي أن نار الاخرة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، والمراد بنار الدنيا كلها أشد ما يكون من نار الدنيا فإن نار الاخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ولهذا وصفها بقوله: {النار الكبرى} ثم إذا صلاها {لا يموت فيها ولا يحيى} المعنى لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع لكن أحياء يعذبون {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56]. كما قال الله عز وجل {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار {ليقض علينا ربك} يعني ليهلكنا ويريحنا من هذا العذاب {قال إنكم ماكثون} ولا راحة ويقال لهم: {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} [الزخرف: 78]. هذا معنى قوله: {لا يموت فيها ولا يحيى} لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت؟ والإنسان إما حي وإما ميت؟(30/10)
فيقال: لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيى حياة يسعد بها، فهو في عذاب وجحيم، وشدة يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى}.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * وَالاَْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولَى * صُحُفِ إِبْرَهِيمَ وَمُوسَى}.
{قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى} {أفلح} مأخوذ من الفلاح، والفلاح كلمة جامعة، وهو: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، هذا هو معنى الفلاح فهي كلمة جامعة لكل خير، دافعة لكل شر. وقوله: {من تزكى} مأخوذة من التزكية وهو التطهير، ومنه سميت الزكاة زكاة؛ لأنها تطهر الإنسان من الأخلاق الرذيلة، أخلاق البخل كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103]. إذن {تزكى} يعني تطهر، ظاهره وباطنه، يتزكى أولاً من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصاً له الدين، لا يرائي، ولا يسمع، ولا يطلب جاهاً، ولا رئاسة فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الاخرة. تزكى في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث لا يبتدع في شريعته لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد، ولا في الأقوال ولا في الأفعال، وهذا أعني التزكي بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اتباعه من غير ابتداع لا ينطبق تماماً إلا على الطريقة السلفية طريقة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الطريقة السلفية الذين لا يبتدعون في العبادات القولية، ولا في العبادات الفعلية شيئاً في دين الله، تجدهم يتبعون ما جاء به الشرع، خلافاً لما يصنعه بعض المبتدعة في الأذكار المبتدعة، إما في نوعها، وإما في كيفيتها وصفتها، وإما في أدائها كما يفعله بعض أصحاب الطرق من الصوفية(30/11)
وغيرهم. كذلك يتزكى بالنسبة لمعاملة الخلق بحيث يطهر قلبه من الغل والحقد على إخوانه المسلمين فتجده دائماً طاهر القلب يحب لإخوانه ما يحب لنفسه لا يرضى لأحد أن يمسه سوء، بل يود أن جميع الناس سالمون من كل شر، موفقون لكل خير. فـ{من تزكى} أي من تطهر ظاهره وباطنه، فتطهر باطنه من الشرك بالله عز وجل، ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين والبغضاء، وغير ذلك مما يجب أن يتطهر القلب منه، وتطهر ظاهره من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عبادالله عز وجل، فلا يغتاب أحداً، ولا ينم عن أحد، ولا يسب أحداً، ولا يعتدي على أحد بضرب، أو جحد مال أو غير ذلك، فالتزكي كلمة عامة تشمل التطهر من كل درن ظاهر أو باطن، فصارت التزكية لها ثلاث متعلقات: الأول: في حق الله. والثاني: في حق الرسول. والثالث: في حق عامة الناس. في حق الله تعالى يتزكى من الشرك فيعبد الله تعالى مخلصاً له الدين. في حق الرسول يتزكى من الابتداع فيعبد الله على مقتضى شريعة النبي صلى الله عليه وسلّم في العقيدة، والقول، والعمل. في معاملة الناس يتزكى من الغل والحقد والعداوة والبغضاء، وكل ما يجلب العداوة والبغضاء بين المسلمين يتجنبه، ويفعل كل ما فيه المودة والمحبة ومن ذلك: إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم»، فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين وهذا الشيء مشاهد، لو مر بك رجل ولم يسلم عليك صار في نفسك شيء، وإذا لم تسلم عليه أنت صار في نفسه شيء، لكن لو سلمت عليه، أو سلم عليك صار هذا كالرباط بينكما يوجب المودة والمحبة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في السلام: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»، وأكثر الناس اليوم إذا سلم يسلم على من يعرف، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، وهذا غلط،(30/12)
لأنك إذا سلمت على من تعرف لم يكن السلام خالصاً لله، سلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبة المسلمين بعضهم لبعض، وتمام الإيمان، والنهاية دخول الجنة جعلنا الله من أهلها.
وقوله: {وذكر اسم ربه فصلى} أي: ذكر الله، ولكنه ذكر سبحانه وتعالى الاسم من أجل أن يكون الذكر باللسان؛ لأنه ينطق فيه باسم الله فيقول مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله، ويعني أيضاً ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له، ويدخل في ذكر اسم الله الوضوء، فالوضوء من ذكر اسم الله، أولاً: لأن الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالاً لأمر الله. وثانياً: أنه إذا ابتدأ وضوءه قال: بسم الله، وإذا انتهى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. ومن ذكر الله عز وجل خطبة الجمعة، فإن خطبة الجمعة من ذكر الله، لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. وعلى هذا قال بعض العلماء: {وذكر اسم ربه} يعني الخطيب يوم الجمعة {فصلى} أي صلاة الجمعة. فهذه الاية تشمل كل الصلوات التي يسبقها ذكر، وما من صلاة إلا ويسبقها ذكر؛ لأن الإنسان يتوضأ قبيل الصلاة فيذكر اسم الله ثم يصلي.(30/13)
لكن الصحيح: أنها أعم من هذا، وأن المراد به كل ذكر لاسم الله عز وجل، أي كلما ذكر الإنسان اسم الله اتعظ وأقبل إلى الله وصلى. والصلاة معروفة هي عبادة ذات أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. ثم قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا. والاخرة خير وأبقى} {بل} هنا للإضراب الانتقالي، لأن {بل} تأتي للإضراب الإبطالي، وتأي للإضراب الانتقالي، أي أنه سبحانه وتعالى انتقل ليبين حال الإنسان أنه مؤثر للحياة الدنيا لأنها عاجلة، والإنسان خلق من عجل، ويحب ما فيه العجلة، فتجده يؤثر الحياة الدنيا، وهي في الحقيقة على وصفها دنيا، دنيا زمناً، ودنيا وصفاً، أما كونها دنيا زمناً فلأنها سابقة على الاخرة فهي متقدمة عليها، والدنو بمعنى القرب. وأما كونها دنيا ناقصة فكذلك هو الواقع فإن الدنيا مهما طالت بالإنسان فإن أمدها الفناء، ومنتهاها الفناء، ومهما ازدهرت للإنسان فإن عاقبتها الذبول، ولهذا لا يكاد يمر بك يوم في سرور إلا وعقبه حزن، وفي هذا يقول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر(30/14)
تأمل حالك في الدنيا تجد أنه لا يمر بك وقت ويكون الصفو فيه دائماً بل لابد من كدر، ولا يكون السرور دائماً بل لابد من حزن، ولا تكون راحة دائماً بل لابد من تعب، فالدنيا على اسمها دنيا. {والاخرة خير وأبقى} الاخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر {لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48]. كذلك أيضاً هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا كما أسلفنا قليل زائل مضمحل، بخلاف بقاء الاخرة فإنه أبد الابدين. {إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى} {إن هذا} أي ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الاخرة وينسى الاخرة، وكذلك ما تضمنته الايات من المواعظ {في الصحف الأولى} أي السابقة على هذه الأمة {صحف إبراهيم وموسى} وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وفيها من المواعظ ما تلين به القلوب وتصلح به الأحوال، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، ووقاه الله عذاب النار، إنه جواد كريم.(30/15)
تفسير سورة الغاشية
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{هل أتاك حديث الغاشية} يجوز أن يكون الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعاً له، ويجوز أن يكون عاماً لكل من يتأتى خطابه، والاستفهام هنا للتشويق فهو كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10]. ويجوز أن يكون للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية. {حديث الغاشية} أي نبأها، و{الغاشية} هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، وهي يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن كثيراً، ووصفها بأوصاف عظيمة مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. ثم قسم الله سبحانه وتعالى الناس في هذا اليوم إلى قسمين فقال: {وجوه يومئذ خاشعة} {خاشعة} أي ذليلة كما قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]. فمعنى خاشعة يعني ذليلة. {عاملة ناصبة} عاملة عملاً يكون به النصب وهو التعب. قال العلماء: وذلك أنهم يكلفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم، كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب، وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها: الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله: {وجوه يومئذ} أي يومئذ تأتي الغاشية، وهذا لا يكون(31/1)
إلا يوم القيامة. إذن فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله منها. {تصلى ناراً حامية} أي تدخل في نار جهنم، والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، يعني نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من حرارة نار جهنم أشد منها بتسعة وستين جزءًا، ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة وتصل لنا هذه الحرارة التي تدرك ولاسيما في أيام الصيف، فالنار نار حامية، ولما بين مكانهم، وأنهم في نار جهنم الحامية، بين طعامهم وشرابهم فقال: {تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع} {تسقى} أي هذه الوجوه {من عين آنية} أي شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشرابهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة، أو كلما عطشوا سقوا، وإنما يأتي كلما اشتد عطشهم واستغاثوا كما قال تعالى: {وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب} [الكهف: 29]. هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم قطعها، يقول عز وجل: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعائهم} [محمد: 15]. إذن لا يستفيدون منه لا ظاهراً ولا باطناً، لا ظاهراً بالبرودة ببرد الوجوه، ولا باطناً بالري، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ يغاثون بهذا الماء ولهذا قال: {تسقى من عين آنية}.
فإذا قال قائل: كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفىء النار؟(31/2)
فالجواب: أولاً: أن أمور الاخرة لا تقاس بأمور الدنيا، لو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليس الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الناس على قدر ميل، والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الاخرة كالدنيا لشوت الناس شيًّا، لكن الاخرة لا تقاس بالدنيا. أيضاً يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، منهم من هو في ظلمة شديدة، ومنهم من هو في نور {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم: 8]. يحشرون في مكان واحد ويعرقون منهم من يصل العرق إلى كعبه، ومنهم من يصل إلى ركبتيته، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد. إذن أحوال الاخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا.
ثانياً: أن الله على كل شيء قدير. ها نحن الان نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار كما قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 80]. الشجر الأخضر رَطِب، ومع ذلك إذا ضرب بعضه ببعض، أو ضرب بالزند انقدح خرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير، فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل.
أما طعامهم فقال: {ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغني من جوع} الضريع قالوا: إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل ويسمى عندنا الشبرق. فهم ـ والعياذ بالله ـ في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظن أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا فهو يختلف عنه اختلافاً عظيماً، ولهذا قال: {لا يسمن} فلا ينفع الأبدان في ظاهرها {ولا يغني من جوع} فلا ينفعها في باطنها فهو لا خير فيه ليس فيه إلا الشوك، والتجرع العظيم، والمرارة، والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئاً.(31/3)
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}.
ثم ذكر الله عز وجل القسم الثاني من أقسام الناس في يوم الغاشية فقال: {وجوه يومئذ ناعمة} أي ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل؛ لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم، يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة {لسعيها راضية} أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة ـ والعياذ بالله ـ غير راضية على ما قدمت. {في جنة عالية} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 11]. وقال تبارك وتعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم للزكاة فاعلون} إلى قوله: {أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10، 11]. وقال الله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71]. فهم في {جنة عالية} العلو ضد السفول فهي فوق السماوات السبع، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا. {لا تسمع فيها لاغية} أي لا تسمع في هذه الجنة قولةً لاغية، أو نفساً لاغية، بل كل ما فيها جد، كل ما فيها سلام، كل ما فيها تسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا(31/4)
يشق عليهم ولا يتأثرون به، فهم دائماً في ذكر الله عز وجل، وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضاً في حبور لا نظير له. {فيها عين جارية} وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {جارية} أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
{فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفة. وزرابي مبثوثة} انظر للتقابل {فيها سرر مرفوعة} عالية يجلسون عليها يتفكهون {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} [يس: 56]. {وأكواب موضوعة} الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه {موضوعة} يعني ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها. {ونمارق مصفوفة} النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة أو ما يتكىء عليه. {مصفوفة} على أحسن وجه تلتذ العين بها قبل أن يلتذ البدن بالاتكاء إليها. {وزرابي مبثوثة} الزرابي أعلى أنواع الفرش {مبثوثة} منشورة في كل مكان، ولا تظن أن هذه النمارق، وهذه الأكواب، وهذه السرر، وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا؛ لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الاخرة، ونعلم حقيقته لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الاخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط)، فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا.(31/5)
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الاَْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاَْكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَاحِسَابَهُمْ }.
لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين: وجوه خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية، ووجوه ناعمة لسعيها راضية، وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي إن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة، وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل؛ لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع فقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل} وهي الأباعر {كيف خلقت} يعني كيف خلقها الله عز وجل، هذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي مسافات طويلة لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضاً يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُّمل وهو بارك لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لعلوها، ولكن الله تعالى يسر لهم الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس: {ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} [يس: 73]. منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} ولم يذكر(31/6)
سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظبي وغيرها لأنها أعم الحيوانات نفعاً وأكثرها مصلحة للعباد. {وإلى السماء كيف رفعت} يعني وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم، والشمس، والقمر وغير هذا من الايات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلى الان، ولا نقول إن هذه الايات السماوية هي كل الايات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الان، وقوله: {كيف رفعت} أي رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2]. {وإلى الجبال كيف نصبت} هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، الجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة، فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة ومع ذلك تجد مثلاً هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء سوف تتحرك وتضطرب، وتتدحرج أحياناً، وتنقلب أحياناً لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل في الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الادميون لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها: أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار، أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس، وهذا شيء مشاهد تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، ففيها(31/7)
فوائد عظيمة، وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلاً مهما بلغت صنعتهم، وقوتهم، وقدرتهم، وطال أمدهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال. وقد قال بعض العلماء: إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يُمكّن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح فلهذا يقول الله عز وجل: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 15، 16]. يقول عز وجل: {وإلى الأرض كيف سطحت} أي وانظروا كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة، وجعلها سطحاً واسعاً ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، وما ظنكم لو كانت الأرض صبباً غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى لها ويصعد لكانت شاقة، ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحاً ممهداً للخلق، وقد استدل بعض العلماء بهذه الاية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك فيقول الله عز وجل: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} [الزمر: 5]. والتكوير التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى: {إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت. وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق: 1 ـ 4]. فقال: {وإذا الأرض مدت} وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي مد الجلد حتى لا يكون فيها جبال، ولا أودية، ولا أشجار، ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فقوله: {إذا السماء انشقت} والسماء لا تنشق إلا يوم القيامة وهي(31/8)
الان غير منشقة إذاً قوله: {إذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} يعني يوم القيامة فهي إذاً الان غير ممدودة، إذاً مكورة، والواقع المحسوس المتيقن الان أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت بخط مستقيم من هنا من المملكة متجهاً غرباً لأتيت من ناحية الشرق، تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهاً نحو المشرق وجدتك راجعاً إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب، إذاً فهي الان أمر لا شك فيه أنها كروية.
فإذا قال الإنسان: إذا كانت كما ذكرت كروية فكيف تثبت المياه، مياه البحار عليها وهي كروية؟
نقول في الجواب عن ذلك: الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير، قال بعض أهل العلم: {وإذا البحار سجرت} أي حبست ومنعت من أن تفيض على الناس كالشيء الذي يُسجر (يربط)، وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها. نقول قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم، وإن كانت الأرض كروية.(31/9)
ثم قال عز وجل لما بين من آياته هذه الايات الأربع: الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم {فذكر} أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحداً بالتذكير، أي لم يقل ذكّر فلاناً وفلاناً فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعث إلى الناس كافة، ذكّر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وذكّر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس؟ الجواب: لا، {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55]. أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه، لأن الله يقول: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فإذا ذُكرت ولم تجد من قلبك تأثراً وانتفاعاً فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملاً لانتفعت بالذكرى ، لأن الذكرى لابد أن تنفع المؤمنين. {إنما أنت مذكر} يعني أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مذكراً مبلغاً، وأماالهداية فبيد الله عز وجل، {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272]. وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق من حياته حتى أنه في آخر حياته يقول: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم»، حتى جعل يغرغر بها عليه الصلاة والسلام، فذكّر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث وقيل له {قم فأنذر} [المدثر: 2]. إلى أن توفاه الله، لم يأل جهداً في التذكير في كل موقف، وفي كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ التاريخ ـ السيرة النبوية ـ يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه، ويلقبونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكّموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر قالوا من ينصب(31/10)
الحجر، فتنازعوا بينهم كل قبيلة تقول نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم وأمر أن يوضع رداء وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يلقبونه بالأمين لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول عليه الصلاة والسلام يذكّر وليس عليه إلا التذكير، ومن هنا نأخذ أن الهداية بيد الله، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. فلا تجزع إذا ذكّرنا إنساناً ووجدناه يعاند، أو يخاصم، أو يقول أنا أعمل ما شئت، أو ما أشبه ذلك. قال الله تعالى لنبيه: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3]. لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك ولهذا قال: {لست عليهم بمصيطر} يعني ليس لك سلطة عليهم، ولا سيطرة عليهم، السلطة لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، والسلطان والسيطرة لله عز وجل. {إلا من تولى وكفر. فيعذبه الله العذاب الأكبر} قال العلماء: {إلا} هنا بمعنى لكن يعني أن الاستثناء في الاية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستنثى منه، والمنقطع يكون أجنبيًّا منه، فمثلاً لو قلنا إنه متصل لصار معنى الاية (لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مصيطر) وليس الأمر كذلك بل المعنى: لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر. فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه سيعذب {إلا من تولى وكفر} التولي يعني الإعراض فلا يتجه للحق، ولا يقبل الحق، ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بأذنه لم يسمعه بقلبه كما قال(31/11)
الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 20، 21]. أي لا ينقادون. فهنا يقول عز وجل: {إلا من تولى وكفر} {تولى} أعرض، {وكفر} أي استكبر ولم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام {فيعذبه الله العذاب الأكبر} والعذاب الأكبر يوم القيامة وهنا قال {الأكبر} ولم يذكر المفضل عليه يعني لم يقل الأكبر من كذا فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة، وكل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر. وهناك عذاب أصغر في الدنيا قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه، في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة ولهذا قال بعدها: {إن إلينا إيابهم} أي مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6]. فاستعد يا أخي لهذه الملاقاة لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ـ مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة ـ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه ـ يعني على اليسار ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة»، كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة ويقرره بذنوبه، يقول: فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد ولكن الله تعالى علم بها، فموقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة(31/12)
للسيئات حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى. {ثم إن علينا حسابهم} نحاسبهم، قال العلماء: وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل على كل حساب هلكت، لو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفس، الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة، وبدون أي عناء، الإنسان يتكلم وينام، يأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس، ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، حينئذ يذكر نعمة الله، لكن مادام في عافية يقول هذا شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة: «من نوقش الحساب هلك» أو قال «عذب»، لكن كيفية الحساب: أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه فعلت كذا فعلت كذا، فعلت كذا حتى إذا أقر بها قال الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب لأنه ليس لهم حسنات تمحو سيئاتهم لكنها تحصى عليهم أعمالهم، ويقررون بها أمام العالم، ويحصون بها، وينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاتي العيدين {سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية} وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحياناً في العيدين {ق. والقرآن المجيد} و{اقتربت الساعة وانشق القمر}، وفي الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة هذا، ومرة هذا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والاخرة، إنه على كل شيء قدير.(31/13)
تفسير سورة الفجر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الاَْوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
البسملة: تقدم الكلام عليها.
{والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} كل هذه إقسامات بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، خمسة أشياء أقسم الله تعالى بها، الأول: الفجر {والفجر} هو النور الساطع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس، وبينه وبين طلوع الشمس ما بين ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة، إلى ساعة وسبع عشرة دقيقة، ويختلف باختلاف الفصول، فأحياناً تطول الحصة ما بين الفجر وطلوع الشمس، وأحياناً تقصر حسب الفصول، والفجر فجران: فجر صادق، وفجر كاذب، والمقصود بالفجر هنا الفجر الصادق، والفرق بين الفجر الصادق والكاذب من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: الفجر الكاذب يكون مستطيلاً في السماء ليس عرضاً ولكنه طولاً، وأما الفجر الصادق يكون عرضاً يمتد من الشمال إلى الجنوب.
الفرق الثاني: أن الفجر الصادق لا ظلمة بعده، بل يزداد الضياء حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الكاذب فإنه يحدث بعده ظلمة بعد أن يكون هذا الضياء، ولهذا سمي كاذباً؛ لأنه يضمحل ويزول.(32/1)
الفرق الثالث: أن الفجر الصادق متصل بالأفق، أما الفجر الكاذب فبينه وبين الأفق ظلمة، هذه ثلاثة فروق آفاقية حسية يعرفها الناس إذا كانوا في البر، أما في المدن فلا يعرفون ذلك، لأن الأنوار تحجب هذه العلامات.
وأقسم الله بالفجر لأنه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمة دامسة إلى فجر ساطع، وأقسم الله به لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الفجر إلا الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون} [القصص: 71] وأقسم الله بالفجر لأنه يترتب عليه أحكام شرعية، مثل: إمساك الصائم، فإنه إذا طلع الفجر وجب على الصائم أن يمسك إذا كان صومه فرضاً أو نفلاً إذا أراد أن يتم صومه، ويترتب عليه أيضاً: دخول وقت صلاة الفجر، وهما حكمان شرعيان عظيمان، أهمهما دخول وقت الصلاة، أي أنه يجب أن نراعي الفجر من أجل دخول وقت الصلاة أكثر مما نراعيه من أجل الإمساك في حالة الصوم، لأننا في الإمساك عن المفطرات في الصيام لو فرضنا أننا أخطأنا فإننا بنينا على أصل وهو بقاء الليل، لكن في الصلاة لو أخطأنا وصلينا قبل الفجر لم نكن بنينا على أصل، لأن الأصل بقاء الليل وعدم دخول وقت الصلاة، ولهذا لو أن الإنسان صلى الفجر قبل دخول وقت الصلاة بدقيقة واحدة فصلاته نفل ولا تبرأ بها ذمته، ومن ثَمَّ ندعوكم إلى ملاحظة هذه المسألة، أعني العناية بدخول وقت صلاة الفجر، لأن كثيراً من المؤذنين يؤذنون قبل الفجر وهذا غلط، لأن الأذان قبل الوقت ليس بمشروع لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم»، ويكون حضور الصلاة إذا دخل وقتها، فلو أذن الإنسان قبل دخول وقت الصلاة فأذانه غير صحيح يجب عليه الإعادة، والعناية بدخول الفجر مهمة جداً من أجل مراعاة وقت الصلاة.(32/2)
وقوله تعالى: {وليال عشر} قيل المراد بـ{ليال عشر} عشر ذي الحجة، وأطلق على الأيام ليالي، لأن اللغة العربية واسعة، قد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي، وقيل المراد بـ{ليال عشر} ليال العشر الأخيرة من رمضان، أما على الأول الذين يقولون المراد بالليال العشر عشر ذي الحجة، فلأن عشر ذي الحجة أيام فاضلة قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
وأما الذين قالوا: إن المراد بالليال العشر هي ليال عشر رمضان الأخيرة، فقالوا: إن الأصل في الليالي أنها الليالي وليست الأيام، وقالوا: أن ليال العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر التي قال الله عنها {خير من ألف شهر}، وقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3 ، 4]، وهذا القول أرجح من القول الأول، وإن كان القول الأول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول الجمهور، وإنما يرجح القول الثاني أنها الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأقسم الله بها لشرفها، ولأن فيها ليلة القدر، ولأن المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضة من فرائض الإسلام وأركان الإسلام، فلذلك أقسم الله بهذه الليالي. وقوله: {والشفع والوتر} قيل: إن المراد به كل الخلق، فالخلق إما شفع وإما وتر، والله عز وجل يقول: {ومن كل شيء خلقنا زوجين}. [الذاريات: 49] والعبادات إما شفع وإما وتر، فيكون المراد بالشفع والوتر كل ما كان مخلوقاً من شفع ووتر، وكل ما كان مشروعاً من شفع ووتر، وقيل: المراد بالشفع الخلق كلهم، والمراد بالوتر الله عز وجل.(32/3)
واعلم أن قوله والوتر فيها قراءتان صحيحتان (والوِتر) و(الوَتر) يعني لو قلت (والشفع والوِتر) صح ولو قلت (والشفع والوَتْر) صح أيضاً، فقالوا إن الشفع هو الخلق؛ لأن المخلوقات كلها مكونة من شيئين {ومن كل شيء خلقنا زوجين} والوَتْر أو الوِتر هو الله لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله وتر يحب الوتر»، وإذا كانت الاية تحتمل معنيين ولا منافاة بينهما فلتكن لكل المعاني التي تحتملها الاية، وهذه القاعدة في علم التفسير أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين وأحدهما لا ينافي الاخر فهي محمولة على المعنيين جميعاً. قال تعالى: {والليل إذا يسر} أقسم الله أيضاً بالليل إذا يسري، والسري هو السير في الليل، والليل يسير يبدأ بالمغرب وينتهي بطلوع الفجر فهو يمشي زمناً لا يتوقف، فهو دائماً في سريان، فأقسم الله به لما في ساعاته من العبادات كصلاة المغرب، والعشاء، وقيام الليل، والوتر وغير ذلك، ولأن في الليل مناسبة عظيمة وهي أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول: «من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له» ولهذا نقول: إن الثلث الاخر من الليل وقت إجابة، فينبغي أن ينتهز الإنسان هذه الفرصة فيقوم لله عز وجل يتهجد ويدعو الله سبحانه بما شاء من خير الدنيا والاخرة لعله يصادف ساعة إجابة ينتفع بها في دنياه وأخراه. {هل في ذلك قسم لذي حجر} لذي عقل، {ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد} الخطاب هنا لكل من يوجه إليه هذا الكتاب العزيز وهم البشر كلهم بل والجن أيضاً ألم ترى أيها المخاطب {كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد} يعني ما الذي فعل بهم؟ وعاد قبيلة معروفة في جنوب الجزيرة العربية، أرسل الله تعالى إليهم هوداً عليه الصلاة والسلام فبلغهم الرسالة ولكنهم عتوا وبغوا وقالوا من أشد منا قوة قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا(32/4)
يجحدون} [فصلت: 15]. فهم افتخروا في قوتهم ولكن الله بين أنهم ضعفاء أمام قوة الله ولهذا قال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم} وعبّر ـ والله أعلم ـ بقوله {الذي خلقهم} ليبين ضعفهم وأنه جل وعلا أقوى منهم، لأن الخالق أقوى من المخلوق {أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون}. [فصلت: 15، 16]. والذي فعل الله بعاد أنه أرسل عليهم الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوى فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وهذا الاستفهام الذي لفت الله فيه النظر إلى ما فعل بهؤلاء يراد به الاعتبار يعني اعتبر أيها المكذب للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم بهؤلاء كيف أُذيقوا هذا العذاب، وقد قال الله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 83]. وقوله: {إرم} هذه اسم للقبيلة، وقيل اسم للقرية، وقيل غير ذلك، فسواء كانت اسم للقبيلة أو اسم للقرية فإن الله تعالى نكل بهم نكالاً عظيماً مع أنهم أقوياء. وقوله: {ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} يعني أصحاب {العماد} الأبنية القوية {التي لم يخلق مثلها في البلاد} أي لم يصنع مثلها في البلاد؛ لأنها قوية ومحكمة، وهذا هو الذي غرهم وقالوا: مَن أشد منا قوة؟ وفي قوله: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} مع أن الذي صنعها الادمي دليل على أن الادمي قد يوصف بالخلق فيقال خلق كذا، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في المصورين «يقال لهم أحيوا ما خلقتم»، لكن الخلق الذي ينسب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب إلى الله. الخلق المنسوب إلى الله إيجاد بعد عدم وتحويل وتغيير، أما الخلق المنسوب لغير الله فهو مجرد تحويل وتغيير، وأضرب لكم مثلاً: هذا الباب من خشب، الذي خلق الخشب الله، ولا يمكن للبشر أن يخلقوه، لكن البشر يستطيع أن(32/5)
يحول جذوع الخشب وأغصان الخشب إلى أبواب إلى كرسي وما أشبه ذلك، فالخلق المنسوب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب للخالق؛ لأن الخلق المنسوب للخالق إيجاد من عدم وهذا لا يستطيعه أحد، والمنسوب للمخلوق تغير وتحويل يحول الشيء من صفة إلى صفة، أما أن يغير الذوات بمعنى يجعل الذهب فضة، أو يجعل الفضة حديداً، أو ما أشبه ذلك فهذا مستحيل لا يمكن إلا لله وحده لا شريك له. ثم قال: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} ثمود هم قوم صالح ومساكنهم معروفة الان كما قال تعالى: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} [الحجر: 80]. في سورة (الر) ذكر الله أن ثمود كانوا في بلاد الحجر وهي معروفة مر عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طريقه إلى تبوك وأسرع وقنّع رأسه صلى الله عليه وسلّم وقال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم»، هؤلاء القوم أعطاهم الله قوة حتى صاروا يخرقون الجبال والصخور العظيمة ويصنعون منها بيوتاً ولهذا قال: {جابوا الصخر بالواد} أي: وادي ثمود، وهو معروف، هؤلاء أيضاً فعل الله بهم ما فعل من العذاب والنكال حيث قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ثم بعد الثلاثة الأيام أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعلينا أن نعتبر بحال هؤلاء المكذبين الذين صار مآلهم إلى الهلاك والدمار، وليُعلم أن هذه الأمة لن تُهلك بما أهلكت به الأمم السابقة بهذا العذاب العام، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سأل الله تعالى أن لا يهلكهم بسنة بعامة ولكن قد تهلك هذه الأمة بأن يجعل الله بأسهم بينهم، فتجري بينهم الحروب والمقاتلة، ويكون هلاك بعضهم على يد بعض، لا بشيء ينزل من السماء كما صنع الله تعالى بالأمم السابقة، ولهذا يجب علينا أن نحذر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نبتعد عن كل ما يثير الناس بعضهم على بعض، وأن نلزم دائماً الهدوء، وأن(32/6)
نبتعد عن القيل والقال وكثرة السؤال، فإ ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكم من كلمة واحدة صنعت ما تصنعه السيوف الباترة، فالواجب الحذر من الفتن، وأن نكون أمة متآلفة متحابة، يتطلب كل واحد منا العذر لأخيه إذا رأى منه ما يكره. {وفرعون} فرعون هو الذي أرسل الله إليه موسى عليه الصلاة والسلام، وكان قد استذل بني إسرائيل في مصر، يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، وقد اختلف العلماء في السبب الذي أدى به إلى هذه الفعلة القبيحة، لماذا يقتل الأبناء ويبقي النساء؟! فقال بعض العلماء: إن كهنته قالوا له إنه سيولد في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك على يده فصار يقتل الأبناء ويستبقي النساء.(32/7)
ومن العلماء من قال: إنه فعل ذلك من أجل أن يضعف بني إسرائيل؛ لأن الأمة إذا قُتلت رجالها واستبقيت نسائها ذلت بلا شك، فالأول تعليل أهل الأثر، والثاني تعليل أهل النظر ـ أهل العقل ـ ولا يبعد أن يكون الأمران جميعاً قد صارا علة لهذا الفعل، ولكن بقدرة الله عز وجل أن هذا الرجل الذي كان هلاك فرعون على يده تربى في نفس بيت فرعون، فإن امرأة فرعون التقطته وربته في بيت فرعون، وفرعون استكبر في الأرض وعلا في الأرض وقال لقومه: (أنا ربكم الأعلى) وقال لهم: (ما علمت لكم من إله غيري) وقال لهم: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) يعني موسى (ولا يكاد يبين) قال الله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} [الزخرف: 54]. وقال لقومه مقرراً لهم: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} [الزخرف: 51]. افتخر بالأنهار وهي المياه فأغرق بالماء. {ذي الأوتاد} أي ذي القوة، لأن جنوده كانوا له بمنزلة الوتد، والوتد تربط به حبال الخيمة فتستقر وتثبت، فله جنود أمم عظيمة ما بين ساحر وكاهن وغير ذلك لكن الله سبحانه فوق كل شيء. {الذين طغوا في البلاد} الطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. أي لما زاد الماء حملناكم في الجارية يعني بذلك السفينة التي صنعها نوح عليه الصلاة والسلام، فمعنى {طغوا في البلاد} أي: زادوا عن حدهم واعتدوا على عباد الله. {فأكثروا فيها الفساد} أي: الفساد المعنوي، والفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96]. ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56]. قالوا: لا تفسدوها بالمعاصي، وعلى هذا فيكون قوله {فأكثروا فيها الفساد} أي: الفساد المعنوي، لكن الفساد المعنوي يتبعه(32/8)
الفساد الحسي، وكان فيما سبق من الأمم أن الله تعالى يدمر هؤلاء المكذبين عن آخرهم، لكن هذه الأمة رفع الله عنها هذا النوع من العقوبة وجعل عقوبتها أن يكون بأسهم بينهم، يدمر بعضهم بعضاً، وعلى هذا فما حصل من المسلمين من اقتتال بعضهم بعضاً، ومن تدمير بعضهم بعضاً إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، يسلط الله بعضهم على بعض ويكون هذا عقوبة من الله سبحانه وتعالى، {فصب عليهم ربك} الصب معروف أنه يكون من فوق، والعذاب الذي أتى هؤلا من فوق من عند الله عز وجل {سوط عذاب} السوط هو العصا الذي يضرب به، ومعلوم أن الضرب بالعصا نوع عذاب، لكن هل هذاالسوط الذي صبه الله تعالى على عاد، وثمود، وفرعون، هل هو العصا المعروف الذي نعرف، أو أنه عصا عذاب أهلكهم؟ الجواب: الثاني عصا عذاب أهلكهم وأبادهم. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيما سبق من الأمم عبرة نتعظ بها وننتفع بها، ونكون طائعين لله عز وجل غير طاغين، إنه على كل شيء قدير. {إن ربك لبالمرصاد} الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، يبين الله عز وجل أنه بالمرصاد لكل من طغى واعتدى وتكبر، فإنه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه، وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم منها قوله تبارك وتعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]. وكقول شعيب لقومه: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89]. فسنة الله سبحانه وتعالى واحدة في المكذبين لرسله، المستكبرين عن عبادته هو لهم بالمرصاد، وهذه الاية تفيد التهديد والوعيد لمن حاول، أو لمن استكبر عن عبادة الله، أو كذب خبره.(32/9)
{فَأَمَّا الإِنسَنُ إِذَا مَا ابْتَلهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَالتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}.
ثم قال عز وجل: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} الابتلاء من الله عز وجل يكون بالخير وبالشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. فيُبتلى الإنسان بالخير ليبلوه الله عز وجل أيشكر أم يكفر، ويبتلى بالشر ليبلوه أيصبر أم يفجر، وأحوال الإنسان دائرة بين خير وشر، بين خير يلائمه ويسره، وبين شر لا يلائمه ولا يسره، وكله ابتلاء من الله، والإنسان بطبيعته الإنسانية المبنية على الظلم والجهل إذا ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه يقول {رب أكرمن} يعني أنني أهل للإكرام ولا يعترف بفضل الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78]. لما ذكر بنعمة الله عليه قال: {إنما أوتيته على علم عندي} ولم يعترف بفضل الله، وما أكثر الناس الذين هذه حالهم إذا أكرمهم الله عز وجل ونعمهم، قالوا: هذا إكرام من الله لنا؛ لأننا أهل لذلك، ولو أن الإنسان قال: إن الله أكرمني بكذا اعترفاً بفضله وتحدثاً بنعمته لم يكن عليه في ذلك بأس، لكن إذا قال: أكرمني، يعني أنني أهل للإكرام، كما يقول مثلاً كبير القوم إذا نزل ضيفاً على أحدهم قال: أكرمني فلان؛ لأنني أهل لذلك. {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} يعني ضيق عليه الرزق {فيقول ربي أهانن} يعني يقول إن الله تعالى ظلمني فأهانني ولم يرزقني كما رزق فلاناً، ولم يكرمني كما أكرم فلاناً، فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب(32/10)
بنفسه ويقول هذا حق لي، وعند الشدة لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول {ربي أهانن} وهذا حال الإنسان باعتباره إنساناً، أما المؤمن فليس كذلك، المؤمن إذا أكرمه الله ونعّمه شكر ربه على ذلك، ورأى أن هذا فضل من الله عز وجل وإحسان، وليس من باب الإكرام الذي يقدم لصاحبه على أنه مستحق، وإذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب، وقال هذا بذنبي، والرب عز وجل لم يهني ولم يظلمني، فيكون صابراً عند البلاء، شاكراً عند الرخاء، وفي الايتين إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يتبصر فيقول مثلاً: لماذا أعطاني الله المال؟ ماذا يريد مني؟ يريد مني أن أشكر. لماذا ابتلاني الله بالفقر، بالمرض وما أشبه ذلك؟ يريد مني أن أصبر. فليكن محاسباً لنفسه حتى لا يكون مثل حال الإنسان المبنية على الجهل والظلم ولهذا قال تعالى: {كلا} يعني لم يعطك ما أعطاك إكراماً لك لأنك مستحق ولكنه تفضل منه، ولم يهنك حين قدر عليك رزقه، بل هذا مقتضى حكمته وعدله. ثم قال تعالى: {بل لا تكرمون اليتيم} يعني أنتم إذا أكرمكم الله عز وجل بالنعم لا تعطفون على المستحقين للإكرام وهم اليتامى، فاليتيم هنا اسم جنس، ليس المراد يتيماً واحداً بل جنس اليتامى، واليتيم قال العلماء: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه من ذكر أو أنثى، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، وقوله تعالى: {اليتيم} يشمل الفقير من اليتامى، والغني من اليتامى لأنه ينبغي الإحسان إليه وإكرامه لأنه انكسر قلبه بفقد أبيه ومن يقوم بمصالحه، فأوصى الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي أصابه. {ولا تحاضون على طعام المسكين} يعني لا يحض بعضكم بعضاً على أن يطعم المسكين، وإذا كان لا يحض غيره فهو أيضاً لا يفعله بنفسه، فهو لا يطعم المسكين ولا يحض على طعام المسكين، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نكرم الأيتام، وأن يحض بعضنا بعضاً على إطعام المساكين؛ لأنهم في حاجة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون(32/11)
أخيه. {وتأكلون التراث أكلاً لما} {التراث} ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، أو باع واشترى وكسب، أو خرج إلى البر وأتى بما يأتي به من عشب وحطب وغير ذلك، فالتراث ما يرثه الإنسان، أو ما يورثه الله الإنسان من المال فإن بني آدم يأكلونه أكلاً لما، وأما المال فقال: {وتحبون المال حبًّا جًّما} أي عظيماً، وهذا هو طبيعة الإنسان، لكن الإيمان له مؤثراته قد يكون الإنسان بإيمانه لا يهتم بالمال وإن جاءه شكر الله عليه، وأدى ما يجب وإن ذهب لا يهتم به، لكن طبيعة الإنسان من حيث هو كما وصفه الله عز وجل في هاتين الايتين.
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاَْرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى}.(32/12)
{كلا إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا. وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة {إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا} حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، تُدك الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تمد الأرض كمد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر في هذا اليوم {يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمت لحياتي} ولكن قد فات الأوان، لأننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهلة يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره، كما قال مؤمن آل فرعون {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار} [غافر: 39]. متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الان مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعاً ويمضي جميعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقرًّا، إلى الأجداث إلى القبور ومع هذا فإنها ليست محل استقرار لقول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر} [التكاثر: 1، 2]. سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الاية فقال: (والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقة لهذا المكان)، وهذا استنباط قوي وفهم جيد يؤيده الايات الكثيرة الصريحة في ذلك كقوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15، 16]. وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال: {وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا} أي صفًّا بعد صف، {وجاء ربك} هذا المجيء هو مجيئه ـ عز وجل ـ لأن الفعل أسند إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته كل ما أسنده الله إلى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عز وجل، وليس كما حرفه أهل التعطيل حيث قالوا إنه جاء(32/13)
أمر الله، فإن هذا إخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلّم على ظاهره وأن لا نحرف فيه. ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به لا ندري كيف يجيء؟ والسؤال عن مثل هذا بدعة كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حين سُئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ـ يعني العرق ـ لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤال عظيم سؤال متنطع، سؤال متعنت أو مبتدع يريد السوء، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، الشاهد الكلمة الأخيرة ـ السؤال عنه بدعة ـ واعتبر هذا في جميع صفات الله فلو سألنا سائل قال: إن الله يقول: {لما خلقت بيدي} [ص 75]. يعني آدم، كيف خلقه بيده؟ نقول: هذا السؤال بدعة، قال: أنا أريد العلم لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي فأريد أن أعلم كيف خلقه؟ نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟ إما أن يقول نعم، وإما أن يقول لا، والمتوقع أن يقول لا. هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عز وجل أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ سيقول: الرسول، إذاً الصحابة أحرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه إليه السؤال أعلم من الذي تسأله ومع ذلك ما سألوا؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه في الأمور المعقولة {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110]. وفي الأمور المحسوسة: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. فنقول: يا أخي إلزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده؟ فإن هذا السؤال بدعة، وكذلك بقية الصفات لو سأل كيف عين الله عز وجل؟ قلنا له:(32/14)
هذا بدعة، لو سأل كيف يد الله عز وجل قلنا: هذا بدعة وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عز وجل. لما قال هنا في الاية الكريمة {وجاء ربك} وسأل كيف يجيء؟ نقول: هذا بدعة ـ هذه القاعدة التزموها ـ وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الاية {وجاء ربك} أن نؤمن بأن الله يجيء لكن على أي كيفية الله؟ الله أعلم. والدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. فنحن نعلم النفي ولا نعلم الإثبات، يعني نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا، وقوله: {الملك} (ال) هنا للعموم يعني جميع الملائكة يأتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية وهلم جرا يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم، تنزل الملائكة يحيطون بالخلق، وهذا اليوم يوم مشهود يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء {وإذا الوحوش حشرت} [التكوير: 5]. فهو يوم عظيم لا ندركه الان ولا نتصوره لأنه أعظم مما نتصور. الأمر الثالث مما به الإنذار في هذا اليوم بعد أن عرفنا الأمر الأول وهو مجيء الله، ثم صفوف الملائكة قال: {وجيء يومئذ بجهنم} {جيء يومئذ} ولم يذكر الجائي لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام منها يقوده سبعون ألف ملك، وما أدراك ما قوة الملائكة؟ قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان {أنا آتيك به} بعرش بلقيس {قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًّا عنده} [النمل: 39، 40]. قال العلماء: لأن الرجل هذا دعا(32/15)
الله، فحملته الملائكة من اليمن فجاءت به إلى سليمان في الشام، فقوة الملائكة عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، إذاً هي عظيمة، هذه النار إذا رأت أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وليست كزفير الطائرات أو المعدات، زفير تنخلع منه القلوب، {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} [الملك: 8]. وقال الله عز وجل: {تكاد تميز من الغيظ} تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار: مجيء الرب جل جلاله، صفوف الملائكة، الثالث: الإتيان بجهنم. {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} يعني إذا جاء الله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكة صفوفاً صفوفاً، وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان، يتذكر أنه وعد بهذا اليوم، وأنه أعلم به من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنذروا وخوفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية، حينئذ يتذكر لكن يقول الله عز وجل {وأنى له الذكرى} أين يكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أخبر عنه يقيناً؟! وأنى له الاتعاظ فات الأوان؟! والإيمان عن مشاهدة لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]. فيصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل وعن اليوم الاخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان ولكن قال الله عز وجل: {أنى له الذكرى} أي بعيد أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق يقول الإنسان: {يا ليتني قدمت لحياتي} يتمنى أنه قدم لحياته وما هي حياته؟ أهي حياة الدنيا؟ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وقضت، وليست الحياة الدنيا حياة في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صفو يعقبه كدر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرق، انظروا ما حصل أين الاباء؟ أين الإخوان؟ أين الأبناء؟ أين الأزواج؟(32/16)
هل هذه حياة؟ ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء:
لا طيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم، نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب عُمّروا لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرقُ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم، لكنهم في حالة بؤس، وهكذا كل نسان إما أن يموت مبكراً، وإما أن يُعمّر فيرد إلى أرذل العمر فهل هذه حياة؟ الحياة هي ما بينه الله عز وجل: {وإن الدار الاخرة لهي الحيوان} يعني لهي الحياة التامة {لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]. يقول هذا: {يا ليتني قدمت لحياتي} يتمني لكن لا يحصل {أنى له الذكرى}. قال تعالى: {فيومئذ لا يعذِّب عذابه أحد، ولا يُوثَق وثاقه أحد} فيها قراءتان: الأولى {لا يعذِّب عذابه أحد ولا يوثِقُ وَثاقه أحد} أي لا يعذب عذاب الله أحد، بل عذاب الله أشد، ولا يوثق وثاق الله أحد، بل هو أشد. القراءة الثانية: {لا يعذَّب عذابه أحد ولا يُوثَق وثاقه أحد} يعني في هذا اليوم لا أحد يعذب عذاب هذا الرجل، ولا أحد يوثق وثاقه، ومعلوم أن هذا الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، لأنه يُلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في شدة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها يذهبون إليها سراعاً يريدون أي شيء؟ يريدون الشرب، فإذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [الزمر: 71]. قد قامت عليكم الحجة فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي قبل أن يذوقوا ألم النار، وفي النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخاً أعظم من هذا. ويقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا(32/17)
وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} قال الله تعالى وهو أرحم الراحمين: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 106 ـ 108]. أبلغ من هذا الإذلال {اخسئوا فيها ولا تكلمون} يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن؟! لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن أهون أهل النار عذاباً من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحداً أشد منه عذاباً يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم عذاباً، وعليه نعلان يغلي منهما الدماغ، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد ـ أجارنا الله وإياكم من النار ـ {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} لأنهم ـ والعياذ بالله ـ يوثقون {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} [الحاقة: 32]. أدخلوه في هذه السلسلة تغل أيديهم ـ نسأل الله العافية ـ ولا أحد يتصور الان ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب. إذن على الإنسان أن يستعد قبل أن {يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.(32/18)
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} {ارجعي إلى ربك} يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهل خروجها من البدن، لأنها بشرت بما هو أنعم مما في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، سوط الإنسان العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والملك، والرفاهية وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيم لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. {النفس المطمئنة} يعني المؤمنة الامنة، لأنك لا تجد نفسًا أطمن من نفس المؤمن أبداً، المؤمن نفسه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلّم من المؤمن قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيراً له»، مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً، لكن الكافر أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جزع وسخط، ورأى أنه مظلوم من قبل الله ـ والعياذ بالله ـ حتى إن بعضهم ينتحر ولا يصبر، ولا يطمئن، بل يكون دائماً في قلق، ينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال، قليل العيال ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لست في نعمة، لأن فلانًا عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي، فلا يرى لله عليه نعمة، لأنه ضعيف الإيمان فليس(32/19)
بمطمئن، دائماً في قلق، ولهذا نجد الناس الان يذهبون إلى كل مكان ليرفهوا عن أنفسهم ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لايزيل ذلك حقاًّ إلا الإيمان، الإيمان الحقيقي الذي يؤدي إلى الطمأنينة، فالنفس المطمئنة هي المؤمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، قال بعض السلف كلمة عجيبة قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم، لا يوجد أحد أنعم منهم في الظاهر يعني نعومة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوب مرقع، وكوخ لا يحميه من المطر، ولا من الحر، ولكنه مؤمن، دنياه ونعيمه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبه مستنير بنور الله، بنور الإيمان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حبس وأوذي في الله عز وجل، فلما أدخل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد: 13]. يقول هذا تحدثاً بنعمة الله لا افتخاراً ثم قال: (ما يصنع أعدائي بي ـ أي شيء يصنعون ـ إن جنتي في صدري ـ أي الإيمان والعلم واليقين ـ وإن حبسي خلوة، ونفيي ـ إن نفوه من البلد ـ سياحة وقتلي شهادة) هذا هو اليقين، هذه الطمأنينة، والإنسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي، ما مستقبل أولادي، وأهلي، وقومي، وشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: (جنتي في صدري) وصدق. ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56]. يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ومعلوم أن الجنة لا موت فها لا أولى ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والاخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة. {راضية} بما أعطاك الله من النعيم {مرضية} عند الله عز وجل كما قال تعالى: {رضي الله عنهم(32/20)
ورضوا عنه} [المجادلة: 22]. {فادخلي في عبادي} أي: ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم، لأن الصالحين من عباد الله الذين أنعم الله عليهم، الذين هم خير طبقات البشر، والبشر طبقاته ثلاث: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون، وكل هذه الطبقات مذكورة في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
الطبقة الأولى: الذين أنعم الله عليهم وهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.
