الأسرة والمجتمع(/)
مجموعة أسئلة تهم الأسرة المسلمة
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد :
فأنه يسر مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية أن تقدم الفتاوى القيمة لفضيلة العلامة الوالد محمد بن صالح العثيمين رحمة الله تعالى .
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، موافقا لمرضاته ، نافعا لعباده ، وأن يكتب لفضيلة شيخنا المؤلف المثوبة والأجر بمنه وكرمه ويعلي درجته في المهديين ، ويسكنه فسيح جناته ، إنه سميع مجيب .
وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
مجموعة أسئلة تهم الأسرة المسلمة
أسئلة الأسرة المسلمة
محمد بن صالح العثيمين
استخدام الباروكة
من بين الأدوات التي تستخدمها المرأة لغرض التجميل ما يسمي ( بالباروكة ) وهى الشعر المستعار الذي يوضع علي الرأس ، فهل يجوز للمرأة أن تستخدمها ؟
الباروكة محرمة وهي داخلة في الوصل وإن لم يكن وصلا ، فهي تظهر رأس المرأة علي وجه أطول من حقيقته فتشبه الوصل ، فلقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة (1). لكن إن لم يكن علي راس المرأة شعر أصلا كأن تكون قرعاء فلا حرج من استعمال الباروكة ليست العيب ، لأن إزالة العيوب جائزة، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قطعت أنفه في إحدى الغزوات أن يتخذ أنفا من ذهب ، ومثل أن يكون في أنفه اعوجاج فيعدله ، أو إزالة بقعة سوداء مثلا ، فهذا لا بأس به .(1/1)
أما إن كان لغير إزالة عيب كالوشم والنمص مثلا فهذا هو الممنوع ، واستعمال الباروكة حتى لو كان بإذن الزوج ورضاه حرام ، لأنه إذن ولا رضا فيما حرمه الله .
نتف الشعر
* يلاحظ على بعض النساء أنهن يعمدن إلي إزالة أو ترقيق شعر الحاجبين وذلك لغرض الجمال والزينة فما حكم ذلك ؟
هذه المسألة تقع على وجهين :
الوجه الأول : أن يكون ذلك بالنتف فهذا محرم وهو من الكبائر ، لأنه من النمص الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله .
الثاني : أن يكون على سبيل القصّ والحفّ ، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم هل يكون من النمص أم لا ؟ والأولي تجنب ذلك .
أما ما كان من الشعر غير المعتاد بحيث ينبت في أماكن لم تجر العادة بها ، كأن يكون للمرأة شارب ، أو ينبت على حدها شعر ، فهذا لا بأس بإزالته ، لأنه خلاف المعتاد وهو مشوّه للمرأة .
أما الحاجب فإن من المعتاد أن تكون رقيقة دقيقة ، وأن تكون كثيفة واسعة ، وما كان معتادا فلا يتعرض له ، لأن الناس لا يعدونه عيبا بل يعدون فواته جمالا أو وجوده جمالا ، وليس من الأمور آلتي تكون عيبا حتى يحتاج الإنسان إلي إزالته .
بروز شعر الرأس
أيضا من الطرق التي تعملها المرأة للجمال والزينة قيامها بوضع الحشوى داخل الرأس بحيث يكون الشعر متجمعا فوق الرأس ـ فما حكم هذا العمل ؟
الشعر إذا كان على الرأس على فوق فإن هذا داخل في التحذير الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد )) وذكر الحديث : وفيه (( نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) (2) فإذا كان الشعر فوق الرأس ففيه نهى ، أما إذا كان علي الرقبة مثلا فإن هذا لا بأس به إلا إذا كانت المرأة ستخرج إلي السوق ، فإن في هذه الحال يكون من التبرج ، لأنه سيكون له علامة من وراء العباءة تظهر ، ويكون هذا من باب التبرج ومن أسباب الفتنة فلا يجوز .(1/2)
لقد انتشرت ظاهرة قص شعر الفتاة إلي كتفيها للتجميل ، ولبس النعال المرتفعة كثيرا ، واستعمال أدوات التجميل المعروفة . فما حكم هذه الأعمال ؟
قصّ المرأة لشعرها إما أن يكون على وجه يشبه شعر الرجال فهذا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات بالرجال (1)، وإما أن يكون على وجه لا يصل به إلي التشبه بالرجال ، فقد اختلف أهل العلم في ذلك إلي ثلاثة أقوال منهم من قال إنه جائز لا بأس به ، ومنهم من قال إنه محرم ، ومنهم من قال إنه مكروه ، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه مكروه .
وفى الحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نتلقى كل ما ورد علينا من عادات غيرنا ، فنحن قبل زمن غير بعيد نرى النساء يتباهين بكثرة شعور رؤوسهن وطول شعورهن ، فما بالهن اليوم يرغبن تقصير شعر رؤوسهن يذهبن إلي الذي أتانا من غير بلادنا ، وأنا لست أنكر كل شي جديد ولكن أنكر كل شي يؤدى إلي أن ينتقل المجتمع إلي عادات متلقاة من غير المسلمين .
وأما النعال المرتفعة فلا تجوز إذا خرجت عن العادة وأدت إلي التبرج وظهور المرأة ولفت النظر إليها ، لأن الله تعالى يقول ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) ( الأحزاب: 33) . فكل شي يكون به تبرج المرأة وظهورها وتميزها من بين النساء على وجه فيه التجميل فإنه محرم ولا يجوز لها .
وأما استعمال أدوات التجميل فلا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر أو فتنه .
ما حكم استعمال الكحل للمرأة ؟
الاكتحال نوعان :
أحدهما : اكتحال لتقوية البصر وجلاء الغشاوة من العين وتنظيفها وتطهيرها بدون أن يكون له جمال ، فهذا لا بأس به ، بل إنه مما ينبغي فعله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل في عينيه ، ولاسيما إذا كان بالإثمد .
النوع الثاني : ما يقصد به الجمال والزينة ، فهذا للنساء مطلوب ، لأن المرأة مطلوب منها أن تتجمل لزوجها .(1/3)
وأما الرجال فمحل نظر ، وأنا أتوقف فيه ، وقد يفرق فيه بين الشاب الذي يخشى من اكتحاله فتنه فيمنع ، وبين الكبير الذي لا يخشى ذلك من اكتحال فلا يمنع .
تتجمل المرأة بحدود
هل يجوز للمرأة استعمال المكياج الصناعي لزوجها ؟ وهل تجوز أن تظهر به أمام أهلها وأمام نساء مسلمات ؟
* تتجمل المرأة لزوجها في الحدود المشروعة من الأمور التي ينبغي لها أن تقوم بها ، فلأن المرأة كلما تجملت لزوجها كان ذلك أدعي إلي محبته لها وإلي الائتلاف بينهما ، وهذا من مقاصد الشريعة ، فالمكياج إذا كان يجملها ولا يضرها فإنه لا بأس به ولا حرج .
ولكني سمعت أن المكياج يضر بشرة الوجه وأنه والبتالى تتغير به بشرة الوجه تغيرا قبيحا قبل زمن تغيرها في الكبر ، وأرجو من النساء أن يسألن الأطباء عن ذلك . فإذا ثبت ذلك كان استعمال المكياج إما محرما أو مكروها علي الأقل ، لأن كل شي يؤدى بالإنسان إلي التشويه والتقبيح فإنه إما محرم وإما مكروه .
وبهذه المناسبة أود أن أذكر ما يسمي ب ( المناكير ) وهو شي يوضع علي الأظافر تستعمله المرأة وله قشرة ، وهذا لا يجوز استعماله للمرأة إذا كانت تصلي ، لأنه يمنع وصول الماء في الطهارة ، وكل شي يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضي أو المغتسل ، لأن الله يقول : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(المائدة: من الآية6) ومن كان على أظفارها مناكير فإنها تمنع وصول الماء ، فلا يصدق عليها أنها غسلت يدها فتكون قد تركت فريضة من فرائض الوضوء أو الغسل ، وأما من كانت لا تصلى فلا حرج عليها إذا استعملته إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار ، فإنه لا يجوز لما فيه التشبه بهم .(1/4)
ولقد سمعت أن بعض الناس أفتى بأن هذا من جنس لبس الخفين ، وأنه يجوز أن تستعمله المرأة لمدة يوم وليلة إن كانت مقيمة ، ومدة ثلاثة أيام إن كانت مسافرة ، ولكن هذه فتوى غلط وليس كل ما ستر الناس به أبدانهم يلحق بالخفين ، فإن جاءت الشريعة بالمسح عليهما للحاجة إلي ذلك غالبا فإن القدم محتاجة للستر ، لأنها تباشر الأرض والحصى والبرودة وغير ذلك ، فخصص الشارع المسح بهما . وقد يدعى قياسها على العمامة وليس بصحيح ، لأن العمامة محلها الرأس ، والرأس فرضه مخفف من أصله ، فإن فريضة الرأس هي المسح بخلاف الوجه فإن فريضته الغسل ، ولهذا لم يبح النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسح القفازين مع أنهما يستران اليد .
وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وعليه جبة ضيقة الكمين فلم يستطع إخراج يديه ، فأخرج يديه من تحتها فغسلها)(1) فدلّ هذا على أنه لا يجوز للإنسان أن يقيس أي حائل يمنع وصول الماء علي العمامة وعلى الخفين ، والواجب على المسلم أن يبذل غاية جهده في معرفة الحق ، وأن لا يقدم على فتوى إلا وهو يشعر أن الله تعالى سائله عنها ، لأنه يعبر عن شريعة الله عز وجل .
ما حكم لبس الملابس الضيقة والبنطلون للمرأة ؟
* الملابس الضيقة للمرأة ولبس البنطلون غير لائق فإن كان يراها غير محارمها فلا شك في تحريمه،لأن في ذلك فتنه عظيمة . وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ) إلي آخر الحديث (2) ، وقد فسر بعض أهل العلم معني الكاسيات العاريات بأنها المرأة تلبس ثيابا لكنها لا تسترها سترا كاملا إما لضيقها وإما لخفتها وإما لقصرها ، وعلى هذا فعلى المرأة أن تحترز من ذلك .
لبس الجينز ليس من التشبه(1/5)
يوجد نوع من القماش يسمي الجينز يفصل بطرق مختلفة لملابس الأطفال بنين وبنات يمتاز بالمتانة ، والإشكال أن هذه الخامة يلبسها الكفار وغيرهم بطريقة البنطلون الضيق وهو مشهور ومعروف ، والسؤال هو استعمال هذا القماش بأشكاله المختلفة غير البنطلون الضيق بمعنى استعماله لمتانته وجودته هل يدخل في التشبه ؟
التشبه معناه هو أن يقوم الإنسان بشي يختص بالمتشبه بهم ، فإذا هذه القماشة أو غيرها علي وجه يشبه لباس الكفار فقد دخل في التشبه ، أما مجرد أن يكون لباس الكفار من هذا القماش ولكن يفصل علي وجه آخر مغاير لملابس الكفار ، فإن ذلك لا بأس به ما دام مخالفا لطريقة الكفار حتى لو اشتهروا بها ما دام أن الهيئة ليست ما يلبسه الكفار .
نعلم أن عمّ المرأة من محارمها الذين يجوز لها أن تكشف لهم . ولكن ماذا إذا كان عم المرأة يمزح معها مزاحا فاحشا فهل يجوز لها ألا تقابله بسبب مزاحه الفاحش ؟
إذا كان العم يمازح بنات أخيه ممازحة مريبة فأنه لا يحل أن يأتين إليه ولا يكشفن وجوههن عنده لأن العلماء الذين أباحوا للمحرم أن تكشف المرأة وجهها عنده ، اشترطوا أن لا يكون هناك فتنة ، وهذا الرجل الذي يمازح بنات أخيه مزاحا قبيحا معناه أنه يخشى عليهن منه الفتنة، والواجب البعد عن أسباب الفتنة .
ولا تستغرب أن أحد من الناس يمكن أن تتعلق رغبته بمحارمه ـ والعياذ بالله ـ وانظر إلي التعبير القرآني ، قال تعالى ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) ( النساء :22) وقال في الزنا : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ( الإسراء : 32) وهذا يدل على أن نكاح ذوات المحارم أعظم قبحا من الزنا .
وخلاصة الجواب : أنه يجب عليهن البعد عن عمهن وعدم كشف الوجه له ، مادمن يرين منه هذا المزاح القبيح الموجب للريبة .
تصفيف الشعر(1/6)
هل يجوز للمرأة أن تصفف شعرها بالطريقة العصرية وليس الغرض التشبه بالكافرات ولكن للزوج ؟
الذي بلغني عن تصفيف الشعر أنه يكون بأجرة باهظة كثيرة قد تصفها بأنها إضاعة مال ، والذي أنصح به نساءنا أن يتجنبن هذا الترف ، وللمرأة أن تتجمل لزوجها على وجه لا يضيع به المال هذا الضياع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال .
ما حكم قيام بعض النساء بأخذ الموديلات من مجلات الأزياء إذا كان ذلك بدون قصد اتباع الموضة ومسايرة الغرب ، هل يعد هذا تشبها بالكافرات مع أن النساء يلبسن ما ينتجه الغرب من الملابس وغير ذلك ؟
اطلعت على كثير من هذه المجلات فألفيتها مجلات خليعة فظيعة خبيثة ، حقيق بنا في المملكة العربية السعودية ، الدولة التي لا نعلم ـ ولله الحمد دوله مماثلة لها في الحفاظ على شرع الله وعلى الأخلاق الفاضلة . إننا نريد أن نربأ ونحن في هذه الدولة أن توجد مثل هذه المجلات في أسواقنا وفي محلات الخياطة ، لأن منظرها أفظع من مخبرها ، ولا يجوز لأي امرأة أو أي رجل أن يشترى هذه المجلات أو ينظر إليها أو يراجعها لأنها فتنة . قد يشتريها الإنسان وهو يظن أنه سالم منها،ولكن لا تزال به نفسه والشيطان حتى يقع في فخها وشركها ، ويحتار مما فيها من أزياء لا تتناسب مع البيئة الإسلامية . وأحذر جميع النساء والقائمين عليهن من وجودها في بيوتهم لما فيها من الفتنة العظيمة والخطر على أخلاقنا وديننا .
طبقات غطاء الوجه
من المعلوم أن الغطاء الذي تستخدمه المرأة على وجهها ينقسم إلي عدة طبقات ، فكم طبقة من غطاء الوجه ينبغي أن تضع المرأة على وجهها ؟(1/7)
الواجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال غير المحارم لها ، بأن تستره بستر لا يصف لون البشرة ، سواء كان طبقة أم طبقتين أم اكثر ، فإن كان الخمار صفيقا لا ترى البشرة من خلاله كفى طبقة واحدة ، وإن كانت لا تكفي زادت اثنتين أو ثلاثة أو أربعا ، والمهم أن تستره بما لا يصف اللون فإنه لا يكفي كما تفعله بعض النساء ، وليس المقصود أن تضع المرأة شيئا على وجهها ، بل المقصود ستر وجهها فلا يبين لغير محارمها .
وعلى النساء أن يتقين الله في أنفسهن ، وفي بنات مجتمعهن ، فإن المرأة إذا خرجت كاشفة، أو شبه كاشفة اقتدت بها امرأة أخرى ، وثالثة وهكذا حتى ينتشر ذلك بين النساء ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة ) (1) وبلادنا ـ والحمد لله ـ بلاد محافظة على دينها في عباداتها وأخلاقها ، ومعاملاتها ، وهكذا يجب أن تكون فإنها ـ والحمد لله ـ هي البلاد التي خرج منها نور الإسلام وإليها يرجع ، فالواجب علينا المحافظة على ديننا وسلوكنا وأخلاقنا المتلقاة من شريعتنا حتى نكون خير أمة أخرجت للناس .
وعلينا لا نأخذ بكل جديد يرد إلينا من خارج بلادنا ،بل ينظر في هذا الجديد إن كان فيه مصلحة وليس فيه محذور شرعي فإننا نأخذ به ، وإن كان محذور شرعي فإننا نرفضه ونبعده عن مجتمعنا حتى نبقى محافظين على ديننا وأخلاقنا ومعاملاتنا .
استخدام السحاب للمرأة
اعتادت بعض النساء أن يضعن فتحة في الظهر وهي ما يسمى (بالسحاب ) تفتحه إذا أرادت لبس الثوب ـ فما حكم هذا العلم ؟
*لا أعلم بأسا أن يكون السحاب أي الجيب ـ من الخلف إلا أن يكون ذلك من باب التشبه ، ولكنه أصبح اليوم شائعا وكثيرا من المسلمين حتى إنه كثر بالنسبة للصغار .(1/8)
والأصل في غير العبادات الحلّ ، فالعادات والمعاملات والمآكل وغيرها في الأصل فيها الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه بخلاف العبادات فأن الأصل فيها المنع والحظر إلا ما قام الدليل على مشروعيته .
لا تكشف المرأة في الحرم
تتساءل كثير من النساء عن كشف الوجه في الحرم ، وذلك أنهن قد سمعن عن بعض قوله بجواز كشف المرأة لوجهها وحال العمرة،فما هو القول الفصل في هذه المسألة ؟
* القول الفصل أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها لا في المسجد الحرام ولا في الأسواق ، ولا في المساجد الأخرى،بل الواجب عليها إذا كان عندها رجال غير محارم أن تستر وجهها ، لأن الوجه عورة في النظر ، فإن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والنظر الصحيح كلها تدل على أن المرأة يجب أن تستر وجهها عن الرجال غير المحارم لما في كشفه من الفتنة وإثارة الشهوة .
ولا يليق بها أن تغتر بما تفعله بعض النساء من التهتك وترك الحجاب ، فتكشف عن وجهها وشعرها وذراعيها ونحرها وتمشي في الأسواق كما تمشي في بيتها .
فعليها أن تتقي الله في نفسها وفي عباد الله عز وجل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) (1)
وأما المحرمة بحج أو عمرة فالمشروع لها كشف الوجه في البيت والخيمة ، ويجب عليها أن تستره إذا كان حولها رجال ليسوا من محارمها سواء كانت في المسجد أو غيره .
الملابس القصيرة
في بعض البلاد الإسلامية تنتشر ظاهرة لبس الفستان إلي الركبة ، حتى أن بعضهن يرتفع فستانها عن الركبة قليلا تساهلا منهن ـ فما حكم ذلك ؟ وما هي نصيحتكم لمن لا تبالي بالحجاب ؟
* إخراج المرأة ساقها لغير محارمها محرم ، وإخراج وجهها لغير محارمها محرم أشد ، لأن افتتان الناس بالوجوه أعظم من افتتانهم بالسيقان .(1/9)
وقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب الحجاب وقد بيناه في رسالة لنا سميناها ( رسالة الحجاب) وهي رسالة مختصرة وما ورد من الأحاديث التي ظاهرها الجواز فإننا قد أجبنا عنها بجوابين أحدهما مجمل والثاني مفصل عن كل دليل قيل أنه دال على جواز كشف الوجه .
ونصيحتي للنساء اللاتي يلبسن فساتين قصيرة إلي الركبة أو فوقها أن يتقين الله في أنفسهن وفي مجتمعهن ، وأن لا يكن سببا في انتشار هذه الظاهرة السيئة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سنّ في الإسلام سنة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة ) (1)
المقصود بالمشطة المائلة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، وإن ريحها يوجد في مسيرة كذا وكذا )(2) والمطلوب ما معنى (مميلات ) ؟ وهل من ذلك النساء اللاتي يتمشطن المشطة المائلة أم المقصود منها النساء اللاتي يملن الرجال ؟
* هذا الحديث قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما ) فذكر صنفا ، وقال عن الصنف الثاني : ( نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائل ، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، وإن ريحها يوجد في مسيرة كذا وكذا ) والمائلة بالمعنى العام كل مائلة عن السراط المستقيم ، بلباسها أو هيئتها أو كلامها أو غير ذلك ، والمميلات : اللاتي يملن غيرهن وذلك باستعمالهن لما فيه الفتنة ، حتى يميل إليهن من يميل من عباد الله .(1/10)
وأما المشطة المائلة فقد ذكر بعض أهل العلم أنها تدخل في ذلك ، لأن المرأة تميلها ، والسنة خلاف ذلك، ولهذا ينبغي للنساء أن يتجنبن هذه المشطة لاحتمال أن يكن داخلات في الحديث والأمر ليس بالهين حتى تتهاون به المرأة ، فالأحسن والأولى أن يدع الإنسان ما يريبه وما لا يريبه ، والمشطات كثيرة ،وفيها غني عن المشط المحرم .
خلوة المرأة بالسائق
بعض الناس يرسلون بناتهم للمدارس ولغيرها مع سائقين أجانب ، ولا ينظرون إلي نتائج هذه الأعمال فأرجو نصحهم ؟
هذا العمل لا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون الراكب مع السائق عدة نساء بحيث لا ينفرد بواحدة منهن ، فلا بأس إذا كان داخل البلد ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة ) (3) وهذا ليست بخلوة ، بشرط الأمانة في السائق ، فإذا كان غير مأمون فلا يجوز أن ينفرد مع النساء إلا بمحرم بالغ عاقل .
الثانية : أن يذهب بامرأة واحدة منفردا فلا يجوز ولو دقيقة واحدة ، لأن الانفراد خلوة . والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بقوله : ( لا يخلون رجل بامرأة ) وأخبر أن الشيطان ثالثهما .وعلى ذلك لا يحل لأولياء أمور النساء تركهن مع السائقين على هذه الحال ، كما لا يحل أن تركب بنفسها معه بدون محرم لها ، لأنه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي معصية لله تعالى لأن من أطاع الله فقد أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى :( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( النساء : 80 ) وقال تعالى : ( ومن يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضللا مبينا ) ( الأحزاب : 36 ) فعلينا أخوة الإسلام أن نكون طائعين لله ممتثلين لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من المنفعة العظيمة والعاقبة الحميدة ، وعلينا معشر المسلمين أن نكون غيورين على محارمنا،فلا نسلمهن إلي الشيطان يلعب بهن ، فالشيطان يجر إلي الفتنة والغواية .(1/11)
وإني أحذر إخواني من الغفلة وعدم المبالاة ،لما فتح الله علينا من زهرة الدنيا ، ولننتبه إلي هذه الآية التي يقول الله فيها: ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) ( الواقعة : 41 ـ 46 ) ولنتذكر قوله تعالى: ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا ) ( الانشقاق : 10 ـ 13 ) .
هل قص المرأة لأطراف شعرها حرام أم حلال ؟
* قص المرأة من شعرها إن كان في حج أو عمرة فهو نسك يقربها إلي الله ، وتؤجر عليه لأن المرأة إذا حجت أو اعتمرت تقصر من شعرها قيد أنملة لكل جديلة .
أما إن كانت في غير حج أو عمرة ، وقصت من شعرها حتى اصبح كهيئة شعر الرجل فإنه محرم ، بل هو من الكبائر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء )(1).
وإن كان القص من أطرافه ، وبقي على هيئته راس امرأة فأنه مكروه على ما صرح به فقهاء الحنابلة رحمهم الله . وعلى هذا لا ينبغي للمرأة أن تفعل ذلك .
ما حكم تقصير الشعر من الخلف إلي الكتفين للمرأة ؟
تقصير الشعر للمرأة كرهه أهل العلم ، وقالوا إنه يكره للمرأة قص شعرها إلا في حج أو عمرة ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة رحمهم الله .
وبعض أهل العلم حرّمه ، وقال :إنه لا يجوز . والبعض الآخر أباحه بشرط أن لا يكون فيه تشبه بغير المسلمات ، أو تشبه بالرجال . فإن تشبه المرأة بالرجل محرم ، بل من كبائر الذنوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء ) .(1/12)
فتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب . فإذا جعلت المرأة رأسها مشابها لرأس الرجل فإنها داخلة في اللعن والعياذ بالله ، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.وأما التشبه بغير المسلمات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم(من تشبه بقوم فهو منهم)(2)
والأولى أن لا تقصه لا من الأمام ولا من الخلف لأنني لا أحب نساؤنا تتلقى كل ما وارد جديد من العادات والتقاليد التي لا تفيد ، لأن انفتاح صدورنا لتلقي مثل هذه الأمور قد يؤدي إلي ما لا تحمد عقباه ، من التوسع في أمور لا يبيحها الشرع ، قد يؤدي إلي تبرج بالزينة كما تبرجت النساء في أماكن أخرى ، وقد يؤدي أن تكشف المرأة وجهها ، وكشف وجهها للأجانب حرام .
هل يجوز صبغ الشعر البيض بالصبغ الأسود ؟
تغيير الشيب بالأسود حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باجتنابه قال:(غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد ) (3)
ولقد ورد الوعيد الشديد على من يصبغ بالسواد ، وهذا يقتضي أن يكون من كبائر الذنوب . فالواجب على المسلم والمسلمة تجنب ذلك لما فيه من النهي والوعيد ، ولأن فيه مضادة لخلق الله ، فإن هذا الشيب جعله الله علامة على الكبر في الغالب ، فإذا عكست ذلك بصبغه بالسواد كان فيه المضادة لحكمة الله في خلقه ، ولكن ينبغي تغييره بغير السواد كالحمرة والصفرة ، وكذلك باللون الذي يكون بين الحمرة والسواد ، مثل أن يكون الشعر أدهم فإن هذا لا بأس به وبه يحصل الخير باتباع السنة ، وتجنب نهي الرسول صلى الله عليه وسلم .
أساليب متنوعة للتجميل
ما حكم الوشم ؟ وإذا وشمت البنت وهي صغيرة فهل عليها إثم ؟(1/13)
الوشم محرم بل إنه من كبائر الذنوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمه (1)، وإذا وشمت البنت وهي صغيرة ، ولا تستطيع منع نفسها عن الوشم فلا حرج عليها ، وإنما الإثم على من فعل ذلك بها ، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهذه البنت لا تستطيع التصرف ، ولكن تزيله إن تمكنت من إزالته بلا ضرر عليها .
ما حكم حمرة الشفاه والمكياج للمرأة ؟
تحمير الشفاه لا بأس به ، لأن الأصل الحل حتى يتبين التحريم ، وهذا التحمير ليس بشي ثابت حتى نقول إنه من جنس الوشم ، والوسم غرز شي من الألوان تحت الجلد ، وهو محرم بل من كبائر الذنوب .
ولكن التحمير إن تبين أنه مضر للشفة ، ينشفها ويزيل عنها الرطوبة والدهنية فإنه في مثل هذه الحال ينهى عنه ، وقد أخبرت أنه ربما تنفطر الشفاه منه ، فإذا ثبت هذا فإن الإنسان منهي عن فعل ما يضره .
وأما المكياج فإننا ننهي عنه وإن كان يزين الوجه ساعة من الزمان ، لكنه يضره ضررا عظيما ، كما ثبت ذلك طبيا ، فإن المرأة إذا كبرت في السن تغير وجهها تغيرا لا ينفع معه المكياج ولا غيره ، وعليه فإننا ننصح النساء بعدم استعماله لما ثبت فيه من الضرر .
ما حكم تخضيب اليدين بالنسبة للمرأة بالحناء . وهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما حكم لو شمل ذلك باطن اليد دون الأظافر ؟
الخضاب بالحناء في اليدين مما تعارفت عليه النساء ، وهو عادة اتخذت للزينة ، وما دام فيها جمال للمرأة فالمرأة مطلوب منها التزين لزوجها سواء شمل ذلك الأظافر أو لم يشملها .
أما المناكير للمرأة التي ليست حائضا فهي حرام ، لأنها تمنع وصول الماء إلي البشرة في الوضوء إلا إذا كانت تزيله عند الوضوء .
حديث المرأة مع الرجال
هل صوت المرأة حرام للدرجة التي لا تكلم فيها أصحاب الدكاكين بالسوق ، لشراء حاجتها بدون تنعيم أو تمييع للصوت ، وكذلك تخيط ثيابها عند الخياط في احتشام ؟(1/14)
* كلام المرأة ليس بحرام وليس بعورة ، ولكن إذا ألانت القول ، وخضعت به ، وحكت على شكل يحصل به الفتنة فذلك هو المحرم ، لقوله تعالى ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ) ( الأحزاب : 32) . فلم يقل الله تعالى فلا تكلمن الرجال بل قال فلا تخضعن بالقول ، والخضوع بالقول أخص من مطلق الكلام .
إذن فكلام المرأة للرجل إذا لم يحصل به فتنة فلا بأس به ، فقد كانت المرأة تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلمه فيسمع الناس كلامها ، وهي تكلمه وهو يرد عليها ، وليس ذلك بمنكر. ولكن لابد أن لا يكون في هذه الحال خلوة بها إلا بمحرم ، وعدم فتنة ، ولهذا لا يجوز للرجل أن يستمتع بكلامها سواء كان ذلك استمتاعا نفسيا ، أم استمتاعا جنسيا إلا أن تكون زوجته .
هل إظهار المرأة يدها حرام ؟
المشهور من مذاهب الحنابلة أن كفي المرأة كوجهها لا يجوز إخراجها أمام الرجال غير المحارم ، وهذا هو ظاهر فعل النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني ستر الكفين .
ووجه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرمة : ( لا تنتقب ولا تلبس القفازين ) (1)، فإن نهيه للمحرمة أن تلبس القفازين يشعر بأن من عادة النساء . وإلا لما كان لنهى المحرمة عن ذلك محل ، ولم تكن عادة النساء في عهده صلى الله عليه وسلم لبس القفازين لم ينه عن ذلك حال الإحرام .
فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل ، ولا تظهر بمظهر تحصل به الفتنة منها وفيها . قال سبحانه وتعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أطهر النساء ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) (الأحزاب : 33) وقال تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء الحجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) ( الأحزاب : 53) .
فإذا قال قائل : هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم .(1/15)
قلنا : إن طهارة القلب مطلوبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، فكون الحجاب يحصل به طهارة القلب للرجال والنساء ، يدل أنه لا فرق بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن .
وأعلم أن الحجاب عند بعض الناس هو أن تغطي المرأة جميع بدنها إلا وجهها ، والحق الذي تدل عليه الأدلة ويقتضيه النظر كما يقتضيه الأثر ، أنه لا بد أن تغطي المرأة وجهها ، لأن الوجه هو محل الفتنة ومحل الرغبة ، ولا أحد يشك أن مطلب الرجال أولا هو جمال الوجه للمرأة دون بقية الأعضاء .
فلتتق الله ، ولتحتشم ، ولتبتعد عن الفتنة ، ولتستر وجهها حتى لا يحصل الشر والفساد .
بعض الناس اعتادوا على إلباس بناتهم ألبسة قصيرة وألبسة ضيقة تبين مفاصل الجسم سواء كانت للبنات الكبيرات أو الصغيرات . أرجو توجيه نصيحة لمثل هؤلاء .
يجب على الإنسان مراعاة المسئولية ، فعليه أن يتقي الله ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذه الألبسة ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد..وذكر نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) (2) . وهؤلاء النسوة اللاتي يستعملن الثياب القصيرة كاسيات ، لأن عليهن كسوة لكنهن عاريات لظهور عوراتهن ، لأن المرأة بالنسبة للنظر كلها عورة ، وجهها ويداها ورجلاها ، وجميع أجزاء جسمها لغير المحارم .
وكذلك الألبسة الضيقة ، وإن كانت كسوة في الظاهر لكنها عرى في الواقع . فإن إبانة مقاطع الجسم بالألبسة الضيقة هو تعر . فعلى المرأة أن تتقي ربها ولا تبين مفاتنها ، وعليها آلا تخرج للسوق وهي متبذلة لابسة ما لا يلفت النظر ، ولا تكون متطيبة لئلا تجر الناس إلي نفسها .(1/16)
وعلى المرأة المسلمة أن لا تخرج من بيتها إلا لحاجة لا بد منها ولكن غير متطيبة ولا متبرجة وبدون مشية خيلاء ، وليعلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) (3) ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد ، وعلينا نحن معشر المسلمين أن لا نتخذ طرق أعداء الله من يهود ونصارى وغيرهم فإن الأمر عظيم .
وكما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) وتلا قوله تعالى : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) (1) (هود : 102) وإن أخذه تبارك وتعالى إذا أخذ فإنه أخذ عزيز مقتدر ، ويقول الله تبارك وتعالى:( وأملي لهم إن كيدي متين ) ( الأعراف : 183)
وإن أولئك الدعاة الذين يدعون إلي السفور والاختلاط لفي ضلال مبين ، وجهل عظيم، لمخالفتهم إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أو يتجاهلون ما حل بالأمم التي ابتليت بهذا الأمر وهم الآن يريدون التخلص من هذه المصيبة ، وأنى لهم ذلك ؟ فقد اصبح عادة لا تغير إلا بعد جهد عظيم .
من المشاهد أن بعض الناس يتشدد على بناته الصغار حتى إن بعضهم يلزم ابنته بلبس الخمار وعمرها أربع سنوات ويقول من شب على شي شاب عليه ، ويحاول فرض ذلك على جميع أسرته . فما رأيكم في هذا التشدد الذي يقيد طفلة صغيرة لا تفقه شيئا ؟
* لا شك أن من شبّ على شي شاب عليه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من بلغ سبع سنين بالصلاة ، وإن لم يكن مكلفا من أجل أن يعتاد عليها .
لكن الطفلة الصغيرة ليس لعورتها حكم ، ولا يجب عليها ستر وجهها ورقبتها ، ويديها ورجليها ، ولا ينبغي إلزام الطفلة بذلك ، لكن إذا بلغت البنت حدا تتعلق بها نفوس الرجال وشهواتهم فإنها تحتجب دفعا للفتنة والشر ، ويختلف هذا باختلاف النساء ، فإن منهن من تكون سريعة النمو جيدة الشباب ، ومنهن من تكون بالعكس .(1/17)
ما حكم لبس جوارب لليدين بقصد إخفاء اليد وعدم خروجها أثناء مخاطبة الرجال في الأسواق ؟
لبس ما يستر اليدين أمام الرجال الأجانب هو ما يعرف بالقفازين أمر طيب ، وينبغي للمرأة أن تلبسه حتى لا تتبين كفاها ، وربما يدل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تتنقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)(2) . ربما يدل على أن النساء كان من عادتهن لبس القفازين ، وأنه أستر للمرأة ، وأبعد عن الفتنة ، ولكن يجب أن يكون القفازان غير جميلين بحيث لا يلفتان النظر من الرجال .
الوجه محل الفتنة
لقد اختلف فقهاء الإسلام في كثير من الفقه الإسلامي ، ومن الأحكام التي اختلفوا فيها مسألة الحجاب للمرأة ، وهذا الاختلاف في الآراء جاء تبعا لاختلاف النصوص المروية في هذه المسألة . فما هو الحجاب الشرعي بالنسبة للمرأة ؟
الحجاب الشرعي هو حجب المرأة ما يحرم عليها إظهاره ، أي سترها ما يجب عليها ستره ، وأولى ذلك ستر الوجه ، لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة ، فالواجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا من محارمها ، وأما من زعم أن الحجاب الشرعي هو ستر الرأس والعنق والنحر والقدم والساق والذراع ، وأباح أن تخرج المرأة وجهها وكفيها فإن هذا من أعجب ما يكون من الأقوال ، لأنه من المعلوم أن الرغبة ومحل الفتنة هو الوجه ، وكيف يمكن أن يقال أن الشريعة تمنع كشف القدم من المرأة وتبيح لها أن تخرج الوجه؟ هذا لا يمكن أن يكون واقعا في الشريعة العظيمة الحكيمة المطهرة من التناقض ، وكل إنسان يعرف أن الفتنة في كشف الوجه أعظم بكثير من الفتنة بكشف القدم ، وكل إنسان يعرف أن محل رغبة الرجال في النساء إنما هي الوجوه ، ولهذا لو قيل للخاطب أن مخطوبتك قبيحة الوجه لكنها جميلة القدم ما أقدم على خطبتها ، ولو قيل له أنها جميلة الوجه ولكن في يديها أو كفيها أو ساقيها نزول عن الجمال لأقدم عليها فعلم بهذا أن الوجه أولى ما يجب حجابه .(1/18)
وهنالك أدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وأقوال أئمة الإسلام وعلما الإسلام تدل على وجوب احتجاب المرأة في جميع بدنها عمن ليسوا بمحارمها وتدل على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا بمحارمها . وليس هذا موضع ذكر ذلك .
ولكن لنا فيه رسالة مختصرة قليلة اللفظ كثيرة الفائدة .
بماذا تنصحون من يمنع أهله من الحجاب الشرعي ؟
* إننا ننصحه أن يتق الله عز وجلاله في أهله ، وأن يحمد الله عز وجل الذي يسر له مثل هذه الزوجة التي تريد أن تنفذ ما أمر الله به من اللباس الشرعي الكفيل بسلامتها من الفتن ، و إذا كان الله عز وجل قد أمر عباده المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (التحريم :6) .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حمل الرجل المسئولية في أهله فقال ( الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته )(1) . فكيف يليق بهذا الرجل أن يحاول إجبار زوجته على أن تدع الزي الشرعي في اللباس إلي زي محرم يكون سببا للفتنة بها ومنها ، فليتق الله تعالى في نفسه ، وليتق الله في أهله ، وليحمد الله على نعمته أن يسر له مثل هذه المرأة الصالحة .
وأما بالنسبة لزوجته فإنه لا يحل لها أن تطيعه في معصية الله أبدا ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
لا يجوز إخراج الذراع
بعض النساء تردد مقولة يحكون بأنهم سمعوا من بعض العلماء ، وهي أن من تظهر ساعديها من النساء وهي في البيت يوم القيامة تحترق ساعداها ، مع العلم أن بعض النساء يفصلن ملابسهن إلي الأكمام أو بعض الأكمام إلي المرفقين . فما حكم ذلك ؟(1/19)
أما هذا الجزاء وهو أن الساعدين تحترقان يوم القيامة فلا أصل له . وأما الحكم في إظهار الساعدين لغير ذوي المحارم والأزوج فإن هذا محرم ، لا يجوز أن تخرج المرأة ذراعيها لغير زوجها ومحارمها ، فعلى المرأة أن تحتشم و تحتجب ما استطاعت ، وأن تستر ذراعيها إلا إذا كان البيت ليس فيه إلا زوجها ومحارمها ، فهذا لا بأس بإخراج الذراعين ، أما من فصلت ملابسها إلي المرفقين فأقول لها : لا بأس تبقي الثياب المخيطة على هذا الوضع ، وتلبس للزوج والمحارم ، ويفصل ثياب جديدة إذا كان في البيت من ليس محرما لها كأخ زوجها وما أشبه ، ولا يجوز للمرأة أن تخرج بهذه الملابس إلي الشارع إلا أن تسترها بثياب ذات أكمام طويلة تسترها أمام الناس في السوق مع العباءة .
تطيب المرأة خارج البيت
ما حكم تعطر المرأة وتزيينها وخروجها من بيتها إلي مدرستها مباشرة . هل لها أن تفعل هذا الفعل ؟ وما هي الزينة التي تحرم على المرأة المسلمة عند النساء ؟ يعني ما هي الزينة التي لا يجوز إبداؤها للنساء ؟
* خروج المرأة متطيبة إلي السوق محرم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية )(2) ولما في ذلك من الفتنة .
أما إذا كانت المرأة ستركب في السيارة ولا يظهر ريحها إلا لمن يحل له أن تظهر الريح عنده، وستنزل فورا إلي محل عملها بدون أن يكون هناك رجال حولها ، فهذا لا بأس به ، لأنه ليس في هذا محذور ، فهي في سيارتها كأنها في بيتها ،ولهذا لا يحل لإنسان أن يمكن امرأته أو من له ولاية عليها أن تركب وحدها مع السائق ، لأن هذه خلوة . أما إذا كانت ستمر إلي جانب الرجال فأنه لا يحل لها أن تتطيب .(1/20)
أما بالنسبة للزينة التي تظهرها للنساء فإن كان ما أعتيد بين النساء من الزينة المباحة فهي حلال . وأما التي لا تحل كما لو كان الثوب خفيفا جدا يصف البشرة أو كان ضيقا جدا يبين مفاتن المرأة ، فأن ذلك لا يجوز لدخوله في قول النبي صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ...وذكر نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) (1) .
الضوابط في سكن العوائل
من العادات المنتشرة في بعض المجتمعات أن بعض العوائل عندما تسكن في بيت واحد ، فإن النساء يكشفن وجوههن أمام أقارب أزواجهن ، وذلك بسبب أنهم في بيت واحد، فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟
* العائلة إذا سكنت جميعا فالواجب أن تحتجب المرأة على من ليس بمحرم لها . فزوجة الأخ لا يجوز أن تكشف لأخيه ، لأن أخاه بمنزلة رجل الشارع بالنسبة للنظر والمحرمية ولا يجوز أيضا أن يخلو أخوه بها إذا خرج أخوه من البيت ، وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس مثل أن يكون هناك أخوان في بيت واحد أحدهما متزوج . فلا يجوز لهذا المتزوج أن يبقى زوجته عند أخيه إذا خرج للعمل أو للدراسة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يخلون رجل بامرأة ) (2)وقال : ( إياكم والدخول على النساء ) قالوا : يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ والحمو أقارب الزوج ـ قال ( الحمو الموت ) (3).
ودائما يقع السؤال عن جريمة فاحشة الزنا في مثل هذه الحال ، يخرج الرجل وتبقى زوجته وأخوه في البيت فيغويهما الشيطان ويزني بها والعياذ بالله ـ يزني بحليلة أخيه ، وهذا أعظم من الزنا بحليلة جاره ، بل إن الأمر أفظع من هذا .(1/21)
على كل حال أريد أن أقول أبرأ منه عند الله من مسئوليتكم : إنه لا يجوز للإنسان أن يبقي زوجته عند أخيه في بيت واحد مهما كانت الظروف حتى لو كان الأخ من أوثق الناس وأصدق الناس وأبر الناس ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، والشهوة الجنسية لا حدود لها لا سيما مع الشباب .
ولكن كيف نصنع إذا كان أخوان في بيت وأحدهما متزوج ؟ هل نقول إذا أراد أن يخرج ومعه زوجته إلي العمل ؟
لا ، ولكن يمكن أن يقسم البيت إلي نصفين ، نصف يكون للأخ عند انفراده ويكون فيه باب يغلق بمفتاح يكون مع الزوج يخرج به معه ، وتكون المرأة في جانب مستقل في البيت والأخ في جانب مستقل .
لكن قد يحتج الأخ على أخيه ويقول لماذا تفعل هذا ؟ ألا تثق بي ؟
يقول له : أنا فعلت ذلك لمصلحتك ، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . فربما يغويك وتدعوك نفسك قهرا عليك فتغلب الشهوة العقل ، وحينئذ تقع في المحظور ، فكوني أضع هذا الشي حماية لك ، هو من مصلحتك كما أنه من مصلحتي أنا . وإذا غضب من أجل هذا ليغضب و لا يهمك . هذه المسألة أبلغكم إياها تبرؤا من مسئولية كتمها وحسابكم على الله عز وجل .
أما بالنسبة لكشف الوجه فإنه حرام و لا يجوز للمرأة أن تكشف لأخي زوجها ، لأنه أجنبي منها ، فهو منها كرجل الشارع تماما .
المنع من النقاب
في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة بين أوساط النساء بشكل ملفت للنظر وهي ما يسمى بالنقاب ، والغريب في الظاهرة ليس لبس النقاب بل طريقة لبسه لدى النساء ، ففي بداية الأمر كان لا يظهر من الوجه ألا العينان فقط ، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا ، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة و لا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه . وإذا نوقشن في الأمر احتججن بأن فضيلتكم أفتى بأن الأصل في الجواز . فنرجو توضيح هذه المسألة بشكل مفصل ؟(1/22)
لا شك أن النقاب كان معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، و أن النساء كن يفعلنه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة إذا أحرمت ( لا تنتقب ) (1) فإن هذا يدل على أن من عادتهن لبس النقاب ، ولكن في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه بل نرى منعه ، لأنه ذريعة إلي التوسع فيما لا يجوز ، وهذا أمر مشاهد . ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب في أوقاتنا هذه ، بل نرى أنه يمنع منعا باتا ، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر وألا تنتقب ، لأن ذلك يفتح باب الشر لا يمكن إغلاقه فيما بعد .
ليس بين الزوج وزوجته عورة
ما حكم لبس الملابس الضيقة عند النساء وعند المحارم ؟
لبس الملابس الضيقة التي تبين مفاتن المرأة وتبرز ما فيه من الفتنة محرم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صنفان من أهل النار لم أرهما : رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ـ يعني ظلما وعدوانا ـ ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات )(2) . فقد فسر قوله : ( كاسيات عاريات ) بأنهن يلبسنّ ألبسة قصيرة لا تستر ما يجب ستره من العورة . وفسر بأنهن يلبسن ألبسة خفيفة لا تمنع من رؤية ما وراءها من بشرة المرأة ، وفسرت بأن يلبسن ملابس ضيقة فهي ساترة عن الرؤيا لكنها مبدية لمفاتن المرأة ، وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تلبس هذه الملابس الضيقة إلا لمن يجوز لها إبداء عورتها عنده وهو الزوج، فإنه ليس للزوج وزوجته عورة ، لقوله تعالى ( والذين هم لفروجهم حافظين*إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)(المؤمنون5- 6)
وقالت عائشة كنا نغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم ـ يعني من الجنابة ـ من إناء واحد تختلف أيدينا فيه ) (3) فالإنسان لا عورة بينه وبين زوجته .
وأما بين المرأة والمحارم فأنه يجب عليها أن تستر عورتها ، والضيق لا يجوز لا عند المحارم و لا عند النساء إذا كان ضيقا شديدا يبين مفاتن المرأة .(1/23)
عندما تجبر على خلع الحجاب
في بعض البلدان قد تجبر المسلمة على خلع الحجاب بالأخص غطاء الرأس ، هل يجوز لها تنفيذ ذلك علما بأن من يرفض ذلك ترصد له العقوبات كالفصل من العمل أو المدرسة ؟
* هذا البلاء الذي يحدث في بعض البلدان هو من الأمور التي يمتحن بها العبد ، والله سبحانه وتعالى يقول ( آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( العنكبوت : 1ـ3)
فالذي أرى أنه يجب على المسلمات في هذه البلدة أن يأبين طاعة أولي الأمر في هذا الأمر المنكر ، لأن طاعة أولي الأمر المنكر مرفوضة ، قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( النساء : 59) . لو تأملت هذه الآية لوجدت أن الله قال ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ولم يكرر الفعل ثالثة مع أولى الأمر ، فدل على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله ، فإذا كان أمرهم مخالفا لطاعة الله ورسوله فأنه لا سمع لهم ولا طاعة فيما أمروا به فيما يخالف طاعة الله ورسوله ، ( ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
وما يصيب النساء من الأذى في هذه الناحية من الأمور التي يجب الصبر عليها والاستعانة بالله تعالى على الصبر ، ونسأل الله لولاة أمورهم أن يهديهم إلي الحق ، ولا أظن هذا الإجبار إلا إذا خرجت المرأة من بيتها ، وأما في بيتها فلن يكون هذا الإجبار، وبإمكانها أن تبقى في بيتها حتى تسلم من هذا الأمر ، أما الدراسة التي تترتب عليها معصية فأنها لا تجوز ، بل عليها دراسة ما تحتاج إليه في دينها ودنياها ، وهذا يكفي ويمكنها ذلك في البيت غالبا .