والثانية: {المغضوب عليهم} وهم اليهود وأشباه اليهود من كل من علم الحق وخالفه، فكل من علم الحق وخالفه ففيه شبه من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
والثالثة: {الضالون} وهم النصارى الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عموا عنه، ما اهتدوا إليه، قال ابن عيينة: وكل من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العبّاد يريدون الخير يريدون العبادة لكن لا علم عندهم، فهم ضالون.(32/21)
{ادخلي في عبادي} أي الطبقة الأولى المنعم عليهم. {وادخلي جنتي} أي جنته التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، وإعلاماً للخلق بعنايته بها جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقاً غير خلق الدنيا، خلق لنا في الدنيا فاكهة، ونخل، ورمان، وفي الجنة فاكهة، ونخل، ورمان ولكن ما في الجنة ليس كالذي في الدنيا أبداً، لأن الله يقول: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم، إذاً هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة ولا في الكيفية ولهذا قال: {ادخلي جنتي} فأضافها الله إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله التي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها الله إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلّم: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: لقد سألت عن عظيم، وهو عظيم، {فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185]. وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وذكر الحديث، فالدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمّارة بالسوء، والشهوات، والشبهات، هي التي تحول بيننا وبين ديننا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.(32/22)
تفسير سورة البلد
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَينِ}.
البسملة: تقدم الحديث عليها.(33/1)
{لا أقسم بهذا البلد} {لا} للاستفتاح، أي: استفتاح الكلام وتوكيده، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني أنا أقسم بهذا البلد لكن (لا) هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد و{أقسم} القسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص. فكل شيء محلوف به لابد أن يكون معظماً لدى الحالف، وقد لا يكون معظمًا في حد ذاته. فمثلاً الذين يحلفون باللات والعزى هي معظمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظمة. فالحلف، أو القسم، أو اليمين المعنى واحد، هي تأكيد الشيء بذكر معظم عند الحالف على صفة مخصوصة. وحروف القسم هي: الباء، والواو، والتاء، والذي في الاية الكريمة هنا {لا أقسم بهذا البلد} (الباء). {بهذا البلد} البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجدير بهذا البلد الأمين أن يقسم به. ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق. كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، أما الله عز وجل فإنه سبحانه يقسم بما شاء، ولهذا أقسم هنا بمكة {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} قيل المعنى: أقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه، لأن حلول النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة يزيدها شرفاً إلى شرفها. وقيل المعنى: وأنت تستحل هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حال كونها حلاًّ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عام الفتح أُحلت للرسول عليه الصلاة والسلام ولم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعد ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: «وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»، فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيداً بما إذا كانت حلاًّ للرسول صلى الله عليه وسلّم عام الفتح؛ لأنها في ذلك اليوم تزداد شرفاً إلى(33/2)
شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام وهزم المشركون، وفتحت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلد كفر صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بلاد شرك صارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حال لمكة كانت عند الفتح. {ووالد وما ولد} يعني وأقسم بالوالد وما ولد، فمن المراد بالوالد ومن المراد بالولد؟
قيل: المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم وعلى هذا تكون (ما) بمعنى (من) أي: ووالد ومن ولد، لأن (من) للعقلاء، و(ما) لغير العقلاء.
وقيل: المراد بالوالد وما ولد كل والد وما ولد، الإنسان والبهائم وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل، كيف يخرج هذا المولود حيًّا سويًّا سميعاً بصيراً من نطفة من ماء، فهذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل، هذا الولد السوي يخرج من نطفة {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [يس: 77]. كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفة هزيلة، ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حد. والصحيح أن هذه عامة تشمل كل والد وكل مولود {لقد خلقنا الإنسان في كبد} اللام هنا واقعة في جواب القسم، لتزيد الجملة تأكيداً، و(قد) تزيد الجملة تأكيداً أيضاً فتكون جملة {لقد خلقنا الإنسان} مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم، واللام، وقد. {خلقنا الإنسان} الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم {في كبد} فيها معنيان:
المعنى الأول: في استقامة، يعني أنه خلق على أكمل وجه في الِخلقة، مستقيماً يمشي على قدميه، ويرفع رأسه، وبدنه معتدلاً. والبهائم بالعكس الرأس على حذاء الدبر، أما بنو آدم فالرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. [التين: 4].(33/3)
وقيل: المراد بـ{كبد} مكابدة الأشياء ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، وفي طلب الرزق، وفي إصلاح الحرث وغير ذلك. ويعاني أيضاً معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا الجهاد الذي هو أشق من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتلي الإنسان ببيئة منحرفة وصار بينهم غريباً، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضاً.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الاية شاملة للمعنيين؟(33/4)
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدت في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة فاحملها على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح. فمثلاً، قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. (قروء) جمع قرء بفتح القاف فما هو (القرء)؟ قيل: هو الحيض، وقيل: هو الطهر. هنا لا يمكن أن تحمل الاية على المعنيين جميعاً للتناقض، لكن اطلب المرجح لأحد القولين وخذ به. فهنا نقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} يصح أن تكون الاية شاملة للمعنيين أي في حسن قامة واستقامة، و{في كبد} في معاناة لمشاق الأمور. {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} أي: أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يقدر عليه أحد، لأنه في عنفوان شبابه وقوته وكبريائه وغطرسته، فيقول لا أحد يقدر علي، أنا أعمل ما شئت، ومنه قوله تبارك وتعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة}. قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15]. إذاً، فالإنسان في حال صحته وعنفوان شبابه يظن أنه لا يقدر عليه أحد، حتى الرب عز وجل يظن أنه لا يقدر عليه، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، أما المؤمن فإنه يعلم أن الله قادر عليه، وأنه على كل شيء قدير فيخاف منه. {يقول} أي يقول الإنسان أيضاً في حال غناه وبسط الرزق له {أهلكت مالاً لبداً} أي: مالاً كثيراً في شهواته وفي ملذاته. يقول الله عز وجل: {أيحسب أن لم يره أحد} أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال، وصرفه في ما لا ينفع، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس، وأن يستكبر من أجل قوته البدنية، أو كثرة ماله. قال الله تعالى: {ألم نجعل له عينين. ولساناً وشفتين. وهديناه النجدين}. هذه ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان {ألم نجعل له عينين} يعني يبصر بهما ويرى فيهما، وهاتان العينان تؤديان إلى القلب ما نظر إليه الإنسان، فإن نظر نظرة محرمة كان(33/5)
آثماً، وإن نظر نظراً يقربه إلى الله كان غانماً، وإذا نظر إلى ما يباح له فإنه لا يحمد ولا يذم ما لم يكن هذا النظر مفضياً إلى محظور شرعي فيكون آثماً بهذا النظر. {ولساناً وشفتين} لساناً ينطق به، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذه من نعم الله العظيمة، لأنه بهذا اللسان والشفتين يستطيع أن يعبر عما في نفسه، ولولا هذا ما استطاع، لو كان لا يتكلم فكيف يعبر عما ما في قلبه؟ كيف يعلم الناس بما في نفسه؟ اللهم إلا بإشارة تتعب، يتعب المشير ويتعب الذين أشير إليهم. ولكن من نعمة الله أن جعل له لساناً ناطقاً، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذا من نعمة الله، وهو أيضاً من عجائب قدرته: يأتي النطق من هواء يكون من الرئة يخرج من مخارج معينة، إن مر بشيء صار حرفاً، وإن مر بشيء آخر صار حرفاً آخر، وهو هواء واحد من مخرج واحد، لكن يمر بشعيرات دقيقة في الحلق، وفي الشفتين، وفي اللثة هذه الشعرات تكون الحروف. فتجد مثلاً الباء والشين كلها بهواء يندفع من الرئة ومع ذلك تختلف باختلاف ما تمر عليه في هذا الفم، ومخارج الحروف المعروفة، هذا من تمام قدرة الله عز وجل. {وهديناه النجدين} قيل: أي بينا له طريق الخير، وطريق الشر. القول الثاني: {هديناه النجدين} دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر، فهداه الله تعالى وهو رضيع لا يعرف، فمن حين أن يخرج وتضعه أمه يطلب الثدي، والذي أعلمه الله عز وجل، فبين الله عز وجل منته على هذا الإنسان من حين أن يخرج يهتدي إلى النجدين. وفي بطن أمه يتغذى عن طريق السرة؛ لأنه لا يستطيع أن يتغذى من غير هذا، فلو تغذى عن طريق الفم لاحتاج إلى بول وغائط، وكيف ذلك؟ لكنه عن طريق السرة يأتيه الدم من دم أمه وينتشر في عروقه حتى يحيا إلى أن يأذن الله تعالى بإخراجه.(33/6)
{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَِايَتِنَا هُمْ أَصْحَبُ الْمَشَْمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ}.
{فلا اقتحم العقبة} أي الإنسان الذي كان يقول {أهلكت مالاً لبداً} {فلا اقتحم العقبة} يعني هلا اقتحم العقبة؟ والاقتحام هو التجاوز بمشقة يسمى اقتحاماً. و{العقبة} هي الطريق في الجبل الوعر ولا شك أن اقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، لا يتجاوزه أو لا يقوم به إلا من كان عنده نية صادقة في تجاوز هذه العقبة. {وما أدراك ما العقبة} هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضاً، يعني: ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة التي قال الله عنها {فلا اقتحم العقبة} بينها الله في قوله {فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا} فقوله: {فك رقبة} هي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: «هي فك رقبة» وفك الرقبة له معنيان:
المعنى الأول: فكها من الرق، بحيث يعتق الإنسان العبيد المملوكين سواء كانوا في ملكه فيعتقهم، أو كانوا في ملك غيره فيشتريهم ويعتقهم.(33/7)
المعنى الثاني: فك رقبة من الأسير، فإن فكاك الأسير من أفضل الأعمال إلى الله عز وجل. والأسير ربما لا يفكه العدو إلا بفدية مالية، وربما تكون هذه الفدية فدية باهظة كثيرة لا يقتحمها إلا من كان عنده إيمان بالله عز وجل بأن يخلف عليه ما أنفق، وأن يثيبه على ما تصدق. {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} {أو} هذه للتنويع يعني وإما {إطعام في يوم ذي مسغبة} أي: ذي مجاعة شديدة، لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة، إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع، وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا قد وقع فيما نسمع عنه في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضاً. أن الناس يأكلون ولا يشبعون، يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع، ويموتون من الجوع في الأسواق ويتساقطون في الأسواق من الجوع، هذه من المساغب. أو قلة المحصول بحيث لا تثمر الأشجار، ولا تنبت الزروع، فيقل الحاصل وتحصل المسغبة، ويموت الناس جوعاً، وربما يهاجرون عن بلادهم. {يتيماً} اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ سواءً كان ذكراً أم أنثى. فإن بلغ فإنه لا يكون يتيماً؛ لأنه بلغ وانفصل. وكذلك لو ماتت أمه فإنه لا يكون يتيماً، خلافاً لما يظنه بعض العامة، أن اليتيم من ماتت أمه وهذا ليس بصحيح، فاليتيم من مات أبوه؛ لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسب من الخلق يكسب له. وقوله: {ذا مقربة} ذا قرابة من الإنسان لأنه إذا كان يتيماً كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريباً ازداد حظه من ذلك؛ لأنه يكون واجب الصلة، فمن جمع هذين الوصفين اليتم والقرابة فإن الإنفاق عليه من اقتحام العقبة إذا كان ذلك في يوم ذي مسغبة. {أو مسكيناً ذا متربة} يعني: أو إطعام في يوم ذي مسغبة {مسكيناً ذا متربة}، المسكين: هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله. المتربة: مكان التراب، والمعنى: أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب. ومعلوم أنه إذا قيل عن الرجل: ليس عنده إلا التراب، فالمعنى: أنه فقير جداً ليس(33/8)
عنده طعام، وليس عنده كساء، وليس عنده مال فهو مسكين ذو متربة. {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} {ثم كان} يعني: ثم هو بعد ذلك ليس محسناً على اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان، آمن بكل ما يجب الإيمان به. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي يجب الإيمان به، فقال حين سأله جبريل عن الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره». وقوله: {وتواصوا بالصبر} أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فهم صابرون متواصون بالصبر بهذه الأنواع: الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة. وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة، في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام صابر على طاعة الله، يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب، حتى هم المشركون بقتله وهو مع ذلك صابر محتسب، وهو أيضاً صابر عن معصية الله، لا يمكن أن يغدر بأحد، ولا أن يكذب أحداً، ولا أن يخون أحداً، وهو أيضاً متق لله تعالى بقدر ما يستطيع. كذلك صابر على أقدار الله، كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته، أليست قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجداً تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلا ناقة فيضعه على ظهره، وهو ساجد عليه الصلاة والسلام؟! وهو صابر في ذلك كله. ويوسف عليه الصلاة والسلام، صبر على أقدار الله فقد أُلقي في البئر في غيابة الجب، وأوذي في الله بالسجن، ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به. وقوله: {وتواصوا بالمرحمة} أي: أوصى بعضهم بعضاً أن يرحم الاخر، ورحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق. فهو يرحم آباءَه، وأمهاته، وأبناءَه، وبناته، وإخوانه، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وهكذا. ويرحم كذلك سائر(33/9)
البشر، وهو أيضاً يرحم الحيوان البهيم فيرحم ناقته، وفرسه، وحماره، وبقرته، وشاته، وغير ذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». {أولئك} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات {أصحاب الميمنة} أي: أصحاب اليمين، الذين يُؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً. ثم قال عز وجل: {والذين كفروا بآياتنا} أي: جحدوا بها {هم أصحاب المشئمة} {هم}: الضمير هنا جاء للتوكيد، ولو قيل في غير القرآن: والذين كفروا بآياتنا أصحاب المشئمة. لصح لكن هذا من باب التوكيد. {المشئمة} يعني: الشمال أو الشؤم. {عليهم نار مؤصدة} أي عليهم نار مغلقة، لا يخرجون منها ولا يستطيعون، نسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة إنه سميع مجيب.(33/10)
تفسير سورة الشمس
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَهَا * وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَهَا * وَالاَْرْضِ وَمَا طَحَهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّهَا}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والشمس وضحاها} أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وهو ضؤها لما في ذلك من الايات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وكمال علمه ورحمته. فإن في هذه الشمس من الايات ما لا يدركه بعض الناس، فإذا طلعت الشمس فكم توفر على العالم من طاقة كهربائية؟ توفر آلاف الملايين، لأنهم يستغنون بها عن هذه الطاقة، وكم يحصل للأرض من حرارتها، من نضج الثمار، وطيب الأشجار، ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويحصل فيها فوائد كثيرة لا أستطيع أن أعدها؛ لأن غالبها يتعلق في علم الفلك وعلم الأرض والجيولوجيا لكنها من آيات اللهالعظيمة.
{والقمر إذا تلاها}. قيل: إذا تلاها في السير.(34/1)
وقيل: إذا تلاها في الإضاءة، ومادامت الاية تحتمل هذا وهذا فإن القاعدة في علم التفسير أن الاية إذا احتملت معنيين لا تعارض بينهما وجب الأخذ بهما جميعاً، لأن الأخذ بالمعنيين جميعاً أوسع للمعنى. فنقول: إذا تلاها في السير؛ لأن القمر يتأخر كل يوم عن الشمس، فبينما تجده في أول الشهر قريباً منها في المغرب، إذا هو في نصف الشهر أبعد ما يكون عنها في المشرق، لأنه يتأخر كل يوم. أو إذا تلاها في الإضاءة، لأنها إذا غابت بدأ ضوء القمر لاسيما في الربع الثاني إلى نهاية الربع الثالث فإن ضوء القمر يكون بيناً واضحاً. يعني: إذا مضى سبعة أيام إلى أن يبقى سبعة أيام يكون الضوء قويًّا، وأما في السبعة الأولى والأخيرة فهو ضعيف، وعلى كل حال فإن إضاءة القمر لا تكون إلا بعد ذهاب ضوء الشمس كما هو ظاهر. فأقسم الله تعالى بالشمس لأنها آية النهار، وبالقمر لأنه آية الليل. {والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها} متقابلات، {والنهار إذا جلاها} إذا جلى الأرض وبينها ووضحها؛ لأنه نهار تتبين به الأشياء وتتضح {والليل إذا يغشاها} إذا يغطي الأرض حتى يكون كالعباءة المفروشة على شيء من الأشياء، وهذا يتضح جلياً فيما إذا غابت الشمس وأنت في الطائرة تجد أن الأرض سوداء تحتك، لأنك أنت الان تشاهد الشمس لارتفاعك، لكن الأرض التي تحتك حيث غربت عليها الشمس تجدها سوداء كأنها مغطاة بعباءة سوداء وهذا معنى قوله: {والليل إذا يغشاها}. {والسماء وما بناها. والأرض...} السماء والأرض متقابلات. {والسماء وما بناها} قال المفسرون: إن {ما} هنا مصدرية أي: والسماء وبنائها؛ لأن السماء عظيمة بارتفاعها وسعتها وقوتها، وغير ذلك مما هو من آيات الله فيها، وكذلك بناؤها بناء محكم، كما قال تبارك وتعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}. [الملك: 3، 4]. {والأرض وما طحاها} يعني: الأرض وما(34/2)
سواها حتى كانت مستوية، وحتى كانت ليست لينة جداً، وليست قوية صلبة جداً، بل هي مناسبة للخلق على حسب ما تقوم به حوائجهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده أن سوى لهم الأرض وجعلها بين اللين والخشونة إلا في مواضع لكن هذا القليل لا يحكم به على الكثير. {ونفس وما سواها} نفس هنا وإن كانت واحدة لكن المراد العموم. يعني كل نفس {وما سواها} يعني سواها خِلقة وسواها فطرة، سواها خلقة حيث خلق كل شيء على الوجه الذي يناسبه ويناسب حاله. قال الله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه} أي خلقه المناسب له {ثم هدى} [طه: 50]. أي: هداه لمصالحه، وكذلك سواه فطرة ولا سيما البشر فإن الله جعل فطرتهم هي الإخلاص والتوحيد كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها}. [الروم: 30]. {فألهمها} أي الله عز وجل ألهم هذه النفوس {فجورها وتقواها} بدأ بالفجور قبل التقوى مع أن التقوى لا شك أفضل، قالوا: مراعاة لفواصل الايات. {فجورها وتقواها} الفجور هو ما يقابل التقوى، والتقوى طاعة الله، فالفجور معصية الله، فكل عاص فهو فاجر. وإن كان الفاجر خصَّ عرفاً بأنه من ليس بعفيف، لكن هو شرعاً يعم كل من خرج عن طاعة الله كما قال تعالى: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} [المطففين: 7].والمراد الكفار. وألهامها تقواها هو الموافق للفطرة؛ لأن الفجور خارج عن الفطرة، لكن قد يلهمه الله بعض النفوس لانحرافها لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]. والله تعالى لا يظلم أحدًا، لكن من علم منه أنه لا يريد الحق أزاغ الله قلبه. {قد أفلح من زكاها} {قد أفلح} أي: فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب، {من زكاها} أي: من زكى نفسه، وليس المراد بالتزكية هنا التزكية المنهي عنها في قوله: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم: 32]. المراد بالتزكية هنا: أن يزكي نفسه بإخلاصها من الشرك وشوائب المعاصي، حتى تبقى زكية طاهرة نقية. {وقد خاب من دساها} أي(34/3)
من أرداها في المهالك والمعاصي، وهذا يحتاج إلى دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبت الإنسان على طاعته، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة. فعليك دائماً أن تسأل الله الثبات والعلم النافع، والعمل الصالح فإن الله تعالى قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. [البقرة: 186].
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَهَا}.(34/4)
{كذبت ثمود بطغواها} {كذبت ثمود} ثمود اسم قبيلة ونبيهم صالح عليه الصلاة والسلام، وديارهم في الحجر معروفة في طريق الناس، هؤلاء كذبوا نبيهم صالًحا. ونبيهم صالح عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأعطاه الله سبحانه آية تدل على نبوته وهي الناقة العظيمة التي تشرب من البئر يوماً وتسقيهم لبناً في اليوم الثاني. وقد قال بعض العلماء: إنه كلما جاء إنسان وأعطاها من الماء بقدر أعطته من اللبن بقدره، ولكن الذي يظهر من القرآن خلاف ذلك. لقوله تعالى: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء: 155]. فالناقة تشرب من البئر يوماً، ثم تدر اللبن في اليوم الثاني، ولكن لم تنفعهم هذه الاية: {كذبت ثمود بطغواها} أي بطغيانها وعتوها، والباء هنا للسببية، أي: بسبب كونها طاغية كذبت الرسول. {إذ انبعث أشقاها} هذا بيان للطغيان الذي ذكره الله عز وجل وذلك حين انبعث أشقاها. و{انبعث} يعني: انطلق بسرعة. {أشقاها} أي أشقى ثمود أي: أعلاهم في الشقاء ـ والعياذ بالله ـ يريد أن يقضي على هذه الناقة. فقال لهم صالح: {ناقة الله وسقياها} أي ذروا ناقة الله، لقوله تعالى في آية أخرى: {فذروها تأكل في أرض الله} [الأعراف: 73]. يعني اتركوا الناقة لا تقتلوها ولا تتعرضوا لها بسوء ولكن كانت النتيجة بالعكس. {فكذبوه} أي: كذبوا صالحاً وقالوا: إنك لست برسول، وهكذا كل الرسل الذين أرسلوا إلى أقوامهم يصمهم أقوامهم بالعيب. كما قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون}. [الذاريات: 52]. كل الرسل قيل لهم هذا ساحر أو مجنون، كما قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، كاهن، ولكن ألقاب السوء التي يلقبها الأعداء(34/5)
لأولياء الله لا تضرهم، بل يزدادون بذلك رفعة عند الله سبحانه وتعالى، وإذا احتسبوا الأجر أثيبوا على ذلك. فيقول عز وجل: {فعقروها} أي: عقروا الناقة عقراً حصل به الهلاك. {فدمدم عليهم ربهم} يعني: أطبق عليهم فأهلكهم كما تقول: دمدمت البئر: أي أطبقت عليها التراب. {بذنبهم} أي: بسبب ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالذنوب سبب للهلاك والدمار والفساد لقول الله تبارك وتعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]. وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}. [الإسراء: 16]. وقال الله تعالى يخاطب أشرف الخلق وخير القرون: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. [آل عمران: 165]. فالإنسان يصاب بالمصائب من عند نفسه، ولهذا قال: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم} أي: بسبب ذنبهم. {فسواها} أي: عمها بالهلاك حتى لم يبق منهم أحد وأصبحوا في ديارهم جاثمين. {ولا يخاف عقباها} يعني: أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم، ولا يخاف من تبعتهم، لأن له الملك وبيده كل شيء، بخلاف غيره من الملوك لو انتصروا على غيرهم، أو عاقبوا غيرهم تجدهم في خوف يخشون أن تكون الكرة عليهم. أما الله عز وجل فإنه لا يخاف عقباها. أي: لا يخاف عاقبة من عذبهم، لأنه سبحانه وتعالى له الملك كله، والحمد كله، فسبحانه وتعالى ما أعظمه، وما أجل سلطانه.(34/6)
تفسير سورة الليل
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والليل إذا يغشى} أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه، لأن الغشاء بمعنى الغطاء. {والنهار إذا تجلى} أي: إذا ظهر وبان، وذلك بطلوع الفجر الذي هو النور الذي هو مقدمة طلوع الشمس، والشمس هي آية النهار كما أن القمر آية الليل. {وما خلق الذكر والأنثى} يعني وخَلْق الذكر والأنثى على أحد التفسيرين الذي جعل (ما) هنا مصدرية، والذي خَلَق الذكر والأنثى وهو الله عز وجل على التفسير الاخر. فعلى المعنى الأول: يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بخلق الذكر والأنثى. وعلى الثاني: يكون الله تعالى أقسم بنفسه، لأنه هو الذي خلق الذكر والأنثى. {إن سعيكم لشتى} يعني إن عملكم {لشتى} أي لمتفرق تفرقاً عظيماً.(35/1)
فالله عز وجل أقسم بأشياء متضادة على أشياء متضادة: الليل ضد النهار، الذكر ضد الأنثى، السعي متضاد صالح وسيىء، فتناسب المقسم به والمقسم عليه، وهذا من بلاغة القرآن. فالمعنى أن اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى أمر ظاهر لا يخفى، فكذلك أعمال العباد متباينة متفاوتة، منها الصالح، ومنها الفاسد، ومنها ما يخلط صالحاً وفاسداً، كل ذلك بتقدير الله عز وجل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم فصّل هذا السعي المتفرق فقال: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}. {فأما من أعطى} أي: أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم. {واتقى} اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات. {وصدق بالحسنى} أي: صدق بالقولة الحسنى وهي قول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن أصدق الكلام، وأحسن الكلام كلام الله عز وجل. {فسنيسره لليسرى} السين: هنا للتحقيق أي: أن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسييسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، ولهذا تجد أيسر الناس عملاً هو من اتقى الله عز وجل، من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. وكلما كان الإنسان أتقى لله كانت أموره أيسر له. قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسًرا}. [الطلاق: 4]. وكلما كان الإنسان أبعد عن الله كان أشد عسراً في أموره ولهذا قال: {وأما من بخل} فلم يعط ما أمر بإعطائه {واستغنى} استغنى عن الله عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غنى عن رحمة الله. {وكذب بالحسنى} أي: بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {فسنيسره للعسرى} ييسر للعسرى في أموره كلها، ولكن قد يأتي الشيطان للإنسان فيقول: نجد أن الكفار تيسر أمورهم فيقال: نعم. قد تيسر أمورهم، لكن قلوبهم تشتعل ناراً وضيقاً وحرجاً كما قال تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}. [الأنعام: 125]. ثم ما ينعمون به فهو تنعيم جسد(35/2)
فقط، لا تنعيم روح، ثم هو أيضاً وبال عليهم لقول الله تعالى فيهم: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}. [الأعراف: 182، 183]. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. [هود: 102]. وهؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدنيا جنة لهم بالنسبة للاخرة. وقد ذكروا عن ابن حجر العسقلاني شارح البخاري بالشرح الذي سماه (فتح الباري) وكان قاضي القضاة بمصر، أنه مر ذات يوم وهو على عربته تجره البغال والناس حوله، مر برجل يهودي سمان يعني: يبيع السمن والزيت، ومن المعلوم أن الذي يبيع السمن والزيت تكون ثيابه وسخة وحاله سيئة فأوقف العربة وقال لابن حجر: إن نبيكم يقول: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»، فكيف أنا أكون بهذه الحال وأنت بهذه الحال؟ فقال له ابن حجر على البديهة: أنا في سجن بالنسبة لما أعد الله للمؤمنين من الثواب والنعيم، لأن الدنيا بالنسبة للاخرة ليست بشيء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، وأما أنت أيها اليهودي: فأنت في جنة بالنسبة لما أعد لك من العذاب إن مت على الكفر فاقتنع بذلك اليهودي وصار ذلك سبباً في إسلامه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
ثم قال عز وجل: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به وتردى هو. أي: هلك أي شيء يغني المال؟ لا يغني شيئاً.(35/3)
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلاَْخِرَةَ وَالاُْولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَهَآ إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لاَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
{إن علينا للهدى} فيه التزام من الله عز وجل أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه. والمراد بالهدىهنا: هدى البيان والإرشاد فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة وهذا في قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]. إلى أن قال: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. [النساء: 165]. فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عز وجل بأن يبين الهدى للإنسان {إن علينا للهدى} وليُعلم أن الهدى نوعان:
1 ـ هدى التوفيق. فهذا لا يقدر عليه إلا الله.
2 ـ هدى إرشاد ودلالة، فهذا يكون من الله، ويكون من الخلق: من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن العلماء.(35/4)
كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}. [الشورى: 52]. أما هداية التوفيق فهي إلى الله لا أحد يستطيع أن يوفق شخصاً إلى الخير كما قال الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. وإذا نظرنا إلى هذه الاية الكريمة {إن علينا للهدى} وجدنا أن الله تعالى بين كل شيء. بين ما يلزم الناس في العقيدة، وما يلزمهم في العبادة، وما يلزمهم في الأخلاق، وما يلزمهم في المعاملات، وما يجب عليهم اجتنابه في هذا كله. حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم حتى الخراءة، قال: أجل علمنا حتى الخراءة. يعني: حتى آداب قضاء الحاجة علمها النبي صلى الله عليه وسلّم أمته، ويؤيد هذا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.[المائدة: 3]. {وإن لنا للاخرة والأولى} يعني: لنا الاخرة والأولى. الأولى متقدمة على الاخرة في الزمن، لكنه في هذه الاية أخرها لفائدتين:
الفائدة الأولى: معنوية.
الفائدة الثانية: لفظية.
أما المعنوية فلأن الاخرة أهم من الدنيا، ولأن الاخرة يظهر فيها ملك الله تعالى تماماً. في الدنيا هناك رؤساء، وهناك ملوك، وهناك أمراء يملكون ما أعطاهم الله عز وجل من الملك، لكن في الاخرة لا ملك لأحد {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. فلهذا قدم ذكر الاخرة من أجل هذه الفائدة المعنوية.
أما الفائدة اللفظية: فهي مراعاة الفواصل يعني: أواخر الايات كلها آخرها ألف.
فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قال: {إن علينا للهدى وإن لنا للاخرة والأولى} فما الفرق؟(35/5)
الجواب: الفرق أن الهدى التزم الله تعالى ببيانه وإيضاحه للخلق، أما الملك فهو لله ملك الاخرة والأولى، ولهذا قال: {وإن لنا للاخرة والأولى} ثم قال عز وجل: {فأنذرتكم نارًا تلظى} {فأنذرتكم} يعني: خوفتكم {ناراً} يعني بها نار الاخرة. {تلظى} تشتعل، ولها أوصاف كثيرة في القرآن والسنة. {لا يصلاها إلا الأشقى} {لا يصلاها} يعني: لا يحترق بها {إلا الأشقى} يعني الذي قدرت له الشقاوة. والشقاوة ضد السعادة لقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. وقوله: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالمراد بالأشقى يعني: الذي لم تكتب له السعادة، هذا هو الذي يصلى النار التي تلظى. ثم بين هذا بقوله: {الذي كذب وتولى} التكذيب في مقابل الخبر، والتولي في مقابل الأمر والنهي. فهذا كذب الخبر ولم يصدق، قيل له: إنك ستبعث. قال: لا أبعث. قيل له: هناك جنة ونار. قال: ليس هناك جنة ونار. قيل له: سيكون كذا وكذا، قال: ما يكون. هذا تكذيب. {تولى} يعني أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله، فهذا هو الشقي. {وسيجنبها} أي: يجنب هذه النار التي تلظى {الأتقى} والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني: الذي اتقى الله تعالى حق تقاته. {الذي يؤتي ماله يتزكى} يعني: يعطي ماله من يستحقه على وجه يتزكى به، أي: يتطهر به، قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}. [التوبة: 103]. فقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} يفيد أنه لا يبذر ولا يبخل، وإنما يؤتي المال على وجه يكون به التزكية، وضابط ذلك ما ذكره الله في سورة الفرقان {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}. [الفرقان: 67]. نجد بعض الناس يعطيه الله مالاً، ولكنه يبخل يقتر حتى الواجب عليه لزوجته وأولاده وأقاربه لا يقوم به. ونرى بعض الناس قدر الله عليه الرزق وضيق عليه بعض الشيء، ومع هذا يذهب يتدين من الناس من أجل أن يكمل بيته(35/6)
حتى يكون مثل: بيت فلان وفلان، أو من أجل أن يشتري سيارة فخمة كسيارة فلان وفلان، وكلا المنهجين والطريقين منهج باطل. الأول: قصر. والثاني: أفرط. والواجب على الإنسان أن يكون إنفاقه بحسب حاله.
فإن قال قائل: هل يجوز أن يتدين الإنسان ليتصدق؟
فالجواب: لا. لأن الصدقة تطوع، والتزام الدّين خطر عظيم، لأن الدين ليس بالأمر الهين، فالإنسان إذا مات وعليه دين فإن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وكثير من الورثة لا يهتم بدين الميت، تجده يتأخر يماطل وربما لا يوفيه. وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدمت إليه جنازة سأل هل عليه دين له وفاء؟ فإن قالوا لا، قال: «صلوا على صاحبكم». وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، فالدين أمره عظيم، لا يجوز للإنسان أن يتهاون به ثم قال: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} يعني أنه لا يعطي المال مكافأة على نعمة سابقة من شخص فليس لأحد عليه فضل حتى يعطيه مكافأة، ولكنه يعطي ابتغاء وجه الله ولهذا قال: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}. فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، أي طلب الوصول إلى دار كرامة الله التي يكون بها رؤية الله عز وجل. {ولسوف يرضى} يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير وقد بين الله ذلك في قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261]. نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء البررة الأطهار الكرام، إنه على كل شيء قدير.(35/7)
تفسير سورة الضحى
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(36/1)
{والضحى} {الضحى} هو أول النهار، وفيه النور والضياء {والليل إذا سجى} أي: الليل إذا غطى الأرض وسدل عليها ظلامه، فأقسم الله تعالى بشيئين متباينين أولهما: الضحى وفيه الضياء والنور، والثاني: الليل إذا يغشى وفيه الظلمة. {ما ودعك ربك} أي ما تركك {وما قلى} أي: وما أبغض، بل أحب الخلق إليه فيما نعلم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا اختاره الله لأعظم الرسالات، وأفضل الأمم، وجعله خاتم النبيين، فلا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلّم: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48]. فعين الله تعالى تكلأه وترعاه وتحميه وتحفظه وهو الذي قال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 219]. فما تركه الله عز وجل بل أحاطه بعلمه، ورحمته، وعنايته وغير ذلك مما يقتضي رفعته في الدنيا والاخرة. كما قال في السورة التي تليها: {ورفعنا لك ذكرك}. [الشرح: 4]. {وللاخرة خير لك من الأولى} هذه الجملة مؤكدة باللام، لام الابتداء و{الاخرة} هي اليوم الذي يبعث فيه الناس، ويأوون إلى مثواهم الأخير إلى الجنة أو إلى النار، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وللاخرة خير لك من الأولى} أي: من الدنيا، وذلك لأن الاخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وموضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولهذا لما خير الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مرضه بين أن يعيش في الدنيا ما يعيش وبين ما عند الله، اختار ما عند الله، كما أعلن ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبته حيث قال وهو على المنبر: «إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عنده فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وتعجب الناس من بكائه كيف يبكي من هذا،(36/2)
ولكنه رضي الله عنه كان أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. علم أن المخير هو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه اختار ما عند الله وهو الاخرة، وأن هذا إيذان بقرب أجله. {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {ولسوف} اللام هذه أيضاً للتوكيد وهي موطئة للقسم، و{سوف} تدل على تحقق الشيء لكن بعد مهلة وزمن {يعطيك ربك} أي يعطيك ما يرضيك فترضى، ولقد أعطاه الله ما يرضيه صلى الله عليه وسلّم، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمده فيه الأولون والاخرون، حتى الأنبياء وأولو العزم من الرسل لا يستطيعون الوصول إلى ما وصل إليه. فإذا كان يوم القيامة، وعظم الكرب والغم على الخلق، وضاقت عليهم الأمور طلب بعضهم من بعض أن يلتمسوا من يشفع لهم إلى الله عز وجل فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، هؤلاء خمسة أولهم أبو البشر، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء الأربعة عليهم الصلاة والسلام من أولي العزم، كلهم يعتذرون عن الشفاعة للخلق حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فيقوم ويشفع، ولا شك أن هذا عطاء عظيم لم ينله أحد من الخلق، ثم بين الله سبحانه وتعالى نعمه عليه السابقة حتى يستدل بها على النعم اللاحقة. فقال: {ألم يجدك يتيماً فآوى} والاستفهام هنا للتقرير، يعني قد وجدك الله تعالى يتيماً فأواك، يتيماً من الأب، ويتيماً من الأم، فإن أباه توفي قبل أن يولد، وأمه توفيت قبل أن تتم إرضاعه، ولكن الله تعالى تكفل به ويسر له من يقوم بتربيته والدفاع عنه، حتى وصل إلى الغاية التي أرادها الله عز وجل. وقوله: {يتيماً فآوى} وجاء التعبير ـ والله أعلم ـ بـ{فآوى} لسبب لفظي، وسبب معنوي. أما السبب اللفظي: فلأجل أن تتوافق رؤوس الايات من أول السورة، وأما السبب المعنوي: فإنه لو كان التعبير (فآواك) اختص الإيواء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر أوسع من ذلك، فإن الله تعالى آواه، وآوى به، آوى(36/3)
به المؤمنين فنصرهم وأيدهم، ودفع عنهم بل دافع عنهم سبحانه وتعالى. {ووجدك ضالاً فهدى} {وجدك ضالاً} أي غير عالم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئاً قبل أن ينزل عليه الوحي، كما قال تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113]. وقال: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48]. فهو صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئاً بل هو من الأميين {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2]. لا يقرأ ولا يكتب، لكن وصل إلى هذه الغاية العظيمة بالوحي الذي أنزله الله عليه، فعلم وعلَّم وهنا قال {فهدى} ولم يأت التعبير ـ والله أعلم ـ فهداك، ليكون هذا أشمل وأوسع فهو قد هدى عليه الصلاة والسلام، وهدى الله به، فهو هاد مهدي عليه الصلاة والسلام. إذاً فهدى أي فهداك وهدى بك. {ووجدك عائلاً فأغنى} أي وجدك فقيراً لا تملك شيئاً {فأغنى} أي أغناك وأغنى بك قال الله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} [الفتح: 20]. وما أكثر ما غنم المسلمون من الكفار تحت ظلال السيوف، غنائم عظيمة كثيرة كلها بسبب هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حين اهتدوا بهديه، واتبعوا سنته فنصرهم الله تعالى به وغنموا من مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن الأمة الإسلامية عادت إلى ما كان عليه السلف الصالح لعاد النصر إليهم، والغنى، والعزة، والقوة ولكن مع الأسف أن الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر كل منها ينظر إلى حظوظ نفسه بقطع النظر عما يكون به نصرة الإسلام أو خذلان الإسلام. ولا يخفى على من تأمل الوقائع التي حدثت أخيراً أنها في الحقيقة إذلال للمسلمين، وأنها سبب لشر عظيم كبير يترقب من وراء ما حدث، ولاسيما من اليهود والنصارى الذين هم أولياء بعضهم لبعض كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51]. وهم أعني اليهود والنصارى متفقون على عداوة المسلمين، كل لا(36/4)
يريد الإسلام، ولا يريد أهل الإسلام، ولا يريد عز الإسلام. ولكن سينصر الله تعالى دينه مهما كانت الأحوال، فالله تعالى ناصر دينه وكتابه، وإن حصل على المسلمين ما يحصل فإن الله يقول: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140].فربما يأتي اليوم الذي يجاهد فيه المسلمون اليهود حتى يختبىء اليهودي تحت الشجر فينادي الشجر يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي تحتي، فيأتي المسلم ويقتله، وما ذلك على الله بعزيز. ولكن المسلمين يحتاجون إلى قيادة حكيمة عليمة بأحكام الشريعة قبل كل شيء، لأن القيادة بغير الاستفادة بنور الشريعة عاقبتها الوبال، مهما علت ولو علت إلى أعلى قمة فإنها سوف تنزل إلى أسفل قعر. الهداية بالإسلام، بنور الإسلام، لا بالقومية، ولا بالعصبية، ولا بالوطنية ولا بغير ذلك، بالإسلام فقط. فالإسلام وحده هو الكفيل بعزة الأمة، لكن تحتاج إلى قيادة حكيمة تضع الأشياء مواضعها، وتتأنى في الأمور ولا تستعجل، لا يمكن أن يصلح الناس بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فإنه قد أراد أن يغير الله سنته، والله سبحانه وتعالى لا يغير سنته، فهذا نبي الله عليه الصلاة والسلام بقي في مكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه الوحي، ويدعو إلى الله بالتي هي أحسن، ومع ذلك في النهاية خرج من مكة خائفاً مختفياً لم تتم الدعوة في مكة، فلماذا نريد أن نغير الأمة التي مضى عليها قرون وهي في غفلة وفي نوم بين عشية وضحاها، هذا سفه في العقل، وضلال في الدين. الأمة تحتاج إلى علاج رفيق هادىء يدعو بالتي هي أحسن، الأمة الإسلامية تحتاج بعد الفقه في دين الله والحكمة في الدعوة إلى الله، تحتاج إلى العلم بالواقع والفطنة والخبرة، ونظر في الأمور التي تحتاج إلى نظر بعيد، لأن النتائج قد لا تتبين في شهر، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين، لكن العاقل يصبر وينظر ويتأمل حتى يعرف، والأمور تحتاج أيضاً إلى عزم وتصميم وصبر؛ لأنه لابد من هذا لابد من عزم يندفع به الإنسان، ولابد(36/5)
من صبر يثبت به الإنسان وإلا لفاتت الأمور أو فات كثير منها والله المستعان.
قال عز وجل: {فأما اليتيم فلا تقهر} هذا في مقابلة {ألم يجدك يتيماً فآوى}، فإذا كان الله آواك في يتمك فلا تقهر اليتيم، بل أكرم اليتيم، والإحسان إلى اليتامى وإكرامهم من أوامر الشريعة ومن حسنات الشريعة، لأن اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ منكسر الخاطر، يحتاج إلى جبر، يحتاج إلى من يسليه، وإلى من يدخل عليه السرور لاسيما إذا كان قد بلغ سنًّا يعرف به الأمور كالسابعة والعاشرة وما أشبه ذلك {وأما السائل فلا تنهر} هذا في مقابل {ووجدك ضالاً فهدى} {وأما السائل فلا تنهر} أول ما يدخل في السائل، السائل عن الشريعة عن العلم لا تنهره؛ لأنه إذا سألك يريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له لقول الله تبارك وتعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187]. لا تنهره إن نهرته نفرته، ثم إنك إذا نهرته وهو يعتقد أنك فوقه؛ لأنه لم يأت يسأل إلا أنه يعتقد أنك فوقه، إذا نهرته وهو يشعر أنك فوقه أصابه الرعب واختلفت حواسه، وربما لا يفقه ما يلقي إليك من السؤال، أو لا يفقه ما تلقيه إليه من الجواب، وقس نفسك أنت لو كلمت رجلاً أكبر منك منزلة ثم نهرك ضاعت حواسك، ولم تستطع أن ترتب فكرك وعقلك، لهذا لا تنهر السائل، وربما يدخل في ذلك أيضاً سائل المال، يعني إذا جاءك سائل يسألك مالاً فلا تنهره، لكن هذا العموم يدخله التخصيص: إذا عرفت أن السائل في العلم إنما يريد التعنت، وأخذ رأيك وأخذ رأي فلان وفلان حتى يضرب آراء العلماء بعضها ببعض، فإذا علمت ذلك فهنا لك الحق أن تنهره، وأن تقول: يا فلان اتق الله ألم تسأل فلاناً كيف تسألني بعدما سألته؟! أتلعب بدين الله؟! أتريد إن أفتاك الناس بما تحب سكتّ، وإن أفتوك بما لا تحب ذهبت تسأل؟!. هذا لا بأس، لأن هذا النهر تأديب له. وكذلك سائل المال إذا علمت أن الذي سألك المال(36/6)
غني فلك الحق أن تنهره ولك الحق أيضاً أن توبخه على سؤاله وهو غني، إذاً هذا العموم {السائل فلا تنهر} مخصوص فيما إذا اقتضت المصلحة أن ينهر فلا بأس {وأما بنعمة ربك فحدث} نعمة الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلّم التي ذكرت في هذه الايات ثلاث {ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى} وبهذه الثلاث تتم النعم. حدث بنعمة الله قل: كنت يتيماً فآواني الله، كنت ضالاً فهداني الله، كنت عائلاً فأغناني الله، لكن تحدث بها إظهاراً للنعمة وشكراً للمنعم، لا افتخاراً بها على الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك افتخاراً على الخلق كان هذا مذموماً. أما إذا قلت أو إذا ذكرت نعمة الله عليك تحدثاً بالنعم، وشكراً للمنعم فهذا مما أمر الله به.
هذه كلمات يسيرة على هذه السورة العظيمة، وما نقوله نحن أو غيرنا من أهل العلم فإنه لا يستوعب ما دل عليه القرآن من المعاني العظيمة، نسأل الله أن يرزقنا الفهم في دين الله، والعمل بما علمنا إنه على كل شيء قدير.(36/7)
تفسير سورة الشرح
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
قال الله سبحانه وتعالى مبيناً نعمته على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {ألم نشرح لك صدرك} هذا الاستفهام يقول العلماء إنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيراً، ويقدّر الفعل بفعل ماضٍ مقرون بقد. ففي قوله {ألم نشرح لك} يقدّر بأن المعنى قد شرحنا لك صدرك؛ لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، وهكذا جميع ما يمر بك من استفهام التقرير فإنه يقدر بفعل ماضٍ مقرون بقد، أما كونه يقدر بفعل ماضٍ؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقروناً بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي، وتفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، وقد تفيد التحقيق، ففي قول الناس: (قد يجود البخيل) قد هذه للتقليل، لكن في قوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} [النور: 64]. هذه للتحقيق ولا شك. يقول الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} أي: نوسعه، وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحاً حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان؛ وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى فيجد الإنسان ثقلاً في تنفيذ أوامر الله، وثقلاً في اجتناب محارم الله، لأنه مخالف لهوى النفس، والنفس الأمارة بالسوء لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه، تجد بعض الناس تثقل عليه الصلاة كما قال الله تعالى في المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142]. ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جعلت قرة عيني(37/1)
في الصلاة»، إذاً فالشرع فيه ثقل على النفوس، كاجتناب المحرمات، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لذلك ويبتعد عما حرم الله، وانظر إلى يوسف عليه الصلاة والسلام لما دعته امرأة العزيز بعد أن غلقت الأبواب وقالت: هيت لك وتهيأت له بأحسن ملبس وأحسن صورة، والمكان آمن أن يدخل أحد، غلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، قال: معاذ الله، استعاذ بربه لأن هذه حال حرجة، شاب وامرأة العزيز، ومكان خالٍ وآمن، والإنسان بشر ربما تسوّل له نفسه أن يفعل ولهذا قال: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} [يوسف]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، والشاهد من هذا قوله: «رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله» فشرح الصدر للحكم الشرعي معناه قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل سمعنا وأطعنا، وأنت بنفسك أحياناً تجد قلبك منشرحاً للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحياناً بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص.(37/2)
وأما انشراح الصدر للحكم القدري، فالإنسان الذي شرح الله صدره للحكم الكوني تجده راضياً بقضاء الله وقدره، مطمئناً إليه، يقول: أنا عبد، والله رب يفعل ما يشاء، هذا الرجل الذي على هذه الحال سيكون دائماً في سرور لا يغتم ولا يهتم، هو يتألم لكنه لا يصل إلى أن يحمل هًّما أو غمًّا ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له»، إذاً شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعاً إطلاقاً، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قياماً بطاعة الله، وأكثرهم صبراً على أقدار الله، ماذا فعل الناس به حين قام بالدعوة؟ وماذا يصيبه من الأمراض؟ حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا يعني من المرض يشدد عليه يعني كرجلين منا، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: «أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم». وحتى أنه شدد عليه عند النزع عند الموت عليه الصلاة والسلام حتى يفارق الدنيا وهو أصبر الصابرين، والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر عليه، أما الشيء اليسير البارد فلا صبر عليه، لهذا نجد الأنبياء أكثر الناس بلاء ثم الصالحين الأمثل فالأمثل. {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك} قد يقول قائل: إن بين الجملتين تنافر، الجملة الأولى فعل مضارع {نشرح} والثانية فعل ماض {وضعنا} لكن بناء على التقرير الذي قلت وهو أن {ألم نشرح} بمعنى قد شرحنا يكون عطف ووضعنا عطفه على نظيره ومثيله {ووضعنا عنك وزرك} وضعناه أي طرحناه وعفونا وسامحنا وتجاوزنا عنك {وزرك} أي إثمك {الذي أنقض ظهرك} يعني أقضه وآلمه؛ لأن الظهر(37/3)
هو محل الحمل، فإذا كان هناك حمل يتعب الظهر فإتعاب غيره من باب أولى، لأن أقوى عضو في أعضائك للحمل هو الظهر، وانظر للفرق بين أن تحمل كيساً على ظهرك أو تحمله بين يديك بينهما فرق، فالمعنى أن الله تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلّم وزره وخطيئته حتى بقي مغفوراً له، قال الله تبارك وتعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. [الفتح: 1، 2]. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتورم قدماه أو تتفطر قيل له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»، إذاً مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة ثابتة بالقرآن والسنة، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، لا أحد من الناس يغفر له ما تقدم وما تأخر إلا الرسول صلى الله عليه وسلّم، أما غيره فيحتاج إلى توبة من الذنب، وقد يغفر الله له سبحانه وتعالى بدون توبة ما دون الشرك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام نجزم بأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}. فإن قال قائل: هذه الاية وما سقناه شاهداً لها يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد يذنب فهل النبي صلى الله عليه وسلّم يذنب؟ فالجواب: نعم، ولا يمكن أن نرد النصوص لمجرد أن نستبعد وقوع الذنب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن لا نقول الشأن ألا يذنب الإنسان بل الشأن أن يغفر للإنسان، هذا هو المهم أن يغفر له، أما أن لا يقع منه الذنب فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، لابد من خطيئة لكن هناك أشياء لا يمكن أن تقع من الأنبياء مثل الكذب والخيانة، فإن هذا لا يمكن أن يقع منهم إطلاقاً، لأن هذا لو فرض وقوعه لكان طعناً في رسالتهم وهذا شيء مستحيل، وسفاسف الأخلاق من الزنا وشبهه هذا أيضاً ممتنع، لأنه ينافي أصل الرسالة، فالرسالة إنما(37/4)
وجدت لتتميم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى وضع عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزره، وبين أن هذا الوزر قد أنقض ظهره أي أقضه وأتعبه، وإذا كان هذا وزر الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف بأوزار غيره، أوزارنا تقض ظهورنا وتنقضها وتتعبها، ولكن كأننا لم نحمل شيئاً، وذلك لضعف إيماننا وبصيرتنا وكثرة غفلتنا، نسأل الله أن يعاملنا بالعفو، في بعض الاثار أن المؤمن إذا أذنب ذنباً صار عنده كالجبل فوق رأسه وإن المنافق إذا أذنب ذنباً صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، يعني أنه لا يهتم، فالمؤمن تهمه خطاياه وتلحقه الهم حتى يتخلص منها بتوبة واستغفار، أو حسنات جليلة تمحو آثار هذه السيئة، وأنت إذا رأيت من قلبك الغفلة عن ذنوبك فاعلم أن قلبك مريض، لأن القلب الحي لا يمكن أن يرضى بالمرض، ومرض القلوب هي الذنوب كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله:(37/5)
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانهاوترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها فيجب علينا أن نهتم بأنفسنا وأن نحاسبها، وإذا كان التجار لا ينامون حتى يراجعوا دفاتر تجارتهم، ماذا صرفوا، وماذا أنفقوا، وماذا كسبوا، فإن تجار الاخرة ينبغي أن يكونوا أشد اهتماماً؛ لأن تجارتهم أعظم، فتجارة أهل الدنيا غاية ما تفيدهم إن أفادتهم هو إتراف البدن فقط، على أن هذه التجارة يلحقها من الهم والغم ما هو معلوم، وإذا خسر في سلعة اهتم لذلك، وإذا كان في بلده مخاوف: قطاع طريق، أو سراق صار أشد قلقاً، لكن تجارة الاخرة على العكس من هذا {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [الصف: 10 ـ 12]. تنجي من العذاب، ويغفر الله بها الذنوب، ويدخل بها الجنات، جنات عدن أي جنات إقامة، ومساكن طيبة في جنات عدن، مساكن طيبة في بنايتها وفي مادة البناء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما»، والله لو يبقى الإنسان في سجدة منذ بلغ إلى أن يموت لكان هذا ثمناً قليلاً بالنسبة إلى هذه الغنيمة العظيمة، ولو لم يكن إلا أن ينجو الإنسان من النار لكفى، أحياناً الإنسان يفكر يقول ليتني لم أولد أو يكفيني أن أنجو من النار، وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ليتني شجرة تعضد، ليت أمي لم تلدني، لأن الإنسان يظن أنه آمن لأنه يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج ويبر الوالدين وما أشبه ذلك، لكن قد يكون في قلبه حسيكة تؤدي إلى سوء الخاتمة، ـ والعياذ بالله ـ كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» يعني مدة قريبة لموته ما هو إلا ذراع في العمل؛ لأن عمله كله هباء، هو(37/6)
يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قوله: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» ليس معناه أن عمله أوصله إلى قريب من الجنة، وإنما المعنى حتى لا يبقى عليه إلا مدة قليلة في الحياة «ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها» لكن هذا فيما إذا كان عمل الإنسان للناس كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار»، والإنسان إذا مر على مثل هذه النصوص يخاف على نفسه، يخاف من الرياء، يخاف من العجب، يخاف من الإذلال. {ورفعنا لك ذكرك} رفع ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لا أحد يشك فيه؛ أولاً: لأنه يرفع ذكره عند كل صلاة في أعلى مكان وذلك في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله.
ثانياً: يرفع ذكره في كل صلاة فرضاً في التشهد، فإن التشهد مفروض، وفيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ثالثاً: يرفع ذكره عند كل عبادة، كل عبادة مرفوع فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن كل عبادة لابد فيها من شرطين أساسيين هما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن المتابع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يستحضر عند العبادة أنه متبع فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا من رفع ذكره.(37/7)
قوله: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر الأمة، وجرى على الرسول عليه الصلاة والسلام عسر حينما كان بمكة يضيق عليه، وفي الطائف، وكذلك أيضاً في المدينة من المنافقين فالله يقول: {فإن مع العسر يسراً} يعني كما شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، ورفعنا لك ذكرك، وهذه نعم عظيمة كذلك هذا العسر الذي يصيبك لابد أن يكون له يسر {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} قال ابن عباس عند هذه الاية: «لن يغلب عسٌر يسرين»، وتوجيه كلامه ـ رضي الله عنه ـ مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين. قال أهل البلاغة: توجيه كلامه أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} العسر الأول أعيد في الثانية بال، فال هنا للعهد الذكري، وأما يسر فإنه لم يأت معرفاً بل جاء منكراً، والقاعدة: أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ما ندر، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول، لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول، إذاً في الايتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد، لأن العسر كرر مرتين بصيغة التعريف {فإن مع العسر يسراً} هذا الكلام خبر من الله عز وجل، وخبره جل وعلا أكمل الأخبار صدقاً، ووعده لا يخلف، فكلما تعسر عليك الأمر فانتظر التيسير، أما في الأمور الشرعية فظاهر، ففي الصلاة: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فهذا تيسير، إذا شق عليك القيام اجلس، إن شق عليك الجلوس صل وأنت على جنبك، وفي الصيام إن قدرت وأنت في الحضر فصم، وإن لم تقدر فأفطر، إذا كنت مسافراً فأفطر، في الحج إن استطعت إليه سبيلاً فحج، وإن لم تستطع فلا حج عليك، بل إذا شرعت في الحج وأحصرت ولم تتمكن معه من إكمال الحج فتحلل، وافسخ الحج واهدِ لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}(37/8)
[البقرة: 196]. إذاً كل عسر يحدث للإنسان في العبادة يجد التسهيل واليسر. كذلك في القضاء والقدر، يعني تقدير الله على الإنسان من مصائب، وضيق عيش، وضيق صدر وغيره لا ييأس، فإن مع العسر يسراً، والتيسير قد يكون أمراً ظاهراً حسيًّا، مثل: أن يكون الإنسان فقيراً فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى، مثال آخر: إنسان مريض يتعب يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل، هذا أيضاً تيسير حسي، هناك تيسير معنوي وهو معونة الله الإنسان على الصبر هذا تيسير، فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير، وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها، صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمراً يسيراً، وليس اليسر معناه أن ينفرج الشيء تماماً فقط، اليسر أن ينفرج الكرب ويزول وهذا يسر حسي، وأن يعين الله الإنسان على الصبر حتى يكون هذا الأمر الشديد العسير أمراً سهلاً عليه، نقول هذا لأننا واثقون بوعد الله. {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} أي إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، لا تجعل الدنيا تضيع عليك، ولهذا كانت حياة الإنسان العاقل حياة جد، كلما فرغ من عمل شرع في عمل آخر، وهكذا؛ لأن الزمن يفوت على الإنسان في حال يقظته ومنامه، وشغله وفراغه، يسير ولا يمكن لأحد أن يمسك الزمن، لو اجتمع الخلق كلهم ليوقفوا الشمس حتى يطول النهار ما تمكنوا، فالزمن لا يمكن لأحد أن يمسكه، إذاً اجعل حياتك حياة جد، إذا فرغت من عمل فانصب في عمل آخر، إذا فرغت من عمل الدنياعليك بعمل الاخرة، فرغت من عمل الاخرة اشتغلت بأمر الدنيا فإذا قضيت الصلاة يوم الجمعة فانتشر في الأرض وابتغِ من فضل الله، وصلاة الجمعة يكتنفها عملان دنيويان {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} يعني وأنتم مشتغلون في دنياكم {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}(37/9)
[الجمعة: 9، 10]. فإذا فرغنا من شغل اشتغلنا في آخر، وإذا فرغنا منه اشتغلنا في آخر وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان دائماً في جد.
فإذا قال قائل: لو أنني استعملت الجد في كل حياتي لتعبت ومللت.
قلنا: إن استراحتك لتنشيط نفسك وإعادة النشاط يعتبر شغلاً وعملاً، يعني لا يلزم الشغل بالحركات ففراغك من أجل أن تنشط للعمل الاخر يعتبر عملاً، المهم أن تجعل حياتك كلها جدًّا وعملاً. {وإلى ربك فارغب} يعني إذا عملت الأعمال التي فرغت منها ونصبت في الأخرى، فارغب إلى الله عز وجل في حصول الثواب، وفي حصول الأجر، وفي الإعانة كن مع الله عز وجل قبل العمل وبعد العمل، قبل العمل كن مع الله تستعينه عز وجل، وبعده ترجو منه الثواب. وفي قوله: {إلى ربك فارغب} فائدة بلاغية {إلى ربك} متعلقة من حيث الإعراب بـ(ارغب) وهي مقدمة عليها، وتقديم المعمول يفيد الحصر، يعني إلى الله لا إلى غيره فارغب في جميع أمورك، وثق بأنك متى علقت رغبتك بالله عز وجل فإنه سوف ييسر لك الأمور، وكثير من الناس تنقصهم هذه الحال أي ينقصهم أن يكونوا دائماً راغبين إلى الله، فتجدهم يختل كثير من أعمالهم؛ لأنهم لم يكن بينهم وبين الله تعالى صلة في أعمالهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممتثلين لأوامره، مصدقين بأخباره، إنه على كل شيء قدير.(37/10)
تفسير سورة التين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَكِمِينَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والتين والزيتون وطور سينين. وهذا البلد الأمين} إقسام الله تعالى بهذه الأشياء الأربعة: بالتين، والزيتون، وبطور سينين، وهذا البلد الأمين يعني مكة، لأن السورة مكية فالمشار إليه قريب وهو مكة، {والتين} هو الثمر المعروف، {والزيتون} معروف، وأقسم الله بهما لأنهما يكثران في فلسطين، {وطور سينين} أقسم الله به لأنه الجبل الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وهذا البلد الأمين} أقسم الله به أعني مكة لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع عند الله عز وجل.(38/1)
قال بعض أهل العلم: أقسم الله بهذه الثلاثة، لأن الأول {والتين والزيتون} أرض فلسطين التي فيها الأنبياء، وآخر أنبياء بني إسرائيل هو عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبطور سينين لأنه الجبل الذي أوحى الله تعالى إلى موسى حوله، وأما البلد الأمين فهو مكة الذي بعث الله منه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال العلماء: ومعنى قوله: {وطور سينين} أي طور البركة لأن الله تعالى وصفه أو وصف ما حوله بالوادي المقدس. {لقد خلقناً الإنسان في أحسن تقويم} هذا هو المقسم عليه، أقسم الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذه الجملة التي فيها المقسم عليه مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، أقسم الله أنه خلق الإنسان {في أحسن تقويم} في أحسن هيئة وخِلقة و{في أحسن تقويم} فطرة وقصداً، لأنه لا يوجد أحد من المخلوقات أحسن من بني آدم خلقة، فالمخلوقات الأرضية كلها دون بني آدم في الخلقة، لأن الله تعالى قال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} هذه الردة التي ذكرها الله عز وجل تعني أن الله تعالى يرد الإنسان أسفل سافلين خِلقة كما قال الله تعالى: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} [النحل: 70]. فكلما ازدادت السن في الإنسان تغير إلى أردأ في القوة الجسدية، وفي الهيئة الجسدية، وفي نضارة الوجه وغير ذلك يرد أسفل سافلين، وإذا قلنا إن أحسن تقويم تشمل حتى الفطرة التي جبل الله الخلق عليها، والعبادة التي تترتب أو تتبنى على هذه الفطرة، فإن هذا إشارة إلى أن من الناس من تعود به حاله ـ والعياذ بالله ـ إلى أن يكون أسفل سافلين بعد أن كان في الأعلى والقمة من الإيمان والعلم، والاية تشمل المعنيين جميعاً ثم قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} هذا استثناء من قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} يعني إلا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين، لأنهم(38/2)
متمسكون بإيمانهم وأعمالهم، فيبقون عليها إلى أن يموتوا. وقوله: {فلهم أجر} أي ثواب {غير ممنون} غير مقطوع، ولا ممنون به أيضاً فكلمه {ممنون} صالحه لمعنى القطع، وصالحة لمعنى المنة، فهم لهم أجر لا ينقطع، ولا يمن عليهم به، يعني أنهم إذا استوفوا هذا الأجر لا يمن عليهم فيقال أعطيناكم وفعلنا وفعلنا، وإن كانت المنة لله عز وجل عليهم بالإيمان والعمل الصالح والثواب، كلها منّة من الله لكن لا يمن عليهم به، أي: لا يؤذون بالمن كما يجري ذلك في أمور الدنيا، إذا أحسن إليك أحد من الناس فربما يؤذيك بمنه عليك، في كل مناسبة يقول: فعلت بك، أعطيتك وما أشبه ذلك. ثم قال الله تبارك وتعالى: {فما يكذبك بعد بالدين} انتقل الله تعالى من الكلام على وجه الغيبة إلى الكلام على وجه المقابلة والخطاب قال: {فما يكذبك بعد بالدين} أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذا البيان {بالدين} أي بما أمر الله به من الدين، ولهذا كلما نظر الإنسان إلى نفسه وأصله وخلقته، وأن الله اجتباه وأحسن خلقته، وأحسن فطرته فإنه يزداد إيماناً بالله عز وجل، وتصديقاً بكتابه وبما أخبرت به رسله. ثم قال: {أليس الله بأحكم الحاكمين} وهذا الاستفهام للتقرير يقرر الله عز وجل أنه أحكم الحاكمين، وأحكم هنا اسم تفضيل وهو مأخوذ من الحكمة، ومن الحكم، فالحكم الأكبر الأعظم الذي لا يعارضه شيء هو حكم الله عز وجل، والحكمة العليا البالغة هي حكمة الله عز وجل فهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين قدراً وشرعاً، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله. نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير.(38/3)
تفسير سورة العلق
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} هذه الايات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث «أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى عليه الصلاة والسلام أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده عليه الصلاة والسلام ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال: «ما أنا بقارىء» ومعنى «ما أنا بقارىء» يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه صلى الله عليه وسلّم كان أميًّا كما(39/1)
قال الله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} [الأعراف: 58]. وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2]. فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. قال له: «ما أنا بقارىء» فغطه مرتين أو ثلاثاً، ثم قال له {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} خمس آيات نزلت فرجع بها النبي صلى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتداءه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع يقول الله عز وجل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} قوله: {باسم ربك} قيل معناه متلبساً بذلك، وقيل مستعيناً بذلك، يعني اقرأ مستعيناً باسم الله؛ لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ويستعين بها على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، وقال: {باسم ربك} دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة فلهذا قال: {باسم ربك} إلا أنه عليه الصلاة والسلام قد رباه الله تعالى تربية خاصة ورباه كذلك ربوبية خاصة. {الذي خلق} أي خلق كل شيء كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2]. وقال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} [الزمر: 62]. فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لله عز وجل ولهذا قال: {خلق} وحذف المفعول إشارة للعموم؛ لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال {خلق} وأطلق صار عامًّا فهو(39/2)
خالق كل شيء جل وعلا. ثم قال: {خلق الإنسان من علق} خص الله تعالى خلق الإنسان تكريماً للإنسان وتشريفاً له؛ لأن الله تعالى يقول: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70]. فلهذا نص على خلق الإنسان {خلق الإنسان} أي ابتدأ خلقه {من علق} جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة؛ لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك.
وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الاية من علق فهل في هذا تناقض؟(39/3)
الجواب: ليس هناك تناقض، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلّم شيء من التناقض أبداً، فإن الله يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82]. لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحياناً مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب؛ لأن أول ما خلق الإنسان من التراب ثم صب عليه الماء فكان طيناً ثم استمر مدة فكان حمئاً مسنوناً، ثم طالت مدته فكان صلصالاً، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحماً، وعظماً، وعصباً إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم. والخلق الاخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثم تتحول شيئاً فشيئاً وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دماً علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئاً فشيئاً، فإذا تمت ثمانين يوماً انتقلت إلى مضغة ـ قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان ـ وتبقى كذلك أربعين يوماً فهذه مائة وعشرون يوماً، وهي بالأشهر أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، أما الجسد فأصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي؟ ولا من أي مادة {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدمياً يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث؛ لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن(39/4)
في المقابر؛ لأنه صار إنساناً، ويسمى أيضاً؛ لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشراً، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا.
وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربع دور:
الدار الأولى: في بطن أمه.
الدار الثانية: في الدنيا.
الدار الثالثة: في البرزخ.
الدار الرابعة: في الجنة أو النار وهي المنتهى.
{اقرأ وربك الأكرم} {اقرأ} تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس؟ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} قرنت بما يتعلق بالربوبية، و{اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم} قرنت بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء، يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَنَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}.(39/5)
قال الله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} {كلا} في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها: أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الاية فـ{كلا} بمعنى حقًّا، يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتاً لا مرية فيه {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} الإنسان هنا ليس شخصاً معيناً، بل المراد الجنس، كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى، من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالِ، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض، وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع، إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري، وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائماً مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة، ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضًّرا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]. ثم قال عز وجل مهدداً هذا الطاغية {إن إلى ربك الرجعى} أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى {إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر. إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 23 ـ 26]. وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبداً، ولا من ثواب الله وعدله، وقوله: {إن إلى ربك الرجعى} ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد يعني أنه يشمل الوعيد والتهديد، ويشمل ما هو أعم فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم(39/6)
إلى الكتاب والسنة {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]. والأمور الكونية المرجع فيها إلى الله {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} [الأنفال: 9]. فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]. إذن {إن إلى ربك الرجعى} يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنياً عن ربه، وفيها أيضاً ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور. ثم قال: {أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى} يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبداً إذا صلى، ففي الاية ناهي ومنهي، فالناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم؛ لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم. وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد {عبداً إذا صلى} أبو جهل قيل له: إن محمداً يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: لقد نهيتك فلماذا تفعل؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل لأبي جهل إنه أي محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي فقال: والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجداً تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقاً من النار وأهوالاً عظيمة،(39/7)
فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبداً إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا؟ ولهذا جاء في آخر الايات {ألم يعلم بأن الله يرى} وأنه سيجازيه ثم قال: {أرأيت إن كان على الهدى} {أرأيت} يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد صلى الله عليه وسلّم على الهدى فكيف تنهاه عنه. {أو أمر بالتقوى} قال بعض المفسرين {أو} هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره. {ألم يعلم بأن الله يرى} يعني يرى المنهي وهو الساجد محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبداً إذا صلى {ألم يعلم بأن الله يرى} يرى سبحانه وتعالى علماً ورؤية، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الامر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد الذي ينهى عبداً إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلاًّ منهما بما يستحق. فهذا تهديد لهذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والاخرة. ثم قال: {كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية} {كلا} هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيىء الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا {لنسفعن بالناصية} جملة {لنسفعن} جواب لقسم مقدر والتقدير: والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية،(39/8)
وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم، لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المتأخر، قال ابن مالك في ألفيته:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزموهنا المتأخر هو الشرط {لئن} والقسم مقدر قبله إذ تقديره: والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى {لنسفعن} أي لنأخذن بشدة و{الناصية} مقدم الرأس و(الـ) فيها أي: في الناصية للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الاخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41]. وإذا كانت الاية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الاخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف والذي قررناه سابقاً وهو أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً. قوله تعالى: {ناصية كاذبة خاطئة} ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية وإنما قال: {ناصية} من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الاتي بعدها وهو قوله {كاذبة خاطئة} {كاذبة} أي أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذباً ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله ألهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، {خاطئة} أي مرتكبة للخطأ عمداً، وليعلم أن هناك فرقاً بين خاطىء ومخطىء، الخاطىء من ارتكب الخطأ عمداً، والمخطىء من ارتكبه جهلاً، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} [الحاقة: 37]. أي المذنبون ذنباً عن عمد، وقال(39/9)
تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فقال الله قد فعلت، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9]. وقال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15]. إذاً {خاطئة} أي مرتكبة للإثم عمداً. {فليدع ناديه} اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقاً وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادي يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقاً فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحدي، كما تقول لعدوك إن كان لك قوم فتقدم وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي. {سندع الزبانية} يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة {لا يعصون الله ما أمرهم} [التحريم: 6]. بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به {ويفعلون ما يؤمرون} لا يعجزون عن ذلك فوصفهم بوصفين أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل {لا يعصون الله ما أمرهم} وأنهم في تمام القدرة {ويفعلون ما يؤمرون} وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلاً الذي لا يصلي الفرض قائماً قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، بل عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبداً ولهذا قال: {سندع الزبانية} فإن قال قائل: أين الواو في قوله {سندع}؟ قلنا: إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحاً كسر، وإن كان(39/10)
غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحقيعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحاً ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا} وأصلها {لم يكنْ} لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته كما في قوله تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفاً صحيحاً فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الاية {سندع الزبانية}.
{كلا لا تطعه واسجد واقترب} يقال في {كلا} ما قيل في الأولى التي قبلها والخطاب في قوله: {لا تطعه} أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يطيع هذا الرجل فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها. وقوله: {واقترب} أي اقترب من الله عز وجل؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم»، أي حري أن يستجاب لكم.
هذه السورة (العلق) سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منّ به على رسوله عليه الصلاة والسلام من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير.(39/11)
تفسير سورة القدر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إنا أنزلناه في ليلة القدر} {إنا أنزلناه} الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله {أنزلناه} يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة {إنا أنزلناه} لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحياناً بصيغة العظمة مثل هذه الاية الكريمة {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ومثل قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. ومثل قوله تعالى: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 11]. وأحياناً يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل {إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد. والضمير في قوله: {أنزلناه} ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر فما معنى إنزاله في ليلة القدر؟ الصحيح أن معناها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ودليل ذلك قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]. فإذا جمعت هذه الاية أعني {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} إلى هذه الاية: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} تبين أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة(40/1)
القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل: فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض.
وقوله تعالى: {في ليلة القدر} من العلماء من قال: القدر هو الشرف كما يقال (فلان ذو قدر عظيم، أو ذو قدر كبير) أي ذو شرف كبير، ومن العلماء من قال: المراد بالقدر التقدير، لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3، 4]. أي يفصل ويبين.(40/2)
والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك. ثم قال جل وعلا: {وما أدراك ما ليلة القدر} هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، وهي مطردة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18]. وقال تعالى: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 1 ـ 3]. {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة} فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم فهنا قال: {وما أدراك ما ليلة القدر} أي ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بين هذا بقوله: {ليلة القدر خير من ألف شهر} وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} الجواب: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال: {تنزل الملائكة والروح فيها} أي تنزل شيئاً فشيئاً؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئاً فشيئاً حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلاً على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه الصور، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، يعني صورة محرمة؛ لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة، فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعاً، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة. {والروح} هو جبريل(40/3)
عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله، وقوله تعالى: {بإذن ربهم} أي بأمره، والمراد به الإذن الكوني؛ لأن إذن الله ـ أي أمره ـ ينقسم إلى قسمين: إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى: {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]. أي ما لم يأذن به شرعاً، لأنه قد أذن به قدراً، فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الاية {بإذن ربهم} أي بأمره القدري وقوله: {من كل أمر} قيل إن {من} بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة. {سلام هي} الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير: «هي سلام» أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الاثام وعقوباتها، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها. {حتى مطلع الفجر} أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر.
تنبيه: سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله، أو وسطه، أو آخره؟(40/4)
نقول في الجواب على هذا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم اعتكف العشر الأول، ثم العشر الأوسط تحرياً لليلة القدر، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذاً فليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وفي أي ليلة منها؟ الله أعلم قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة الثلاثين، أو فيما بينهما، فلم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي ليلة إحدى وعشرين، فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف، فسجد النبي صلى الله عليه وسلّم صباحها أي في صلاة الفجر في الماء والطين، ورأى الصحابة رضي الله عنهم على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال: «التمسوها في العشر الأواخر»، وفي رواية: «في الوتر من العشر الأواخر»، ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلّم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»، يعني في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر، فليست معينة، ولكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، وقد تكون (مثلاً) في هذا العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا.. وإنما أبهمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليال من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال؛ لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب.(40/5)
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخصصها بعمرة في فعله، ولم يخصصها أي ليلة سبع وعشرين بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر، ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضاً يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابراً عن كابر، على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة، بدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم.
وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:
الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والاخرة.
الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر}.
الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.
الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.
الفضيلة الخامسة: أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.(40/6)
ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»، فقوله: «إيماناً واحتساباً» يعني إيماناً بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر وطلب الثواب. وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر. وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر.(40/7)
تفسير سورة البينة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(41/1)
يقول الله عز وجل: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} يعني ما كان الكفار من {أهل الكتاب} وهم اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلّم مع ما فيها من التحريف والتبديل والتغيير، ولكن هم أهل الكتاب، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل {والمشركين} المشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن غيرهم، لم يكن هؤلاء {منفكين} أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ومنفكين عنه {حتى تأتيهم البينة} والبينة ما يبين به الحق في كل شيء، فكل شيء يبين به الحق فإنه يسمى بينة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي»، فكل ما بان به الحق فهو بينة، ويكون في كل شيء بحسبه، فما هي البينة التي ذكرها الله هنا؟ البينة قال {رسول من الله} وهذا الرسول هو النبي صلى الله عليه وسلّم محمد رسول الله ابن عبدالله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة {رسول} تعظيماً له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جدير بأن يعظم التعظيم اللائق به من غير نقص ولا غلو {رسول من الله} يعني أن الله أرسله إلى العالمين بشيراً ونذيراً، قال الله تبارك وتعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} [النساء: 79]. وقال: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1]. فهو محمد عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأن جبريل هو رسول رب العالمين إلى رسله موكل بالوحي ينزل به على من شاء الله من عباده. {يتلو صحفاً مطهرة} يعني يقرأ لنفسه وللناس، {صحفاً} جمع صحيفة وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به {مطهرة} أي منقاة من الشرك، ومن رذائل الأخلاق، ومن كل ما يسوء، لأنها نزيهة مقدسة {فيها} أي في هذه الصحف {كتب قيمة} كتب: أي مكتوبات قيمة، فكتب جمع كتاب، بمعنى مكتوب، والمعنى أن في هذه الصحف مكتوبات قيمة كتبها(41/2)
الله عز وجل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تصفح القرآن وجده كذلك، وجده يتضمن كتباً أي مكتوبات قيمة، انظر إلى ما جاء به القرآن من توحيد الله عز وجل، والثناء عليه، وحمده وتسبيحه تجده مملوءاً بذلك، انظر إلى ما في القرآن من وصف النبي صلى الله عليه وسلّم ووصف أصحابه المهاجرين والأنصار ووصف التابعين لهم بإحسان، انظر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أن كل ما جاء به القرآن فهو قيم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره {فيها كتب قيمة}. إذاً أخبر الله في هذه الاية أنه لا يمكن أن ينفك هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البينة، فلما جاءتهم البينة هل انفكوا عن دينهم، عن كفرهم وشركهم؟ الجواب قال الله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} يعني لما جاءتهم البينة اختلفوا، منهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن النصارى من آمن مثل النجاشي ملك الحبشة، ومن اليهود من آمن أيضاً مثل عبدالله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن علم الله منه أنه يريد الخير، ويريد الدين لله آمن ووفق للإيمان، ومن لم يكن كذلك وفق للكفر، كذلك أيضاً من المشركين من آمن، وما أكثر المشركين من قريش الذين آمنوا، فصار الناس قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البينة، ثم لما جاءتهم البينة تفرقوا واختلفوا كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].(41/3)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ}.(41/4)
{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} بين الله تعالى في هذه الاية بياناً مؤكداً بـ(إن) إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين {في نار جهنم} أي في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الُجهمة، وقيل: إنه اسم أعجمي عربته العرب. وأيًّا كان فإنه أعني لفظ {جهنم} اسم من أسماء النار، وقوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} {من} هنا بيان للإبهام، أعني إبهام الإسم الموصول في قوله: {إن الذين كفروا} وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم (اليهود والنصارى)، والأمر كذلك، فإن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن قالوا: إنهم مؤمنون بالله واليوم الاخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر لامنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، بل لامنوا برسلهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157]. بل إن عيسى صلى الله عليه وسلّم قال لبني إسرائيل {يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات، قالوا: هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه إلا نفراً قليلاً من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه. {أولئك هم شر البرية} أي شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من (اليهود والنصارى والمشركين) شر البرية (شر الخلائق)(41/5)
وقد بين الله ذلك تماماً في قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون} [الأنفال: 55]. وقال تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 22]. فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر، لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبداً أن نحسن الظن بهم، قد نثق بالصادقين منهم كما وثق النبي صلى الله عليه وسلّم بالمشرك، عبدالله بن أريقط، حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق منهم، لأنهم شر، ولما ذكر الله حكم هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ذكر حكم المؤمنين فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بالمعنى وما يقابله، ويأتي بأصحاب النار وأصحاب الجنة، ويأتي بآيات الترهيب وآيات الترغيب، وهلم جرا، لأجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء، ولئلا يمل، فإن تنويع الأساليب وتنويع المواضيع لا شك أنه يعطي النفس قوة واندفاعاً، بخلاف ما لو كان الكلام على وتيرة واحدة، فإن الإنسان قد يمل ولا تتحرك نفسه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين أعلاها: طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد النبوة الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر رضي الله عنه. الطبقة الثالثة: الشهداء، قيل: إنهم أُولوا العلم. وقيل: إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والاية تحتمل المعنيين(41/6)
جميعاً بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعاً، فالشهداء هم أولوا العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين؛ قال تعالى: {والصالحين} وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هم خير البرية، أي خير ما خلق الله عز وجل من البرايا، ثم بين جزاءهم فقال {جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم، لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، فلذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار} {جنات} جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: إن الجنات «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما»، وإلى هذا يشير قول الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. ثم ذكر أوصاف هاتين الجنتين، ثم قال: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62]. فلهم جنات والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمة أعدها الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الاخرة أبداً، لأنه أعلى وأجل مما نتصور، قال ابن عباس رضي الله عنهما (ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء)، لكنها الحقائق تختلف اختلافاً عظيماً، قال عز وجل: {جنات عدن} العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولاً عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحداً أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل قال الله تبارك وتعالى: {لا يبغون عنها(41/7)
حولاً} [الكهف: 108]. أي لا يبغون تحولاً عما هم عليه لأن الله قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحداً أكمل نعيماً منهم، ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدن {تجري من تحتها الأنهار} {من تحتها} قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة (محمد) فقال: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. وقد جاء في الاثار من وصف هذه الأنهار أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يميناً وشمالاً، وفي هذا يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه النونية:(41/8)
أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان {خالدين فيها أبداً} أي ماكثين فيها أبداً، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائماً وأبداً ـ أبد الابدين ـ {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبداً، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الاخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل. ثم قال عز وجل: {ذلك لمن خشي ربه} أي ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} [فاطر: 28]. أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه، فالخشية أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال: إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا؟ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية. وبهذا تمت هذه السورة العظيمة وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته إنه على كل شيء قدير.(41/9)
تفسير سورة الزلزلة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا زُلْزِلَتِ الاَْرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(42/1)
{إذا زلزلت الأرض زلزالها} المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. وقوله: {زلزالها} يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل: {ترى الناس سكارى وما هم بسكارى} يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل. {وأخرجت الأرض أثقالها} المراد بهم: أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. {وقال الإنسان مالها} الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول: ما لها؟ أي شيء لها هذا الزلزال؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى: {سكارى} [الحج: 2]. فيقول: ما الذي حدث لها وما شأنها؟ لشدة الهول. {يومئذ} أي في ذلك اليوم إذا زلزلت {تحدث أخبارها} أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. لأنهم إذا(42/2)
رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله: {يومئذ تحدث أخبارها} هو جواب الشرط في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها}. قوله: {بأن ربك أوحى لها} أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65]. فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} قوله: {يومئذ} يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها. {يصدر الناس أشتاتاً} أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة ـ جعلنا الله منهم ـ يتجهون إليها، وأهل النار ـ والعياذ بالله ـ يساقون إليها {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [مريم: 85 ـ 87]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} [الإسراء: 21]. {ليروا أعمالهم} يعني يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك(42/3)
بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، وأما الكافر ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. وقوله: {ليروا أعمالهم} هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 64]. ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه. {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره} {من} شرطية تفيد العموم، يعني: أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر {مثقال ذرة} يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة: الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى {فمن يعمل(42/4)
مثقال ذرة خيراً يره}.
وقوله تبارك وتعالى: {مثقال ذرة} يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن الذي يوزن العمل.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكل دليل، أما من قال: إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية {فمن يعمل مثقال ذرة} لأن تقدير الاية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى.
ويجاب عن هذا بأن يقال:
أولاً: على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلّم من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا؟ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور.
ثانياً: أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال: يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت (معنى) ليس جسماً ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة، فيقولون: هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول.(42/5)
أما من قال: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مما تضحكون؟ أو مما تعجبون؟ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد» وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأول: أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال: اقرؤا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}. [الكهف: 105]. وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد»، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة. يقول عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره}.(42/6)
وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة. نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفداً إنه على كل شيء قدير.(42/7)
تفسير سورة العاديات
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَدِيَتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والعاديات ضبحاً} هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف؟ هل المراد الخيل يعني (والخيل العاديات) أو المراد الإبل يعني (والإبل العاديات)؟ في هذا قولان للمفسرين: فمنهم من قال: إن الموصوف هي الإبل، والتقدير (والإبل العاديات) ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها.(43/1)
أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن الموصوف هو الخيل والتقدير (والخيل العاديات) والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق. يقول الله تعالى: {والعاديات} والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله: {ضبحاً} الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته. {فالموريات قدحاً} الموريات من أورى أو وري بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضاً، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الخيل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الحجر الثاني ثم يقدح ناراً، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض. {فالمغيرات صبحاً} أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون في الإغارة على العدو أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار. {فأثرن به} أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة {نقعاً} وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر. {فوسطن به} أي توسطن بهذا الغبار {جمعاً} أي جموعاً من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذه غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». أقسم الله تعالى بهذه العاديات ـ بهذه الخيل التي بلغت الغاية ـ وهو الإغارة(43/2)
على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل. أما المقسم عليه فهو الإنسان فقال: {إن الإنسان لربه لكنود} والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه {لكنود} أي كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]. وقيل: المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنوداً لربه عز وجل، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتواً ونفوراً، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله. {وإنه على ذلك لشهيد} {إنه} الضمير قيل: يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله.
وقيل: إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل.(43/3)
والصواب أن الاية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضاً شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. {وإنه} أي الإنسان {لحب الخير لشديد} الخير هو المال كما قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} [البقرة: 180]. أي: إن ترك مالاً كثيراً. فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى: {وتحبون المال حبًّا جًّما} [الفجر: 20]. ولا تكاد تجد أحداً يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عبادالله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع. فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي للمال، لكن الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لاخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالاً لابد له منها فقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور} فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال {أفلا يعلم} أي يتيقن. {إذا بعثر ما في القبور} أي: نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعاً بصيحة واحدة {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. {وحصل ما في الصدور} أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك. وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 9، 10]. لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الاخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا(43/4)
قبل كل شيء قبل الأعمال؛ لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال: {وحصل ما في الصدور} ومناسبة الايتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر. {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} أي إن الله عز وجل بهم: أي: بالعباد لخبير، وجاء التعبير {بهم} ولم يقل (به) مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي: أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى {إن الإنسان} أي: أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم {إن ربهم بهم يومئذ} لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون.
هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، ونحن إنما نشير إلى المعاني إشارة موجزة. نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.(43/5)
تفسير سورة القارعة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.(44/1)
{القارعة} اسم فاعل من قرع، والمراد: التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاءالله وكل أتوه داخرين} [النمل: 87]. فهي تقرع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة هي قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، كما تسمى الغاشية، والحاقة، وقوله: {ما القارعة} {ما} هنا استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم يعني: ما هي القارعة التي ينوه عنها؟ {وما أدراك ما القارعة} هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني أي شيء أعلمك عن هذه القارعة؟ أي ما أعظمها وما أشدها، ثم بين متى تكون؟ فقال جل وعلا: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} أي: أنها تكون في ذلك الوقت، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم. قال العلماء: يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدي، وتتراكم وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى. و{المبثوث} يعني المنتشر، فهو كقوله تعالى: {يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]. لو تصورت هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه لتصورت أمراً عظيماً لا نظير له، هؤلاء العالم من آدم إلى أن تقوم الساعة كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي ألقي في لجة البحر، وأكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض، وأكلته السباع، أو ما أشبه ذلك، كلهم سيخرجون مرة واحدة، يصولون ويجولون في هذه الأرض. أما الجبال وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة فتكون {كالعهن المنفوش} {العهن} الصوف. وقيل: القطن. {المنفوش} المبعثر أي: أن هذه الجبال بعد أن كانت صلبة قوية راسخة تكون مثل العهن الصوف، أو القطن المبعثر(44/2)
ـ سواء نفشته بيدك أو بالمنداف فإنه يكون خفيفاً يتطاير مع أدنى ريح، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى أن الجبال تكون هباء منبثًّا {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثًّا} [الواقعة: 5، 6]. وقال جل وعلا هنا: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش}. {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينة فأمه هاوية. وما أدراك ما هي. نار حامية}. قسم الله تعالى الناس إلى قسمين:
القسم الأول: من ثقلت موازينه وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته. والثاني: من خفت موازينه وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليس له حسنة أصلاً كالكافر، يقول الله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة، يقال: عاش الرجل زمناً طويلاً، أي: بقي وحيي زمناً طويلاً، والعيشة هنا على وزن فعلة فهي هيئة وليست مصدراً، المصدر الدال على الوحدة أن تقول عيشة، وأما إذا قلت عِيْشَة فهي فعلة تدل على الهيئة، كما قال ابن مالك رحمه الله:
وفعلة لمرة كجَلسةٍ وفعلة لهيئة كجِلسةًالمعنى: أنه في حياة طيبة راضية. {راضية} قيل: إنها اسم فاعل بمعنى اسم المفعول، أي: مرضية. وقيل: إنها اسم فاعل من باب النسبة أي ذات رضى، وكلا المعنيين واحد، والمعنى: أنها عيشة طيبة ليس فيها نكد، وليس فيها صخب، وليس فيها نصب، كاملة من كل وجه، وهذا يعني العيش في الجنة جعلنا الله منهم. هذا العيش لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، لا يحزنون، ولا يخافون، في أنعم عيش، وأطيب بال، وأسر حال فهي عيشة راضية. {وأما من خفت موازينه} إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الاخرة، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر. {فأمه هاوية} أم هنا بمعنى مقصوده، أي: الذي يقصده الهاوية، والهاوية من أسماء النار،يعني أنه مآله إلى نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ.(44/3)
وقيل: إن المراد بالأم هنا: أم الدماغ، والمعنى: أنه يلقى في النار على أم رأسه. نسأل الله السلامة. وإذا كانت الاية تحتمل معنيين لا يترجح أحدهما على الاخر ولا يتنافيان فإنه يؤخذ بالمعنيين جميعاً فيقال: يرمى في النار على أم رأسه، وأيضاً ليس له مأوى ولا مقصد إلا النار. {وما أدراك ما هيه} هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهوية، يسأل ما هي؟ أتدري ما هي؟ إنها لشيء عظيم، إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحمو، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً». إذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب، أو الورق، أو البتغاز أو أشد من ذلك فإن نار جهنم مفضلة عليها بتسعة وستين جزءاً نسأل الله العافية. وفي هذه الاية التخويف والتحذير من هذا اليوم وأن الناس لا يخرجون عن حالين:
إما رجل رجحت حسناته، أو رجل رجحت سيئاته.