اللباس الشرعي
تعلمون بلا شك أن مكمن الفتنة في المرأة متركز في جسدها الداخلي ، فإن ظهر ثارت الفتنة وعمّ الشر ، فما الذي يجوز للمرأة كشفه من جسدها وما حكم نظر المرأة إلي عورة المرأة ؟(1/24)
* يجب على المرأة أن تلبس اللباس الشرعي الذي يكون ساترا ، وكان لباس نساء الصحابة كما قال شيخ الإسلام ابن تميمة وغيره من الكف إلي الكعب في بيوتهن ، أي كف من كف اليد إلي كعب الرجل ، فإذا خرجن لبسن ثيابا طويلة تزيد على أقدامهن بشبر ، ورخص لهن النبي صلى الله عليه وسلم إلي ذراع من أجل ستر أقدامهن ، هذا بالنسبة للمرأة المكتسية ، فإن رفعت اللباس فهي من الكاسيات العاريات .
أما بالنسبة للمرأة الناظرة فإنه لا يجوز لها أن تنظر عورة المرأة ، يعني ما بين السرة إلي الركبة مثل أن تكون المرأة تقضي حاجتها مثلا فلا يجوز للمرأة أن تنظر إليها ، لأنها تنظر إلي العورة ، أما فوق السرة أو دون الركبة ، فإذا كانت المرأة قد كشفت عنه لحاجة مثل أنها رفعت ثوبها عن ساقها لأنها تمر بطين مثلا ، أو تريد أن تغسل الساق وعندها امرأة أخرى فهذا لا بأس به ، أو أخرجت ثديها لترضع ولدها أمام النساء فإنه لا بأس ، لكن لا يفهم من هذا كما تفهم بعض النساء الجاهلات أن المعنى أن تلبس من الثياب ما يستر ما بين السرة والركبة فقط ، هذا غلط ، غلط عظيم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى شريعة الله وعلى سلف هذه الأمة ، من قال : إن المرأة لا تلبس إلا سروال يستر من السرة إلي الركبة وهذا لباس المسلمات ؟ ! لا يمكن !
فالمرأة يجب أن تلبس اللباس الظاهر من الكف إلي الكعب ، أما المرأة الأخرى التي تنظر فلها أن تنظر إلي الصدر والساق لكن ليس لها أن تنظر ما بين السرة والركبة فيما لو كشفت المرأة ثوبها ، فإن الأخرى تنظر ما بين السرة والركبة .
الملابس القصيرة
قرأت بخطكم جوابا يقول : للمرأة أن تكشف لمحارمها عن الوجه والرأس والرقبة والكفين والذراعين والقدمين والساقين ، وتستر ما سوى ذلك ، فهل هذا الكلام على إطلاقه خصوصا أن موقفكم حفظكم الله ـ من الملابس القصيرة للأطفال والنساء عموما فأنه لا يجوز ؟(1/25)
* نحن إذا قلنا يجوز أن تكشف عن كذا وكذا ليس معناه أن تكون الثياب إلي هذا الحد، لنفرض أن المرأة عليها ثوب إلي الكعب ثم انكشف ساقها لشغل أو غير شغل فأنها لا تأثم بهذا إن لم يكن عندها إلا المحارم ، أو لم يكن غير النساء .
أما اتخاذ الثياب القصيرة فإننا ننهي ونحذر منه لأننا نعلم ـ وإن كان جائزا ـ أنه سوف يتدهور الوضع إلي أكثر من ذلك كما هو العادة في غير هذا ، أن الناس يفعلون الشي في أول الأمر على وجه مباح ، ثم يتدهور الوضع حتى ينحدروا به إلي أمر محرم لا إشكال في تحريمه،كما أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تنظر المرأة إلي عورة المرأة ) (1)ليس معناه أن المرأة يجوز أن تلبس ما يستر ما بين سرتها وركبتها فقط ولا أحد يقول بهذا ، لكن المعنى أنه لو انكشف من المرأة الصدر وكذلك الساق مع كون الثوب وافيا فإن ذلك لا يحرم نظره بالنسبة للمرأة مع المرأة ، ولنضرب مثلا امرأة ترضع ولدها فأنكشف ثديها من أجل إرضاع الولد ، لا نقول للمرأة الأخرى أن نظرك لهذا الثدي حرام،لأن هذا ليس من العورة ، أما أن تأتي امرأة تقول : أنا ما ألبس إلا سروالا يستر ما بين السرة والركبة فلا أحد يقول بهذا ، و لا يجوز ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تميمة ـ رحمه الله ـ أن لباس الصحابيات كان من كف اليد إلي كعب الرجل ، هذا إذا كن في بيوتهن ، أما إذا خرجن إلي السوق فمعروف حديث أم سلمة أن المرأة ترخي ثوبها ، فقد رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترخيه إلي ذراع من أجل ألا تنكشف قدماها إذا مشت .
الكشف داخل السيارة
بالنسبة لبعض المعلمات أو الطالبات عندما يركبن في الحافلة أو السيارة لغرض توصيلهن إلي المدارس نلحظ أن بعضا منهن يقمن بكشف وجوههن داخل السيارة ، وحجتهن في ذلك أنه لا يراهن أحد ـ فما رأيكم ؟ وماذا عن السائق الذي يتعهدهن بالتوصيل مع أنهن كاشفات ؟(1/26)
* كشف المرأة والرجال ينظرون إليها حرام ، ولا يحل سواء كانت معلمة أو طالبة ، وسواء كانت في السيارة أو كانت تمشي في السوق على قدميها ، لكن لو كانت في السيارة لا يراها من كان خلف الزجاج سائرا ، وكان بين النساء والسائق ستره ، فلا حرج عليهن في هذه الحال أن يكشفن وجوههن ، لأنهن كاللاتي في حجرة منفردة عن الرجال .
أما إذا كان الزجاج شفافا يرى من وراءه ، أو كان غير شفاف لكن ليس بينهن وبين السائق حاجز فإنه لا يجوز لهن كشف وجوههن لئلا يراهن السائق أو أحد من الرجال في السوق .
وأجرة السائق ليست حراما ، لأن النساء لم يستأجرن هذه السيارة لأجل كشف وجوههن لكن على السائق أن يأمرهن بتغطية الوجه ، فإن أبين وأصررن على أن يكشفن وجوههن جعل على السيارة ستائر أو يتخذ من الزجاج المحجوب ويجعل بينه وبينهن سترا ، وبذلك يزول المحذور .
السلام على المرأة
ما هدى الإسلام بالنسبة لرد السلام على المرأة وهل تسلم المرأة ؟ وهل يفرق بين المرأة الصغيرة أو المرأة الكبيرة التي لا يخشى منها الفتنة ؟ وما حكم المصافحة وتقبيل الرأس لهن ـ أي العجائز ؟
* الرجل لا يسلم على المرأة ، والمرأة لا تسلم على الرجل ، لأن هذا فتنة ، اللهم إلا عند مكالمة هاتفية فتسلم المرأة أو الرجل بقدر الحاجة فقط ،أو إذا كانت المرأة من معارفه مثل أن يدخل بيته فيجد فيه امرأة يعرفها وتعرفه فيسلم وهذا لا بأس به ، أما أن يسلم على امرأة لقيته في السوق ، فهذا من أعظم الفتنة فلا يسلم .
وأما تقبيل المحارم فتقبيلهن على الرأس والجبهة لا بأس به وتقبيلهن على الخد لا بأس به من قبل الأب ، لأن أبا بكر رضي الله عنه دخل على ابنته عائشة وهي مريضة فقبل خدها ، فهذا لا بأس به ، أما إذا كان من غير البنت فإنه يكون التقبيل على الجبهة وعلى الرأس .(1/27)
أما مصافحة المرأة غير ذات محرم فأنها حرام ، لأن مصافحتها أبلغ في حصول الفتنة من مشاهدتها ، وأما تقبيل رأس العجائز من ذوات المحارم فلا بأس به ، ومن غير ذوات المحارم فلا تقبلها .
هل يجوز أن يقبل رأس زوجة أبيه ؟
*نعم يجوز لأنها من محارمه .
وهل يجوز أن يصافح بنت زوجته ؟
هذا فيه تفصيل فإن كان قد دخل بأمها فيصافحها إن أمن من الفتنة وإلا فلا .
كيف يكون لها بنت ولم يدخل بها ؟
تكون البنت من غيره من شخص سابق ، ويكون قد عقد عليها ولكن لم يدخل بها، لم يجامعها، وحينئذ لا تكون هذه البنت محرما له .
مسائل خاصة
هناك مسألة تقع كثيرا عند بعض النساء وهي أنهن يقمن بالاستعانة بامرأة أخرى تأتي إلي المنزل لغرض قيامها بإزالة الشعر الذي على البدن والفخذين ، فهل يجوز لهذا المرأة أن تنظر إلي فخذ المرأة التي تزيل شعرها ؟ ثم أن هذا العمل هل يعد من الضرورة ؟
هذه الحالة ليست من الضرورة ، لأن شعر الفخذين والساقين في حلها نظر ، ولأن الشعر من خلق الله وتغيير خلق الله في غير ما أذن الله به من وحي الشيطان ، قال تعالى ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) ( النساء : 119 ) والشعر من خلق الله فلا يزال إلا ما فيما شرعت إزالته كالعانة والإبط ، والشارب بالنسبة للرجل ، فهذا يزال ، أما شعر الساقين والفخذين فهذا لا يزال، لكن لو كان الشعر كثيرا في المرأة بحيث يكون ساقها كساق الرجل فلا بأس أن تزيله ، أما الأفخاذ إذا كثر فيهما الشعر فلا تزيله امرأة أخرى بل تزيله صاحبة هذا الشعر ، لأنه لا حاجة إلي الاستعانة بامرأة ثانية ، فهناك الآن وسائل لإزالة الشعر من دهن أو غيره . بمجرد ما يمسح به الشعر يزول ، فيستعمل هذا لكن بشرط أن يراجع في ذلك طبيب .
وجوب ستر الوجه
بالنسبة لمن تفرط في الحجاب من النساء ما هو جزاؤها ؟ وهل تعذب بالنار يوم القيامة ؟(1/28)
* إن كل من عصى الله عز وجل بمعصية لا تكفرها الحسنات فإنه على خطر ، فإن كانت شركا وكفرا مخرجا عن الملة فإن العذاب محقق لمن أشرك وكفر بالله،قال تعالى: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)(المائدة 72) . وقال تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ( النساء 48 ) . وإن كان دون ذلك ـ أي دون الكفر المخرج عن الملة ـ وهو من المعاصي التي لا تكفرها الحسنات فإنه تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له .
والحجاب الذي يجب على المرأة أن تتخذه هو أن تستر جميع بدنها عن غير زوجها ومحارمها، لقوله الله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) ( الأحزاب : 59 ) والجلباب هو الملاءة أو الرداء الواسع الذي يشمل جميع البدن ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يسترن وجوههن ونحورهن ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة والنظر الصحيح والاعتبار على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها أو زوجها ، ولا يشك عاقل أنه إذا كان على المرأة أن تستر رأسها وأن تستر رجليها وأن لا تضرب برجليها حتى يعلم ما تخفي من زينتها من الخلخال ونحوه ، وأن هذا واجب ، فأن وجوب ستر الوجه أوجب وأعظم ، وذلك أن الفتنة الحاصلة بكشف الوجه أعظم بكثير من الفتنة الحاصلة بظهور شعرة من شعر رأسها أو ظفر من ظفر رجليها . وإذا تأمل العاقل المؤمن هذه الشريعة وحكمها وأسرارها تبين أنه لا يمكن أن تلزم المرأة بستر الرأس والعنق والذراع والساق والقدم ، ثم تبيح للمرأة أن تخرج كفيها ، وأن تخرج وجهها المملوء جمالا وحسنا ، فإن ذلك خلاف الحكمة .(1/29)
ومن تأمل ما وقع فيه الناس اليوم من التهاون في ستر الوجه الذي أدى أن تتهاون المرأة فيما وراءه حيث تكشف رأسها وعنقها ونحرها وذراعها وتمشي في الأسواق بدون مبالاة في بعض البلاد الإسلامية ، علم بأن الحكمة تقتضي أن على النساء ستر وجوههن ، فعلى المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل وأن تحتجب الحجاب الواجب الذي لا تكون معه فتنة بتغطية البدن عن غير الأزواج والمحارم .
ذهاب المرأة للطبيب
عندما تضطر المرأة إلي الذهاب للطبيب للفحص عليها فإن ذلك يستلزم أن تظهر شيئا من جسدها ـ فما حكم الشرع من ذلك ؟
إن ذهاب المرأة للطبيب عند عدم وجود طبيبة لا بأس به ، ويجوز أن تكشف للطبيب كل ما يحتاج إليه إلا أنه لا بد أن يكون هناك معها محرم وبدون خلوة من الطبيب بها ، لأن الخلوة محرمة وهذا من باب الحاجة ، وقد ذكر أهل العلم ـ رحمهم الله ـ أنه إنما أبيح مثل هذا لأنه محرم تحريم الوسائل ، وما كان تحريمه بتحريم الوسائل فأنه يجوز عند الحاجة إليه
جواز الخلوة عند الضرورة
من المسائل التي تقع تكشف المرأة أمام الأجانب عند الضرورة مثلا إذا كانت زوجة الجار مريضه وزوجها غائب عنها وليس عندها محارم فما العمل حينذاك ؟
لا شك أن الاختلاط بغير المحارم لا يجوز ، والخلوة أشد وأعظم لكن عند الضرورة تختلف الأحكام ، قال الله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) (الأنعام :119 ) . فإذا كانت امرأة جاري مضطرة إلي أن أكلمها وأدخل عليها لنقلها إلي الطبيب وما أشبه ذلك فلا بأس به مع درء الفتنة وذلك إذا كان عنده زوجة يستعين بها حتى تزول الخلوة .
دخول الكفيف على النساء
ما حكم دخول الكفيف على النساء لقصد التعليم في المدارس ؟(1/30)
دخول الرجل الأعمى على النساء للتعليم لا بأس به، لأنه يجوز للمرأة أن تنظر إلي الأعمى ما لم يكن هناك فتنة ، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس : ( اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )(1) وأذن لعائشة أن تنظر إلي الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، لكن إن حصل من هذا فتنة بكونه يتلذذ بصوت المرأة أو يدنيها إلي جنبه مثلا ، ويمسك على يدها وما أشبه ذلك ، فإنه لا يجوز ، لا من اجل أنه يحرم النظر إلي الرجل الأعمى ولكن من أجل ما اقترن به من الفتنة .
التعليم المختلط لا يجوز
*بالنسبة للتعليم المختلط في بعض الدول الإسلامية يكون الطلاب والطالبات جنبا إلي جنب في مقاعد متراصة وقاعة واحدة فما حكم ذلك ؟
الذي أراه أنه لا يجوز للإنسان رجلا كان أو امرأة أن يدرس بمدارس مختلطة ، لما فيها من الخطر العظيم على عفته ونزاهته وأخلاقه . فإن الإنسان مهما كان من النزاهة والأخلاق والبراءة إذا كان جانبه في كرسي امرأة ولا سيما جميلة ومتبرجة لا يكاد يسلم من الفتنة والشر فإنه حرام ولا يجوز . فنسأل الله سبحانه وتعالى لإخواننا المسلمين أن يعصمهم من مثل هذه الأمور التي لا تعود إلي شبابهم إلا بالشر والفتنة و الفساد .
وإن كان لا يوجد إلا مثل هذه الجامعات المختلطة في البلد فماذا يفعل الطالب ؟
حتى وإن لم يجد إلا مثل هذه الجامعات المختلطة فإنه يترك الدراسة إلي بلد آخر ليس فيه هذا الاختلاط فأنا لا أرى جواز هذا وربما غيري يرى شيئا آخر .
هناك عادة متبعة لدى بعض الناس وهي أن المرأة الأجنبية تصافحهم إذا وضعت على يديها حائل فما حكم ذلك ؟ وهل حكم المرأة التي تكبر في السن مثل حكم الصغيرة في السن ؟(1/31)
لا يجوز للإنسان أن يصافح المرأة الأجنبية التي ليست من محارمه سواء مباشرة أو بحائل ، لأن ذلك من الفتنة ، وقد قال تعالى:(ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) (الإسراء : 32 ) . وهذه الآية تدل على أنه يجب علينا أن ندع كل شي يوصل للزنا سواء كان زنا الفرج وهو الأعظم أو غيره ، و لا ريب أن مس الإنسان ليد المرأة الأجنبية قد يثير الشهوة ،على أن وردت أحاديث فيها تشديد الوعيد على من صافح امرأة ليست من محارمه ، و لا فرق في ذلك بين الشابة والعجوز لأنه كما يقال كل ساقطة لاقطة ثم حد الشابة من العجوز قد تختلف فيه الإفهام ، فيرى أحد أن هذه عجوز ويرى آخر أن هذه شابه .
عمل المرأة مع الرجل
لقد بينتم لنا حدود علاقة الرجل بالمرأة وما يجوز منها وما يحرم .. لكن ماذا عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في حال العمل ، فهل يجوز أن تعمل في مكان مختلط مع الرجل ؟ لا سيما أن ذلك منتشر بشكل كبير في كثير من البلدان ؟
الذي أراه أنه لا يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء بعمل حكومي أو بعمل في قطاع خاص أو في مدارس حكومية أو أهلية ، فإن الاختلاط يحصل فيه مفاسد كثيرة ولو لم يكن فيه إلا زوال الحياء للمرأة وزوال الهيبة من الرجال ، لأنه إذا اختلط الرجال والنساء أصبح لا هيبة عند الرجال ، وهذا أعني ـ الاختلاط بين الرجال والنساء ـ خلاف ما تقتضيه الشريعة الإسلامية ، وخلاف ما كان عليه السلف الصالح . ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للنساء مكانا خاصا إذا خرجن إلي مصلى العيد ، لا يختلطن بالرجال كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب في الرجال نزل وذهب للنساء فوعظهن وذكرهن ، وهذا يدل على أنهن لا يسمعن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أو إن سمعن لم يستوعبن ما سمعن من الرسول صلى الله عليه وسلم .(1/32)
ثم ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) (1)وما ذلك إلا لقرب صفوف النساء من الرجال ، فكان شر الصفوف ، ولبعد آخر صفوف النساء من الرجال فكان خير الصفوف ، وإذا كان هذا في العبادة المشتركة فما بالك بغير العبادة ، ومعلوم أن الإنسان في حال العبادة أبعد ما يكون عما يتعلق بالغريزة الجنسية ، فكيف إذا كان الاختلاط بغير عبادة فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق ، فلا يبعد أن تحصل فتنة وشر كبير في هذا الاختلاط .
والذي أدعو إليه إخواننا أن يبتعدوا عن الاختلاط وأن يعلموا أنه من أضر ما يكون على الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم:( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )(1) فنحن والحمد لله ـ نحن المسلمين ـ لنا ميزة خاصة يجب أن نتميز بها عن غيرنا ، ويجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بها ، ويجب أن نعلم أننا متبعون لشرع الله الحكيم الذي يعلم ما يصلح العباد والبلاد ، ويجب أن نعلم أن من نفروا عن صراط الله ـ عز وجل ـ وعن شريعة الله فإنهم في ضلال وأمرهم صائر إلي الفساد ، ولهذا نسمع أن الأمم التي يختلط نساؤها برجالها أنهم الآن يحاولون بقدر الإمكان أن يتخلصوا من هذا ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد . نسأل الله أن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وشر وفتنة .
العمل المباح
ما هي مجالات العمل المباحة للمرأة التي تعمل بها دون أن تخالف دينها ؟(1/33)
المجال العملي للمرأة أن تعمل بما يختص به النساء مثل أن تعمل في تعليم البنات سواء كان ذلك عملا إداريا أو فنيا ، وأن تعمل في بيتها في خياطة ثياب النساء وما أشبه ذلك ، وأما العمل في مجالات تختص بالرجال فإنه لا يجوز لها أن حيث أنه يستلزم الاختلاط بالرجال وهي فتنة عظيمة يجب الحذر منها ، ويجب أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )(2). فعلى المرء أن يجنب نفسه وأهله مواقع الفتن وأسبابها بكل حال .
يحرم النظر إلي صورة الفنانات
هناك ظاهرة متفشية بين الشباب وهي اقتناء صور النساء الأجنبيات من فنانات ومطربات وغير ذلك وينظرون إليها باستمتاع ، ويحتجون بحجة واهية وهي أن هذه الصور ليست حقيقية .
هذا تهاون خطير جدا أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء بواسطة وسائل الأعلام المرئية أو بواسطة الصحف أو غير ذلك ، فإنه لابد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلي أن يتعمد النظر إلي المرأة مباشرة ، وهذا شي مشاهد ، ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن أو يتمتع بالنظر إليهن ، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه الصور ، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور ، سواء كانت في مجلات أو في صحف أو غيرها ، لأن في ذلك فتنة تضره في دينه ، ويتعلق قلبه بالنظر إلي النساء فيبقى ينظر إليهن مباشرة .
ما هي حدود عورة المرأة للمرأة المسلمة والفاجرة والكافرة ؟(1/34)
عورة المرأة مع المرأة لا تختلف باختلاف الدين ، وعورتها مع المرأة المسلمة كعورتها مع المرأة الكافرة ، وعورتها مع المرأة العفيفة كعورتها مع المرأة الفاجرة ، إلا إذا كان هناك سبب آخر يقتضي وجوب التحفظ أكثر ، لكن يجب أن نعلم أن العورة ليست هي مقياس اللباس ، فإن اللباس يجب أن يكون ساترا وإن كانت العورة ـ أعني عورة المرأة ـ بالنسبة للمرأة ما بين السرة والركبة ، لكن اللباس شي والعورة شي آخر ، ولو فرض أن امرأة كانت لابسة لباس حشمة وظهر صدرها أو ثديها لعارض أمام امرأة أخرى وهي قد لبست هذا اللباس الساتر الشامل ، فإن هذا لا بأس به . أما أن تتخذ لباسا قصير من السرة إلي الركبة بحجة أن عورة المرأة للمرأة من السرة إلي الركبة فإن هذا لا يجوز ، ولا يظن أن أحدا يقول به .
هل يجوز للمرأة أن تخرج ثديها عند النساء لإرضاع طفلها ؟
تفهم الإجابة مما سبق .
ما حكم المكياج للنساء أو للتزين به لزوجها ؟
كل ما تتزين به المرأة من هذه الزينات لا بأس به إذا كان لا يضرها ، لأن الأصل الحل فلا يحرم إلا ما قام الدليل على تحريمه ، ولكني سمعت أن هذه المساحيق ( المكياج ) تؤثر على بشرة المرأة وأنها تغيره في وقت قصير ، وهذا هو الظاهر ، لأن العادة أن ردود الفعل كما يقولون تكون في الأمور الحسية كما تكون في الأمور المعنوية ، فإذا ثبت ثبوتا لا مرية فيه انه لا ضرر على المرأة في استعماله فإنه لا بأس به ، لأن ذلك مما يجلب رغبة الزوج إلي زوجته ويحببها إليه لا سيما إذا كان الزوج ممن يهتم بمثل هذه الأمور لأن الأزواج يختلفون ، فقد يكون بعضهم لا يهمه أن تتجمل المرأة بهذه المجملات ، وقد يكون بعضهم مشغوفا بهذه المجملات . أما بالنسبة لتزين النساء فيما بينهن أثناء الزيارات فليس به بأس إذا كان في الحدود الشرعية المباحة .
غير المتزوجة هل يجوز لها أن تضع المكياج وتظهر للنساء ؟(1/35)
غير المتزوجة على قاعدة أهل العلم أنه لا ينبغي عليها أن تتجمل ، لأنها غير مطالبة بهذا ، فالذي أرى أن تتجنبه غير المتزوجة . أما المتزوجة فقد سبق بيان حكمها .
ما حكم التطيب للنساء إذا أتينها في البيت ؟
إذا تطيبت النساء في البيوت فإنهن يخرجن للأسواق وتظهر رائحة الطيب عليهن ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء ) (1) وهذا يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج وهي متطيبة ، نعم لو كان هؤلاء النساء سوف يركبن السيارة عند الباب ولا يتعرضن لأحد أجنبي فهذا لا بأس به .
ما حكم الملابس النسائية من تصميم الكفار لغير قصد التشبه وهي ساترة ؟
كلمة قصد التشبه غير واردة ، لأنه إذا حصل التشبه حصل المحذور وثبت حكمه سواء بقصد أو بغير قصد ، فإذا كانت هذه الألبسة مما يختص بالكفار ولا يلبسها غيرهم فإنه لا يجوز للمسلم أن يلبسها ، أما إذا كانت الألبسة شائعة بين المسلمين وغير المسلمين لكنه غي ر موجودة في بلادنا مثلا فلا بأس بلبسها إذا لم يكن ذلك شهرة ، فإن كان شهرة فهو حرام .
ما حكم الملابس الضيق والقصيرة التي تبدي الساقين أمام المحارم والنساء ؟
كم قلت سابقا إن اللباس يجب أن يكون ساترا شاملا ، وليس أن يقتصر على العورة ، وعلى هذا يجب على النساء أن يلبسن ثيابا طويلة ساترة حتى وإن كان ساقها يجوز أن يبدو للمرأة التي مثلها ولمحارمها ، لأنه يجب علينا ولاسيما في عصرنا هذا أن نحتاط لهذه الأمور احتياطا بالغا ، وأن نمنع ما يخشى منه التدرج إلي مشابهة الكفار بألبستهم .
ما حكم قص الشعر للشابة للتزيين ؟(1/36)
* إذا كان قص الشعر إلي درجة تكون مشابهة للرجل فهذا حرام ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، وكذلك لو كان قصه على صفة مشابهة لنساء الكفار فإنه حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(من تشبه بقوم فهو منهم ) (2). أما إذا كان على غير هذين الوجهين فإن المشهور من مذهب الحنابلة أن هذا مكروه ، وهذا القول وإن كان ليس له دليل بين فإن الأخذ به جيد ، لئلا تتدرج المرأة من المباح للممتنع ومن المكروه للمحرم ، فالقول بالكراهة هنا حذرا من الوقوع في المحرم قول جيد .
يقال أنكم ذكرتم في شرح ( بلوغ المرام ) عند مسح الرجل رأسه في الوضوء بأن يمسح الرجل رأسه من الأمام إلي الخلف ، ثم من الخلف إلي الأمام حتى يصل الماء إلي باطن الرأس هل هذا صحيح ؟
وهل هذا يشمل النساء علما بأن المرأة قد يصعب عليها ذلك لكثرة وطول شعرها ؟
نعم بالنسبة لكونه يبدأ من مقدم الرأس إلي مؤخره ، ثم يرجع إلي مقدم الرأس هذا صحيح وقد ثبتت به السنة . وأما حتى يصل الماء إلي باطن الرأس فهذا كذب وليس بصحيح، ولا يمكن أن يصل الماء إلي باطن الشعر بالمسح ، لأن المسح معناه أن يبل يده بالماء ثم بها رأسه ، وهذا لا يتأتى منه ماء يصل إلي باطن الشعر ، اللهم إلا أن يكون عقب الحلق .
* وأما هل يشمل النساء هذا ؟
نعم لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما يثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء ، وأن ما يثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل ، ولا أعلم دليلا يحص المرأة في هذا . وعلى هذا أن تمسح من مقدم الرأس إلي مؤخره وإن كان شعرا طويلا فلن يتأثر بذلك ، لأنه ليس المعنى أن تضغط بقوة على الشعر حتى يتبلل أو يصعد إلي قمة الرأس إنما هو مسح بهدوء .
سجدة التلاوة للنساء هل تكون على هيئة حجابها في الصلاة ؟(1/37)
هذا ينبني على اختلاف العلماء في سجدة التلاوة هل هي حكمها حكم الصلاة ، فلا بد من ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة ، وإن قلنا أنه سجدة مجردة ولا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة فإنه لا يشترط فيها في هذه الحال أن تكون المرأة متحجبة حجاب الصلاة بل ولا أن يكون الإنسان على وضوء ، ولكن لا شك أن الأحوط الأخذ بالقول الأول ، وأن لا يسجد الإنسان إلا على وضوء ، وأن تكون المرأة والرجل أيضا ساترا ما يجب ستره في الصلاة .
هل تقطع المرأة صلاة المرأة إذا مرت بين يديها ؟
نعم تقطع ، لأنه لا فرق في الأحكام بين الرجال والنساء إلا بدليل ، ولكن إذا مرت من وراء سترتها إن كان لها سترة ، أو من وراء سجادتها أن كانت تصلي على سجادة ، أو من وراء موضع سجودها أن لم يكن له سترة ولا سجادة ، فإن ذلك لا يضر ولا يؤثر .
وإن كان في التحرز من ذلك مشقة لاسيما في الحرمين ؟
والحديث لم يستثن شيئا وليس في هذا مشقة ، لأن في الإمكان أن تمنع والناس سوف يمتنعون ، وإذا لم يكن يتيسر ذلك فأجل النافلة إلي وقت يكون فيه المكان غير مزدحم ، أو تقدم إلي مكان آخر خاليا ، أو إذا كانت نافلة اجعلها في البيت ، فإن النافلة في البيت أفضل من النافلة في المسجد سواء المسجد الحرام أو في النبوي أو في غيرهما من المساجد ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وهو في المدينة ( أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) (1) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتطوع في بيته .
ما حكم لبس المرأة اللون الأبيض ليلة زفافها إذا علم هذا تشبه بالكفار ؟(1/38)
المرأة يجوز لها أن تلبس اللون الأبيض بشرط أن لا يكون على تفصيل ثياب الرجل . وأما كونه تشبها بالكفار فقد زال هذا التشبه لكون كل المسلمين إذا أرادت النساء الزواج يلبسنه ، والحكم يدور في علته وجودا وعدما . فإذا زال التشبه وصار هذا شاملا للمسلمين والكفار زال الحكم إلا أن يكون الشي محرما لذاته لا للتشبه ، فهذا يحرم على كل حال .
امرأة يطلب منها زوجها في بعض ليالي رمضان صنع الطعام لضيوفه ، وهي عندما تقوم بذلك تحس بإرهاق شديد ولا تتمكن من القيام تلك الليلة ، فهل يجب عليها طاعته في ذلك لو استمر الحال على ذلك أكثر ليالي رمضان ؟
الواجب أن تعاشر المرأة زوجها بالمعروف ، وعلى الرجل أن يعاشر زوجته بالمعروف ، قال تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) ( النساء : 19 ) وليس من المعروف أن يرهق الرجل زوجته في خدمته في مثل هذا الوقت ، وعلى تلك الحال ، ولمن إن صمم فاللائق بالمرأة أن تطيعه . وإذا تعبت عن القيام وشق عليها فإن الله تعالى يكتب لها ما كانت تنويه وتريده ، لأنها إنما تركت ذلك لعذر لتقوم بما يجب عليها من طاعة الزوج فيما يلزم طاعته .
فتاوى الزواج
ليس ثمة شك في أن الزواج يعني إضافة لبنة جديدة من لبنات المجتمع المسلم ، ودعامة جديدة من دعائمه ، ومن هنا كانت الأهمية والعناية التي تحوطه . فبناء الأجيال والأمم إنما يرتكز وينطلق من هذه اللبنة ، وأن المنطلقات إذا هي سلمت من الغبش والرتوش أضحت المسيرة سليمة من كل العراقيل والقيود التي قد تحول دون إكمال مهمتها .
وبالزواج يكون المسلم قد بدأ حياة جديدة . لكن يجب أن تكون هذه الحياة مدعومة بالفهم الصحيح . والإدراك العميق لكل متطلبات الحياة الزوجية .(1/39)
ونحن نمر بفترة الإجازة الصيفية حيث تكثر حفلات الزواج نجد أنه من المناسب أن نلتقي بأحد أعلام الأمة البارزين ليحدد لنا النهج القويم والسياسة الشرعية الثابتة التي خطها ديننا الحنيف لكي نتبع خطاها ونسترشد برؤاها حتى نسلم من الوقوع في المحذور والزلل .
فلقاؤنا كان مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ليوضح لنا بعض المعالم النيرة حول قضايا الزواج وما يجب على الزوجين الالتزام به قبل وبعد وفي أثناء زواجهما . وبعض المحاذير التي تقع في الزواج ، وإسداء النصائح والتوجيهات القيمة التي تنفع الأمة في دينها ودنياها .
فإلي المحاورة التالية :
فضيلة الشيخ : تعلمون حفظكم الله أن الزواج تلبية مأمون لحاجة غريزية بين الرجل والمرأة التي إن توفرت حصلت العفة ، وإن لم تتوفر حصلت الخيانة التي فيها دمار الأمة ، فما هي نصيحتكم لمن أراد الزواج ؟ وماذا يفعلان الزوج والزوجة في ليلة الزواج ؟
نصيحتي لمن أراد الزواج أن يختار من النساء من أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بتزوجها حيث قال ( تزوجوا الودود الولود ) (1)وقال ( تنكح المرأة لمالها ، وحسبها ، وجمالها ، ودينها ، فأظفر بذات الدين ) (2)وأن تختار المرأة من كان ذا خلق ودين ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) (3)وأن تتحرى غاية التحري ولا تتعجل بقبول الخطبة حتى تبحث عن حال الخاطب لئلا تندم على تسرعها .
ومما ينبغي العناية به ليلة الدخول على المرأة أن يدخل الزوج عليها مستبشرا متهللا لأجل إيناسها ، لأنها في تلك الساعة سيكون عندها رهبة ؛ وهيبة وخوف ، ويأخذ بناصيتها ويدعو بالدعاء المعروف ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ) (1)يقول ذلك جهرا إلا أن يخاف أن تتروع المرأة وتشمئز ، فإذا خاف ذلك فيكفي أن يضع يده على ناصيتها ويدعو بهذا الدعاء سرا(1/40)
وعند إتيان الإنسان أهله يقول ما حث عليه الرسول عليه السلام ( لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله ، جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فأنه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا ) (2) .
فهذا من أسباب صلاح الأولاد وهو سهل ويسير ، كذلك مما ينبغي بل يتعين فهمه ومعرفته أنه إذا حصل الجماع وجب الغسل على الطرفين وإن لم يحصل إنزال ، وبعض الناس يظن أن الغسل لا يجب إلا بالإنزال ، وهذا ظن خاطي ، فالغسل واجب إذا جامع وإن لم ينزل ، لقول النبي(إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ) (3) وعلى هذا فيجب الغسل بأحد أمرين إما بالإنزال وإما بالجماع ، فالإنزال إذا حصل سواء بتقبيل أو ضم أو نظر لشهوة أو محادثة أو أي سبب وجب الغسل ، وإذا حصل جماع وجب الغسل وإن لم ينزل .
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأزواج هداهم الله لا يهتمون بصلاة الفجر صباح الزواج إما أنهم يصلونها في آخر الوقت وليس مع الجماعة ، وإما أنهم لا يصلونها إلا إذا طلعت الشمس ، وهذا من العادات المنكرة المنافية لشكر نعمة الله تعالى ، لأن شكر نعمة الله أن تقوم بطاعته .
*وماذا تقولون ـ حفظكم الله ـ في المقولة الشائعة التي يرددها بعض الناس أن الزوج إذا خرج لصلاة الفجر مع الجماعة في المسجد فهذا يدل على عدم رغبته في زوجته ، ولو رغب ما خرج من عندها طيلة ذلك اليوم ؟
أقول : إنها مقولة فاسدة ، بل إذا صلى الفجر فهذا دليل على رغبته فيها ، وأن شكر نعمة الله عز وجل على ما يسره له من النكاح ، فالواجب أن يصلي الزوج صلاة الفجر مع الجماعة لا أن يدع صلاة الجماعة بدون عذر شرعي .
حفظكم الله : ما رأيكم في قول بعض العلماء : ( يعذر بترك الجماعة من ينتظر زف المرأة إليه )
رأينا : أن أقوال العلماء يكون فيها الخطأ ويكون فيها الصواب ، والواجب الرجوع إلي الكتاب والسنة .(1/41)
ثانيا : أن الذين قالوا هذا من العلماء إنما يتحدثون عن أمر كانوا عليه ، وهو أن الرجل هو الذي يستقبل الزوجة وليست الزوجة هي التي تستقبل الرجل ، فيكون الرجل في بيته وتزف إليه امرأته ، وهذا يعذر بترك الجماعة ، لأنه لو ذهب وصلى الجماعة لكان قلبه مشغولا ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا صلاة بحضرة طعام ) (4)وكان بن عمر رضى الله عنهما يسمع الإمام يقرأ وهو يتعشى لا يقوم للصلاة حتى يكمل ، فإذا كان الرجل يعذر بترك الجماعة في هذه الحال فالذي ينتظر زف الزوجة إليه أشد شغلا والعذر واضح ، لكن عادة الناس اليوم على خلاف ذلك عندنا فالزوج يأتي إلي الزوجة في مكانها ، والأمر بيده فلا يعذر بترك الجماعة .
فضيلة الشيخ : أشتهر لدى كثير من الناس أن الرجل إذا دخل على زوجته يصلي أمامها ركعتين ، وهي كذلك تصلي معه ، حتى أن بعضهم فور دخوله عليها أن يشرع بصلاته حتى قبل الحديث معها .. فهل هذا من السنة ؟
في هذا آثار عن بعض الصحابة رضى الله عنهم أن الرجل إذا دخل على زوجته أول ما يدخل يصلي بها ركعتين ، أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شي ، والذي يفعل ذلك أرجو ألا يكون عليه حرج وإن تركه فلا حرج عليه .
تعلمون ـ حفظكم الله ـ أن النساء ناقصات عقل ودين ، وهنا تعرض مسألة وهي أن المرأة إذا اختارت رجلا غير صالح ، وكان الرجل الذي اختاره والدها رجلا صالحا ، فهل يؤخذ برأيها أم تجبر على من أن أراد والدها ؟
أما جبرها على من أراد والدها فإنه لا يجوز حتى وإن كان صالحا ، لقول النبي ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ، ولا تنكح الأيم حتى تستأمر ) وفي لفظ المسلم : ( والبكر يستأذنها أبوها في نفسها ) (1) وأما تزوجيها بمن لا يرضى دينه ولا خلقه فلا يجوز أيضا ، وعلى وليها أن يمنعها وأن يقول لا أزوجك من هذا الرجل الذي تريدينه إذا كان غير صالح .
فإن قال قائل : لو أصرت المرأة على أن لا تتزوج إلا هذا الرجل .(1/42)
فالجواب : أنا لا نزوجها به و ليس علينا من إثمها شي ، نعم لو أن الإنسان خاف مفسدة وهو أن يحصل بينها وبين هذا الخاطب فتنة تنافي العفة ، وليس في الرجل شي يمنع من تزويجها به شرعا ، فهنا نزوجها به درءاً المفسدة .
فضيلة الشيخ : ماذا تقولون في بعض الآباء الذين يأخذون المهر كاملا ولا يعطون البنت منه شيئا إلا النزر اليسير ، مع العلم أن بعض المهور قد تصل إلي مائة وخمسون ألف ريال ثم من أدرك أن هذا المهر الذي أخذه قهرا وبدون رضا ابنته ماذا يفعل بعد مضي مدة طويلة على الزواج .
في هذا السؤال أمران مهمان :
الأول : هل يجوز لولى المرأة أن يشترط لنفسه أو لغيره شيئا من المهر سواء كان الأب أم غيره ؟
الجواب:لا يجوز ذلك ، لأن الصداق كله للمرأة لقوله تعالى(وآتوا النساء صداقهن نحلة ) (النساء : 4) ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها ، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه ) (2) ولا فرق بين الأب وغيره في ذلك على القول الراجح إلا أنها إذا قبضته وتم ملكها له فللأب وحده أن يتملك منه ما شاء ما لم يضرها . أما بقية الأولياء فليس لهم حق التملك لكن إن أعطتهم الزوجة شيئا بسخاء وطيب نفس فهو لها حلال .(1/43)
الأمر الثاني : أن بعض المهور قد يصل إلي مبالغ خيالية وهذا خلاف السنة .ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على كم تزوجتها ؟ ) قال : على أربع أواق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ) (3) وأربع الأواق مائة وستون درهما أي أقل من نصاب الزكاة ، والمغالاة في المهور سبب لنزع البركة من النكاح ، فإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة . ومتى حصلت المغالاة أصاب الزوج هم وغم لكثرة ما أنفق خصوصا إذا كان مدينا بذلك ، فكلما ورد على قلبه السرور بزوجته ثم تذكر ديونه التي عليه انقلب سروره حزنا وسعادته شقاء .
ثم لو قدر الله تعالى أن لا يتلاءم مع زوجته لم يسهل عليه فراقها ، وبقيت معه في عناء وشقاء ، وبقيت معلقة لا زوجة و لا مطلقة . وإذا قدر أن تطلب الزواج منه الفسخ لم يسمح غالبا إلا برد مهره عليه ، فإذا كان كثيرا صعب على المرأة وأهلها الحصول عليه ألا بمشقة شديدة .لذلك ننصح إخواننا المسلمين من المغالاة في المهور والتفاخر بها حتى يسهل الزواج للشباب ، وتقل أسباب الفتن والله المستعان .
فضيلة الشيخ : من الأمور التي نود من فضيلتكم التنبيه إليها البطاقات التي يدعى بها الناس لحضور وليمة الزواج حيث يصل بعض أسعارها إلي سبعة ريالات ، فهل من تحذير منها خصوصا مع وجود البديل النافع مثل كتابة الدعوة على ظهر رسالة علمية ، كذلك غلاف شريط إسلامي ، أيضا استعمال ورقة مصورة بالألوان مكتوبة بخط جميل بالكمبيوتر لا تكلف شيئا يذكر ، فهل من دعوة للحد من هذا الإسراف ؟(1/44)
إني أحث إخواني إلي ترك هذا الإسراف ، وأرى أن بذل المال الكثير لمجرد دعوة قد يجيب المدعو بها وقد لا يجيب ومآلها إلي رميها في الأرض فأقول : إن هذا من التبذير الواضح الذي نهى الله فقال ( و لا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) (الإسراء : 26- 27) . وأما فكرة أن تكون الدعوة في بطاقة ويكون في ظهرها كلمات مأثورة موجهة ونافعة فهذا طيب ، وليت هذا يفعل لكن تكون أوراقا عادية . والاقتراح الثاني أيضا أن يكون بصحبة البطاقة أشرطة مفيدة فهذا أيضا طيب وقد وقع هذا في بعض الدعوات رأينا كثيرا من الدعوات التي يعطى فيها أشرطة ، وهذا خير ونعين عليه أيضا بقدر ما نستطيع ، فلو أن الناس فعلوا ذلك لكانت هذه دعوة إلي الوليمة ودعوة إلي الشريعة فنجمع بين الحسنيين . وأما الثالث كون الدعوة أوراق مصورة فهذا أيضا طيب لا يكلف كثيرا وينفع .
فضيلة الشيخ : نسمع عن المبيت الواجب للزوجة فهل المقصود به الفراش أم الغرفة أم بالمنزل ؟
هذا يختلف باختلاف العادات، لأن الله تعالى قال:(عاشروهن بالمعروف)(النساء: 19) لكن قول الله تبارك وتعالى: (والتي تخافون نشوزهن فعظوهن اهجروهن في المضاجع ) ( النساء : 34 ) يدل على أن تمام العشرة أن يكون الرجل مع زوجته في فراش واحد ، وهكذا كان هدى النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا بأس أحيانا أن ينام على سرير وحده ، وإلا فالأصل أن يكون الرجل مع زوجته في فراش واحد .
هل عدة الزوجة تثبت بالخلوة أم بالجماع ؟ وهل إذا طلقها يسترجع المهر ؟(1/45)
أما الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) (الأحزاب :49 ) فهذا يعني الجماع لكن الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم قالوا : ( إن الرجل إذا خلا بزوجته ثم طلقها قبل أن يجامعها وجبت عليها العدة . والخلفاء الراشون لهم سنة متبعة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا إذا فارقها في الحياة بطلاق أو غيره ، أما إن مات عنها فإن عليه العدة والإحداد و إن كان قبل الدخول والخلوة ، لعموم قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ( البقرة : 234) . وأما المهر فإن طلقها قبل الدخول والخلوة فله أن يسترجع نصفه فقط ، وإن طلقها بعد الدخول أو الخلوة لم يسترجع منه شي . وإن مات عنه فلها المهر كاملا ، ولا حق للورثة فيه سواء كان موته قبل الدخول والخلوة أم بعدها .
في بعض حفلات الزواج تقوم بعض النساء بتوزيع بعض الأشرطة والكتيبات التي تحمل في مادتها المواعظ فهل هذا مشروع ؟
هذا ليس مشروعا في حد ذاته لكنه محمود لغيره ، لأنه ربما لا يحصل اجتماع النساء في غير هذه المناسبة ، فتفريق الأشرطة والكتيبات عليهن في هذا الاجتماع حسن ومن وسائل الدعوة إلي الله عز وجل . لكن يجب أن تكون هذه الأشرطة والكتيبات صادرة عن علماء موثقين في العلم والدين والمنهج .
فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم في إلقاء بعض المواعظ في مناسبات الزفاف ؟
المواعظ في مثل هذه الحال لا أعلمه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لو طلب من الإنسان العالم الذي يصغي الناس إلي حديثه ولا يستثقلونه في مثل هذا الاجتماع فالتحدث إليهم حينئذ بالموعظة والأحكام التي يحتاجونها حسن ولكن لا يطول عليهم .وإذا رأى هو منكرا بنفسه فأنه يجب عيه أن يقوم ويعظ الناس ويحذرهم من هذا المنكر ، وكذلك إذا وجه إليه سؤال عن مسألة من المسائل فتكلم فيها واستطرد فهذا حسن لا باس به إن شاء الله .(1/46)
فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم فيما تفعله النساء من القيام بنشيد الزفاف ، وهل هذا من العورة ؟
الصوت المجرد ليس بعورة ، ولكن من المعلوم أنه إذا ارتفعت أصواتهن بهذه المناسبة ولا سيما إن كانت أصواتا جميلة لذيذة على السمع والناس في نشوة العرس ، فإن هذا فيه من الفتنة العظيمة ، فكون الأصوات لا تخرج من بينهن أولى وأبعد عن الفتنة ، وأما ما يفعل بعض الناس اليوم بمكبرات الصوت على شرفات المبنى فيؤذي الناس بسماع الأصوات ويقلقهم فهذا منكر ينهى عنه . والحاصل : أن قيام النساء بالنشيد المناسب في هذه الحال لا بأس به إذا لم يكن معه عزف محرم .
فضيلة الشيخ : هل يجوز للنساء أن يرقصن في حفلات الزفاف لا سيما أنهن أمام النساء فقط ؟
الرقص مكروه ، وكنت في أول الأمر أتساهل فيه ولكن سئلت عدة أسئلة عن حوادث تقع في حال رقص المرأة ، فرأيت أن المنع منه ، لأن بعض الفتيات تكون رشيقة و جميلة ورقصها يفتن النساء بها حتى أنه بلغني أن بعض النساء إذا حصل مثل هذا تقوم تقبل المرأة التي ترقص وربما تضمها إلي صدرها ، ويحصل في هذا فتنة ظاهرة .