وفيها أيضاً دليل على أن يوم القيامة فيه موازين، وقد جاء في بعض النصوص أنه ميزان فهل هو واحد أو متعدد؟
قال بعض أهل العلم: إنه واحد وإنماجمع باعتبار الموزون، لأنه يوزن فيه الحسنات والسيئات، وتوزن فيه حسنات فلان وفلان، وتوزن فيه حسنات هذه الأمة والأمة الأخرى، فهو مجموع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان، وإلا فالميزان واحد.
وقال بعض أهل العلم: إنها موازين متعددة، لكل أمة ميزان، ولكل عمل ميزان فلهذا جمعت.
والأظهر ـ والله أعلم أنه ميزان واحد ـ لكنه جمع باعتبار الموزون على حسب الأعمال، أو على حسب الأمم، أو على حسب الأفراد.(44/4)
وفي هذه الاية دليل على أن الإنسان إذا تساوت حسناته وسيئاته فإنه قد سكت عنه في هذه الاية، ولكن بين الله تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار وإنما يحبسون في مكان يقال له الأعراف، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، وأنهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن رجحت حسناته على سيئاته، وأن يغفر لنا، ويعاملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير.(44/5)
تفسير سورة التكاثر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسَْلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} هذه الجملة جملة خبرية يخبر الله عز وجل بها العباد مخاطباً لهم يقول: {ألهاكم التكاثر} ومعنى {ألهاكم} أي شغلكم حتى لهوتم عن ما هو أهم من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأمة إلا أنه يخصص بمن شغلتهم أمور الاخرة عن أمور الدنيا وهم قليل، وإنما نقول هم قليل لأنه ثبت في الصحيحين أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: {يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين»، واحد في الجنة والباقي في النار، وهذا عدد هائل! إذا لم يكن من بني آدم إلا واحداً من الألف من أهل الجنة والباقون من أهل النار، إذاً فالخطاب بالعموم في مثل هذه الاية جار على أصله، لأن الواحد من الألف ليس بشيء بالنسبة إليه، وأما قوله: {التكاثر} فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدل لذلك قول صاحب الجنة لصاحبه: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} [الكهف: 34]. فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الاخر مالاً وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول نحن أكثر منهم عدداً، كما قال الشاعر:(45/1)
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثرأكثر منهم حصى؛ لأنهم كانوا فيما سبق يعدون الأشياء بالحصى. فمثلاً: إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والاخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول أكثر وأعز، فيقول الشاعر:
لست بالأكثر منهم حصى وإنما العزةُ للكاثر كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يكاثر على غيره بالعلم لكن إن كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإن كان بالعلم غير الشرعي فهو إما مباح وإما محرم. وهذا هو الغالب على بني آدم التكاثر. فيتكاثرون في هذه الأمور عما خلقوا له من عبادة الله عز وجل. وقوله: {حتى زرتم المقابر} يعني إلى أن زرتم المقابر، يعني إلى أن مُتم، فالإنسان مجبول على التكاثر إلى أن يموت، بل كلما ازداد به الكِبر ازداد به الأمل، فهو يشيب في السن ويشب في الأمل، حتى إن الرجل له تسعون سنة مثلاً تجد عنده من الامال وطول الأمل ما ليس عند الشاب الذي له خمس عشرة سنة. هذا هو معنى الاية الكريمة. أي: أنكم تلهوتم بالتكاثر عن الاخرة إلى أن متم.(45/2)
وقيل: إن معنى {حتى زرتم المقابر} حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان فيقول: أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك وإذا شئت فاذهب إلى القبور عد القبور منا، وعد القبور منكم فأينا أكثر؟ لكن هذا قول ضعيف بعيد من سياق الاية. والمعنى الأول هو الصحيح أنكم تتكاثرون إلى أن تموتوا. وقوله: {حتى زرتم المقابر} استدل به عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ على أن الزائر لابد أن يرجع إلى وطنه، وأن القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يذكر عن بعض الأعراب أنه سمع قارىء يقرأ: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال: «والله ما الزائر بمقيم والله لنبعثن»، لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال: والله لنبعثن. وهذا هو الحق. وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الان في الجرائد وغيرها. يقول عن الرجل إذا مات: «إنه انتقل إلى مثواه الأخير»، إن هذا كلام باطل وكذب؛ لأن القبور ليس هي المثوى الخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافراً بالبعث، والكفر بالبعث ردة عن الإسلام، لكن كثيًرا من الناس يأخذون الكلمات ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت، لهذا يجب تجنب هذه العبارة، فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة. ثم قال الله تعالى: {كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون} قيل: إن {كلا} بمعنى الردع يعني: ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل: إنها بمعنى حقًّا، ومعنى {سوف تعلمون} أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الاخرة، وأن هذا التكاثر لا ينفعكم. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه مسلم «يقول ابن آدم: مالي ومالي ـ يعني: يفتخر به ـ وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» والباقي تاركه لغيرك وهذا هو الحق، أموالنا التي بين أيدينا. إما أن نأكلها(45/3)
فتفنى، وإما أن نلبسها فتبلى، وإما أن نتصدق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة. وإما أن نتركها لغيرنا لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرباعية. {كلا سوف تعلمون} أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الاخرة {ثم كلا سوف تعلمون} وهذه الجملة تأكيد للردع مرة ثانية، ثم قال: {كلا لو تعلمون علم اليقين} يعني: حقًّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال، ولكنكم لا تعلمون علم اليقين، لأنكم غافلون لاهون في هذه الدنيا،ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال وفي خطأ عظيم. ثم قال تعالى: {لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين} {لترون} هذه الجملة مستقلة ليست جواب «لو» ولهذا يجب على القارىء أن يقف عند قوله: {كلا لو تعلمون علم اليقين} ونحن نسمع كثيراً من الأئمة يصلون فيقولون {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} وهذا الوصل إما غفلة منهم ونسيان، وإما أنهم لم يتأملوا الاية حق التأمل، وإلا لو تأملوها حق التأمل لوجدوا أن الوصل يفسد المعنى لأنه إذا قال «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» صار رؤية الجحيم مشروطة بعلمهم، وهذا ليس بصحيح، لذلك يجب التنبه والتنبيه لهذا من سمع أحد يقرأ «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» ينبه ويقول له: يا أخي هذا الوصل يوهم فساد المعنى، فلا تصل وقف، أولاً: لأنها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كل آية، وثانياً: أن الوصل يفسد المعنى «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» إذاً {لترون الجحيم} جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسمية، فيما قسم مقدر والتقدير: والله لترون الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها: إن اللام موطئة للقسم، وجملة «ترون» هي جواب القسم، والقسم محذوف والتقدير «والله لترون الجحيم» و{الجحيم} اسم من أسماء النار {ثم لترونها عين اليقين} تأكيد لرؤيتها، ومتى ترى؟ تُرى يوم القيامة، يؤتى بها تُجر(45/4)
بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، فما ظنك بهذه النار ـ والعياذ بالله ـ إنها نار كبيرة عظيمة لأن فيها سبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، والملائكة عظام شداد فهي نار عظيمة ـ أعاذنا الله منها. {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} يعني: ثم في ذلك الوقت في ذلك الموقف العظيم تسألن عن النعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله: {لتسألن يومئذ عن النعيم} هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر؟(45/5)
والصواب: أن المراد المؤمن والكافر كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير، والدليل على أنه عام ما جرى في قصة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر وعمر، فعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع، يا رسول الله! قال: «وأنا، والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا» فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً! وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصاحبه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بُسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إياك! والحلوب» فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده! لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم». وفي رواية أخرى: «هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد».وهذا دليل على أن الذي يُسأل المؤمن والكافر. ولكن يختلف السؤال، سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه حتى يفرح، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ينعم عليه في الاخرة، بمعنى أنه إذا تكرم بنعمته عليه في الدنيا تكرم عليه بنعمته في الاخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنديم. نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا عونًا على طاعته، إنه على كل شيء قدير.(45/6)
تفسير سورة العصر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله عز وجل: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.
وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إن الإنسان لفي خسر} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل «ال» كلمة «كل» فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الاية الكريمة أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لفي خسر} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن «في» للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع:(46/1)
الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيماناً لا شك فيه ولا تردد.
والقسم الثاني: كافر جاحد منكر.(46/2)
والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد»، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلاً، بهماً. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك» أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه(46/3)
ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا «أن تؤمن بالله واليوم الاخر» والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذاً فالإيمان في قوله: {إلا الذين آمنوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام. أما قوله: {وعملوا الصالحات} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصالحات} هي التي اشتملت على شيئين:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.(46/4)
وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». إذاً العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وتواصوا بالحق} أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطاً في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلاً لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وتواصوا بالصبر} أي: يوصي بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على طاعة الله.
القسم الثاني: صبر عن محارم الله.
القسم الثالث: صبر على أقدار الله.(46/5)
الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلاً: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلاً تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشياً في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء.
ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب». الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط.
فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟(46/6)
فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11]. إذاً نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: «لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم». يعني: كفتهم موعظة وحثاً على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير.(46/7)
تفسير سورة الهمزة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ويل لكل همزة} في هذه السورة يبتدىء الله سبحانه وتعالى بكلمة {ويل} وهي كلمة وعيد، أي أنها تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات. {همزة لمزة} إلى آخره، وقيل: إن {ويل} اسم لوادٍ في جهنم ولكن الأول أصح. {لكل همزة لمزة} كل من صيغ العموم، والهمزة واللمزة وصفان لموصوف واحد، فهل هما بمعنى واحد؟ أو يختلفان في المعنى؟
قال بعض العلماء: إنهما لفظان لمعنى واحد، يعني أن الهمزة هو اللمزة. وقال بعضهم: بل لكل واحد منهما معنى غير المعنى الاخر.(47/1)
وثم قاعدة أحب أن أنبه عليها في التفسير وغير التفسير وهي: أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الكلمة مع الأخرى بمعنى واحد، أو لكل كلمة معنى، فإننا نجعل لكل واحدة معنى، لأننا إذا جعلنا الكلمتين بمعنى واحد صار في هذا تكرار لا داعي له، لكن إذا جعلنا كل واحدة لها معنى صار هذا تأسيسًا وتفريقًا بين الكلمتين، والصحيح في هذه الاية {لكل همزة لمزة} أن بينهما فرقًا: فالهمزة: بالفعل. واللمز: باللسان، كما قال الله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]. فالهمز بالفعل يعني أنه يسخر من الناس بفعله إما أن يلوي وجهه، أو يعبس بوجهه. أو ما أشبه ذلك، أو بالإشارة يشير إلى شخص، انظروا إليه ليعيبه أو ما أشبه ذلك، فالهمز يكون بالفعل، واللمز باللسان، وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مشغوف بعيب البشر إما بفعله وهو الهمَّاز، وإما بقوله وهو اللمَّاز، وهذا كقوله تعالى: {ولا تطع كل حلاَّف مهين. هَّماز مشاء بنميم} [القلم: 10، 11]. {الذي جمع مالاً وعدده} هذه أيضاً من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي يجمع المال ويعدده. {وعدده} وقيل: معنى التعديد يعني الإحصاء يعني لشغفه بالمال كل مرة يذهب إلى الصندوق ويعد، يعد الدراهم في الصندوق في الصباح، وفي آخر النهار يعدها، وهو يعرف أنه لم يأخذ منه شيئاً ولم يضف إليه شيئاً لكن لشدة شغفه بالمال يتردد عليه ويعدده، ولهذا جاءت بصيغة المبالغة {عدده} يعني أكثر تعداده لشدة شغفه ومحبته له يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائماً يعدد المال.(47/2)
وقيل معنى {عدده} أي جعله عُدة له يعني ادخره لنوائب الدهر، وهذا وإن كان اللفظ يحتمله لكنه بعيد، لأن إعداد المال لنوائب الدهر مع القيام بالواجب بأداء ما يجب فيه من زكاة وحقوق ليس مذموماً، وإنما المذموم أن يكون أكبر هم الإنسان هو المال، يتردد إليه ويعدده، وينظر هل زاد، هل نقص، فالقول بأن المراد عدده أي: جمعه للمستقبل قول ضعيف. {يحسب أن ماله أخلده} يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الاية: {يحسب أن ماله أخلده} أي: أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك. فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيىء. فيقال: أبخل من فلان، وأبخل من فلان ويذكر في المجالس ويعاب، ولهذا قال: {كلا لينبذن في الحطمة} {كلا} هنا يسميها العلماء حرف ردع أي: تردع هذا القائل أو هذا الحاسب عن قوله أو عن حسبانه. ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا «يعني حقاً لينبذن» وكلاهما صحيح، هذا الرجل لن يخلده ماله، ولن يخلد ذكراه، بل سينسى ويطوى ذكره، وربما يذكر بالسوء لعدم قيامه بما أوجب الله عليه من البذل. {لينبذن في الحطمة} اللام هذه واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير «والله لينبذن في الحطمة» أي: يطرح طرحاً. وإذا قلنا: أن اللام لجواب القسم صارت هذه الجملة مؤكدة باللام، ونون التوكيد، والقسم المحذوف. ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، أي تأكيد الشيء باليمين، واللام، والنون. والله تعالى يقسم بالشيء تأكيداً له وتعظيماً لشأنه. وقوله: {لينبذن} ما الذي يُنبذ هل هو صاحب المال أو المال؟ كلاهما ينبذ، أما صاحب المال فإن الله يقول في آية أخرى: {يوم يدَّعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: يدفعون، وهنا يقول: «ينبذ» أي يطرح في الحطمة، والحطمة هي التي(47/3)
تحطم الشيء، أي: تفتته وتكسره فما هي؟ قال الله تعالى: {وما أدراك ما الحطمة} وهذه الصيغة للتعظيم والتفخيم {نار الله الموقدة} هذا الجواب أي: هي نار الله الموقدة. وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه؛ لأنه يعذب بها من يستحق العذاب فهي عقوبة عدل وليست عقوبة ظلم. أي: نار يحرق الله بها من يستحق أن يُعذب بها، إذاً هي نار عدل وليست نار ظلم. لأن الإحراق بالنار قد يكون ظلماً وقد يكون عدلاً، فتعذيب الكافرين في النار لا شك أنه عدل، وأنه يُثنى به على الرب عز وجل حيث عامل هؤلاء بما يستحقون. وتأمل قوله: {الحطمة} مع فعل هذا الفاعل {همزة لمزة} حطمة، وهمزة لمزة، على وزن واحد ليكون الجزاء مطابقاً للعمل حتى في اللفظ {نار الله الموقدة} أي: المسجّرة المسعرة. {التي تطلع على الأفئدة} الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب. والمعنى: أنها تصل إلى القلوب ـ والعياذ بالله ـ من شدة حرارتها، مع أن القلوب مكنونة في الصدور وبينها وبين الجلد الظاهر ما بينها من الطبقات لكن مع ذلك تصل هذه النار إلى الأفئدة. {إنها عليهم} أي: الحطمة وهي نار الله الموقدة أي على الهمَّاز واللمَّاز الجمَّاع للمال المناع للخير، وأعاد الضمير بلفظ الجمع مع أن المرجع مفرد باعتبار المعنى، لأن {لكل همزة} عام يشمل جميع الهمَّازين وجميع اللمَّازين {مؤصدة} أي: مغلقة، مغلقة الأبواب لا يُرجى لهم فرج ـ والعياذ بالله ـ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} يعني: يرفعون إلى أبوابها حتى يطمعوا في الخروج ثم بعد ذلك يركسون فيها ويعادون فيها، كل هذا لشدة التعذيب؛ لأن الإنسان إذا طمع في الفرج وأنه سوف ينجو ويخلص يفرح، فإذا أعيد صارت انتكاسة جديدة، فهكذا يعذبون بضمائرهم وأبدانهم، وعذاب أهل النار مذكور مفصل في القرآن الكريم والسنة النبوية. تأمل الان لو أن إنسانًا كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب، الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ في حسرة عظيمة لا(47/4)
يمكن أن يماثلها حسرة. فهم ـ والعياذ بالله ـ هكذا في النار، النار عليهم مؤصدة {في عمد ممددة} أي: أن هذه النار مؤصدة، وعليها أعمدة ممدة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها.
حكى الله سبحانه وتعالى ذلك علينا وبينه لنا في هذه السورة لا لمجرد أن نتلوه بألسنتنا، أو نعرف معناه بأفهامنا، لكن المراد أن نحذر من هذه الأوصاف الذميمة: عيب الناس بالقول، وعيب الناس بالفعل، والحرص على المال حتى كأن الإنسان إنما خلق للمال ليخلد له، أو يخلد المال له، ونعلم أن من كانت هذه حاله فإن جزاءه هذه النار التي هي كما وصفها الله، الحطمة، تطلع على الأفئدة، مؤصدة، في عمد ممدة. نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والاستقامة على دينه.(47/5)
تفسير سورة الفيل
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، فعلى الأول يكون خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطاب له وللأمة؛ لأن أمته تابعة له، وعلى الثاني يكون الخطاب عام له ولأمته، ابتداءً، وعلى كلٍّ فإن الله تعالى يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم أهل اليمن الذين جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة، وسبب ذلك أن ملك اليمن أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة، بيت الله عز وجل فبنى بيتاً يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه ليصدهم عن حج بيت الله فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلاً عن الكعبة وتغوَّط فيه، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضباً شديداً، وأخبر ملك الحبشة بذلك فأرسل إليه هذا الفيل العظيم قيل: وكان معه ستة فيلة لتساعده فجاء ملك اليمن بجنوده ليهدم الكعبة على زعمه، ولكن الله سبحانه حافظ بيته، فلما وصلوا إلى مكان يسمى المغمَّس وقف الفيل وحرن، وأبى أن يتجه إلى الكعبة فزجره سايسه ولكنه أبى، فإذا وجهوه إلى اليمن انطلق يهرول، وإن وجهوه إلى مكة وقف، وهذه آية من آيات الله عز وجل، ثم بقوا حتى أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل {ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل} قال العلماء: {طيراً أبابيل} يعني: جماعات متفرقة، كل طير في منقاره حجر صلب {من سجيل} وهو الطين المشوي؛ لأنه يكون أصلب،(48/1)
وهذا الحجر ليس كبيراً، بل هو صغير يضرب الواحد من هؤلاء مع رأسه ويخرج من دبره ـ والعياذ بالله ـ {فجعلهم كعصف مأكول} أي: كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت.
هذا مجمل هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها ما فعل بأصحاب الفيل وأن كيدهم صار في نحورهم، وهكذا كل من أراد الحق بسوء فإن الله تعالى يجعل كيده في نحره، وإنما حمى الله عز وجل الكعبة عن هذا الفيل مع أنه في آخر الزمان سوف يُسلط عليها رجل من الحبشة يهدمها حجراً حجراً حتى تتساوى بالأرض لأن قصة أصحاب الفيل مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي يكون فيها تعظيم البيت. أما في آخر الزمان فإن أهل البيت إذا أهانوه وأرادوا فيه بإلحاد بظلم، ولم يعرفوا قدره حينئذ يسلط الله عليهم من يهدمه حتى لا يبقى على وجه الأرض، ولهذا يجب على أهل مكة خاصة أن يحترزوا من المعاصي والذنوب والكبائر، لئلا يُهينوا الكعبة فيذلهم الله عز وجل. نسأل الله تعالى أن يحمي ديننا وبيته الحرام من كيد كل كائد، إنه على كل شيء قدير.(48/2)
تفسير سورة قريش
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{لإِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِيلَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، (على قريش) وهو إلا فهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، {لإيلف قريش. إلا فهم رحلة الشتاء والصيف} والإلف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين؛ لأنه يحصل منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله أن يعبدوا رب هذا البيت قال: {فليعبدوا رب هذا البيت} شكراً له على هذه النعمة، والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو أن تكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق، أي فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً. أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنا، على وجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معاني العبادة، وتطلق العبادة على نفس المتعبد به، وقد حدّها شيخ(49/1)
الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بهذا المعنى فقال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة. وقوله: {رب هذا البيت} يعني به الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26]. وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: {رب هذا البيت} وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم {طهر بيتي للطائفين} أضاف الله البيت إليه تشريفاً وتعظيماً، إذاً خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسة مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً، وفي آية ثانية قال: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} وبعدها قال: {وله كل شيء} احتراز من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها فقال: {وله كل شيء}، ولكل مقام صيغة مناسبة، ففي قوله: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91]. مناسبة بيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده قوله: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} {الذي} هذه صفة للرب، إذاً فمحلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول {فليعبدوا رب هذا البيت} ثم تقول: {الذي أطعمهم} لأنك لو وصلت فقلت: «رب هذا البيت الذي أطعمهم» لظن السامع أن «الذي» صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم به المعنى. {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} بين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه، {وآمنهم من خوف} وقاية من الخوف في الأمر الظاهر؛ لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو، وخاف أهلها وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة، {وآمنهم من خوف} آمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها، ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يسفك فيها(49/2)
دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمة ولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد من المسلمين لم يأتها ولا مرة إلا محرماً، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه. صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه الجزاء، فأعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه، ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم التي ليست صيوداً تحرم، لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم أن يذبحوا وينحروا في هذا المكان. وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67]. يعني أفلا يشكرون الله على هذا؟! فهذه السورة كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع.
فإذا قال قائل: ما واجب قريش نحو هذه النعمة؟ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الان من قريش أو غيرهم؟(49/3)
قلنا: الواجب الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه. ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25]. فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم به فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد. والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، فبلادنا ـ ولله الحمد ـ اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رغداً وعيشاً. أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت، وأن نكون إخوة متآلفين، والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوا فيما بينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه؛ لأنه ليس مشرعاً معصوماً حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ. الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36]. أما كون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنه باطل فهذا خطأ، وهذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسول وقالوا: {إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]. نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير.(49/4)
تفسير سورة الماعون
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله تبارك وتعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} {أرأيت} الخطاب هل هو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الذي أنزل عليه القرآن؟ أو هو عام لكل من يتوجه إليه الخطاب؟ العموم أولى فنقول: {أرأيت الذي} عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، {أرأيت الذي يكذب بالدين} أي بالجزاء، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث ويقولون: {أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون. أوءاباؤنا الأولون} [الصافات: 16، 17]. ويقول القائل منهم: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. هؤلاء يكذبون بيوم الدين أي: بالجزاء. {فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين} فجمع بين أمرين:
الأمر الأول: عدم الرحمة بالأيتام الذين هم محل الرحمة؛ لأن الأيتام هم الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا، وهم محل الشفقة والرحمة؛ لأنهم فاقدون لابائهم فقلوبهم منكسرة يحتاجون إلى جابر. ولهذا وردت النصوص بفضل الإحسان إلى الأيتام. لكن هذا ـ والعياذ بالله ـ {يدع اليتيم} أي: يدفعه بعنف، لأن الدع هو الدفع بعنف كما قال الله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: دفعاً شديداً، فتجد اليتيم إذا جاء إليه يستجديه شيئاً، أو يكلمه في شيء يحتقره ويدفعه بشدة فلا يرحمه.
الأمر الثاني: لا يحثون على رحمة الغير {ولا يحض على طعام المسكين} فالمسكين الفقير المحتاج إلى الطعام لا يحض هذا الرجل على إطعامه؛ لأن قلبه حجر قاسٍ، فقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة. إذاً ليس فيه رحمة لا للأيتام ولا للمساكين، فهو قاسي القلب.(50/1)
ثم قال عز وجل: {فويل للمصلين} ويل: هذه كلمة وعيد وهي تتكرر في القرآن كثيراً، والمعنى الوعيد الشديد على هؤلاء، {الذين هم عن صلاتهم ساهون} هؤلاء مصلون يصلون مع الناس أو أفراداً لكنهم {عن صلاتهم ساهون} أي: غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي، يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا قعودها، لا يقرأون ما يجب فيها من قراءة سواء كانت قرآناً أو ذكراً، إذا دخل في صلاته هو غافل، قلبه يتجول يميناً وشمالاً، فهو ساهٍ عن صلاته، وهذا مذموم، الذي يسهو عن الصلاة ويغفل عنها ويتهاون بها لا شك أنه مذموم. أما الساهي في صلاته فهذا لا يُلام، والفرق بينهما أن الساهي في الصلاة معناه أنه نسي شيئاً، نسي عدد الركعات، نسي شيئًا من الواجبات وما أشبه ذلك. ولهذا وقع السهو من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أشد الناس إقبالاً على صلاته بل إنه قال عليه الصلاة والسلام: «جعلت قرة عيني في الصلاة»، ومع ذلك سهى في صلاته لأن السهو في الشيء معناه أنه نسي شيئًا على وجه لا يلام عليه. أما الساهي عن صلاته فهو متعمد للتهاون في صلاته، ومن السهو عن الصلاة أولئك القوم الذين يدعون للصلاة مع الجماعة، فإنهم لا شك عن صلاتهم ساهون فيدخلون في هذا الوعيد. {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يرآءون} أيضاً إذا فعلوا الطاعة فإنما يقصدون بها التزلف إلى الناس، وأن يكون لهم قيمة في المجتمع، ليس قصدهم التقرب إلى الله عز وجل، فهذا المرائي يتصدق من أجل أن يقول الناس ما أكرمه، هذا المصلي يحسن صلاته من أجل أن يقول الناس ما أحسن صلاته وما أشبه ذلك. هؤلاء يراءون، فأصل العبادة لله، لكن يريدون مع ذلك أن يحمدهم الناس عليها، ويتقربون إلى الناس بتقربهم إلى الله، هؤلاء هم المراءون. أما من يصلي لأجل الناس بمعنى أنه يصلي بين يدي الملك مثلاً أو غيره يخضع له ركوعاً، أو سجوداً فهذا مشرك كافر قد(50/2)
حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. لكن هذا يصلي لله مع مراعاة أن يحمده الناس على عبادته، على أنه عابد لله عز وجل. وهذا يقع كثيراً في المنافقين. كما قال الله تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]. انظر إلى هذا الوصف إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذاً هم عن صلاتهم ساهون. يراءون الناس. وهنا يقول الله عز وجل: {الذين هم يراؤن} فهل الذين يسمّعون مثلهم؟ يعني إنسان يقرأ قرآنًا ويجهر بالقراءة ويحسن القراءة، ويحسن الأداء والصوت من أجل أن يقال ما أقرأه. هل يكون مثل الذي يرائي؟ الجواب: نعم كما جاء في الحديث، «من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به»، المعنى من سمّع فضحه الله وبين للناس أن الرجل ليس مخلصاً، ولكنه يريد أن يسمعه الناس: فيمدحوه على عبادته، ومن راءى كذلك راءى الله به، فالإنسان الذي يرائي الناس، أو يسمّع الناس سوف يفضحه الله، وسوف يتبين أمره إن عاجلاً أم آجلاً. {ويمنعون الماعون} أي: يمنعون ما يجب بذله من المواعين وهي الأواني، يعني يأتي الإنسان إليهم يستعير آنية. يقول: أنا محتاج إلى دلو، أو محتاج إلى إناء أشرب به، أو محتاج إلى مصباح كهرباء وما أشبه ذلك، فيمنع. فهذا أيضاً مذموم. ومنع الماعون ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم يأثم به الإنسان.
القسم الثاني: قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير.
فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير. مثال ذلك: إنسان جاءه رجل مضطر يقول: أعطني ماءً أشربه، فإن لم أشرب مت، فبذل الإناء له واجب يأثم بتركه الإنسان، حتى إن بعض العلماء يقول: لو مات هذا الإنسان فإنه يضمنه بالدية، لأنه هو سبب موته ويجب عليه بذل ما طلبه.(50/3)
فيجب على المرء أن ينظر في نفسه هل هو ممن اتصف بهذه الصفات أو لا؟ إن كان ممن اتصف بهذه الصفات قد أضاع الصلاة وسها عنها، ومنع الخير عن الغير فليتب وليرجع إلى الله، وإلا فليبشر بالويل ـ والعياذ بالله ـ وإن كان قد تنزه عن ذلك فليبشر بالخير، والقرآن الكريم ليس المقصود منه أن يتلوه الإنسان، ليتعبد لله تعالى بتلاوته فقط، المقصود أن يتأدب به ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن». خُلقه يعني أخلاقه التي يتخلق بها يأخذها من القرآن. وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والاخرة. إنه على كل شيء قدير.(50/4)
تفسير سورة الكوثر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَرُ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة قيل إنها مكية، وقيل: إنها مدنية. والمكي هو الذي نزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة سواء نزل في مكة، أو في المدينة، أو في الطريق في السفر، فكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبلها فهو مكي، هذا هو القول الراجح من أقوال العلماء، يقول الله عز وجل مخاطباً النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إنا أعطيناك الكوثر} الكوثر: في اللغة العربية هو الخير الكثير. وهكذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه الله تعالى خيراً كثيراً في الدنيا والاخرة. فمن ذلك النهر العظيم الذي في الجنة والذي يصبّ منه ميزابان على حوضه المورود صلى الله عليه وسلّم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى مذاقاً من العسل، (وأطيب رائحة من المسك)، وهذا الحوض في القيامة في عرصات القيامة يرده المؤمنون من أمة النبي صلى الله عليه وسلّم. وآنيته كنجوم السماء كثرة وحسناً، فمن كان وارداً على شريعته في الدنيا كان وارداً على حوضه في الاخرة، ومن لم يكن وارداً على شريعته فإنه محروم منه في الاخرة. ومن الخيرات الكثيرة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلّم في الدنيا ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمساً لم يُعطهن أحداً من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلاً من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وأحلت لي المغانم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة». هذا من الخير الكثير، لأن بعثه إلى الناس عامة يستلزم أن يكون أكثر الأنبياء اتباعاً وهو كذلك فهو أكثرهم أتباعاً عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن(51/1)
الدال على الخير كفاعل الخير، والذي دل هذه الأمة العظيمة التي فاقت الأمم كثرة هو محمد صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فيكون للرسول عليه الصلاة والسلام من أجر كل واحد من أمته نصيب. ومن يحصي الأمة إلا الله عز وجل، ومن الخير الذي أعطيه في الاخرة المقام المحمود، ومنه الشفاعة العظمى، فإن الناس في يوم القيامة يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيطلبون الشفاعة، فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقوم ويشفع، ويقضي الله تعالى بين العباد بشفاعته، وهذا مقام يحمده عليه الأولون والاخرون وداخل في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79]. إذاً الكوثر يعني الخير الكثير، ومنه النهر الذي في الجنة، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر لا شك، ويسمى كوثراً لكنه ليس هو فقط الذي أعطاه الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخير، ولما ذكر منته عليه بهذا الخير الكثير قال: {فصل لربك وانحر} شكراً لله على هذه النعمة العظيمة، أن تصلي وتنحر لله، والمراد بالصلاة هنا جميع الصلوات، وأول ما يدخل فيها الصلاة المقرونة بالنحر وهي صلاة عيد الأضحى لكن الاية شاملة عامة {فصل لربك} الصلوات المفروضة والنوافل. صلوات العيد والجمعة {وانحر} أي: تقرب إليه بالنحر، والنحر يختص بالإبل، والذبح للبقر والغنم، لكنه ذكر النحر، لأن الإبل أنفع من غيرها بالنسبة للمساكين، ولهذا أهدى النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع مائة بعير، ونحر منها ثلاثة وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحرها. وتصدق بجميع أجزائها إلا بضعة واحدة من كل ناقة، فأخذها وجعلت في قدر، فطبخها فأكل من لحمها، وشرب من مرقها، وأمر بالصدقة حتى بجلالها وجلودها عليه الصلاة والسلام، والأمر في الاية أمر له وللأمة، فعلينا أن نخلص الصلاة لله، وأن(51/2)
نخلص النحر لله كما أُمر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلّم ثم قال {إن شانئك هو الأبتر} هذا في مقابل إعطاء الكوثر قال: {إن شانئك هو الأبتر} {شانئك} أي مبغضك، والشنئان هو البغض، ومنه قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]. أي: لا يحملنكم بغضهم أن تعتدوا. {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا} [المائدة: 8]. أي: لا يحملنكم بغضهم على ترك العدل {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فشانئك في قوله: {إن شانئك} يعني مبغضك {هو الأبتر} الأبتر: اسم تفضيل من بتر بمعنى قطع، يعني هو الأقطع. المنقطع من كل خير، وذلك أن كفار قريش يقولون: محمد أبتر، لا خير فيه ولا بركة فيه ولا في اتباعه، أبتر لما مات ابنه القاسم رضي الله عنه قالوا: محمد أبتر، لا يولد له، ولو ولد له فهو مقطوع النسل، فبين الله عز وجل أن الأبتر هو مبغض الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأبتر المقطوع عن كل خير. الذي ليس فيه بركة، وحياته ندامة عليه، وإذا كان هذا في مبغضه فهو أيضاً في مبغض شرعه. فمن أبغض شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شعيرة من شعائر الإسلام، أو أبغض أي طاعة مما يتعبد به الناس في دين الإسلام فإنه كافر، خارج عن الدين لقول الله تعالى: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} [محمد: 9]. ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، فمن كره فرض الصلوات فهو كافر ولو صلى، ومن كره فرض الزكاة فهو كافر ولو صلى، لكن من استثقلها مع عدم الكراهة فهذا فيه خصلة من خصال النفاق لكنه لا يكفر. وفرق بين من استثقل الشيء ومن كره الشيء.(51/3)
إذاً هذه السورة تضمنت بيان نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعطائه الخير الكثير، ثم الأمر بالإخلاص لله عز وجل في الصلوات والنحر، وكذلك في سائر العبادات، ثم بيان أن من أبغض الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شيئاً من شريعته فإنه هو الأقطع الذي لا خير فيه ولا بركة فيه، نسأل الله العافية والسلامة.(51/4)
تفسير سورة الكافرون
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة هي إحدى سورتي الإخلاص، لأن سورتي الإخلاص {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ بهما في سُنة الفجر وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف لما تضمنتاه من الإخلاص لله عز وجل، والثناء عليه بالصفات الكاملة في سورة {قل هو الله أحد}. {قل يا أيها الكافرون} يناديهم يعلن لهم بالنداء {يا أيها الكافرون} وهذا يشمل كل كافر سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الشيوعيين أو من غيرهم. كل كافر يجب أن تناديه بقلبك أو بلسانك إن كان حاضراً لتتبرأ منه ومن عبادته {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} كُررت الجمل على مرتين مرتين {لا أعبد ما تعبدون} أي: لا أعبد الذين تعبدونهم، وهم الأصنام {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وهو الله، و«ما» هنا في قوله: {ما أعبد} بمعنى «من» لأن اسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ «من» {لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني: أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} قد يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك لأن الصيغة مختلفة {لا أعبد ما تعبدون} فعل. {ولا أنا عابد ما عبدتم} «عابد» و«عابدون» اسم، والتوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى. إذاً القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف، إذاً لماذا هذا التكرار؟(52/1)
قال بعض العلماء: {لا أعبد ما تعبدون} أي: الان {ولا أنا عابد ما عبدتم} في المستقبل، فصار {لا أعبد ما تعبدون} أي: في الحال، {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال، واسم الفاعل يدل على الاستقبال. بدليل أنه عمل، واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال، {لا أعبد ما تعبدون} الان {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني الان. {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني في المستقبل.
لكن أورد على هذا القول إيراد كيف قال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله؟! وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف.
وأجابوا عن ذلك بأن قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يخاطب المشركين الذين عَلِم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا. فيكون الخطاب ليس عامًّا، وهذا مما يضعف القول بعض الشيء.
فعندنا الان قولان:
الأول: إنها توكيد.
والثاني: إنها في المستقبل.
القول الثالث: {لا أعبد ما تعبدون} أي: لا أعبد الأصنام التي تعبدونها. {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: في العبادة يعني ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي، فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول به، يعني ليس نفيًا للمعبود. لكنه نفي للعبادة أي لا أعبد كعبادتكم، ولا تعبدون أنتم كعبادتي، لأن عبادتي خالصة لله، وعبادتكم عبادة شرك.(52/2)
القول الرابع: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن قوله {لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد} هذا الفعل. فوافق القول الأول في هذه الجملة. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: في القبول، بمعنى ولن أقبل غير عبادتي، ولن أقبل عبادتكم، وأنتم كذلك لن تقبلوا. فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل. والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا، يعني لا أعبده ولا أرضاه، وأنتم كذلك. لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته.
وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الهفوات السابقة، فيكون قولاً حسناً جيداً، ومن هنا نأخذ أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر لغير فائدة إطلاقاً، ليس فيه شيء مكرر إلا وله فائدة. لأننا لو قلنا: إن في القرآن شيئاً مكرراً بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو، وهو منزه عن ذلك، وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وفي سورة المرسلات {ويل يومئذ للمكذبين} تكرار لفائدة عظيمة، وهي أن كل آية مما بين هذه الاية المكررة، فإنها تشمل على نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ثم إن فيها من الفائدة اللفظية التنبيه للمخاطب حيث يكرر عليه {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ويكرر عليه {ويل يومئذ للمكذبين}.
ثم قال عز وجل: {لكم دينكم ولي دين} {لكم دينكم} الذي أنتم عليه وتدينون به. ولي ديني، فأنا برىء من دينكم، وأنتم بريؤون من ديني.
قال بعض أهل العلم: وهذه السورة نزلت قبل فرض الجهاد؛ لأنه بعد الجهاد لا يقر الكافر على دينه إلا بالجزية إن كانوا من أهل الكتاب. وعلى القول الراجح أو من غيرهم.(52/3)
ولكن الصحيح أنها لا تنافي الأمر بالجهاد حتى نقول إنها منسوخة، بل هي باقية ويجب أن نتبرأ من دين اليهود والنصارى والمشركين، في كل وقت وحين، ولهذا نقر اليهود والنصارى على دينهم بالجزية، ونحن نعبد الله، وهم يعبدون ما يعبدون، فهذه السورة فيها البراءة والتخلي من عبادة غير الله عز وجل، سواء في المعبود أو في نوع الفعل، وفيها الإخلاص لله عز وجل، وأن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وإلى هنا ينتهي ما تيسر من الكلام على هذه السورة.(52/4)
تفسير سورة النصر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوِبَا}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إذا جاء نصر الله والفتح} الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {نصر الله} النصر هو تسليط الله الإنسان على عدوه بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته، والنصر أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله، لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة، وفرحاً وطرباً، لكنه إذا كان بحق فهو خير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» أي أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينه مسافة شهر، والرعب أشد شيء يفتك بالعدو، لأن من حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبداً، بل سيطير طيران الريح فقوله: {إذا جاء نصر الله} أي نصر الله إياك على عدوك {والفتح} معطوف على النصر، وعطفه على النصر مع أن الفتح من النصر تنويه بشأنه، وهو من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]. أي في ليلة القدر فجبريل من الملائكة وخصه لشرفه، و(ال) في الفتح للعهد الذهني، أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتح مكة، وكان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وسببه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما صالح قريش في الحديبية في السنة السادسة ـ الصلح المشهور ـ نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلّم وخرج إليهم من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل خرج مختفياً وقال: «اللهم عمي أخبارنا عنهم» فلم يفاجأهم إلا وهو محيط بهم ودخل مكة في العشرين من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، مظفراً منصوراً مؤيداً، حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب وقريش تحته ينتظرون ما يفعل، فأخذ بعضادتي الباب وقال: يا معشر قريش،(53/1)
ما تظنون أني فاعل بكم؟ وهو الذي كان قبل ثمان سنوات هارباً منهم وكانوا الان في قبضته وتحت تصرفه، قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفى عنهم عليه الصلاة والسلام، هذا الفتح سماه الله فتحاً مبيناً، فقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1]. أي بيناً عظيماً واضحاً، ولما حصل عرف الناس جميعاً أن العاقبة لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأن دور قريش واتباعه قد انقضى فصار الناس {يدخلون في دين الله أفواجاً} أي جماعات بعد أن كانوا يدخلون فيه أفراداً، ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحوال إلا مختفياً، صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، وصارت الوفود ترد على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة من كل جانب حتى سمي العام التاسع (عام الوفود) يقول الله عز وجل إذا رأيت هذه العلامة {فسبح بحمد ربك واستغفره} كان المتوقع أن يكون الجواب فاشكر الله على هذه النعمة واحمد الله عليها ولكن {فسبح بحمد ربك واستغفره} وهذا نظير قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً. فاصبر لحكم ربك} [الإنسان: 23، 24]. كان المتوقع فاشكر ربك على هذا التنزيل وقم بحقه، ولكن قال: {فاصبر لحكم ربك} إيذاناً بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة {فسبح بحمد ربك واستغفره} عند التأمل تتبين الحكمة فالمعنى أنه إذا جاء نصر الله والفتح فقد قرب أجلك وما بقي عليك إلا التسبيح بحمد ربك والاستغفار {فسبح بحمد ربك} أي سبحه تسبيحاً مقروناً بالحمد. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله. والحمد: هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم. اجمع بين التنزيه وبين الحمد {واستغفره} يعني اسأله المغفرة. فأمره الله تعالى بأمرين:
الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد.(53/2)
والثاني: الاستغفار. والاستغفار هو طلب المغفرة. والمغفرة ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها. وهذا غاية ما يريد العبد، لأن العبد كثير الذنب يحتاج إلى مغفرة إن لم يتغمده الله برحمته هلك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابلة نعمة من النعم، نعمة واحدة لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا قال بعض العارفين في نظم له:
إذا كان بشكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكرفكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر{إنه كان تواباً} أي: لم يزل عز وجل تواباً على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة.(53/3)
لكن السورة لها مغزى عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء، ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن الناس انتقدوه في كونه يُدني عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين، وعمر ـ رضي الله عنه ـ من أعدل الخلفاء أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء، فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبدالله بن عباس وقال لهم: ما تقولون في هذه السورة {إذاجاء نصر الله والفتح} حتى ختم السورة ففسروها بحسب ما يظهر فقط، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً. فقال: ما تقول ياابن عباس قال: يا أمير المؤمنين هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أعلمه الله له: {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة فذاك علامة أجلك، {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} فقال عمر: «والله ما أعلم منها إلا ما تعلم». فتبين بذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل.
لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي». فنقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(53/4)
تفسير سورة المسد
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذا القرآن فيه من الدلالات الكثيرة ما يدل دلالة واضحة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حق، ليس يدعو لملك ولا لجاه، ولا لرئاسة قومه، وأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام انقسموا في معاملته ومعاملة ربه عز وجل إلى ثلاثة أقسام:
قسم آمن به وجاهد معه، وأسلم لله رب العالمين.
وقسم ساند وساعد، لكنه باق على الكفر.
وقسم عاند وعارض، وهو كافر.
فأما الأول: فالعباس بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب. والثاني: أفضل من الأول؛ لأن الثاني من أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ووصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أسد الله، وأسد رسوله، واستشهد رضي الله عنه في أحد في السنة الثانية من الهجرة.
أما الذي ساند وساعد مع بقائه على الكفر فهو أبو طالب، فأبو طالب قام مع النبي صلى الله عليه وسلّم خير قيام في الدفاع عنه ومساندته ولكنه ـ والعياذ بالله ـ قد سبقت له كلمة العذاب، لم يُسلم حتى في آخر حياته في آخر لحظة من الدنيا عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن يسلم لكنه أبى بل ومات على قوله: إنه على ملة عبدالمطلب، فشفع له النبي عليه الصلاة والسلام حتى كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه.(54/1)
أما الثالث: الذي عاند وعارض فهو أبو لهب. أنزل الله فيه سورة كاملة تُتلى في الصلوات فرضها ونفلها، في السر والعلن، يُثاب المرء على تلاوتها، على كل حرف عشر حسنات. يقول الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} وهذا رد على أبي لهب حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ليدعوهم إلى الله فبشر وأنذر، قال أبو لهب: تبًّا لك ألهذا جمعتنا، قوله: «ألهذا جمعتنا» إشارة للتحقير، يعني هذا أمر حقير ما يحتاج أن يُجمع له زعماء قريش وهذا كقوله: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36]. والمعنى تحقيره، فليس بشيء ولا يهتم به كما قالوا: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. فالحاصل أن أبا لهب قال: تبًّا لك ألهذا جمعتنا، فرد الله عليه بهذه السورة: {تبت يدا أبي لهب وتب} والتباب الخسار. كما قال تعالى: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37]. أي: خسار. وبدأ بيديه قبل ذاته؛ لأن اليدين هما آلتا العمل والحركة، والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك. وهذا اللقب أبو لهب، لقب مناسب تماماً لحاله ومآله، وجه المناسبة أن هذا الرجل سوف يكون في نار تلظى، تتلظى لهباً عظيماً مطابقة لحاله ومآله. يقول الشاعر:
قل إن أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه(54/2)
ولما أقبل سهيل بن عمرو في قصة غزوة الحديبية قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «هذا سهيل بن عمرو، وما أراه إلا سهل لكم من أمركم»، لأن الاسم مطابق للفعل. يقول الله عز وجل: {ما أغنى عنه ماله} «ما» هذه يحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟ والجواب: لا شيء، ويحتمل أن تكون (ما) نافية. أي ما أغنى عنه، أي لم يغنِ عنه ماله وما كسب شيئاً، وكلا المعنيين متلازمان، ومعناهما: أن ماله وما كسب لم يغنِ عنه شيئاً، مع أن العادة أن المال ينفع، فالمال يفدي به الإنسان نفسه لو تسلط عليه عدو وقال: أنا أعطيك كذا وكذا من المال وأطلقني، يطلقه، لكن قد يطلب مالاً كثيراً أو قليلاً، ولو مرض انتفع بماله، ولو جاع انتفع بماله، فالمال ينفع، لكن النفع الذي لا ينجي صاحبه من النار، ليس بنفع. ولهذا قال: {ما أغنى عنه ماله}. يعني من الله شيئاً قوله: {وما كسب} قيل المعنى: وما كسب من الولد. كأنه قال: ما أغنى عنه ماله وولده. كقول نوح: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} [نوح: 21]. فجعلوا قوله: {وما كسب} يعني بذلك الولد. وأيدوا هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».(54/3)
والصواب أن الاية أعم من هذا، وأن الاية تشمل الأولاد، وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الان، وتشمل ما كسبه من شرف وجاه. كل ما كسبه مما يزيده شرفاً وعزًّا فإنه لا يُغني عنه شيئاً {ما أغنى عنه ماله وما كسب}. {سيصلى ناراً ذات لهب} السين في قوله: {سيصلى} للتنفيس المفيد للحقيقة والقرب. يعني أن الله تعالى توعده بأنه سيصلى ناراً ذات لهب عن قريب؛ لأن متاع الدنيا والبقاء في الدنيا مهما طال فإن الاخرة قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مرت عليهم السنين الطوال فكأنها ساعة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35]. وشيء مقدر بساعة من نهار فإنه قريب. {وامرأته حمالة الحطب} يعني كذلك امرأته معه، وهي امرأة من أشراف قريش لكن لم يغنِ عنها شرفها شيئاً لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم، والبقاء على الكفر. وقوله: {حمالة الحطب} قُرأت بالنصب والرفع، أما النصب فإنها تكون حالاً لامرأة، يعني وامرأته حال كونها حمالة الحطب. أو تكون منصوبة على الذم لأن النعت المقطوع يجوز نصبه على الذم. أي أذم حمالة الحطب. وأما على قراءة الرفع فهي صفة لامرأة {حمالة الحطب} {حمالة} صيغة مبالغة أي تحمله بكثرة، وذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم من أجل أذى الرسول صلى الله عليه وسلّم. {في جيدها حبل من مسد} الجيد: العنق، والحبل معروف، والمسد: الليف. يعني أنها متقلدة حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم، نعوذ بالله من ذلك، وهو إشارة إلى دنو نظرتها، وأنها أهانت نفسها، امرأة من قريش من أكابر قبائل قريش تخرج إلى الصحراء وتضع هذا الحبل في عنقها، وهو من الليف مع ما فيه من المهانة، لكن من أجل أذية الرسول عليه الصلاة والسلام. نسأل الله العافية. وبهذا ينتهي الكلام(54/4)
بما يسر الله عز وجل على هذه السورة.(54/5)
تفسير سورة الإخلاص
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
البسملة سبق الكلام عليها.
ذكر في سبب نزول هذه السورة: أن المشركين أو اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة.
{قل} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، وللأمة أيضاً و{هو الله أحد} {هو} ضمير الشأن عند المعربين. ولفظ الجلالة {الله} هو خبر المبتدأ و{أحد} خبر ثان. {الله الصمد} جملة مستقلة. {الله أحد} أي هو الله الذي تتحدثون عنه وتسألون عنه {أحد} أي: متوحد بجلاله وعظمته، ليس له مثيل، وليس له شريك، بل هو متفرد بالجلال والعظمة عز وجل. {الله الصمد} جملة مستقلة، بين الله تعالى أنه {الصمد} أجمع ما قيل في معناه: أنه الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. فقد روي عن ابن عباس أن الصمد هو الكامل في علمه، الكامل في حلمه، الكامل في عزته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذكر في الأثر. وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات لأنه كامل، وورد أيضاً في تفسيرها أن الصمد هو الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا يعني أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع للصمد هو: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. {لم يلد} لأنه جل وعلا لا مثيل له، والولد مشتق من والده وجزء منه كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فاطمة: «إنها بَضْعَةٌ مني»، والله جل وعلا لا مثيل له، ثم إن الولد إنما يكون للحاجة إليه إما في المعونة على مكابدة الدنيا، وإما في الحاجة إلى بقاء النسل. والله عز وجل مستغنٍ عن ذلك. فلهذا لم يلد لأنه لا مثيل له؛ ولأنه مستغنٍ عن كل أحد عز وجل. وقد أشار الله عز وجل إلى امتناع ولادته أيضاً في قوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء(55/1)
وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101]. فالولد يحتاج إلى صاحبة تلده، وكذلك هو خالق كل شيء، فإذا كان خالق كل شيء فكل شيء منفصل عنه بائن منه. وفي قوله: {لم يلد} رد على ثلاث طوائف منحرفة من بني آدم، وهم: المشركون، واليهود، والنصارى، لأن المشركين جعلوا الملائكة الذين هم عبادالرحمن إناثاً، وقالوا: إن الملائكة بنات الله. واليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله. فكذبهم الله بقوله: {لم يلد ولم يولد} لأنه عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكيف يكون مولوداً؟! {ولم يكن له كفواً أحد} أي لم يكن له أحد مساوياً في جميع صفاته، فنفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه أن يكون والداً، أو مولوداً، أو له مثيل، وهذه السورة لها فضل عظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنها تعدل ثلث القرآن»، لكنها تعدله ولا تقوم مقامه، فهي تعدل ثلث القرآن لكن لا تقوم مقام ثلث القرآن. بدليل أن الإنسان لو كررها في الصلاة الفريضة ثلاث مرات لم تكفه عن الفاتحة، مع أنه إذا قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله، لكنها لا تجزىء عنه، ولا تستغرب أن يكون الشيء معادلاً للشيء ولا يجزىء عنه. فها هو النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن من قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فكأنما أعتق أربعة أنفس من بني إسماعيل، أو من ولد إسماعيل»، ومع ذلك لو كان عليه رقبة كفارة، وقال هذا الذكر، لم يكفه عن الكفارة فلا يلزم من معادلة الشيء للشيء أن يكون قائماً مقامه في الإجزاء.
هذه السورة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الثانية في سنة الفجر، وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وكذلك يقرأ بها في الوتر، لأنها مبنية على الإخلاص التام لله، ولهذا تسمى سورة الإخلاص.(55/2)
تفسير سورة الفلق
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّثَتِ فِى الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{قل أعوذ برب الفلق} رب الفلق هو الله، والفلق: الإصباح. ويجوز أن يكون أعم من ذلك أن الفلق كل ما يطلقه الله تعالى من الإصباح، والنوى، والحب. كما قال الله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} وقال: {فالق الإصباح}. {من شر ما خلق} أي من شر جميع المخلوقات حتى من شر نفسه، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة «نعوذ بالله من شرور أنفسنا»، وقوله: {من شر ما خلق} يشمل شياطين الإنس والجن والهوام وغير ذلك. {ومن شر غاسق إذا وقب} الغاسق قيل: إنه الليل. وقيل: إنه القمر، والصحيح إنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل، فلأن الله تعالى قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. والليل تكثر فيه الهوام والوحوش، فلذلك استعاذ من شر الغاسق أي: الليل.(56/1)
وأما القمر فقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم أرى عائشة القمر. وقال: «هذا هو الغاسق»، وإنما كان غاسقاً لأن سلطانه يكون في الليل. وقوله: {من شر غاسق إذا وقب} هو معطوف على {من شر ما خلق} من باب عطف الخاص على العام، لأن الغاسق من مخلوقات الله عز وجل وقوله: {إذا وقب} أي: إذا دخل. فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل. {ومن شر النفاثات في العقد} {النفاثات في العقد} هن الساحرات. يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصاً معيناً، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور. وذكر الله النفاثات دون النفاثين؛ لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال: {النفاثات في العقد} ويحتمل أن يقال: إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات فيشمل الرجال والنساء. {ومن شر حاسد إذا حسد} الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعاً إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك. فيحسده ولكن الحسّاد نوعان: نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهموماً مغموماً من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على صاحبه. والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد. ولهذا قال: {إذا حسد}. ومن حسد الحاسد العين التي تصيب الُمعان يكون هذا الرجل عنده كراهة لنعم الله على الغير فإذا أحس بنفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة (معنى) لا نستطيع أن نصفه لأنه مجهول، فيصيب بالعين، ومن تسلط عليه أحياناً يموت، وأحياناً يمرض، وأحياناً يُجن، حتى الحاسد يتسلط على الحديد فيوقف اشتغاله، وربما يصيب السيارة بالعين وتنكسر أو تتعطل، وربما يصيب رفَّاعة الماء، أو حراثة الأرض،(56/2)
فالعين حق تصيب بإذن الله عز وجل، وذكر الله عز وجل الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًّا. الليل ستر وغشاء. {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]. يكمن به الشر ولا يعلم به. {النفاثات في العقد} أيضاً السحر خفي لا يعلم. {الحاسد إذا حسد} العائن أيضاً خفي تأتي العين من شخص تظن أنه من أحب الناس إليك وأنت من أحب الناس إليه ومع ذلك يصيبك بالعين. لهذا السبب خص الله هذه الأمور الثلاثة. الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد، وإلا فهي داخلة في قوله: {من شر ما خلق}.
فإذا قال قائل: ما هو الطريق للتخلص من هذه الشرور الثلاثة؟
قلنا: الطريق للتخلص أن يعلق الإنسان قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل على الله، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء، وما كثر الأمر في الناس في الاونة الأخير من السحرة والحساد وما أشبه ذلك إلا من أجل غفلتهم عن الله، وضعف توكلهم على الله عز وجل، وقلة استعمالهم للأوراد الشرعية التي بها يتحصنون، وإلا فنحن نعلم أن الأوراد الشرعية حصن منيع، أشد من سد يأجوج ومأجوج. لكن مع الأسف أن كثيًرا من الناس لا يعرف عن هذه الأوراد شيئاً، ومن عرف فقد يغفل كثيراً، ومن قرأها فقلبه غير حاضر، وكل هذا نقص، ولو أن الناس استعملوا الأوراد على ما جاءت به الشريعة لسلموا من شرور كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة.(56/3)
تفسير سورة الناس
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{قل أعوذ برب الناس} وهو الله عز وجل، وهو رب الناس وغيرهم، رب الناس، ورب الملائكة، ورب الجن، ورب السموات، ورب الأرض، ورب الشمس، ورب القمر، ورب كل شيء، لكن للمناسبة خص الناس. {ملك الناس} أي الملك الذي له السلطة العليا في الناس، والتصرف الكامل هو الله عز وجل. {إله الناس} أي مألوههم ومعبودهم، فالمعبود حقًّا الذي تألهه القلوب وتحبه وتعظمه هو الله عز وجل. {من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس} {الوسواس} قال العلماء: إنها مصدر يراد به اسم الفاعل أي: الموسوس. والوسوسة هي: ما يلقى في القلب من الأفكار والأوهام والتخيلات التي لا حقيقة لها. {الخناس} الذي يخنس وينهزم ويولي ويدبر عند ذكر الله عز وجل وهو الشيطان. ولهذا إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى. ولهذا جاء في الأثر: «إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان»، والغيلان هي الشياطين التي تتخيل للمسافر في سفره وكأنها أشياء مهولة، أو عدو أو ما أشبه ذلك فإذا كبر الإنسان انصرفت. وقوله: {من الجنة والناس} أي أن الوساوس تكون من الجن، وتكون من بني آدم، أما وسوسة الجن فظاهر لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأما وسوسة بني آدم فما أكثر الذين يأتون إلى الإنسان يوحون إليه بالشر، ويزينونه في قلبه حتى يأخذ هذا الكلام بلبه وينصرف إليه.(57/1)
هذه السور الثلاث: الإخلاص، والفلق، والناس كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه ومسح بذلك وجهه، وما استطاع من بدنه، وربما قرأها خلف الصلوات الخمس. فينبغي للإنسان أن يتحرى السنة في تلاوتها في مواضعها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا نختم آخر جزء من القرآن وهو جزء النبأ. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/2)
(((( أصول التفسير ))))(/)
(((( التفسير ))))(/)
(*) تفسير سورة البقرة(/)
(*) تفسير سورة جزء الذاريات(/)
(*) تفسير جزء الذاريات(/)
(*) تفسير جزء عم(/)
الحديث(/)
مقدمة الشارح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الحافظ النووي: - رحمه الله - من أصحاب الشافعي المعتبرة أقواله،ومن أشدّ الشّافعية حرصاً على التأليف، فقد ألّف في فنونٍ شتّى، في الحديث وعلومه، وألّف في علم اللغة كتاب تهذيب الأسماء واللغات ، وهو في الحقيقة من أعلم الناس، والظاهر - والله أعلم - أنه من أخلص الناس في التأليف، لأن تأليفاته - رحمه الله - انتشرت في العالم الإسلامي،فلا تكاد تجد مسجداً إلا ويقرأ فيه كتاب (رياض الصالحين)، وكتبه مشهورة مبثوثة في العالم مما يدل على صحة نيته، فإن قبول الناس للمؤلفات من الأدلة على إخلاص النية.
وهو - رحمه الله - مجتهدٌ، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقد أخطأ - رحمه الله - في مسائل الأسماء والصفات، فكان يؤول فيها لكنه لاينكرها، فمثلاً: ( استوى على العرش ) يقول أهل التأويل معناها: استولى على العرش، لكن لاينكرون: (استوى) لأنهم لو أنكروا الاستواء تكذيباً لكفروا، أما من ينكر إنكار تأويل وهو لايجحدها فإن كان لتأويله مساغ في اللغة العربية فإنه لايكفر، أما إذا لم يكن له مسوّغ في اللغة العربية فهذا موجب الكفر. مثل أن يقول: ليس لله يدٌ حقيقة، ولا بمعنى النعمة،أو القوة، فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفياً مطلقاً[1] . فهم يصدقون به ولكن يحرفونه.(6/1)
ومثلُ هذه المسائل التي وقع منه - رحمه الله - خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما له من فضائل ومنافع جمّة، ولانظن أن ماوقع منه إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ - ولو في رأيه - وأرجو أن يكون من الخطأ المغفور، وأن يكون ماقدّمه من الخير والنّفع من السعي المشكور، وأن يصدق عليه قول الله تعالى :(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(هود: الآية114) [2]
فالنووي نشهد له فيما نعلم من حاله بالصلاح، وأنه مجتهد، وأن كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ، إن أخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران. وقد ألف مؤلفات كثيرة من أحسنها هذا الكتاب: الأربعون النووية، وهي ليست أربعين،بل هي اثنان وأربعون، لكن العرب يحذفون الكسر في الأعداد فيقولون: أربعون. وإن زاد واحداً أو اثنين، أونقص واحداً أواثنين.
هذه الأربعون ينبغي لطالب العلم أن يحفظها،لأنها منتخبة من أحاديث عديدة. وفي أبواب متفرقة،بخلاف غيرها من المؤلفات فلو نظرنا إلى عمدة الأحكام لوجدناها منتخبة؛ لكنها في باب واحد وهو باب الفقه، أما الأربعون النووية فهي في أبواب متفرقة متنوعة. ونحن نستعين بالله تعالى في التعليق عليها. والله الموفّق.
---
[1] ملخص من مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ –رحمه الله- 1/176.
[2] ملخص من كتاب العلم لفضيلة الشيخ –رحمه الله- ص199.(6/2)
الحديث الأول
(عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ تعالى عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[3]
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح(7/1)
عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه،آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق رضي الله عنه له، فهو حسنة من حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر تعين بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وفي قوله سَمِعْتُ دليل على أنه أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمر رضي الله عنه مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ )(البقرة: الآية272) فهذه نية، وقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً )(الفتح: الآية29) وهذه نيّة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك[4] فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر رضي الله عنه، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولاً على مافيه من البلاغة:(7/2)
فقوله: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو:إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه،وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ماهاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلاً لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ماهاجر إليه.
وقوله: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ الجواب: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فذكره تنويهاً بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل:إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنياأو المرأة.
* أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني:
فقوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى أيضاً مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر علىالمبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هو: مانوى متأخر.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت، وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا .(7/3)
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
وهنا مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب: يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان، يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
* والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله تأسيساً، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.(7/4)
* والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
* وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- أولاً:الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا )(الأعراف:الآية31) فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانياً: الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.(7/5)
* إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب، ولايُنْطَقُ بها إطلاقاً،لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سرّاً ، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
ياسبحان الله، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ؟ لوكان هذا من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر أن عاميّاً من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لايعرف إلاالجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يارجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجّاً، ولبّيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنّية؟(7/6)
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولادليل. إذاً أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟ .
فقل له: القول ما قال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضياً والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة،والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالماً معلّماً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبينهما فرق عظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ طَلَبَ عِلْمَاً وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ [5]، أخلص النية لله عزّ وجل .
* ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر فقال:
فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟(7/7)
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله،أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(الأحزاب: الآية29) إذاً يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه،ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَاً [6] فإذا أراد الله،فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
* وهنا مسألة: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا، ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه صلى الله عليه وسلم فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.(7/8)
نظير هذا قوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول صلى الله عليه وسلم ِ)(النساء: الآية59) إلى الله دائماً، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لاأتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ماهاجر إليه. فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله عزّ وجل ألا يحصل على شيء لم يحصل على شيء.
قوله رحمه الله: (رواه إماما المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب المصنّفة أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لايفيد الظن فقط بل يفيد العلم.
وصحيح البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري - رحمه الله - يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم- رحمه الله - فيكتفي بمطلق المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً، فالصواب ما ذكره البخاري - رحمه الله - أنه لابد من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم - رحمه الله - أحسن من سياق البخاري، لأنه - رحمه الله- يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكان واحد، والبخاري - رحمه الله - يفرِّق، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم
وقالوا: أيّ زين تقدّم
فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ(7/9)
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذاً صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
من فوائد هذا الحديث:
.1هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء:مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ [7] فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح، مثاله:
رجل مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله عزّ وجل ودار كرامته، لكنه وقع في بدع كثيرة. فبالنظر إلى نيّته:نجد أنها نيّة حسنة. وبالنظر إلى عمله: نجد أنه عمل سيء مردود، لعدم موافقة الشريعة.
ومثال آخر: رجلٌ قام يصلّي على أتمّ وجه، لكن يرائي والده خشية منه، فهذا فقد الإخلاص، فلا يُثاب على ذلك إلا إذا كان أراد أن يصلي خوفاً أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبّداً لله تعالى بالصلاة.
.2من فوائد الحديث: أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن المعاملات لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ولنضرب مثلاً بالصلاة، رجل أراد أن يصلي الظهر، فيجب أن ينوي الظهر حتى تتميز عن غيرها. وإذا كان عليه ظُهْرَان، فيجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر اليوم، لأن كل صلاة لها نية.
ولوخرج شخصٌ بعد زوال الشمس من بيته متطهراً ودخل المسجد وليس في قلبه أنها صلاة الظهر، ولاصلاة العصر، ولا صلاة العشاء، ولكن نوى بذلك فرض الوقت، فهل تجزئ أو لاتجزئ؟
الجواب: على القاعدة التي ذكرناها سابقاً:لاتجزئ؛ لأنه لم يعين الظهر، وهذا مذهب الحنابلة.(7/10)
وقيل تجزئ: ولايشترط تعيين المعيّنة، فيكفي أن ينوي الصلاة وتتعين الصلاة بتعيين الوقت. وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فإذا نوى فرض الوقت كفى، وهذا القول هو الصحيح الذي لايسع الناس العمل إلا به، لأنه أحياناً يأتي إنسان مع العجلة فيكبر ويدخل مع الإمام بدون أن يقع في ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن قد وقع في ذهنه أنها هي فرض الوقت ولم يأتِ من بيته إلا لهذا، فعلى المذهب نقول: أعدها، وعلى القول الصحيح نقول: لاتعدها، وهذا يريح القلب، لأن هذا يقع كثيراً، حتى الإمام أحياناً يسهو ويكبر على أن هذا فرض الوقت، فهذا على المذهب لابد أن يعيد الصلاة، وعلى القول الرّاجح لايعيد.
.3من فوائد الحديث:الحثّ على الإخلاص لله عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الناس إلى قسمين:
قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله عزّ وجل .
والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)
.4ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وهذا للعمل وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وهذا للمعمول له.
ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن لايسرد المسائل على الطالب سرداً لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولاً، وقواعد وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.(7/11)
.5من فوائد الحديث: قرن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم :مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَاشَاءَ اللهُ وَحْدَه [8]فما الفرق؟
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ماصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: (مَنْ يُطِعِ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )(النساء: الآية80)
وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيئ تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غداً ؟
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم بهذا.
مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال ؟
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال عزّ وجل: (مَنْ يُطِعِ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )(النساء: الآية80)
مسألة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله ؟
والجواب: العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال الإمام أحمد: العلم لايعدله شيئ لمن صحّت نيّته . ولايمكن أبداً أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (التوبة:122)(7/12)
فلوكان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)[التوبة:122] أي وقعدت طائفة : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [التوبة:122] ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليَق به، وإذا كان ذكيّاً حافظاً قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل. أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد، وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:
.1بدع بدأت تظهر شرورها.
.2الإفتاء بغير علم .
.3جدل كثير في مسائل بغير علم .
وإذا لم يكن مرجّحاً فالأفضل العلم
.6ومن فوائد الحديث: أن الهجرة هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى الله هو العبادة.
مسألة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة ؟(7/13)
الجواب: فيه تفصيل ،إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولايجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة هنا مستحبة. وإن كان لايستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة، أما في البلاد الفاسقة -وهي التي تعلن الفسق وتظهره- فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا،فتكون غير واجبة. بل نقول إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل الفساد، وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق. لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا - للأسف - الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من أجل الخلاف في مسألة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو الواقع، لاسيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تماماً، فربما يتعادون ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسألة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة وقعت لي شخصياً في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا ؟؟ قال: إحداهما تقول: السنة في القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين، وهذه المسألة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي صلى الله عليه وسلم يقول مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ [9] وهذا كفر تبرّأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فبناء على هذا الفهم الفاسد كفّرت إحداهما الأخرى.(7/14)
فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضاً، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يداً واحدة، لصلحت الأمة، ولكن إذا رأت الأمة أن أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في مسائل الدين، فستضرب صفحاً عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث ركوس ونكوس وهذا ماحدث والعياذ بالله، فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أن الدين خير وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يرى مايرى من المستقيمين من خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة لأنه ماوجد ماطلبه، والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق،فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولاسيما إن كنت مصلحاً،بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام.
---
[3] رواه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث (1). ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث (1907) (155).
[4] رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، حديث (56). ومسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، حديث (1628) (59).
[5] رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، حديث رقم (8438). بلفظ (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وابن ماجه: كتاب العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث(252). وأبو داود – كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (3664).
[6] رواه الأمام أحمد في المكثرين عن أبي هريرة، (2/413) حديث رقم (9340).
[7] رواه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، حديث (1718) (17).(7/15)
[8] رواه الإمام أحمد في مسند آل العباس عن عبدالله بن عباس، حديث ( 1964). وأبو داود – كتاب: الأدب، باب: لا يقال خبثت نفسي، (4980)، والنسائي في سننه الكبرى- كتاب: عمل اليوم والليلة، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشاء فلان، (10821)، والدارمي في سننه – كتاب: الاستئذان، باب: في النهي عن أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، (2699).
[9] رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، (5063). ومسلم (باختلاف): كتاب النكاحن باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه. (1401)(7/16)
الحديث الثاني
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيضاً قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَاب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله،وَتُقِيْمَ الصَّلاَة، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِالله،وَمَلائِكَتِه،وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَالْيَوْمِ الآَخِر،وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا،وَأَنْ تَرى الْحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثَ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ) [10]
الشرح(8/1)
قوله: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ بينما هي (بينا) ولكن زيدت (ما) فيها والأصل: بين نحن، فـ: (ما) زيدت للتوكيد.
و: جُلُوسٌ مبتدأ، وخبره: عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
و: ذَاتَ يَوْمٍ ذات هنا تفيد النكرة، أي في يوم من الأيام.
وتستعمل في اللغة على وجوه متعددة، فتارة تكون بمعنى:
.1صاحبة: مثل ذات النطاقين أي صاحبة النطاقين.
.2وتارة تكون اسماً موصولاً: كما في لغة طي،وهم قوم من العرب يستعملون: ذات بمعنى التي،كما قال ابن مالك - رحمه الله-:( وكالتي أيضاً لديهم ذات) فمثلاً يقول: بعت عليك بيتي ذات اشتريت، أي التي اشتريت.
.3وتارة تكون بمعنى النكرة الدالة على العموم: كما في جملة الحديث ذات يوم.. وهذا أغلب ما تستعمل.
إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ الرجل هنا مبهم، وهو رجل في شكله لكن حقيقته أنه مَلَك.
شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ أي عليه ثياب .
شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ أي أنه شاب.
لايُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ لأن ثيابه بيضاء وشعره أسود ليس فيه غبار ولاشعث السفر، ولهذا قال: لايُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ لأن المسافر في ذلك الوقت يُرى عليه أثر السفر، فيكون أشعث الرأس،مغبرّاً، ثيابه غير ثياب الحضر، لكن لايرى عليه أثر السفر.
وَلايَعْرِفْهُ مِنَّا أَحَدٌ أي وليس من أهل المدينة المعروفين، فهوغريب.
حَتَّى جَلَسَ إِلىَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل عنده ليفيد الغاية،أي أن جلوسه كان ملاصقاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال: أَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلىَ رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ أي كفي هذا الرجل عَلَىَ فَخِذَيْهِ أي فخذي هذا الرجل، وليس على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من شدة الاحترام.(8/2)
وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ولم يقل:يا رسول الله ليوهم أنه أعرابي، لأن الأعراب ينادون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه العلم، وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة عليه الصلاة والسلام .
أَخْبِرْنيِ عَنِ الإِسْلامِ أي ماهو الإسلام؟ أخبرني عنه.
فَقَالَ: الإسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ تشهد أي تقرّ وتعترف بلسانك وقلبك، فلا يكفي اللسان، بل لابد من اللسان والقلب، قال الله عزّ وجل: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(الزخرف: الآية86)
وإعراب لاَ إِلَهَ إَلاَّ اللهُ :
لا إله إلا الله: هذه جملة اسمية منفية بـ (لا) التي لنفي الجنس، ونفي الجنس أعم النفي، واسمها: (إله) وخبرها: محذوف والتقدير حقٌ، وقوله: (إلا) أداة حصر، والاسم الكريم لفظ الجلالة بدل من خبر: (لا) المحذوف وليس خبرها لأن: (لا) النافية للجنس لا تعمل إلافي النكرات.
فصارت الجملة فيها شيء محذوف وهو الخبر وتقديره: حق،أي: لا إله حق إلا الله عزّ وجل، وهناك آلهة لكنها آلهة باطلة ليست آلهة حقّة،وليس لها من حق الألوهية شيء،ويدل لذلك قوله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج:62)
وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ أي وتشهد أن محمداً رسول الله،ولم يقل: إني رسول الله مع أن السياق يقتضيه لأنه يخاطبه، لكن إظهاره باسمه العلم أوكد وأشد تعظيماً. وقوله: مُحَمَّداً هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل، وليس من ذرية إسماعيل رسول سواه، وهو المعني بقول الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) (البقرة: الآية129)
رَسُولُ اللهِ رسول بمعنى مرسل، والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به.(8/3)
َتُقِيْمَ الصَّلاةَ أي تأتي بها قائمة تامة معتدلة.
وكلمة: الصَّلاةَ تشمل الفريضة والنافلة.
وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ تؤتي بمعنى تعطي، والزكاة هي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية تعبداً لله، وهي الذهب والفضة والماشية والخارج من الأرض وعروض التجارة.
وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ أي تمسك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وأصل الصيام في اللغة: الإمساك.
ورمضان هو الشهر المعروف مابين شعبان وشوال.
وَتَحُجَّ البَيْتَ أي تقصد البيت لأداء النسك في وقت مخصوص تعبداً لله تعالى.
إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلِيْهِ سَبِيْلا قَالَ: صَدَقْتَ القائل صدقت: جبريل عليه السلام وهو السائل، فكيف يقول: صدقت وهو السائل؟ لأن الذي يقول: صدقت للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً علم بأن هذا الرجل أصابه،وهو محل عجب، ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه، لكن سيأتي إن شاء الله بيان هذا.
شرح هذه الأركان الخمسة:
-الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وهنا مسألة: لماذا جُعِلَ هذان ركناً واحداً، ولم يجعلا ركنين؟.
والجواب:أن الشهادة بهذين تبنى عليها صحة الأعمال كلها، لأن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم الإخلاص، وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم الاتباع، وكل عمل يتقرب به إلى الله لا يقبل إلا بهذين الشرطين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله .
ومعنى أن تشهد أن لا إله إلا الله، أي: أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لامعبود حق إلا الله عزّ وجل . و أَشْهَدُ بمعنى:أقر بقلبي ناطقاً بلساني؛ لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب. وإذا كان الشاهد بقلبه أخرس لا يستطيع النطق فإنه يكفي للعجز.(8/4)
والشهادة باللسان لاتكفي بدليل أن المنافقين يشهدون لله عزّ وجل بالوحدانية ولكنهم يشهدون بألسنتهم، فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فلا ينفعهم، وهم يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكدون له أنهم يشهدون أنه رسول الله ، والله يعلم أنه رسول الله، ولكنه سبحانه يشهد أن المنافقين لكاذبون.
و لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله أي:لا معبود حق إلا الله وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة حق يتبين الجواب عن الإشكال التالي: وهو كيف يُقال لا إله إلا الله مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله،وقد سماها الله آلهة وسماها عابدوها آلهة، قال الله تعالى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )(هود: الآية101] وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (الانبياء:43)
وقال تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ )(القصص: الآية88)
بتقدير الخبر في لا إله إلا الله فنقول: هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة لكنها باطلة،ليست آلهة حقّة،وليس لها حق الألوهية من شيء،ويدل لذلك قول الله عزّ وجل : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج:62)
فإذا جاء مشركٌ إلى تمثالٍ يعبده بأن يركع له، ويسجد وينتحب ويخشع وربما يغمى عليه، فعبادته باطلة، ومعبوده باطل أيضاً.(8/5)
إِلاَّ اللهُ الله: علم على الرب عزّ وجل لايسمى به غيره، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي الأسماء تابعة له،ولايأتي تابعاً للأسماء إلا في آية واحدة،وهي قول الله تعالى: ( إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [إبراهيم:1-2] لكن لفظ الاسم الكريم هنا بدل من العزيز، وليست صفة، لأن جميع الأسماء إنما تكون تابعة لهذا الاسم العظيم.
مسألة: هل هذه الشهادة تُدخِل الإنسان في الإسلام ؟
والجواب: نعم تدخله في الإسلام حتى لو ظننا أنه قالها تعوّذاً،فإننا نعصم دمه وماله؛ ولو ظننا أنه قالها كاذباً، ودليل ذلك قصة المشرك الذي أدركه أسامة بن زيد رضي الله عنهما حين هرب المشرك، فلما أدركه أسامة بالسيف قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة ظنّاً أنه قالها تعوّذاً من القتل، أي قالها لئلا يقتل فقتله، فلما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم جعل يردد: أَقَتَلتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلا الله؟ قَالَ: يَارَسُوْلَ اللهِ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذَاً [11] فجعل يردد: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ قال أسامة : فتمنيت أنني لم أكن أسلمت بعد، من شدة ماوجد رضي الله عنه .
إذاً نحن ليس لنا إلا الظاهر حتى لو غلب على ظننا أنه قالها تعوذاً عصمته، نعم لو ارتد بعد ذلك قتلناه، وهذا يوجد من جنود الكفر إذا أسرهم المسلمون قالوا: أسلمنا. من أجل أن يعصموا أنفسهم من القتل، فيسأل المجاهدون ويقولون: هل نقتل هؤلاء بعد أن قالوا: لاإله إلاالله أم لا ؟(8/6)
نقول: حديث أسامة يدلّ على أنهم لايقتلون ولكن يراقبون، فإذا ظهر منهم ردة قتلوا، لأنهم بشهادة أن لاإله إلا الله تُلزمهم أحكام الإسلام. فإن كان الكافر يقول: لا إله إلا الله لكن لايشهد أن محمداً رسول الله، فلا يكفيه ذلك حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وعلى هذا فالكافر يدخل في الإسلام بمجرّد أن يقول: لا إله إلا الله، فإذا كان يقولها لكنه ينكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلابد أن يضيف إليها شهادة أن محمداً رسول الله، وفي الحديث الشريف: اُدْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّيْ رَسُوْلُ الله[12] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة: أن أول ما تؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فبذلك يصير الكافر مسلماً [13] وإذا كان مسلماً وشهد أن لا إله إلا الله ومات على ذلك فإنه يكفي لقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله دَخَلَ الجَنَّة [14] وإنما اكتفي بلا إله إلا الله لأن هذا الميت يقر بأن محمداً رسول الله وليس عنده فيها إشكال.
شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم إخلاص العبادة لله، ويسمى هذا النوع من التوحيد توحيد الألوهية، ويسمّى توحيد العبادة، لأن معنى لاإله إلا الله أي لا معبود حقّ إلا الله، إذا لا تعبد غير الله، فمن قال: لاإله إلا الله وعبد غير الله فهو كاذب، إذْ إن هذه الشهادة تستلزم إخلاص العبادة لله عزّ وجل وطرد الرياء والفخر وما أشبه ذلك .(8/7)
وقوله: أنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ الله فلابد أن تشهد أنه رسول الله، أي مرسلِهُ إلى الخلق، والرسول هو من أوحى إليه الله بشرعٍ وأمره بتبليغه، وكان الناس قبل نوح على ملة واحدة لم يحتاجوا إلى رسول، ثم كثروا واختلفوا، فكانت حاجتهم إلى الرسل، فأرسل الله تعالى الرسل، قال الله عزّ وجل: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(البقرة: الآية213)
فالرسل إنما بعثت حين اختلف الناس ليحكموا بينهم بالحق، ولهذا كان أول الرسل نوحاً عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . فلابد من الإيمان بأن محمداً رسول الله، ولابد أن نؤمن بأنه خاتم النبيين.
ومماسبق يُعلم خطأ المؤرّخين الذين قالوا: إن هناك رسولاً أو أكثر قبل نوح، فليس قبل نوح عليه السلام رسول بدليل قول الله تعالى:[ )إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبي صلى الله عليه وسلم ينَ مِنْ بَعْدِهِ)(النساء: الآية163] وقال الله عزّ وجل : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب)(الحديد: الآية26) أي في ذريتهم خاصة.
ومن السنة في قصة الشفاعة أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُوْلٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ [15]فعقيدتنا أن أول الرسل نوحٌ عليه السلام، وآخرهم: محمد صلى الله عليه وسلم . فمن ادعى النبوة بعد محمد فحكمه أنه كافر،لقول الله تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيينَ )(الأحزاب: الآية40) ولم يقلْ سبحانه وخاتم الرسل ، مع أنه قال رسول الله بالأول، لأنه إذا كان خاتم النبيين فهو خاتم الرسل، إذ لارسالة إلا بعد النبوة، فإذا انتفت النبوة من بعده فالرسالة من باب أولى.(8/8)
شهادة أن محمداً رسول الله تستلزم أموراً منها:
الأول: تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، بحيث لايكون عند الإنسان تردد فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم ، بل يكون في قلبه أشد مما نطق،كما قال عزّ وجل في القرآن: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(الذريات: الآية23) فالإنسان لايشك فيما ينطق به،كذلك ماينطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم لانشك فيه، ونعلم أنه الحق، لكن بيننا وبينه مفاوز وهو السند، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمامنا لكن إذا ثبت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا تصديقه،سواء علمنا وجهه أم لم نعلمه، أحياناً تأتي أحاديث نعرف المعنى لكن لانعرف وجهها، فالواجب علينا التصديق.
الثاني: امتثال أمره صلى الله عليه وسلم ولانتردد فيه لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: الآية36) ولهذا أقول:من الخطأ قول بعضهم: إنه إذا جاءنا الأمر من الله ورسوله بدأ يتساءل فيقول: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ كمايقوله كثير من الناس اليوم،وهذا السؤال يجب طرحه وأن لايورد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون يارسول الله: هل الأمر للوجوب أو الأمر للاستحباب أو غير ذلك؟ بل كانوا يمتثلون ويصدقون بدون أن يسألوا. نقول: لاتسأل وعليك بالامتثال، أنت تشهد أن محمداً رسول الله فافعل ما أمرك به.
وفي حالة ما إذا وقع الإنسان في مسألة وخالف الأمر، فهنا له الحق أن يسأل هل هو للوجوب أو لغير الوجوب، لأنه إذا كان للوجوب وجب عليه أن يتوب منه لأنه خالف، وإذا كان لغير الوجوب فأمره سهل.(8/9)
ثالثاً : أن يجتنب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بدون تردد، لايَقُلْ: هذا ليس في القرآن فيهلك، لأننا نقول: ما جاء في السنة فقد أمر القرآن باتباعه. ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا وأمثاله الذي يقول هذا ليس في القرآن فقال: لاَ ألْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى أَرِيْكَتِه أي جالساً متبختراً متعاظماً يَأْتِيْهِ الأَمْرُ مِنْ عِنْدِيْ فَيَقُولُ مَا أَدْرِيْ، مَا كَانَ فِيْ كِتَابِ اللهِ اِتَّبَعْنَاهُ [16] أي وما لم يكن لانتبعه، مع أننا نقول : كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في القرآن، لأن الله تعالى قال: ( وَاتَّبِعُوهُ ) (الأعراف: الآية158) وهو عام في كل ماقال.
رابعاً : أن لايقدم قول أحدٍ من البشر على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلىهذا لايجوز أن تقدم قول فلان - الإمام من أئمة المسلمين - على قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأنك أنت والإمام يلزمكما اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . وماأعظم قول من إذا حاججته وقلت: قال رسول الله ، قال: لكن الإمام فلان قال كذا وكذا، فهذه عظيمة جداً، إذ لايحل لأحد أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من المخلوقين كائناً من كان حتى إنه ذُكِر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يُوْشكُ أَن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبوبكر وعمر [17] ومن إمام هذا الرجل المجادل بالنسبة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
خامساً : أن لايبتدع في دين الله مالم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء عقيدة، أو قولاً، أو فعلاً، وعلى هذا فجميع المبتدعين لم يحققوا شهادة أن محمداً رسول الله، لأنهم زادوا في شرعه ماليس منه، ولم يتأدبوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم .(8/10)
سادساً : أن لايبتدع في حقه ماليس منه، وعلى هذا فالذين يبتدعون الاحتفال بالمولد ناقصون في تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، لأن تحقيقها يستلزم أن لاتزيد في شريعته ماليس منه.
سابعاً :أن تعتقد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من الربوبية، أي أنه لايُدعى، ولايُستغاث به إلا في حياته فيما يقدر عليه، فهو عبد الله ورسوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ )(الأعراف: الآية188] وبهذا نعرف ضلال من يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم ضالون في دينهم، سفهاء في عقولهم، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لايملك لنفسه نفعاً ولاضراً فكيف يملك لغيره؟ ولهذا أمره الله أن يقول: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) [الجن:21-22] أي أنه هو عليه الصلاة والسلام لو أراد الله به ما يريد ما استطاع أحد من الناس أن يمنع إرادة الله فيه. إذا كان كذلك فمن الضلال البيّن أن يستغيث أحدٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا من الشرك، فلو جاء إنسان مهموم مغموم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يارسول الله أغثني فإني مهموم مغموم، فيكون هذا مشركاً شركاً أكبر، لأنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوة الميت أن يغيثك أو يعينك شرك، لأنه غير قادر، فهو جسد وإن كانت الروح قد تتصل بالجسد في القبر لكن هو جسد، وهذا لاينافي أن يكون حياً في قبره حياة برزخية لاتشبه حياة الدنيا.(8/11)
ثامناً: احترام أقواله، بمعنى أن يحترم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فلاتضع أحاديثه عليه الصلاة والسلام في أماكن غير لائقة، لأن هذا نوع من الامتهان، ومن ذلك: أن لا ترفع صوتك عند قبره، وقد سمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين قدما من الطائف فجعلا يرفعان أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لَوْلاَ أَنَّكُمَا مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ لأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبَاً[18] لأن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2) .(8/12)
ولماَ نزلت هذه الآية كان رجل من الصحابة يقال له: ثابت بن قيس رضي الله عنه ممن يخطب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، فلما نزلت هذه الآية بقي في بيته يبكي ليلاً ونهاراً رضي الله عنه هؤلاء الذين يعلمون قدر القرآن الكريم، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم لأن من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفقّد أصحابه، وهذا من حسن رعايته صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقالوا: يارسول الله إن الرجل منذ أنزل الله تعالى هذه الآية وهو في بيته يبكي ليلاً ونهاراً، فقال صلى الله عليه وسلم : (اِذْهَبْ فَادْعُهُ لِي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: مَايُبْكِيْكَ يَاثَابِتُ فقال:أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ.، لأن الله تعالى يقول: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2] فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيْشَ حَمَيدَاً، وَتُقْتَلَ شَهِيْدَاً، وَتَدْخُلَ الجَنَّة [19] ، الله أكبر،كل من خاف من الله أمن، فهو بقي في بيته خائفاً من الله عزّ وجل ولكن أمَّنه الله ، ولهذا يجب علينا وجوباً أن نشهد أن ثابت بن قيس رضي الله عنه من أهل الجنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا. فبقي الرجل حميداً في حياته وشارك المسلمين في قتال مسيلمة الكذاب، وغزوة مسيلمة الكذاب معروفة ومشهورة في التاريخ، وقتل رضي الله عنه شهيداً، ويدخل الجنة، اللهم اجعلنا من أهل الجنة يارب العالمين.(8/13)
وقع في قصته رضي الله عنه أيضاً مسألة غريبة: مر به أحد الجنود وهو ميت وعلى ثابت رضي الله عنه درع جيد، فأخذ الجندي الدرع منه ثم ذهب به إلى رحله وجعل عليه برمة - والبرمة قدر من الخزف - وفي الليل رأى أحد أصحاب ثابت ثابتاً رضي الله عنه في المنام وأخبره الخبر وقال له: مر بي رجل من الجند وأخذ درعي ووضعه تحت برمة في طرف العسكر وحوله فرس تستن، أي رافعة إحدى قوائمها، فلما أصبح الرجل الذي رأى هذه الرؤيا أخبر بها القائد خالد بن الوليد رضي الله عنه فأرسله إلى المكان، ولما أرسله إلى المكان وجد الأمر كما قال ثابت - فسبحان الله العظيم - ما الذي أعلم ثابتاً وهو ميت،لكن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فأخذ الدرع.
كما أن ثابتاً رضي الله عنه أوصى بوصية بعد موته، وأُبلِغَت أبا بكر رضي الله عنه فنفذ الوصية، قالوا: ولايوجد أحد نفذت وصيته التي أوصى بها بعد موته إلا ثابت بن قيس رضي الله عنه، لكن يشكل على هذا كيف نعتبر الرؤيا في تنفيذ الوصية؟
والجواب: أنه إذا دلت القرائن على صدق الرؤيا نُفذت الوصية ولاحرج. ولقد حدثني رجل أثق به يقول: إنه مات أبوه وكان قد استأجر البيت الذي تركه بعد موته لمدة كذا سنة، فلما مات أتى أهل البيت الذين يملكون رقبة البيت وقالوا للورثة: اخرجوا عن البيت، البيت بيتنا، فقالوا: لن نخرج، بين مورّثنا وبينكم عقد لم ينتهِ بعد، فقالوا:بل انتهى العقد، ففزع الورثة من هذه الدعوى وضاقت بهم الأرض، يقول: فلما كان ذات ليلة رأيت في المنام أن أبي أطل علينا من فرجة المجلس وقال لهم: العقد في أول صفحة من الدفتر لكنه لاصق في جلدة الدفتر، فلما أصبح وفتح أول صفحة وجد العقد.
سبحان الله، فالله تعالى قد يخبر بعض الموتى ببعض ما يحصل على أهله، لكن هذه مسائل ليست لكل أحد.(8/14)
وتقيم الصلاة أي تأتي بها قويمة، ولاتكون قويمة إلا بفعل شروطها وأركانها وواجباتها - وهذا لابد منه - وبمكملاتها، فهذا يكون أكمل.
ولاحاجة لشرح هذه لأنها معروفة في كتب الفقه[20]
وقوله الصّلاةَ يشمل كل الصلاة:الفريضة والنافلة،وهل تدخل صلاة الجنازة أو لا؟
يحتمل هذا وهذا، إذا نظرنا إلى عموم اللفظ قلنا: إنها داخلة لأنها صلاة،كما قال الله عزّ وجل : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ) (التوبة: الآية84) ‘ وإن نظرنا إلى أن صلاة الجنازة صلاة طارئة حادثة يقصد بها الشفاعة للميت قلنا: لاتدخل في هذا الحديث، لكن تدخل في عموم الأمر بإحسان.
وَتُؤْتي الزَّكَاةَ تؤتي بمعنى تعطي، والزكاة هي: المال الواجب في الأموال الزكوية، فيعطيه الإنسان مستحقه تعبّداً لله عزّ وجل ورجاءً لثوابه.
مثال ذلك: الدراهم والدنانير فيهما زكاة، وهي ربع ا لعشر، أي تأخذ ربع العشر وهو واحد من أربعين وتعطيه المستحق.
وقد بيّن الله عزّ وجل أهل الزكاة في سورة التوبة أنهم ثمانية أصناف فقال عزّ وجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ )(التوبة: الآية60) أي فرضها الله علينا أن نعطيها هؤلاء ولا نعطي غيرهم: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة: الآية60) وتفاصيل ذلك مذكورة في كتب الفقه ولاحاجة إلى تفصيله هنا[21] .
وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ بأن تمسك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس تعبّداً لله تعالى.
والمفطرات أيضاً معروفة لاحاجة إلى ذكرها[22] ولكن ننبّه على شيء مهمّ فيها: أن المفطرات لاتفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: أن يكون عالماً، وأن يكون ذاكراً، وأن يكون مريداً.(8/15)
فضدّ العالم الجاهل، فلو أكل الصائم يظن أن الليل باقٍ ثم تبين أنه قد طلع الصبح وهو يأكل فحكم الصوم أنه صحيح.
ولو أكل يظن غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب فالصوم صحيح، ودليل ذلك: ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس [23] ولم يأمرهم بالقضاء، فلو كان القضاء واجباً لكان يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولنُقِلَ إلينا، لأنه إذا كان واجباً لكان القضاء من شريعة الله، ولابد أن تنقل، وهو داخل في عموم قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )(البقرة: الآية286) وقوله: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: الآية5).