فضيلة الشيخ : ما رأيكم في لبس دبلة الخطوبة؟
دبلة الخطوبة عبارة عن خاتم ، والخاتم في الأصل ليس فيه شي إلا أن يصحبه اعتقاد كما يفعله بعض الناس ، يكتب اسمه في الخاتم الذي يعطيه مخطوبته ، وتكتب اسمها في الخاتم الذي تعطيه إياه ، زعما منهما أن ذلك يوجب الارتباط بين الزوجين ، ففي هذا الحال تكون هذه الدبلة محرمة ، لأنها تعلق بما لا أصل له شرعا ولا حسا ، كذلك أيضا لا يجوز في هذا الخاتم أن يتولى الخاطب إلباس مخطوبته ، لأنها لم تكن له زوجة بعد ، فهي أجنبية عنه إذ لا تكون زوجة إلا بالعقد .(1/47)
فضيلة الشيخ : نعلم أن كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب لا يجوز ، لكن ما هو جوابكم ـ حفظكم الله ـ على حديث العروسة التي قدمت لخطيبها مشروبا كاشفة عن وجهها بحضور النبي صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن الحديث في صحيح مسلم ؟
هذا الحديث وأمثاله مما ظاهره أن نساء الصحابة رضى الله عنهن يكشفن وجوههن ينزل على ما قبل الحجاب ، لأن الآيات الدالة على وجوب الحجاب للمرأة كانت متأخرة في السنة السادسة للهجرة ، وكان النساء قبل ذلك لا يجب عليهن ستر وجوههن وأيديهن ، فكل النصوص التي ظاهرها جواز الكشف عند الأجانب محمولة على ما قبل نزول الحجاب .
ولكن قد ترد أحاديث فيها ما يدل على أنها بعد الحجاب ، فهذه هي التي تحتاج إلي جواب مثل : حديث المرأة الخثعمية التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفضل بن العباس رديفا له في حجة الوداع ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلي الشق الآخر(1) ، فقد استدل بهذا من يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه ، وهذا الحديث بلا شك من الأحاديث المتشابهة التي فيها احتمال الجواز واحتمال عدم الجواز . أما احتمال الجواز فظاهر ، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول : هذه المرأة محرمة ، والمشروع في حق المحرمة أن يكون وجهها مكشوفا ، و لا نعلم أن أحد من الناس يرى إليها سوى النبي صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحافظ بن حجر رحمه الله ـ ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له من النظر إلي المرأة أو الخلوة بها ما لا يجوز لغيره . كما جاز له أن يتزوج المرأة بدون مهر ، وبدون ولي ، وأن يتزوج أكثر من أربع ، والله عز وجل ، قد فسح له بعض الشي في هذه الأمور ، لأنه أكمل الناس عفة ، ولا يمكن أن يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ما يرد على غيره من الناس من احتمال ما لاينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة .(1/48)
وعلى هذا فأن القاعدة عند أهل العلم أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال ، فيكون هذا الحديث من المتشابه ، والواجب علينا في النصوص المتشابهة أن نردها إلي النصوص المحكمة الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند غير الزوج و المحارم ، وأن كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة والشر ، والأمر كما تعلمون ظاهر الآن في البلاد التي رخص لهن بكشف الوجوه ، فهل اقتصرت النساء على الوجه ؟ الجواب لا ، بل كشفن الوجه والرأس والرقبة والنحر والذراع و الساق والصدر أحيانا ، وعجز هؤلاء أن يمنعوا نساءهم مما يعترفون بأنه منكر ومحرم ، وإذا فتح باب الشر للناس فثق أنك إذا فتحت مصراعا فسوف يكون أبوابا كثيرة ، وإذا فتحت مصراعا فسوف أدنى شي فسيتسع حتى لا يستطيع الراقع أن يرقعه ، فالنصوص الشرعية والمعقولات العقلية كله تدل على وجوب ستر المرأة وجهها .
وإني لأعجب من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدمها ، ويجوز لها أن تكشف كفيها ، فأيهما أولى بالستر ؟ أليس الكفان لأن رقة الكف وحسن أصابع المرأة وأناملها في اليدين أشد جاذبية من ذلك في الرجلين .
وأعجب أيضا من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدميها ، ويجوز لها أن تكشف عن وجهها ، فأيهما أولى بالستر؟هل من المعقول أن نقول:إن الشريعة الإسلامية الكاملة التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة أن تستر القدم ، وتبيح لها أن تكشف الوجه ؟
الجواب : أبدا هذا خلاف الحكمة ، لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر بكثير من تعلقهم بالأقدام ، وما أظن أحدا يقول للخطيب الذي أوصاه أن يخطب له امرأة : يا أخي ، ابحث عن قدميها أهي جميلة أو غير جميلة ، ويترك الوجه فهذا مستحيل ، بل أول ما يوصيه به هو البحث عن الوجه فهذا مستحيل ، بل أول ما يوصيه به هو البحث عن الوجه ، كيف الشفتان ، كيف العينان؟وهكذا أما أن يبحث عن القدم ويدع الوجه، فهذا مستحيل، فإذن محل الفتنة هو الوجه .(1/49)
وكلمة ( عورة ) لا تعني أنه كالفرج يستحي من إخراجه أو من كشفه ، وإنما المعني أنه يجب أن يستر ، لأنع يعور المرأة بالفتنة بالتعلق بها .
وإني لأعجب من قوم يقولون : إنه لا يجوز للمرأة أن تخرج ثلاث شعرات أو أقل من شعر رأسها ، ثم يقولون : يجوز أن تخرج الحواجب الرقيقة الجميلة والأهداب الظليلة السوداء ولا مانع من إظهارها ؟ ثم ليس الأمر يقتصر على إخراج هذا الجمال وهذه الزينة ، بل في الوقت الحاضر يجمل بشتى أنواع المكياج من أحمر وغيره .
أنا أعتقد أن أي انسان يعرف مواضع الفتن ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقا أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين ، وينسب ذلك إلي شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها .
ولهذا رأيت لبعض المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة ، كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن رسلان قال : لأن الناس عندهم الآن عندهم ضعف إيمان ، والنساء عند كثير منهم عدم العفاف ، فكان الواجب أن يستر هذا الوجه حتى لو قلنا بإباحته ، فإن حال المسلمين اليوم تقتضي القول بوجوب ستره ، لأن المباح إذا كان وسيلة إلي محرم صار محرما تحريم الوسائل .
وإني لأعجب أيضا من دعاة السفور بأقلامهم وما يدعون إليه اليوم وكأنه أمر واجب تركه الناس ، فكيف نسوغ لأنفسنا أن ندعو إليه ونحن نرى عواقبه الوخيمة ؟
والإنسان يجب عليه أن يتقي الله قبل أن يتكلم بما يقتضيه النظر ، وهذه من المسائل التي تفوت كثيرا من طلبة العلم ، يكون عند الإنسان علم نظري ، ويحكم بما يقتضيه هذا العلم النظري دون أن يراعي أحوال الناس ونتائج القول .(1/50)
وكان عمر رضى الله عنه أحيانا يمنع شي أباحه الشارع جلبا للمصلحة ، وكان الطلاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة ، أي أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة جعلوا ذلك واحدة ، أو بكلمات متعاقبات على ما اختار شيخ الإسلام ابن تميمة وهو الراجح ، فإن هذا الطلاق يعتبر واحدة ، ولكن لما كثر هذا في الناس ، قال أمير المؤمنين عمر : إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم ، ومنعهم من مراجعة الزوجات لأنهم تعجلوا هذا الأمر وتعجله حرام .
أقول : حتى لو قلنا بإباحة كشف الوجه ، فأن الأمانة العلمية والرعاية المبنية على الأمانة تقتضي ألا نقول بجوازه في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن ، وأن نمنعه من باب تحريم الوسائل ، مع أن الذي يتبين من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كشف الوجه محرم بالدليل الشرعي والدليل النظري ،وأن التحريم كشفه أولى من تحريم كشف القدم أو الساق أو نحو ذلك .
فضيلة الشيخ:ما رأي فضيلتكم فيمن تزوج من امرأة ثم أرغمه والده على تطليقها ، هل يستمسك بها فيعق أباه أم يطلقها دون أن تقترف ذنبا ؟
إذا طلب الوالد من ولده أن يطلق زوجته فلا يخلو من حالين :
الحالة الأولى : أن يبين الوالد سببا شرعيا يقتضي طلاقها وفراقها ، مثل أن يقول : طلق زوجتك ، لأنها مريبة في سلوكها ، كأن تغازل الرجال ، أو تخرج إلي مجتمعات غير نزيهة، وما أشبه ذلك ، ففي هذه الحال يجيب والده ويطلقها ، لأنه لم يقل طلقها لهوى في نفسه ، ولكن حماية لفراش ابنه من أن يكون فراشه متدنسا هذا الدنس .(1/51)
الحالة الثانية : أن يقول الوالد للولد : طلق زوجتك لأن الابن يحبها ، فيغار الأب على محبة ولده لها والأم أكثر غيرة ، فكثير من الأمهات إذا رأت الولد يحب زوجته غارت جدا ، حتى تكون زوجة ابنها كأنها ضرة لها ـ نسأل الله العافية ـ ففي هذه الحال لا يلزم الابن أن يطلق زوجته إذا أمره أبوه بطلاقها أو أمه ، ولكن يداريها ويبقي الزوجة ، ويتألفهما ويقنعهما بالكلام اللين حتى يقتنعا ببقائها عنده ، ولا سيما إذا كانت الزوجة مستقيمة في دينها وخلقها .
وقد سئل الإمام احمد ـ رحمه الله ـ عن هذه المسألة بعينها ، فجاءه رجل فقال : إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي ؟ فقال له الإمام احمد : لا تطلقها . قال : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك ؟ قال : وهل أبوك مثل عمر أو كلمة نحوها ؟
ولو احتج الأب على ابنه فقال:يا بني، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته لما أمره أبوه عمر بطلاقها، فيكون الرد مثل ذلك، ولكن ينبغي أن يتلطف في القول فيقول:عمر رأى شيئا تقتضي المصلحة أن يأمر ولده بطلاق زوجته من أجله
فضيلة الشيخ : ما الحكم إذا أراد الأب أن يزوج ابنه من امرأة غير صالحة ؟ وما الحكم إذا رفض أن يزوجه من امرأة صالحة ؟
الجواب مثل إجابة السؤال السابق أنه لا يجوز أن يجبر الوالد ابنه على أن يتزوج امرأة لا يرضاها سواء كان لعيب فيها : ديني أو خلقي ، وما أكثر الذين ندموا حين جبروا أولادهم أن يتزوجوا بنساء لا يريدونهن ، يقول : تزوجها لأنها بنت أخي ، أو لأنها من قبيلتك، وغير ذلك ، فلا يلزم الابن أن يقبل ، ولا يجوز لوالده أن يجبره عليها .(1/52)
وكذلك لو أراد أن يتزوج بامرأة صالحة ، ولكن الأب منعه ، فلا يلزم الابن طاعته ، فإذا رضى الابن زوجة صالحة ، وقال أبوه : لا تتزوج بها ، فله أن يتزوج بها ولو منعه أبوه، لأن الابن لا يلزمه طاعة أبيه في شي لا ضرر علي أبيه فيه ، وللولد فيه منفعة ، ولو قلنا : إنه يلزم الابن أن يطيع والده في كل شي حتى في ما فيه منفعة للولد ولا مضرة فيه على الأب لحصل في هذا مفاسد ، ولكن في مثل هذه الحال ينبغي للابن أن يكون لبقا مع أبيه، وأن يداريه ما استطاع وأن يقنعه ما استطاع .
فضيلة الشيخ : اسمحوا لي أن أعرض هنا بعض المخالفات التي تقع في بعض الزواجات راجيا تفضلكم ببسط الحديث حولها ، وهذه المخالفات هي كالتالي :
أولا : لبس النساء للثياب التي خرجن بها عن المألوف في مجتمعنا معللات بأن لبسها إنما يكون بين النساء فقط ، وهذه الثياب فيها ما هو ضيق تتحدد من خلاله مفاتن الجسم ، ومنها ما يكون مفتوحا من أعلى بدرجة يظهر من خلالها جزء من الصدر أو الظهر ، ومنها ما يكون مشقوقا من الأسفل إلي الركبة أو قريب منها .
ثانيا : من الأخطاء الشائعة في بعض الزواجات ( الطق ) بمكبر الصوت والغناء من النساء والتصوير بالفيديو ، والأشد من ذلك الرجل المتزوج يقبل زوجته أمام النساء ، وعند إسداء النصح من الغيورين على محارم الله يجابهون بقولهم : إن الشيخ الفلاني أفتى بجواز(الطق ) فإذا كان هذا صحيحا نرجو من فضيلتكم إيضاح الحق للمسلمين ؟(1/53)
* أما بالنسبة للمخالفة الأولى فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )(1). فقوله صلى الله عليه وسلم : ( كاسيات عاريات ) يعني أن عليهن كسوة لا تفي بالستر الواجب إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها ، ولهذا روى الإمام احمد في مسنده بإسناد فيه لين عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال : كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيه ـ نوع من الثياب ـ فكسوتها امرأتي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مرها فلتجعل تحتها غلالة ، إني أخاف أن تصف حجم عظامها ) (2)
ومن ذلك فتح أعلى الصدر فإنه خلاف أمر الله تعالى ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) (النور:31 ) قال القرطبي في تفسيره : وهيئة ذلك أن تضرب المرأة خمارها على جيبها لتستر صدرها ، ثم ذكر أثرا عن عائشة أن حفصة بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضى الله عنهما دخلت بشي يشف عن عنقها وما هنالك فشقته عليها وقالت : إنما يضرب بالكثيف الذي يستر ، ومن ذلك ما يكون مشقوقا من الأسفل إذا لم يكن تحته شي ساتر فلا بأس إلا أن يكون على شكل ما يلبسه الرجال ، فيحرم من أجل التشبه بالرجال .
وعلى ولي المرأة أن يمنعها من كل لباس محرم ، ومن الخروج متبرجة أو متطيبة ، لأنه وليها فهو مسئول عنها يوم القيامة في يوم ( لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل شفاعة منها عدل ولا هم ينصرون ) ( البقرة :48 ) .
أما المخالفة الثانية : (الطق ) في الدف أيام العرس جائز أو سنة إذا كان في ذلك إعلان النكاح ولكن بشروط :(1/54)
الشرط الأول : أن يكون الضرب بالدف وهو ما يسمى عند بعض الناس ( الطار ) وهو المختوم من وجه واحد ، لأن المختوم بالوجهين يسمى ( الطبل ) وهو غير جائز ، لأنه من آلات العزف، والمعازف كلها حرام ، إلا ما دل الدليل على حلة وهو الدف حال أيام العرس .
الشرط الثاني : أن لا يصحبه محرم كالغناء الهابط المثير للشهوة ، فإن هذا ممنوع سواء كان معه دف أم لا ، وساء كان في أيام العرس أم لا .
الشرط الثالث : أن لا يحصل بذلك فتنة كظهور الأصوات الجميلة ، فإن حصل بذلك فتنة كان ممنوعا .
الشرط الرابع : أن لا يكون فيه أذية على أحد ، فإن كان فيه أذية كان ممنوعا مثل أن تظهر الأصوات عبر مكبرات الصوت ، فإن في ذلك أذية على الجيران ومن هم غيرهم ممن ينزعج بهذه الأصوات ، ولا يخلو من الفتنة أيضا ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلين أن يجهر بعضهم في القراءة لما فيه من التشويش والإيذاء ، فكيف بأصوات الدفوف والغناء .
وأما تصوير المشاهد بآلة التصوير فلا يشك عاقل في قبحه ، ولا يرضى عاقل فضلا عن المؤمن أن تلتقط صور محارمه من الأمهات والبنات والأخوات والزوجات وغيرهن لتكون سلعة تعرض لكل واحد ، أو ألعوبة يتمتع بالنظر إليها كل فاسق . وأقبح من ذلك تصوير المشهد بواسطة الفيديو لأنه يصور المشهد حيا بالمرأى والمسمع ، وهو أمر ينكره كل ذي عقل سليم ودين مستقيم ، ولا يتخيل أحد أن يستبيحه أحد عنده حياء وإيمان .
وأما الرقص من النساء فهو قبيح لا نفتي بجوازه لما بلغنا من الأحداث التي بين النساء بسببه ، وأما إن كان من الرجال فهو أقبح ، وهو من تشبه الرجال بالنساء ولا يخفى ما فيه ، وأما إن كان من الرجال والنساء مختلطين كما يفعله بعض السفهاء فهو أعظم وأقبح لما فيه من الاختلاط والفتنة العظيمة لا سيما وأن المناسبة مناسبة نكاح ونشوة عرس .(1/55)
وأما ما ذكرته من أن الزوج يحضر مجمع النساء ويقبل زوجته أمامهن ، فإن تعجب فعجب أن يحدث مثل هذا من رجل أنعم عليه بنعمة الزواج فقابلها بهذا الفعل المنكر شرعا وعقلا ومروءة ، وكيف يمكنه أهل الزوجة من ذلك ، أفلا يخافون أن يشاهد هذا الرجل في مجتمع النساء من هي أجمل من زوجته وأبهى فتسقط زوجته من عينيه ويدور في رأسه من التفكير الشي الكثير ، وتكون العاقبة بينه وبين عروسه غير حميدة .
وإنني في ختام جوابي هذا أنصح إخواني المسلمين من القيام بمثل هذه الأعمال السيئة، وأدعوهم إلي القيام بشكر الله على النعمة وغيرها ، وأن يتبعوا طريق السلف الصالح فيقتصروا على ما جاءت به السنة ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) ( المائدة : 77) .
أسئلة خاصة بلعب الأطفال
يوجد كثير من الألعاب والبرامج التعليمية الهادفة للطفل ، وغالبا هذه البرامج تسبق بالموسيقى أو ما يشبه بالموسيقى ، ولدينا نموذج من ذلك وهو الكتاب الناطق ، ونود أن تسمع معنا هذه النغمة وتعطينا رأيك ؟
هذا الذي سمعته تتقدمه موسيقى . والموسيقى من المعازف المحرمة الثابت تحريمها بما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ليكونا من أمتي أقوام يستحلون الحرّ والحرير و الخمر والمعازف)(1)وعلى هذا لا يجوز استعمالها إلا إذا حذفت هذه الموسيقى على أن ما سمعته من الحكايات لأصوات هذه الحيوانات غير مطابق لأصواتها في الواقع ، ولا يعطي التصور الكامل لمعرفة أصوات هذه الحيوانات ، لهذا أرى أن لا تستعمل وأن استعمالها حرام إذا بقيت الموسيقى وإن لم تبق فاستعمالها قليل الفائدة .
كثيرا من الألعاب يحوي صورا مرسومة باليد لذوات الأرواح ، والهدف منها غالبا التعليم مثل الموجودة في الكتاب الناطق ؟(1/56)
الجواب : إذا كانت لتسلية الصغار فإن من أجاز اللعب للصغار يجيز مثل هذه الصور، وأما من منع هذه الصور فإنه لا يجيز ذلك على أن هذه الصور ليست مطابقة للصورة التي خلق الله عليها هذه المخلوقات المصورة كما يتضح مما هو أمامي . والخطب في هذا سهل .
إذا يا فضيلة الشيخ إذا كانت للغار فلا مانع . إذا لماذا لا نقول للموسيقى التي في الألعاب والبرامج التعليمية الهادفة للطفل( الكتاب الناطق ) هي للصغار ونتساهل بها لأنها للصغار ؟
الجواب : لا نتساهل بها لأنها لم يرد لها نظير في السنة ، ولأن المعازف الوارد تحريمها عامة ، ولم يرد دليل على التخصيص ، ولأن الصبي إذا اعتاد اللهو والعزف كان سجية له وطبيعة .
هناك أنواع كثيرة من العرائس التي كانت تسميها عائشة رضى الله عنها البنات ، منها ما هو مصنوع من القطن ، وهو عبارة عن كيس مفصل براس ويدين ورجلين ، ومنها ما يشبه الإنسان تماما وهو ما يباع في الأسواق ، ومنها ما يتكلم أو يبكي أو يمشي أو يحبو ، فما حكم صنع أو شراء مثل هذه الأنواع للبنات الصغار للتعليم والتسلية ؟
الجواب : أما الذي لا يوجد فيه تخطيط كامل وإنما يوجد فيه شي من الأعضاء والرأس ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة تلعب بهن .
وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنسانا ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذا شيئا ، لأنه يضاهي خلق الله تماما ، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بهن ليست على هذا الوصف ، فاجتنابها أولى . ولكني لا أقطع بالتحريم ، لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور . فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي ، وليس مكلف بشي من العبادات حتى نقول إن وقته يضيع عليه لهوا وعبثا . وإذا أراد الإنسان الاحتياط في مثل هذه فليقلع الرأس أو يحميه على النار حتى يلين ثم يضغطه حتى تزول معالمه .(1/57)
هل هناك فرق بين أن يصنعها الأطفال أنفسهم وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها نحن لهم أو تهدى الألعاب ؟
الجواب : أنا أرى صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام ، لأن هذا التصوير الذي لا شك في تحريمه ، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولا . لكن بالنسبة للشراء ينبغي أن نشتري أشياء أخرى ليست فيه صور كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها .
أما مسألة القطن والذي ما تبين له صورة رغم ما هنالك من أعضاء ورأس ورقبة ولكن ليس فيه عيون وأنف فما فيه بأس ، لأن هذا لا يضاهي لخلق الله .
ما حكم صنع ما يشبه هذه العرائس بمادة الصلصال ثم عجنها في الحال ؟
الجواب : كل من صنع شيئا يضاهي خلق الله فهو داخل في الحديث : ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين ...) (1)( أشد الناس عقابا يوم القيامة المصورون ) (2) لكن كما قلت إنه إذا لم تكن الصورة واضحة أي ليس فيها عين ولا أنف ولا فم ولا أصابع فهذه ليست صورة كاملة ولا مضاهية لخلق الله عز وجل .
عندما يلعب الأطفال مع بعضهم ، ويمثل الولد دور الأب وتمثل البنت دور الأم ، هل يقرون على ذلك أم يمنعون منه ؟ ولماذا ؟
الجواب : أنا أرى أنهم يمنعون منه ، لأنه قد يتدرج الطفل بهذا أن ينام معها وسد الباب هنا أولى .
في القصص هناك بعض القصص الهدف منها تعليم أو تسلية الأطفال وتأخذ أشكالا مختلفة ، فبعضها يحكي واقع حيوانات تتكلم ، فمثلا لكي نعلم الطفل أن عاقبة الكذب وخيمة تحكي أن ثعلبا مثل دور طبيب حتى يكذب على الدجاجة ويخدعها ، ثم وقع الثعلب في حفرة بسبب كذبه فما رأيكم بهذا النوع ؟
الجواب : هذه أتوقف فيها ، لأنها إخراج لهذه الحيوانات عما خلقت عليه من كونها تتكلم وتعالج وتعاقب،وقد يقال إن المقصود ضرب المثل ، فأنا أتوقف فيه ما أقول فيها بشي .(1/58)
هناك نوع آخر من القصص أن الأم قد تحكي قصة لطفلها ممكنة الوقوع وإن لم تكن قد وقعت فنقول مثلا : إن هناك طفل اسمه حسن آذى جيرانه وصعد على جدارهم فوقع وانكسرت يده ، فما حكم مثل هذا النوع من القصص الذي قد يتعلم الطفل من خلاله بعض الفضائل والخصال الحميدة ، هل هي كذب ؟
الجواب : الظاهر أنها إذا قيلت على سبيل التمثيل بأن يقال : إن هناك طفل أو ولد أو ما أشبه بدون أن يعين اسم ، يجعل كأنه أمر واقع أنه لا بأس به ، لأن هذا من باب التمثيل وليس أمرا واقعا ، وعلى كل حال فهذا لا بأس به ، لأن فيه فائدة وليس فيه مضرة .
في مناهج التعليم في المدارس يطلب من الطفل أن يرسم صورة لذات روح ، أو يعطى مثلا دجاجة ويقول له أكمل الباقي ، وأحيانا يطلب منه أن يقص هذه الصورة ويلزقها على الورق، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها فما رأيكم في هذا ؟
الجواب : الذي أرى في هذا أنه حرام يجب منعه ، وأن المسئولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذا الباب ومنع هذه الأشياء . وإذا كانوا يريدون أن يتبينوا ذكاء الطالب بإمكانهم أن يقولوا اصنع صورة سيارة أو شجرة أو ما أشبه ذلك مما يحيط به علمه ، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته وتطبيقه للأمور ، وهذا مما ابتلى به الناس بواسطة الشيطان وإلا فلا فرق بلا شك في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة أو سيارة أو قصر أو إنسان ، فالذي أرى أنه يجب على المسئولين منع هذه الأشياء ، وإذا ابتلوا ولا بد فليصوروا حيوانا ليس له رأس .
هذه الصور التي في الكتب هل يلزم طمسها ؟ وهل قطع الرأس بوضع فاصل بينه وبين الجسم يزيل الحرمة ؟
الجواب : أرى أنه لا يلزم طمسها ، لأن في ذلك مشقة كبيرة ، ولأنها ـ أي هذه الكتب ـ ما قصد بها الصورة إنما قصد ما فيها من العلم ، ووضع خط ما بين الرقبة والجسم لا يغير الصورة عما هي عليه .(1/59)
قد يرسب الطفل إذا ما رسم هذا الرسم في المدرسة أي قد لا يعطى درجة الرسم ثم يرسب؟ الجواب : إذا كان هذا فقد يكون الطالب مضطرا لهذا الشي ، ويكون الإثم على من أمره وكلفه بذلك ، ولكني آمل من المسئولين أن لا يصل بهم إلي هذا الحد فيضطروا عباد الله إلي معصية الله .
هناك بعض رياض الأطفال من يقوم بتعليم الأطفال إلي سن الخامسة أو السادسة البنات مع الأولاد مختلطين ، فما هو السن المسموح به وكثيرا منها يقوم بمهنة التعليم فيها النساء للذكور والإناث ، فما رأيكم بهذا ، وإلي أي سن يسمح للمرأة أن تعلم الطفل ؟
الجواب : أرى أن هذا يرفع إلي هيئة كبار العلماء للنظر فيه ، لأن هذا قد يفتح باب الاختلاط في المستقبل وعلى المدى البعيد ، أما من حيث اجتماع الأطفال بعضهم إلي بعض فهذا في الأصل لا بأس به ، لكن أخشى أن تكون هذه مخططات يقصد منها أن تكون سلما لأمور أكبر منها فيما يظهر لي ، والعلم عند الله . ولهذا يجب أن يرفع شأن هذه المدارس إلي هيئة كبار العلماء للنظر فيها أو إلي جهات مسئولة تستطيع منعها بعد الدراسة .
هناك بعض المدارس فيها فصل بين الطلاب والطالبات لكن مدرسو الطلاب والطالبات نساء، فإلي أي سن يسمح للمرأة بتعلم الذكر ؟
الجواب : هو كما قلت أنه يجب منع كل ما يحوم حول الاختلاط مهما كان أمره .
أسئلة في ملابس الأطفال
هناك كثير من ملابس الأطفال فيها صور لذوات الأرواح ، وبعض هذه الملابس مما يمتهن مثل الحذاء والملابس الداخلية للأطفال دون الثالثة ، ومنها ما لا يمتهن بل يحافظ عليها وعلى نظافتها ، فما حكم هذه الملابس ؟(1/60)
الجواب : يقول أهل العلم : إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه كبير ، وما كان فيه صور فإلباسه الكبير حرام . فيكون إلباسه الصغير حراما أيضا ، وهو كذلك . والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب والأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي ، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلا إلي إيصالها إلي هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم .
هل يجوز لبس الأطفال الذكور مما يخص الإناث كالذهب والحرير أو غيره والعكس ؟
الجواب : هذه مفهومة من الجواب الأول ، قلت : إن العلماء يقولون إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه البالغ ، وعلى هذا فيحرم إلباس الأطفال من الذكور ما يختص بالإناث وكذلك العكس .
هل يدخل تحت هذا إسبال الثياب للأطفال الذكور ؟
الجواب : نعم يدخل .
وما فيه تشبه للكفار وغيره كالقبعة والبنطلون ؟
الجواب : هذا باب آخر ، تشبه المسلمين بالكفار في اللباس أو غيره سواء كانوا ذكورا أو إناثا صغارا أو كبارا محرم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) (1) ، ولأنه يجب أن يكون للمسلمين شخصية قوية تمنعهم من التبعية لغيرهم ، لأنهم الأعلون ودينهم هو الأعلى كما قال الله تعالى ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران : 139 ) وقال الله تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ( التوبة : 33)
هل يجوز للأطفال ذكورا أم إناثا لبس الملابس القصيرة التي تبدي فخذيه ؟
الجواب : من المعلوم أن مادون سبع سنين لا حكم لعورته ، لكن تعويد الصبيان والأطفال هذه الألبسة الخالعة القصيرة لا شك أن سيهون عليهم كشف العورة في المستقبل ،
بل ربما لا يستحي الإنسان إذا كشف فخذه لأنه كان يكشفه صغيرا ولا يهتم به وحينئذ يكون(1/61)
نظر الناس إلي عوراتهم كنظرهم إلي وجوههم في عدم حرمتها والخجل منها ، فالذي أرى أن يمنع الأطفال وإن كانوا صغارا من مثل هذه الألبسة ، وأن يلبسوا لباس احتشام بعيد عن المحذور .
ما حكم ثقب إذن البنت من أجل أن تتحلى بالذهب كالخرص ؟ وهل في ذلك شي من المثلة والتعذيب كما قال بعض الفقهاء ؟
الجواب : الصحيح أنه لا بأس به ، لأن هذا من المقاصد التي يتوصل بها إلي التحلي المباح ، وقد ثبت أن نساء الصحابة كان لهن أقراط يلبسنها في آذانهن ، وهذا التعذيب يسير ، وإذا ثقبت في حال الصغر صار برؤه سريعا .
وهل ينطبق على هذا ثقب الأنف ؟
الجواب : نعم عند ما يرى أنه مكان للزينة .
ما حكم حلق شعر البنت عند الولادة أو بعد ذلك رغبة في إطالة شعرها وغزارته ؟ وهل يسن حلق شعرها عند الولادة كالذكور ؟
الجواب : حلق شعرها لا يسن في اليوم السابع كما يسن في حلق راس الذكر ، وأما حلقه للمصلحة التي ذكرت إذا صحت فإن أهل العلم يقولون : إن حلق الأنثى رأسها مكروه لكن قد يقال إنه إذا ثبت أن هذا مما يسبب نشاط الشعر ووفرته فإنه لا بأس به ، لآن المعروف أن المكروه تزيل كراهته الحاجة .
ما هو سن الطفل الذي تحتجب منه المرأة هو التمييز أم البلوغ ؟
الجواب : يقول الله تعالى في سياق من يباح إبداء الزينة لهم ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) ( النور : 31) ، والطفل إذا ظهر على عورة المرأة وصار ينظر إليها ويتحدث عنها كثيرا ، فإنه لا يجوز للمرأة أن تكشف أمامه . وهذا يختلف باختلاف الصبيان من حيث المجالسة ، لأن الصبي ربما يكون له شأن في النساء إذا كان يجلس إلي أناس يتحدثون بهن كثيرا ، ولولا هذا لكان غافلا لا يهتم بالنساء.
المهم أن الله حدد هذا الأمر بقوله( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) يعني أن هذا مما يحل للمرأة أن تبدى زينتها له إذا كان لا يظهر على العورة ولا يهتم بأمر النساء .(1/62)
* هل لمس ذكر الطفل لإزالة النجاسة ينقص الوضوء ؟
الجواب : لا ينقص الوضوء .
هل يجوز للأب أو الأم معاقبة الطفل بالضرب أو وضع شي مر أو حار في فمه كالفلفل إذا أرتكب خطأ ؟
الجواب: أما تأديبه بالضرب فإنه جائز إذا بلغ سنا يمكنه أن يتأدب منه وهو غالبا عشر سنين، وأما إعطاؤه الشي الحار فإن هذا لا يجوز ، لن هذا يؤثر عليه وقد ينشأ من ذلك حبوب تكون في فمه أو حرارة في معدته . ويحصل بهذا ضرر بخلاف الضرب فإنه على ظاهر الجسم فلا بأس به إذا كان يتأدب به ، وكان ضربا غير مبرح .
فيما دون العشر ؟
الجواب : فيما دون العشر ينظر فيه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أباح الضرب لعشر على ترك الصلاة ، فينظر فيما دون العشر قد يكون الصبي الذي دون العشر عنده فهم وذكاء وكبر جسم يتحمل الضرب والتوبيخ والتأديب به ، وقد لا يكون .
هل هناك بأس على الأم والأب في تحفيظ طفلهم الصغير القرآن مع علمهما بأنه قد يقوم بقراءته في الحمام وقت قضاء الحاجة ، أو قراءته بطريقة لا تليق بالقرآن الكريم على الرغم من تكرار التنبيه على ذلك ؟
الجواب : نعم ينبغي للأم والأب أن يقرأ طفلهما القرآن الكريم ويحذراه من أن يقرأه في مثل هذه الأماكن التي لا ينبغي أن يقرأ فيها . وإذا حصل منهم شي من ذلك فإنهم غير مكلفين ـ أعني الأطفال ـ فليس عليهم أثم ، والوالد أو الوالدة إذا سمعه يقرأ في مكان لا يليق يتكلم عليه . ويبين أن هذا لا يجوز . وقد ثبت في صحيح البخاري أن عمرو بن سلمة الجرمى صار إماما وهو ابن ست أو سبع سنين ، وكان ذلك في عهد (النبي) صلى الله عليه وسلم .
إذا كان هناك ساحة ملحقة بالبيت يلعب بها الأطفال داخل سور البيت ، فهل ينطبق عليها حديث حبس الصبيان وقت المغرب لانتشار الشياطين أم أن ذلك ينطبق عل الشارع خارج البيت ؟
الجواب : الحديث إنما هو في الشارع خارج البيت ، وأما داخل البيت فلا بأس به .(1/63)
هل يجب على المرأة وهي تصلي أن تمنع مرور طفلها الغير بين يديها مع العلم أن ذلك يحصل منها مرارا أثناء الصلاة ، وتؤدي مدافعتها له إلي ذهاب الخشوع في الصلاة ، ولو أنها صلت بمفردها تخشى الضرر عليه ؟
الجواب : لا حرج عليها في هذه الحال أن تمكنه من أن يمر بين يديها إذا كان كثير المرور وتخشى فساد صلاتها بمدافعته كما قال بذلك أهل العلم رحمهم الله ـ ولكن ينبغي لها في هذه الحالة أن تعطيه شيئا يتلهى به ويكون حولها ، لأن الطفل إذا أعطي شيئا يتلهى به تلهى به عن غيره ، أما إذا كان تعلقه بأمه لجوع أو عطش فإن الأولى بها أن تأخر الصلاة حتى تقضي نهمته ثم تقبل على صلاتها .
---
(1) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب المستوشمة رقم (5947) ، ومسلم ، كتاب اللباس ، باب تحريم فعل الواصلة رقم (2124)
(2) رواه مسلم كتاب اللباس ، باب النساء الكاسيات العاريات رقم (2128)
(1) ) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال رقم (5885)
(1) رواه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب في الجبة الشامية رقم (363) ، ومسلم ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين رقم (274)
(2) تقدم تخريجه ص ( 8)
(
1 رواه مسلم كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة رقم ( 1017)
(1) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب ما يتقي من شؤم المرأة رقم (5096) ، ومسلم ، كتاب الرقاق ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء رقم (2740)
(2) تقدم تخريجه ص ( 21)
(2) تقدم تخريجه ص ( 8)
(3) رواه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب من اكتتب في الجيش فخرجت امرأته حاجة رقم (3006) ومسلم ، كتاب الحج ، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم (1341).
(1) تقدم تخريجه ص (9).
(2) رواه أبو داوود ، كتاب اللباس ، باب في لبس الشهرة رقم (4031) .
(3) رواه مسلم كتاب اللباس، باب في صبغ الشعر وتغيير الشيب رقم (2102) .
(1) تقدم تخريجه ص (5)(1/64)
(1) رواه البخاري ، كتاب حزاء الصيد ، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة رقم (1838).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(3) تقدم تخريجه ص (24).
(1) رواه البخاري ، كتاب التفسير باب قوله:( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) رقم (4686) ومسلم كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم رقم (2583).
(2) تقدم تخريجه ص (38).
(1) رواه البخاري ، كتاب الجمعة باب الجمعة في القري والمدن رقم (893) .
(2) رواه أبو داوود، كتاب الترجل ، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج رقم (4173) والترمزي ، كتاب الأدب ، باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة رقم (2786) والنسائي ، كتاب الزينة ، باب ما يكره للنساء من الطيب رقم (5126).
(1) تقدم تخريجه ص (8).
(2) تقدم تخريجه ص (28).
(3) رواه البخاري ، كتاب النكاح، باب لايخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم رقم (5232) ، ومسلم ، كتاب السلام ، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها رقم (2172).
(1) تقدم تخريجه ص (38).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(3) رواه البخاري ، كتاب الغسل ، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها رقم (261) ومسلم ، كتاب الحيض ، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة رقم (321) .
(1) رواه مسلم ، كتاب الحيض ، باب تحريم النظر إلى العورات رقم ( 338).
(1) رواه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكني رقم (1480).
(1) رواه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف وإقامتها رقم (440).
(1) تقددم تخريجه ص (8).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(1) رواه مسلم، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد رقم ( 443) .
(2) تقدم تخريجه ص (32).
(1) رواه البخاري ، كتاب الآذان ، باب صلاة الليل رقم ( 731) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته رقم (781) .(1/65)
(1) رواه ابو داوود ، كتاب النكاح ، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم ( 2050) والنسلئي ، كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم ( 3227).
(2) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب الأكفاء في الدين رقم (5090)، ومسلم كتاب النكاح ، باب استحباب نكاح ذات الدين رقم(466)
(3) رواه الترمزي ، كتاب النكاح ، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه رقم ( 1085) وابن ماجه ، كتاب النكاح ، باب الأكفاء رقم (1967).
(1) رواه ابو داوود ، كتاب النكاح ، باب في جامع النكاح رقم ( 2160) وابن ماجه ، كتاب النكاح ، باب ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله رقم ( 1918).
(2) رواه البخاري كتاب الوضوء ، باب التسمية على كل حال رقم (141) . ومسلم كتاب النكاح ، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع رقم (1434).
(3) رواه ابو داوود،كتاب الغسل ، باب إذا التقي الختانان رقم ( 291) ومسلم ، كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء رقم (348).
(4) رواه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام رقم ( 560).
(1) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب لا ينكح الأب وغيره البكر رقم (5136) ومسلم ، كتاب النكاح ، باب استئذان الثيب في النكاح رقم (1491 - 1421).
(2) رواه ابو داوود، كتاب النكاح ، باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينفذها شيئاً رقم (2129) والنسائي ، كتاب النكاح ، باب التزوج على نواة من ذهب رقم (3353) .
(3) رواه مسلم كتاب النكاح ، باب النظر إلى المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها رقم (1424).
(1) رواه البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الحج وفضله رقم (1513) ومسلم ، كتاب الحج ، باب الحج عن العاجز رقم (1334).
(1) تقدم تخريجه ص ( 8)
(2) المسند (5/205)
(1) رواه البخاري ، كتاب الأشربة ، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر رقم (5590).
(1) رواه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب مهر الابغي رقم (5347).(1/66)
(2) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب عذاب المصورين يوم القيامة رقم (5950). ومسلم كتاب اللباس ، باب لا تدخل الملائكة بيتاًفيه كلب ولا صورة رقم (2109)
(1) تقدم تخريجه ص (32).(1/67)
حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً .
أما بعد : فإن من محاسن شريعة الله تعالى مراعاة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه من غير غلو ولا تقصير . فقد أمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ، وبالعدل بعثت الرسل وأنزلت الكتب وقامت أمور الدنيا والآخرة .
والعدل إعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل كل ذي منزلة منزلته ، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الحقوق حتى تعطى أهلها ، ومن ثم حررنا هذه الكلمة في بيان المهم من تلك الحقوق ليقوم العبد بما علم منها بقدر المستطاع ، ويتخلص من ذلك فيما يأتي :
1 ـ حقوق الله تعالى .
2 ـ حقوق النبي صلى الله عليه وسلم .
3 ـ حقوق الوالدين .
4 ـ حقوق الأولاد .
5 ـ حقوق الأقارب .
6 ـ حقوق الزوجين .
7ـ حقوق الولاة والرعية .
8 ـ حقوق الجيران .
9ـ حقوق المسلمين عموما ً .
10ـ حقوق غير المسلمين .
هذه هي الحقوق التي نريد نتناولها بالبحث على وجه الاختصار .
الحق الأول : حق الله تعالى(2/1)
هذا الحق أحق الحقوق وأوجبها وأعظمها ؛ لأنه حق الله تعالى الخالق العظيم المالك المدبر لجميع الأمور،حق الملك الحق المبين الحي القيوم الذي قامت به السماوات والأرض، خلق كل شيء فقدره تقديرا بحكمة بالغة ، حق الله الذي أوجدك من العدم ولم تكن شيئا مذكورا ، حق الله الذي رباك بالنعم وأنت في بطن أمك في ظلمات ثلاث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يوصل إليك غذاءك ومقومات نموك وحياتك ، أدر لك الثديين ، وهداك النجدين ، وسخر لك الأبوين ، أمدك وأعدك .. أمدك بالنعم والعقل والفهم ، وأعدك لقبول ذلك والانتفاع به : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)
فلو حجب عنك فضله طرفة عين لهلكت ، ولو منعك رحمته لما عشت ، فإذا كان هذا فضل الله عليك ورحمته بك فإن حقه عليك أعظم الحقوق ، لأنه حق إيجادك وإعدادك وإمدادك ، إنه لا يريد منك رزقاً ولا إطعاماً : (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه:132)
وإنما يريد منك شيئا واحدا مصلحته عائدة إليك ، يريد منك أن تعبده وحده لا شريك له : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56-58) يريد منك أن تكون عبدا له بكل معاني العبودية ، كما أنه هو ربك بكل معاني الربوبية ، عبداً متذللاً له خاضعا له ، ممتثلا لأمره مجتنبا لنهيه مصدقا بخبره ، لأنك ترى نعمه عليك سابغة تترى ، أفلا تستحي أن تبدل هذه النعم كفراً .(2/2)
لو كان لأحد من الناس عليك فضل لاستحييت أن تبارزه بالمعصية وتجاهره بالمخالفة ، فكيف بربك الذي كل فضل عليك فهو من فضله ؟ وكل ما يندفع عنك من سوء فمن رحمته : ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (النحل:53)
وأن هذا الحق الذي أوجبه الله لنفسه ليسير سهل على من يسر الله له ، ذلك بأن الله لم يجعل فيه حرجا ولا ضيقا ولا مشقةً قال الله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78) إنه عقيدة مثلى وإيمان بالحق وعمل صالح مثمر ، عقيدة قوامها المحبة والتعظيم وثمرتها الإخلاص والمثابرة ، خمس صلوات في اليوم والليلة يكفر الله بهن الخطايا ويرفع بهن الدرجات ويصلح بهن القلوب والأحوال يأتي بهن العبد بحسب استطاعته : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: الآية16) الآية .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين وكان عمران مريضا : ((صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (1) .
زكاة وهي جزء يسير من مالك تدفع في حاجة المسلمين للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وغيرهم من أهل الزكاة .
صيام شهر واحد في السنة ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ، ومن لم يستطع الصيام لعجز دائم يطعم مسكينا عن كل يوم .
حج البيت الحرام مرة واحدة في العمر للمستطيع .(2/3)
هذه هي أصول حق الله تعالى وما عداها فإنما يجب لعارض : كالجهاد في سبيل الله، أو لأسباب توجبه كنصر للمظلوم .
أنظر يا أخي هذا الحق اليسير عملا الكثير أجرا إذا قمت فيه كنت سعيدا في الدنيا والآخرة ونجوت من النار ودخلت الجنة : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: الآية185) .
الحق الثاني : حق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا الحق هو أعظم حقوق المخلوقين ، فلا حق لمخلوق أعظم من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح:8-9) الآية .
ولذلك يجب تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على محبة جميع الناس حتى على النفس والولد والوالد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) (2).
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم توقيره واحترامه وتعظيمه التعظيم اللائق به من غير غلو ولا تقصير فتوقيره في حياته توقير سنته وشخصه الكريم وتوقيره بعد مماته توقير سنته وشرعه القويم ومن رأى توقير الصحابة وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف قام هؤلاء الأجلاء الفضلاء بما يجب عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عروة بن مسعود لقريش حينما أرسلوه ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح في قصة الحديبية ، قال : دخلت على الملوك ، كسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ أحدا يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، كان إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له .(2/4)
هكذا كانوا يعظمونه رضي الله عنهم مع ما جبله الله عليه من الأخلاق الكريمة ولين الجانب وسهولة النفس ، ولو كان فظا غليظاً لانفضوا من حوله .
وإن من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر به من الأمور الماضية والمستقبلة وامتثال ما به أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر ، والإيمان بأن هديه أكمل الهدي وشريعته أكمل الشرائع وأن لا يقدم عليها تشريعاً أو نظاما مهما كان مصدره : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) .
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الدفاع عن شريعته وهديه بما يستطيع الإنسان من قوة بحسب ما تتطلبه الحال من السلاح ، فإذا كان العدو يهاجم بالحجج والشبه فمدافعته بالعلم ودحض حججه وشبهه وبيان فسادها ، وإن كان يهاجم بالسلاح والمدافع فمدافعته بمثل ذلك .
ولا يمكن لأي مؤمن أن يسمع من يهاجم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أو شخصه الكريم ويسكت على ذلك مع قدرته على الدفاع .
الحق الثالث : حقوق الوالدين
لا ينكر أحد فضل الوالدين على أولادهما ، فالوالدان سبب وجود الولد وله عليهم حق كبير فقد ربياه صغيرا وتعبا من أجل راحته وسهرا من أجل منامه ، تحملك أمك في بطنها وتعيش على حساب غذائها وصحتها لمدة تسعة شهور غالبا ، كما أشار الله إلى ذلك : ( حملته أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن) الآية . ثم بعد ذلك حضانة ورضاع لمدة سنتين مع التعب والعناء والصعوبة .(2/5)
والأب كذلك يسعى لعيشك وقوتك من حين الصغر حتى تبلغ أن تقوم بنفسك ، ويسعى بتربيتك وتوجيهك وأنت لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا ، ولذلك أمر الله الولد بوالديه إحساناً وشكرا ، فقال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14) . وقال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:23-24) .(2/6)
إن حق الوالدين عليك أن تبرهما وذلك بالإحسان إليهما قولا وفعلاً بالمال والبدن . تمتثل أمرهما في غير معصية الله وفي غير ما فيه ضرر عليك ، تلين لهما القول وتبسط لهما الوجه وتقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما ، ولا تتضجر منهما عند الكبر والمرض والضعف ، ولا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزلتهما ، سوف تكون أبا ً كما كانا أبوين ، وسوف تبلغ الكبر عند أولادك إن قدر لك البقاء كما بلغاه عندك ، وسوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك ، فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل ، والمجازاة بالمثل ، فمن بر والديه بر به أولاده ، ومن عق والديه عق به أولاده ، والجزاء من جنس العمل فكما تدين تدان ، ولقد جعل الله مرتبة حق الوالدين مرتبة كبيرة عالية حيث جعل حقهما بعد حقه المتضمن لحقه وحق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(النساء: الآية36) الآية . قال تعالى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(لقمان: الآية14) وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : (قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ) (3) . وهذا يدل على أهمية حق الوالدين الذي أضاعه كثير من الناس ، صاروا إلى العقوق والقطيعة فترى الواحد منهم لا يري لأبيه ولا لأمه حقاً ، وربما احتقرهما وازدراهما وترفع عليهما وسيلقى مثل هذا جزاءه العاجل أو الآجل .