ولو أكل غير مريد للأكل أو شرب غير مريد للشرب بأن كان مكرهاً فصيامه صحيح، ومن ذلك:أن يكره الرجل زوجته فيجامعها وهي صائمة، فليس عليها شيء لاقضاء ولاكفّارة.
هذه مهمة لأن كثيراً من الفقهاء يقولون: إن الإنسان إذا أكل جاهلاً بالوقت سواء من أول النهار أو آخره وجب عليه القضاء إذا تبيّن أنه قد أكل في النهار، ولكن يقال: إن الذي شرع الصوم للعباد هو الذي رفع عنهم الحرج بهذه الأعذار.
وَتَحُجّ البَيْتَ أي تقصده. لأداء المناسك في وقت مخصوص تعبّداً لله تعالى.
وهل يدخل في ذلك العمرة أو لا ؟
فيه خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: إن العمرة داخلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : العُمْرَةُ حَجٌّ أَصْغَر[24] لأنه وردت روايات في نفس الحديث فيها ذكر العمرة.
والصحيح أن العمرة دون الحج، أي ليست من أركان الإسلام لكنها واجبة يأثم الإنسان بتركها إذا تمّت شروط الوجوب.(8/16)
إِنِ اسْتَطَعْتَ إَلِيْهِ سَبِيْلاً مأخوذ من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(آل عمران: الآية97) قد يقول قائل: هذا الشرط في جميع العبادات لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: الآية16) فلماذا خص الحج؟
نقول: خص الحج لأن الغالب فيه المشقة والتعب وعدم القدرة، فلذلك نص عليه وإلا فجميع العبادات لابد فيها من الاستطاعة.
قَالَ:صَدَقْتَ) أي أخبرت بالحق، والقائل هو جبريل عليه السلام.
قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلهُ وَيُصَدِّقُه ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً، والمصدّق يكون عالماً فكيف يجتمع هذا وهذا، ومثاله: لوقال قائل: فلانٌ قدم من المدينة، فقال بعضهم:صدقت، فمقتضى ذلك أنه عالم، فكيف يسأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول صدقت؟ هذا محل عجب، وستأتي الحكمة في ذلك.
قَالَ: فَأَخْبِرني عَنِ الإِيمَانِ قال: أي جبريل، فأخبرني: أي يامحمد عن الإيمان؟
والإيمان في اللغة: هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للشرع.
وأما قولهم: الإيمان في اللغة التصديق ففيه نظر، لأنه يقال: آمنت بكذا وصدقت فلاناً ولايقال: آمنت فلاناً، بل يقال: صدقه، فصدق فعل متعدٍ، وآمن فعل لازم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - باستفاضة في كتابه: (كتاب الإيمان.
وقولنا: الإيمان المستلزم للقبول والإذعان احترازاً مما لو أقر لكن لم يقبل كأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ،حيث أقر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه صادق لكن لم يقبل ماجاء به - نسأل الله العافية - ولم يُذعن ولم يتابع، فلم ينفعه الإقرار، فلابد من القبول والإذعان.(8/17)
ولذلك يخطئ خطأً كبيراً من يقول: إن أهل الكتاب مؤمنون بالله، وكيف يكون ذلك وهم لم يقبلوا شرع الله ولم يذعنوا له، فاليهود والنصارى حين بعث رسول الله كفروا به وليسوا بمسلمين ودينهم دين باطل،ومن اعتقد أن دينهم صحيح مساوٍ لدين الإسلام فهو كافر خارج عن الإسلام فالإيمان قبولٌ وإذعانٌ.
قَالَ: الإِيْمَانُ أَنْ تُؤمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرسله، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنُ بَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ هذه ستّة أشياء:
أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء:
الأول : الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى. فمن أنكر الله تعالى فليس بمؤمن، ومع ذلك لايمكن أن يوجد أحد ينكر وجود الله تعالى بقرارة نفسه، حتى فرعون الذي قال لموسى: ما رب العالمين؟ كان مقرّاً بالله، قال له مؤسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ) (الاسراء: الآية102) لكنه جاحد،كما قال الله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(النمل: الآية14)
الثاني : الإيمان بانفراده بالرّبوبية، أي تؤمن بأنه وحده الرّب وأنه منفرد بالربوبية، والرب هو الخالق المالك المدبر.
فمن الذي خلق السماوات والأرض ؟ الله عزّ وجل .
ومن الذي خلق البشر ؟ الله عزّ وجل .
ومن يملك تدبير السماوات والأرض ؟ الله عزّ وجل .
الثالث : إيمان بانفراده بالألوهية، وأنه وحده الذي لا إله إلا هو لاشريك له، فمن ادعى أن مع الله إلهاً يُعبد فإنه لم يؤمن بالله، فلابد أن تؤمن بانفراده بالألوهية، وإلا فما آمنت به.
الرابع : أن تؤمن بأسماء الله وصفاته بإثبات ما أثبته سبحانه لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولاتعطيل ولاتكييف، ولا تمثيل، فمن حرّف آيات الصفات أو أحاديث الصفات فإنه لم يحقق الإيمان بالله .(8/18)
قال قومٌ:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) استولى، ومعناه شرعاً ولغة: علا وارتفع على العرش، لكنه علوّ خاص، ليس العلوّ العام علىجميع المخلوقات. فهذا الذي فسّر (اسْتَوَى) بـ : استولى لم يحقق الإيمان بالله، لأنه نفى صفة أثبتها الله لنفسه، والواجب إثبات الصفات.
ومن قال: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )(صّ: الآية75) أي بقدرتيَّ ، أو: بقوتيَّ وليس لله يد حقيقة لم يحقق الإيمان بالله، لو حقق الإيمان بالله لقال: لله عزّ وجل يد حقيقية لكن لاتماثل أيدي المخلوقين،كما قال الله عزّ وجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(الشورى: الآية11) لأننا لانحدث عن الله إلاعلى حسب ما أخبرنا الله به عن نفسه، فإذا كنّا لايمكن أن نتحدث عن شخص لم نرهُ وإن كان عندنا في البلد، فكيف نتحدث عن الله تعالى بلاعلم.
وإذا قال: إن الله لايتكلم بكلام مسموع، ولكن كلامه المعنى القائم بنفسه، وما سمعه جبريل فهو مخلوق، أصوات خلقها الله عزّ وجل لتعبّر عما في نفسه، فهذا ما حقق الإيمان بالله. لأن تفسير (الكلام) بهذا المعنى يدلّ على أن الله تعالى لايتكلم حقيقة، لأنك إذا قلت: الكلام هو المعنى القائم بالنفس صار معنى الكلام هو العلم، لا أنه المسموع، وعلى هذا فقس.(8/19)
وعلى هذا فجميع المبتدعة في الأسماء والصفات، المخالفين لما عليه السلف الصالح، لم يحققوا الإيمان بالله، ولا نقول إنهم غير مؤمنين، فهم مؤمنون لاشك، لكنهم لم يحققوا الإيمان بالله، والذي فاتهم من الأمور الأربعة هو الرابع: الإيمان بأسماء الله وصفاته، فلم يحققوا الإيمان به، وهم مخطئون مخالفون لطريق السلف، وطريقتهم ضلال بلاشكّ، ولكن لايحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعاً فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيّاً فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفيّ على وجه الإطلاق ،بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم .
ومن مسائل الأسماء والصفات التي حصل فيها خلاف معنى حديث : أَنَّ اللهَ خَلَقَ آَدَمَ عَلَى صُوْرَتِهِ[25] وضجّوا وارتفعت أصواتهم وكثرت مناقشاتهم، كيف خلق آدم على صورته؟
فحرّفه قومٌ تحريفاً مشيناً مستكرهاً، وقالوا: معنى الحديث: خَلَقَ اللهُ آدم على صورته أي على صورة آدم - الله المستعان - هل يمكن لأفصح البشر وأنصح البشر أن يريد بالضمير ضمير المخلوق، بمعنى خلق آدم على صورته أي على صورة آدم ؟ لايمكن هذا، لأن كل مخلوق فقد خلق على صورته، وحينئذ لافضل لآدم على غيره. فهذا هراء لامعنى له، أتدرون لما قالوا هذا التأويل المستكره المشين؟
قالوا: لأنك لو قلت إنها صورة الرب عزّ وجل لمثّلت الله بخلقه، لأن صورة الشيء مطابقةله ، وهذا تمثيل .
وجوابنا على هذا أن نقول : لو أعطيت النصوص حقها لقلت خلق الله آدم على صورة الله ، لكن ليس كمثل الله شيء.
فإن قال قائل: اضربوا لنا مثلاً نقتنع به ، أن الشيء يكون على صورة الشيء وليس مماثلاً له ؟(8/20)
والجواب نقول: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُوْرَةِ القَمَرِ لَيْلَةِ البَدْرِ ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلوُنَهُمْ عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ[26] فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لامن كل وجه ، فإن قلت بالأول فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم أفواه، وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال وثبت أنه لايلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
فالمهم أن باب الصفات بابٌ عظيمٌ، خطره جسيم، ولايمكن أن ينفك الإنسان من الورطات والهلكات التي يقع فيها إلا باتباع السلف الصالح، أثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، وانْفِ مانفى الله عن نفسه، فتستريح.
هل تبحث في أمر يكون البحث فيه تعمّقاً وتنطّعاً ؟
الجواب: لا تبحث.
وقد سُئِل الإمام مالك - رحمه الله - عن قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] كيف استوى؟(8/21)
فأطرق - رحمه الله - برأسه وجعل يتصبب عرقاً من ثقل ما ألقي عليه وتعظيمه الرب جل وعلا، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم في اللغة العربية، استوى على كذا: أي علا عليه واستقرّ، وكل ما ورد في القرآن والسنةوكلام العرب أن (استوى) إذا تعدّت بـ (على) فمعناه العلو وقوله: (والكيف غير معقول) أي معناه: أنّا لاندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا: وإنما طريق ذلك السمع. وقوله: (الإيمان به واجب) معناه : أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب. (والسؤال عنه بدعة) معناه : أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأن مثل هذا السؤال لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم أشد منا حرصاً على معرفة الله عزّ وجل ، والمجيب لو سألوه فهو أعلم منا بالله تعالى، ومع ذلك لم يقع السؤال، أفلا يسعنا ما وسعهم ؟
الجواب: بلى، فيجب على المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح، فلا يسأل.
ثم قال الإمام مالك - رحمه الله- : (ما أراك) أي ما أظنك (إلامبتدعاً) تريد أن تفسد على الناس دينهم، ثم أمر به فأُخرج من المسجد، أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل: والله لاأستطيع إخراجه، أخشى أن أدخل في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ )(البقرة: الآية114) لأني أمنع هذا من دخول المسجد، لأنه لم يدخل ليذكر فيه اسم الله، بل دخل ليفسد عباد الله، ومثل هذا يمنع.
فإذا كان الذي يأكل الثوم والبصل يمنع من دخول المسجد، فكيف بمن يفسد على الناس أديانهم،أفلا يكون أحقّ بالمنع؟ بلى والله، ولكن كثيراً من الناس غافلون.
على كلّ حال هذا المقام مقام عظيم، لكني أحذركم أن تتعمّقوا في باب الأسماء والصفات، وأن تسألوا عما لاحاجة لكم به.(8/22)
يقول بعض الناس: الله تعالى له أصابع، ويقول المحرفون: ليس له أصابع، والمراد بقوله: إنَّ قُلُوْبَ بَنِيْ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ[27] كمال السيطرة والتدبير، سبحانَ الله، أأنتم أعلم أم رسول الله؟ نفوا الأصابع لظنهم أن إثباتها يستلزم التمثيل، فمثلوا أولاً وعطّلوا ثانياً، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل.
وجاء آخرون فقالوا: قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأمسك المسواك بين أصابعه وقال: بين أصبعين من أصابع الرحمن. قطع الله هاتين الأصبعين. فهل يحلّ هذا ؟
الجواب: لا يحل، أولاً: هل تعلم أن أصابع الله تعالى خمسة: إبهام وسبابة ووسطى وبنصر وخنصر؟ لا تعلم .
ثانياً: هل تعلم أن كون القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن: بين الإبهام والسبابة، أو بين الإبهام والوسطى، أو بين الإبهام والبنصر، أو بين الإبهام والخنصر؟ كيف تقول على الله ما لاتعلم، أم على الله يفترون، فمثل هذا يستحق أن يؤدّب لأنه قال على الله ما لا يعلم.
فقالوا: أليس النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: وَكَانَ اللهُ سَمِيعَاً بَصِيرَا وضع إبهامه وسبابته على العين والأذن[28]
نقول: بلى، لكن أنت لست رسولاً حتى تفعل هذا، ثم المقصود من وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أصبعيه تحقيق السمع والبصر فقط.
وأكرر أن باب الصفات باب عظيم، احذر أن تزل، فتحت رجلك هوّة، فالأمر صعب جداً.
يقول آخرون في قول الله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(الزمر: الآية67) فيشير بيده قابضاً لها على شيء - أعوذ بالله - والآخرون يقولون: قبضته أي تحت تصرفه، والفرق بينهما عظيم.
فعلى كل حال، أكرر:احذروا باب الصفات أن تخوضوا في شيءٍ لم يتكلم فيه السلف الصالح.
يقول بعض العلماء: من لم يسعه ما وسع الصحابة والتابعين فلا وسّع الله عليه.(8/23)
قوله: وَمَلائِكَتِهِ بدأ بالملائكة قبل الرسل والكتب لأنهم عالم غيبي، أما الرسل والكتب فعالم محسوس، فالملائكة لا يظهرون بالحس إلا بإذن الله عزّ وجل ، وقد خلق الله الملائكة من نورٍ،كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم لايحتاجون إلى أكل وشرب، ولهذا قيل إنهم صمدٌ أي ليس لهم أجواف، فلا يحتاجون إلى أكل ولا شرب، فنؤمن أن هناك عالماً غيبياً هم الملائكة.
وهم أصناف، ووظائفهم أيضاً أصناف حسب حكمة الله عزّ وجل كالبشر أصناف ووظائفهم أصناف.
والإيمان بالملائكة يتضمّن:
أولاً : الإيمان بأسماء من علمنا أسماءهم،أن نؤمن بأن هناك ملَكاً اسمه كذا مثل جبريل.
ثانياً : أن نؤمن بما لهم من أعمال، مثلاً:
جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من عند الله إلى رسله.
وميكائيل: موكل بالقطر أي المطر، والنبات أي نبات الأرض.
وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور .
هؤلاء الثلاثة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم عندما يستفتح صلاة الليل فيقول: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ وَإِسْرَافِيْلَ [29] والحكمة من هذا : أن كل واحد منهم موكل بحياة: فجبريل موكل بالوحي وهو حياة القلوب كما قال عزّ وجل : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)(الشورى: الآية52) وميكائيل موكل بالقطر والنبات وهو حياة الأرض، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور وهو حياة الناس الحياة الأبدية.
والمناسبة ظاهرة، لأنك إذا قمت من النوم فقد بعثت من موت كما قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) (الأنعام: الآية60)] وقال عزّ وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى)(الزمر: الآية42)(8/24)
إذا كان القيام من الليل بعثاً وهؤلاء الملائكة الثلاثة الكرام كلهم موكلون بحياة،صارت المناسبة واضحة.
كذلك يجب الإيمان بما لبعض الملائكة من أعمال خاصة، فمثلاً: هناك ملائكة وظائفهم أن يكتبوا أعمال العباد، قال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18] فهؤلاء موكلون بكتابة أعمال بني آدم،وقال الله عزّ وجل أيضاً في آية أخرى:( كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ*وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كراما كاتبين) [الأنفطار:9-11] يكتبون كل قول يقوله الإنسان، وظاهر الآية الكريمة أنهم يكتبون ما للإنسان وما عليه وما ليس له ولا عليه، وجه كون هذا هو الظاهر: أن قوله عزّ وجل :( مِنْ قَوْلٍ) نكرة في سياق النفي مؤكّدة بـ: (من) فتفيد العموم، لكن ماليس له ولا عليه لايحاسب عليه وإنما يقال إنه فاته خير كثير.
وذُكر أن رجلاً دخل على الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله- فقيه المحدّثين ومحدث الفقهاء وإمام أهل السنة، دخل عليه وهو يئن من الوجع، فقال له: يا أبا عبد الله تئنّ وقد قال طاوس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، فأمسك الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن الأنين، وهذا من تعظيم آثار السلف عند السلف.
ومن الملائكة من هم موكلون بالسياحة في الأرض يلتمسون حِلَق الذّكر والعلم فإذا وجدوها جلسوا.
ومنهم ملائكة موكلون بحفظ بني آدم.
ومنهم ملائكة موكلون بقبض روح بني آدم.
ومنهم ملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره.
ومنهم ملائكة موكلون بتلقّي المؤمنين يوم القيامة:( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ )(الانبياء: الآية103)(8/25)
ومنهم ملائكة موكلون بتحية أهل الجنة كما قال تعالى في كتابه: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَاب ٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) (الرعد:23-24)
ومنهم ملائكة يعبدون الله عزّ وجل ليلاً ونهاراً، كما قال سبحانه وتعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أَطَّتِ السَّماءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ) والأطيط : هو صرير الرحل على البعير إذا كان الحمل ثقيلاً،فيقول صلى الله عليه وسلم : ( أَطَّتِ السَّماءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَامِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِع مِنْهَا إِلاَّ وَفِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لِلَّهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِد) [30]
وَكُتُبِهِ جمع كتاب بمعنى: مكتوب والمراد بها الكتب التي أنزلها الله عزّ وجل على رسله لأنه ما من رسول إلا أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عزّ وجل : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ) (البقرة:213)
وقال عزّ وجل: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا) أي إبراهيم ونوح: (النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب) [الحديد:26] واعلم أن جميع الكتب السابقة منسوخة بما له هيمنة عليها وهو القرآن، قال الله عزّ وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(المائدة: الآية48) كل الكتب منسوخة بالقرآن،فلا يُعمل بها شرعاً.
واختلف العلماء - رحمهم الله - فيما ثبت في شرائع من قبلنا، هل نعمل به إلا أن يرد شرعنا بخلافه، أو لا نعمل به؟
من العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وذلك أن ماسبق من الشرائع:
.1إما أن توافقه شريعتنا
.2 وإما أن تخالفه شريعتنا
.3 وإما أن لاندري توافقه شريعتنا أم لا فيكون مسكوتاً عنه(8/26)
فما وافقته شريعتنا فهو حق ونتبعه، وهذا بالإجماع، واتباعنا إياه لا لأجل وروده في الكتاب السابق ولكن لشريعتنا.
- وما خالف شريعتنا فلا نعمل به بالاتفاق، لأنه منسوخ، ومثاله لايحرم على الناس أكل الإبل في وقتنا مع أنها على بني إسرائيل - اليهود خاصة - كانت محرمة.
- وما لم يرد شرعنا بخلافه ولا وفاقه فهذا محل الخلاف: منهم من قال: إنه شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرعٍ لنا، ولكل دليل، وتفصيل ذلك في أصول الفقه.
والإيمان بالكتب يتضمّن أربعة أمور:
أولاً : أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل على الرسل كتباً، وأنها من عند الله ولكن لانؤمن بأن الكتب الموجودة في أيدي هذه الأمم هي الكتب التي من عند الله لأنها محرّفة ومبدلة، لكن أصل الكتاب المنزل على الرسول نؤمن بأنه حق من عند الله.
ثانياً : أن نؤمن بصحة ما فيها من أخبار كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرّف من الكتب السابقة.
ثالثاً : أن نؤمن بما فيها من أحكام إذا لم تخالف الشريعة على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا - وهو ا لحق - إذا لم يرد شرعنا بخلافه.
رابعاً : أن نؤمن بما علمنا من أسمائها، مثل: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى.
فلو قال رجل: أنا لا أومن بأن هناك كتاباً يسمى التوراة، فإنه كافر، لأن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بالكتب.
وَرسُلِهِ أي أن تؤمن برسل الله عزّ وجل ، والمراد بالرسل من البشر، وليعلم بأنه يعبر برسول ويعبّر بنبي، فهل معناهما واحد؟(8/27)
الجواب: أما في القرآن فكل من ذكر من الأنبياء فهو الرسول ، فكلما وجدت في القرآن من نبي فهو رسول، لكن معنى النبي والرسول يختلف، والصواب فيه: أن النبي هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالعمل به ولكن لم يؤمر بتبليغه، فهو نبي بمعنى مُخْبَر، ولكن لم يؤمر بالتبليغ. مثاله: آدم عليه السلام أبو البشر نبي مكلف لكنه ليس برسول، لأن أول الرسل نوح، أما آدم فنبي كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا قال قائل: لماذا لم يرسل؟
فالجواب: لأن الناس في ذلك الوقت كانوا أمة واحدة، قليلون وليس بينهم اختلاف، لم تتسع الدنيا ولم ينتشر البشر فكانوا متّفقين فكفاهم أن يروا أباهم على عبادة ويتبعوه، ثم لما حصل الخلاف وانتشر الناس احتيج إلى الرسل، كما قال الله عزّ وجل : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(البقرة: الآية213)
فإذا قال قائل: ما الفائدة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد آدم عليه السلام إذا كان لم يؤمر بالتبليغ ؟
قلنا الفائدة: تذكير الناس بالشريعة التي نسوها، وفي هذا لا يكون الإعراض من الناس تاماً فلا يحتاجون إلى رسول ،ويكفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي يذكرهم بالشريعة، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا )(المائدة: الآية44) هذه هي الفائدة من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا الإيراد إيراد قوي وهو ما الفائدة من النبوة بلا رسالة؟ والجواب ماسبق. ولهذا جاء في حديث لكنه ضعيف: عُلَمَاءُ أُمَّتِيْ كَأَنْبِيَاءِ بَنِيْ إِسْرَائِيْل[31] معناه صحيح لكنه ضعيف من حيث إنه مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(8/28)
- وأوّل الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، واعلم بأنك ستجد في بعض كتب التاريخ أن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح عليه السلام، وأن هناك بعضاً آخرين مثل شيث، كل هذا كذبٌ وليس بصحيح.
فإدريس بعد نوح قطعاً، وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من الرسل في بني إسرائيل، لأنه دائماً يذكر في سياق قصصهم، لكن نعلم علم اليقين أنه ليس قبل نوح، والدليل قول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (النساء: الآية163) وقال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) فأرسلهم الله وهم القمة، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فمن زعم أن إدريس قبل نوح فقد كذب القرآن وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الاعتقاد.
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم أعلى طبقات البشر الذين أنعم الله عليهم، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرسول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) (النساء: الآية69) هذه أربعة أصناف.(8/29)
النبيون يدخل فيهم الرسل وهم أفضل من الأنبياء، ثم الرسل أفضلهم خمسة هم أُوُلو العزم، ذكروا في القرآن في موضعين في سورة الأحزاب وفي سورة الشورى: ففي سورة الأحزاب قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) (الأحزاب: الآية7) وفي سورة الشورى قال الله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّين)(الشورى: الآية13) فسبحان الله ، هذه وصية من الله للأولين والآخرين : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ) (الشورى: الآية13) فهي وصية بإقامة الدين وعدم التفرّق في الدين.
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [32] ولما التقى بهم في الإسراء أَمَّهم في الصلاة، فإبراهيم إمام الحنفاء صلى وراء محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أنه لايقدم في الإمامة إلا الأفضل،فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل أولي العزم.
والثاني: إبراهيم الخليل عليه السلام يلي مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: الآية125) والذي ابتلاه الله تعالى ببلية لايصبر عليها إلا أولو العزم.(8/30)
وقصّة ابتلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه أتاه ابناً على كبر، ومعلوم أنه إذا أتى الفريد الوحيد ابنٌ على كبر، سيكون في قلب أبيه في غاية المحبة للبشر، لما بلغ معه السعي فلم يكن طفلاً لايهتم به، ولم يكن كبيراً انفرد بنفسه بل بلغ السعي، أي بدأ يمشي معه، تعلق قلبه به تماماً فامتحنه الله تعالى، بأن رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء وحي، فقال له: يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، فلم يخيره لكن أراد أن يمتحنه، فجاء الابن في غاية ما يكون من الامتثال والانقياد فقال: يا أبتِ افعل ما تؤمر، لم يقل يا أبت اذبحني، بل قال: افعل ما تؤمر حتى ينبّهه أنه يفعل هذا امتثالاً لأمر الله عزّ وجل ، افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلم يجزم، بل قال: إن شاء الله، كما قال الله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً*إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف:23-24] فاتفق الأب والابن على الاستجابة لأمر الله، فلما أسلما أي استسلما لأمر الله، وتلّه أي أبوهُ للجبين أي على الأرض والجبين: الجبهة، وإنما تلّه على الجبين دون أن يذبحه مستلقياً لئلا يرى وجه ابنه والسكين تلوح على رقبته، فيخفف هو عن نفسه ويخفف أيضاً على الابن، فلما تلّه للجبين جاء الفرج من الله عزّ وجل ، فرّج الله تعالى عنه: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات:104-105].
هذه المحبة لهذا الابن وهذا الابتلاء وهذا الامتثال التام يدل على أن محبة الله في قلب إبراهيم عليه السلام أعظم من محبة الولد، فكان إبراهيم خليل الله عزّ وجل ، أعطاه الله الخلة. والخلّة: هي أعظم أنواع المحبة، والمحبة أنواعها عشرٌ، وقيل سبع، لكن أعلاها الخلّة، وفي هذا يقول الشاعر لمعشوقته:
قدْ تخلَّلتِ مسلك الرّوحِ منّي وبذا سُمِّيَ الخليلُ خَليلا(8/31)
لأن محبته تخللت مسلك الروح، العروق والعظام والمخ وكل شيء.
ففي قوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: الآية125) دليل على أن إبراهيم بالنسبة لله عزّ وجل ، أعلى مايكون من المحبوب، ففيه إثبات المحبة.
وقال المحرّفون الذين يقولون: إن الله لايحب: إن قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) مأخوذ من الخِلّة بالكسر، يعني الافتقار ومعنى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) أي فقيراً إليه.
وهذا من التّحريف، فكل إنسان على قولهم يكون خليلاً لله، لأن كل إنسان مفتقر إلى الله عزّ وجل .
ولكن نقول:الخليل هو الذي بلغ غاية المحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ اِتَّخَذَنِيْ خَلِيْلاً كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً مِنْ أُمَّتِيْ خَلِيْلاً لاَتَّخّذْتُ أَبَابَكْرخليلاً [33] .
وهناك كلمة شائعة عند الناس: يقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله وموسى كليم الله، ولاشك أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله فهو حابّ الله ومحبوب لله ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم خليل الله. والذين يقولون محمد حبيب الله قد هضموا حق الرسول صلى الله عليه وسلم،لأن المحبة أقل من الخلة، ولذلك نقول لا نعلم من البشر خليلاً لله إلا اثنان: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لكن المحبة كثيرٌ كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة: الآية195) و: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً)(الصف: الآية4) وغير ذلك من الآيات.
وقوله: واليوم الآخِرِ اليوم الآخر، هو يوم القيامة، وسمي آخراً لأنه آخر مراحل بني آدم وغيرهم أيضاً، فالإنسان له أربع دور، في بطن أمه، وفي الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة وهو آخرها.
- الإيمان باليوم الآخر يتضمّن:(8/32)
أولاً: الإيمان بوقوعه، وأن الله يبعث من في القبور، وهو إحياؤهم حين ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون:16) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً غُرْلاً[34] ، وأنه واقع لامحالة، لأن الله تعالى أخبر به في كتابه وكذلك في السنة، وكثيراً مايقرن الله تعالى بين الإيمان به وبين الإيمان باليوم الآخر،لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لايعمل، إذ إنه يرى أن لاحساب.
ثانياً: الإيمان بكل ماذكره الله في كتابه وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في ذلك اليوم الآخر، من كون الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، أي ليس معهم مال، وهذا كقوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) (الانبياء: الآية104) .
ثالثاً: الإيمان بما ذكر في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار فالجنة دار النعيم، والنار دار العذاب الشديد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في العقيدة الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يكون بعد الموت مثل الفتنة في القبر فإن الناس يفتنون في قبورهم ويسألون عن ثلاثة أشياء: من ربك ؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟
رابعاً: الإيمان بنعيم القبر وعذابه، لأن ذلك ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف.
وهنا ننبّه على ما نسمعه من قول بعض الناس أو نقرأه في بعض الصحف إذا مات إنسان قالوا: انتقل إلى مثواه الأخير.
وهذا غلط عظيم، ولولا أننا نعلم مراد قائله لقلنا: إنه ينكر البعث، لأنه إذا كان القبر مثواه الأخير،فهذا يتضمن إنكار البعث، فالمسألة خطيرة لكن بعض الناس إمّعة، إذا قال الناس قولاً أخذ به وهو لايتأمل في معناه.(8/33)
وَتُؤْمِنُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ وهنا أعاد صلى الله عليه وسلم الفعل: (تؤمن) لأهمية الإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالقدر مهم جداً وخطير جداً.
والإيمان بالقدر يتضمّن أربعة أمور:-
الأول : أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً.
دليل ذلك: عموم الأدلة مثل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية282) وخصوص العلم بالغيب، وقد قال موسى عليه الصلاة والسلام: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(طه: الآية52) أي لايجهل ولاينسى ما علم.
وقد ذكر الله عزّ وجل العلم في آيات كثيرة جملة وتفصيلاً:
قال الله عزّ وجل في الجملة: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282]، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الطلاق: الآية12) أي أخبرنا كم بهذا : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: الآية12) هذا مجمل.(8/34)
أما التفصيل فقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)(الأنعام: الآية59) كلمة ما اسم موصول، وكل اسم موصول فهو مفيد للعموم، فكل شيء في البرّ الله سبحانه وتعالى يعلمه، وكذلك كل شيء في البحر فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وقوله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي ورقة في أي شجرة إلا يعلمها: يعلم متى سقطت، وأين سقطت، وكيف سقطت: (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(الأنعام: الآية59) أي حبة، سواء كانت كبيرة، أو صغيرة في ظلمات الأرض إلا يعلمها الله عزّ وجل ، فإذا قدرنا أن حبة بر غاصت في قاع البحر، ففوقها طين، وفوق الطين ماء، وكان ذلك ليلاً أي في ظلمة الليل، وكانت السماء ممطرة، والغيوم متلبدة، فهذا ظلمة المطر وظلمة الغيوم وكان الجو مغبرّاً، هذا أيضاً ظلمة، فيعلم الله عزّ وجل الحبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولايابسٍ إلا في كتاب مبين
وإذا حقق العبد الإيمان بعلم الله، وأنه جلّ وعلا محيطٌ بكل شيء أوجب له الخوف من الله، وخشيته، والرغبة فيما عنده جل وعلا ، لأن كل حركة تقوم بها فالله يعلمها.
ثانياً: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ، مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، قال الله عزّ وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس:12] أي في كتاب، وقال عزّ وجل : )وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء:105] وهو اللوح المحفوظ : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء: الآية105) ، والآيات في هذا متعددة.(8/35)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لما خلق القلم قال له: اِكْتُبْ، قَالَ رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكتُبْ مَاهُوَ كَائِنٌ، فَجَرَى فِيْ تِلْكَ السَّاعةِ بِمَاهُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ [35] فأمر الله القلم أن يكتب؛ ولكن كيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟
الجواب عن ذلك: نعم، من الله يصح لأنه هو الذي ينطق الجماد ثم إن الجماد، بالنسبة إلى الله عاقل يصحّ أن يوجه إليه الخطاب، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11) فوجّه الخطاب إليهما، وذكر جوابهما وكان الجواب لجمع العقلاء (طائعين) دون طائعات. والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب، فقال: ربي وماذا أكتب ؟
قال: اكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك اللحظة بما هو كائن إلى يوم القيامة - سبحان الله - من يحصي الحوادث والوقائع إلا الله عزّ وجل ، وهذا اللوح المحفوظ مشتمل عليها.
- واللوح المحفوظ لانعرف ماهيته، من أيّ شيء؛ أمن الخشب، أم من حديد، ولانعرف حجم هذا اللوح ولاسعته، فالله أعلم بذلك والواجب أن نؤمن بأن هناك لوحاً كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق أن نبحث وراء ذلك.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة ما يسمّى بأقراص الليزر يتسع القرص الصغير إلى كتب كثيرة، وهو من صنع الآدمي، وأقول هذا تقريباً لا تشبيهاً،لأن اللوح المحفوظ أعظم من أن نحيط به.
ثالثاً: أن تؤمن بأن كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله تعالى،فلا يخرج شيء عن مشيئته أبداً . ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة: ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي شيء يحدث فهو بمشيئة الله.(8/36)
وهذا عام، لما يفعله عزّ وجل بنفسه وما يفعله العباد،فكله بمشيئة الله، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(البقرة: الآية253) وقال عزّ وجل: (وَلَوْ شَاءَ ربك مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:112] وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:137] وقال عزّ وجل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29،28] فكل ماحدث في الكون فهو بمشيئة الله، وإذا آمن الإنسان بهذا سلم من عمل الشيطان، فإذا فعل فعلاً وحصل خلاف المقصود، قال ليتني لم أفعل، فهذا من عمل الشيطان، لأن الذي فعلته قد شاءه الله عزّ وجل ولابد أن يكون، لكن إن كان ذنباً فعليك بالتوبة والاستغفار.
رابعاً: الخلق، ومعناه: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء، قال تعالى:(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: الآية2) فكل شيء مخلوق لله: السموات، والأرضون، والبحار، والأنهار، والكواكب، والشمس، والقمر، الإنسان، الكل مخلوق لله عزّ وجل وحركات الإنسان مخلوقة لله،لأن الله تعالى خلق الإنسان وأفعاله، وإذا كان هو مخلوقاً فصفاته وأفعاله مخلوقة ولا شك، فأفعال العباد مخلوقة لرب العباد عزّ وجل ، وإن كانت باختيار العباد وإرادتهم لكنها مخلوقة لله، وذلك لأن أفعال العباد ناشئةعن إرادة جازمة وقدرة تامة، وخالق الإرادة والقدرة هو الله سبحانه وتعالى.
وهل صفات الله مخلوقة ؟(8/37)
الجواب: لا، لأن صفاته سبحانه وتعالى كذاته كما أن صفات الإنسان كذات الإنسان مخلوقة. وسنذكر في الفوائد إن شاء الله أن الناس انقسِموا في القدر إلى ثلاثة أقسام: مُفَرِّط، ومُفْرِط، ومقتصد، أي مستقيم.
قَالَ: صَدَقْتَ القائل جبريل عليه السلام
ثم قال: أخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ الإحسان مصدر أحسن يحسن، وهو بذل الخير والإحسان في حق الخالق: بأن تبني عبادتك على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما كنت أخلص وأتبع كنت أحسن. وأما الإحسان للخلق: فهو بذل الخير لهم من مال أوجاه أو غير ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وعبادة الله لا تتحقق إلابأمرين وهما: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه. عبادة طلب وشوق وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أي: اعبده على وجه الخوف ولاتخالفه، لأنك إن خالفته فإنه يراك فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.
فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب.
مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه.
ومرتبة الهرب: أن تعبد الله وهو يراك عزّ وجل فاحذره، كما قال عزّ وجل: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )(آل عمران: الآية30)، وبهذا نعرف أن الجملتين متباينتان والأكمل الأول، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثاني في مرتبة ثانية متأخرة.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ لم يُعِد قوله صدقت اكتفاءً بالأولى.(8/38)
والساعة هي: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، يعني البعث، وسميت ساعة لأنها داهية عظيمة، قال الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج:1). فقال النبي صلى الله عليه وسلم مَا المَسْؤُوْلُ عَنْهَا يعني نفسه صلى الله عليه وسلم بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ يعني جبريل عليه السلام، والمعنى: إذا كنت تجهلها فأنا أجهلها ولا أستطيع أن أخبرك به، لأن علم الساعة مما اختص الله به عزّ وجل ، قال الله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (الأحزاب:63) ، وقال عزّ وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً )(الأعراف: الآية187) ولهذا يجب علينا أن نكذب كل من حدد عمر الدنيا في المستقبل، ومن قال به أو صدق به فهو كافر.
وما نسمع عن بعض أهل الشعوذة أن عمر الدنيا كذا وكذا قياساً على ما مضى منها فإنه يجب علينا أن نقول بألسنتنا وقلوبنا كذبتم، ومن صدّق بذلك فهو كافر، لأنه إذا كان أعلم الرسل البشرية وأعظم الرسل الملكية كلاهما لا يعرفان متى تكون فمن دونهما من باب أولى بلا شك.
ولَمَا قال ما السؤول عنها بأعلم من السائل، ثم قال: أخْبِرْنِي عَنِ أَمَارَاتِهَا أي علامات قربها، لأن الأمارة بمعنى العلامة، والمراد أمارات قربها وهو ما يعرف بالأشراط،قال الله عزّ وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا )(محمد: الآية18) وأشراط الساعة قسّمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
أشراط مضت وانتهت
أشراط لم تزل تتجدد وهي الوسطى
أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة(8/39)
ومن علامات الساعة ماذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله:
أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والمعنى: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ أي الرقيقة المملوكة رَبَّهَا أي سيدها، أو: ربَّتَهَا هل المراد العين أو الجنس؟
والجواب: اختلف في هذا العلماء. فمنهم من قال: المراد أن تلد الأمة ربها،يعني أن تلد الأمة من يكون سيداً لغيرها لا لها، فيكون المراد بالأمة: الأمة بالجنس.
وقيل المعنى:إن الأمة بالعين تلد سيدها أو سيدتها،بحيث يكون الملك قد أولد أمته، ومعنى أولدها أي أنجب منها، فيكون هذا الولد الذي أنجبته سيداً لها: إما لأن أباه سيدها، وإما لأنه سوف يخلف أباه فيكون سيداً لها.
ولكن المعنى الأول أقوى، أن الإماء يلدن -من يكونوا أسياداً ومالكين، فهي كانت مملوكة في الأول، وتلد من يكونوا أسياداً مالكين. وهو كناية عن تغير الحال بسرعة، ويدل لهذا ماذكره بعد حيث قال:
وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ الحفاة: يعني ليس لهم نعال، والعراة: أي ليس لهم ثياب تكسوهم وتكفيهم، العالة: أي ليس عندهم ما يأكلون من النفقة أو السكنى أو ما أشبه ذلك، عالة أي فقراء.
يَتَطَاوَلُوْنَ في البُنْيَانِ أي يكونون أغنياء حتى يتطاولون في البنيان أيهم أطول. وهل المراد بالتطاول ارتفاعاً، أو جمالاً، أو كلاهما؟
الجواب: كلاهما، أي يتطاولون في البنيان أيهم أعلى، ويتطاولون في البنيان أيهم أحسن، وهم في الأول فقراء لا يجدون شيئاً، لكن تغير الحال بسرعة مما يدل على قرب الساعة.
وهنا مسألة: هل وجد التطاول في البنيان أم لا؟
والجواب: الله أعلم فإنه قد يوجد ماهو أعظم مما في هذا الزمان،لكن كل أناس وكل جيل يحدث فيه من التطاول والتعالي في البنيان،وكل زمن يقول أهله: هذا من أشراط الساعة، والله أعلم، لكن هذه علامة واضحة.(8/40)
ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَليّاً يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)(مريم: الآية46) أي مدة طويلة، قيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر، وقيل: أقل ولكن المعروف أن الملي يعني الزمن الطويل.
ثُمَّ قَالَ: يَاعُمَرُ والقائل النبي صلى الله عليه وسلم أتَدْرِيْ من السَّائِل؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم وجده فيما بعد وسأله: أتدري من السائل؟ أي أتعلم من هو؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ وَرَسُوْلهُ أَعْلَمُ وهذا يدل على أن عمر رضي الله عنه لاعلم له من هذا السائل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ الإشارة هنا إلى شيء معلوم بالذهن، أي هذا جبريل أتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكَمُ لكنه جاء بهذه الصيغة أي صيغة السؤال والجواب لأنه أمكن في النفس وأقوى في التأثير.
من فوائد هذا الحديث:
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، فلو أراد الإنسان أن يستنبط مافيه من الفوائد منطوقاً ومفهوماً وإشارة لكتب مجلداً، لكن نشير إشارة قليلة إلى ما يحضرنا إن شاء الله تعالى، فمنها:
.1بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يجلس مع أصحابه ويجلسون إليه،وليس ينفرد ويرى نفسه فوقهم، بل إن الجارية تأخذ بيده حتى توصله إلى بيتها ليحلب لها الشاة من تواضعه صلى الله عليه وسلم [36]
واعلم أنك كلما تواضعت لله ازددت بذلك رفعة، لأن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجل .
.2جواز جلوس الأصحاب إلى شيخهم ومن يفوقهم،لكن هذا بشرط:إذا لم يكن فيه إضاعة وقت على الشيخ ومن يفوقه علماً. لأن بعض الناس يأتي إلى من يحافظ على وقته ويستغله في العلم، فيجلس عنده ويطيل الحديث، فالمحافظ على وقته،يتململ ويوري مثلاً بقصر الليل أو ما أشبه ذلك، ولكن الآخر لشدة محبته له والتحدث إليه يبقى.(8/41)
.3إن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا بأشكال غير أشكال الملائكة، لأن جبريل أتى بصورة هذا الرجل كما جاء في الحديث.
فإن قال قائل:وهل هذا إليهم، أو إلى الله عزّ وجل ؟
فالجواب: هذا إلى الله عزّ وجل ، بمعنى: أنه لايستطيع الملك أن يتزيَّى بزيّ الغير إلا بإذن الله عزّ وجل .
.4الأدب مع المعلم كما فعل جبريل عليه السلام، حيث جلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتأدب ليأخذ منه.
.5جواز التورية لقوله: يامُحَمَّد) وهذه العبارة عبارة الأعراب، فيوري بها كأنه أعرابي،وإلا فأهل المدن المتخلقون بالأخلاق الفاضلة لاينادون الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا.
.6فضيلة الإسلام،وأنه ينبغي أن يكون أول ما يسأل عنه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الرسل للدعوة إلى الله أمرهم أن يبدؤوا قبل كل شيء بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
.7إن أركان الإسلام هي هذه الخمسة،ويؤيده حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْس[37] وسيأتي شرحه.
.8فضل الصلاة وأنها مقدمة على غيرها بعد الشهادتين.
.9الحث على إقامة الصلاة، وفعلها قويمة مستقيمة،وأنها ركن من أركان الإسلام.
.10إن إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من أركان الإسلام، وكذلك بقية الأركان.
ولو قائل قال: إذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأركان هل يكفر أم لا؟
فالجواب: أن نقول: إذا لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فهوكافر بالإجماع، ولا خلاف في هذا. وأما إذا ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج أو واحداً منها ففي ذلك خلاف، فعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية: أن من ترك واحداً منها فهو كافر، يعني: من لم يصلِّ فهو كافر، ومن لم يزكِّ فهو كافر، ومن لم يصم فهو كافر، ومن لم يحج فهو كافر.
لكن هذه الرواية من حيث الدليل ضعيفة.(8/42)
والصواب: أن هذه الأربعة لا يكفر تاركها إلا الصلاة، لقول عبد الله بن شقيق - رحمه الله - كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لايرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ إلا الصلاة ولذلك أدلة معروفة[38].
وكذا لو أنكر وجوبها وهو يفعلها فإنه يكفر ،لأن وجوبها أمرٌ معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وإذا تركها عمداً فهل يقضيها أو لا ؟
نقول: الموقت لا يقضى، فلو ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر قلنا لا تقضها، لأنه لو قضاها لم تنفعه لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة: الآية229) والظالم لا يمكن أن يقبل منه، ومن أخرج الصلاة عن وقتها بلاعذر فهو ظالم.ولقول النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ [39] .
وكذلك يقال في الصوم: فلو ترك الإنسان صوم يوم عمداً بلا عذر ثم ندم بعد أن دخل شوال وأراد أن يقضيه، فإننا نقول له: لا تقضه، لأنك لو قضيته لم ينفعك، لكونك تعديت حدود الله، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ
وعلى من ترك الصلاة بلا عذر حتى خرج الوقت، أوترك الصوم بلا عذر حتى خرج الوقت أن يكثر من الطاعات والاستغفار والعمل الصالح والتوبة إلى الله توبة نصوحاً.
أما الزكاة:إذا تركها الإنسان ثم تاب فإنه يزكي، نقول: زكِّ لأنه ليس للزكاة وقت محدد يقال فيه لاتزكي إلا في الشهر الفلاني.
ومن مات وهو لم يزكِّ تهاوناً، فهل تخرج الزكاة من ماله، أم لا؟
والجواب: الأحوط -والله أعلم- أن الزكاة تخرج، لأنه يتعلق بها حق أهل الزكاة فلا تسقط، لكن لاتبرأ ذمته، لأن الرجل مات علىعدم الزكاة.
والحج كذلك، لوتركه الإنسان القادر المستطيع تفريطاً حتى مات، فإنه لايحج عنه، لأنه لايريد الحج فكيف تُحج عنه وهو لايريد الحج.
وهنا مسألة: هل يجب على ورثته أن يخرجوا الحج عنه من تركته؟(8/43)
والجواب: لا، لأنه لاينفعه ولم يتعلق به حق الغير كالزكاة، قال ابن القيم في تهذيب السنن: هذا هو الذي ندين الله به أوكلمة نحوها، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
فيجب على الإنسان أن يتقي الله عزّ وجل لأنه إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإنه لوحُجَّ عنه ألف مرة لم تبرأ ذمته.
.11 الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فالإسلام بالنسبة للإيمان أدنى، لأن كل إنسان يمكن أن يسلم ظاهراً،كما قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: الآية14) لكن الإيمان - اللهم حقق إيماننا- ليس بالأمر الهين فمحله القلب والاتصاف به صعب.
.12 أن الإسلام غير الإيمان،لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن الإسلام وقال: أخبرني عن الإيمان وهذا يدل على التغاير.
وهذه المسالة نقول فيها ما قال السلف:-
إن ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإن ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، فقوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: الآية3) يشمل الإيمان، وقوله تعالى: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ )(آل عمران: الآية20) يشمل الإيمان.
كذلك الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(الصف: الآية13) بعد أن ذكر (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(الصف: الآية11) قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13.(8/44)
- أما إذا ذكرا جميعاً فيفترقان ،ويكون الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وعمل الجوارح، والإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها. مثاله: هذا الحديث الذي معنا، ويدل على التفريق قول الله عزّ وجل: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )(الحجرات: الآية14).
فإن قال قائل: يرد على قولنا: إذا اجتمعا افترقا إشكال، وهو قول الله تعالى في قوم لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذّاريات:35-36] فعبر بالإسلام عن الإيمان؟
فالجواب: أن هذا الفهم خطأ، وأن قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يخص المؤمنين وقوله: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعم كل من كان في بيت لوط، وفي بيت لوط من ليس بمؤمن، وهي امرأته التي خانته وأظهرت أنها معه وليست كذلك، فالبيت بيت مسلمين، لأن المرأة لم تظهر العداوة والفرقة، لكن الناجي هم المؤمنون خاصة، ولهذا قال: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم ما عدا هذه المرأة، أما البيت فهو بيت مسلم.
ويؤخذ من هذه الآية فائدة هي: أن البلد إذا كان المسيطر عليه هم المسلمون فهوبلد إسلامي وإن كان فيه نصارى أو يهود أومشركون أوشيوعيون، لأن الله تعالى جعل بيت لوط بيت إسلام مع أن امرأته كافرة، هذا هو التفصيل في مسألة الإيمان والإسلام.
والحاصل أنه إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإن ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإن ذكرا جميعاً افترقا، فصار الأمر كما قال بعضهم: إن اجتمعا افترقا، إن افترقا اجتمعا ولهذا نظائر: كالمسكين والفقير، والبر والتقوى، فهذه الألفاظ إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت.(8/45)
.13 أن أركان الإيمان ستة كما سبق، وهذه الأركان تورث للإنسان قوة الطلب في الطاعة والخوف من الله عزّ وجل .
.14 أن من أنكر واحداً من هذه الأركان الستة فهو كافر، لأنه مكذّب لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
.15 إثبات الملائكة وأنه يجب الإيمان بهم.
وهنا مسألة: هل الملائكة أجسام، أم عقول، أم قوى؟
والجواب: الملائكة أجسام بلا شك،كما قال الله عزّ وجل: (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ)(فاطر: الآية1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطت السماء والأطيط: صرير الرحل،أي إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صريراً من ثقل الحمل،فيقول عليه الصلاة والسلام: وحق لها أن تئط، مَا مِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِع إِلاَّ وَفِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ للهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِد [40] ويدل لهذا حديث جبريل عليه السلام: أنه له ستمائة جناح قد سد الأفق، والأدلة على هذا كثيرة.
وأما من قال: إنهم أرواح لا أجسام لهم، فقوله منكر وضلال، وأشد منه نكارةً من قال: إن الملائكة كناية عن قوى الخير التي في نفس الإنسان، والشياطين كناية عن قوى الشر، فهذا من أبطل الأقوال.
.16 أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل، فلو آمن أحد برسوله وأنكر من سواه فإنه لم يؤمن برسوله، بل هو كافر، واقرأ قول الله عزّ وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:105)
مع أنهم إنما كذبوا نوحاً ولم يكن قبله رسول، لكن تكذيب واحد من الرسل تكذيب للجميع. وكذلك تكذيب واحد من الكتب في أنه نزل من عند الله تكذيب للجميع.
.17 إثبات اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم.(8/46)
وقد أنكر البعث كل المشركين، قال الله عزّ وجل: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّس:78) أي يتفتت، فأجاب الله عزّ وجل بأن أمر نبيه أن يقول: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّس:79) فهذا دليل، ووجه كونه دليلاً: أن القادر على الإيجاد قادر على الإعادة، وقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه)(الروم: الآية27) فإذا كان ابتداء الخلق هيناً وأنتم أيها المشركون تقرون به فإعادته أهون، والكل هين على الله عزّ وجل وهذا الدليل الأول في الرد على منكري البعث.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يعلم كيف يخلق عزّ وجل ويقدر على خلقه، فكيف تقولون إن هذا ممتنع؟ ثم قال تعالى: (الذي جعل لكم) [يس:80] أي جعل لكم أيها المنكرون ولغيركم، (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً )(يّس: الآية80) معنى الآية: أن في بلاد الحجاز شجراً يقال له المرخ والعفار يضربونه بالزند ثم يشتعل ناراً، مع أ نه أخضر ورطب وبارد أبعد ما يكون عن النار، ومع ذلك تخلق منه ا لنار، فالقادر على أن يخلق من الشيء ضده قادر على أن يعيد الشيء نفسه، ثم قال سبحانه وتعالى: (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(يّس: الآية80) وهذا إلزام لهم، وليس أمراً غريباً عليكم بل أنتم تستعملونه.
الدليل الثالث: من الأدلة في الرد على منكري البعث قول الله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّس:81)(8/47)
فالجواب: (بَلَى) [يس:81] وقد أجاب سبحانه وتعالى نفسه، لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)[يس:81] أي ذو الخلق التام مع القدرة التامة : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82) من كان أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلا يعجزه شيء، فإن أمر موجوداً أن يعدم عدِم، أومعدوماً أن يوجد وُجِد مهما كان.
وفي قصة موسى عليه السلام لما وقف على البحر العميق أمره الله تعالى أن يضرب البحر فضربه مرة واحدة فانفلق وصار اثني عشر طريقاً يبساً في الحال، فمن يقدر على أن يمايز بين الماء؟ لا يقدر أحد إلاالله عزّ وجل لأنه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وبهذه المناسبة أودّ أن أنبّه علىكلمة دارجة عند العوام، حيث يقولون (يا من أمره بين الكاف والنون) وهذا غلط عظيم، والصواب: (يا من أمره بعد الكاف والنون) لأن ما بين الكاف والنون ليس أمراً، فالأمر لا يتم إلا إذا جاءت الكاف والنون لأن الكاف المضمومة ليست أمراً والنون كذلك، لكن باجتماعهما تكون أمراً.
فالصواب أن تقول: (يا من أمره -أي مأموره- بعد الكاف والنون) كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:82-83]
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن باليوم الآخر وإن كانت العقول الضعيفة تستبعده،لأن الله تعالى إذا أمر حصل هذا فوراً،كما قال تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً )(يّس: الآية53) فبصيحة واحدة تأتي الخلائق كلها.
.18 أن تؤمن بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر معترك عظيم من زمن الصحابة إلى زماننا هذا، وسبق لنا أن له مراتب أربع وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فلنتكلم عن كل واحد منها تفصيلاً،وذلك لأهميته:-
المرتبة الأولى : العلم(8/48)
بأن تؤمن بأن الله عزّ وجل عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً مما يتعلق بفعله بنفسه كالخلق والإحياء أو بفعل عباده، والأدلة على هذا كثيرة، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية282) وقال عزّ وجل:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)
والجواب: بلى.
وأما التفصيل ففي آية الأنعام قوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59)
فإن قال قائل:لدينا إشكال : مثل قول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)
وقال الله عزّ وجل: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب)(المائدة: الآية94) وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142)
وأمثال هذه الآيات مشكلة، لأن ظاهرها تجدد علم الله عزّ وجل بعد وقوع الفعل؟
والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين:
الوجه الأول: إن علم الله عزّ وجل بعد وقوعه غير علمه به قبل وقوعه، لأن علمه به قبل وقوعه علم بأنه سيقع، وعلمه به بعد وقوعه علم بأنه واقع، نظير هذا من بعض الوجوه: الله عزّ وجل مريد لكل شيء حتى المستقبل الذي لانهاية له،مريد له لاشك، لكن الإرادة المقارنة تكون عند الفعل: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82)(8/49)
فهاهنا إرادتان: إرادة سابقة، وإرادة مقارنة للفعل، فإذا أراد الله تعالى أن يخلق شيئاً فإنه يريده عند خلقه، لكن كونه أراد أن يخلق في المستقبل فهذا غير الإرادة المقارنة، كذلك العلم.
الوجه الثاني: (حَتَّى نَعْلَمَ) [محمد:31] أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، لأن علم الله الأزلي السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فالثواب والعقاب يكون بعد الامتحان والابتلاء،كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)
وحينئذ قد زال الإشكال ولله الحمد.
وقد قال غلاة القدرية: إن علم الله تعالى بأفعال العباد مستأنف حيث يقولون: الأمر أنف يعني مستأنف، فيقولون: إن الله لايعلم الشيء، إلا بعد وقوعه،فهؤلاء كفرة بلا شك لإنكارهم ما دلّ الكتاب والسنة عليه دلالة قطعية، وأجمع عليه المسلمون.
المرتبة الثانية : الكتابة وهي أنواع :
.1الكتابة العامة في اللوح المحفوظ، كتب الله تعالى كل شيء.
.2 الكتابة العُمريّة، وهي أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر بعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، وأمرَ أن يكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. فهذه كتابة عمرية لأنها مقيدة بالعمر،أي تكتب مرة واحدة،ولايعاد كتابتها.
.3 الكتابة الحولية، وهي التي تكون ليلة القدر، كما قال الله عزّ وجل: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4)
يعني يبيّن ويفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وليس أمر من أمر الله إلا وهو حكيم.
وذكر بعضهم: كتابة يومية،واستدل لذلك بقوله عزّ وجل: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)
ولكن الآية ليست واضحة في هذا المعنى.
وهنا مسألة: هل الكتابة تتغير أو لاتتغير؟
الجواب: يقول رب العالمين عزّ وجل: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39)(8/50)
أي اللوح المحفوظ ليس فيه محو ولا كتاب، فما كتب في اللوح المحفوظ فهو كائن ولاتغيير فيه، لكن ما كتب في الصحف التي في أيدي الملائكة فهذا: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) قال عزّ وجل: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(هود: الآية114).
وفي هذا المقام يُنكَرُ على من يقولون: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) فهذا دعاء بدعي باطل، فإذا قال: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) معناه أنه مستغن، أي افعل ما شئت ولكن خفف وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عزّ وجل رفع البلاء نهائياً فيقول مثلاً: اللهم عافني، اللهم ارزقني وما أشبه ذلك.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال:لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهَمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ [41] فقولك: (لا أسألك رد القضاء،ولكن أسألك اللّطف فيه) أشد.
واعلم أن الدعاء قد يرد القضاء،كما جاء في الحديث: لاً يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ [42] وكم من إنسانٍ افتقر غاية الافتقار حتى كاد يهلك،فإذا دعا أجاب الله دعاءه، وكم من إنسان مرض حتى أيس من الحياة فيدعو فيستجيب الله دعاءه.
قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الانبياء:83)
فذكر حاله يريدُ أنّ اللهَ يكشفُ عنهُ الضُّرَّ، قال الله :(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الانبياء: الآية84)
المرتبة الثالثة : المشيئة :(8/51)
ومعناها: أن تؤمن بأن كل كائن وجوداً أو عدماً فهو بمشيئة الله، كالمطر، والجفاف، ونبات الأرض، والإحياء، والإماتة، وهذا لا إشكال فيه، وهو مشيئة الله عزّ وجل لفعله ،وكذلك ما كان من فعل المخلوق فهو أيضاً بمشيئة الله،ودليل ذلك قوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:28-29] وقال الله عزّ وجل: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ) [البقرة:253] وأجمع المسلمون على هذه الكلمة: (ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.)
ففعل العبد بمشيئة الله. ويرد إشكال وهو إذا كان فعل العبد بمشيئة الله صار الإنسان مجبراً على العمل، لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيؤدي هذا الاعتقاد إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب الجهمية.
* والجهمية: لهم ثلاث جيمات كلها فساد:
الجهم: وهذا يتعلق بالصفات، والجبر: يتعلق بالقدر، الإرجاء: يتعلق بالإيمان، ثلاث جيمات كلها لاخير فيها.
ولهذا قول القائل: إذا كان كل شيء بمشيئة الله وبكتابة الله،فنحن مجبرين على أعمالنا؛ قولٌ لايخفى مافيه من الفساد، لأنه إذا كان الإنسان مجبراً وفعل الفعل ثم عُذب عليه، ولهذا لو حدث من بشر لصاح الناس به، فكيف بالخالق عزّ وجل ؟
ولذلك يعتبر هذا القول من أبطل الأقوال، ونحن نشعر بأنهم لايجبرون على الفعل ولا على الترك، وأننا نفعل ذلك باختيارنا التام.
وبهذا التقرير يبطل هذا الاستفهام الحادث المحدث، هل الإنسان مسير أو مخير ؟(8/52)
وهذا سؤال غير وارد وعلى من يسأل هذا السؤال أن يسأل نفسه:هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال؟ وكلٌّ يعرف أن الإنسان مخير لا أحد يجبره، فعندما أحضر من بيتي إلى المسجد هل أشعر بأن أحداً أجبرني؟ لا، وكذا عندما أتأخر باختياري لا أشعر بأن أحداً أجبرني، فالإنسان مخيّر لا شك، لكن ما يفعله الإنسان نعلم أنه مكتوب من قبل، ولهذا نستدل على كتابة الله عزّ وجل لأفعالنا وإرادته لها وخلقه لها بعد وقوعها، أما قبل الوقوع فلا ندري، ولهذا قال الله عزّ وجل: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إن الله عليم خبير) (لقمان: الآية34) فإذا كان هذا هو الواقع بالنسبة للمشيئة: أن الله تعالى يشاء كل شيء لكن لا يجبر العباد، بل العباد مختارون فلا ظلم حينئذ، ولهذا إذا وقع فعل العبد من غير اختيار رُفِع عنه الإثم، إن كان جاهلاً أو مكرهاً أو ناسياً،فإنه يُرفع عنه الإثم لأنه لم يختره.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّار قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَفَلا نَدَعُ العَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ، قَالَ: لا، اعْمَلُوْا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ -اللهم اجعلنا منهم- فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَة ثُمَّ قَرَأَ النبي صلى الله عليه وسلم - مستدلاً ومقرراً لما قال- قول الله عزّ وجل: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:5-10) [43]
إذاً نعمل .الرّزق مكتوب ومراد لله، ومع ذلك الإنسان يسعى للرزق.(8/53)
وكذا الولد مكتوب أي أن الإنسان سيولد له مكتوب، ومع ذلك فالإنسان يسعى لهذا ويطلب الأولاد بالنكاح، ولا يقول: سأنام على الفراش وإن كان الله مقدراً لي الولد سيأتي به، فلو قال أحد هذا الكلام لقالوا: إنه مجنون.
كذلك العمل الصالح: اعمل عملاً صالحاً من أجل أن تدخل الجنة، ولا أحد يمنعك من الطاعة، ولا أحد يكرهك على المعصية.
وقد احتجّ المشركون بالقدر على شركهم،كما قال الله عنهم: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام:148].
والجواب: قال الله تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) [الأنعام:148] فلم تقبل منهم هذه الحجة، لأن الله تعالى جعل ذلك تكذيباً وجعل له عقوبة: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) .
فإن قال قائل: إن لدينا حديثاً أقرّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بالقدر،وهو أن آدم وموسى تحاجا -أي تخاصما- فقال موسى لآدم: أنت أبونا خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة -لأن خروج آدم من الجنة من أجل أنه أكل من الشجرة التي نُهِيَ عن الأكل منها -فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه الله عليَّ قبل أ ن يخلقني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حَجَّ آدَمُ مُوْسَى مرتين أو ثلاثاً وفي لفظ: فَحَجَّهُ آدَمُ [44] يعني غلبه في الحجة.
هذا يتمسّك به من يحتجّ بالقدر على فعل المعاصي.
ولكن كيف المخرج من هذا والحديث في الصحيحين؟
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بجواب، وأجاب تلميذه ابن القيم - رحمه الله - بجواب آخر.(8/54)
شيخ الإسلام قال: إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من الذنب كمن لاذنب له،ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه،وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله،وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة، فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم، على أن آدم عليه الصلاة والسلام لاشك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام، فكيف يلومه موسى؟
وهذا وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله وحينئذ يتبين أنه لاحجة في الحديث لمن يستدل على فعل المعاصي.
إذاً احتج على المصيبة وهي الإخراج من الجنة،ولهذا قال:أخرجتنا ونفسك من الجنة ولم يقل: عصيت ربك، فهنا كلام موسى مع أبيه آدم على المصيبة التي حصلت، وهي الإخراج من الجنة،وإن كان السبب هو فعل آدم. وقال رحمه الله: اللوم على المصائب وعلى المعائب إن استمر الإنسان فيها.
أما تلميذه ابن القيم - رحمه الله - فأجاب بجواب آخر قال: إن اللوم على فعل المعصية بعد التوبة منها غلط، وإن احتجاج الإنسان بالقدر بعد التوبة من المعصية صحيح. فلو أن إنساناً شرب الخمر، فجعلت تلومه وهو قد تاب توبة صحيحة وقال: هذا أمر مقدر عليَّ وإلا لست من أهل شرب الخمر،وتجد عنده من الحزن والندم على المعصية، فهذا يقول ابن القيم: لابأس به.
وأما الاحتجاج بالقدر الممنوع فهو: أن يحتج بالقدر ليستمر على معصيته،كما فعل المشركون، أما إنسان يحتج بالقدر لدفع اللوم عنه مع أن اللوم قد اندفع بتوبته فهذا لابأس به.
وهذا الجواب جواب واضح يتصوره الإنسان بقرب، وإن كان كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أسد وأصوب، لكن لامانع بأن يُجاب بما أجاب به العلامة ابن القيم .(8/55)
وقال ابن القيم:نظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طرق ابنته فاطمة وابن عمه عليَّاً رضي الله عنهما ليلاً فوجدهما نائمين، فقال: أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ فكأنه عاب عليهما، أي لماذا لم تقوما لصلاة التهجّد فقال علي رضي الله عنه : يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ عزّ وجل فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا؛ بَعَثَنَا، فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ وَيَقُوْلُ: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً[45] لأن عليّاً رضي الله عنه دافع عن نفسه بأمرٍ انتهى وانقضى.
ولو أن إنساناً فعل معصية وأردنا أن نقيم عليه العقوبة حدّاً أو تعزيراً وقال: أنا مكتوب عليَّ هذا. ولنفرض أنه زنا وقلنا: اجلدوه مائة جلدة وغربوه عاماً عن البلد، فقال: مهلاً، هذا شيء مكتوب عليَّ، أتنكرون هذا؟ فسنقول: لاننكره، فيقول: لالوم عليّ، فنقول: ونحن سنجلدك ونقول هذا مكتوب علينا.
وذكر أن سارقاً رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر بقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقدر الله، وهذا جواب صحيح، فقال عمر: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله، فغلبه عمر رضي الله عنه، بل نقول: إننا نقطع يده بقدر الله وشرع الله، فالسارق سرق بقدر الله، لكن لم يسرق بشرع الله،ونحن نقطع يده بقدر الله وشرع الله، ولكن عمر رضي الله عنه سكت عن مسألة الشرع من أجل أن يقابل هذا المحتج بمثل حجته.
فتبين الآن أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل، والاحتجاج بالقدر على فوات المطلوب باطل أيضاً، ولذلك نرى الناس الآن يتسابقون إلى الوظائف باختيارهم ولا يفوتونها، ولو أن الإنسان تقاعس ولم يتقدم لامه الناس على هذا، مما يدل دلالة واضحة على أن الإنسان له إرادة وله اختيار.(8/56)
فبطل بذلك احتجاج العاصي بقدر الله على معاصي الله، ونقول له: أنت قدرت الآن أن الله قد كتب عليك المعصية فعصيت، فلماذا لم تقدر أن الله كتب لك الطاعة وأطعت، لأن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله، ولا نعلم ماذا قضى الله وقدر إلا بعد الوقوع، فإذا كنت أقدمت على المعصية فلماذا لم تقدم على الطاعة وتقول إنها بقضاء الله وقدره.
والأمر والحمد لله واضح، ولولا ما أثير حول القضاء والقدر لكان لا حاجة إلى البحث فيه لأنه واضح جداً، وأنه لا حجة بالقدر على المعاصي ولا على ترك الواجبات.
المرتبة الرابعة: الخلق :
فكل مافي الكون فهو مخلوق لله عزّ وجل، بالنسبة لما يحدثه الله تعالى من فعله فهو واضح: كالمطر وإنبات الأرض وما أشبه ذلك، فهو مخلوق لله تعالى لا شك.
لكن بالنسبة لفعل العبد ، هل هو مخلوق لله أم لا؟
الجواب: نعم مخلوق لله، فحركات الإنسان وسكناته كلها مخلوقة لله، ووجه ذلك:
أولاً: أن الله عزّ وجل خلق الإنسان وأعطاه إرادة وقدرة بهما يفعل، فسبب إيجاد العبد لما يوجده الإرادة الجازمة والقدرة التامة، وهاتان الصفتان مخلوقتان لله، وخالق السبب خالق للمسبب.
ثانياً: أن الإنسان إنسان بجسمه ووصفه، فكما أنه مخلوق لله بجسمه فهو مخلوق له بوصفه، ففعله مخلوق لله عزّ وجل،كما أن الطول والقصر والبياض والسواد والسمن والنحافة كلها مخلوقة لله فهكذا أيضاً أفعال الإنسان مخلوقة لله،لأنها صفة من أوصافه، وخالق الأصل خالق للصفة.
ويدل لهذا قول إبراهيم عليه السلام لقومه: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96] تحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن تكون (ما) مصدرية والمعنى: خلقكم وخلق عملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.(8/57)
والمعنى الثاني: أن تكون (ما) اسماً موصولاً، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟ فكيف يمكن أن نقول:إن الآية دليل على خلق أفعال العباد على هذا التقدير ؟
والجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقاً لله، لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقاً، لأن المعمول كان بعمل الإنسان،فالإنسان هو الذي باشر العمل في المعمول، فإذا كان المعمول مخلوقاً لله، وهو فعل العبد، لزم أن يكون فعل العبد مخلوقاً فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.
ومن فوائد هذا الحديث:
.19أن القدر ليس فيه شر، وإنما الشر في المقدور،وتوضيح ذلك بأن القدر بالنسبة لفعل الله كله خير، ويدل لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم : وَالشّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ [46] أي لاينسب إليك،فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شرٌّ أبداً، لأنه صادر عن رحمة وحكمة، لأن الشر المحض لا يقع إلا من الشرير ،والله تعالى خير وأبقى.
إذاً كيف نوجّه وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ؟
الجواب: أن نقول :المفعولات والمخلوقات هي التي فيها الخير والشر، أما أصل فعل الله تعالى وهو القدر فلا شرّ فيه، مثال ذلك: قول الله عزّ وجل:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )(الروم: الآية41) هذا بيان سبب فساد الأرض ،وأما الحكمة فقال: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم: الآية41) إذن هذه مصائب من جدب في الأرض ومرض أو فقر،ولكن مآلها إلى خير، فصار الشرّ لايضاف إلى الرب، لكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات مع أنها شر من وجه وخير من وجه آخر، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل منها من العاقبة الحميدة (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].(8/58)
ومن الحكمة أن يكون في المخلوق خير وشر، لأنه لولا الشر ما عُرف الخير،كما قيل: (وبضدها تتبين الأشياء) فلو كان الناس كلهم على خير ما عرفنا الشر، ولو كانوا كلهم على شر ما عرفنا الخير، كما أنه لا يعرف الجمال إلا بوجود القبيح، فلو كانت الأشياء كلها جمالاً ما عرفنا القبيح.
إذا إيجاد الشر لنعرف به الخير، لكن كون الله تعالى يوجد هذا الشر ليس شراً، فهنا فرق بين الفعل والمفعول، ففعل الله الذي هو تقديره لا شر فيه، ومفعوله الذي هو مُقدرهُ ينقسم إلى خير وشر، وهذا الشر الموجود في المخلوق لحكمة عظيمة.
فإذا قال قائل: لماذا قدر الله الشر؟
فالجواب: أولاً: ليُعرف به ا لخير.
ثانياً: من أجل أن يلجأ الناس إلى الله عزّ وجل.
ثالثاً: من أجل أن يتوبوا إلى الله.
فكم من إنسان لا يحمله على الورد ليلاً أو نهاراً إلا مخافة شرور الخلق، فتجده يحافظ على الأوراد لتحفظه من الشرور، فهذه الشرور في المخلوقات لتحمل الإنسان على الأذكار والأوراد وما أشبهها، فهي خير.
ولنضرب مثلاً في رجل له ابن مشفق عليه تماماً، وأصيب الابن بمرض وكان من المقرر أن يكوى هذا الابن بالنار، ولا شك أن النار مؤلمة للابن، لكن الأب يكويه لما يرجو من المصلحة بهذا الكي، مع أن الكي في نفسه شر، لكن نتيجته خير.
وإذا علمت أن فعل الله عزّ وجل الذي هو فعله كله خير اطمأننت إلى مقدور الله عزّ وجل واستسلمت تماماً،وكنت كما قال الله عزّ وجل: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(التغابن: الآية11) قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.(8/59)
والإنسان إذا رضي بالقدر حقاً استراح من الحزن والهم، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ، وَفِيْ كُلٍّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وِاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّيْ فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ - لَوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ [47] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفع، ثم إذا اختلفت الأمور فقل: هذا قدر الله وما شاء فعل.
وليس المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ قوي العضلات، بل المراد: المؤمن القوي في إيمانه لا في جسمه، فكم من إنسان قوي الجسم لكن لا خير فيه، وبالعكس. وبهذه المناسبة لو كتبت هذه الجملة المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ على لوحة كبيرة فوق ملعب رياضي، على أن المراد بالمؤمن القوي قوي العضلات فإن هذا لايجوز
فالمهم أن الشر لاينسب إلى الله تعالى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ [48] وإنما ينسب الشر إلى المخلوقات، قال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق:1-2] فالشرّ ينسب إلى المخلوقات.
وهنا مسألة: هل في تقدير المخلوقات الشريرة حكمة ؟(8/60)
والجواب: نعم، حكمة عظيمة، ولولا هذه المخلوقات الشريرة ما عرفنا قدر المخلوقات الخيّرة، فالذئب مثلاً صغير الجسم بالنسبة للبعير، ومع ذلك الذئب يأكل الإنسان كما قال الله تعالى في سورة يوسف علىلسان يعقوب عليه السلام: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ )(يوسف: الآية13) ومعلوم أن البعير لا يأكل الإنسان، بل إن البعير القوي الكبير الجسم ينقاد للصبي الصغير، قال الله عزّ وجل: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس:71-72] فتأمل الحكمة البالغة أن الله تعالى خلق الإبل،وهي أجسام كبيرة،وأمرنا الله تعالى أن نتدبر حيث قال: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية:17)
وخلق الذئاب وأشباهها مما يؤذي بني آدم حتى يعلم الناس بذلك قدرة الله عزّ وجل ،وأن الأمور كلها بيده.
20- أن الساعة لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل ،لأن أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عنها، فقال: ما المَسْؤولُ عَنْهَا بَأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.
ويترتب على هذه الفائدة أنه لو صدَّق أحد من الناس شخصاً ادعى أن الساعة تقوم في الوقت الفلاني، فإنه يكون كافراً، لأنه مكذب للقرآن والسنة.
.21عظم الساعة، ولهذا جاءت لها أمارات وعلامات حتى يستعد الناس لها - رزقنا الله وإياكم الاستعداد لها -.
.22أننا إذا كنا لانعلم الشيء فإننا نطلب ما يكون من علاماته، لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن أماراتها
.23ضرب المثل بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : أن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والعلامة الثانية: أنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رُعَاءَ الشَّاءِ يَتْطَاوَلُوْنَ فَي البُنْيَانِ.
فإن قال قائل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمارات أخرى أوضح من هذا؟(8/61)
فالجواب: أن العلامات الأخرى بيّنة واضحة لا يحتاج السؤال عنها، ولذلك عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها إلى ذكر هذه الصورة.
.24أن الملائكة يمشون إذا تحولوا إلى بشر، لقوله: ثم انْطَلَقَ
وهل يمشون إذا كانوا على صفةالخلق الذي خلقواعليه؟
الجواب: قال الله عزّ وجل: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً) (الاسراء:95)
ولهم أجنحة يطيرون بها، كما قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) (فاطر:1)
.25إلقاء العالم على طلبته ما يخفى عليهم،لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أَتَدْرُوْنَ مَنِ السَّائِل
.26أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإنه جبريل أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ مع أن الذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما كان سؤال جبريل هو السبب جعله هو المعلم.
ويتفرع على هذا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم معرفتها أن يسأل عنها وإن كان يعلمها، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.
.27أن السبب إذا بني عليه الحكم صار الحكم للسبب، ولهذا ذكر العلماء لهذه القاعدة مسائل كثيرة منها:
لو شهد رجلان على شخص بما يوجب قتله من ردة أو حرابة، ثم حكم القاضي بذلك ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا قتله،فإن هؤلاء الشهود يقتلون، لأن الحكم مبني على شهادتهم وهم السبب.
ولكن إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر إلا إذا تعذرت إحالة الضمان عليه،فيكون على المتسبب، مثال ذلك:
رجل حفر حفرة في الطريق فوقف عليها رجل فجاء رجل ثالث فدفع الرجل وسقط في الحفرة ومات، فالضمان على الدافع،لأنه هو المباشر.(8/62)
مثال آخر: رجل ألقى بشخص بين يدي الأسد فأكله، فالمباشر هنا هو الأسد، والمتسبب الرجل الذي ألقى الآخر بين يدي الأسد، فالضمان على الرجل لتعذر إحالة الضمان على الأسد.
.28-أن ما ذكر في هذا الحديث هو الدين، لقوله: يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ ولكن ليس على سبيل التفصيل،بل على سبيل الإجمال.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ ثلاث مرات: للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُوله، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ [49]؟
فالجواب:بلى، لكن هذه النصيحة لا تخرج عما في حديث جبريل،لأنها من الإسلام.
---
[10] رواه مسلم: كتاب الإيمانن باب: الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، حديث (8)، (1).
[11] رواه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: (ومن أحياها)، حديث(6872). ومسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، حديث (96) (159).
[12] -أخرجه البخاري- كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم- كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، (19)، (29)
[13] مجموع الفتاوى، ج (20) ص(456)
[14] رواه الإمام أحمد في مسند الأنصار بلفظ ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة)) حديث (2384). وفي سنن أبي داود: كتاب الجنائز. باب التلقين، حديث (3116). والحاكم في المستدرك – كتاب الجنائز، (1299) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، والطبراني في معجمه الكبير – ج 20/ص 112، (221)، والطبراني في معجمه الأوسط – ج1/ 180ن (574).
[15] رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب: الأرواح جنود مجندة، (33409. ومسلم: كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث (194)(8/63)
[16] رواه أبو داود: كتاب السنة باب في لزومالسنة، حديث (4605)، والترمذي: كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم (2663)، وابن ماجه: المقدمة، باب: تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضهن (13)
[17] زاد المعاد (2/195)
[18] - أخرجه البخاري – كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت في المساجد، (470)
[19] - أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق – ج1/ص21، (14)، وابن حبان في صحيحه- ج16/ ص126، (5034)، المعجم الكبير للطبراني: (2/68) حديث(1316)، وابن المبارك في الجهاد – ج 1/ص103، (123)، والطبراني في معجمه الأوسط – ج1/ص18ن (42).
[20] تكلم شيخنا –غفر الله له- عن أحكام الصلاة في (مجموع الفتاوى) المجلدات: 12-13-14-15.
[21] - فصل شيخنا- غفر الله له- أحكام الزكاة في المجلد 18 من مجموع الفتاوى.
[22] - فصل شيخنا – غفر الله له – أحكام الصيام في المجلد 19 من مجموع الفتاوى.
[23] رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959).
[24] رواه الترمذي: فيكتاب الحج، باب ما في العمرة أواجبة هي أم لا؟ حديث(931)
[25] أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام(6227) ومسلم- كتاب الجنة وصفة نعيمها باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (2841)
[26] - أخرجه البخاري- كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (3246)زومسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، (2834)
[27] - أخرجه مسلم- كتاب: القدر، باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، (2654)، (17)
[28] - أخرجه أبو داود – كتاب: السنة، باب: في الجهمية، (4728)
[29] - أخرجه مسلم- كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (770)، (220).(8/64)
[30] - أخرجه الترمذي- كتاب: الزهد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً"، (2312) وابن ماجه – كتاب الزهد، باب: الحزن والبكاء، (4190)، والإمام أحمد في مسنده- ج 5/173 في مسند الأنصار عن أبي ذر الغفاري، (21848)
[31] أورده إسماعيل بن محمد العلجوني الجراحي في كتابه" كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس"، ج2/ص83، (1744) قال السيوطي في الدار: لا أصل له، وكذلك قال ابن حجر، وقبله الدميري والزركشي.
[32] - أخرجه مسلم- كتاب: الفضائل، باب: تفضل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، (2278)،(3).
[33] - أخرجه مسلم- كتاب: المساجد، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، (532)، (23).
[34] - أخرجه مسلم- كتاب: الجنة باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، (2859)،(56)
[35] - أخرجه الإمام أحمد- في مسند الأنصار عن عبادة بن الصامت، ج5/ص317، (23083)، وأبو داود- كتاب: السنة، باب: في القدر، (4700)، الترمذي- كتاب: القدر، (2155)
[36] ورد في معناه في حديث الهجرة عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيمة أم معبد الخزاعية ولم يجد عندها طعاماً ولا شراباً فحلب لها الشاة الضعيفة الهزيلة التي لا لبن لها بيديه الشريفتين بعد أن مسح على ضرعها، رواه الحاكم في المستدرك، كتاب: الهجرة، (4274)
[37] - أخرجه البخاري- كتاب: الإيمان، باب: (دعاؤكم إيمانكم) لقوله عز وجل: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) (8). ومسلم – كتاب : الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (16)،(21)
[38] - فصل شيخنا- غفر الله له- مسألة حكم تارك الصلاة في مجموع الفتاوى المجلد الثاني عشر.
[39] سبق تخريجه صفحة (13)(8/65)
[40] - أخرجه الإمام أحمد في مسنده- باب: الأنصار عن أبي ذر الغفاري، (21848)، والترمذي – كتاب: الزهد، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، (2312). وابن ماجه –كتاب: الزهد، باب: الحزن والبكاء، (4190).
[41] - أخرجه البخاري – كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، (7477)، ومسلم – كتاب: الذكر والدعاء، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاهان (2697)، (8).
[42] -أخرجه البخاري- كتاب: القدر، باب: ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء، (2139)، وابن ماجه – كتاب: المقدمة، باب: في القدر، (90)، والإمام أحمد – في مسند الأنصار عن ثوبان، (22745).
[43] - أخرجه البخاري- كتاب: التفسير، باب: قوله: (فأمام من أعطى واتقى)(الليل:5)، (4945)، ومسلم- كتاب: القدر، باب: خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (2647)، (6).
[44] - أخرجه البخاري- كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، (3409)، ومسلم – كتاب: القدر، باب: حجاج موسى وآدم عليهما السلام، (2652)،(13)
[45] - أخرجه البخاري- أبواب: التهجد، باب: ترك القيام للمريض، (1127)، ومسلم – كتاب : صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روى فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، (775)،(206).
[46] - أخرجه مسلم – كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (771)،(201).
[47] - أخرجه مسلم – كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، (2664)،(34)
[48] - أخرجه مسلم – كتاب: صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (771)،(201).
[49] - أخرجه البخاري تعليقاً- كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((الدين النصيحة))، ص (35) طبعة بيت الأفكار الدولية. وأخرجه مسلم- كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (55)، (95)(8/66)
الحديث الثالث
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البِيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[50]
الشرح
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هذه كنية، عبد الله بن عمر هذا اسم علم.
والكنية: كل ما صدر بأبٍ، أو أم، أو أخ، أو خالٍ، أو ما أشبه ذلك. والعلم: اسم يعين المسمى مطلقاً.
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال العلماء: إذا كان الصحابي وأبوه مسلمين فقل: رضي الله عنهما، وإذا كان الصحابي مسلماً وأبوه كافراً فقل: رضي الله عنه .
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ يَقُوْلُ: بُنِيَ الإِسْلامُ الذي بناه هو الله عزّ وجل، وأبهم الفاعل للعلم به، كما أُبهم الفاعل في قوله تعالى: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(النساء:الآية28) فلم يبين من الخالق، لكنه معلوم، فما عُلم شرعاً أو قدراً جاز أن يبنى فعله لما لم يسم فاعله.
عَلَى خَمْسٍ أي على خمسِ دعائم.
شَهَادَة أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ (شهادة) يجوز فيها وجهان في الإعراب:
الأول: الضم (شهادةُ) بناء على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة.
والثاني: الكسر (شهادةِ) على أنها بدل من قوله: خمس، وهذا البدل بدل بعض من كل.
وقد سبق الكلام على الشهادتين في شرح حديث جبريل عليه السلام[51]
وَإِقَامِ الصّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البّيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَان وهذا سبق الكلام عليه في شرح حديث جبريل عليه السلام[52] .
لكن في هذا الحديث إشكال وهو:تقديم الحج على الصوم.
والجواب عليه أن يقال: هذا ترتيب ذكري، والترتيب الذكري يجوز فيه أن يقدم المؤخر كقول الشاعر:(9/1)
إن من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد من بعد ذلك جده
فالترتيب هنا ترتيب ذكري.
وقد سبق في حديث جبريل تقديم الصيام على الحج، ونقول في شرح الحديث:
إن الله عزّ وجل حكيم، حيث بنى الإسلام العظيم علىهذه الدعائم الخمس من أجل امتحان العباد.
- الشهادتان: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان.
- إقام الصلاة: عمل بدني يشتمل على قول وفعل، وما قد يجب من المال لإكمال الصلاة فإنه لا يعد منها، وإلا فمن المعلوم أنه يجب الوضوء للصلاة، وإذا لم تجد ماءً فاشتر ماءً بثمن ، ومن المعلوم أيضاً أنك ستستر العورة في الصلاة وتشتري السترة بمال لكن هذا خارج عن العبادة، ولذلك نقول:إن الصلاة عبادة بدنية محضة.
- إيتاء الزكاة: عبادة مالية لا بدنية، وكون الغني يجب أن يوصلها للفقير، وربما يمشي وربما يستأجر سيارة، هذا أمر خارج عن العبادة، ولهذا لو كان الفقير عند الغني أعطاه الدراهم مباشرة بدون أي عمل، ولا نقول: اذهب أيها التاجر إلى أقصى البلد ثم ارجع.
- صوم رمضان: عبادة بدنية لكن من نوع آخر، الصلاة بدنية لكنها فعل، والصيام بدني لكنه كف وترك، لأنه قد يسهل على الإنسان أن يفعل،ويصعب عليه أن يكف، وقد يسهل عليه الكف ويصعب عليه الفعل، فنوعت العبادات ليكمل بذلك الامتحان، فسبحان الله العظيم.
- حج البيت: هل يتوقف الحج على بذل المال؟
فيه تفصيل: إذا كان الإنسان يحتاج إلى شد رحل احتاج إلى المال، لكن هذا خارج العبادة، هذا من جنس الوضوء للصلاة.
وإذا قدرنا أن الرجل في مكة فهل يحتاج إلى بذل المال؟
الجواب: إذا كان يستطيع أن يمشي على رجليه فلا يحتاج إلى بذل المال، والنفقة من الأكل والشرب لابد منها حتى وإن لم يحج.
لذلك الحج - عندي- متردد بين أن يكون عبادة مالية، أوعبادة بدنية مالية، وعلىكل حال إن كان عبادة مالية بدنية فهو امتحان.
فصارت هذه الحكمة العظيمة في أركان الإسلام أنها:
بذل المحبوب، والكف عن المحبوب، وإجهاد البدن، كل هذا امتحان.(9/2)
بذل المحبوب: في الزكاة ،لأن المال محبوب إلى الإنسان،كما قال الله عزّ وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8] وقال:( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20)
والكف عن المحبوب: في الصيام كما جاء في الحديث القدسي: يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِيْ [53] .
فتنوعت هذه الدعائم الخمس على هذه الوجوه تكميلاً للامتحان، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يصوم، ولكن لا يسهل عليه أن يبذل قرشاً واحداً، وبعض الناس يسهل عليه أن يصلي،ولكن يصعب عليه أن يصوم.
ويذكر أن بعض الملوك وجبت عليه كفارةفيها تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. فاجتهد بعض العلماء وقال لهذا الملك: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين ولا تعتق، فقيل للمفتي في ذلك فقال: لأن الشهرين أشق على هذا الملك من إعتاق رقبة، والمقصود بالكفارة محو ما حصل من إثم الذنب، وأن لا يعود.
فنقول: هذا استحسان لكنه ليس بحسن وفي غير محله لأنه مخالف للشرع، فألزمه بما أوجب الله عليه وحسابه على الله عزّ وجل، وليس إليك.
---
[50] سبق تخريجه صفحة (57)
[51] صفحة (21)
[52] صفحة (22)
[53] - أخرجه البخاري – كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، (7492)، ومسلم – كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، (1151)،(164).(9/3)
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنََّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) [54] رواه البخاري ومسلم.
الشرح
قوله: حَدَّثَنَا حدث وأخبر في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي كذلك عند قدماء المحدثين، لكن عند المتأخرين من صاروا يفرقون بين: (حدثنا) و:(أخبرنا)، وعلم ذلك مذكور في مصطلح الحديث.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْق الجملة هذه مؤكدة لقوله: رَسُولُ اللهِ لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ أي الصادق فيما أَخْبَر به المَصْدُوْقُ فيما أُخبِِر به، فإذا قلت: قدم زيد، وكان قادماً، فهذا يقال للمخبر:إنه صادق. وإذا حدثني إنسانٌ وقال: قدم زيد وهو صادق فإنه يقال لي مصدوق، أي مخبر بالصدق.
والنبي صلى الله عليه وسلم وصفه كذلك تماماً، فهو صادق فيما أخبر به، ومصدوق فيما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.(10/1)
وإنما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه هذه الجملة،لأن التحدث عن هذا المقام من أمور الغيب التي تخفى، وليس في ذلك الوقت تقدم طبٍّ حتى يُعرف ما يحصل.
وهناك ماهو فوق علم الطب وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد، فلذلك من فقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أتى بهذه الجملة المؤكدة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
قال: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ وذلك أن الإنسان إذا أتى أهله فهذا الماء المتفرق يُجمع،وكيفية الجمع لم يذكر في الحديث، وقيل: إن الطبّ توصّل إلى معرفة بعض الشيء عن تكون الأجنة والله أعلم.
أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَة أي قطرة من المني.
ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ وهل ينتقل فجأة من النطفة إلى العلقة؟
الجواب: لا، بل يتكون شيئاً فشيئاً،فيحمّارُ حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة.
والعلقة هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة.
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك أي أربعين يوماً، والمضغة: هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان.
وهذه المضغة تتطور شيئاً فشيئاً،ولهذا قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)(الحج: الآية5) .
فالجميع يكون مائة وعشرين، أي أربعة أشهر.
ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ والمرسِل هو الله رب العالمين عزّ وجل، فيرسل الملك إلى هذا الجنين،وهو واحد الملائكة،والمراد به الجنس لا ملك معين.
فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.(10/2)
والروح سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأمره الله أن يقول: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الاسراء: الآية85) فالروح من أمر الله أي من شأنه، فهو الذي يخلقها عزّ وجل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء: الآية85) وهذا فيه نوع من التوبيخ،كأنه قال:ما بقي عليكم من العلم إلاالروح حتى تسألوا عنها، ولهذا قال الخضر لموسىعليه السلام لما شرب الطائر من البحر: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. أي أنه لم ينقص شيئاً).
وَيُؤْمَرُ أي الملك بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمر هو الله عزّ وجل بِكْتبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ .
رِزْقه الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق الذي يقوم به الدين:هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.
وَأَجَله أي مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافاً متبايناً، فمن الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائةسنة من هذه الأمة ، أما من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
واختيار طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن ،إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزّ وجل.(10/3)
وهذا الأجل لا يتقدم لحظة ولا يتأخر، فإذا تم الأجل انتهت الحياة ،وأذكر لكم قصة وقعت في عنيزة: مر دباب أي دراجة نارية بتقاطع، وإذا بسيارة تريد أن تقطع، فوقف صاحب الدباب ينتظر عبور السيارة، والسيارة وقفت تنتظر عبور الدباب، ثم انطلقا جميعاً فصُدم الدباب ومات الراكب الرديف الذي وراء السائق، فتأمل الآن، وقف هذه الدقيقة من أجل استكمال الأجل (سبحان الله) . قال الله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) (المنافقون:11)
وقال صلى الله عليه وسلم : إِنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا[55] .
وهنا مسألة: هل الأجل وراثي؟
الجواب: الأجل ليس وراثياً، فكم من شاب مات من قبيلة أعمارهم طويلة، وكم من شاب عمَّر في قبيلة أعمارها قصيرة.
وَعَمَله أي ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل .
وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس، قال الله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:105-108] فالنهاية إما شقاء وإما سعادة ، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة.
قال: فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هذه الجملة قيل إنها مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .(10/4)
وإذا اختلف المحدثون في جملة من الحديث أمدرجة هي أم من أصل الحديث؟ فالأصل أنها من أصل الحديث، فلا يقبل الإدراج إلابدليل لا يمكن أن يجمع به بين الأصل والإدراج
وعلى هذا فالصواب أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هذا قسم مؤكد بالتوحيد، القسم: فَوَاللهِ والتوكيد بالتوحيد: الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أي لا إله حق غير الله، وإن كان توجد آلهة تعبد من دون الله لكنها ليست حقاً،كما قال الله عزّ وجل:( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (الانبياء:43) وقال عزّ وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل)(لقمان: الآية30).
إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ أي حتى يقرب أجله تماماً. وليس المعنى حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل،لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً،كما جاء في الحديث: إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار لأنه أشكل على بعض الناس:كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فنقول: عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أي بدنو أجله ، أي أنه قريب من الموت. فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه ( والعياذ بالله) هوت به إلى هاوية.
أقول هذا لئلاّ يظن بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.(10/5)
فالله عزّ وجل أكرم من عبده، لكن لابد من بلاء في القلب.
واذكروا قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟ فقال رجل: لألزمنه،أي أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه (والعياذ بالله) ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: أشهد أنك رسول الله، قال: بِمَ قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل منه كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو للِنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
واذكروا قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار،كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً على قومك، أم رغبة في الإسلام، قال: بل رغبةفي الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فصار هذا ختامه أن قتل شهيداً مع أنه كان منابذاً للدعوة.