الحق الرابع : حق الأولاد(2/7)
الأولاد تشمل البنين والبنات وحقوق الأولاد كثيرة من أهمها التربية وهي : تنمية الدين والأخلاق في نفوسهم حتى يكونوا على جانب كبير من ذلك ، قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ َ) (التحريم:6) الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ) (4) . فالأولاد أمانة في عنق الوالدين وهما مسؤولان عنهم يوم القيامة ، وبتربيتهم التربية الدينية والأخلاقية يخرج الوالدان من تبعة هذه الرعية ، ويصلح الأولاد فيكونوا قرة عين الأبوين في الدنيا والآخرة يقول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21) ألتناهم : أي نقصناهم .: ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوا له ) (5) . فهذا من ثمرة تأديب الولد إذا تربى تربية صالحة أن يكون نافعا لوالديه حتى بعد الممات .
ولقد استهان كثير من الوالدين بهذا الحق فأضاعوا أولادهم ونسوهم ، كأن لا مسئولية لهم عليهم لا يسألون أين ذهبوا ؟ ولا متى جاءوا ؟ ولا من أصدقائهم وأصحابهم ؟ ولا يوجهونهم إلى الخير ولا ينهونهم عن شر . ومن العجب أن هؤلاء حريصون كل الحرص على أموالهم بحفظها وتنميتها والسهر على ما يصلحها مع أنهم ينمون هذا المال ويصلحون لغيرهم غالبا أما الأولاد فليسوا منهم في شيء مع أن المحافظة عليه أولى وأنفع في الدنيا والآخرة . وكما أن الوالد يجب عليه تغذية جسم الولد بالطعام والشراب وكسوة بدنه باللباس كذلك يجب عليه أن يغذي قلبه بالعلم والإيمان ويكسو روحه بلباس التقوى فذلك خير .(2/8)
ومن حقوق الأولاد أن ينفق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقصير ؛ لأن ذلك من واجب أولاده عليه ومن شكر نعمة الله عليه بما أعطاه ممن المال ، وكيف يمنعهم المال في حياته ويبخل عليهم به ليجمعه لهم فيأخذونه قهرا بعد مماته ؟ حتى لو بخل عليهم بما يجب فلهم أن يأخذوا من ماله ما يكفيهم بالمعروف كما أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هند بنت عتبة .
ومن حقوق الأولاد أن لا يفضل أحدا منهم على أحد في العطايا والهبات فلا يعطي بعض أولاده شيئا ويحرم الآخر ، فإن ذلك من الجور والظلم والله لا يحب الظالمين ، ولأن ذلك يؤدي إلى تنفير المحرومين وحدوث العداوة بينهم وبين الموهوبين ، بل ربما تكون العداوة بين المحرومين وبين آبائهم . وبعض الناس يمتاز أحد من أبنائه على الآخرين بالبر والعطف على والديه ، فيخصه والده بالهبة والعطية من أجل ما امتاز به من البر ولكن هذا غير مبرر للتخصيص فالمتميز بالبر لا يجوز أن يعطى عوضا عن بره ، لأن أجر بره على الله ، ولأن تمييز البار بالعطية يوجب أن يعجب ببره ويرى له فضلا وأن ينفر الآخر ويستمر في عقوقه ، ثم إننا لا ندري فقد تتغير الأحوال فينقلب البار عاقا والعاق بارا ً ، لأن القلوب بيد الله يقلّبها كيف يشاء .
وفي الصحيحين صحيح البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن أباه بشير بن سعد وهبه غلاما فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا . قال فأرجعه)(6) .وفي رواية : ( اتقوا واعدلوا بين أولادكم ) (7) . وفي لفظ : (أشهد على هذا غيري ، فإني لا أشهد على جور) (8) . فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيل بعض الأولاد على بعض جورا والجور ظلم وحرام .(2/9)
لكن لو أعطي بعضهم شيئا يحتاجه والثاني لا يحتاجه مثل أن يحتاج أحد الأولاد إلى أدوات مكتبية أو علاج أو زواج فلا بأس أن يخصه بما يحتاج إليه لأن هذا التخصيص من اجل الحاجة فيكون كالنفقة .
ومتى قام الوالد بما يجب عليه للولد من التربية والنفقة فإنه حري أن يوفق الولد للقيام ببر والده ومراعاة الحقوق ، ومتى فرق الوالد بما يجب عليه من ذلك كان جديرا بالعقوبة بأن ينكر الولد حقه ويبتلى بعقوقه جزاء وفاقا وكما تدين تدان .
الحق الخامس : حقوق الأقارب
للقريب الذي يتصل بك في القرابة كالأخ والعم والخال وأولادهم وكل من ينتمي إليك بصلة فله حق هذه القرابة بحسب قربه ، قال تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ )(الإسراء: الآية26) الآية وقال : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى ) (النساء: الآية36) فيجب على كل قريب أن يصل قريبه بالمعروف ببذل الجاه والنفع البدني والنفع المالي ، بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة وهذا ما يقتضيه الشرع والعقل والفطرة .
وقد كثرت النصوص في الحث على صلة الرحم وهو القريب ، والترغيب في ذلك ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال الله : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى . قال : فذلك لك ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22- 23) (9) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )(10) .(2/10)
وكثير من الناس مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه ، تجد الواحد منهم لا يعرف قرابته بصلة ، لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق وتمضي الأيام والشهور من رآهم ولا قام بزيارتهم ولا تودد إليهم بهدية ، ولا دفع عنهم ضرورة أو حاجة ، بل ربما أساء إليهم بالقول أو بالفعل أو بالقول والفعل جميعا ، يصل البعيد ويقطع القريب .
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ويقطعهم إذا قطعوه . وهذا ليس بواصل في الحقيقة وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله وهو حاصل للقريب وغيره ، فإن المكافأة لا تختص بالقريب ، والواصل حقيقة هو : الذي يصل قرابته لله ولا يبالي سواء وصلوه أم لا ، كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) (11) . وسأله رجل فقال : ( يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ّ ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك )(12) . رواه مسلم .
ولو لم يكن في صلة الرحم إلا أن الله يصل الواصل في الدنيا والآخرة فيمده بالرحمة وييسر له الأمور ويفرج عنه الكربات . مع ما في صلة الرحم من تقارب الأسرة وتوادهم وحنو بعضهم على بعض ومعاونة بعضهم بعضا في الشدائد والسرور والبهجة الحاصلة بذلك كما هو مجرب معلوم . وكل هذه الفوائد تنعكس حينما تحل القطيعة ويحصل التباعد .
الحق السادس : حق الزوجين
للزواج آثار هامة ، ومقتضيات كبيرة فهو رابطة بين الزوج وزوجته ، يلزم كل واحد منهما بحقوق للآخر : حقوق بدنية ، وحقوق اجتماعية ، وحقوق مالية .(2/11)
فيجب على الزوجين أن يعاشر كل منهما الآخر بالمعروف ، وأن يبذل الحق الواجب له بكل سماحة وسهولة من غير تكره لبذله ولا مماطلة . قال الله تعالى : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف)(النساء: الآية19) الآية وقال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)(البقرة: الآية228) الآية . كما يجب على المرأة أن تبذل لزوجها ما يجب عليها بذله ، ومتى قام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه للآخر كانت حياتهما سعيدة ودامت العشرة بينهما ، وإن كان الأمر بالعكس حصل الشقاق والنزاع وتنكدت حياة كل منهما .
ولقد جاءت النصوص الكثيرة بالوصية بالمرأة ومراعاة حالها ، وأن كمال الحال من المحال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء ) (13) . وفي رواية : ( إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) (14) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ) (15) . ومعني لا يفرك: لا يبغض .
ففي هذه الأحاديث إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته كيف يعامل الرجل المرأة وأنه ينبغي أن يأخذ منها ما تيسر لأن طبيعتها التي منها خلقت أن لا تكون على الوجه الكامل ، بل لابد فيها من عوج ، ولا يمكن أن يستمتع بها الرجل ، إلا على الطبيعة التي خلقت عليها وفي هذه الأحاديث أنه ينبغي للإنسان أن يقارن بين المحاسن والمساوئ في المرأة فإنه إذا كره منها خلقا فليقارنه بالخلق الثاني الذي يرضاه منها ولا ينظر إليها بمنظار السخط والكراهية وحده .(2/12)
وإن كثيراً من الأزواج يريدون الحالة الكاملة من زوجاتهم ، وهذا شيء غير ممكن وبذلك يقعون في النكد ، ولا يتمكنون من الاستمتاع والمتعة بزوجاتهم ، وربما أدى ذلك إلى الطلاق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ). فينبغي للزوج أن يتساهل ويتغاضى عن كل ما تفعله الزوجة إذا كان لا يخل بالدين أو الشرف .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يقوم بواجب نفقتها من الطعام والشراب والكسوة والمسكن . وتوابع ذلك لقوله تعالى : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(البقرة: الآية233) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وسئل ما حق زوجة أحدنا عليه قال : ( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت )(16) . رواه أبو داؤود .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يعدل بينها وبين جارتها إن كان له زوجة ثانية ، يعدل بينهما في الإنفاق والسكنى والمبيت وكل ما يمكنه العدل فيه ، فإن الميل إلى إحداهما كبيرة من الكبائر ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) (17) . وأما ما لا يمكنه أن يعدل فيه كالمحبة وراحة النفس فإنه لا إثم عليه فيه ؛ لأن هذا بغير استطاعته قال الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )(النساء: الآية129). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) (18) .(2/13)
ولكن لو فضل إحداهما على الأخرى في المبيت برضاها فلا بأس ؛ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سوده حين وهبته سوده لعائشة ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في مرضه الذي مات فيه ؛ أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء ، فكان في بيت عائشة حتى مات . (19)
أما حقوق الزوج على زوجته فهي أعظم من حقوقها عليه لقوله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )(البقرة: الآية228) والرجل قوام على المرأة يقوم بمصالحها وتأديبها وتوجيهها كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )(النساء: الآية34) .
فمن حقوق الزوج على زوجته : أن تطيعه في غير معصية الله وأن تحفظه في سره وماله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) (20) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) (21) .
ومن حقوقه عليها : أن لا تعمل عملا يضيع عليه كمال الاستمتاع حتى لو كان ذلك تطوعا بعبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه ) (22) .
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الزوج عن زوجته من أسباب دخولها الجنة ؛ فروى الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة ) (23).
الحق السابع : حقوق الولاة على الرعية(2/14)
الولاة : هم الذين يتولون أمور المسلمين ، سواء كانت الولاية عامة كالرئيس الأعلى في الدولة أو ولاية خاصة على إدارة معينة أو عمل معين ، وكل هؤلاء لهم حق يجب القيام به على رعيتهم ، ولرعيتهم حق عليهم كذلك .
فحقوق الرعية على الولاة : أن يقوموا بالأمانة التي حملها الله إياها وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة وذلك بإتباع سبيل المؤمنين ، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيها السعادة لهم ولرعيتهم ومن تحت أيديهم وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم والارتباط بينهم والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم ؛ فإن من اتقى الله اتقاه الناس ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء . وأما حقوق الولاة على الرعية فهي : النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم ، وتذكيرهم إذا غفلوا والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق ، وامتثال أمرهم في غير معصية الله ، لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه ، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) الآية .وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )(24). متفق عليه .(2/15)
وقال عبد الله بن عمر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجئ فتنة يرقق بعضها بعضا تجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي و تجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه ؛ هذه . فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاءه آخر ينازعه فأضربوا عنق الآخر )(25) رواه مسلم . وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : (يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله مرة ثانية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ) (26) .
ومن حقوق الولاة على الرعية : مساعدة الرعية لولاتهم من مهماتهم بحيث يكونون عونا لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم ، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب ، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسئولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب .
الحق الثامن : حق الجيران(2/16)
الجار هو : القريب منك في المنزل وله حق كبير عليك فإن كان قريبا منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وإن كان مسلما وليس بقريب في النسب فله حقان ، حق الجوار وحق الإسلام ، وكذلك إن كان قريبا وليس بمسلم فله حقان : حق الجوار وحق القرابة ، وأن كان بعيدا غير مسلم فله حق واحد حق الجوار قال تعالى : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء: الآية36) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) متفق عليه (27). فمن حقوق الجار على جاره : إن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الجيران عنه الله خيرهم لجاره ) (28) .وقال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ) (29) . وقال أيضاً : ( إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) (30) .
ومن الإحسان إلى الجار تقديم الهدايا إليه في المناسبات فإن الهدية تجلب المودة وتزيل العداوة .
ومن حقوق الجار على جاره : أن يكف عنه الأذى القولي والفعلي ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن فقالوا من يا رسول الله ؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) (31). وفي رواية: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)(32) والبوائق الشرور فمن لا يأمن جاره شره فليس بمؤمن ولا يدخل الجنة .
وكثير من الناس الآن لا يهتمون بحق الجوار ولا يأمن جيرانهم من شرورهم ، فتراهم دائما نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق وإيذاء بالقول أو بالفعل وكل هذا مخالف لما أمر الله ورسوله ، وموجب لتفكك المسلمين وتباعد قلوبهم وإسقاط بعضهم حرمة بعض.
الحق التاسع : حقوق المسلمين عموما ً(2/17)
وهذه الحقوق كثيرة جدا : ومنها ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على ست : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فاجبه ، وإذا استنصحك فأنصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه ) (33) . ففي هذا الحديث بيان عدة حقوق بين المسلمين : الحق الأول : السلام .
فالسلام سنة مؤكدة وهو من أسباب تآلف المسلمين وتوادهم ، كما هو مشاهد وكما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )(34) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ويسلم على الصبيان إذا مر بهم .
والسنة أن يسلم الصغير على الكبير ، والقليل على الكثير والراكب على الماشي ولكن إذا لم يقم بالسنة من هو أولى بها فليقم بها الآخر لئلا يضيع السلام ، فإذا لم يسلم الصغير فليسلم الكبير وإذا لم يسلم القليل فليسلم الكثير ليحوز الأجر .
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه : ( ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان : الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار ) . وإذا كان بدء السلام سنة فإن رده فرض كفاية إذا قام به من يكفي أجزأ عن الباقين ، فإذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ عن الباقين قال تعالى : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا )(النساء:86) الآية ؟.
فلا يكفي في رد السلام أن يقول : أهلا وسهلا فقط ، لأنها ليست أحسن منه ولا مثله ؛ فإذا قال : السلام عليكم . فليقل : وعليكم السلام . وإذا قال : أهلا فليقل أهلاً مثلا بمثل . وإن زاد تحية فهو أفضل .(2/18)
الحق الثاني : إذا دعاك فأجبه ، أي إذا دعاك إلى منزله لتناول طعام أو غيره فأجبه، والإجابة إلى الدعوة سنة مؤكدة ، لما فيه من جبر قلب الداعي ، وجلب المودة والإلفة ويستثني من ذلك وليمة العرس ، فإن أجاب فإن الإجابة إلى الدعوة إليها واجبة بشروط معروفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله)(35)
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دعاك فأجبه ) يشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته فإنك مأمور بإجابته فإذا دعاك لتعينه في حمل شيء أو القائه أو نحو ذلك فإنك مأمور بمساعدته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) (36) .
الحق الثالث : إذا استنصحك فأنصحه : يعني إذا جاء إليك يطلب نصيحتك له في شيء فأنصحه لأن هذا من الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) (37) .
|أما إذا لم يأت إليك يطلب النصيحة فإن كان عليه ضرر أو إثم فيما سيقدم عليه وجب عليك أن تنصحه وإن لم يأت إليك ، لأن هذا من إزالة الضرر والمنكر عن المسلمين ، وإن كان لا ضرر عليه فيما سيفعل ولا إثم ولكنك ترى أن غيره أنفع له فإنه لا يجب عليك أن تقول له شيئا إلا أن يستنصحك فتلزم النصيحة .
الحق الرابع : إذا عطس فحمد الله فشمته ، أي قل له : يرحمك الله ، شكرا له على حمده لربه عند العطاس أما إذا عطس ولم يحمد الله فإنه لا حق له ، فلا يشمّت لأنه لما لم يحمد الله كان جزاؤه أن لا يشمت .
وتشميت العاطس إذا حمد فرض ، ويجب عليه الرد فيقول : يهديكم الله ويصلح بالكم ، وإذا استمر معه العطاس وشمته ثلاثا فقل له في الرابعة : عافاك الله . بدلا عن قولك : يرحمك الله .
الحق الخامس : إذا مرض فعده ، وعيادة المريض زيارته وهي حق له على إخوانه المسلمين ، فيجب عليهم القيام بها وكلما كان للمريض حق عليك من قرابة أو صحبة أو جوار كانت عيادته أوكد . .(2/19)
والعيادة بحسب حال المريض وبحسب حال المرض فقد تتطلب الحال كثرة التردد إليه ، وقد تتطلب الحال قلة التردد إليه ، فالأولي مراعاة الأحوال ، والسنة لمن عاد مريضا أن يسأل عن حاله ، ويدعو له ويفتح له باب الفرج والرجاء ، فإن ذلك من أكبر أسباب الصحة والشفاء وينبغي أن يذكره التوبة بأسلوب لا يروعه، فيقول له مثلاً : إنك في مرضك هذا تكتسب خيراً ، فإن المرض يكفر الله الخطايا ويمحو به السيئات ، ولعلك تكسب بانحباسك أجراً كثيراً بكثرة الذكر والاستغفار والدعاء .
الحق السادس : إذا مات فاتبعه : فاتباع الجنائز من حقوق المسلم على أخيه , وفيه أجر كبير ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من تبع الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان ) قيل : ما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين )(38) .
سابعا : ومن حقوق المسلم على المسلم كف الأذى عنه ، فإن في أذية المسلمين إثما عظيماً قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) والغالب أن من تسلط على أخيه بأذية فإن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، بحسب امرئ ٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) (39) .
وحقوق المسلم على المسلم كثيرة ، ولكن يمكن أن يكون المعنى الجامع لها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم ) فإنه متى قام بمقتضى هذه الإخوة اجتهد أن يتحرى له الخير كله وأن يجتنب كل ما يضره .
الحق العاشر : حق غير المسلمين(2/20)
غير المسلمين يشمل جميع الكافرين وهم أصناف أربعة : حربيون ومستأمِنون ـ بكسر الميم ـ ومعاهدون وذميون .
فأما الحربيون فليس لهم علينا حق من حماية أو رعاية وأما المستأمنون فلهم علينا حق الحماية في الوقت والمكان المحددين لتأمينهم لقول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6) الآية .
وأما المعاهدون فلهم علينا الوفاء بعهدهم إلى المدة التي جرى الاتفاق عليها بيننا وبينهم ما داموا مستقيمين لنا على العهد لم ينقصونا شيئا ولم يعينوا أحدا علينا ولم يطعنوا في ديننا لقول الله تعالى : (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) ، وقوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) (التوبة:12) الآية .
وأما الذميون فهم أكثر هؤلاء الأصناف حقوقا ً فيما لهم وعليهم ، وذلك لأنهم يعيشون في بلاد المسلمين وتحت حمايتهم ورعايتهم بالجزية التي يبذلونها .
فيجب على ولي أمر المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض ، وأن يقيم الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه ، ويجب عليه حمايتهم وكف الأذى عنهم .
ويحب أن يتميزوا عن المسلمين في اللباس ، وألا يظهروا شيئا منكرا في الإسلام أو شيئاً من شعائر دينهم كالناقوس والصليب ، وأحكام أهل الذمة موجودة في كتب أهل العلم لا نطيل بها هنا .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
محمد الصالح العثيمين
---(2/21)
(33) أخرجه مسلم كتاب السلام باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162) (5) وأخرجه البخاري بلفظ قريب وفيه (خمس ) بدل ست كتاب الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز (1240).
(34) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان ...(54) .
(35) أخرجه مسلم كتاب النكاح باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (1432) (110)، وأخرجه البخاري بمعناه في كتاب النكاح باب من ترك الدعوة فقد عصي الله ورسوله (5177) .
(362) أخرجه البخاري كتاب المظالم باب نصر المظلوم (2446 ) ومسلم كتاب البر والصلة والأداب باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585) .
(37) أخرجه البخاري تعليقا كتاب الإيمان باب قوله صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة ... ( ص35) ط بيت الأفكار الدولية . ومسلم مرفوعا عن تميم الداري كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة (55).
(38) أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب من انتظر حتى تدفن (1325) ومسلم كتاب الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها ( 945)
(39) أخرجه البخاري مختصرا كتاب الأدب باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر (6065) وفي باب الهجرة (6067) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره (2564) .
---
(27) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب الوصاة بالجار (6014- 6015) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2624-2625) .
(28) أخرجه الترمذى كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في حق الجوار (1944) وأحمد ( 2/167) وعبد بن عبد الحميد ( 342) والبخاري في الأدب المفرد (115) وابن خزيمة (2539) وقال الترمذي حديث حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3270) .
(29) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019) ومسلم كتاب الإيمان باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (48) .(2/22)
(30) أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (142) .
(31) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016).
(32) أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب تحريم إيذاء الجار (46).
---
(24) أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب السمع والطاعة للإمام ( 2955) ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (1839) .
(25) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844).
(26) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق (1846).
---
(13) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته (3331) ومسلم كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء (1468/60) .
(14) عند مسلم في الموضع السابق (1468/59).
(15) أخرجه مسلم كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء (1469).
(16) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في حق المرأة على زوجها (2142) وابن ماجه كتاب النكاح باب حق المرأة على الزوج (1850) وقال الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح ( 2/972) إسناده جسن .
(17) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء (2133) والترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141) وابن ماجه كتاب النكاح باب القسمة بين النساء ( 1969) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6515).
(18) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء (2134) والترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140) وابن ماجه كتاب النكاح باب القسمة بين النساء ( 1971)
(19) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب إذا استأذن الرجل نساءه (5217) ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (2443).(2/23)
(20) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب حق الزوج على المرأة (2140) والترمذي كتاب الرضاع باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159) وقال الترمذي : حديث حسن غريب . وصححه الألباني في صحيح الجامع (5294).
(21) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها (5193) ومسلم كتاب النكاح باب تحريم امتناعها في فراش زوجها ( 1436/ 122).
(22) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه (5195) ومسلم كتاب الزكاة ؛ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) .
(23) أخرجه الترمذي باب الرضاع باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161) وابن ماجه كتاب النكاح باب حق الزوج على المرأة (1854) وقال الترمذي حسن غريب.
---
(9) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من وصل وصله الله (5987) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2554).
(10) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه (6138).
(11) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب ليس الواصل بالمكافئ ( 5991) .
(12) أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2558).
---
(4) أخرجه البخاري كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى والمدن (893) ومسلم كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1827) .
(5) أخرجه مسلم كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .
(6) أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الهبة للولد (2587) ومسلم كتاب الهبات باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623/9).
(7) أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الإشهاد في الهبة (2587) ومسلم في الموضع السابق (1623/13).
(8) أخرجه البخاري كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2650) ومسلم في الموضع السابق (1623/14).
---(2/24)
(3) أخرجه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها (527) ومسلم كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) .
---
(2) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (15) ومسلم كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين ....(44)
---
(1) أخرجه البخاري ، كتاب أبواب تقصير الصلاة ، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1117).(2/25)
رسالة الحجاب
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فلقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم، بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعثه الله لتحقيق عبادة الله تعالى، وذلك بتمام الذل والخضوع له تبارك وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتقديم ذلك على هوى النفس وشهواتها. وبعثه الله متمماً لمكارم الأخلاق داعياً إليها بكل وسيلة، وهادماً لمساوىء الأخلاق محذراً رسالة الحجاب
عنها بكل وسيلة، فجاءت شريعته، صلى الله عليه وسلّم، كاملة من جميع الوجوه. لا تحتاج إلى مخلوق في تكميلها أو تنظيمها، فإنها من لدن حكيم خبير، عليم بما يصلح عباده رحيم بهم.
وإن من مكارم الأخلاق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلّم، ذلك الخلق الكريم، خلق الحياء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلّم من الإيمان، وشعبة من شعبه، ولا ينكر أحد أن من الحياء المأمور به شرعاً وعُرفاً احتشام المرأة وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتن ومواضع الريب. وإن مما لا شك فيه أن احتجابها بتغطية وجهها ومواضع الفتنة منها لهو من أكبر احتشام تفعله وتتحلى به لما فيه من صونها وإبعادها عن الفتنة.
ولقد كان الناس في هذه البلاد المباركة بلاد الوحي والرسالة والحياء والحشمة كانوا على طريق الاستقامة في ذلك فكان النساء يخرجن متحجبات متجلببات بالعباءة أو نحوها بعيدات عن مخالطة الرجال الأجانب، ولا تزال الحال كذلك في كثير من بلدان المملكة ولله الحمد. لكن لما حصل ما حصل من الكلام حول رسالة الحجاب(3/1)
الحجاب ورؤية من لا يفعلونه ولا يرون بأساً بالسفور صار عند بعض الناس شك في الحجاب وتغطية الوجه هل هو واجب أو مستحب؟ أو شيء يتبع العادات والتقاليد ولا يحكم عليه بوجوب ولا استحباب في حد ذاته؟ ولإزالة هذا الشك وجلاء حقيقة الأمر أحببت أن أكتب ما تيسر لبيان حكمه، راجياً من الله تعالى أن يتضح به الحق، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين الذين رأوا الحق حقّاً واتبعوه ورأوا الباطل باطلاً فاجتنبوه فأقول وبالله التوفيق:
اعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه كتاب ربك تعالى، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم، والاعتبار الصحيح، والقياس المطرد:
رسالة الحجاب
أولاً: أدلة القرآن
محمد بن صالح العثيمين
فمن أدلة القرآن:
* الدليل الأول: قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. (النور: 31).
وبيان دلالة هذه الاية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب وجوه:(3/2)
1 ـ أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه؛ لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال. وفي الحديث: «العينان تزنيان وزناهما النظر». إلى أن قال: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأموراً به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
2 ـ قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدفة فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها، إما لأنه من لازم ذلك، أو بالقياس فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة. فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظراً ذا أهمية. ولذلك إذا قالوا فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلباً وخبراً، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه.(3/3)
3 ـ إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب ولذلك قال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لم يقل إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى. فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
4 ـ أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذين لم يبلغ الشهوة ولم يطلع على عورات النساء فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة فيكون ستره واجباً لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال.(3/4)
5 ـ قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
يعني لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفاً من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه.
فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالاً بقدم امرأة لا يدري ما هي وما جمالها؟! لا يدري أشابة هي أم عجوز؟! ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء؟! أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلىء شباباً ونضارة وحسناً وجمالاً وتجميلاً بما يجلب الفتنة ويدعو إلى النظر إليها؟! إن كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء.
* الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. (النور: 60).(3/5)
وجه الدلالة من هذه الاية الكريمة أن الله تعالى نفى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العواجز اللاتي لا يرجون نكاحاً لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن. نفى الله الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة. ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع لثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالباً كالوجه والكفين فالثياب المذكورة المرخص لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابقة التي تستر جميع البدن وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة.
وفي قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أن تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحهم إياها ونحو ذلك، ومن سوى هذه نادرة والنادر لا حكم له.
* الدليل الثالث: قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. (الأحزاب: 59).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة». وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء أنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله رضي الله عنه «ويبدين عيناً واحدة» إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين.(3/6)
والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة. قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الاية: «خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها». وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق.
* الدليل الرابع: قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً }. (الأحزاب: 55).
قال ابن كثير رحمه الله: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. الاية.
فهذه أربعة أدلة من القرآن الكريم تفيد وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، والاية الأولى تضمنت الدلالة عن ذلك من خمسة أوجه.
رسالة الحجاب
ثانياً: أدلة السنة
محمد بن صالح العثيمين
وأما أدلة السنة فمنها:(3/7)
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم». رواه أحمد.
قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلّم، نفى الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر من مخطوبته بشرط أن يكون نظره للخطبة، فدل هذا على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال، وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع به نحو ذلك.
فإن قيل: ليس في الحديث بيان ما ينظر إليه. فقد يكون المراد بذلك نظر الصدر والنحر فالجواب أن كل أحد يعلم أن مقصود الخاطب المريد للجمال إنما هو جمال الوجه وما سواه تبع لا يقصد غالباً. فالخاطب إنما ينظر إلى الوجه لأنه المقصود بالذات لمريد الجمال بلا ريب.
© الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لتلبسها أختها من جلبابها». رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب، وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج. ولذلك ذكرن رضي الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد فبين النبي صلى الله عليه وسلّم، لهن حل هذا الإشكال بأن تلبسها أختها من جلبابها ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب، مع أن الخروج إلى مصلى العيد مشروع مأمور به للرجال والنساء، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به فكيف يرخص لهن في ترك الجلباب لخروج غير مأمور به ولا محتاج إليه؟! بل هو التجول في الأسواق والاختلاط بالرجال والتفرج الذي لا فائدة منه. وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لابد من التستر. والله أعلم.(3/8)
© الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس. وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها. وقد روى نحو هذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. والدلالة في هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون، وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقاً وآداباً، وأكملها إيماناً، وأصلحها عملاً فهم القدوة الذين رضي الله عنهم وعمن اتبعوهم بإحسان، كما قال تعالى: {وَالسَّبِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }. (التوبة: 100). فإذا كانت تلك طريقة نساء الصحابة فكيف يليق بنا أن نحيد عن تلك الطريقة التي في اتباعها بإحسان رضى الله تعالى عمن سلكها واتبعها، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }. (النساء: 115).(3/9)
الثاني: أن عائشة أم المؤمنين وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما وناهيك بهما علماً وفقهاً وبصيرة في دين الله ونصحاً لعباد الله أخبرا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو رأى من النساء ما رأياه لمنعهن من المساجد، وهذا في زمان القرون المفضلة تغيرت الحال عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، إلى حد يقتضي منعهن من المساجد. فكيف بزماننا هذا بعد نحو ثلاثة عشر قرناً وقد اتسع الأمر وقل الحياء وضعف الدين في قلوب كثير من الناس؟!
وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهما فهما ما شهدت به نصوص الشريعة الكاملة من أن كل أمر يترتب عليه محذور فهو محظور.
© الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقالت أم سلمة فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخينه شبراً». قالت إذن تنكشف أقدامهن. قال: «يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه». ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة وأنه أمر معلوم عند نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب. فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.
© الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه». رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وجه الدلالة من هذا الحديث أنه يقتضي أن كشف السيدة وجهها لعبدها جائز مادام في ملكها فإذا خرج منه وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبياً فدل على وجوب احتجاب المرأة عن الرجل الأجنبي.(3/10)
© الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها. فإذا جاوزونا كشفناه»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ففي قولها: «فإذا جاوزونا» تعني الركبان «سدلت إحدانا جلبابها على وجهها» دليل على وجوب ستر الوجه لأن المشروع في الإحرام كشفه، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفاً. وبيان ذلك أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه حال الإحرام، وقد ثبت في الصحيحين وغيرها أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن. فهذه ستة أدلة من السنة على وجوب احتجاب المرأة وتغطية وجهها عن الرجال الأجانب أضف إليها أدلة القرآن الأربعة تكن عشرة أدلة من الكتاب والسنة.
رسالة الحجاب
ثالثاً: أدلة القياس
محمد بن صالح العثيمين
الدليل الحادي عشر: الاعتبار الصحيح والقياس المطرد الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة وهو إقرار المصالح ووسائلها والحث عليها، وإنكار المفاسد ووسائلها والزجر عنها. فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مفسدته فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب. وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحة فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه. وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة وإن قدر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد. فمن مفاسده:
1 ـ الفتنة، فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمل وجهها ويبهيه ويظهره بالمظهر الفاتن. وهذا من أكبر دواعي الشر والفساد.(3/11)
2 ـ زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان ومن مقتضيات فطرتها. فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء. «أحي من العذراء في خدرها»، وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج عن الفطرة التي خلقت عليها.
3 ـ افتتان الرجال بها لاسيما إذا كانت جميلة وحصل منها تملق وضحك ومداعبة في كثير من السافرات وقد قيل «نظرة فسلام، فكلام، فموعد فلقاء».
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. فكم من كلام وضحك وفرح أوجب تعلق قلب الرجل بالمرأة، وقلب المرأة بالرجل فحصل بذلك من الشر ما لا يمكن دفعه نسأل الله السلامة.(3/12)
4 ـ اختلاط النساء بالرجال، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمة، وفي ذلك فتنة كبيرة وفساد عريض. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلّم، ذات يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق. عليكن بحافات الطريق». فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق به من لصوقها. ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.(3/13)
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، فقال في الفتاوى المطبوعة أخيراً ص 110 ج 2 من الفقه و22 من المجموع: (وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، ويجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوات المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره. ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } (حجب النساء عن الرجال). ثم قال: (والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، ثم يقال: فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين) إلى أن قال: (وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب). وفي ص 117، 118 من الجزء المذكور (وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم) وفي ص 152 من هذا الجزء قال: (وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما الفرق بين الرجال والنساء. الثاني: احتجاب النساء). هذا كلام شيخ الإسلام، وأما كلام غيره من فقهاء أصحاب الإمام أحمد فأذكر المذهب عند المتأخرين قال في المنتهى (ويحرم نظر خصي(3/14)
ومجبوب إلى أجنبية) وفي موضع آخر من الإقناع (ولا يجوز النظر إلى الحرة الأجنبية قصداً ويحرم نظر شعرها) وقال في متن الدليل: (والنظر ثمانية أقسام...).
الأول: نظر الرجل البالغ ولو مجبوباً للحرة البالغة الأجنبية لغير حاجة فلا يجوز له نظر شيء منها حتى شعرها المتصل أ.هـ
وأما كلام الشافعية فقالوا إن كان النظر لشهوة أو خيفت الفتنة به فحرام قطعاً بلا خلاف، وإن كان النظر بلا شهوة ولا خوف فتنة ففيه قولان حكاهما في شرح الإقناع لهم وقال: (الصحيح يحرم كما في المنهاج كأصله ووجه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه وبأن النظر مظنة للفتنة ومحرك للشهوة).
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }. واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال ا.هـ. كلامه. وفي نيل الأوطار وشرح المنتقى (ذكر اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لاسيما عند كثرة الفساق).
رسالة الحجاب
رابعاً: أدلة المبيحين لكشف الوجه
محمد بن صالح العثيمين
ولا أعلم لمن أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية دليلاً من الكتاب والسنة سوى ما يأتي:(3/15)
الأول: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هي وجهها وكفاها والخاتم». قال الأعمش عن سعيد بن جبير عنه. وتفسير الصحابي حجة كما تقدم.
الثاني: ما رواه أبو داود في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا». وأشار إلى وجهه وكفيه.
الثالث: ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخاه الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلّم، في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم، يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر، ففي هذا دليل على أن هذه المرأة كاشفة وجهها.(3/16)
الرابع: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم، بالناس صلاة العيد ثم وعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: «يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم». فقامت امرأة من سطة النساء سعفاء الخدين. الحديث، ولولا أن وجهها مكشوفاً ما عرف أنها سعفاء الخدين.
هذا ما أعرفه من الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة.
رسالة الحجاب
خامساً: الجواب عن هذه الأدلة
محمد بن صالح العثيمين
ولكن هذه الأدلة لا تعارض ما سبق من أدلة وجوب ستره وذلك لوجهين:
أحدهما: أن أدلة وجوب ستره ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين. وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه. فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره له. ولذلك نقول إن مع الناقل زيادة علم. وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي والمثبت مقدم على النافي. وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتاً ودلالة.
الثاني: إننا إذا تأملنا أدلة جواز كشفه وجدناها لا تكافىء أدلة المنع ويتضح ذلك بالجواب عن كل واحد منها بما يلي:
1 ـ عن تفسير ابن عباس ثلاثة أوجه:
أحدهما: محتمل أن مراده أول الأمرين قبل نزول آية الحجاب كما ذكره شيخ الإسلام ونقلنا كلامه آنفاً.
الثاني: يحتمل أن مراده الزينة التي نهى عن إبدائها كما ذكره ابن كثير في تفسيره ويؤيد هذين الاحتمالين تفسيره رضي الله عنه لقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. كما سبق في الدليل الثالث من أدلة القرآن.(3/17)
الثالث: إذا لم نسلم أن مراده أحد هذين الاحتمالين فإن تفسيره لا يكون حجة يجب قبولها إلا إذا لم يعارضه صحابي آخر. فإن عارضه صحابي آخر أخذ بما ترجحه الأدلة الأخرى، وابن عباس رضي الله عنهما قد عارض تفسيره ابن مسعود رضي الله عنه حيث فسر قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. بالرداء والثياب وما لابد من ظهوره فوجب طلب الترجيح والعمل بما كان راجحاً في تفسيريهما.
2 ـ وعن حديث عائشة بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: الانقطاع بين عائشة وخالد بن دريك الذي رواه عنها كما أعله بذلك أبو داود نفسه حيث قال: خالد بن دريك لم يسمع من عائشة وكذلك أعله أبو حاتم الرازي.(3/18)
الثاني: أن في إسناده سعيد بن بشير النصري نزيل دمشق تركه ابن مهدي، وضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي وعلى هذا فالحديث ضعيف لا يقاوم ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الحجاب. وأيضاً فإن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم، سبع وعشرون سنة. فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلّم، وعليها ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين والله أعلم، ثم على تقدير الصحة يحمل على ما قبل الحجاب لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه.
3 ـ وعن حديث ابن عباس بأنه لا دليل فيه على جواز النظر إلى الأجنبية لأن النبي صلى الله عليه وسلّم، لم يقر الفضل على ذلك بل حرف وجهه إلى الشق الاخر ولذلك ذكر النووي في شرح صحيح مسلم بأن من فوائد هذا الحديث تحريم نظر الأجنبية، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في فوائد هذا الحديث: وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلّم، إذا غطى وجه الفضل كما في الرواية. فإن قيل: فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، المرأة بتغطية وجهها فالجواب أن الظاهر أنها كانت محرمة والمشروع في حقها أن لا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب، أو يقال لعل النبي صلى الله عليه وسلّم، أمرها بعد ذلك. فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر. إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم. وروى مسلم وأبو داود عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عن نظرة الفجاءة فقال: «اصرف بصرك» أو قال: فأمرني أن أصرف بصري.(3/19)
4 ـ وعن حديث جابر بأن لم يذكر متى كان ذلك فإما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو يكون قبل نزول آية الحجاب فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة، وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة.
واعلم أننا إنما بسطنا الكلام في ذلك لحاجة الناس إلى معرفة الحكم في هذه المسألة الاجتماعية الكبيرة التي تناولها كثير ممن يريدون السفور. فلم يعطوها حقها من البحث والنظر، مع أن الواجب على كل باحث يتحرى العدل والإنصاف وأن لا يتكلم قبل أن يتعلم. وأن يقف بين أدلة الخلاف موقف الحاكم من الخصمين فينظر بعين العدل، ويحكم بطريق العلم، فلا يرجح أحد الطرفين بلا مرجح، بل ينظر في الأدلة من جميع النواحي، ولا يحمله اعتقاد أحد القولين على المبالغة والغلو في إثبات حججه والتقصير والإهمال لأدلة خصمه. ولذلك قال العلماء: «ينبغي أن يستدل قبل أن يعتقد» ليكون اعتقاده تابعاً للدليل لا متبوعاً له؛ لأن من اعتقد قبل أن يستدل قد يحمله اعتقاده على رد النصوص المخالفة لاعتقاده أو تحريفها إذا لم يمكنه ردها. ولقد رأينا ورأى غيرنا ضرر استتباع الاستدلال للاعتقاد حيث حمل صاحبه على تصحيح أحاديث ضعيفة. أو تحميل نصوص صحيحة ما لا تتحمله من الدلالة تثبيتاً لقوله واحتجاجاً له. فلقد قرأت مقالاً لكاتب حول عدم وجود الحجاب احتج بحديث عائشة الذي رواه أبو داود في قصة دخول أسماء بنت أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله لها: «إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا». وأشار إلى وجهه وكفيه وذكر هذا الكاتب أنه حديث صحيح متفق عليه، وأن العلماء متفقون على صحته، والأمر ليس كذلك أيضاً وكيف يتفقون على صحته وأبو داود راويه أعله بالإرسال، وأحد رواته ضعفه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث، ولكن التعصب والجهل يحمل صاحبه على البلاء والهلاك.(3/20)
قال ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما يلقى الردى بمذلة وهوانثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبانوتحل بالانصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان وليحذر الكاتب والمؤلف من التقصير في طلب الأدلة وتمحيصها والتسرع إلى القول بلا علم فيكون ممن قال الله فيهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ }. (الأنعام: 144).
أو يجمع بين التقصير في طلب الدليل والتكذيب بما قام عليه الدليل فيكون منه شر على شر ويدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَفِرِينَ }. (الزمر: 32).
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقّاً ويوفقنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه ويهدينا صراطه المستقيم إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه أجمعين.(3/21)
الزواج
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه و نستغفره و نتوب اليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و اشهد أن محمدا عبده و رسوله صلي الله على اله وأصحابه و سلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإنني مسرور بما تيسر لي من المشاركة في الموسم الثقافي للمحاضرات في كليتي الشريعة و اللغة العربية بالقصيم لما ارجوه من الفائدة التي تحصل لي و لمن سمع محاضراتي أو قرأها إن شاء الله تعالى و اسأل الله تعالى أن يجعل عملنا جميعا خالصا لوجهه موافقا لمرضاته.
و لكنني أحب أن أقدم كلمة قبل الدخول في صميم المحاضرة تكون مناسبة – إن شاء الله – و هي أنكم تعرفون أيها الاخوة.. و أيها المشايخ إن الإسلام في عصرنا هذا محارب من جهات متعددة.
1- من جهة الكفار
2-من جهة الأخلاق
3-من جهة العقائد.
و انه كلما شنت الغارات وقويت فانه يجب أن يكون لها مضاد يقابلها بل يكون اعلي منها فإذا لم يكن ذلك فان معناه القضاء على الإسلام.
وهذا أمر في أعناق أهل العلم و أهل الدين، يجب عليهم أن يبذلوا الجهد ما استطاعوا بان يمنعوا هذه التيارات التي جاءتنا من كل جانب و التي أصبح الإنسان فيها بل الحليم حيران لا يدري كيف يتصرف ؟
ولقد كنا نسمع كثيرا إن أعداء المسلمين يقولون: انه يجب التركيز على – المملكة العربية السعودية – لكونها مهد الإسلام و قبلة المسلمين و قدوتهم، ولهذا تجدهم يشنون الغارات الشرسة و المكايد المحكمة و يكرسون جهودهم لحرب هذه المملكة و إذا لم يقم أهل هذه المملكة من علماء ومن مخلصين بإيصاد الباب أما هؤلاء و سوف يجوسون خلال الديار و سوف تجدون أمورا تنكرونها غاية الإنكار.
و الذي يجب علينا أمام هذه التيارات أيها الاخوة هو:
1- توحيد الدعوة
2-توحيد الجهد
3-الا نجعل بيننا مكانا لموطئ قدم من الأعداء(4/1)
و لكني أقول بالحقيقة أننا نعمل على ذلك كل منا كأنما يعمل وحده لا نجد اثنين الا ما شاء الله على هدف واحد أو بعبارة اصح على طريق واحد و إن كان الهدف متحدا.
لذلك أرى أن من واجب علماء هذه المملكة سواء في الرياض أو في الحجاز أو في القصيم أو في غيرها من مناطق المملكة إن يجتمعوا على كلمة واحدة و أن يدرسوا الموضوع بجد لأنه خطير فيما أرى، يدرسوه دراسة وافية لا فيما يتصل بوسائل الإعلام و لا فيما يتصل بوسائل الثقافة و مناهج المدارس و مقرراتها و لا فيما يكون بين عامة الناس من الانحراف و الانصراف عن أصول دينهم و فروعه.
و نحن نجد كثيرا من طلاب العلم مشغولون بغير ما هم مكلفون به بطلب الدنيا و الإقبال عليها و الالتفاف حولها و هذا في الحقيقة يضعف دعوتهم إلي الخير، يضعف قبولها أمام العامة أيضا فان لسلوك العالم خطرا بالغا في تأثيره على من حوله فإذا كان العامة لا يجدون من أهل العلم الا التكالب على الدنيا كما يتكالب عليها السوقة من عامة الناس فإنهم لن يثقون أبدا بما عندهم من الإرشادات و العلوم.
كذلك أيها الاخوة بالنسبة لولاة الأمور يجب علينا مناصحتهم))1. النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة )) ثلاثة مرات قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: (( لله و لكتابه و لرسوله و لائمة المسلمين و عامتهم ))1 .
فالواجب علينا مناصحة ولاة الأمور و الا نعتمد على رجل أو رجلين أو ثلاثة أو أربعة، يناصحون ولاة الأمور، فولاة الأمور إذا كثر ناصحوهم و عرفوا الحق من كل جانب و جاءتهم النصيحة من كل وجه فإنهم لا بد أن يلتفتوا إلي ذلك و أن يسلكوا المنهج الذي نسال الله تعالى أن يوفقهم له، وهو منهج النبي صلي الله عليه وسلم ظاهرا و باطنا.(4/2)
كذلك بالنسبة للعامة نجد أكثر المساجد – مع الأسف – غالب أئمتها جهال ولا يرشدون و لا ينصحون لا يتكلمون و كان الناس قبل وقتنا الحاضر و قبل أن تفتح عليهم الدنيا، يأخذ إمامهم و أن لم يكن من طلبة العلم بعض الكتب المعتمدة، فيقرؤها على المصلين و ينتفعون بها، أما اليوم فغالب المساجد لا يقرا فيها شئ و لا يوجه الإمام جماعته إلي ما ينفعهم و لهذا تجد عزوف العامة عن المسائل الدينية كثيرا جدا و هذا كله بتقصير من أهل العلم و بتقصير ممن يهمهم هذا الأمر، فعلينا أيها الاخوة إن نجتمع و أن نوحد جهودنا و أن نناصح ولاة أمورنا و أن نبذل الجهد في نصح عامة المسلمين في المساجد و الطرقات و غيرها ما استطعنا إلي ذلك سبيلا.
و شئ آخر مهم جدا وهو العزلة بين الشباب و الشيوخ هذه العزلة التي أصبح الشباب فيها حيران لا يهتدون سبيلا كل هذا في الحقيقة من تقصير كبار السن وعدم التفات بعضهم إلي الشباب مطلقا حتى إنهم لا يصغون لهم وان قالوا رشدا و هذا من الخطأ فالواجب علينا أن نكون مع هؤلاء الشباب وان ننظر ما هم عليه و أن نلاحظ ما حولهم مما يؤثر عليهم و ما السبب الذي أوجب لهم هذا العزوف و الانصراف عن الإقبال على دينهم ؟ حتى إذا عرفنا الداء أمكننا أن نقوم بإعطاء الدواء.
و أما كوننا إذا سمعنا ما لا ينبغي عن بعضهم اعرضنا عن الجميع ثم نبذناهم و جعلنا نسبهم في كل مكان و لا نبالي بشأنهم و ننظر إليهم بعين الاحتقار فهذا مما يوجب الشر العظيم من بعد الشباب عن الشيوخ و عن أهل العلم و الدين حتى تقودهم الشياطين إلي ما تريد.