من فوائد هذا الحديث:
.1حسن أسلوب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،وهو كلماته كأنما تخرج من مشكاة النبوة، كلمات عذبة مهذبة، وانظر إلى الأثر المروي عنه: من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن[56]. إلى آخر الأثر كأنما يخرج من مشكاة النبوّة.(10/6)
.2أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع التأكيدات.
.3تأكيد الخبر بما يدل على صدقه، لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ.
.4أن الإنسان في بطن أمه يُجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
.5أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يوماً.
وقد يقول قائل: هذه النطفة هل يجوز إلقاؤها أولا يجوز؟
والجواب: ذكر الفقهاء (رحمهم الله) أنه يجوز إلقاؤها بدواء مباح، قالوا: لأنه لم يتكون إنساناً،ولم يوجد فيه أصل الإنسان وهو الدم.
وقال آخرون: لا يجوز،لأن الله تعالى قال: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) [المرسلات:21-22] فلا يجوز أن نتجاسر على هذا القرار المكين ونخرج الجنين منه، وهذا أقرب إلى الصواب أنه حرام، لكنه ليس كتحريم ما بعده من بلوغه أربعة أشهر.
فإذا قدر أن المرأة مرضت وخيف عليها، فهل يجوز إلقاء هذه النطفة؟
الجواب: نعم يجوز، لأن إلقاءها الآن صار ضروريّاً.
.6 حكمة الله عزّ وجل في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
.7أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، وجهه: أن أصل بني آدم بعد النطفة العلقة، والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
.8أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة بنص القرآن،كما قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ )(الحج: الآية5)
لكن ما الذي يترتب على كونها مخلقة أو غير مخلقة ؟
الجواب: يترتب عليها مسائل:
.1لو سقطت هذه المضغة غير مخلقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاساً، بل دم فساد.(10/7)
.2ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة، لأنه لابد في انقضاء العدة أن يكون الحمل مخلقاً، ولابد لثبوت النفاس من أن يكون الحمل مخلقاً، لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست آدمياً، فلذلك لا نعدل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق إنسان.
.9أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر، لقوله: ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ.
وينبني علىهذا:
أ- أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويسمى ويعق عنه، لأنه صار آدمياً إنساناً فيثبت له حكم الكبير.
ب. أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن إسقاطه،لأن إسقاطه حينئذ يكون سبباً لهلاكه، ولايجوز قتله وهو إنسان.
فإن قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سبباً لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟
فالجواب: نقول ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لااستحسان في مقابلة الشرع.
فنقول: الثاني هو المتعيّن بمعنىأنه لا يجوز إسقاطه،حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت الأم. وقد يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان، وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم.
والجواب على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
أولاً: قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، ولذلك لو فرض أن رجلين كانا في سفر في أرض فلاة ولا زاد معهما، وكان أحدهما كبيراً والآخر عشر سنين أو تسع سنين فجاع الكبير جداً بحيث لو لم يأكل لهلك، فلا يجوز للكبير أبداً أن يذبح الصغير ليأكله ويعيش بإجماع المسلمين .
ولو قدر أن الصبي مات من الجوع وبقي الكبير وهو إما أن يأكله فيبقى أو يتركه فيهلك، فهل يجوز له الأكل من جسد الصغير؟(10/8)
والجواب: مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في المشهور عنه أنه لايجوز أكله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كَسْرُ عَظْمِ الميِّتِ كَكَسْرِهِ حَيَّاً[57] وذبح الميت كذبحه حياً. والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز أن يأكل منه ما يسد رمقه،لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.
أولاً: فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت الأم ثم هلك هو،فالذي أهلكهما هو الله عزّ وجل أي ليس من فعلنا.
ثانياً: لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لا سيما في وقتنا الحاضر، إذ من الممكن إجراء عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيى، ولهذا بعض البيطريين في الغنم وشبهها يستطيع إذا ماتت الأم أن يخرج حملها قبل أن يموت .
وأيضاً نقول: لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله عزّ وجل لايلزم أن تموت هي، فيُخرج لأنه ميت وتبقى الأم.
الخلاصة: أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
ومن فوائد هذا الحديث:
.10عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون بهم، ووكل بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا دليل على عناية الله تعالى بنا.
.11أن الروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)(التحريم: الآية12)
لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن هذا من أمور الغيب.
.12أن الروح جسم، لأنه ينفخ فيحل في البدن.
ولكن هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟(10/9)
الجواب: لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الاسراء: الآية85) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : ولما لم يكن عند المتكلمين والفلاسفة علم شرعي بحال الروح تخبطوا فيها، فقال بعضهم: إن الروح عرض أي صفة للبدن كالطول والقصر والبياض والسواد، وقال بعضهم: إن الروح هي الدم وقال بعضهم: إن الروح جزء من الإنسان كيده ورجله، فتخبطوا فيها.
وأما أهل السنة فيقولون: الروح من أمر الله عزّ وجل، ولكننا نؤمن بما علمنا من أوصافها في الكتاب والسنة، فمن ذلك:
قول الله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ )(السجدة: الآية11)
أي يقبضكم، وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)(الأنعام: الآية61) أي قبضته، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة إذا قبضوا الروح من الجسد إذا كان من أهل الجنة - اللهم اجعلنا منهم - فإذا مع الملائكة كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فأخذوها من يد ملك الموت ولم يدعوها طرفة عين ثم جعلوها في ذلك الكفن وصعدوا بها إلى السماء[58] .
إذاً هي جسم لكن مخالف للأجسام الكثيفة التي هي أجسادنا، والله أعلم بكيفيتها. والروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن لكن ليس خروجاً تامّاً، فتجد نفسك تجوب الفيافي،ربما وصلت إلى الصين أو إلى أقصى المغرب وربما طرت بالطائرة وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك واللحاف قد غطّى جسمك، ومع ذلك تتجول في الأرض، لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامة، فالروح أمرها غريب،ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنة، وما لانعلمه نَكِلُ علمهُ لله سبحانه وتعالى.
فإذا كنت لا تدري عن نفسك التي بين جنبيك فكيف تحاول أن تعرف كيفية صفات الله عزّ وجل الذي هو أعظم وأجل من أن تحيط به.(10/10)
فإذا عرفت نفسك وأنك غير قادر على إدراك كيفية صفات الله مهما كنت، فلا تحاول إدراك الكيفية ولا السؤال عنها، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في السؤال عن كيفية الاستواء: بدعة.
وهذا المثال - أعني مثال الروح- حجة مقنعة لمن يبحث عن كيفية صفات الله،فإذا كان العبد لا يعلم عن روحه التي هي قوام بدنه فكيف بكيفية صفات الله عزّ وجل.
.13أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون، لقوله: فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمرُ له هو الله عزّ وجل.
.14أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. ولكن هل معنى ذلك أن لا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟
الجواب: بلى نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
.15أن الملائكة يكتبون.
فلو قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو العبرية، أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلانقول شيئاً.
هذه الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟
الجواب: هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة، والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله، ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
.16أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا أمر مسلّم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما ينفعنا وأن ندع ما يضرنا.
.17أن نهايةبني آدم أحد أمرين:
إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعال: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(هود: الآية105)
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )(التغابن: الآية2)
نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة إنه سميع قريب.
---(10/11)
[54] - أخرجه البخاري- كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، (3208)، ومسلم- كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (2643)،(1)
[55] - أخرجه ابن ماجه- كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، (2144)،
[56] أخرجه مسلم- كتاب: المساجد، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى، (654)،(257)
[57] - أخرجه الإمام أحمد- مسند النساء، ج6/ص 105، (25246)، وأبو داود – الجنائز، باب: في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان، (3207)، وابن ماجه – كتاب الجنائز، باب: النهي عن كسر عظام الميت، (1616).
[58] - أخرجه الإمام أحمد- في مسند الكوفيين، ج4/ص287، (18733)(10/12)
الحديث الخامس
عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) [59] رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)
الشرح
كُنّيَتْ عائشة رضي الله عنها بأم المؤمنين لأنها إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع أمهات المؤمنين تكنى بهذه الكنية، كما قال الله عزّ وجل: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )(الأحزاب: الآية:6] فكل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين.
وقوله: أُمِّ عَبْدِ اللهِ هذه كنية، وهل وُلِدَ لها - رضي الله عنها- ولدٌ أم لا؟
والجواب: أنه ذكر بعض أهل العلم أنه ولد لها ولد سقط لم يعش، وذكر آخرون أنه لم يولد لها لا سقط ولا حي، ولكن هي تكنّت بهذه الكنية،لأن أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن.[60]
وقوله: عَائِشَةَ هذا اسم أُم المؤمنين وهي ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين، وبنى بها ولها تسع سنين، وروت للأمة علماً كثيراً وفقهاً غزيراً، فهي رضي الله عنها من المحدثات، ومن الفقيهات.
مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (من) شرطية. و: (أحدث) فعل الشرط، وجواب الشرط: (فهو رد) واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية، وكلما كان جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء، وعلى هذا قول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:
اسمية طلبية وبجامد وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: فَهُوَ رَدٌّ أي مردود. فـ: رَدٌّ مصدر بمعنى مفعول، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول، ومن إتيانه بمعنى المفعول قول الله تعالى:( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ) (الطلاق: الآية6) أي محمول.
وقوله: مَنْ أَحْدَثَ أي أوجد شيئاً لم يكن .(11/1)
فِيْ أَمْرِنَا أي في ديننا وشريعتنا.
مَا لَيْسَ مِنْهُ أي مالم يشرعه الله ورسوله.
فَهُوَ رَدٌّ فإنه مردود عليه حتى وإن صدر عن إخلاص، وذلك لقول الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) [البينة:5] ولقوله تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)
وفي روايةٍ لمسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ وهذه الرواية أعم من رواية مَنْ أَحْدَثَ ومعنى هذه الرواية: أن من عمل أي عمل سواء كان عبادة، أو كان معاملة، أو غير ذلك ليس عليه أمر الله ورسوله فإنه مردود عليه.
* وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، دل عليه قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )(الأنعام: الآية153] وكذلك الآيات التي سقناها دالة على هذا الأصل العظيم.
وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - أن العبادة لا تصح إلا إذا جمعت أمرين:
أولهما: الإخلاص .
والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمتابعة أخذت من هذا الحديث ومن الآية التي سقناها.
من فوائد هذا الحديث:
.1تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد، ولو كان القلب يرق لذلك ويقبل عليه، لأن هذا من عمل الشيطان.
فإن قال قائل: لو أحدثت شيئاً أصله من الشريعة ولكن جعلته على صفة معينة لم يأتِ بها الدين، فهل يكون مردوداً أو لا .؟
والجواب: يكون مردوداً، مثل ما أحدثه بعض الناس من العبادات والأذكار والأخلاق وما أشبهها، فهي مردودة .
* وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة: سببه ، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.(11/2)
فإذا لم توافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود، لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.
أولاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سبباً مثل: أن يصلي ركعتين كلما دخل بيته ويتخذها سنة، فهذا مردود.
مع أن الصلاة أصلها مشروع، لكن لما قرنها بسبب لم يكن سبباً شرعياً صارت مردودة.
مثال آخر: لو أن أحداً أحدث عيداً لانتصار المسلمين في بدر، فإنه يرد عليه، لأنه ربطه بسبب لم يجعله الله ورسوله سبباً.
ثانياً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الجنس، فلو تعبّد لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة،مثال ذلك: لو أن أحداً ضحى بفرس،فإن ذلك مردود عليه ولا يقبل منه، لأنه مخالف للشريعة في الجنس، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
أما لو ذبح فرساً ليتصدق بلحمها فهذا جائز، لأنه لم يتقرب إلى الله بذبحه وإنما ذبحه ليتصدق بلحمه.
ثالثاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في القدر: فلو تعبد شخص لله عزّ وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، ومثال ذلك: رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات،فالرابعة لا تقبل، لأنها زائدة على ما جاءت به الشريعة، بل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً وقال: مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ[61] .
رابعاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملاً، يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، وعمله مردود عليه.
ومثاله: لو أن رجلاً صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.
وكذلك لو توضأ منكساً بأن بدأ بالرجل ثم الرأس ثم اليد ثم الوجه فوضوؤه باطل، لأنه مخالف للشريعة في الكيفية.(11/3)
خامساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع.
ولو ضحى قبل أن يصلي صلاة العيد لم تقبل لأنها لم توافق الشرع في الزمان.
ولو اعتكف في غير زمنه فإنه ليس بمشروع لكنه جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على الاعتكاف في المسجد الحرام حين نذره.
ولو أن أحداً أخّر العبادة المؤقتة عن وقتها بلا عذر كأن صلى الفجر بعد طلوع الشمس غير معذور، فصلاته مردودة، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
سادساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان: فلو أن أحداً اعتكف في غير المساجد بأن يكون قد اعتكف في المدرسة أو في البيت، فإن اعتكافه لا يصح لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف،فالاعتكاف محله المساجد.
فانتبه لهذه الأصول الستة وطبق عليها كل ما يرد عليك.
وهذه أمثلة على جملة من الأمور المردودة لأنها مخالفة لأمر الله ورسوله.
المثال الأول:من باع أو اشترى بعد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو ممن تجب عليه الجمعة فعقده باطل، لأنه مخالف لأمر الله ورسوله.
فلو وقع هذا وجب رد البيع، فيرد الثمن إلى المشتري وترد السلعة إلى البائع، ولهذا لما أُُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن التمر الجيد يؤخذ منه الصاع بصاعين والصاعين بثلاثة قال: رده، أي رد البيع لأنه على خلاف أمر الله ورسوله.
المثال الثاني:لو تزوج بلا ولي فالزواج باطل،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ [62] .
المثال الثالث: لو طلق رجل امرأته وهي حائض فهل يقع الطلاق أو لا يقع؟.
والجواب فيه خلاف بين العلماء،ولما ذُكِر للإمام أحمد رحمه الله القول بأنه لا يقع الطلاق في الحيض قال: هذا قول سوء.
وهذا قول الإمام أحمد -رحمه الله- وناهيك به علماً في الحديث والفقه، وقد أنكر هذا القول .(11/4)
وكذلك ينكرون القول بعدم وقع الطلاق في الحيض، ويرون أن الطلاق في الحيض يقع ويحسب طلقة.
لكن هناك من يقول: إنه لا يقع كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والمسألة خلافية، لكني ذكرتها حتى لا تتهاونوا في إفتاء الناس بعدم وقوع الطلاق في الحيض، بل الزموهم به لأنهم التزموه،كما ألزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بالطلاق الثلاث لما التزموه، مع أن طلاق ثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاث واحدة، لكن لما تجرأ الناس على المحرم ألزمهم به رضي الله عنه وقال: لا يمكن أن ترجع إلى زوجتك، فأنت الذي ألزمت نفسك.
قلت هذا لأن الناس الآن تلاعبوا، حيث يأتيك رجل عامي ويقول:إنه طلق زوجته في الحيض من عشر سنين، فتقول له: فإنه قد وقع، فيقول لك: إنه طلاق في الحيض فيكون بدعياً،يقول هذا وهو عامي لايعرف الكوع من الكرسوع لكن لأن له هوى.
فهل يمكن أن نفتي مثل هذا ونقول له:طلاقك لم يقع؟!
الجواب: لا يمكن،لأنه أمامنا مسؤولية يوم القيامة،بل نقول: ألزمت نفسك فلزمك،أرأيت لو أنه حين انتهت عدتها من تلك الطلقة وتزوجها رجل آخر فهل تأتي إليه وتقول:المرأة امرأتي؟!!.
الجواب: لا يقول هذا،فإذا كان هو الذي ألزم نفسه بذلك فكيف نفتح له المجال.
على كل حال؛الطلاق في الحيض أكثر العلماء يقولون إنه يقع،والذين يقولون ليس بواقع قال الإمام أحمد عن قولهم:إنه قول سوء، يعني: لا ينبغي أن يؤخذ به.
المثال الرابع:رجل باع أوقية ذهب بأوقية ونصف،فهذا البيع باطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل سواء بسواء[63].(11/5)
المثال الخامس:رجل صلى في ثوب مغصوب فجمهور العلماء يقولون:تصح صلاته،لأن النهي ليس عن الصلاة،وإنما النهي عن الثوب المغصوب سواء صليت أو لم تصل،فالنهي هنا لا يعود إلى الصلاة،والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تصلوا في الثوب المغصوب،بل نهى عن الغصب وحرمه ولم يتعرض للصلاة.
المثال السادس:رجل صلى نفلاً بغير سبب في أوقات النهي،فعمله هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال السابع:صام رجل عيد الفطر،فصومه هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال الثامن: توضأ رجل بماء مغصوب، فإنه يصح لأن النّهي عن غصب الماء لا عن الوضوء بالماء المغصوب.
فإذا ورد النهي عن نفس العبادة فهي غير صحيحة، وإذا كان النهي عاماً فإنه لا يتعلق بصحة العبادة.
المثال التاسع: رجل غش إنساناً بأن خدعه في البيع فالبيع صحيح، لأنّ النّهي عن الغش، ولذلك إذا قبل المغشوش بهذا البيع صح البيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لاَ تَلَقُّوا الجَلَبَ والجلب: هو الذي يأتي به الأعراب إلى البلد من المواشي والأطعمة وغير ذلك فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوْقَ فَهُوَ بِالخَيَار[64] ولم يقل: فإن الشراء باطل، بل صحح الشراء وجعل الخيار لهذا المتلقى منه. وهو المغشوش المخدوع.
إذاً فرقٌ أن ينصبَّ النّهي عن العمل نفسه أو عن أشياء خارجة عنه، فإذا كان عن العمل نفسه فلا شك أنه مردود لأنك لو صححته لكان في ذلك محادّة لله ورسوله، أما إذا كان عن أمر خارج فالعمل باق على الصحة،والإثم في العمل الذي فعلته وهو محرم .
المثال العاشر: رجل حج بمال مغصوب بأن غصب بعيراً وحج عليها، فالحج صحيح، هذا هو قول الجمهور وهو الصحيح، لكنه آثم بغصب هذه الناقة مثلاً - أو السيارة - لأن هذا خارج عن العبادة، إذ قد يحج الإنسان بدون رحل .
وقال بعضهم: لا يصح الحج، وأنشد:
إذا حججتَ بمالٍ أصلُهُ سُحْتٌ ضفما حججتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ(11/6)
رواية مسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ منطوق الحديث: أنه إذا لم يكن عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، وهذا في العبادات لا شك فيه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل علىمشروعيتها.
فلو أن رجلاً تعبد لله عزّ وجل بشيءٍ وأنكر عليه إنسان، فقال: ما الدليل على أنه حرام؟ فالقول قول المنكر فيقول: الدليل: هو أن الأصل في العبادات المنع والحظر حتى يقوم دليل على أنها مشروعة.
أماغير العبادات فالأصل فيها الحل، سواء من الأعيان، أو من الأعمال فإن الأصل فيها الحل.
مثال الأعيان: رجل صاد طيراً ليأكله، فأُنكر عليه، فقال: ما الدليل على التحريم؟ فالقول قوله هو، لأن الأصل الحل كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(البقرة: الآية29) .
ومثال الأعمال:غير العبادات الأصل فيها الحل، مثال ذلك: رجل عمل عملاً في بيته، أو في سيارته، أو في لباسه أو في أي شيء من أمور دنياه فأنكر عليه رجل آخر فقال:أين الدليل على التحريم؟ فالقول قول الفاعل لأن الأصل الحل.
فهاتان قاعدتان مهمتان مفيدتان.
فعليه فنقول: الأقسام ثلاثة:
الأول: ما علمنا أن الشرع شرع من العبادات، فيكون مشروعاً.
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه، فهذا يكون ممنوعاً.
الثالث: ما لم نعلم عنه من العبادات، فهو ممنوع.
أما في المعاملات والأعيان: فنقول هي ثلاثة أقسام أيضاً:
الأول: ما علمنا أن الشرع أذن فيه، فهو مباح، مثل أكل النبي صلى الله عليه وسلم من حمر الوحش[65] .
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه كذات الناب من السباع، فهذا ممنوع.
الثالث: ما لم نعلم عنه، فهذا مباح، لأن الأصل في غير العبادات الإباحة.
---
[59] سبق تخريجه صفحة (13)
[60] أخرجه مسلم ، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (2132).(11/7)
[61] -أخرجه الإمام أحمد- في مسند المكثرين، (6684) ، والنسائي – كتاب : الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، (140، وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه، (422)
[62] - أخرجه أبو داود- كتاب: النكاح، باب: في الولي، (2083)، وابن ماجه - كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، (1881)، والترمذي – كتاب: النكاح، باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب، (1108).
[63] - أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، (2176)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا، (1584) (75)
[64] أخرجه مسلم، كتاب: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب، (1519) (17)
[65] أخرجه مسلم كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، (1941)،(37)(11/8)
الحديث السادس
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً . أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) [66]رواه البخاري ومسلم .
الشرح
قوله: إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ في هذا الحديث تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أقسام:
.1حلال بيّن كلٌّ يعرفه. كالثمر، والبر، واللباس غير المحرم وأشياء ليس لها حصر.
.2 حرامٌ بيّن كلٌّ يعرفه. كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر وما أشبه ذلك.
.3 مشتبه لا يعرف هل هو حلال أوحرام؟ وسبب الاشتباه فيها إما: الاشتباه في الدليل، وإما الاشتباه في انطباق الدليل على المسألة، فتارةً يكون الاشتباه في الحكم، وتارةً يكون في محل الحكم.
* الاشتباه في الدليل: بأن يكون الحديث:
أولاً: هل صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يصحّ؟
ثانياً: هل يدل على هذا الحكم أو لا يدل؟
وهذا يقع كثيراً، فما أكثر ما يُشكِلُ الحديث: هل ثبت أم لم يثبت؟ وهل يدل على هذا أو لا يدل؟
* وأما الاشتباه في محل الحكم: فهل ينطبق هذا الحديث على هذه المسألة بعينها أو لا ينطبق؟
فالأول عند الأصوليين يسمى تخريج المناط، والثاني يسمى تحقيق المناط.(12/1)
لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يعني هذه المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ويعلمهن كثير، فكثير لا يعلم وكثير يعلم، ولم يقل : لايعلمهن أكثر الناس، فلو قال:لا يعلمهن أكثر الناس لصار الذين يعلمون قليلاً.
إذاً فقوله لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ إما لقلة علمهم، وإما لقلة فهمهم، وإما لتقصيرهم في المعرفة.
فَمَن اِتَّقَى الشُّبُهَاتِ أي تجنبها.
فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ أي أخذ البراءة.
لِدِيْنِهِ فيما بينه وبين الله تعالى.
وَعِرْضِهِ فيما بينه وبين الناس، لأن الأمور المشتبهة إذا ارتكبها الإنسان صار عرضة للناس يتكلمون في عرضه بقولهم: هذا رجل يفعل كذا ويفعل كذا، وكذلك فيما بينه وبين الله تعالى.
وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فَي الحَرَامِ هذه جملة شرطية.
وَمَنْ وَقَعَ فَي الشُّبُهَاتِ أي فعلها وَقَعَ في الحَرَامِ هذا الجملة تحتمل معنيين:
الأول:أن ممارسة المشتبهات حرام.
الثاني:أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم،وبالنظر في المثال الذي ضربه صلى الله عليه وسلم يتضح لنا أي المعنيين أصح.
والمثال المضروب: كَالرَّاعِي أي راعي الإبل أو البقر أو الغنم.
يَرْعَى حَوْلَ الِحمَى أي حول المكان المحمي،لأنه قد يُتخذ مكانٌ يُحمَى فلا يُرعَى فيه إما بحق أو بغير حق،والراعي حول هذه القطعة يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ أي يقرب أن يقع فيه،لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية،ويصعب منعها، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها.
وبهذا المثال يقرب أن معنى قوله مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ أي أوشك أن يقع في الحرام، لأن المثال يوضح المعنى.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أَلاَ أداة استفتاح،فائدتها:التنبيه على ما سيأتي.(12/2)
وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أي كل ملك له حمى،والنبي صلى الله عليه وسلم لايريد أن يبين حكم حمى الملك:هل هو حلال أو هو محرم؟لأن من الحمى ما يكون حلالاً،وما يكون حراماً،فالمراد بالحمى في الحديث الواقع،ومسألة الحمى على نوعين:
.1إذا حماه لنفسه وبهائمه فهو حرام.
.2 إذا حماه لدواب المسلمين كإبل الصدقة وإبل الجهاد فهو حلال،لأنه لم يختصه لنفسه،فرسول الله قال: المُسْلِمُونَ شُرَكَاْءُ فِي ثَلاثَة: فِي الكَلأِ وَالمَاءِ وَالنَّارِ [67] رواه أبو داود والإمام أحمد.
أَلاَ وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ هذه جملة مؤكدة بـ (إن) وأداة الاستفتاح (ألا) والمعنى:ألا وإن حمى الله محارم الله،فإياك أن تقربها،لأن محارم الله كالأرض المحمية للملك لا يدخلها أحد.
أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةٌ هذه أيضاً جملة مؤكدةبـ (ألا)و(إنَّ) والمعنى:ألا وإن في جسد الإنسان مضغة،أي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل،وهي بمقدار الشيء الصغير.
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ رتب النبي صلى الله عليه وسلم الجزاء على الشرط،فمتى صلح القلب صلح الجسد،وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وقد مثل بعض العلماء هذا بالملك،إذا صلح صلُحت رعيته،وإذا فسد فسدت.
لكن نظر فيه العلماء المحققون وقالوا:هذا المثال لا يستقيم،لأن الملك ربما يأمر ولا يُطاع،والقلب إذا أمر الجوارح أطاعته ولابد،فهو أبلغ من أن يقول: كالملك يأمر الرعية،فإذا صلح القلب فلابد أن يصلح الجسد، وإذا فسد القلب فلابد أن يفسد الجسد.
وهذا الحديث في الحقيقة حديث عظيم،لو تكلم الإنسان عنه لبلغ صفحات لكن نشير إن شاء الله إلى جوامع الفوائد في هذا الحديث.
فوائد هذا الحديث:
.1أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، حرام بيّن،مشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:(12/3)
* الحلال البين لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار،فهذا حلال بين ولا معارض له.
* الحرام البيّن وهذا يلام كل إنسان على فعله،ومثاله كالخمر والميتة والخنزير وما أشبه ذلك،فهذا حكمه ظاهر معروف.
* وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس،فتجد الناس يختلفون فيها فمنهم من يحرم،ومنهم من يحلل،ومنهم من يتوقف،ومنهم من يفصّل.
مثال المشتبه:شرب الدخان كان من المشتبه في أول ظهوره،لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس الناس حال هذا الدخان قطعاً بأنه حرام،ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة،ثم تحقق تحريمه والمنع منه.
.2أسباب الاشتباه أربعة:
.1قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه،لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
.2قلة الفهم: أي ضعف الفهم،وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم،فهذا تشتبه عليه الأمور.
.3التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
.4وهو أعظمها: سوء القصد: بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله فقط بقطع النظر عن كونه صواباً أو خطأً، فمن هذه نيته فإنه يحرم الوصول إلى العلم،نسأل الله العافية،لأنه يقصد من العلم اتباع الهوى.
وهذا الاشتباه لا يكون على جميع الناس بدليلين: أحدهما من النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يعني كثيراً يعلمهن،والثاني من المعنى فلو كانت النصوص مشتبهة على جميع الناس، لم يكن القرآن بياناً ولبقي شيء من الشريعة مجهولاً،وهذا متعذر وممتنع.
.3الثالثة من فوائد الحديث حكمة الله عزّ وجل في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص.(12/4)
.4الرابعة من فوائد الحديث:أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة مالا يعلمه الناس كلهم،لقوله: لاَ يعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ .
.5الحث على اتقاء الشبهات، لكن هذا مشروط بما إذا قام الدليل علىالشبهة،أما إذا لم يقم الدليل على وجود شبهة اتقاء الشبهات كان ذلك وسواساً وتعمقاً، لكن إذا وجد ما يوجب الاشتباه فإن الإنسان مأمور بالورع وترك المشتبه، أما مالا أصل له فإن تركه تعمّق.
مثال ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنه أن قوماً أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا:يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر[68]
فهنا هل نتّقي هذا اللحم لأنه يُخشى أنهم لم يذكروا اسم الله عليه؟
والجواب: لا نتقيه، لأنه ليس هناك ما يوجب الاتقاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا فكأن في هذا نوعاً من اللوم عليهم، كأنه عليه الصلاة والسلام يقول: ليس لكم شأن فيما يفعله غيركم، بل الشأن فيما تفعلونه أنتم، فسمّوا أنتم وكلوا.
ومن هذا ما لو قدّم إليك يهودي أو نصراني ذبيحة ذبحها، فلا تسأل أذبحتها على طريقة إسلاميةأو لا، لأن هذا السؤال لا وجه له، وهو من التعمّق.
ومن ذلك أيضاً: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟ فهل يتقي هذا الثوب أو لا يتقيه؟
الجواب: ينظر: إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال قوي طلب الاجتناب، وإذا لم يكن احتمال فلا يلتفت إليها، ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله حين سُئل عن الرجل يشكل عليه أحدث أم لا وهو في الصلاة فقال: لاَ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَاً أَوْ يجِدَ رِيْحَاً [69] .(12/5)
فالقاعدة: أنه إذا وجد احتمال الاشتباه فهنا إن قوي قوي تركه، وإن ضعف ضعف تركه، ومتى لم يوجد احتمال أصلاً فإن تركه من التعمّق في الدين المنهي عنه.
.6أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام، لقوله: مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ[70].
.7حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بضرب الأمثال المحسوسة لتتبين بها المعاني المعقولة، وهذا هو طريقة القرآن الكريم،قال الله تعالى: ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43)
فمن حسن التعليم أن المعلم يقرب الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، لقوله: كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ .
.8هل يؤخذ من قوله: يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى إقراره بالحمى؟
والجواب: أن هذا من باب الإخبار والوقوع،ولايدل على حكم شرعي. والنبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر الأشياء لوقوعها لا لبيان حكمها.
ولهذا أمثلة أخرى:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَركبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ [71] فلا يعني ذلك أن ركوبنا سنن من كان قبلنا جائز، بل هو إخبار عن الواقع.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الظعينة أي المرأة تسير من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله، فلا يعني هذا أنه يجوز لها أن تسافر بلا محرم، لكن هذا ضرب مثل.
إذاً نقول: هذا الحديث لا يدل على جواز الحمى لأنه ضرب مثل لواقع. ولكن لا بأس أن نقول الحمى نوعان:
الأول: حمى لمصالح المسلمين، فهذا جائز
الثاني: حمى يختصّ به الحامي، فهذا حرام، لأنه ليس له أن يختص فيما كان عاماً.
- مثال الأول: أن تحمي هذه الأرض من أجل أن يُركز فيها أنابيب لإخراج الماء، فهذا جائز بلا شك، أو تُحَمى أرض خصبة لدواب المسلمين، كدواب الزكاة والخيل للجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.
- مثال الثاني: إذا حماه لنفسه.(12/6)
.9ومن فوائد هذا الحديث: سد الذرائع، أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تغلق لئلا يقع في المحرّم. وسد الذرائع دليل شرعي، فقد جاءت به الشريعة، ومن ذلك قول الله تعالى: )وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام: من الآية108)
فنهى عن سبّ آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سبّ الله تعالى، مع أن سبّ آلهة المشركين سبٌّ بحق، وسب الله تعالى عدوٌ بغير علم.
.10أن من عادة الملوك أن يحموا، لقوله: أَلاَ وَإِنَّ لَكُلِّ مَلِكٍ حِمىً وقد سبق حكم ا لحمى آنفاً.
.11تأكيد الجمل بأنواع المؤكدات إذا دعت الحاجة إلى هذا، فإذا قال قائل: إن التأكيد فيه تطويل، فنقول: التوكيد تطويل، ولكن إذا دعت الحاجة صار من البلاغة، لقوله: ألا. .. ألا .
.12أن المدار في الصلاح والفساد على القلب، إذا صلح صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كله.
ويتفرّع علىهذه الفائدة: أنه يجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، لأن القلب عليه مدار الأعمال، والقلب هو الذي يُمتحن عليه الإنسان يوم القيامة، كما قال الله تعالى: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات:9-10] وقال تعالى: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق:8-9[
فطهّر قلبك من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء، وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة، فإن القلب هو الأصل.
.13في الحديث ردٌّ على العصاة الذين إذا نهوا عن المعاصي قالوا: التقوى هاهنا وضرب أحدهم على صدره، فاستدل بحق على باطل، لأن الذي قال: التَّقْوَى هَاهُنَا[72] هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه في الحديث: إذا اتقى ما هاهنا اتّقت الجوارح، لكن هذا يقول: التقوى هاهنا يعني أنه سيعصي الله،والتقوى تكون في القلب.(12/7)
والجواب عن هذا التشبيه والتلبيس سهل جداً بأن نقول:
لو صلح ما هاهنا، صلح ما هناك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ .
.14أن تدبير أفعال الإنسان عائد إلى القلب، لقوله: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ،وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ.
وهل في هذا دليل على أن العقل في القلب؟
والجواب: نعم، فيه إشارة إلى أن العقل في القلب، وأن المدبر هو القلب مع أن القرآن شاهد بهذا.
قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)
ولكن كيف تعلقه بالقلب؟
الجواب: هذا شيء لا يُعلم، إنما نحن نؤمن بأن العقل في القلب كما جاء في القرآن، لكننا لا نعلم كيف ارتباطه به،فلا يرد علينا لو رُكِب قلب كافر برجل مسلم، أيكون هذا المسلم كافراً أولا، لأننا لا ندري كيف تعلق العقل بالقلب والله أعلم.
---
[66] أخرجه البخاري كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، (52)، ومسلم – كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599)، (107).
[67] أخرجه أبو داود كتاب: البيوع، أبواب الإجارة، باب: في تفسير الجائحة، (3477)، وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، (2472) والإمام أحمد (5/364)، والبيهقي في سننه الكبرى (6/150) ح (11612) (11613)
[68] أخرجه البخاري كتاب البيوع، باب: من لم ير الوساوس ونحوها من المشتبهات، (2057)
[69] أخرجه البخاري كتاب: الوضوء، باب: من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، (137)، ومسلم – كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، (3619، (98)
[70] سبق تخريجه صفحة (105)(12/8)
[71] أخرجه البخاري كتاب: قصص الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (3456)، ومسلم- كتاب: العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى، (2669)، (6)
[72] أخرجه مسلم كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (2564)، (32)(12/9)
الحديث السابع
عَنْ أَبِيْ رُقَيَّةَ تَمِيْم بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: )الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: للهِ،ولكتابه، ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ( [73] رواه مسلم
الشرح
قوله: عَنْ أَبِيْ رُقَيَّةَ هذه كنية بأنثى، والغالب أن الكنية تكون بذكر، لكن قد تكون بأنثى لا سيما إذا اشتهر، وقد تكون بغير الإنسان كأبي هريرة مثلاً، فأبو هريرة رضي الله عنه اشتهر بهذه الكنية من أجل أنه كان معه هرة ألفها وألفته فكنّي أبا هريرة. الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ الدين: مبتدأ والنصيحة خبر، وكلٌّ من المبتدأ والخبر معرفة. وعلماء البلاغة يقولون: إذا كان المبتدأ معرفة والخبر معرفة كان ذلك من طرق الحصر.
فقوله: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ مثل قوله: ما الدين إلا النصيحة، فإذا كان طرفا الجملة معرفتين كان ذلك من باب الحصر.
وقوله: الدِّيْنُ يعني بذلك دين العمل، لأن الدين ينقسم إلى قسمين:دين عمل ودين جزاء. فقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4)
المراد به: دين الجزاء، وقوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: الآية3) المراد به: دين العمل.
وقوله هنا: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ المراد به دين العمل، والنصيحة بمعنى إخلاص الشيء.
وأبهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة من أجل أن يستفهم الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، لأن وقوع الشيء مجملاً ثم مفصلاً من أسباب رسوخ العلم،لأنه إذا أتى مجملاً تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل، فيأتي البيان والنفس متطلعة إلى ذلك متشوفة له،فيرسخ في الذهن أكثر مما لوجاء البيان من أول مرة.
و في بعض ألفاظه: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ ثَلاثَاً يعني قالها ثلاثاً الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة(13/1)
قُلْنَا:لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: للهِ،ولكتابه،ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ
* النصيحة لله تتضمن أمرين:
الأول:إخلاص العبادة له.
الثاني: الشهادة له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
* والنصيحة لكتابه تتضمن أموراً منها:
الأول: الذبّ عنه، بأن يذب الإنسان عنه تحريف المبطلين، ويبيّن بطلان تحريف من حرّف.
الثاني: تصديق خبره تصديقاً جازماً لا مرية فيه، فلو كذب خبراً من أخبار الكتاب لم يكن ناصحاً، ومن شك فيه وتردد لم يكن ناصحاً.
الثالث: امتثال أوامره فما ورد في كتاب الله من أمر فامتثله، فإن لم تمتثل لم تكن ناصحاً له.
الرابع: اجتناب ما نهى عنه، فإن لم تفعل لم تكن ناصحاً.
الخامس: أن تؤمن بأن ما تضمنه من الأحكام هو خير الأحكام، وأنه لا حكم أحسن من أحكام القرآن الكريم.
السادس: أن تؤمن بأن هذا القرآن كلام الله عزّ وجل حروفه ومعناه، تكلم به حقيقة، وتلقاه جبريل من الله عزّ وجل ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
* والنصيحة لرسوله تكون بأمور منها:
الأول: تجريد المتابعة له، وأن لا تتبع غيره،لقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
الثاني: الإيمان بأنه رسول الله حقاً، لم يَكذِب، ولم يُكذَب، فهو رسول صادق مصدوق.
الثالث: أن تؤمن بكل ما أخبر به من الأخبار الماضية والحاضرة والمستقبلة.
الرابع: أن تمتثل أمره.
الخامس: أن تجتنب نهيه.
السادس: أن تذبّ عن شريعته.(13/2)
السابع: أن تعتقد أن ما جاء عن رسول الله فهو كما جاء عن الله تعالى في لزوم العمل به، لأن ما ثبت في السنة فهو كالذي جاء في القرآن . قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(النساء: الآية59) وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)(النساء: الآية80) وقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر: الآية7).
الثامن: نصرة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حياً فمعه وإلىجانبه، وإن كان ميتاً فنصرة سنته صلى الله عليه وسلم.
وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْن أئمة جمع إمام، والإمام: القدوة كما قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ)(النحل: الآية120) أي قدوة، ومنه قول عباد الرحمن: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: الآية74)
وأئمة المسلمين صنفان من الناس:
الأول: العلماء، والمراد بهم العلماء الربانيون الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم علماً وعبادة وأخلاقاً ودعوة، وهؤلاء هم أولو الأمر حقيقة، لأن هؤلاء يباشرون العامة، ويباشرون الأمراء، ويبينون دين الله ويدعون إليه
الصنف الثاني: من أئمة المسلمين: الأمراء المنفذون لشريعة الله، ولهذا نقول: العلماء مبينون، والأمراء منفذون يجب عليهم أن ينفذوا شريعة الله عزّ وجل في أنفسهم وفي عباد الله.
* والنصيحة للعلماء تكون بأمورٍ منها:
الأول: محبتهم، لأنك إذا لم تحب أحداً فإنك لن تتأسّى به.
الثاني: معونتهم ومساعدتهم في بيان الحق، فتنشر كتبهم بالوسائل الإعلامية المتنوعة التي تختلف في كل زمان ومكان.
الثالث: الذبّ عن أعراضهم، بمعنى أن لا تقرّ أحداً على غيبتهم والوقوع في أعراضهم،وإذا نسب إلى أحدٍ من العلماء الربانيين شيء يُستنكر فعليك أن تتخذ هذه المراحل:(13/3)
المرحلة الأولى: أن تتثبت من نسبتهِ إليه، فكم من أشياء نسبت إلى عالم وهي كذب، فلابد أن تتأكد، فإذا تأكدت من نسبة الكلام إليه فانتقل إلى المرحلة الثانية وهي:
أن تتأمل هل هذا محل انتقاد أم لا؟ لأنه قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن القول منتقد، وعند التأمل يرى أنه حق، فلابد أن تتأمل حتى تنظر هل هو منتقد أو لا؟
المرحلة الثالثة: إذا تبيّن أنه ليس بمنتقد فالواجب أن تذبّ عنه وتنشر هذا بين الناس، وتبين أن ما قاله هذا العالم فهو حق وإن خالف ما عليه الناس.
المرحلة الرابعة: إذا تبين لك حسب رأيك أن ما نسب إلى العالم وصحت نسبته إليه ليس بحق،فالواجب أن تتصل بهذا العالم بأدب ووقار،وتقول: سمعت عنك كذا وكذا،وأحب أن تبين لي وجه ذلك، لأنك أعلم مني،فإذا بيّن لك هذا فلك حق المناقشة،لكن بأدب واحترام وتعظيم له بحسب مكانته وبحسب ما يليق به.
أما مايفعله بعض الجهلة الذين يأتون إلى العالم الذي رأى بخلاف مايرون، يأتون إليه بعنف وشدة،وربما نفضوا أيديهم في وجه العالم،وقالوا له:ما هذا القول الذي أحدثته؟ ما هذا القول المنكر؟ وأنت لا تخاف الله ، وبعد التأمل تجد العالم موافقاً للحديث وهم المخالفون له، وغالب ما يؤتى هؤلاء من إعجابهم بأنفسهم، وظنهم أنهم هم أهل السنة وأنهم هم الذين على طريق السلف، وهم أبعد ما يكون عن طريق السلف وعن السنة.
فالإنسان إذا أعجب بنفسه - نسأل الله السلامة - رأى غيره كالذر، فاحذر هذا.
الأمر الرابع من النصيحة للعلماء: أنك إذا رأيت منهم خطأ فلا تسكت وتقول: هذا أعلم مني، بل تناقش بأدب واحترام، لأنه أحياناً يخفى على الإنسان الحكم فينبهه من هو دونه في العلم فيتنبه وهذا من النصيحة للعلماء.(13/4)
الخامس : أن تدلهم على خير ما يكون في دعوة الناس، فإذا رأيت هذا العالم محباً لنشر العلم ويتكلم في كل مكان وترى الناس يتثاقلونه ويقولون هذا أثقل علينا، كلما جلسنا قام يحدّث،فمن النصيحة لهذا العالم أن تشير عليه أن لا يتكلم إلا فيما يناسب المقام، لاتقل:إني إذا قلت ذلك منعته من نشر العلم، بل هذا في الواقع من حفظ العلم، لأن الناس إذا ملّوا سئموا من العالم ومن حديثه.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، يعني لا يكثر الوعظ عليهم مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم محبوب إلى النفوس لكن خشية السآمة، والإنسان يجب أن يكون مع الناس كالراعي يختار ما هو أنفع وأجدى.
* والنصيحة للأمراء تكون بأمور منها:
أولاً: اعتقاد إمامتهم وإمرتهم، فمن لم يعتقد أنهم أمراء فإنه لم ينصح لهم، لأنه إذا لم يعتقد أنهم أمراء فلن يمتثل أمرهم ولن ينتهي عما نهوا عنه، فلا بد أن تعتقد أنه إمام أو أنه أمير، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن تولى أمر المسلمين ولو بالغلبة فهو إمام،سواء كان من قريش أومن غير قريش.
ثانياً: نشر محاسنهم في الرعية، لأن ذلك يؤدي إلى محبة الناس لهم، وإذا أحبهم الناس سهل انقيادهم لأوامرهم .
وهذا عكس ما يفعله بعض الناس حيث ينشر المعايب ويخفي الحسنات، فإن هذا جورٌ وظلم.
فمثلاً يذكر خصلة واحدة مما يُعيب به على الأمراء وينسى خصالاً كثيرة مما قاموا به من الخير، وهذا هو الجور بعينه.
ثالثاً: امتثال ما أمروا به وما نهوا عنه، إلا إذا كان في معصية الله عزّ وجل لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وامتثال طاعتهم عبادة وليست مجرد سياسة، بدليل أن الله تعالى أمر بها فقال عزّ وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر منكم) [النساء:59] فجعل ذلك من مأموراته عزّ وجل، وما أمر الله تعالى به فهو عبادة.(13/5)
ولا يشترط في طاعتهم ألاّ يعصوا الله،فأطعهم فيما أمروا به وإن عصوا الله، لأنك مأمور بطاعتهم وإن عصوا الله في أنفسهم.
رابعاً: ستر معايبهم مهما أمكن، وجه هذا: أنه ليس من النصيحة أن تقوم بنشر معايبهم، لما في ذلك من ملئ القلوب غيظاً وحقداً وحنقاً على ولاة الأمور، وإذا امتلأت القلوب من ذلك حصل التمرّد وربما يحصل الخروج على الأمراء فيحصل بذلك من الشر والفساد ما الله به عليم.
وليس معنى قولنا: ستر المعايب أن نسكت عن المعايب، بل ننصح الأمير مباشرة إن تمكنا،وإلا فبواسطة من يتصل به من العلماء وأهل الفضل. ولهذا أنكر أسامة بن زيد رضي الله عنه على قوم يقولون: أنت لم تفعل ولم تقل لفلان ولفلان يعنون الخليفة، فقال كلاماً معناه: (أتريدون أن أحدثكم بكل ما أحدث به الخليفة) فهذا لا يمكن.
فلا يمكن للإنسان أن يحدث بكل ما قال للأمير، لأنه إذا حدث بهذا فإما أن يكون الأمير نفذ ما قال، فيقول الناس: الأمير خضع وذل، وإما أن لا ينفذ فيقول الناس: عصى وتمرّد.
ولذلك من الحكمة إذا نصحت ولاة الأمور أن لا تبين ذلك للناس،لأن في ذلك ضرراً عظيماً.
خامساً: عدم الخروج عليهم، وعدم المنابذة لهم، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في منابذتهم إلا كما قال:
أَنْ تَرَوا أي رؤية عين، أو رؤية علم متيقنة.
كُفْرَاً بَوَاحَاً أي واضحاً بيّناً.
عِنْدَكُمْ فِيْهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ [74]أي دليل قاطع.
ثم إذا جاز الخروج عليهم بهذه الشروط فهل يعني ذلك أن يخرج عليهم ؟ لأن هناك فرقاً بين جواز الخروج، وبين وجوب الخروج.(13/6)