فعلينا أيها الاخوة أن نراعي هذه المسالة الخطير وان نلقي لها بالا و نحسب لها حسابا.(4/3)
و على المدرسين خصوصا: أن يجتهدوا في تثقيف الطلبة تثقيفا دينيا و أن يرغبوهم فيما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وان يبصروهم بالدين على حقيقته و أن يكشفوا لهم الأحكام الشرعية كشفا واضحا مع بيان أسرار الشريعة وحكمتها لأني أري أن التعليم و لا سيما الجامعي فيه بعض النقص و ذلك أن بعض المدرسين يلقي الدرس جافا أي إنهم ( لا يبينون للطلبة دليل حكم المسالة و لا حكمته) و واقع المؤمن أن ينقاد إلي أمر الله و رسوله سواء علم الحكمة أم لا. قال تعالى (( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضي الله و رسوله أمرا أم يكون لهم الخيرة من أمرهم) ( الأحزاب- 36) ولكنه إذا عرف الحكمة ازداد اطمئنانا و تطبيقا ورغبة في الشريعة و لهذا أحث إخواني المدرسين على أن يلقوا العلم إلي الطلبة دسما حيا محركا للقلوب مهذبا للنفوس ينشرح به الصدر و تطمئن اليه النفس.
ـــــــــــــ
(1)رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان انه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون – رقم ( 55)
و الآن ارجع إلي صميم المحاضرة:
لقد كان موضوع محاضرتي هذه(( عقد النكاح و آثاره و ما يترتب عليه و غير ذلك من بعض ما يتعلق به)).
و اخترت هذا الموضوع لأهميته و جهل كثير من الناس بكثير من أحكامه، ولما يتصل به من المشكلات الاجتماعية التي يتمنى كل مخلص و ناصح لدينه و أمته أن ييسر حلها، فان المشكلات كلما طرقت و ألقيت الأضواء عليها تيسر حلها و إذا تناساها الناس و أغمضوا عيونهم بقيت كما هي أو زادت غموضا و إشكالا.
وقد عقدت لهذا الموضوع عشرة فصول:
الفصل الاول: في معنى النكاح لغة وشرعا
الفصل الثاني: في حكم النكاح
الفصل الثالث: في شروط النكاح
الفصل الرابع: في أوصاف المرأة التي ينبغي نكاحها
الفصل الخامس: في المحرمات في النكاح
الفصل السادس: في العدد المباح في النكاح
الفصل السابع: في الحكمة من النكاح(4/4)
الفصل الثامن: في الآثار المترتبة على النكاح و منها:
1- المهر. 2- النفقة. 3- الصلة بين الأصهار. 4- المحرمية. 5-الميراث
الفصل التاسع: في حكم الطلاق و ما يراعى فيه.
الفصل العاشر: فيما يترتب على الطلاق
الزواج
الزواج
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الأول
في معنى النكاح لغة و شرعا
النكاح في اللغة: يكون بمعنى عقد التزويج و يكون بمعنى وطء الزوجة قال أبو علي القالي: (فرقت العرب فرقا لطيفا يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الجماع و الوطء)).
ومعنى النكاح في الشرع: (( تعاقد بين رجل و امرأة يقصد به استمتاع كل منهما بالآخر و تكوين أسرة صالحة و مجتمع سليم)).
ومن هنا نأخذ انه لا يقصد بعقد النكاح مجرد الاستمتاع بل يقصد به مع ذلك معنى آخر هو ( تكوين الأسرة الصالحة و المجتمعات السليمة لكن قد يغلب احد القصدين على الآخر لاعتبارات معينة بحسب أحوال الشخص.
الفصل الثاني- في حكم النكاح:
النكاح باعتبار ذاته مشروع مؤكد في حق كل ذي شهوة قادر عليه. وهو من سنن المرسلين، قال الله تعالى: (( و لقد أرسلنا رسولا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية)) ( الرعد-38)
وقد تزوج النبي صلي الله عليه وسلم و قال: (( أني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني))1.
و لذلك قال العلماء:(( إن التزويج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة)) لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة و الآثار الحميدة التي سنبين بعضها فيما بعد إن شاء الله.
و قد يكون النكاح واجبا في بعض الأحيان كما إذا كان الرجل قوي الشهوة ويخاف على
ــــــــــــ
(1)رواه البخاري كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح – رقم (5063) و مسلم في كتاب نفسه من المحرم النكاح باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج – رقم( 1401).(4/5)
إن لم يتزوج فهنا يجب عليه أن يتزوج لاعفاف نفسه وكفها عن الحرام ويقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء)(1)
الفصل الثالث
في شروط النكاح
من حسن التنظيم الإسلامي ودقته في شرع الأحكام إن جعل للعقود شروطا بها و تتحدد فيها صلاحيتها للنفوذ و الاستمرار فكل عقد من العقود له شروط لا يتم الا بها و هذا دليل واضح على أحكام الشريعة و إتقانها وأنها جاءت من لدن حكيم خبير يعلم ما يصلح للخلق و يشرع لهم ما يصلح به دينهم و دنياهم حتى لا تكون الأمور فوضى لا حدود لها و من بين تلك العقود عقد النكاح فعقد النكاح له شروط نذكر منها ما يأتي وهو أهمها: رضا الزوجين: فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد و لا إجبار المرأة على نكاح من لا تريد. قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)( النساء:19) وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (( لا تنكح الأيم حتى تستامر و لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله و كيف إذنها ؟ قال: إن تسكت)(2)فنهى النبي صلي الله عليه وسلم عن تزويج المرأة بدون رضاها سواء أكانت بكرا أم ثيبا الا أن الثيت لا بد من نطقها بالرضا و أما البكر فيكفي في ذلك سكوتها لأنها تستحي من التصريح بالرضا.
و إذا امتنعت عن الزواج فلا يجوز أن يجبرها عليه احد و لو كان أباها، لقول النبي صلي الله عليه وسلم: (( و البكر يستأذنها أبوها ))( 3) و لا أثم على الأب إذا لم يزوجها في
هذه الحال لأنها هي التي امتنعت و لكن عليه أن يحافظ عليها و يصونها و إذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا و قال وليها: تزوجي الآخر، زوجت بمن تريد هي إذا كان كفئا لها أما إذا كان غير كفء فلوليها أن يمنعها من زواجها به و لا أثم عليه في هذه الحال .(4/6)
2. الولي فلا يصح النكاح بدون ولي،لقول النبي صلي الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بولي"(4) فلو زوجت المرأة نفسها فنكاحها باطل ، سواء باشرت العقد بنفسها أم وكلت فيه.
والولي :هو البالغ العاقل الرشيد من عصباتها، مثل الأب، و الجد من قبل الأب، و الابن و ابن الابن و إن نزل و الأخ الشقيق و الأخ من الأب و العم الشقيق و العم من الأب و أبنائهم الأقرب فالأقرب.ولا ولاية للأخوة من الأم و لا لأبنائهم و لا أبي الأم و الأخوال لأنهم غير عصبة و إذا كان لا بد في النكاح من الولي فانه يجب على الولي اختيار الأكفأ الأمثل إذا تعدد الخطاب فان خطبها واحد فقط وهو كفء و رضيت فانه يجب عليه أن يزوجها به وهنا نقف قليلا لنعرف مدى المسئولية الكبيرة التي يتحملها الولي بالنسبة إلي من ولاه الله عليها فهي أمانة عنده يجب عليه رعايتها ووضعها في محلها و لا يحل له احتكارها لأغراضه الشخصية أو تزويجها بغير كفئها من اجل طمع فيما يدفع اليه، فان هذا من الخيانة وقد قال الله تعالى: (( يأيها الذين امنوا لا تخونوا الله و الرسول و لا تخونوا أماناتكم و انتم تعلمون))- ( الأنفال: 27).وقال تعالى: (( إن الله لا يحب كل خوان كفور))- ( الحج:38) و قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته))-(5). و ترى بعض الناس تخطب منه ابنته يخطبها كفء ثم يرده و يرد آخر و آخر و من كان كذلك فان ولايته تسقط و يزوجها غيره من الأولياء الأقرب فالأقرب.
(1)رواه البخاري كتاب النكاح باب من لم يستطع الباءة فليصم رقم( 5066) ومسلم كتاب النكاح باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج رقم(1400)
(2) رواه البخاري كتاب النكاح باب لا ينكح الأب و غيره البكر و الثيب الا برضاها رقم( 5136) و مسلم كتاب نكاح باب استئذان الثيب في النكاح رقم( 1419)
(3) رواه مسلم كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق و البكر بالسكوت رقم( 1421)(4/7)
(4)رواه أبو داود كتاب النكاح باب في الولي رقم( 2085) و الترمذي، كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي رقم ( 1101) و ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي رقم( 1881)—
(5)رواه البخاري كتاب النكاح باب (( قو أنفسكم و اهليكم نارا))رقم( 5188)و مسلم كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل رقم(1829)
الفصل الرابع
في صفة المرأة التي ينبغي نكاحها
النكاح يراد للاستمتاع و تكوين أسرة صالحة و مجتمع سليم كما قلنا فيما سبق. و على هذا فالمراة التي ينبغي نكاحها هي التي يتحقق فيها استكمال هذين الغرضين و هي التي اتصفت بالجمال الحسي و المعنوي.
فالجمال الحسي: كمال الخلقة لان المرأة كلما كانت جميلة المنظر عذبة المنطق قرت العين بالنظر إليها و أصغت الإذن إلي منطقها فينفتح إليها القلب و ينشرح إليها الصدر و تسكن إليها النفس و يتحقق فيها قوله تعالى: (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة))-( الروم-21).
الجمال المعنوي: كمال الدين و الخلق فكلما كانت المرأة أدين و أكمل خلقا كانت أحب إلي النفس و اسلم عاقبة فالمراة ذات الدين قائمة بأمر الله حافظة لحقوق زوجها و فراشه و أولاده و ماله، معينه له على طاعة الله تعالى، إن ذكرته و أن تثاقل نشطته و أن غضب أرضته و المرأة الأدبية تتودد إلي زوجها و تحترمه و لا تتأخر عن شئ يحب أن تتقدم فيه و لا تتقدم في شئ يحب أن تتأخر فيه و لقد سئل النبي صلي الله عليه وسلم أي النساء خير؟ قال: (( التي تسره إذا نظر و تطيعه إذا أمر و لا تخالفه في نفسها و لا ماله بما يكره))-(1) وقال صلي الله عليه وسلم: (( تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم الأنبياء، أو قال: الأمم))-(2)فان أمكن تحصيل امرأة يتحقق فيها جمال المنظر و جمال الباطن فهذا هو الكمال و السعادة بتوفيق الله.
(1) رواه احمد و النسائي كتاب النكاح باب أي النساء خير رقم( 3231)(4/8)
(2)رواه أبو داود كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم( 2050)و النسائي كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم( 3227).
الفصل الخامس
في المحرمات بالنكاح
قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تتعدوها))-(1).
و من جملة الحدود الشرعية التي حد الله تعالى حدودها النكاح حلا و حرمة، حيث حرم على الرجل نكاح نساء معينة لقرابة أو رضاعة أو مصاهرة أو غير ذلك – و المحرمات من النساء على قسمين:
قسم محرمات دائما و قسم محرمات إلي اجل.
1-محرمات دائما و هن ثلاثة أصناف:
أولا: المحرمات بالنسب: وهن سبع ذكرهن الله تعالى بقوله في سورة النساء:(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم وعماتكم وخالاتكم و بنات الأخ وبنات الأخت)(النساء- 23) فالأمهات: يدخل فيهم:الأم، و الجدات سواء كن من جهة الأب أم من جهة الأم.
2-و البنات: يدخل فيهن: بنات الصلب و بنات الأبناء و بنات البنات ( وان نزلن).
3-و الأخوات: يدخل فيهن الأخوات الشقيقات و الأخوات من الأب و الأخوات من الأم
4- و العمات: يدخل فيهن: عمات الرجل و عمات أبيه و عمات أجداده و عمات أمه و عمات جداته.
5- و الخالات: يدخل فيهن: خالات الرجل و خالات أبيه وخالات أجداده و خالات أمه و خالات جداته.
6- و بنات الأخ: يدخل فيهن بنات الأخ الشقيق و بنات الأخ من الأب و بنات الأخ من الأم و بنات أبنائهم و بنات بناتهم( وان نزلن)
7-و بنات الأخت: يدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة و بنات الأخت من الأب و بنات الأخت من الأم و بنات أبنائهن و بنات بناتهن( وان نزلن).
ثانيا: المحرمات بالرضا ع: ( وهن نظير المحرمات بالنسب ) قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) (2) و لكن الرضاع المحرم لا بد له من شروط منها:(4/9)
1- أن يكون خمس رضعات فأكثر فلو رضع الطفل من المرأة أربع رضعات لم تكن أما له. لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان فيما انزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلي الله عليه وسلم و هي فيما يقرا من القران))- (3)
2- يكون الرضاع قبل الفطام أي يشترط أن تكون الرضعات الخمس كلها قبل الفطام فان كانت بعد الفطام أو بعضها قبل الفطام و بعضها بعد الفطام لم تكن المرأة أما له و إذا تمت شروط الرضاع صار الطفل ولدا للمرأة و أولادها أخوة له سواء كانوا قبله أو بعده و صار أولاد صاحب اللبن أخوة له أيضا سواء كانوا من المرأة التي أرضعت الطفل أم من غيرها. وهنا يجب أن نعرف بان أقارب الطفل المرضع سوى ذريته لا علاقة لهم بالرضا ع و لا يؤثر فيهم الرضاع شيئا فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أمه من الرضاع أو أخته من الرضاع أما ذرية الطفل فإنهم يكونون أولادا للمرضعة و صاحب اللبن كما كان أبوهم من الرضاع كذلك.
(1) رواه الدارقطني في سننه ( 4/184)
(2) رواه البخاري كتاب الشهادات باب الشهادة على الأنساب و الرضاعة رقم( 2645، 2646) و مسلم كتاب الرضاع ما يحرم من الولادة رقم( 1447، 1444).
(3) رواه مسلم كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات رقم( 1452)
3- ثالثا: المحرمات بالصهر:
زوجات الآباء و الأجداد و إن علوا سواء من قبل الأب أم من قبل الأم، لقوله تعالى: (( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)) ( النساء- 22) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت حراما على أبنائه و أبناء أبنائه و أبناء بناته و إن نزلوا سواء دخل بها أم لم يدخل بها.
1- زوجات الأبناء وان نزلوا،لقوله تعالى:(و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)( النساء-23) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت حراما على أبيه و أجداده و إن علوا سواء من قبل الأب أم من قبل الأم بمجرد العقد عليها و إن لم يدخل بها.(4/10)
2- أم الزوجة وجدتها و إن علون، لقوله تعالى:(و أمهات نسائكم)( النساء- 23) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت أمها و جدتها حراما عليه بمجرد العقد و إن لم يدخل بها سواء كن جدتها من قبل الأب أم من قبل الأم.
3- بنات الزوجة، و بنات أبنائها و بنات بناتها وان نزلن وهن الربائب و فروعهن لكن بشرط أن يطأ الزوجة فلو حصل الفراق قبل الوطء لم تحرم الربائب و فروعهن، لقوله تعالى: (( و ربائبكم الآتي في حجوركم من نسائكم الآتي دخلتم بهن فان لم كونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم))-( النساء-23) فمتى تزوج الرجل امرأة ووطئها صارت بناتها و بنات أبنائها و بنات بناتها و إن نزلن حراما عليه سواء كن من زوج قبله أم من زوج بعده أما إن حصل الفراق بينهما قبل الوطء فان الربائب و فروعهن لا يحرمن عليه.
2- المحرمات إلي اجل
وهن أصناف منها:
1- أخت الزوجة و عمتها و خالتها حتى يفارق الزوجة فرقة موت أو فرقة حياة و تنقضي عدتها لقوله تعالى: (( و أن تجمعوا بين الأختين))-( النساء- 23) و قول النبي صلي الله عليه وسلم: (( لا يجمع بين المرأة و عمتها و لا بين المرأة و خالتها))-(1)
2-متعددة الغير: أي إذا كانت المرأة في عدة لغيره فانه لا يجوز له نكاحها حتى تنتهي عدتها و كذلك لا يجوز له أن يخطبها إذا كانت في العدة حتى تنتهي عدتها.
3-المحرمة بحج أو عمرة: لا يجوز عقد النكاح عليها حتى تحل من إحرامها. وهناك محرمات أخرى تركنا الكلام فيهن خوفا من التطويل.
و أما الحيض: فلا يوجب تحريم العقد على المرأة فيعقد عليها وان كانت حائضا لكن لا توطأ حتى تطهر و تغتسل.
(1) رواه البخاري كتاب النكاح باب لا تنكح المرأة على عمتها رقم( 5109) و مسلم كتاب النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة و عمتها رقم(1408) – متفق عليه.
الفصل السادس
في العدد المباح في النكاح(4/11)
لما كان إطلاق العنان للشخص في تزويج ما شاء من العدد أمرا يؤدي إلي الفوضى و الظلم و عدم القدرة على القيام بحقوق الزوجات و كان حصر الرجل على زوجة واحدة قد يفضي إلي الشر و قضاء الشهوة بطريقة أخرى محرمة أباح الشارع للناس التعدد إلي أربعة فقط لأنه العدد الذي يتمكن به الرجل من تحقيق العدل و القيام بحق الزوجة و يسد حاجته إن احتاج إلي أكثر من واحدة. قال الله تعالى: (( فأنكحوا ما طاب لكم النساء مثنى و ثلاث و رباع فان خفتم الا تعدلوا فواحدة))- ( النساء- 3) و في عهد النبي صلي الله عليه وسلم اسلم غيلان الثقفي و عنده عشرة نساء فأمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا و يفارق البواقي، وقال قيس بن الحارث: أسلمت و عندي ثمانية نسوة فأتيت النبي صلي الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: (( اختر منهن أربعا))(1).
فوائد النساء إلي هذا الحد:
1- انه قد يكون ضروريا في بعض الأحيان مثل: أن تكون الزوجة كبيرة السن أو مريضة لو اقتصر عليها لم يكن له منها عفاف و تكون ذات أولاد منه فان امسكها خاف على نفسه المشقة بترك النكاح أو ربما يخاف الزنا وإن طلقها فرق بينها وبين أولادها فلا تزول هذه المشكلة الا بحل التعدد.
2- إن النكاح سبب للصلة و الارتباط بين الناس و قد جعله الله تعالى قسيما للنسب فقال تعالى:(( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا))- ( الفرقان-54) فتعدد الزوجات يربط بين اسر كثيرة و يصل بعضهم ببعض وهذا أحد الأسباب التي حملت النبي صلي الله عليه وسلم أن يتزوج بعدد من النساء
3- يترتب عليه صون عدد كبير من النساء و القيام بحاجتهن من النفقة و المسكن وكثرة الأولاد و النسل و هذا أمر مطلوب للشارع.
4- من الرجال من يكون حاد الشهوة لا تكفيه الواحدة و هي تقي نزيه و يخاف الزنا ولكن يريد أن يقضي وطرا في التمتع الحلال فكان من رحمة الله تعالى بالخلق أن أباح لهم التعدد على وجه سليم.(4/12)
(1) رواه أبو داود كتاب الطلاق باب فيمن اسلم و عنده نساء أكثر من أربع رقم( 2241)
الفصل السابع - في حكمة النكاح
قبل أن نبدأ الكلام في خصوص تلك المسالة يجب علينا أن نعلم علما يقينا بان الأحكام الشرعية كلها حكم و كلها في موضعها وليس فيها شئ من العبث و السفه ذلك لأنها من لدن حكيم خبير و لكم هل الحكم كلها للخلق؟ إن الآدمي محدود في علمه وتفكيره وعقله فلا يمكن أن يعلم كل شئ و لا أن يلهم معرفة كل شئ قال الله تعالى: ((وما أوتيتم من العلم الا قليلا)( الإسراء-85) إذن: فالأحكام الشرعية التي شرعها الله لعباده يجب علينا الرضا بها سواء علمنا حكمتها أم لم نعلم لأننا إذا لم نعلم حكمتها فليس معناه انه لا حكمة فيها في الواقع إنما معناه قصور عقولنا و إفهامنا عن إدراك الحكمة.
من الحكم في النكاح: 1-حفظ كل من الزوجين و صيانته قال النبي صلي الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج))-(1)
2-حفظ المجتمع من الشر و تحلل الأخلاق فلولا النكاح لانتشرت الرذائل بين الرجال و النساء.
3-استمتاع كل من الزوجين بالآخر بما يجب له من حقوق و عشرة فالرجل يكفل المرأة و يقوم بنفقاتها من طعام و شراب و مسكن و لباس بالمعروف قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف)) (2) و المرأة تكفل الرجل أيضا بالقيام بما يلزمها في البيت من رعاية و إصلاح قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( ... و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيتها)) (3)
4- أحكام الصلة بين الأسر و القبائل فكم من أسرتين متباعدتين لا تعرف إحداهما الأخرى و بالزواج يحصل التقارب بينهما و الاتصال و لهذا جعل الله الصهر قسيما للنسب كما تقدم.(4/13)
5- بقاء النوع الإنساني على وجه سليم فان كان النكاح سبب للنسل الذي به بقاء الإنسان قال الله تعالى: (( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)) ( النساء-1) و لو لا النكاح للزم احد أمرين أما: 1- فناء الإنسان 2- أو وجود إنسان ناشئ من سفاح لا يعرف له اصل و لا يقوم على أخلاق- و يطيب لي أن استطرد هنا قليلا لحكم تحديد النسل فأقول: تحديد النسل بعدد معين خلاف مطلوب الشارع فان النبي صلي الله عليه وسلم أمر بتزويج المرأة الولود أي كثيرة الولادة وعلل ذلك بأنه مكاثر بنا الأمم أو الأنبياء و قال أهل الفقه: ينبغي أن يتزوج المرأة المعروفة بكثرة الولادة أما بنفسها إن كانت تزوجت من قبل و عرفت بكثرة الولادة أو بأقاربها كأمها و أختها إذا كانت لم تتزوج من قبل.
ثم ما الداعي لتحديد النسل؟ هل هو الخوف من ضيق الرزق أو الخوف من تعب التربية ؟ إن كان الاول فهذا سوء ظن بالله تعالى لان الله سبحانه وتعالى إذا خلق خلقا فلا بد أن يرزقه. قال الله تعالى: (( و ما من دابة في الأرض الا على الله رزقها)) (هود-6) وقال تعالى:(وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم وهو السميع البصير)( العنكبوت 60) وقال تعالى في الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر: (( نحن نرزقهم وإياكم)) ( الإسراء 31) و إن كان الداعي لتحديد النسل هو الخوف من تعب التربية فهذا خطأ فكم من عدد قليل من الأولاد اتعبوا أتعابا كبيرا في التربية و كم من عدد سهلت تربيتهم بأكثر ممن هم دونهم بكثير. فالمدار في التربية صعوبة و سهولة على تيسير الله تعالى و كلما اتقى العبد ربه و تمشى على الطرق الشرعية سهل الله أمره قال الله تعالى: (( و من يتقى الله يجعل له من أمره يسرا)) ( الطلاق 4).
(1) سبق تخريجه ص 14(4/14)
(2) رواه احمد ( 5/73) وأبو داود كتاب المناسك باب صفة حجة النبي صلي الله عليه و سلم رقم( 1905) و ابن ماجه كتاب المناسك باب حجة رسول الله صلي الله عليه وسلم رقم(3074)
(3) سبق تخريجه ص 18
و إذا تبين أن تحديد النسل خلاف المشروع فهل تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من ذلك؟ الجواب: لا ليس تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من تحديد النسل في شئ و اعني بتنظيم النسل أن يستعمل الزوجان أو احدهما طريقة تمنع من الحمل في وقت دون وقت فهذا جائز إذا رضي به من الزوج و الزوجة مثل: أن تكون الزوجة ضعيفة و الحمل يزيد ها ضعفا أو مرضا وهي كثيرة الحمل فتستعمل برضا الزوج هذه الحبوب التي تمنع من الحمل مدة معينة فلا باس بذلك وقد كان الصحابة يعزلون في عهد النبي صلي الله عليه وسلم و لم ينهوا عن ذلك و العزل من أسباب امتناع الحمل من هذا الوطء.
الفصل الثامن
في الآثار المترتبة على النكاح
يترتب على النكاح آثار كثيرة منها ما يلي:(4/15)
أولا: وجوب المهر: و المهر: هو الصداق المسمى باللغة العامة – ( جهازا- فالمهر ثابت للمرأة بالنكاح سواء شرط أم سكت عنه وهو المال المدفوع للزوجة بسبب عقد النكاح فان كان معينا فهو ما عين سواء كان قليلا أم كثيرا و إن كان غير معين بان عقد عليها و لم يدفع جهازا و لم يسموا شيئا فعلى الزوج أن يدفع إليها مهر الثمن وهو ما جرت العادة أن يدفع لمثلها – وكما يكون المهر مالا أي عينا يكون كذلك منفعة فلقد زوج النبي صلي الله عليه وسلم امرأة برجل على أن يعلمها شيئا من القران (1) و المشروع في المهر أن يكون قليلا فكلما قل و تيسر فهو أفضل إقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم و تحصيلا للبركة فان أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة و روى مسلم في صحيحه أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم: أني تزوجت امرأة.قال: (( كم أصدقتها ؟ قال: أربع أواق ( يعني مائة و ستين درهما ) فقال النبي صلي الله عليه وسلم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك و لكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه)) (1) وقال عمر رضي الله عنه: (( لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي صلي الله عليه وسلم، ما اصدق النبي صلي الله عليه وسلم امرأة من نسائه و لا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، و الأوقية أربعون درهما)) و لقد كان تصاعد المهور في هذه السنين له أثره السيئ في منع كثير من الناس من النكاح رجالا و نساء و صار الرجل يمضي السنوات الكثيرة قبل أن يحصل المهر، فنتج عن ذلك مفاسد منها:(4/16)
1-تعطل كثير من الرجال و النساء عن النكاح 2- إن أهل المرأة صاروا ينظرون إلي المهر قلة و كثرة فالمهر عند كثير منهم هو ما يستفيدونه من الرجل لامرأته فإذا كان كثيرا زوجوا و لم ينظروا للعواقب و إن كان قليلا ردوا الزوج و إن كان مرضيا في دينه و خلقه 3- انه إذا ساءت العلاقة بين الزوج و الزوجة و كان المهر بهذا القدر الباهظ فانه لا تسمح نفسه غالبا بمفارقتها بإحسان بل يؤذيها و يتعبها لعلها ترد شيئا مما دفع إليها و لو كان المهر قليلا لهان عليه فراقها. ولو أن الناس اقتصدوا في المهر و تعاونوا في ذلك و بدا الأعيان بتنفيذ هذا الأمر لحصل للمجتمع خير كثير و راحة كبيرة و تحصين كثير من الرجال و النساء و لكن مع الأسف أن الناس صاروا يتبارون في السبق إلي تصاعد المهور و زيادتها فكل سنة يضيفون أشياء لم تكن معروفة من قبل ولا ندري إلي أي غاية ينتهون؟ و لقد كان بعض الناس و خصوصا البادية يسلكون مسلكا فيه بعض السهولة وهو تأجيل شئ من المهر مثل: أن يزوجه بمهر قدره كذا نصفه حال و نصفه مؤجل إلي سنة أو اقل أو أكثر و هذا يخفف عن الزوج بعض التخفيف.
(1) رواه البخاري كتاب النكاح باب تزويج المعسر رقم( 5087) و مسلم كتاب النكاح باب الصداق و جواز كونه تعليم قران رقم( 1425)
(1) رواه مسلم كتاب النكاح باب ندب النظر إلي المرأة رقم( 1424)
ثانيا: النفقة: فعلى الزوج أن ينفق على زوجته بالمعروف طعاما وشرابا و كسوة و سكني فان بخل بشئ من الواجب فهو آثم و لها أن تأخذ من ماله بقدر كفايتها أو تستدين عليه و يلزمه الوفاء –(4/17)
ومن النفقة: الوليمة وهي ما يصنعه الزوج من الطعام أيام الزواج و يدعو الناس اليه و هي سنة مأمور بها لان النبي صلي الله عليه وسلم فعلها و أمر بها و لكن يجب في الوليمة أن يتجنب فيها الإسراف المحرم و ينبغي أن تكون بقدر حال الزوج أما ما يفعله بعض الناس من الإسراف فيها كمية و كيفية فانه لا ينبغي و يترتب عليه صرف أموال كثيرة بلا فائدة.
ثالثا: الصلة بين الزوج زوجته و بين أهليهما: فقد جعل الله بين الزوج و زوجته مودة و رحمة و هذا الاتصال يوجب الحقوق المترتبة عليه عرفا فانه كلما حصلت الصلة وجب من الحقوق بقدرها.
رابعا: المحرمية: فان الزوج يكون محرما لأمهات زوجته و جداتها و إن علون و يكون محرما لبناتها و بنات أبنائها و بنات بناتها و إن نزلن إذا كان دخل بأمهن الزوجة و كذلك الزوجة تكون من محارم أباء الزوج و إن علوا و أبنائه و إن نزلوا.
خامسا: الإرث: فمتى عقد شخص على امرأة بنكاح صحيح فانه يجري التوارث بينهما لقوله تعالى: (( ولكم نصف ما ترك أزواجكم)) إلي قوله: (( توصون بها أو دين)) ( النساء 12) و لا فرق بين أن يدخل و يخلو بها أم لا.
الفصل التاسع
في حكم الطلاق و ما يراعى فيه
الطلاق فراق الزوجة باللفظ ا الكتابة أو الإشارة.
والأصل في الطلاق انه مكروه إذ انه يحصل به تفويت مصالح النكاح السابقة، وتشتيت الأسرة، وفي الحديث: ( ابغض الحلال عند الله الطلاق ).
ولكن لما كان الطلاق لا بد منه أحيانا أما لتأذي المرأة ببقائها مع الرجل، أو لتأذي الرجل منها، أو لغير ذلك من المقاصد، كان من رحمة الله أن أباحه لعباده، ولم يحجر عليهم بالتضييق والمشقة.
فإذا كره الرجل زوجته ولم يتحمل الصبر فلا باس أن يطلقها، ولكن يجب أن يراعي ما يأتي:
1- الا يطلقها وهي حائض:(4/18)
فان طلقها وهي حائض فقد عصي الله ورسوله، وارتكب محرما، ويجب عليه حينئذ أن يراجع ويبقيها حتى تطهر، ثم يطلقها إن شاء، والأولي أن يتركها حتى تحيض المرة الثانية، فإذا طهرت فان شاء امسكها، وان شاء طلقها.
2- الا يطلقها في طهر جامعها فيه الا أن يتبين حملها:
فإذا هم رجل بطلاق امرأته، وقد جامعها بعد حيضتها، فانه لا يطلقها حتى تحيض ثم تطهر، ولو طالت المدة، ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها. الا إذا تبين حملها، أو كانت حاملا، فلا باس أن يطلقها.قال الله تعالى:(يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق:1].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة).
3- الا يطلقها أكثر من واحدة:
فلا يقول: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فطلاق الثلاث محرم لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال في رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا: ( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، الا اقتله؟)(1)
وان كثير من الناس يجهلون أحكام الطلاق، فأي وقت طرأ عليهم الطلاق طلقوا من غير مبالاة بوقت أو عدد.
والواجب علي العبد أن يتقيد بحدود الله، ولا يتعداها. فقد قال الله تعالى: ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)[ الطلاق:1] وقال: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) [ البقرة:229]
الفصل العاشر
فيما يترتب علي الطلاق
لما كان الطلاق فراق الزوجة، فانه يترتب علي هذا الفراق أحكام كثيرة منها:
1- وجوب العدة إذا كان الزوج قد دخل بزوجته أو خلا بها.
أما أن طلقها قبل أن يدخل بها ويخلو بها، فلا عدة له عليها، لقوله تعالى: ( يأيها الذين امنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها)[ الأحزاب:49].(4/19)
والعدة ثلاث حيض إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة اشهر إن لم تكن من ذوات الحيض، ووضع الحمل إن كانت حاملا
2- تحريم الزوجة علي الزوج إذا كان قد طلقها قبل ذلك الطلاق مرتين:
يعني: لو طلق زوجته ثم راجعها في العدة، أو تزوجها بعد العدة، ثم طلقها مرة ثانية وراجعها في العدة، أو تزوج بعدها، ثم طلقها المرة الثالثة، فإنها لا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، ويجامعها فيه، ثم يرغب عنها ويطلقها، فإنها بعد ذلك تحل للأول، لقوله تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف)[ البقرة: 229]. إلي أن قال: ( فان طلقها) يعني المرة الثالثة( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فان طلقها) يعني الثاني ( فلا جناح عليهما) يعني الزوج الاول وزوجته التي طلقها ( إن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون)[ البقرة: 230].
وإنما حرم الله المرأة علي من طلقها ثلاث مرات حتى تنكح زوجا غيره، لان الناس كانوا في أول الإسلام يطلقون ويراجعون بأي عدد كان، فغضب رجل علي امرأته فقال لها: والله لا أؤويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فذكرت المرأة ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى( الطلاق مرتان). ووقت العدة ثلاث رحمة بالنساء من أزواجهن.
أيها الاخوة:
لعلنا أتينا بجمل كثيرة من أحكام النكاح، متحرين بذلك أن تكون بالقدر المناسب من غير تطويل ممل ولا تقصير مخل.. واسأل الله تعالى أن ينفع بها، وان يجعل العمل خالصا لله موافقا لمرضاة الله، وان يجعل من هذه الأمة جيلا عالما بأحكام الله، حافظا لحدود الله، قائما بأمر الله، هاديا لعباد الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
ربنا أتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.. وصلي الله علي نبينا محمد واله وصحبه وسلم.(4/20)
ــــــ
(1)رواه النسائي، كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ رقم(3401).(4/21)
من مشكلات الشباب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما ً .
وبعد : فإنه ليسرني أن أقدم إلي إخوتي مشكلة من أهم المشاكل لا في المجتمع الإسلامي فحسب ، بل في كل مجتمع ، وهي مشكلة الشباب في هذا العصر فإن الشباب يرد على قلوبهم من المشاكل الفكرية والنفسية ما يجعلهم أحياناً في قلق من الحياة ، محاولين جهدهم التخلص من ذلك القلق ، وكشف تلك الغمة ، ولن يتحقق ذلك إلا بالدين والأخلاق الذين بهما قوام المجتمع ، وصلاح الدنيا والآخرة ، وبهما تحل الخيرات والبركات ، وتزول الشرور والآفات .
إنّ البلاد لا تعمر إلا بساكنيها ، والدين لا يقوم إلا بأهله ، ومتى قاموا به نصرهم الله مهما كان أعداؤهم ، قال الله تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7) )وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:8) .
وإذا كان الدين لا يقوم إلا بأهله فإن علينا أهل الإسلام وحملة لوائه أن نقوم أنفسنا أولاً لنكون أهلاً للقيادة والهداية ، ومحلاً للتوفيق والسداد . علينا أن نتعلم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يؤهلنا للقول والعمل والتوجيه والدعوة ، لنحمل السلاح الماضي والنور المبين لكل من يريد الحق وعلى كل من يريد الباطل .
ثم علينا أن نطبق ما علمناه من ذلك تطبيقاً عملياً صادراً عن إيمان ويقين وإخلاص ومتابعة(5/1)
وأن لا يكون شأننا الكلام فقط ، فإن الكلام إذا لم يصدقه العمل فلن يتجاوز الأثير الذي يحمله ولن يكون فيه إلا النتيجة العكسية )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3) .
وإن الأجدر بنا أن ننطلق من البداية فنتأمل في شبابنا وما هم عليه من أفكار وأعمال كي ننمي منها ما كان صالحاً ونصلح منها ما كان فاسداً ، لأن الشباب اليوم هم رجال الغد ، وهم الأصل الذي عليه مستقبل الأمة ، ولذلك جاءت النصوص الشرعية بالحث على حسن رعايتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير والصلاح ، فإذا صلح الشباب وهم أصل الأمة الذي ينبني عليه مستقبلها وكان صلاحه مبنياً علي دعائم قوية من الدين والأخلاق ، فسيكون للأمة مستقبل زاهر ، ولشيوخنا خلفاء صالحون إن شاء الله .
نظرة في الشباب
إذا نظرنا نظرة فاحصة في الشباب أمكننا أن نحكم من حيث العموم بأن الشباب ثلاثة أقسام :
شباب مستقيم ، وشباب منحرف ، وشباب متحير بين بين ..
أما الشباب المستقيم فهو : شباب مؤمن بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، فهو مؤمن بدينه إيمان محب له ، ومقتنع به ، ومغتبط به ، يرى الظفر به غنيمة ، والحرمان منه خسراناً مبيناً .
شباب يعبد الله مخلصاً له الدين وحده لا شريك له . شباب يتبع رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله وعمله ، فعلا وتركاً ، لأنه يؤمن بأنه رسول الله وأنه الإمام المتبوع .
شباب يقيم الصلاة على الوجه الأكمل بقدر ما يستطيع ، لأنه يؤمن بما في الصلاة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ، الفردية والاجتماعية ، وما يترتب علي إضاعتها عواقب مخيمة للأفراد والشعوب .
شباب يؤتي الزكاة إلى مستحقيها كاملة من غير نقص ، لأنه يؤمن بما فيها من سد حاجة الإسلام والمسلمين مما اقتضى أن تكون به أحد أركان الإسلام الخمسة .(5/2)
شباب يصوم شهر رمضان فيمتنع عن شهواته ولذاته إن صيفاً وإن شتاءُ ؛ لأنه يؤمن بأن ذلك في مرضاة الله فيقدم ما يرضاه ربه على ما تهواه نفسه .
شباب يؤدي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام ؛ لأنه يحب الله فيحب بيته والوصول إلى أماكن رحمته ومغفرته ، ومشاركة إخوانه المسلمين القادمين إلى تلك الأماكن .
شباب يؤمن بالله خالقه وخالق السموات والأرض ، لأنه يرى من آيات الله سبحانه ما لا يدع مجالا للشك والتردد في وجود الله . فيرى في هذا الكون الواسع البديع في شكله ونظامه ما يدل دلالة قاطعة على وجود مبدعه وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته ؛ لأن هذا الكون لا يمكن أن يوجد نفسه بنفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة لأنه قبل الوجود معدوم والمعدوم لا يكون موجداً لأنه هو غير موجود .
ولا يمكن أن يوجد صدفة ، لأنه ذو نظام بديع متناسق لا يتغير ولا يختلف عن السنة التي قدر له أن يسير عليها ) فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر: الآية43) ) مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك:3-4) .
وإذا كان هذا الكون على نظام بديع متناسق امتنع أن يكون وجوده صدفة ؛ لأن الموجود صدفة سيكون انتظامه صدفة أيضاً ، فيكون قابلاً للتغير والاضطراب في أي لحظة
شباب يؤمن بملائكة الله ؛ لأن الله أخبر عنهم في كتابه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم في السنة . وفي الكتاب والسنة من أوصافهم وعباداتهم وأعمالهم التي يقومون بها لمصلحة الخلق ما يدل دلالة قاطعة على وجودهم حقيقة .
شباب يؤمن بكتب الله التي أنزلها على رسله هداية إلى الصراط المستقيم ؛ لأن العقل البشري لا يمكنه إدراك التفاصيل في مصالح العبادات والمعاملات .(5/3)
شباب يؤمن بأنبياء الله ورسله الذين بعثهم الله إلى الخلق يدعونهم إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . وأول الرسل نوح وآخرهم محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام .
شباب يؤمن باليوم الآخر الذي يبعث الناس فيه أحياء بعد الموت ليجازوا بأعمالهم )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) لأن ذلك نتيجة الدنيا كلها فما فائدة الحياة وما حكمتها إذا لم يكن للخلق يوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
شباب يؤمن بالقدر خيره وشره ، فيؤمن بأن كل شيء بقضاء الله وقدره مع إيمانه بالأسباب وآثارها ، وأن السعادة لها أسباب والشقاء له أسباب .
شباب يدين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فيعامل المسلمين بالصراحة والبيان ، كما يحب أن يعاملوه بهما ، فلا خداع ولا غش ولا التواء ولا كتمان .
شباب يدعوا إلى الله على بصيرةحسب الخطة التي بينها الله في كتابه : )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: الآية125) .
شباب يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؛ لأنه يؤمن أن في ذلك سعادة الشعوب والأمة )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: الآية110) .
شباب يسعى في تغيير المنكر على النحو الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ))1 .
شباب يقول الصدق ويقبل الصدق ، لأن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً .(5/4)
شباب يحب الخير لعامة المسلمين ؛ لأنه يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) . 2
شباب يشعر بالمسئوولية أمام الله و أمام أمته ووطنه ، فيسعى دائماً لما فيه مصلحة الدين والأمة والوطن بعيداً عن الأنانية ، ومراعاة مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الآخرين .
شباب يجاهد لله وبالله ، يجاهد بالإخلاص له فلا رياء ولا سمعة ويجاهد بالله مستعيناً به غير معجب بنفسه ولا معتمد على حوله وقوته ، ويجاهد في الله في إطار دينه من غير غلو ولا تقصير ، يجاهد بلسانه ويده وماله حسبما تتطلبه حاجة الإسلام والمسلمين .
شباب ذو خلق ودين ، فهو مهذب الأخلاق ، مستقيم الدين ، لين الجانب رحب الصدر، كريم النفس ، طيب القلب صبور متحمل لكنه حازم لا يضيع الفرصة ولا يغلب العاطفة على جانب العقل والإصلاح .
شباب متزن منظم يعمل بحكمة وصمت مع إتقان في العمل وجودة لا يضيع فرصة من عمره إلا شغلها بما هو نافع له ولأمته .
ومع أن هذا الشباب محافظ على دينه وأخلاقه وسلوكه فهو كذلك بعيد كل البعد عما يناقض ذلك من الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان والأخلاق السافلة والمعاملة السيئة .
فهذا القسم من الشباب مفخرة الأمة ورمز حياتها وسعادتها ودينها ، وهو الشباب الذي نرجو الله من فضله أن يصلح به ما فسد من أحوال الإسلام والمسلمين وينير به الطريق للسالكين ، وهو الشباب الذي ينال السعادة في الدنيا والآخرة .
أما القسم الثاني من الشباب :
فشباب منحرف في عقيدته متهور في سلوكه ، مغرور بنفسه ، منغمر في رذائله ، لا يقبل الحق من غيره ولا يمتنع عن باطل فى نفسه ، أناني في تصرفه ، كأنما خلق للدنيا وخلقت الدنيا له وحده . شباب عنيد لا يلين للحق ولا يقلع عن الباطل .(5/5)
شباب لا يبالي بما أضاع من حقوق الله ، ولا من حقوق الآدميين . شباب فوضوي فاقد الاتزان في تفكيره ، وفاقد الاتزان في سلوكه وفي جميع تصرفاته ، شباب معجب برأيه كأنما يجري الحق على لسانه ، فهو عند نفسه معصوم من الزلل ، أما غيره فمعرض للخطأ والزلل مادام مخالفاً لما يراه .
شباب ناكب عن الصراط المستقيم في دينه ، وناكب عن التقاليد الاجتماعية في سلوكه ، ولكنه قد زين له سوء عمله فرآه حسناً فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
فهو شؤم على نفسه ، ونكبة على مجتمعه ، يجر أمته إلى أسفل السافلين ويحول بينها وبين العزة والكرامة ، جرثومة وبيئة قاتلة صعبة العلاج ، إلا أن يشاء الله ، والله على كل شيء قدير .
والقسم الثالث من الشباب :
شباب حائر متردد بين مفترق الطرق عرف الحق وأطمأن به وعاش في مجتمع محافظ ، إلا أنه أنفتحت عليه أبواب الشر من كل جانب . تشكيك في العقيدة ، وانحراف في السلوك ، وفساد في العمل وخروج عن المعروف من التقاليد ، وتيارات من الباطل متنوعة ، فهو في دوامة فكرية ونفسية ، وقف أمام هذه التيارات حيران لا يدري هل الحق فيما حدث وجد من هذه الأفكار والمبادئ والمسالك ، أو فيما كان عليه سلفه الماضي ومجتمعه المحافظ ، فصار متردداً قلقاً يرجح هذا تارة وذاك أخرى .
فهذا القسم من الشباب سلبي في حياته ، يحتاج إلى جاذب قوي يقوده إلى حظيرة الحق وطريق الخير ، وما أيسر ذلك إذا هيأ الله له داعيه خير ذا حكمة وعلم ونيه حسنة .
وهذا القسم يكثر في شباب نالوا بعضاً من الثقافة الإسلامية لكنهم درسوا كثيراً من العلوم الكونية الأخرى التي تعارض الدين في الواقع أو في ظنهم فوقفوا حيارى أمام الثقافتين
ويمكنهم التخلص من هذه الحيرة بالتركيز على الثقافة الإسلامية وتلقيها من منبعها الأصلي الكتاب والسنة على أيدي العلماء المخلصين وما ذلك عليهم بعزيز .
انحراف الشباب ومشاكله(5/6)
إن أسباب انحراف ومشاكل الشباب كثيرة متنوعة ، وذلك أن الإنسان في مرحلة الشباب يكون على جانب كبير من التطور الجسمي والفكري والعقلي ، لأنها مرحلة النمو فيحصل له تطورات سريعة في التحول والتقلب ، فمن ثم كان من الضروري في هذه المرحلة أن تهيأ له أسباب ضبط النفس وكبح جماحها والقيادة الحكيمة التي توجهه إلى الصراط المستقيم .
وأهم أسباب الإنحراف ما يأتي :
1- الفراغ .. فالفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية ، إذ النفس لا بد لها من حركة وعمل ، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلد الفكر وثخن العقل وضعفت حركة النفس واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب ، وربما حدث له إرادات سيئة شريرة ينفس بها عن الكبت الذي أصابه من الفراغ . وعلاج هذه المشكلة : أن يسعى الشاب في تحصيل عمل يناسبه من قراءة أو تجارة أو كتابة او غيرها مما يحول بينه وبين هذا الفراغ ويستوجب ان يكون عضواً سليماً عاملاً في مجتمعه لنفسه ولغيره .
2- الجفاء والبعد بين الشباب وكبار السن من أهليهم ومن غيرهم ، فترى بعض الكبار يشاهدون الانحراف من شبابهم أوغيرهم فيقفون حيارى عاجزين عن تقويمهم آيسين من صلاحهم ، فينتج من ذلك بغض هؤلاء الشباب والنفور منهم وعدم المبالاة بأي حال من أحوالهم صلحوا أم فسدوا ، وربما حكموا بذلك على جميع الشباب وصار لديهم عقدة نفسية على كل شاب ، فيتفكك بذلك المجتمع وينظر كل من الشباب والكبار إلى صاحبه نظرة الازدراء والاحتقار وهذا من أكبر الأخطار التي تحدق بالمجتمعات .
وعلاج هذه المشكلة : أن يحاول كل من الشباب والكبار إزالة هذه الجفوة والتباعد بينهم ، وأن يعتقد الجميع بأن المجتمع بشبابه وكباره كالجسد الواحد إذا فسد منه عضو أدى ذلك إلى فساد الكل .(5/7)
كما أن على الكبار أن يشعروا بالمسئولية الملقاة على عواتقهم نحو شبابهم ، وأن يستبعدوا اليأس الجاثم على نفوسهم من صلاح الشباب فإن الله قادر على كل شئ ، فكم من ضال هداه الله فكان مشعل هداية وداعية إصلاح .
وعلى الشباب أن يضمروا لكبارهم الإكرام واحترام الآراء وقبول التوجيه أنهم أدركوا من التجارب وواقع الحياة ما لم يدركه هؤلاء فإذا التقت حكمة الكبار بقوة الشباب نال المجتمع سعادته بإذن الله .
3- الاتصال بقوم منحرفين ومصاحبتهم وهذا يؤثر كثيراً على الشباب في عقله وتفكيره وسلوكه ، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ))3 وقال صلى الله عليه وسلم : (( مثل الجليس السوء كنافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه رائحة كريهة .4
وعلاج ذلك : أن يختار الشاب لصحبته من كان ذا خير وصلاح وعقل ، من أجل أن يكتسب من خيره وصلاحه وعقله ، فيزن الناس قبل مصاحبتهم بالبحث عن أحوالهم وسمعتهم، فإن كانوا ذوي خلق فاضل ودين مستقيم وسمعة طيبة فهم ضالته المنشودة وغنيمته المحرزة فليستمسك بهم وإلا فالواجب الحذر منهم والبعد عنهم وأن لا يغتر بمعسول القول وحسن المظهر ، فإن ذلك خداع وتضليل يسلكه أصحاب الشر ليجذبوا بسطاء الناس لعلهم يكثرون سوادهم ويغطون بذلك ما فسد من أحوالهم وما أحسن قول الشاعر :
أبل الرجال إذا اردت إخائهم وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى فيه اليدين قرين عين فاشدد
4- قراءة بعض الكتب الهدامة من رسائل وصحف ومجلات وغيرها مما يشكك المرء في دينه وعقيدته ، ويجره إلى هاوية التفسخ من الأخلاق الفاضلة فيقع في الكفر والرذيلة إذا لم يكن عند الشباب منعة قوية من الثقافة الدينية العميقة والفكر الثاقب كي يتمكن بذلك من التفريق بين الحق والباطل وبين النافع والضار .(5/8)
فقراة مثل هذه الكتب تقلب الشباب رأساً على عقب ، لأنها تصادف أرضاً خصبة في عقلية الشاب وتفكيره بدون مانع فتقوى عروقها ويصلب عودها وتنعكس في مرآة عقله وحياته .
وعلاج هذه المشكلة : أن يبتعد عن قراءة هذه الكتب إلى قراءة كتب أخرى تغرس في قلبه محبة الله ورسوله ، وتحقيق الإيمان والعمل الصالح ، وليصبر على ذلك ؛ فإن النفس سوف تعالجه أشد المعالجة على قراءة ما كان يألفه من قبل ، وتملله وتضجره من قراءة الكتب الأخرى النافعة بمنزلة من يصارع نفسه على أن تقوم بطاعة الله فتأبى إلا أن تشتغل باللهو والزور .
وأهم الكتب النافعة كتاب الله ، وما كان عليه أهل العلم من التفسير بالمأثور الصحيح والمعقول الصريح ، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ما كتبه أهل العلم استنباطاً من هذين المصدرين أو تفقهاً .
5 – ظن بعض الشباب أن الإسلام تقييد للحريات وكبت للطاقات فينفر من الإسلام ويعتقده ديناً رجعياً يأخذ بيد أهله إلى الوراء ويحول بينهم وبين التقدم والرقي .
وعلاج هذه المشكلة : أن يكشف النقاب عن حقيقة الإسلام لهؤلاء الشباب الذين جهلوا حقيقته لسوء تصورهم أو قصور علمهم أو كليهما معاً .
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
فالإسلام ليس تقييداً للحريات ، ولكنه تنظيم لها وتوجيه سليم حتى لا تصطدم حرية شخص بحرية آخرين عندما يعطى الحرية بلا حدود ، لأنه ما من شخص يريد الحرية المطلقة بلا حدود إلا كانت حريته هذه على حساب حريات الآخرين ، فيقع التصادم بين الحريات وتنتشر الفوضى ويحل الفساد .
ولذلك سمى الله الأحكام الدينية حدوداً ، فإذا كان الحكم تحريماً قال : ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا)(البقرة: الآية187). وإن كان إيجاباً قال : ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)(البقرة: الآية229) .
وهناك فرق بين التقييد الذي ظنه هذا البعض وبين التوجيه والتنظيم الذي شرعه لعباده الحكيم الخبير .(5/9)
وعلى هذا فلا داعي لهذه المشكله من أصلها ، إذ التنظيم أمر واقعي في جميع المجالات في هذا الكون والإنسان بطبيعته خاضع لهذا التنظيم الواقعي .
فهو خاضع لسلطان الجوع والعطش ولنظام الأكل والشرب ، ولذلك يضطر إلى تنظيم أكله وشربه كمية وكيفية ونوعاً كي يحافظ على صحة بدنه وسلامته .
وهو خاضع كذلك لنظامه الاجتماعي ، متمسك بعادة بلده في مسكنه ولباسه وذهابه ومجيئه ، فيخضع مثلاً لشكل اللباس ونوعه ولشكل البيت ونوعه ، ولنظام السير والمرور ، وإن لم يخضع لهذا عد شاذاً يستحق ما يستحقه أهل الشذوذ والبعد عن المألوف .
إذن فالحياة كلها خضوع لحدود معينة كي تسير الأمور على الغرض المقصود ، وإذا كان الخضوع للنظم الاجتماعية مثلاً خضوعا ً لا بد منه لصلاح المجتمع ومنع الفوضوية ، ولا يتبرم منه أي مواطن فالخضوع كذلك للنظم الشرعية أمر لابد منه لصلاح الأمة ، فكيف يتبرم منه البعض ويرى أنه تقييد للحريات ؟ ! إن هذا إلا إفك مبين وظن باطل أثيم .
والإسلام كذلك ليس كبتاً للطاقات ، وإنما هو ميدان فسيح للطاقات كلها الفكرية والعقلية والجسمية .
فالإسلام يدعو إلى التفكير والنظر لكي يعتبر الإنسان وينمي عقله وفكره ، فيقول الله تعالى : )قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سبأ: الآية46) ويقول تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(يونس: الآية101) .
والإسلام لا يقتصر على الدعوة إلى التفكير والنظر ، بل يعيب كذلك على الذين لا يعقلون ولا ينظرون ولا يتفكرون .(5/10)
فيقول الله تعالى : )أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْء)(الأعراف: الآية185) .ويقول تعالى: )أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَق)(الروم: الآية8) . ويقول تعالى : )وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّس:68) .
والأمر بالنظر والتفكير ما هو إلا تفتيح للطاقات العقلية والفكرية ، فكيف يقول البعض : إنه كبت للطاقات ؟.) كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(الكهف: الآية5) والإسلام قد أباح لأبنائه جميع التي لا ضرر فيها على المرء في بدنه أو دينه أو عقله .(5/11)
فأباح الأكل والشرب من جميع الطيبات : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه)(البقرة: الآية172) . وقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأعراف: الآية31) .وأباح جميع الألبسه على وفق ما تقتضيه الحكمة والفطرة . فقال تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر)(الأعراف: الآية26) . وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة)(الأعراف: الآية32) .وأباح التمتع بالنساء بالنكاح الشرعي . . فقال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (النساء: الآية3) . وفي مجال التكسب لم يكبت الإسلام طاقات أبنائه ، بل أحل لهم جميع المكاسب العادلة الصادرة عن رضي ، يقول الله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: الآية275) . ويقول : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15) . ويقول : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه)(الجمعة: الآية10) .
فهل بعد ذلك يصح ظن البعض أو قوله بأن الإسلام كبت للطاقات ؟ !
إشكالات ترد على قلب الشباب(5/12)
القلب الميت لا ترد عليه الهواجس والوساوس المنافية للدين ، لأنه قلب ميت هالك لا يريد الشيطان منه أكثر مما هوعليه ، ولذلك قيل لابن مسعود أو ابن عباس : إن اليهود يقولون : إنهم لا يوسوسون في صلاتهم أي لا تصيبهم الهواجس ، فقال : صدقوا ، وما يصنع الشيطان بقلب خراب .
أما إذا كان القلب حياً وفيه شئ من الإيمان فإن الشيطان يهاجمه مهاجمة لا هوادة فيها ولا ركود ، فيقذف عليه الوساوس المناقضة لدينه ما هو من أعظم المهلكات لو استسلم له العبد. حتى إنه يحاول أن يشككه في ربه وفي دينه وعقيدته ، فإن وجد في القلب ضعفاً وانهزاماً استولى عليه حتى يخرجه من الدين ، وإن وجد في القلب قوة ومقاومة انهزم الشيطان مدبراً خاسئاً وهو حقير .
وهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان في القلب لا تضره إذا استعمل المرء العلاج الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : أحدث نفسي بالشئ لأن أكون حممة ـ أي فحمة ـ أحب إليّ من أن أتكلم به . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي رد كيده ـ الشيطان ـ إلى الوسوسة (5) ( رواه أبو داود ) .
وجاء ناس من الصحابة فقالوا : يا رسول الله : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به أي يراه عظيماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أوجدتموه )) . قالوا : نعم . قال : (( ذاك صريح الإيمان ))(6) رواه مسلم . ومعنى كونه صريح الإيمان ، أن هذه الوسوسة الطارئة وإنكاركم إياها وتعاظمكم لها لا تضر إيمانكم شيئاً بل هي دليل على أن إيمانكم صريح لا يشوبه نقص .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه ـ اي وصل إلى هذا الحد ـ فليستعذ بالله ولينته ))(7) رواه البخاري ومسلم ، وفي حديث آخر : (( فليقل : آمنت بالله ورسوله )) .(5/13)
وفي حديث رواه ابو داود قال : (( قولوا : الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد . ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ))(8).
ففي هذه الأحاديث وصف الصحابة رضي الله عنهم المرض للنبي صلى الله عليه وسلم فوصف لهم العلاج في أربعة أشياء :
الأول: الانتهاء عن هذه الوساوس ، يعني الإعراض عنها بالكلية وتناسيها حتى كأنها لم تكن ، والاشتغال عنها بالأفكار السليمة .
الثاني : الاستعاذة منها ومن الشيطان الرجيم .
الثالث : أن يقول : آمن بالله ورسوله .
الرابع : أن يقول : الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ويتفل عن يساره ثلاثاً ويقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
حيرة في القدر
من جملة الأمور التي ترد على الشباب ويقف منها حيران مسألة القدر ؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إلا بها ، وذلك بأن يؤمن بأن الله سبحانه عالم بما يكون في السموات والأرض ومقدر له كما قال سبحانه : )أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع والجدال في القدر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه فقال : أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم ؟ ! إنما هلك من كان قلبكم حين تنازعوا في هذا الأمر . عزمت عليكم ان لا تتنازعوا فيه ))(9). رواه الترمذي .(5/14)
والخوض في القدر والتنازع فيه يوقع المرء في متاهات لايستطيع الخروج منها ، وطريق السلامة أن تحرص على الخير وتسعي فيه كما أمرت ؛ لأن الله سبحانه أعطاك عقلاً وفهماً وأرسل إليك الرسل وأنزل معهم الكتب )َ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما)(النساء: من الآية165) .
ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : (( بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار )) قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل . قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة )) . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل :5-10) الآية(10).
فأمرهم النبي بالعمل ولم يجوز لهم الاتكال على المكتوب ؛ لأن المكتوب من أهل الجنة لا يكون منهم إلا إذا عمل بعملهم . والعمل باستطاعة المرء ، لأنه يعرف من نفسه أن الله أعطاه اختياراً للعمل وقدرة عليه بهما يفعل إن شاء أو يترك .
فها هو الإنسان يهم بالسفر مثلاً فيسافر ، ويهم بالإقامة فيقيم ، وهاهو يرى الحريق فيفر منه ، ويرى الشئ المحبوب إليه فيتقدم نحوه . فالطاعات والمعاصي كذلك يفعلها المرء باختياره ويدعها باختياره .
والذي يرد على مسألة القدر عند بعض الناس إشكالان : أحدهما : أن الإنسان يرى أنه يفعل الشئ باختياره ويتركه باختياره بدون أن يحس بإجباره له على الفعل أو الترك ، فكيف يتفق ذلك مع الإيمان بأن كل شئ بقضاء الله وقدره ؟(5/15)
والجواب على ذلك : أننا إذا تأملنا فعل العبد وحركته وجدناه ناتجاً عن أمرين إرادة أي اختيار للشيء وقدرة ، ولولا هذان الأمران لم يوجد فعل . والإرادة والقدرة كلتاهما من خلق الله سبحانه ؛ لأن الإرادة من القوة العقلية والقدرة من القوة الجسمية ولو شاء الله لسلب الإنسان العقل فأصبح لا إرادة له أو سلبه القدرة ، فأصبح العمل مستحيلاً عليه .
فإذا عزم الإنسان على العمل ونفذه علمنا يقيناً أن الله قد أراده وقدره ، وإلا لصرف همته عنه أو أوجد مانعاً يحول بينه وبين القدرة على تنفيذه. وقد قيل لأعرابي: بم عرفت الله؟ فقال بنقض العزائم وصرف الهمم .
الإشكال الثاني : الذي يأتي في مسألة القدر عن بعض الناس ، أن الإنسان يعذب على فعل المعاصي ، فكيف يعذب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه .
والجواب على ذلك أن نقول : إذا قلت هذا فقل أيضاً : إن الإنسان يثاب على فعل الطاعات ، فكيف يثاب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه ، وليس من العدل أن تجعل القدر حجة في جانب المعاصي ولا تجعله حجة في جانب الطاعات .
وجواب ثان : إن الله أبطل هذه الحجة في القرآن وجعلها من القول بلا علم فقال تعالى )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) .
فبين الله أن هؤلاء المحتجين بالقدر على شركهم كان لهم سلف كذبوا كتكذيبهم واستمروا عليه حتى ذاقوا بأس الله ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه ، ثم أمر الله نبيه ان يتحداهم بإقامة البرهان على صحة حجتهم ، وبين انه لا حجة لهم في ذلك .(5/16)
وجواب ثالث : أن نقول : إن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله حتى يقع ، فمن أين للعاصي العلم بأن الله كتب عليه المعصية حتى يقدم عليها ؟ أفليس من الممكن أن يكون قد كتبت له الطاعة ، فلماذا لا يجعل بدل إقدامه على المعصية أن يقدم على الطاعة ويقول : إن الله قد كتب لي أن أطيع .
وجواب رابع : إن الله قد فضل الإنسان بما أعطاه من عقل وفهم وأنزل عليه الكتب وأرسل إليه الرسل وبين له النافع من الضار وأعطاه إرادة وقدرة يستطيع بهما أن يسلك إحدي الطريقين . فلماذا يختار هذا العاصي الطريق الضارة على الطريق النافعة ؟
أليس هذا العاصي لو اراد سفراً إلى بلد وكان له طريقان أحدهما سهل وآمن ، والآخر صعب ومخوف ، فإنه بالتأكيد سوف يسلك الطريق السهل الامن ، ولن يسلك الصعب المخوف بحجة أن الله كتب عليه ذلك ، بل لو سلكه واحتج بأن الله كتب عليه لعد الناس ذلك سفهاً وجنوناً ، فهكذا أيضاً طريق الخير وطريق الشرسواء بسواء ، فليسلك الإنسان طريق الخير ولا يخدعن نفسه بسلوك طريق الشر بحجة أن الله كتبه عليه . ونحن نرى كل إنسان قادر على كسب المعيشة نراه يضرب كل طريق لتحصيلها ولا يجلس في بيته ويدع الكسب احتجاجاً بالقدر .
إذن فما الفرق بين السعي للدنيا والسعي في طاعة الله ؟ لماذا تجعل القدر حجة لك على ترك الطاعة ؛ ولا تجعله حجة لك على ترك العمل للدنيا .
إن الأمر من الوضوح بمكان ولكن الهوى يعمي ويصم .
أحاديث فيها ذكر الشباب
ولما كانت هذه الكلمات تدور حول مشاكل الشباب . . . فأني أحب ان أذكر يعض الأحاديث التي فيها ذكر الشباب فمنها :
1 – يعجب ربك من الشباب ليست له صبوة (11).. رواه أحمد .
والصبوة : الهوى والميل عن طريق الحق .(5/17)
2 - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (12) .رواه البخاري .
3 – الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (13) . رواه الترمذي .
4 - يقال لأهل الجنة : إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً(14). رواه مسلم .
5 – ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قبض الله له من يكرمه عند سنه(15) . رواه الترمذي بسند ضعيف .
6 – قال أبو بكر وعنده عمر بن الخطاب لزيد بن ثابت رضي الله عنهم : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه(16) . الحديث رواه البخاري .
7 – دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت فقال له : كيف تجدك ؟ قال: أرجو الله يارسول الله وأخاف ذنوبي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه ما يرجوه وأمنه مما يخافه ))(17) رواه بن ماجه .
8 – قال البراء بن عازب رضي الله عنه في غزوة حنين : لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح(18) . رواه البخارى
9 – وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب(19) رواه أحمد .
10 – وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً يقال لهم القراء يكونون في المسجد فإذا أمسوا انتحوا ناحية من المدينة فيتدارسون ويصلون يحسبهم أهلوهم في المسجد ويحسبهم أهل المسجد في أهليهم حتي إذا كان في وجه الصبح استعذبوا من الماء . واحتطبوا من الحطب فجاءوا به فأسندوه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم(20) . رواه أحمد .(5/18)
وكانوا يشترون بذلك طعاماً لأهل المدينة ، وأهل الصفة هم الفقراء المهاجرون إلى المدينة ليس لهم أهل فيها ولا عشيرة ، فيأوون إلى صفة في المسجد أو قريباً منه .
11 – وعن علقمة أحد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع عبد الله بمنى فلقيه عثمان رضي الله عنه فقام يحدثه فقال له عثمان : يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك شابة لعلها تذكرك بعض ما مضي من زمانك . فقال عبد الله : لئن قلت ذلك لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء(21).رواه البخاري ومسلم .
12 – وفي حديث الدجال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يدعو رجلاً ممتلئا ًشبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك(22) . الحديث رواه مسلم .
13 – عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً ، فلما ظن أنا قد اشتقنا أهلنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال صلى الله عليه وسلم : أرجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم . رواه البخاري(23) .
وإلى هنا انتهى ما أردنا تقديمه . . نسأل الله تعالى أن ينفع به والحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
محمد الصالح العثيمين
---
(11) اخرجه الإمام أحمد ( 4/ 151 ) ، والطبراني فى الكبير ( 17 / 903 رقم 853 ) ، وابو يعلى ( 1749 ) قال الهيثمي فى مجمع الزوائد ( 10/ 237 )رواه أحمد وابو يعلى والطبرانى واسناده حسن .
(12)(5/19)
(13) اخرجه البخارى ، كتاب الاذان ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ( 660 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ( 1031 ) .
(14) اخرجه الترمذى ، كتاب المناقب ، باب مناقب الحسن والحسن رضى الله عنهما (3768) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(4) اخرجه مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب فى دوام نعيم اهل الجنة . . .( 2837) .
(15) اخرجه الترمذى، كتاب البر والصله ، باب ما جاء فى إجلال الكبير (2022) ، وقال الترمذى : هذا حديث غريب ، وضعفه الالبانى فى ضعيف الجامع ( 5012) .
(16) اخرجه البخارى ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( قد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم ) ( 4679) .
(17) اخرجه الترمذى ، كتاب الجنائز ، باب 11 (983) ، وقال : حديث حسن .
(18) اخرجه البخارى ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغزو على الحمير ، وباب بغلة النبى صلى الله عليه وسلم البيضاء (2874) ومسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب فى غزوة حنين ( 1776) .
(19) اخرجه الامام احمد ( 1/390 ، 432) قال محقق المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
(20) اخرجه الامام احمد (3/235) ، والبيهقى فى سننه الكبرى ( 2/199) وقال محققو المسند : اسناده صحيح .
(21) اخرجه البخارى ، كتاب النكاح ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : من استطاع منكم الباءة . (5065، 5066)، ومسلم ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت تفسه اليه ووجد مؤنه .... (1400) .
(22) اخرجه مسلم ، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ( 2137) .
(23) اخرجه البخارى ، كتاب الأذان ، للمسافر اذا كانوا جماعة والاقامة .. (631) ، ومسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب من احق بالاقامة ( 674) .
---
(5) اخرجه ابو داود الطيالسي ( 2704 ) والنسائى في عمل اليوم والليلة ( 669 ) ، والإمام احمد ( 1/ 340 ) .(5/20)
(6) اخرجه مسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 132 ) .
(7) اخرجه البخارى ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة ابليس وجنوده ( 3276 ) ، ومسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 134 ) ( 214 ) .
(8) اخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في الجهمية والمعتزلة (4722 ) .
(9) اخرجه الترمذى ، كتاب القدر ، باب ما جاء فى التشديد فى الخوض فى القدر ( 2133 ) وقال : هذا حديث غريب .
(10) اخرجه البخارى ، كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ( 1362 ) ومسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية الخلق الآدمى فى بطن امه . . . ( 2647 ) .
---
3 - أخرجه الترمذي ، كتاب الزهد ، باب 45 ( 2378 ) وقال : حديث حسن غريب . وحسنه الألباني فى صحيح الجامع ( 3545 ) .
4 - اخرجه بنحوه البخارى ن كتاب البيوع ، باب في العطار وبيع المسك ( 2101 ) وفى كتاب الذبائح والصيد ، باب المسك 5534
ومسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب استحباب .
مجالسة الصالحين . . . ( 2628 )
---
1 - أخرجه مسلم ‘ كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49).
2 – أخرجه البخارى ، كتاب الايمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( 13 ) ومسلم ، كتاب الايمان ، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لتفسه من الخير ( 45 ) .(5/21)
أصول في التفسير
* المقدمة
* القرآن الكريم
1/ نزول القرآن
2/أول ما نزل من القرآن
3/ نزول القرآن ابتدائي وسببي
4/ المكي والمدني
5/ الحكمة من نزول القرآن
6/ ترتيب القرآن
7/ كتابة القرآن وجمعه
* التفسير
1/ الواجب على المسلم في التفسير
2/ المرجع في تفسير القرآن
3/ الاختلاف الوارد في التفسير المأثور
4/ ترجمة القرآن
5/ المشتهرون بالتفسير من الصحابة
6/ المشتهرون بالتفسير من التابعين
* القرآن محكم ومتشابه
1/ موقف الراسخين في العلم ، والزائغين من المتشابه
2/ أنواع التشابه في القرآن
3/ الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه
* موهم التعارض في القرآن
* القصص
1/ تكرار القصص
2/ الإسرائيليات
3/ موقف العلماء من الإسرائيليات
* الضمير
1/ الإظهار في موضع الإضمار
2/ ضمير الفصل
3/ الالتفات
المقدمة
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً ، أما بعد :
فإن من المهم في كل فن أن يتعلم المرء من أصوله ما يكون عونا له على فهمه وتخريجه على تلك الأصول ، ليكون علمه مبنياً على أسس قوية ودعائم راسخة ً، وقد قيل : من حٌرِم الأصول حرم الوصول .
ومن أجل فنون العلم ، بل هو أجلها وأشرفها ، علم التفسير الذي هو تبيين معاني كلام الله عز وجل وقد وضع أهل العلم له أصولاً ، كما وضعوا لعلم الحديث أصولاً ، ولعلم الفقه أصولاً .
وقد كنت كتبت من هذا العلم ما تيسر لطلاب المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، فطلب مني بعض الناس أن أفردها في رسالة ، ليكون ذلك أيسر وأجمع فأجبته إلى ذلك .(6/1)
وأسأل الله تعالى أن ينفع بها .
ويتلخص ذلك فيما يأتي :
* القرآن الكريم :
1- متى نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن نزل به عليه من الملائكة ؟
2- أول ما نزل من القرآن .
3- نزول القرآن على نوعين : سببي وابتدائي .
4- القرآن مكي ومدني ، وبيان الحكمة من نزوله مفرقاً . وترتيب القرآن .
5- كتابة القرآن وحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
6-جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما .
التفسير :
1-معنى التفسير لغة واصطلاحاً ، وبيان حكمه ، والغرض منه .
2- الواجب على المسلم في تفسير القرآن .
3- المرجع في التفسير إلى ما يأتي :
أ-كلام الله تعالى بحيث يفسر القرآن بالقرآن .
ب- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مبلّغ عن الله تعالى ، وهو أعلم الناس بمراد الله تعالى في كتاب الله .
ج. كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير ، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم .
د. كلام كبار التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم .
هـ . ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق ، فإن اختلف الشرعي واللغوي ، أخذ بالمعنى الشرعي إلا بدليل يرجح اللغوي .
4- أنواع الاختلاف الوارد في التفسير المأثور .
5- ترجمة القرآن : تعريفها – أنواعها – حكم كل نوع .
*- خمس تراجم مختصرة للمشهورين بالتفسير ثلاث للصحابة واثنتان للتابعين .
* أقسام القرآن من حيث الإحكام والتشابه .
موقف الراسخين في العلم ، والزائغين من المتشابه .
التشابه : حقيقي ونسبي.
الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه .
*- موهم التعارض من القرآن والجواب عنه وأمثلة من ذلك .
الْقَسَم :
تعريفه – أداته- فائدته
* القصص :
تعريفها – الغرض منها – الحكمة من تكرارها واختلافها في الطول والقصر والأسلوب .
* الإسرائيليات التي أقحمت في التفسير وموقف العلماء منها .
* الضمير :(6/2)
تعريفه – مرجعه – الإظهار في موضع الإضمار وفائدته – الالتفات وفائدته – ضمير الفصل وفائدته.
القرآن الكريم
القرآن في اللغة : مصدر قرأ بمعني تلا ، أو بمعني جمع ، تقول قرأ قرءاً وقرآناً، كما تقول : غفر غَفْراً وغٌفرانا ً ، فعلى المعني الأول ( تلا ) يكون مصدراً بمعني اسم المفعول ؛ أي بمعني متلوّ، وعلى المعني الثاني: ( جَمَعَ) يكون مصدراً بمعني اسم الفاعل ؛ أي بمعني جامع لجمعه الأخبار والأحكام (1) .
والقرآن في الشرع : كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، المبدوء بسورة الفاتحة ، المختوم بسورة الناس . قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (الانسان:23) وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) . وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل ، حيث تكفل عز وجل بحفظه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعدائه أن يغير فيه ، أو يزيد ، أو ينقص ، أو يبدل ، إلا هتك الله ستره ، وفضح أمره .
وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة ، تدل على عظمته وبركته وتأثيره وشموله ، وأنه حاكم على ما قبله من الكتب .(6/3)
قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87). ( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(ق: الآية 1) . وقال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155) (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77) (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (الإسراء : الآية 9) .
وقال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21) (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون(125) (التوبة: 124-125) ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام: الآية 19) (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52). وقال تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل: الآية 89) (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ )(المائدة: الآية 48) .(6/4)
والقرآن الكريم مصدر الشريعة الإسلامية التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس ، قال الله تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيد(2ٍ) (ابراهيم: 1-2) .
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مصدر تشريع أيضاً كما قرره القرآن ، قال الله تعالى:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80) (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب:الآية 36)(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر:الآية 7) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ) (آل عمران:31)
نزول القرآن
نزل القرآن أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر في رمضان، قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3)فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) (الدخان:3-4) . (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: الآية 185) .(6/5)
وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل عليه أربعين سنة على المشهور عند أهل العلم ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وسعيد بن المسيِّب وغيرهم . وهذه السِّن هي التي يكون بها بلوغ الرشد وكمال العقل وتمام الإدراك .
والذي نزل بالقرآن من عند الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، جبريل أحد الملائكة المقربين الكرام ، قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195) (الشعراء:192- 195) .
وقد كان لجبريل عليه السلام من الصفات الحميدة العظيمة ، من الكرم والقوة والقرب من الله تعالى والمكانة والاحترام بين الملائكة والأمانة والحسن والطهارة ؛ ما جعله أهلاً لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسله قال الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ "(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين(21ٍ) (التكوير:19- 21) . وقال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7) (لنجم:5-7) .
وقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102) وقد بين الله تعالى لنا أوصاف جبريل الذي نزل بالقرآن من عنده وتدل على عظم القرآن وعنايته تعالى فإنه لا يرسل من كان عظيما إلا بالأمور العظيمة.
أول ما نزل من القرآن(6/6)
أول ما نزل من القرآن على وجه الإطلاق قطعا ً الآيات الخمس الأولي من سورة العلق، وهي قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) (العلق:1- 5) . ثم فتر الوحي مدة ، ثم نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة المدثر ، وهي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) (المدثر:1-5) . ففي ((الصحيحين)) : صحيح البخاري ومسلم (2) . عن عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت : حتى جاءه الحق ٌّ ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال اقرأ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ ( يعني لست أعرف القراءة ) فذكر الحديث ، وفيه ثم قال:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق(1)َ) إلى قوله:(عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)) (العلق:1- 5). وفيهما(3) عن جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي : ( بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء .... ) فذكر الحديث ، وفيه ، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) إلى ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُر(5ْ) (المدثر:1-5) .
وثمت آيات يقال فيها : أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين ، فتكون أولية مقيدة مثل : حديث جابر رضي الله عنه في ((الصحيحين ))(4) . إن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر:1) قال أبو سلمة : أنبئت أنه(6/7)
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) فقال جابر : لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت ...) فذكر الحديث وفيه : ( فأتيت خديجة فقلت : دثروني ، وصبوا علي ماء بارداً ، وأنزل علي : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر:1) إلى قوله :(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:1-5) ).
فهذه الأولية التي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي ، أو أول ما نزل في شأن الرسالة ؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت به نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله ( قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:2)
ولهذا قال أهل العلم : إن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ ب(اقْرَأْ) (العلق:1) وأرسل ب الْمُدَّثِّرُ) (المدثر:1)
نزول القرآن ابتدائي وسببي
ينقسم نزول القران إلى قسمين :
الأول : ابتدائي : وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه ، وهو غالب آيات القران، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة:75)
الآيات فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين ، وأما ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة ابن حاطب في قصة طويلة ، ذكرها كثير من المفسرين ، وروجها كثير من الوعاظ ، فضعيف لا صحة له .(5) .
القسم الثاني : سببي : وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه . والسبب :
أ - إما سؤال يجيب الله عنه مثل (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (البقرة: الآية 189) .(6/8)
ب - أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)(التوبة: الآية 65) الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(التوبة: الآية 65) (6).
ج- أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل :(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1)
فوائد معرفة أسباب النزول :
معرفة أسباب النزول مهمة جدا ، لأنها تؤدي إلى فوائد كثيرة منها :(6/9)
1- بيان أن القران نزل من الله تعالى ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الشيء ، فيتوقف عن الجواب أحيانا ، حتى ينزل عليه الوحي ، أو يخفى الأمر الواقع، فينزل الوحي مبينا له . مثال الأول : قوله تعالى : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً) (الإسراء :85) . ففي صحيح البخاري "(7) عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجلا من اليهود قال : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت ، وفي لفظ : فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء :85) الآية مثال الثاني قوله تعالى (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ)(المنافقون: الآية 8) وفي صحيح البخاري (8) أن زيد ابن أرقم رضي الله عنه سمع عبد الله ابن أبى رأس المنافقين يقول ذلك ، يريد أنه الأعز ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأذل ، فأخبر زيد عمه بذلك ، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فأخبره بما سمع ثم أرسل إلى عبد الله ابن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تصديق زيد في هذه الآية ؛ فاستبان الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- بيان عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم في الدفاع عنه مثال ذلك قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32) وكذلك آيات الإفك ؛ فإنها دفاع عن فراش النبي صلى الله عليه وسلم وتطهير له عمّا دنسه به الأفاكون .(6/10)
3- بيان عناية الله تعالى بعباده في تفريج كرباتهم وإزالة غمومهم . مثال ذلك آية التيمم ، ففي " صحيح البخاري " (9) أنه ضاع عقد لعائشة رضي الله عنها ، وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأقام النبي صلى الله عليه وسلم لطلبه ، وأقام الناس على غير ماء ، فشكوا ذلك إلى أبي بكر ، فذكر الحديث وفيه : فأنزل الله أية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . والحديث في البخاري مطولاً .
4- فهم الآية على الوجه الصحيح . مثال ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)(البقرة: الآية 158) أي يسعى بينهما ، فإن ظاهر قوله : (فَلا جُنَاحَ عَلَيْه)ِ (البقرة: الآية 158 ) أن غاية أمر السعي بينهما ، أن يكون من قسم المباح ، وفي صحيح البخاري " (10) عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا والمروة ، قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله تعالى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (البقرة: الآية 158) إلى قوله : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة: الآية 158) وبهذا عرف أن نفي الجناح ليس المراد به بيان أصل حكم السعي ، وإنما المراد نفي تحرجهم بإمساكهم عنه ، حيث كانوا يرون أنهما من أمر الجاهلية ، أما أصل حكم السعي فقد تبين بقوله:(مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )(البقرة:الآية 158)
عموم اللفظ وخصوص السبب :
إذا نزلت الآية لسبب خاص ، ولفظها عام كان حكمها شاملا لسببها ، ولكل ما يتناوله لفظها ، لأن القران نزل تشريعا عاما لجميع الأمة فكانت العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه .(6/11)
مثال ذلك : آيات اللعان ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إلى قوله ( إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(النور: 6- الآية 9) ففي صحيح البخاري " (11)من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : البينة أو حد في ظهرك ، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرء ظهري من الحد ، فنزل جبريل ، وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)(النور: الآية6) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(النور: الآية9)
فهذه الآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية لامرأته ، لكن حكمها شامل له ولغيره ، بدليل ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه ، أن عويمر العجلاني جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنه بما سمى الله في كتابه ، فلاعنها . الحديث (12) .
فجعل البني صلى الله عليه وسلم حكم هذه الآيات شاملا لهلال بن أمية وغيره .
المكي والمدني
نزل القران على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا في خلال ثلاث وعشرين سنة ، قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها بمكة ، قال الله تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء :106) ولذلك قسم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين : مكي ومدني :
فالمكي : ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة .
والمدني : ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة .(6/12)
وعلى هذا فقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )(المائدة: الآية 3) من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعرفة ، ففي صحيح البخاري (13)عن عمر رضي الله عنه أنه قال : قد عرفنا ذلك اليوم ، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة .
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع :
أ- أما من حيث الأسلوب فهو :
1- الغالب في المكي قوة الأسلوب ، وشدة الخطاب، لأن غالب المخاطبين معرضون مستكبرون ، ولا يليق بهم إلا ذلك ، أقرأ سورتي المدثر ، والقمر .
أما المدني : فالغالب في أسلوبه البين ، وسهولة الخطاب ، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون ، أقرا سورة المائدة .
2- الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة ، لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون ، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم ، أقرا سورة الطور .
أما المدني : فالغالب فيه طول الآيات ، وذكر الأحكام ، مرسلة بدون محاجة ، لأن حالهم تقتضي ذلك ، أقرأ آية الدين في سورة البقرة .
ب- وأما من حيث الموضوع فهو :
1- الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة ، خصوصا ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإيمان بالبعث ، لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك .
أما المدني : فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات ، لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة ، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
2- الإفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال ، ذلك حيث شرع الجهاد ، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي .
فوائد معرفة المدني والمكي :
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة ، وذلك لأن فيها فوائد منها :(6/13)
1- ظهور بلاغة القران في أعلى مراتبها ، حيث يخاطب كل قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة ، أو لين وسهولة .
2- ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ .
3- تربية الدعاة إلى الله تعالى ، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القران في الأسلوب والموضوع ، من حيث المخاطبين ، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم ، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها .
4- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية ، يتحقق فيهما شروط النسخ ، فإن المدنية ناسخة للمكية ، لتأخر المدنية عنها .
الحكمة من نزول القرآن الكريم
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني ، يتبين أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا . ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها :
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (يعني كذلك نزلناه مفرقاً)كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (ليصدوا الناس عن سبيل الله) إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً(33) (الفرقان:32-33)
2- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به ، حيث يقرأ عليهم شيئا فشيئا ، لقوله تعالى : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء :106 )
3- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القران وتنفيذه ، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية ، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان .(6/14)
4- التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال ، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه وألفوه ، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا ، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى : (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة: الآية 219) فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه .
ثم نزل ثانيا قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)(النساء: الآية 43) فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات ، ثم نزل ثالثا قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة:92) فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات ، بعد أن هيئت النفوس ، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات .
ترتيب القران :
ترتيب القرآن : تلاوته تاليا بعضه بعضا حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور .
وهو ثلاثة أنواع :(6/15)
النوع الأول : ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية ، وهذا ثابت بالنص والإجماع ، ولا نعلم مخالفا في وجوبه وتحريم مخالفته ، فلا يجوز أن يقرأ : لله الحمد رب العالمين بدلا من (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)
النوع الثاني : ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة ، وهذا ثابت بالنص والإجماع ، وهو واجب على القول الراجح ، وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ : مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلا من : (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:3) (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4) ففي صحيح البخاري (14)أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ )(البقرة: الآية 240) قد نسخها الآية الأخرى يعني قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )(البقرة: الآية 234) وهذه قبلها في التلاوة قال : فلم تكتبها ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه .(6/16)
وروي الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي 0من حديث عثمان رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء ، دعا بعض من كان يكتب،فيقول ، ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (15) النوع الثالث : ترتيب السور بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف ، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجبا وفي " صحيح مسلم " (16)عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : أنه صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران ، وروى البخاري (17)تعليقا عن الأحنف : أنه قرأ في الأولى بالكهف ، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أن صلى مع عمر بن الخطاب الصبح بهما .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : " تجور قراءة هذه قبل هذه ، وكذا في الكتابة . ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها ، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان رضي الله عنه ، صار هذا مما سنة الخلفاء الراشدون ، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب أتباعها " أهـ .
كتابة القرآن وجمعه
لكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الاعتماد على الكتابة ، لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة ، ولذلك لم يجمع في مصحف بل كان من سمع آية حفظها ، أو كتبها فيما تيسر له من عسب النخل ، ورقاع الجلود ، ولخاف الحجارة ، وكسر الأكتاف وكان القراء عددا كبيرا.(6/17)
ففي " صحيح البخاري "([1]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين رجلا يقال لهم : القراء ، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر معونة فقتلوهم ، وفي الصحابة غيرهم كثير كالخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم .
المرحلة الثانية : في عهد أبي بكر رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة من الهجرة . وسببه أنه قتل في وقعة اليمامة عدد كبير من القراء منهم ، سالم مولى أبي حذيفة ، أحد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم .
فأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمعه لئلا يضيع ، ففي صحيح البخاري" (19)أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة ، فتوقف تورعا ، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك ، فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه ، وعنده عمر فقال له أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ، قال : فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما . رواه البخاري مطولا .
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدوه من حسناته ، حتى قال على رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله .
المرحلة الثالثة : في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة الخامسة والعشرين ، وسببه اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيدي الصحابة رضي الله عنهم فخيفت الفتنة ، فأمر عثمان رضي الله عنه أن تجمع هذه الصحف في مصحف واحد ؛ لئلا يختلف الناس ، فيتنازعوا في كتاب الله تعالى ويتفرقوا.(6/18)
ففي " صحيح البخاري " (20)أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان من فتح أرمينية وأذربيجان ، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة ، فقال : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، ففعلت ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف . وكان زيد بن ثابت أنصاريا والثلاثة قرشيين – وقال عثمان للرهط الثلاثة القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
وقد فعل عثمان رضي الله عنه هذا بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم ، لما روي أبن أبي داود (21)عن على رضي الله عنه أنه قال : والله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملاء منا ، قال : أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا ، فنعم ما رأيت .
وقال مصعب بن سعد(22): أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ، أو قال : لم ينكر ذلك منهم أحد ، وهو من حسنان أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه التي وافقه المسلمون عليها ، وكانت مكملة لجمع خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر رضي الله عنه .
والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر رضي الله عنهما أن الغرض من جمعه في عهد أبي بكر الله عنه تقييد القرآن كله مجموعا في مصحف ، حتى لا يضيع منه شئ دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد ؛ وذلك أنه لم يظهر أثر لاختلاف قراءاتهم يدعو إلى حملهم على الاجتماع على مصحف واحد .(6/19)
وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان رضي الله عنه فهو تقييد القرآن كله مجموعا في مصحف واحد ، يحمل الناس على الاجتماع عليه لظهور الأثر المخيف باختلاف القراءات.
وقد ظهرت نتائج هذا الجمع حيث حصلت به المصلحة العظمى للمسلمين من اجتماع الأمة ، واتفاق الكلمة ، وحلول الألفة ، واندفعت به مفسدة كبرى من تفرق الأمة ، واختلاف الكلمة ، وفشو البغضاء ، والعداوة .
وقد بقي على ما كان عليه حتى الآن متفقا عليه بين المسلمين متواترا بينهم ، يتلقاه الصغير عن الكبير ، لم تعبث به أيدي المفسدين ، ولم تطمسه أهواء الزائغين . فلله الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين .
التفسير
التفسير لغة : من الفسر ، وهو : الكشف عن المغطى .
وفي الاصطلاح . بيان معاني القرآن الكريم .
وتعلم التفسير واجب لقوله تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29) ولقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)
وجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى بين أن الحكمة من إنزال هذا القرآن المبارك ؛ أن يتدبر الناس آياته ، ويتعظوا بما فيها .
والتدبر هو التأمل في الألفاظ للوصول إلى معانيها ، فإذا لم يكن ذلك ، فاتت الحكمة من إنزال القرآن ، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها .
ولأنه لا يمكن الاتعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه .
ووجه الدلالة من الآية الثانية أن الله تعالى وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ، وأشار إلى أن ذلك من الإقفال على قلوبهم ، وعدم وصول الخير إليها .
وكان سلف الأمة على تلك الطريقة الواجبة ، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه ؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به فإن العمل بما لا يعرف معناه غير ممكن .(6/20)
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذي كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات ، لم يجاوزوها ، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ، ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم . ويجب على أهل العلم أن يبينوه للناس عن طريق الكتابة أو المشافهة لقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: الآية 187) وتبيين الكتاب للناس شامل لتبيين ألفاظه ومعانيه ، فيكون تفسير القرآن ، مما أخذ الله العهد على أهل العلم ببيانه .
والغرض من تعلم التفسير هو الوصول إلى الغايات الحميدة والثمرات الجليلة ، وهي التصديق بأخباره والانتفاع بها وتطبيق أحكامه على الوجه الذي أراده الله ؛ ليعبد الله بها على بصيره .
الواجب على المسلم في تفسير القرآن(6/21)
الواجب على المسلم في تفسير القرآن أن يشعر نفسه حين يفسر القرآن بأنه مترجم عن الله تعالى ، شاهد عليه بما أراد من كلامه فيكون معظما لهذه الشهادة خائفا من أن يقول على الله بلا علم ، فيقع فيما حرم الله ، فيخزى بذلك يوم القيامة ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) وقال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر:60)
المرجع في تفسير القرآن
يرجع في تفسير القرآن إلى ما يأتي :
أ- كلام الله تعالى : فيفسر القرآن بالقرآن ، لأن الله تعالى هو الذي أنزله ، وهو أعلم بما أراد به . ولذلك أمثلة منها :
1-قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)
فقد فسر أولياء الله بقوله في الآية التي تليها : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:63)
2- قوله تعالى : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) (الطارق:2) فقد فسر الطارق بقوله في الآية الثانية : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (الطارق:3) .
3- قوله تعالى : (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات:30) فقد فسر دحاها بقوله في الآيتين بعدها : (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعات:31)(وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) (النازعات:32).
ب - كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيفسر القرآن بالسنة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى، فهو أعلم الناس بمراد الله تعالى كلامه .
ولذلك أمثلة منها :(6/22)
1- قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: الآية 26) ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى ، فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم صريحا من حديث أبي موسى (1) وأبي بن كعب (2) . ورواه جرير من حديث كعب بن عجرة (3) في " صحيح مسلم " (4)عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قال فيه : " فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل " ، ثم تلا هذه الآية ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس:26)
2- قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )(لأنفال: الآية 60) فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي . رواه مسلم (5) ، وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه .
ج- كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير ، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم ، ولأنهم بعد الأنبياء أصدق الناس في طلب الحق ، وأسلمهم من الأهواء ، وأطهرهم من المخالفة التي تحول بين المرء وبين التوفيق للصواب . ولذلك أمثلة كثيرة جدا منها :
1- قوله تعالى:( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) (النساء: الآية 43) فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الملامسة بالجماع(6).
د- كلام التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم ، لأن التابعين خير الناس بعد الصحابة ، وأسلم من الأهواء ممن بعدهم . ولم تكن اللغة العربية تغيرت كثيرا في عصرهم ، فكانوا أقرب إلى الصواب في فهم القرآن ممن بعدهم .(6/23)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه (7) : إذا أجمعوا – يعني التابعين – على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن ، أو ألسنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك .
وقال أيضا : من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك ، كان مخطئا في ذلك ، بل مبتدعا ، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤة ، ثم قال : فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم ، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا .
هـ - ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )(النساء: الآية 105) وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) وقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(ابراهيم: الآية 4) .
فإن اختلف المعنى الشرعي واللغوي ، أخذ بما يقتضيه الشرعي ، لأن القرآن نزل لبيان الشرع ، لا لبيان اللغة إلا أن يكون هناك دليل يترجح به المعنى اللغوي فيؤخذ به .
مثال ما اختلف فيه المعنيان ، وقدم الشرعي : قوله تعالى في المنافقين : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً )(التوبة: الآية 84) فالصلاة في اللغة الدعاء ، وفي الشرع هنا الوقوف على الميت للدعاء له بصفة مخصوصة فيقدم المعنى الشرعي ، لأنه المقصود للمتكلم المعهود للمخاطب ، وأما منع الدعاء لهم على وجه الإطلاق فمن دليل آخر .(6/24)
ومثال ما اختلف فيه المعنيان ، وقدم فيه اللغوي بالدليل : قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)(التوبة: الآية 103) فالمراد بالصلاة هنا الدعاء ، وبدليل ما رواه مسلم (8) عن عبد الله بن أبي أوفي ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم ، صلى عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفي " .
وأمثلة ما اتفق فيه المعنيان الشرعي واللغوي كثيرة : كالسماء والأرض والصدق والكذب والحجر والإنسان .
الاختلاف الوارد في التفسير المأثور
الاختلاف الوارد في التفسير المأثور على ثلاثة أقسام :
الأول : اختلاف في اللفظ دون المعنى ، فهذا لا تأثير له في معنى الآية ، مثاله قوله تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء :23) قال ابن عباس : قضي : أمر ، وقال مجاهد : وصي ، وقال الربيع بن انس : أوجب ، وهذه التفسيرات معناها واحد ، او متقارب فلا تأثير لهذا الاختلاف في معنى الآية .
الثاني : اختلاف في اللفظ والمعنى ، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما ، فتحمل الآية عليهما ، وتفسر بهما ، ويكون الجمع بين هذا الاختلاف أن كل واحد من القولين ذكر على وجه التمثيل ، لما تعنيه الآية أو التنويع ، مثاله قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الأعراف:175) (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (الأعراف:176) قال ابن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل ، وعن ابن عباس أنه : رجل من أهل اليمن ، وقيل : رجل من أهل البلقاء.
والجمع بين هذه الأقوال : أن تحمل الآية عليها كلها ، لأنها تحتملها من غير تضاد ، ويكون كل قول ذكر على وجه التمثيل .(6/25)
ومثال آخر قوله تعالى (وَكَأْساً دِهَاقاً) (النبأ:34) قال ابن عباس : دهاقاً مملوءة ، وقال مجاهد : متتابعة ، وقال عكرمة : صافية . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، والآية تحتملها فتحمل عليها جميعاً ويكون كل قول لنوع من المعنى .
القسم الثالث : اختلاف اللفظ والمعنى ، والآية لا تحتمل المعنيين معا للتضاد بينهما ، فتحمل الآية على الأرجح منهما بدلاله السياق أو غيره .
مثال ذلك : قوله تعالى : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173) قال ابن عباس : غير باغ في الميتة ولا عاد من أكله ، وقيل : غير خارج على الإمام ولا عاص بسفره والأرجح الأول لأنه لا دليل في الآية على الثاني ، ولأن المقصود بحل ما ذكر دفع الضرورة ، وهي واقعة في حال الخروج على الإمام ، وفي حال السفر المحرم وغير ذلك .
ومثال آخر قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)(البقرة: الآية 237) قال على بن أبي طالب رضي الله عنه في الذي بيده عقدة النكاح : هو الزوج ، وقال ابن عباس: هو الولي ، والراجح الأول لدلالة المعنى عليه ، ولأنه قد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ترجمه القرآن
الترجمة لغة : تطلق على معانٍ ترجع إلى البيان والإيضاح . وفي الاصطلاح : التعبير عن الكلام بلغة أخرى . وترجمة القران : التعبير عن معناه بلغة أخرى والترجمة نوعان :
أحدهما : ترجمة حرفية ، وذلك بأن يوضع ترجمة كل كلمة بازائها .(6/26)
الثاني : ترجمة معنوية ، أو تفسيرية ، وذلك بأن يعبر عن معنى الكلام بلغة أخرى من غير مراعاة المفردات والترتيب .
مثال ذلك : قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) فالترجمة الحرفية : أن يترجم كلمات هذه الآية كلمةً كلمة فيترجم (إنا ) ثم (جعلناه) ثم (قرآنا) ثم ( عربيا) وهكذا .
والترجمة المعنوية : أن يترجم معنى الآية كلها بقطع النظر عن معنى كل كلمة وترتيبها، وهي قريبة من معنى التفسير الإجمالي .
حكم ترجمة القرآن :
الترجمة الحرفية بالنسبة للقرآن الكريم مستحيلة عند كثير من أهل العلم ، وذلك لأنه يشترط في هذا النوع من الترجمة شروط لا يمكن تحققها معها وهي :
أ- وجود مفردات في اللغة المترجم إليها بازاء حروف اللغة المترجم منها .
ب- وجود أدوات للمعاني في اللغة المترجم إليها مساوية أو مشابهة للأدوات في اللغة المترجم منها .
ج- تماثل اللغتين المترجم منها وإليها في ترتيب الكلمات حين تركيبها في الجمل والصفات والإضافات وقال بعض العلماء : إن الترجمة الحرفية يمكن تحققها في بعض آية ، أو نحوها، ولكنها وإن أمكن تحققها في نحو ذلك – محرمة لأنها لا يمكن أن تؤدي المعنى بكماله ، ولا أن تؤثر في النفوس تأثير القرآن العربي المبين ، ولا ضرورة تدعو إليها؛ للاستغناء عنها بالترجمة المعنوية .
وعلى هذا فالترجمة الحرفية إن أمكنت حسا في بعض الكلمات فهي ممنوعة شرعا ، اللهم إلا أن يترجم كلمة خاصة بلغة من يخاطبه ليفهمها ، من غير أن يترجم التركيب كله فلا بأس .
وأما الترجمة المعنوية للقرآن فهي جائزة في الأصل لأنه لا محذور فيها ، وقد تجب حين تكون وسيلة إلى إبلاغ القرآن والإسلام لغير الناطقين باللغة العربية ، لأن إبلاغ ذلك واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
لكن يشترط لجواز ذلك شروط :(6/27)
الأول : أن لا تجعل بديلا عن القرآن بحيث يستغني بها عنه ، وعلى هذا فلا بد أن يكتب القرآن باللغة العربية وإلى جانبه هذه الترجمة ، لتكون كالتفسير له .
الثاني : أن يكون المترجم عالما بمدلولات الألفاظ في اللغتين المترجم منها وإليها، وما تقتضيه حسب السياق .
الثالث : أن يكون عالما بمعاني الألفاظ الشرعية في القرآن . ولا تقبل الترجمة للقرآن الكريم إلا من مأمون عليها ، بحيث يكون مسلما مستقيما في دينه .
المشتهرون بالتفسير من الصحابة
اشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة ، ذكر السيوطي منهم : الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم ، إلا أن الرواية عن الثلاثة الأولين لم تكن كثيرة ، لانشغالهم بالخلافة ، وقلة الحاجة إلى النقل في ذلك لكثرة العالمين بالتفسير .
ومن المشتهرين بالتفسير من الصحابة أيضا : عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ، فلنترجم لحياة على بن أبي طالب مع هذين رضي الله عنهم .
1- على بن أبي طالب :
هو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزوج فاطمة رضي الله عنه وعنها ، وأول من آمن به من قرابته ، اشتهر بهذا الاسم . وكنيته أبو الحسن ، وأبو تراب .
ولد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين ، وتربي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد معه المشاهد كلها ، وكان صاحب اللواء في معظمها ، ولم يتخلف إلا في غزوة تبوك ، خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في أهله ، وقال له : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي " (9) ، نقل له من المناقب والفضائل ما لم ينقل لغيره ، وهلك به طائفتان : النواصب الذين نصبوا له العداوة ، وحاولوا إخفاء مناقبه ، والروافض الذي بالغوا فيما زعموه من حبه ، وأحدثوا له من المناقب التي وضعوها ما هو في غنى عنه ، بل هو عند التأمل من المثالب .(6/28)
اشتهر رضي الله عنه بالشجاعة والذكاء مع العلم والزكاء حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن ، ومن أمثلة النحويين : قضية ولا أبا حسن لها ، وروى عن علي أنه كان يقول : سلوني سلوني وسلوني عن كتاب الله تعالى ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به ، وروي عنه أنه قال : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب . كان أحد أهل الشورى الذي رشحهم عمر رضي الله عنه لتعيين الخليفة ، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف فأبى إلا بشروط لم يقبل بعضها ، ثم بايع عثمان فبايعه علي والناس ، ثم بويع بالخلافة بعد عثمان حتى قتل شهيدا في الكوفة ليلة السابع عشر من رمضان ، سنة أربعين من الهجرة رضي الله عنه .
2- عبد الله بن مسعود :
هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهزلي ، وأمه أم عبد كان ينسب إليها أحيانا (10) ، وكان من السابقين الأولين في الإسلام ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدرا ، وما بعدها من المشاهد .
تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة من القرآن ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام : " إنك لغلام معلم " (11) ، وقال : " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد "(12) ، وفي " صحيح البخاري " (13) أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله ، وقال: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا ,أنا أعلم فيمن أنزلت ، ولو أعلم أحدا أعلم منى بكتاب(6/29)
الله تبلغه الإبل لركبت إليه ، وكان ممن خدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان صاحب نعليه وطهوره ووساده حتى قال أبو موسى الأشعري : قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى عبدالله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم (14) ، ومن أجل ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم تأثر به وبهديه ، حتى قال فيه حذيفة : ما أعرف أحدا أقرب هديا وسمتا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد(15) .
بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة ، ليعلمهم أمور دينهم ، وبعث عمارا أميراً وقال : إنهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فأقتدوا بهما ، ثم أمره عثمان على الكوفة ، ثم عزله ، وأمره بالرجوع إلى المدينة ، فتوفي فيها سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وسبعين سنة .
3- عبد الله بن عباس :(6/30)
هو ابن عم الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين لازم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ابن عمه، وخالته ميمونة تحت النبي صلى الله عليه وسلم ، وضمّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال : اللهم علمه الحكمة، وفي رواية : الكتاب (16) ، وقال له حين وضع له وضوءه : اللهم فقه في الدين (17) ، فكان بهذا الدعاء المبارك حبر الأمة في نشر التفسير والفقه ، حيث وفقه الله تعالى للحرص على العلم والجد في طلبه والصبر على تلقيه وبذله ، فنال بذلك مكانا عاليا حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدعوه إلى مجالسه ويأخذ بقوله، فقال المهاجرون : ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ ! فقال لهم : ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول ، ثم دعاهم ذات يوم فأدخله معهم ليريهم منه ما رآه ، فقال عمر : ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر:1) حتى ختم السورة ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا فتح علينا ، وسكت بعضهم ، فقال عمر لابن عباس : أكذلك تقول ؟ قال : لا ، قال : فما تقول؟ قال : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه الله له إذا جاء نصر الله ، والفتح فتح مكة ، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك ، واستغفره إنه كان توابا ، قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لنعم ترجمان القرآن ابن عباس ، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد ، أي ما كان نظيرا له ، هذا مع أن ابن عباس عاش بعده ستا وثلاثين سنة ، فما ظنك بما اكتسب بعده من العلم .
وقال ابن عمر لسائل سأله عن آية : انطلق إلى ابن عباس فاسأله فإنه اعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال عطاء : ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس فقها وأعظم خشية ، إن أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كلهم من واد واسع .(6/31)
وقال أبو وائل : خطبنا ابن عباس وهو على الموسم ( أي وال على موسم الحج من عثمان رضي الله عنه ) فافتتح سورة النور نجعل يقرأ ويفسر ، فجعلت أقول ما رأيت، ولا سمعت كلام رجل مثله ، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت ، ولاه عثمان على موسم الحج سنة 35 وولاه علي على البصرة فلما قتل مضى إلى الحجاز ، فأقام في مكة ، ثم خرج منها إلى الطائف فمات فيها سنة ثمان وستين عن إحدى وسبعين سنة .
\
المشتهرون بالتفسير من التابعين
اشتهر بالتفسير من التابعين كثيرون فمنهم :
أ- أهل مكة وهم أتباع ابن عباس كمجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح .
ب- أهل المدينة وهم اتباع أبي بن كعب ، كزيد بن أسلم وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي .
ج- أهل الكوفة وهم أتباع ابن مسعود ، كقتادة وعلقمة ، والشعبي . فلنترجم لحياة اثنين من هؤلاء : مجاهد وقتادة .
1- مجاهد :
هو مجاهد بن جبر المكي مولى السائب بن أبى السائب المخزومي ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، وأخذ تفسير القرآن عن ابن عباس رضي الله عنهما ، روى ابن إسحاق عنه أنه قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وكان سفيان الثوري يقول : إذا جاءت التفسير عن مجاهد فحسبك به، واعتمد تفسيره الشافعي والبخاري وكان كثيرا ما ينقل عنه في " صحيحه" وقال الذهبي في آخر ترجمته : أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به ، توفي في مكة وهو ساجد سنة أربع ومائة ، عن ثلاث وثمانين سنة .
قتادة :(6/32)
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ولد أكمة أي أعمي سنة إحدى وستين ، وجد في طلب العلم ، وكان له حافظة قوية حتى قال في نفسه : ما قلت لمحدث قط أعد لي ، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي ، وذكره الإمام أحمد فأطنب في ذكره فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير ووصفه بالحفظ والفقه ، وقال : قلما تجد من يتقدمه أما المثل فلعل ، وقال : هو أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه ، وتوفي في واسط سنة سبع عشرة ومائة ، عن ستة وخمسين سنة .
القرآن محكم ومتشابه
يتنوع القرآن الكريم باعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : الإحكام العام الذي وصف به القرآن كله ، مثل قوله تعالى : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود: الآية 1) وقوله (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس:1) وقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4) .
ومعنى هذا الإحكام الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة والبلاغة ، أخباره كلها صدق نافعة ، ليس فيها كذب ، ولا تناقض ، ولا لغو لا خير فيه ، وأحكامه كلها عدل ، وحكمه ليس فيها جور ولا تعارض ولا حكم سفيه .
النوع الثاني : التشابه العام الذي وصف به القرآن كله ، مثل قوله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:23) ومعنى هذا التشابه ، أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: الآية 82)(6/33)
15 - ومن فوائد الآية: تحريم اتخاذ آيات الله هزواً سواء اتخذ الكل أم البعض؛ فمثال اتخاذ آيات الله الشرعية هزواً أن يهزأ الإنسان ويسخر من شرع الله عزّ وجلّ، سواء سخر بالشرع كله، أو بجزء منه؛ لأن الاستهزاء ببعض الشريعة استهزاء بجميع الشريعة؛ وهناك فرق بين من يدع العمل مع تعظيمه لشرع الله عزّ وجلّ؛ وبين من يسخر بالشرع، ويستهزئ به، ويرى أنه عبث، وأنه باطل، وما أشبه ذلك؛ فالأول له حكم العصاة؛ فإن كانت معصيته كبيرة تبلغ به الكفر فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق؛ وإلا فهو دون الفاسق - كما لو كانت من صغائر الذنوب، ولم يصر عليها -؛ وأما الثاني المستهزئ الذي يرى أن الشرع عبث، أو أنه لأناس انقرضوا، ومضوا، وأن هذا العصر لا يصلح للعمل بهذا الشرع؛ فهذا لا شك أنه كافر؛ وإذا استهزأ مستهزئ بحامل الشريعة، أو العامل بها من أجل حمله الشريعة، أو عمله بها فهو كافر؛ لأنه استهزأ بشريعة من شرائع الله؛ ولهذا قال عزّ وجلّ في أولئك النفر الذين قالوا: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول، وأصحابه - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء»؛ قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66] ؛ أما الذين يقولون عن حملة الشرع، والعاملين به: «هؤلاء دراويش لا يعرفون المجتمع ولا الدنيا»، وما أشبه ذلك من الكلمات؛ فهؤلاء أيضاً كفار؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 29 - 32] ؛ وفي معنى ذلك قولهم: «هؤلاء رجعيون»، وقد ذكر الله في آخر الآيات ما يدل على كفرهم في قوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34] ؛ فدل هذا على أن أولئك الذين يسخرون(10/101)
بالمؤمنين من أجل إيمانهم كفار.
ومثال اتخاذ الآيات الكونية هزواً: لو نزل المطر في أيام الصيف - وهذا لم تجر به العادة - فقال: «ما هذا التبديل! يوم أن يكون الناس محتاجين إلى المطر في الشتاء لا يجيء؛ والآن يأتي!» وهذا يمكن أن يوجد من بعض الفجرة الذين يقولون مثل هذا الكلام؛ أو مثلاً يُغْلَبُ قوميون من العرب - تغلبهم اليهود مثلاً، فيقول المستهزئ بآيات الله الكونية -: «ما هذا؟ كيف يكون النصر لليهود على العرب - على بني كنعان، وعدنان، وقحطان؛ كيف هذا وهم بنو إسرائيل؟!» وما أشبه ذلك؛ لكن المؤمن يستسلم لأمر الله عزّ وجلّ الكوني كما يستسلم لأمره الشرعي؛ ويرى أنه في غاية الحكمة، وفي غاية الإتقان، وأنه في مكانه، وأن ما حدث فهو واقع موقعه، وأن الحكمة تقتضي ذلك؛ لأن الله عزّ وجلّ حكيم؛ لا يصنع شيئاً إلا لحكمة؛ فالمهم أن الاستهزاء بالآية الكونية يمكن أن يكون؛ وقد نهى الله تعالى أن تتخذ آياته هزواً؛ وهو عام للكونية، والشرعية؛ لكن بما أن الآية في سياق الآية الشرعية تكون أخص بالآيات الشرعية منها بالآيات الكونية.
16 - ومن فوائد الآية: أن المخالفة نوع من الاستهزاء؛ لأنك إذا آمنت بأن الله عزّ وجلّ هو الرب العظيم الذي له الحكم، وإليه الحكم، ثم عصيته فكأنك تستهزئ بهذه العظمة؛ فلو أن ملكاً من الملوك - ولله المثل الأعلى - نهاك عن شيء، ثم إنك أمامه، وعلى عينه تخالف هذا الأمر، فسيقول لك: «أنت تستهزئ بي؛ لأني نهيتك، ففعلتَ ما نهيتك عنه أمامي»؛ فالمعصية نوع من الاستهزاء بالله عزّ وجلّ - وإن كانت ليست من النوع الذي يخرج به الإنسان من الإسلام -.(10/102)
17 - ومن فوائد الآية: وجوب ذكر نعمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واذكروا نعمت الله عليكم }؛ والذكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح؛ فذكرها باللسان أن تقول: أنعم الله عليّ بكذا، كما قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] ؛ فتثني على الله عزّ وجلّ بها تقول: اللهم لك الحمد على ما أنعمت عليّ به من المال، أو الزوجة، أو الأولاد، أو ما أشبه ذلك؛ وذكرها بالقلب أن تستحضرها بقلبك معترفاً بأنها نعمة من الله؛ وذكرها بالجوارح أن تعمل بطاعة الله، وأن يُرى أثر نعمته عليك.
18 - ومن فوائد الآية: أن منة الله علينا بإنزال الكتاب والحكمة أعظم من كل منة؛ يؤخذ ذلك من تخصيصها بعد التعميم؛ لأن التخصيص بعد التعميم يدل على أهميتها.
19 - ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب }؛ لأن ما أنزل الله إما أن يكون عيناً قائمة بنفسها؛ أو صفة قائمة بموصوفها؛ فأما الأول فمخلوق، كما في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً} [الأنعام: 99] ، وقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] ، وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} [الحديد: 25] ؛ وأما الثاني فكقوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وكما في هذه الآية: { وما أنزل عليكم من الكتاب }؛ وهذا يكون صفة لله عزّ وجلّ غير مخلوقة.
20 - ومن فوائد الآية: أن شريعة الله عزّ وجلّ كلها حكمة؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة }.(10/103)
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أنه لا حاجة إلى أن نتعب أنفسنا في طلب الحكمة، أو أن نتمحل حكمة بعيدة قد تكون مرادة لله، أو غير مرادة؛ لأننا نعلم أن كل ما شرعه الله فهو لحكمة؛ ومن الحكمة امتحان العبد بالامتثال فيما لا يعلم حكمته؛ ولهذا لما سئلت عائشة - رضي الله عنها -: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نقضي الصلاة»(1)؛ فجعلت الحكمة أمر الله، ورسوله؛ أما السؤال عن الحكمة من باب الاسترشاد فإن هذا لا بأس به؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة بعض الأشياء، كما في قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] ؛ والسؤال على هذا الوجه من باب طلب العلم الذي يزداد به المؤمن إيماناً، وعلماً؛ وأما السؤال عن الحكمة بحيث لا يستسلم الإنسان للحكم، ولا ينقاد إلا بمعرفتها فهذا ضلال، واستكبار عن الحق، واتباع للهوى، وجعل الشريعة تابعة لا متبوعة.
21 - ومن فوائد الآية: أن ما جاء في كتاب الله موعظة يتعظ بها العبد؛ و«الاتعاظ» معناه أن الإنسان يجتنب ما فيه مضرة إلى ما فيه منفعة؛ يقال: وعظته فاتعظ - أي انتفع، وترك ما فيه مضرته إلى ما فيه مصلحته؛ لقوله تعالى: {يعظكم به} [البقرة: 231] .
22 - ومنها: ثبوت رحمة الله عزّ وجلّ، وأن الله تعالى ذو رحمة واسعة؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }؛ فرحمة الله تعرف بآثارها.
23 - ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
24 - ومنها: عموم علم الله لكل شيء؛ لقوله تعالى: { أن الله بكل شيء عليم }.
25 - ومنها: تحذير المرء من المخالفة؛ لأنه إذا علم أن الله بكل شيء عليم حذر من مخالفته؛ ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، وقال تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }.(10/104)
26 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى تقع منهم؛ وهذا كان الغلاة يقولونه قديماً؛ قال شيخ الإسلام: «ومنكروه اليوم قليل»؛ والقدرية هم الذين يقولون: إن للعبد مشيئة، وقدرة مستقلتين عن الله عزّ وجلّ.
القرآن
)وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232)
التفسير:
{ 232 } قوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء } سبق معنى الطلاق؛ والخطاب للأزواج؛ والمراد بـ{ النساء } الزوجات.
قوله تعالى: { فبلغن أجلهن } أي انتهت عدتهن؛ { فلا تعضلوهن } أي تمنعوهن؛ والخطاب للأولياء؛ { أن ينكحن أزواجهن } جمع زوج؛ وسمي الزوج زوجاً؛ لأنه يجعل الفرد اثنين بالعقد؛ فالزوج يشفع زوجته؛ وهي كذلك؛ والمراد بـ «الأزواج» هنا الخاطبون لهن؛ وعبر عنهم بالأزواج باعتبار ما يكون؛ وقيل: الضمير في قوله تعالى: { ولا تعضلوهن } يعود للأزواج؛ وكانوا في الجاهلية إذا طلق الواحد منهم امرأته يستنكف أن يتزوجها أحد من بعده؛ فيمنعها من أن تتزوج بغيره إن استطاع؛ والأول أقرب؛ لكن لا مانع من حمل الآية على المعنيين.
وأضاف هنا النكاح إلى النساء؛ لأن المراد به العقد؛ والعقد حاصل من الطرفين؛ فيقال: نكحت المرأة الرجل؛ ونكح الرجل المرأة؛ وأما الوطء فيقال: نكح الرجل زوجته؛ ويقال: نكح بنت فلان - أي عقد عليها فإذا كان المراد بالنكاح العقدَ صح أن يطلق على الرجل، وعلى المرأة؛ وإذا كان الجماعَ فهو للرجل خاصة.(10/105)
قوله تعالى: { إذا تراضوا } أي النساء، وأزواجهن؛ و{ تراضوا } صيغة مفاعلة - أي حصل الرضا من الطرفين -؛ و{ بينهم } أي بين الأزواج، والزوجات؛ و{ بالمعروف } الباء للمصاحبة؛ فالمعنى أن يكون الرضا بينهم مصاحباً للمعروف غير منكر شرعاً، ولا عرفاً.
قوله تعالى: { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ والكاف للمخاطبة؛ والخطاب لكل من يصح خطابه؛ فإن قال قائل: لماذا لم يجئ الخطاب جمعاً مع قوله تعالى: { إذا طلقتم... فلا تعضلوهن }؟ فيقال: إن اسم الإشارة إذا خوطب به جماعة جاز أن يذكر مفرداً، ولو كانوا جماعة؛ وجاز أن يراعى في ذلك المخاطَب؛ فالكاف التي تتصل باسم الإشارة يجوز فيها لغة ثلاثة أوجه كما سبق في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] ؛ و{ يوعظ به } أي يذكَّر به، وينتفع؛ و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وصف بذلك؛ لأنه آخر مراحل الإنسان.
قوله تعالى: { ذلكم أزكى لكم وأطهر }: المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ وأتى الخطاب مراعياً فيه المخاطب - وهم جمع -؛ و{ أزكى } اسم تفضيل من الزكاء؛ و«الزكاء» في الأصل النمو؛ ومنه الزكاة؛ لأنها تنمي المال بإحلال البركة فيه؛ وتنمي الأخلاق بخروج الإنسان عن طائفة البخلاء إلى طائفة الكرام؛ { أزكى لكم } أي في أعمالكم، ونموها، وكثرتها؛ لأنكم إذا اتعظتم بذلك أطعتم الله، ورسوله، فزادت الأعمال، وزاد الإيمان؛ لأن الإيمان يزداد بامتثال الأمر، واجتناب النهي لله عزّ وجلّ؛ و{ أطهر } أي أشد طهراً - يعني من الذنوب -.(10/106)
قوله تعالى: { والله يعلم } أي ما فيه مصلحتكم، ونقاؤكم، وطهركم؛ وحذف المفعول لإفادة العموم؛ لأنه إذا حذف المفعول من الفعل المتعدي صار شاملاً لكل ما يحتمله؛ فهو يعلم الحاضر، والمستقبل، والماضي، وما يصلحكم، وما لا يصلحكم، ومن يمتثل منكم، ومن لا يمتثل؛ { وأنتم لا تعلمون } أي لا تعلمون ذلك؛ والجملة هنا اسمية في إسناد الله العلم إلى نفسه، وفي نفي العلم عن عباده.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا يحل عقد النكاح قبل انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن }؛ فإن النكاح في العدة باطل إلا ممن كانت العدة له إذا لم يكن طلاقه بينونة كبرى.
2 - ومنها: تحريم منع الولي موليته أن تنكح من رضيته؛ لقوله تعالى: { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف }.
3 - ومنها: أن النكاح لا بد فيه من ولي؛ وأن المرأة لا تزوج نفسها؛ وجه ذلك أنه لو كانت تملك العقد لنفسها ما كان للعضل تأثير؛ فلولا أن عضلهم مؤثر ما قال الله تعالى: { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}؛ لأنهم لو عضلوا، ولم يكن الولي شرطاً لزوجن أنفسهن؛ وربما ينازع منازع في دلالتها على ذلك؛ لأنه قد يقول: إن الله نهى عن منعهن؛ والإنسان قد يمنع بحسب العادة، أو العرف ابنته، أو موليته من أن تنكح زوجاً - وإن كان يمكنها أن تتزوج هي بنفسها -؛ لأنها لا تريد أن تخالفهم مخافة المعرة، واللوم من الناس؛ بمعنى أن الآية ليست صريحة واضحة في أنه لا يمكن النكاح إلا بولي؛ لأنه ممكن أن يكون لها حق تزويج نفسها لكن يمنعها أبوها، ويقول: إذا زوجتِ نفسك قاطعتك، أو هجرتك؛ وعلى فرض أنها لا تدل على ذلك فهناك أدلة أخرى تدل على اشتراط الولي، مثل قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي»(1).(10/107)
4 - ومن فوائد الآية: إطلاق الشيء على ما مضى، أو ما يستقبل مع أنه في الحال لا يتصف به؛ وذلك قوله تعالى: { أن ينكحن أزواجهن }؛ لأنه إذا كان المراد من طلقت، ثم أراد زوجها أن يعود إليها، فهم أزواجهن باعتبار ما مضى؛ وإن كان المراد الخطّاب الذين يخطبونهن بعد انقضاء العدة فهم أزواجهن باعتبار المستقبل؛ وقد جاء التعبير عن الماضي، والمستقبل في القرآن، كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] مع أنهم حين إتيان المال قد بلغوا؛ فهذا تعبير عن الماضي؛ وقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] وهو لا يعصر الخمر؛ ولكن يعصر عنباً يكون خمراً؛ فهذا تعبير عن المستقبل.(10/108)
5 - ومن فوائد الآية: اعتبار الرضا في عقد النكاح سواء كان من الزوج، أو من الزوجة؛ لقوله تعالى: { إذا تراضوا بينهم بالمعروف }؛ فالرضا شرط لصحة النكاح سواء أكانت المرأة بكراً، أم ثيباً؛ وسواء أكان الولي أباها، أم غيره - على القول الراجح -؛ وأنه ليس للأب، ولا لغيره أن يجبر المرأة على النكاح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر؛ ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: كيف إذنها يا رسول الله؟ قال: أن تسكت»(2)؛ وورد في صحيح مسلم: «البكر يستأذنها أبوها»(3)؛ وهذا صريح في أنه لا يحل لأحد أن يزوج ابنته وهي كارهة؛ بل لا بد من رضاها؛ والمعنى يقتضيه أيضاً؛ لأنه إذا كان الأب لا يملك أن يبيع شيئاً من مالها إلا برضاها، فكيف يملك أن يزوجها بدون رضاها؟! فلو أن رجلاً أكره ابنته أن تشتري هذا البيت فالعقد غير صحيح مع أنه بإمكانها إذا اشترت البيت وهي كارهة أن تبيعه بعد يوم، أو يومين؛ فكيف يملك أن يكرهها على أن تتزوج برجل لا تريده؟! فالشريعة جاءت من لدن حكيم خبير؛ فالصواب بلا شك أنه لا يحل للإنسان أن يجبر ابنته على نكاح من لا تريد مهما كان؛ لكن إذا أرادت إنساناً ليس مرضياً في دينه، وخلقه فللولي أن يأبى - ولو بقيت لا تتزوج طوال عمرها -؛ فليس عليه شيء؛ لأنه مأمور بذلك؛ وما يترتب على المأمور فغير محظور؛ فإن قيل: يرد على ذلك تزويج أبي بكر عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين؟(10/109)
فالجواب: أن يقال: لن يرد مثل هذه الصورة؛ لأننا نعلم علم اليقين أن عائشة سترضى برسول الله (صلى اللهةعليه وسلم)، ولا تبغي به بديلاً؛ ولذلك لما أمره الله عزّ وجلّ أن يخير نساءه فبدأ بها رضي الله عنها، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك؛ قالت: يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبوي؟! إنني أريد الله ورسوله والدار الآخرة»(4)؛ وعلى هذا لا يتم الاستدلال بها على تزويج المرأة بغير إذنها.
6 - ومن فوائد الآية: أن المرأة لو رضيت الزوج على وجه غير معروف - بل على وجه منكر لا يقره الشرع - فإنها لا تمكن من ذلك؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ فلو أن المرأة رضيت هذا الخاطب لفسقه، وانسلاخه من الدين - وإن لم يصل إلى حد الكفر - فلوليها أن يمنعها؛ لقوله تعالى: { إذا تراضوا بينهم بالمعروف }.
7 - ومنها: إثبات اليوم الآخر - وهو يوم القيامة -؛ لقوله تعالى: { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما ذكر في ذلك اليوم من البعث، والحساب، والصراط، ودنوّ الشمس، والعرق، وغير ذلك مما ذكر في الكتاب والسنة مجملاً أحياناً، ومفصلاً أحياناً؛ بل قال شيخ الإسلام رحمه الله -: يدخل فيه الإيمان بكل ما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وغير ذلك.
8 - ومنها: أن الاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله تعالى: { ذلكم أزكى لكم }؛ فهو ينمي النفس، وينمي الإيمان، وينمي الأخلاق، وينمي الآداب؛ فكلما كان الإنسان أشد تطبيقاً لأحكام الله كان ذلك أزكى له.(10/110)
9 - ومنها: أن تطبيق الأحكام أطهر للإنسان؛ يعني أطهر للقلب؛ لأن الأعمال الصالحة تطهر القلب من أرجاس المعاصي؛ ولذلك تجد عند الإنسان المؤمن من الحيوية، والنشاط، والسرور، والفرح ما ليس عند غيره؛ ويعرف ذلك في وجهه؛ فالإنسان صاحب المعاصي مظلم الوجه كاسف البال؛ ولو فرح بما فرح من زهرة الدنيا فهو فرح خاسر؛ لكن المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام، وامتلأ قلبه بنور الله وهدايته، ليس كذلك؛ وأسعد الناس في الدنيا أطهرهم قلباً.
10 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى نقص الإنسان في علمه؛ لقوله تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } فنفى عن الإنسان العلم - والمراد نفي كماله؛ لأن الإنسان له علم، كما قال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] ، وقال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33لكن لنقصان علمه نفى الله عنه العلم؛ وهنا قال تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }؛ فإذا كان الله يعلم، ونحن لا نعلم فإن مقتضى ذلك أن نستسلم غاية الاستسلام لأحكامه سبحانه وتعالى، وأن لا نعارضها بعقولنا مهما كانت؛ ولهذا ينعى الله عزّ وجلّ على الكفار والمشركين عدم العقل؛ وكل ما خالف الشرع فليس بعقل.
القرآن(10/111)
)وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233)
التفسير:
{ 233 } قوله تعالى: { والوالدات } اسم فاعل - أي اللاتي ولدن؛ { يرضعن أولادهن }: الإرضاع معروف؛ والأولاد يشمل الذكور، والإناث، كما في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11] ؛ والجملة خبرية بمعنى الأمر؛ وإتيان الأمر بصيغة الخبر أبلغ من الأمر المحض؛ كأنه حين يأتي بصيغة الخبر أمر مستقر يتحدث عنه.
قوله تعالى: { حولين كاملين }: «الحول» بمعنى السنة؛ وهو اثنا عشر شهراً هلالياً؛ ثم أكد الله هذين الحولين بقوله تعالى: { كاملين } أي بدون نقص.
قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ الجار، والمجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: ذلك لمن أراد؛ فيكون المراد به: الوالدات المرضعات؛ وذَكَّر الضمير في { أراد } باعتبار لفظ «مَن» ؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بقوله تعالى: { يرضعن أولادهن }؛ فيكون المعنى: الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الأزواج؛ فهنا مرضِع، ومرضَع له؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] ؛ ولو قيل: إن الآية تشمل هذا وهذا، لم يكن بعيداً.(10/112)
وقوله تعالى: { أن يتم الرضاعة } أي أن يأتي بها على وجه التمام؛ فإنها لا تنقص عن حولين.
قوله تعالى: { وعلى المولود له }؛ { المولود } اسم جنس؛ أو أن «أل» اسم موصول؛ لأنها إذا اقترنت بمشتق صارت اسماً من الأسماء الموصولة المشتركة - أي الصالحة للواحد، ومن فوقه -؛ فحينئذ أفرد الضمير الراجع إليها - { له } - باعتبار اللفظ؛ وجُمع - { وإن أردتم } - باعتبار المعنى؛ وملاحظة المعنى، واللفظ في هذه الألفاظ المشتركة جاء بها القرآن مثل قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} [الطلاق: 11] ؛ {يدخله} باعتبار اللفظ: مفرد؛ و {خالدين} باعتبار المعنى: جمع.
قوله تعالى: { وعلى المولود } الجار والمجرور خبر مقدم؛ و{ له } متعلقة بـ{ المولود }؛ و{ رزقهن مبتدأ مؤخر.
قوله تعالى: { وعلى المولود له } أي على الزوج، أو السيد، أو الواطئ بشبهة { رزقهن } أي نفقتهن؛ { وكسوتهن } أي ما يكسو به الإنسان بدنه؛ { بالمعروف } أي رزقهن، وكسوتهن بما تعارف الناس بينهم عليه.
قوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها }: التكليف معناه إلزام ما فيه مشقة؛ أي لا يلزم الله عزّ وجلّ نفساً إلا ما تقدر عليه.
قوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها }: «المضارة» طلب ما يضر الغير؛ وفي الآية قراءتان: { لا تضارَّ } بفتح الراء؛ و{ لا تضارُّ } بضمها؛ فعلى قراءة الفتح تكون { لا } ناهية؛ و{ تضارَّ } فعل مضارع مجزوم بـ{ لا } الناهية؛ وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين؛ فإذا قيل: لماذا لم يحرك بالكسرة لأن التحريك بالكسرة هو الغالب في التقاء الساكنين، كما قال تعالى: {لم يكنِ الذين كفروا} [البينة: 1] ؟ فالجواب أن الفتح أخف؛ أما على قراءة الرفع فإن { لا } نافية، و{ تضارُّ } فعل مضارع مرفوع؛ وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.(10/113)
وقوله تعالى: { تضار } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل، وأصله: «تضارِر» بكسر الراء الأولى، و{ والدة } فاعل؛ ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسم فاعله، وأصله: «تضارَر» بفتح الراء الأولى، و{ والدة } نائب فاعل؛ وفاعل الإضرار المولود له - على هذا الاحتمال -.
قوله تعالى: { ولا مولود له بولده }: الواو حرف عطف؛ و{ لا } نافية؛ و{ مولود } معطوف على والدة.
قوله تعالى: { وعلى الوارث } خبر مقدم؛ و{ مثل ذلك } مبتدأ مؤخر؛ والمشار إليه الرزق، والكسوة؛ يعني أن على وارث المولود مثل ما على أبيه من النفقة، والكسوة.
قوله تعالى: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }؛ «الفصال» بمعنى الفطام؛ والفاعل في { أرادا } يعود على الوالدة، والمولود له؛ فلا بد من أن يقع هذا الفصال عن تراض منهما؛ لقوله تعالى: { عن تراض منهما }؛ و «التراضي» تفاعل من رضي؛ فلا بد أن يكون من الطرفين؛ فلو رضيت الأم دون الأب امتنع الفصال؛ ولو رضي الأب دون الأم امتنع الفصال؛ و «التشاور» تفاعل أيضاً؛ وأصله من: شار العسل - إذا استخلصه من الشمع -؛ والمراد به: تبادل الرأي بين المتشاورين لاستخلاص الأنفع، والأصوب؛ فلا بد من أن يقع التشاور من أجل مصلحة الطفل؛ فينظر هل من مصلحته أن يفطم قبل الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى حتى يتم الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى بعد الحولين أيضاً - فربما يكون محتاجاً إلى الرضاعة حتى بعد الحولين.
وقوله تعالى: { فلا جناح عليهما } أي لا إثم على الأبوين في فصاله قبل تمام الحولين.
قوله تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي: إن أردتم أن تطلبوا لأولادكم من يرضعهم؛ وتوجيه الخطاب للجماعة من باب الالتفات من الخطاب بالتثنية إلى الخطاب بالجمع؛ فهو موجه للعموم.
قوله تعالى: { فلا جناح عليكم } أي فلا إثم عليكم.(10/114)
قوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم } أي إذا أعطيتم ما اتفقتم عليه في العقد على الإرضاع؛ { بالمعروف } أي بما عرف من حسن القضاء بحيث لا يكون نقص، ولا مماطلة فيما اتفق عليه.
وفي قوله تعالى: { آتيتم } قراءتان؛ أحدهما بمد الهمزة؛ والثانية بقصرها؛ والفرق بينهما أن «أتيتم» المقصور معناه جئتم؛ و «آتيتم» الممدود معناه أعطيتم.
قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره؛ وإن شئنا قلنا: إن «تصديق أخباره» داخل في فعل أوامره؛ لأن تصديق الأخبار من الواجبات.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } جملة معطوفة على قوله تعالى: { واتقوا الله }؛ و{ بما تعملون } متعلق بـ{ بصير }؛ وقدم على عامله للمبادرة بالتحذير، والتأكيد على علمه بما نعمل؛ والعلم بأن الله بما نعمل بصير من تقوى الله عزّ وجلّ؛ لكن لما كان من تمام التقوى أن تعلم أن الله بما تعمل بصير نص عليه؛ لأنك متى علمت ذلك خفت من هذا الذي هو بصير بعملك أن يجدك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك؛ لأنه بصير بذلك.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب الإرضاع على الأم؛ لقوله تعالى: { والوالدات يرضعن }.
2 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من الوالدة بولدها؛ لأنه أمرها أن ترضع مع أن فطرتها، وما جبلت عليه تستلزم الإرضاع؛ وهذا؛ لأن رحمة الله أعظم من رحمة الأم بولدها؛ ومثله قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] ؛ فلأن الله أرحم بأولادنا منا أوصانا فيهم.
3 - ومنها: أن الرضاع التام يكون حولين كاملين؛ لقوله تعالى: { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة(10/115)
4 - ومنها: توكيد اللفظ لينتفي احتمال النقص؛ لقوله تعالى: { كاملين }؛ ومثله قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] : فأكدها بـ {كاملة} ؛ لئلا يتوهم واهم في تلك العشرة الكاملة أن تفريق الثلاثة والسبعة يقتضي أن يكون كل عدد منفرداً عن الآخر.
5 - ومنها: أنه ينبغي استعطاف المخاطب بما يقتضي عطفه على الشيء؛ لقوله تعالى: { يرضعن أولادهن حيث أضاف الأولاد إلى المرضعات.
6 - ومنها: أنه يجوز النقص عن الحولين؛ لكن ذلك بالتشاور، والتراضي؛ لقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ لكن يجب أن نعلم أن الإتمام تارة يكون واجباً إذا ترتب على تركه إخلال بواجب، كقوله (ص): «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا»(1)؛ وتارة يكون من باب الكمال، كما في هذه الآية: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ لأن الله تعالى قال: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما... } إلخ؛ ولو كان الإتمام إتمام واجب لم يكن فيه خيار؛ فإن قيل: هل تجوز الزيادة على الحولين؟
فالجواب: أنه ينظر في حال الطفل إن بقي محتاجاً إلى اللبن زيد بقدره؛ وإن لم يكن محتاجاً فقد انتهت مدة رضاعته؛ وقوله تعالى: { الرضاعة } هي اسم مصدر بمعنى الإرضاع الذي يحتاجه الطفل.
7 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية في قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ والجبرية يسلبون الإنسان إرادته، وقدرته، واختياره، ويقولون: «الإنسان ليس له إرادة، ولا قدرة؛ إنما هو مجبر على عمله»؛ فلا يرون فرقاً بين الذي يتحرك ارتعاشاً، والذي يتحرك اختياراً.
8 - ومنها: أن الولد هبة للوالد؛ لقوله تعالى: { وعلى المولود له }؛ فبعض العلماء استنبط أن هذه الآية تدل على أن الوالد موهوب له؛ وعلى كل حال هذا شبيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»(2).(10/116)
9 - ومنها: أنه قد يكون للشيء الواحد سببان؛ فالرزق، والكسوة هنا لهما سببان، كفقير غارم؛ وإذا تخلف أحد السببين بقي حكم السبب الآخر؛ فلو فرض أن امرأة ناشز لا تطيع زوجها فيما يجب عليها، وهي ترضع ولده كان لها الرزق، والكسوة لا بالزوجية - لأنها ناشز - ولكن بالرضاعة.
فإن قيل: إذا كان سبب الرزق، والكسوة الزوجية أصبح الرضاع عديم التأثير.
قلنا: لا؛ لأننا إذا قلنا: إن تخلف الإنفاق بالزوجية، وجب بالرضاع - هذه واحدة؛ ثانياً: أنه ربما يترتب لها من الطعام والكسوة إذا كانت ترضع ما لا يترتب لو كانت لا ترضع؛ فالمرضع ربما تحتاج إلى غسل ثيابها دائماً من الرضاعة، وتحتاج إلى زيادة طعام، وشراب.
10 - ومن فوائد الآية: اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ وهذا ما لم يخالف الشرع؛ فإن خالفه رد إلى الشرع.
11 - ومنها: أنه يجب على المولود له رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ فيرجع إلى العرف في نوع الرزق، وكميته، وكيفيته؛ وكذلك الكسوة.
12 - ومنها: وجوب الإنفاق على المولود له من زوج، أو غيره للمرضع؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله، أو بائناً منه؛ فإن كانت في حباله فلوجوب الإنفاق عليها سببان: الزوجية، والإرضاع؛ وإن لم تكن في حباله فلها سبب واحد - وهو الإرضاع؛ ولا يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان - كما سبق - كما في الزوج يكون ابن عم، فيرث بالزوجية، والقرابة.(10/117)
13 - ومنها: أن المعتبر حال الزوجة؛ لا حال الزوج؛ فيرجع تقدير الرزق والكسوة إلى حال الزوجة، فكأنه قال: الرزق الذي يصلح لمثلها، والكسوة التي تصلح لمثلها؛ وعلى هذا فإذا كان الزوج فقيراً وهي غنية يُلزَم بنفقة غني، وكسوة غني؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن المعتبر حال الزوج، واستدل بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7] ؛ وأجيب عن الآية بأن المراد: رزقهن من أمثالكم، وكسوتهن من أمثالكم؛ وبهذا تجتمع الآيتان؛ وقال بعض أهل العلم: بل نعمل بالآيتين جميعاً، فنقول: المعتبر حال الزوج، والزوجة جميعاً: إن كانا موسرين فنفقة الموسر؛ وإن كانا معسرين فنفقة المعسر؛ وإن كان أحدهما فقيراً، والآخر غنياً فنفقة المتوسط؛ والراجح أن المعتبر حال الزوج - وهو مذهب الشافعي -.
14 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ لا يكلف نفساً ما لا تطيق؛ لقوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها، أي طاقتها.
ويتفرع على هذه الفائدة: بيان رحمة الله عزّ وجلّ بعباده، وأن الله سبحانه وتعالى لا يكلفهم إلا ما يطيقون.
15 - ومن فوائد الآية: تحريم المضارة؛ لقوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده }؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(1)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من ضار ضار الله به»(2)؛ ولا فرق بين أن تكون المضارة من الوالدة للمولود له، أو بالعكس؛ لأن الآية تحتمل هذا، وهذا.
16 - ومنها: وجوب النفقة للمولود على الوارث؛ لقوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك }؛ وإيجاب النفقة للمرضع من أجل الرضيع دليل على وجوب الإنفاق على الرضيع نفسه.
17 - ومنها: أنه يجوز للأم أن تفطم الولد قبل تمام الحولين؛ لكن بشرط التراضي، والتشاور؛ لقوله تعالى: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }.(10/118)
18 - ومنها: عناية الله عزّ وجلّ بالرضَّع؛ لأنه لم يبح فطامهم قبل الحولين إلا بعد التراضي بين الوالدة، والمولود له، والتشاور.
19 - ومنها: أنه لا يكفي المراضاة بين الزوجين في الفطام؛ بل لا بد أن يكون هذا بعد التشاور، والمراجعة في الأمر حتى إذا تبينت مصلحة الطفل جاز ذلك.
20 - ومنها: جواز استرضاع الإنسان لولده المراضع؛ لقوله تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم }؛ ولو أن الأم طلبت أن ترضعه، وقال الأب: ترضعه غيرها أجبر الأب على موافقة الأم؛ لقوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن }؛ فبدأ بـ{ الوالدات }؛ لأن الأم أشفق، ولبنها لطفلها أطيب؛ ولأن ذلك أدعى إلى التعاطف بين الأم، وولدها.
فإن قيل: لو طلبت عليه أجرة أكثر من غيرها فهل يلزمه إجابتها؟
فالجواب: إن كانت الزيادة يسيرة وجبت إجابتها؛ وإن كانت كثيرة لم تلزم إجابتها.
فإن قيل: هل للأم أن تطلب الأجرة إذا كانت مع المولود له؟
فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم؛ والراجح أنه ليس لها ذلك اكتفاءً بإنفاق الزوج عليها بالزوجية.
21 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان تسليم العوض بالمعروف - أي بدون مماطلة، وبدون نقص -؛ لقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف }.
22 - ومنها: أنه لا يجب للأجير إلا ما اتفق عليه في العقد؛ لقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم }؛ فلو أن المستأجر طلب منه أن يزيد في الأجرة فإنه لا يلزمه؛ حتى ولو زادت المؤن فلا يلزمه شيء سوى ما اتفقا عليه.
23 - ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
24 - ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من الصفات؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير }.
25 - ومنها: التحذير من مخالفة أمر الله؛ لأنه سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالتقوى قال: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } يحذرنا من مخالفة أمره بذلك.(10/119)
26 - ومنها: عموم علم الله بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون }؛ و{ ما } اسم موصول عام.
27 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { بما تعملون }، وقوله تعالى: { آتيتم }، وقوله تعالى: { وإن أردتم }؛ فهذه عدة شواهد تردّ على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله ليس له إرادة فيه.
28 - ومنها: إثبات بصر الله، وعلمه بما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون بصير }.
29 - ومنها: أن وساوس القلوب لا يؤاخذ بها؛ لأنها ليست من الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم»(1).
القرآن
)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:234)
التفسير:
{ 234 } قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن }؛ { الذين } اسم موصول مبتدأ في محل رفع؛ وجملة: { يتوفون } صلة الموصول؛ وجملة { يتربصن } خبر { الذين }؛ وفيها أشكال، حيث لم يوجد رابط يربطها بالمبتدأ؛ لأن قوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن } ليس فيها ضمير يعود على { الذين }؛ فاختلف الناس في كيفية الربط بين المبتدأ، والخبر؛ فقال بعضهم التقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم؛ وعلى هذا يكون الضمير: في «بعدهم» هو الرابط الذي يربط بين المبتدأ، والخبر؛ وقال بعضهم: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن؛ فقدر المبتدأ؛ هذان وجهان؛ ولكن الأول أيسر من الثاني، وأقرب.(10/120)
وقوله تعالى: { يتوفون } بضم الياء - أي يتوفاهم الله -؛ وذلك بقبض أرواحهم عند الموت؛ وقد أضاف الله التوفي إليه تارة، كما في قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] ؛ وإلى ملك الموت تارة، كما في قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11] ؛ وإلى رسله - وهم الملائكة - تارة، كما في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61فإضافتها إلى الله؛ لأنها بأمره؛ وإلى ملك الموت؛ لأنه الذي يقبض الروح؛ وإلى الرسل؛ لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء؛ ولذلك بني الفعل في الآية لما لم يسم فاعله؛ ليشمل كل ذلك.
وقوله تعالى: { منكم }: الخطاب للناس جميعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174] ؛ فالخطابات بصيغة الجمع لجميع من نزل إليهم القرآن.
وقوله تعالى: { ويذرون أزواجاً } أي يتركون أزواجاً بعدهم؛ و{ أزواجاً } جمع زوج - وهو من عقد له النكاح من رجل، أو امرأة -؛ إلا أن الفرضيين - رحمهم الله - اصطلحوا على أن الرجل يقال له: زوج؛ والمرأة يقال لها زوجة من أجل التمييز بينهما في قسمة الميراث.
وقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن } أي ينتظرن، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج؛ لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن «أنفسهن» توكيد للفاعل في { يتربصن } زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن.
قوله تعالى: { أربعة أشهر وعشراً }؛ { أربعة } نائبة مناب الظرف؛ لأنها مضافة إليه؛ وهي متعلقة بـ{ يتربصن }.(10/121)
قوله تعالى: { وعشراً } أي وعشر ليال؛ والمراد: عشرة أيام لكن يعبر عن الأيام بالليالي، كقوله تعالى: {إن لبثتم إلا عشراً * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} [طه 103، 104] فتبين أن المراد بـ «العشر» هنا الأيام؛ وهنا قوله تعالى: { وعشراً } يعني عشرة أيام؛ ولكن قال أهل اللغة: إن العرب يعبرون بالليالي عن الأيام؛ لأنها قبلها.
قوله تعالى: { فإذا بلغن }: الضمير يعود على الأزواج المتوفى عنهن أزواجهن؛ و{ أجلهن } أي مدة العدة؛ وأجل كل شيء: غايته؛ أي الغاية التي تنتهي بها العدة؛ وهي هنا أربعة أشهر وعشراً.
قوله تعالى: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف }: الخطاب لأولياء النساء؛ فلو أرادت المرأة أن تعمل شيئاً محرماً عليها في هذه العدة لزم وليها أن يمنعها؛ وإذا تمت العدة فلا جناح على وليها أن يمكنها من أن تفعل في نفسها ما تشاء - لكن بالمعروف -.
قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، أي عليم ببواطن الأمور؛ فالخبير أخص من العليم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن }؛ لأنها خبر بمعنى الأمر.
2 - ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء كانت صغيرة، أم كبيرة؛ لقوله تعالى: { أزواجاً }، وأطلق؛ فأما الكبيرة فتقوم بما يلزمها من الإحداد؛ وأما الصغيرة فالمخاطب بذلك وليها يجنبها ما تتجنبه المحادة الكبيرة.
3 - ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء دخل بها، أم لم يدخل؛ لقوله تعالى: { أزواجاً }؛ لأن الزوجة تكون زوجة بمجرد العقد بخلاف الطلاق؛ فإن الطلاق قبل الدخول، والخلوة لا عدة فيه؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] .(10/122)
4 - ومنها: وجوب انتظار المرأة بنفسها مدة العدة بحيث لا تتزوج، ولا تتعرض للزواج؛ لقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن }، كما تقول: تربص بكذا، وكذا - يعني لا تتعجل.
5 - ومنها: أن السرية لا تلزمها عدة الوفاة؛ لأنها ليست بزوجة.
6 - ومنها: أنه لو تبين عند الوفاة أن النكاح باطل لم تعتد بالوفاة، مثل أن يتبين عند وفاته أنها أخته من الرضاع؛ لأنه تبين أن النكاح باطل - وجوده كالعدم -.
7 - ومنها: أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت تحيض، أو لا تحيض؛ ويستثنى من ذلك الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] ؛ ولا عدة للمتوفى عنها زوجها سوى هاتين.(10/123)
8 - ومنها: حكمة الله بتقدير عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر؛ وعلق الحكم بهذا العدد، ولم يعلقه بالأقراء - كما في المطلقات -؛ لأن أقل ما يمكن أن يتحرك فيه الجنين أربعة أشهر؛ وزيدت العشرة للاستثبات؛ هكذا قال بعض أهل العلم؛ ولكن عند التأمل يتبين لك ضعف هذا التعليل؛ لأن المرأة المتوفى عنها زوجها قد لا يدخل بها؛ وقد تكون صغيرة لا يمكن أن تحمل؛ وقد تكون كبيرة آيسة من الحمل؛ ثم الاحتياط بأربعة أشهر وعشر: يمكن العلم ببراءة الرحم قبل هذه المدة؛ فتبين بهذا أن الحكمة شيء آخر؛ وعندي - والله أعلم - أن الحكمة أنهم لما كانوا في الجاهلية تبقى المرأة حولاً كاملاً في العدة بعد موت زوجها، وتبقى في بيت صغير، كالخباء لها، ولا تمس الماء أبداً؛ تأكل، وتشرب حتى لا تموت؛ وتبقى بعرقها، ورائحتها، وحيضها، ونتنها لمدة سنة كاملة؛ فإذا تمت السنة أتوا لها بفأرة، أو عصفور، فقالوا لها: «امحشي به فرجك»؛ فقلّ ما تتمسح بشيء إلا مات من الرائحة الكريهة؛ مدة سنة ربما يأتيها الحيض اثنتي عشرة مرة وهي في هذا المكان؛ ثم إذا تم الحول أتوا لها ببعرة؛ فأخذت البعرة، ورمت بها، كأنها تقول: كل ما مر عليّ فهو أهون من رمي هذه البعرة؛ فجاء الإسلام، وأبدل الحول بأربعة أشهر؛ لأن أربعة أشهر: ثلث حول؛ وعشرة أيام: ثلث شهر؛ والثلث كثير؛ فأُتي من الحول بثلثه، ومن الشهر بثلثه؛ فإن تبينت هذه الحكمة، وكانت هي مراد الله فهذا من فضل الله؛ وإن لم تتبين فإننا نقول: الله أعلم بما أراد؛ وهذا كغيرها من العبادات ذوات العدد التي لا نعلم ما الحكمة فيها.
9 - ومن فوائد الآية: أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل كل ما كان معروفاً من تجمل، وخروج من البيت، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم }.(10/124)
10 - ومنها: أن الأولياء مسؤولون عن مولياتهم؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم } إشارة إلى أن الرجال لهم ولاية على النساء؛ فيكونون مسؤولين عنهن.
11 - ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ والعرف معتبر إذا لم يخالف الشرع؛ فإن خالف الشرع فلا يعتبر.
12 - ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بالظاهر، والخفي؛ لقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ والخبير هو العليم ببواطن الأمور؛ ومن كان عليماً ببواطن الأمور كان عليماً بظواهرها من باب أولى.
13 - ومنها: التحذير من مخالفة هذا الحكم؛ لقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير } أي احذروا من مخالفته؛ فإن الله بما تعملون خبير.
القرآن
)وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:235)
التفسير:
{ 235 } قوله تعالى: { ولا جناح عليكم } أي لا إثم عليكم؛ والخطاب في قوله تعالى: { عليكم } لجميع الناس؛ فكل خطاب في القرآن بلفظ الجمع فهو للناس عموماً إلا ما خصه السياق بقرينة فليس للعموم.(10/125)
قوله تعالى: { فيما } أي في الذي { عرضتم به من خطبة النساء }: «التعريض» هو أن يأتي الإنسان بكلام لا يصرح فيه بمراده؛ لكنه مقارب، مثل أن يقول للمرأة: «إني في مثلكِ لراغب»؛ «إنكِ امرأة يرغب فيكِ الرجال»؛ «إذا انقضت العدة فأخبريني»؛ وعلى هذا فقس؛ فهذا ليس فيه تصريح أن يخطبها لا لنفسه، ولا لغيره؛ لكنه يسمى تعريضاً؛ والتعريض، والتلويح بمعنًى واحد؛ و «الخطبة» معناها أن يعرض الإنسان نفسه على المرأة ليتزوجها، ويطلبها إليه؛ وسميت خطبة إما من الخَطْب بمعنى الشأن؛ لأن هذا شأنه عظيم؛ وإما من الخطابة؛ لأنها مقرونة بالقول - حتى إنه كان فيما سلف يأتي الخاطب إلى المرأة، وأهلها، ويخطب فيهم - يعني يتكلم بخطبة، ثم يبدي أنه يرغبها؛ ومع ذلك يفرقون بين الخِطبة - بالكسر -؛ وبين الخُطبة - بالضم -؛ فيقول: الخُطبة - بالضم: هي القول المشتمل على الوعظ، والتذكير، وما أشبه ذلك -؛ والخِطبة - بالكسر -: هي طلب المرأة لتكون زوجة للطالب؛ والمراد بـ{ النساء } من مات عنهن أزواجهن.
قوله تعالى: { أو أكننتم في أنفسكم } أي أخفيتم، وأضمرتم في أنفسكم.
قوله تعالى: { علم الله أنكم ستذكرونهن } أي تكلمون فيهن معربين عن رغبتكم في نكاحهن، مثل أن يذكر لأخيه، أو لأبيه، أو لابنه، أو لصديقه بأنه يرغب أن يتزوج فلانة.
قوله تعالى: { ولكن لا تواعدوهن سراً } معطوف على قوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم }.(10/126)
وقوله تعالى: { ولكن لا تواعدوهن سراً }: { لا } ناهية؛ لحذف النون؛ و{ سراً } ذكر كثير من المفسرين أن «السر» من أسماء النكاح - أي لا تواعدوهن نكاحاً؛ وقالوا: إن «السر» من أسماء النكاح؛ لأنه يقع بين الرجل وامرأته سراً؛ وقال بعض العلماء: { لا تواعدوهن سراً } أي وعداً سراً فيما بينكم، وبينهن؛ وإذا نهي عن السر فالعلانية من باب أولى؛ ويختلف الإعراب بناءً على القولين؛ فإذا قلنا: إن { سراً } بمعنى النكاح صار مفعولاً ثانياً لـ{ تواعدوهن }؛ وإذا قلنا: إن { سراً } ضد العلانية، وأن المعنى: «لا تواعدوهن وعداً سرياً» صار مفعولاً مطلقاً.
قوله تعالى: { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } استثناء منقطع؛ وعلامته أن تكون «إلا» بمعنى «لكن»، وأن لا يكون ما بعدها من جنس ما قبلها؛ فقوله تعالى: { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } ليس هو من جنس ما قبله من المواعدة سراً؛ لأن المواعدة سراً ليس من القول المعروف؛ إذ إن القول المعروف هو التعريض دون التصريح.
قوله تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح }؛ العزم على الشيء إرادة فعله بلا تردد؛ والمراد به هنا الفعل؛ و{ عقدة النكاح } أي عقده؛ لأن النكاح عقد بين الزوج، والزوجة؛ فهو كالعقود الأخرى، كعقد البيع، وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: { حتى يبلغ الكتاب أجله }؛ { حتى } للغاية، وما بعدها منصوب بها؛ و{ الكتاب } فعال بمعنى مفعول؛ والمراد بـ{ الكتاب } هنا - كما ذكره المفسرون - العدة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرضها؛ فهي مفروضة؛ يعني حتى يبلغ المفروض أجله؛ والمفروض هي العدة؛ ويحتمل أن يكون المراد بـ{ الكتاب} هنا ما يكتبونه عند ابتداء سبب العدة من موت، أو طلاق، أو نحوه، كأن يقال مثلاً: توفي في يوم كذا؛ ويكون هذا داخلاً في قوله تعالى: { وأحصوا العدة } يعني اضبطوها، وحرروها؛ وعلى هذا فيكون المعنى الكتاب المكتوب الذي فيه بيان متى كان سبب العدة من وفاة، أو طلاق.(10/127)
وقوله تعالى: { أجله }: أجل الشيء منتهاه، وغايته؛ أي حتى يبلغ غايته حسب ما فرض الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: { واعلموا } فعل أمر؛ وأتى سبحانه وتعالى به للأهمية، والتحذير من المخالفة؛ وهذه الجملة يؤتى بها من أجل التنبيه؛ فيقال: اعلم كذا، وكذا؛ لكي تنتبه؛ { أن الله يعلم ما في أنفسكم } أي ما استقر في أنفسكم مما تضمرونه من كل شيء؛ { فاحذروه }: الفاء هذه للتفريع - أي إذا علمتم هذا فاحذروا الله عزّ وجلّ من أن تضمروا في هذه الأنفس ما لا يرضاه سبحانه وتعالى؛ والحذر من الشيء معناه أخذ الحِذْر - وهو الاحتياط، وعدم المخالفة.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله غفور حليم }؛ فإذا أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه فإن لديكم باباً واسعاً - وهو المغفرة؛ تعرضوا لمغفرة الله عزّ وجلّ بأن تستغفروه، وتتوبوا إليه؛ وسبق أن «الغفور» مأخوذ من: «الغَفْر» وهو الستر مع الوقاية؛ والمراد به ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ و «الحليم» هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها، كما قال ابن القيم:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من العصيان الفوائد:
1 - من فوائد الآية: جواز التعريض في خطبة المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء }.
2 - ومنها: تحريم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة؛ لقوله تعالى: { فيما عرضتم به } فنفي الجناح عن التعريض - وهو دون التصريح - يدل على تحريم التصريح؛ ويؤيده قوله تعالى: { ولكن لا تواعدهن سراً}.(10/128)
تكميلاً لهذه الفائدة نقول: إن خطبة المعتدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تحرم تصريحاً وتعريضاً؛ وتباح تصريحاً وتعريضاً؛ وتحرم تصريحاً لا تعريضاً؛ فالأول: في الرجعية لغير زوجها؛ فيحرم على الإنسان أن يخطب الرجعية لا تصريحاً، ولا تعريضاً؛ والرجعية هي المعتدة التي يجوز لزوجها أن يراجعها بغير عقد؛ لأنها زوجة، كما قال تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228] ؛ والتي تحل تصريحاً وتعريضاً هي البائن من زوجها بغير الثلاث، كالمطلقة على عوض، والمختلعة، والفاسخة لنكاحها بسبب، وما أشبه ذلك؛ فيجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً، وتصريحاً، وأن يتزوجها؛ والتي تباح تعريضاً لا تصريحاً كل مبانة لغير زوجها؛ فيجوز لغير زوجها أن يعرض بخطبتها بدون تصريح، كالمتوفى عنها زوجها تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً.
3 - ومن فوائد الآية: جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة لا يجوز له التصريح بخطبتها؛ لقوله تعالى: { أو أكننتم في أنفسكم }.
4 - ومنها: جواز ذكر الإنسان المرأة المعتدة في نفسه، ولغيره؛ لقوله تعالى: { علم الله أنكم ستذكرونهن }؛ فلو قال شخص: «إنني أريد أن أتزوج امرأة فلان المتوفى عنها زوجها» يحدث غيره: فلا بأس به.
5 - ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يواعد المعتدة من الوفاة بالنكاح، فيقول: «إذا انتهت عدتك فإنني سأتزوجك»؛ لقوله تعالى: { ولكن لا تواعدهن سراً }.
6 - ومنها: أن التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها من القول المعروف غير المنكر؛ لقوله تعالى: { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً }.
7 - ومنها: تحريم عقد النكاح في أثناء العدة إلا من زوجها؛ لقوله تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله }.(10/129)
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أن النكاح باطل؛ لقوله (ص): «فأيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل - وإن كان مائة شرط»(1)، وقوله (ص): «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(2)؛ فلو عقد عليها في العدة فالعقد باطل؛ وهل له أن يتزوجها بعد انقضاء العدة؟ اختلف العلماء - رحمهم الله - هل تحل له لزوال المانع؛ وهو قول الجمهور؛ أو لا تحل له عقوبة له لتعجله الشيء قبل أوانه على وجه محرم؛ في المسألة قولان؛ وينبغي أن يرجع في ذلك إلى حكم الحاكم فيحكم بما يراه أصلح للعباد.
8 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى العناية بالعدة، وأنه ينبغي أن تكتب؛ لقوله تعالى: { حتى يبلغ الكتاب أجله}.
9 - ومنها: المخاطبة بالمجمل، وأنها أسلوب من أساليب البلاغة؛ لقوله تعالى: { حتى يبلغ الكتاب أجله }؛ ومن فوائد الإجمال أن النفس تتطلع إلى بيانه، وتحرص عليه حتى تدركه؛ فإذا أدركت البيان بعد الإجمال كان ذلك أحرى بأن يبقى العلم في نفس الإنسان، ولا ينساه.
10 - ومنها: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }.
ويتفرع على هذا: أن لا يضمر الإنسان في نفسه ما لا يرضاه الله عزّ وجلّ.
11 - ومنها: أن هذا القرآن العظيم مثاني - بمعنى تُثَنَّى فيه الأمور، والمواضيع؛ فإذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار؛ وإذا ذكر الرجاء ذكر معه الخوف... وهكذا؛ وقد نص الله على ذلك فقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} [الزمر: 23] - وهو هذا القرآن؛ ومثاله في هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما حذَّر قال: { واعلموا أن الله غفور حليم }.(10/130)
12 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الحليم» ؛ وقد ذكرنا فيما سبق أن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن للصفة؛ فإذا كان متعدياً فهو يتضمن الحكم؛ وإن كان غير متعدٍّ لم يتضمنه؛ وربما يدل على أكثر من صفة بدلالة الالتزام؛ لأن أنواع الدلالة ثلاثة: مطابقة، وتضمن، والتزام؛ فـ«المطابقة» دلالة اللفظ على جميع معناه؛ و«التضمن» دلالته على بعض معناه؛ و«الالتزام» دلالته على لازم خارج؛ مثل «الخالق» من أسماء الله؛ دلالته على الذات، والخلق: مطابقة؛ ودلالته على الذات وحدها، أو على الخلق وحده: تضمن؛ ودلالته على العلم، والقدرة: التزام؛ فلا يمكن أن يكون خالقاً إلا أن يكون عالماً قادراً؛ لأنه لا يخلق من لا يقدر؛ ولا يخلق من لا يعلم؛ فلا بد أن يكون عالماً قادراً؛ ولهذا قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] ؛ فذكر العلم، والقدرة بعد أن ذكر أنه خلق؛ ولا يمكن أن يكون هناك خلق إلا أن يعلم كيف يخلق، ويقدر على ذلك.
القرآن
)لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:236)
التفسير:(10/131)
{ 236 } قوله تعالى: { لا جناح عليكم } أي لا إثم عليكم؛ { إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن }: اختلف أهل الإعراب في إعراب: { ما }؛ فقال بعضهم: إن { ما } مصدرية ظرفية؛ أي مدة دوام عدم مسكهم لهن؛ وقال بعضهم: إن { ما } شرطية؛ فهو من باب دخول الشرط على الشرط؛ أي لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إن لم تمسوهن؛ وهذا يأتي في اللغة العربية كثيراً - أي كون الشرط الثاني شرطاً في الأول؛ ومنها قوله تعالى: {فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين} [الواقعة: 86، 87] فهنا شرط في شرط؛ ومنه قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تُذعَروا تجدوا منا معاقلَ عزّ زانها كرمُ فيكون الثاني شرطاً في الأول؛ وكل شرط دخل على شرط فالسابق الثاني؛ فهنا نقول: إن { ما } شرطية؛ وأن تقدير الآية: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إن لم تمسوهن؛ فإذا طلقها بدون مس فلا جناح عليه؛ والمعنى واحد؛ ولكن الاختلاف في الإعراب.
وقوله تعالى: { تمسوهن } فيها قراءة ثانية: «تُماسوهن» ؛ وكلاهما بمعنًى واحد؛ والمراد به الجماع؛ لكن جرت عادة العرب - والقرآن بلسان عربي مبين - أن يُكَنوا عما يستحيا من ذكره صريحاً بما يدل عليه؛ ولكل من القراءتين وجه؛ فعلى قراءة: «تماسوهن» يكون المسيس من الجانبين؛ فكل من الزوج، والزوجة يمس الآخر؛ ومثله قوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة: 3] ؛ وأما على قراءة حذف الألف - الذي يفيد وقوع الفعل من جانب واحد - فهو أيضاً واقع؛ لأن حقيقة الفاعل هو الرجل؛ فهو ماسّ؛ ومنها قوله تعالى في مريم: {ولم يمسسني بشر} [آل عمران: 47] ؛ فجعل المسّ من جانب واحد - وهو الرجل -.
قوله تعالى: { أو تفرضوا لهن فريضة } أي تجمعوا بين الأمرين: بين ألا تفرضوا لهن فريضة، وبين ألا تمسوهن؛ فلا جناح عليكم إذا طلقتم المرأة بعد العقد بدون مسيس، وبدون تسمية مهر؛ و{ أو } هنا على القول الراجح حرف عطف على { تمسوهن }.(10/132)
قوله تعالى: { ومتعوهن }: قال بعض المفسرين: إن هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة؛ والتقدير: فطلقوهن، ومتعوهن؛ وأن تقدير: «فطلقوهن» مستفاد من قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء }؛ لأن معنى ذلك: أننا قد أبحنا لكم طلاق النساء، فطلقوهن؛ فيكون المراد بالأمر المقدر - كما قالوا - الإباحة؛ والمراد بالأمر المذكور الوجوب؛ وقال بعض المعربين: لا حاجة إلى التقدير؛ لأن «فطلقوهن» المراد به الإباحة مفهوم من قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء }؛ وما دام المعنى يفهم بدون تقدير فإنه لا يجوز التقدير؛ لأن التقدير نوع من التأويل؛ ولأن الأصل تمام الكلام، وعدم احتياجه إلى تقدير؛ وهذا القول أرجح؛ وعلى هذا فقوله تعالى: { ومتعوهن } يعني إذا طلقتموهن؛ وهذا مستفاد من قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء }؛ و{ متعوهن } معناها أن يعطيها ما فيه المتعة والبلاغ، من زاد، أو لباس، أو غير ذلك، مما تقتضيه الحال والعرف.
قوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }: في { قدره } قراءتان { قدَره } بفتح الدال؛ و{ قدْره } بسكونها؛ فعلى القراءة الأولى يكون المعنى ما يقدِر عليه؛ وعلى الثانية يكون المعنى بقَدْره - أي بقدر سعته -؛ و{ الموسع } هو الغني الكثير المال؛ و{ المقتر } هو الفقير الذي ليس عنده شيء؛ وقوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }، أي على الغني ما يناسب حاله؛ وعلى الفقير ما يناسب حاله؛ والجملة هذه قيل: إنها استئنافية لا محل لها من الإعراب تُبين مقدار الواجب الذي أوجبه الله عزّ وجلّ في قوله تعالى: { ومتعوهن }؛ وقيل: إنها في موضع نصب على الحال من الواو في { متعوهن }؛ يعني متعوهن حال كونكم موسرين، أو معسرين - على الموسر قدره، وعلى المقتر قدره -.(10/133)
قوله تعالى: { متاعاً } يحتمل أن يكون اسم مصدر - أي مفعولاً مطلقاً عامله { متعوهن } يعني تمتيعاً { بالمعروف }؛ فـ «متاع» هنا بمعنى تمتيع، مثل «كلام» بمعنى تكليم، و«سلام» بمعنى تسليم، وما أشبهها؛ ويحتمل أن يكون حالاً؛ أي حال كون القدَر - أو القدْر - متاعاً { بالمعروف }؛ أي بما يقتضيه العرف؛ والباء هنا للمصاحبة.
قوله تعالى: { حقاً } منصوبة على أنه مصدر لفعل محذوف يعني: أحق ذلك حقاً؛ و «الحق» هو الشيء الثابت اللازم؛ و{ على المحسنين } أي على فاعلي الإحسان؛ و «المحسن» اسم فاعل من: أحسَنَ - أي قام بالإحسان، وعمل به -؛ و «الإحسان» هنا ما كان موافقاً للشرع؛ فإذا قرن بـ«العدل» صار المراد بـ«الإحسان» الفضل الزائد على العدل، كما في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] ؛ فـ«الإحسان» تارة يراد به موافقة الشرع - ولو كان شيئاً واجباً -؛ وتارة يراد به ما زاد على الواجب؛ وهذا إذا قُرن بـ«العدل»، كما سبق.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: جواز طلاق الرجل امرأته قبل أن يمسها؛ لقوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن }؛ وربما يشعر قوله تعالى: { لا جناح } أن الأولى عدم ذلك؛ لأن طلاقه إياها قبل أن يمسها وقد خطبها، وقدم إليها الصداق فيه شيء على المرأة، وغضاضة، وإن كان الإنسان قد يتأمل في أمره، وتضطره الأمور إلى الطلاق فإنه لا ينبغي أن يكون متسرعاً متعجلاً.
2 - ومنها: إطلاق المس على الجماع؛ لقوله تعالى: { ما لم تمسوهن }.(10/134)
3 - ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بلا تسمية مهر؛ لقوله تعالى: { أو تفرضوا } يعني: ما لم تفرضوا لهن فريضة؛ وقد اختلف العلماء فيما إذا تزوج المرأة، وشرط ألا مهر لها؛ فمنهم من يرى أن النكاح غير صحيح - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وهو الراجح؛ لأن الله اشترط للحل المال؛ قال تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24] ؛ ولأن النكاح إذا شرط فيه عدم المهر صار بمعنى الهبة؛ والنكاح بالهبة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ والحال لا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يشترط المهر ويعيَّن؛ وإما أن يسكت عنه؛ وإما أن يشترط عدمه؛ ففي الحال الأولى يكون النكاح صحيحاً، ولا نزاع فيه؛ وفي الثانية النكاح صحيح، ولها مهر المثل؛ وفي الثالثة موضع خلاف بين أهل العلم؛ وسبق بيان الراجح.
4 - ومن فوائد الآية: وجوب المتعة على من طلق قبل الدخول، ولم يسم لها مهراً؛ لقوله تعالى: { ومتعوهن}.
5 - ومنها: أن ظاهر الآية الكريمة أنه إذا خلا بها، ولم يمسها لم يكن عليه إلا المتعة؛ لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة؛ وقياس ذلك وجوب مهر المثل إذا خلا بها، ولم يسم لها صداقاً.
6 - ومنها: أن العبرة في المتعة حالُ الزوج: إن كان موسراً فعليه قدره؛ وإن كان معسراً فعليه قدره؛ لقوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }.
7 - ومنها: امتناع التكليف بما لا يطاق؛ لقوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }؛ وهذه القاعدة دل عليها القرآن في عدة مواضع؛ منها قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] .
8 - ومنها: مراعاة الأحوال في الأحكام؛ فيثبت في كل حال ما يناسبها؛ لقوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }.
9 - ومنها: أن للعرف اعتباراً شرعياً؛ لقوله تعالى: { متاعاً بالمعروف }.(10/135)
10 - ومنها: أن الحق إما أن يكون في الأخبار، أو يكون في الأحكام؛ فإن كان في الأخبار فهو الصدق؛ وإن كان في الأحكام فهو العدل؛ وقد يجمع بين العدل وبين الصدق، فيحمل الصدق على الخبر؛ والعدل على الأحكام، مثل قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115] .
القرآن
)وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:237)
التفسير:
{ 237 } قوله تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }؛ وفي قراءة: «تماسوهن» ، وسبق توجيههما، ومعناهما.
قوله تعالى: { وقد فرضتم لهن فريضة } أي قدرتم لهن مهراً، كعشرة آلاف مثلاً؛ والجملة في موضع نصب على الحال؛ وهي في مقابل قوله تعالى فيما سبق: { ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة }.
قوله تعالى: { فنصف ما فرضتم }؛ الفاء واقعة في جواب الشرط، وهو قوله تعالى: { إن طلقتموهن }؛ و «نصف» مبتدأ خبره محذوف؛ وتقدير هذا الخبر: «فلهن»؛ أو «فعليكم»؛ ويجوز أن نجعل «نصف» خبر المبتدأ المحذوف؛ ويكون التقدير: فالواجب نصف ما فرضتم.
قوله تعالى: { إلا أن يعفون } استثناء من أعم الأحوال - أي فنصف ما فرضتم في كل حال إلا في هذه الحال -؛ و{ أن } حرف مصدر ينصب الفعل المضارع؛ لكنه اتصل بنون النسوة، فكان مبنياً على السكون؛ وضمير النسوة يعود على النساء المطلقات.(10/136)
قوله تعالى: { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }؛ قيل: المراد به الزوج؛ وقيل: وليّ المرأة؛ والصواب الأول؛ لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح إذا شاء أبقاها؛ وإذا شاء حلها بالطلاق؛ ولأن وليّ المرأة قد لا يملك إسقاط شيء من مهرها، كابن العم مثلاً؛ ولأنه إذا قيل: هو الزوج صار العفو من جانبين؛ إما من الزوجة، كما يفيده قوله تعالى: { إلا أن يعفون }؛ أو من الزوج، كما يفيده قوله تعالى: { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }؛ وإذا قيل: إنه وليّ المرأة صار العفو من جانب واحد؛ وهو الزوجة، أو وليها؛ ويؤيد الترجيح قوله تعالى: { وأن تعفوا أقرب للتقوى }؛ ولو كان المراد وليّ المرأة لقال تعالى: «وأن يعفوَ» بالياء، وفتح الواو؛ فإن قيل: كيف يكون الزوج عافياً وهو الباذل؟ فالجواب أن هذا مبني على الغالب؛ وهو أن الزوج قد سلم المهر؛ فإذا طلقها قبل الدخول صار له عند المرأة نصف المهر؛ فإذا عفا عن مطالبتها به صار أقرب للتقوى.
وقوله تعالى: { عقدة النكاح } إشارة إلى أن النكاح ربط بين الزوجين، كما تربط العقدة بين طرفي الحبل.
قوله تعالى: { وأن تعفوا أقرب للتقوى } أي أن تعفوا أيها الأزواج عما تستحقون من المهر إذا طلقتم قبل الدخول - وهو نصف المهر - أقرب للتقوى.
قوله تعالى: { ولا تنسوا الفضل بينكم }، أي لا تتركوا الفضل - أي الإفضال بينكم - بالتسامح، والعفو.
قوله تعالى: { إن الله بما تعملون }، أي بكل ما تعملون من خير وشر { بصير } أي عليم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه إذا طلقها قبل المسيس وقد سمى لها صداقاً وجب لها نصف المهر.
2 - ومنها: أنه إذا خلا بها، ولم يمسها لم يكن عليه إلا نصف المهر؛ لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة؛ وقياس ذلك وجوب المهر كاملاً إذا خلا بها.(10/137)
3 - ومنها: جواز الطلاق قبل المسيس مع تعيين المهر؛ وجهه أن الله أقر هذه الحال، ورتب عليها أحكاماً؛ ولو كانت حراماً ما أقرها، ولا رتب عليها أحكاماً؛ وعلى هذا فيكون ارتباط الآية بما قبلها ظاهراً؛ لأن الآية قبلها فيما إذا طلِّقت قبل المسيس ولم يسمَّ لها مهر؛ وهذه الآية فيما إذا طلقت قبل المسيس وسُمي لها مهر؛ وإن طلقت بعد المسيس؛ إن سُمي لها مهر فلها المهر كاملاً؛ وإن لم يسمَّ لها مهر فلها مهر المثل.
4 - ومن فوائد الآية: أن تعيين المهر إلى الزوج لا إلى الزوجة؛ لقوله تعالى: { وقد فرضتم }.
5 - ومنها: جواز إسقاط المرأة ما وجب لها من المهر عن الزوج، أو بعضه؛ لقوله تعالى: { إلا أن يعفون}؛ ويشترط لذلك أن تكون حرة بالغة عاقلة رشيدة.
6 - ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها - ولو على سبيل التبرع - لقوله تعالى: { إلا أن يعفون }؛ وهل نقول: عمومه يقتضي جواز عفوها - وإن كان عليها دين يستغرق؛ أو نقول: إن كان عليها دين يستغرق فليس لها أن تعفو؟ يحتمل هذا، وهذا؛ وظاهر الآية العموم؛ لكن تبرع المدين لا ينفذ على القول الراجح إذا كان يضر بالغرماء؛ لكن قد يقال: هذا ليس تبرعاً محضاً؛ وإنما هو إسقاط ما وجب على الغير؛ وليس كالتبرع المحض الذي ينتزع من مال المدين.
7 - ومنها: جواز عفو الزوج عما يبقى له من المهر إذا طلق قبل الدخول؛ لقوله تعالى: { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }؛ ويقال فيما إذا كان مديناً كما قيل في عفو الزوجة.(10/138)
8 - ومنها: أن النكاح من العقود؛ لقوله تعالى: { عقدة النكاح } ويترتب على هذه الفائدة جواز التوكيل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل في العقود؛ فيجوز أن يوكل الإنسان من يعقد النكاح له؛ وحينئذٍ يقول وليّ المرأة لوكيل الزوج: زوجت موكِّلَك فلاناً بنتي فلانة؛ ولا يصح أن يقول: زوجتك بنتي فلانة؛ ويقول وكيل الولي للزوج: زوجتك بنت موكلي فلانٍ فلانة؛ ولا يصح أن يقول: زوجتك فلانة بنت فلان؛ لأن لا بد من النص على الوكالة، حيث إنه لا بد من الشهادة على عقد النكاح؛ وإذا لم يصرح بما يدل على الوكالة أوهم أن العقد للوكيل؛ وقال بعض العلماء: إنه إذا كان معلوماً عند الجميع أن العقد بوكالة لم يحتج إلى ذكر موكل؛ والأول أحوط سداً للباب؛ لئلا يدعي الوكيل أنه فسخ الوكالة، ونوى العقد لنفسه.
وهل يثبت لعقد النكاح ما يثبت لعقد البيع من خيار المجلس، أو خيار الشرط؟ أما خيار المجلس فلا يثبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار»(1)؛ ولا يصح قياس النكاح على البيع؛ لأن النكاح غالباً إنما يصدر بعد تروٍّ دقيق، ونظر، وبحث؛ بخلاف البيع فقد يصدر عن عجلة، وعن حرص على الربح بدون أن يتروى الإنسان؛ واحتياط الإنسان لعقد النكاح أشد من احتياطه للبيع.
لكن هل يثبت فيه خيار الشرط فالمذهب أنه لا يثبت فيه خيار الشرط؛ واختار شيخ الإسلام أنه يجوز خيار الشرط في النكاح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»(1)، وقوله (ص): «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً»(2)؛ وهذا القول قد تحتاج إليه المرأة فيما إذا أراد الزوج أن يسكنها مع أهله؛ فتشترط عليه الخيار؛ وهذا له حالان:
الحال الأولى: أن تشترط عليه الخيار في أصل العقد: فَتَفسَخ النكاح إذا لم يمكن المقام معهم.(10/139)
الحال الثانية: أن تشترط عليه الخيار في البقاء مع أهله - يعني إن استقامت الحال؛ وإلا أنزلها في بيت آخر.
9 - ومن فوائد الآية: الترغيب في العفو؛ لقوله تعالى: { وأن تعفوا أقرب للتقوى }؛ وقد حث الله على العفو، وبيَّن أن أجر العافي على الله عزّ وجلّ؛ ولكنه تعالى قيد ذلك بما إذا كان العفو إصلاحاً فقال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] .
10 - ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ لقوله تعالى: { أقرب للتقوى }.
11 - ومنها: أن الناس يتفاضلون في الإيمان؛ لأن تفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ والأعمال من الإيمان، كما قد تقرر في غير هذا الموضع.
12 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا ينسى الفضل مع إخوانه في معاملته؛ لقوله تعالى: { ولا تنسوا الفضل بينكم }؛ وقد جاء في الحديث: «رحم الله عبداً سمحاً إذا باع؛ سمحاً إذا اشترى؛ سمحاً إذا اقتضى»(3)؛ فإن هذا فيه من حسن المعاملة ما هو ظاهر؛ والدين الإسلامي يحث على حسن المعاملة، وعلى حسن الخلق، وعلى البر كله.
13 - ومنها: إحاطة علم الله سبحانه وتعالى، وبصره بكل شيء مما نعمله؛ لقوله تعالى: { إن الله بما تعملون بصير }.
14 - ومنها: الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من العمل السيء؛ لأن ختم الآية بهذه الجملة مقتضاه: احرصوا على العمل الصالح؛ فإنه لن يضيع؛ واحذروا من العمل السيء؛ فإنكم تجازون عليه؛ لأن كلاً معلوم عند الله سبحانه وتعالى.
القرآن
)حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) )فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:239)
التفسير:
فإن قال قائل: ما وجه ارتباط هاتين الآيتين بما يتعلق بشأن العدة للنساء؟(10/140)
فالجواب: أن ترتيب الآيات توفيقي ليس للعقل فيه مجال؛ والله أعلم بما أراد؛ وقد التمس بعض المفسرين حكمة لهذا؛ ولكن لما لم يتعين ما ذكره أحجمنا عن ذكرها؛ ونَكِلُ العلم إلى منزل هذا الكتاب العظيم، ونعلم أنه لابد أن يكون هناك حكمة، أو حِكَم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم.
{ 238 } قوله تعالى: { حافظوا على الصلوات }: «المحافظة» الاستمرار في حفظ الشيء مع العناية به؛ ولم يبين الله في هذه الآية كيفية المحافظة؛ لكن بينت في مواضع أخرى من الكتاب، والسنة؛ وهو أبلغ من قولك: «احفظ كذا»؛ بدليل أنك لو أعطيتني وديعة، وقلت: «حافظ عليها»، أو قلت: «هذه وديعة احفظها» لكان الأول أبلغ؛ فلهذا جاءت في الآية: { حافظوا على الصلوات }؛ و{ الصلوات } جمع صلاة؛ وهي في اللغة: الدعاء؛ وفي الشرع العبادة المعروفة.
قوله تعالى: { والصلاة الوسطى } أي الفضلى؛ وهي صلاة العصر، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)؛ ولا عبرة بما خالفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بمراد الله؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] .
قوله تعالى: { وقوموا لله قانتين }: هذا أمر بالقيام؛ ولا إشكال فيه؛ وهل المراد بالقيام هنا المكث على الشيء، أو القيام على القدمين؟ هو المعنيان جميعاً؛ واللام في قوله تعالى: { لله } للإخلاص.(10/141)
قوله تعالى: { قانتين } حال من الواو في { قوموا } أي حال كونكم قانتين؛ و «القنوت» يطلق على عدة معانٍ؛ منها: دوام العبادة، والطاعة؛ ومنه قوله تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] ؛ ويطلق «القنوت» على «الخشوع» - وهو السكوت تعظيماً لمن قنت له؛ وعليه يدل سبب نزول الآية؛ فإنه كان أحدهم يكلم صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: { وقوموا لله قانتين } فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام؛(2) إذاً فـ «القنوت» خشوع القلب الذي يظهر فيه خشوع الجوارح؛ ومنها اللسان حتى لا يتكلم الإنسان مع الناس؛ ليتجه إلى صلاته؛ وكذلك لا يفعل إلا ما يتعلق بصلاته.
{ 239 } قوله تعالى: { فإن خفتم } أي خفتم حصول مكروه بالمحافظة على ما ذُكر بأن أخافكم عدو، أو حريق، أو سيل، أو ما أشبه ذلك مما يخاف منه الإنسان.
قوله تعالى: { فرجالاً } أي على الأرجل؛ وهي جمع راجل؛ و «الراجل» هو الذي يمشي على رجليه؛ لأنه قابله بقوله تعالى: { أو ركباناً } أي راكبين؛ و{ رجالاً } منصوبة على الحال على تأويل: راجلين؛ وعاملها، وصاحبها محذوفان؛ والتقدير: فصلوا رجالاً.
قوله تعالى: { أو ركباناً } جمع راكب.
قوله تعالى: { فإذا أمنتم } أي زال الخوف عنكم { فاذكروا الله } أي أقيموا الصلاة؛ وسماها ذكراً؛ لأنها هي ذكر، ومشتملة على ذكر؛ قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] قال بعض المفسرين: أي ولَما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء، والمنكر.(10/142)
قوله تعالى: { فاذكروا الله كما علمكم }؛ الكاف هنا يحتمل أن تكون للتعليل، أو التشبيه؛ فعلى الأول يكون المعنى: اذكروا الله لتعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون؛ وعلى الثاني يكون المعنى: اذكروا الله على الصفة التي بينها لكم - وهي أن تكون صلاة أمن لا صلاة خوف؛ والمعنيان لا منافاة بينهما؛ فتحمل الآية عليهما.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب المحافظة على الصلوات؛ لقوله تعالى: { حافظوا على الصلوات }؛ والأصل في الأمر الوجوب.
فإن قيل: إن النوافل لا تجب المحافظة عليها؟
فالجواب أنه لا مانع من استعمال المشترك في معنييه؛ فتكون المحافظة على الفرائض واجبة؛ وعلى النوافل سنة.
2 - ومن فوائد الآيتين: فضيلة صلاة العصر؛ لأن الله خصها بالذكر بعد التعميم؛ وهي أفضل الصلاتين المفضلتين - العصر، والفجر؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهما في أحاديث؛ منها قوله (ص): «من صلى البردين دخل الجنة»(1)، وقوله (ص): «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»(2).
3 - ومنها: وجوب القيام؛ لقوله تعالى: { وقوموا لله }.
4 - ومنها: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: { لله }.
5 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا تعبد لله أن يستشعر أمر الله؛ لأنه أبلغ في الامتثال، والطاعة؛ وكذلك ينبغي أن يستحضر أنه متأسٍ برسول الله (ص) كأنما يشاهده رأي عين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(3) - فتتم له المتابعة.
6 - ومنها: الأمر بالقنوت لله عزّ وجلّ؛ وهو خشوع القلب الذي يظهر منه سكون الجوارح؛ لقوله تعالى: { قانتين }.
7 - ومنها: تحريم الكلام في الصلاة - بناءً على سبب النزول؛ وهو أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية؛ فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام.
8 - ومنها: وجوب القيام في الصلاة؛ ويستثني من ذلك:(10/143)
أ - صلاة النافلة؛ لدلالة السنة على جوازها من قاعد؛ هذا إذا جعلنا قوله تعالى: { الصلوات } عامة؛ وأما إذا جعلناها خاصة بالفرائض فلا استثناء.
ب - ويستثني أيضاً الخائف، مثل أن يصلي خلف الجدار إن قام علم به عدوه فمال عليه؛ وإن صلى جالساً سَلِم.
ج - ويستثني أيضاً العاجز؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .
د - ويستثني أيضاً المأموم القادر على القيام إذا صلى إمامه العاجز عنه قاعداً من أول صلاته ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإمام: «إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون»(4)؛ أما إذا طرأ عليه العجز في أثناء الصلاة فإن المأمومين يتمونها قياماً؛ لقصة صلاة أبي بكر بالناس، حيث ابتدأ بهم الصلاة قائماً؛ فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة صلى جالساً، وأتموا خلفه قياماً(5).
9 - ومن فوائد الآيتين: سعة رحمة الله عزّ وجلّ، وأن هذا الدين يسر؛ لقوله تعالى: { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً }؛ لأن هذا من التيسير على العباد.
10 - ومنها: جواز الحركة الكثيرة في الصلاة للضرورة؛ لقوله تعالى: { فرجالاً }؛ لأن الراجل - وهو الماشي - يتحرك حركة كثيرة.
11 - ومنها: جواز الصلاة على الراحلة في حال الخوف؛ لقوله تعالى: { أو ركباناً }؛ أما في حال الأمن فلا تجوز الصلاة على الراحلة إلا النافلة؛ إلا إذا تمكن من الإتيان بالصلاة على وجه التمام فإنه يجوز؛ ولهذا جوزنا الصلاة في السفينة، وفي القطار، وما أشبه ذلك؛ لأنه سيأتي بها على وجه التمام بخلاف الراحلة من بعير، وسيارة، وطائرة إلا أن يكون في الطائرة مكان متسع يتمكن فيه من الإتيان بالصلاة كاملة: فتصح؛ لكن إذا خاف الإنسان خروج الوقت يصلي على أي حال - ولو مضطجعاً - في أيّ مكان.
12 - ومن فوائد الآيتين: أنه يجب على المرء القيام بالعبادة على التمام متى زال العذر؛ لقوله تعالى: { فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }.(10/144)
13 - ومنها: أن الصلاة من الذكر؛ لقوله تعالى: { فاذكروا الله }؛ والكلام هنا في الصلاة.
14 - ومنها: بيان منة الله علينا بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }.
15 - ومنها: بيان نقص الإنسان لكون الأصل فيه الجهل، حيث قال تعالى: { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ فالأصل في الإنسان الجهل حتى يُعَلِّمَه الله عزّ وجلّ.
16 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: «إن الإنسان مستقل بعمله»؛ لقوله تعالى: { كما علمكم }؛ والرد على الجبرية أيضاً؛ لتوجيه الأوامر إلى الإنسان؛ لقوله تعالى: { حافظوا }، وقوله تعالى: { فاذكروا الله}، وما أشبههما؛ لأننا لو قلنا بأن العبد مجبر صار توجيه الخطاب إليه نوعاً من العبث؛ لأنه أمر بما لا يطاق، ولا يمكن تطبيقه.
القرآن
)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:240)
التفسير:
{ 240 } قوله تعالى: { وصية } فيها قراءتان: النصب، والرفع؛ وقوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ و{ وصية } بالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ والتقدير: عليهم وصية؛ والجملة: خبر { الذين }؛ أما على قراءة النصب فإن خبر { الذين } جملة فعلية محذوفة؛ والتقدير: يوصُون وصيةً؛ أو نوصيهم وصية - على خلاف في ذلك: هل هي وصية من الله؛ أو منهم؛ فإن كانت من الله عزّ وجلّ فالتقدير: نوصيهم وصية؛ وإن كانت منهم فالتقدير: يوصُون وصية؛ والجملة المحذوفة خبر { الذين }؛ والرابط الضمير في الجملة المحذوفة سواء قلنا: «عليهم وصية»؛ أو قلنا: «نوصيهم وصية»، أو «يوصُون وصية».(10/145)
قوله تعالى: { متاعاً إلى الحول }؛ { متاعاً } مصدر لفعل محذوف؛ والتقدير: يمتعونهن متاعاً إلى الحول؛ و{ غير إخراج } إما صفة لمصدر محذوف؛ أي متاعاً غير إخراج؛ أي متعة غير مخرجات فيها؛ أو أنها حال من الفاعل في الفعل المحذوف.
قوله تعالى: { فلا جناح عليكم }؛ هذه «لا» النافية للجنس، واسمها، وخبرها؛ وقوله تعالى: { من معروف } متعلق بـ{ فعلْن }؛ وباقي الآية إعرابها ظاهر، وواضح.
قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم } أي يُقبَضون؛ والمراد: الموت؛ و{ منكم } الخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] .
قوله تعالى: { ويذرون } أي يتركون؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { يتوفون }؛ و{ أزواجاً } أي زوجات لهم.
قوله تعالى: { وصية لأزواجهم } أي عهداً لأزواجهم؛ ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن، وبه اهتمام؛ { إلى الحول } أي إلى تمام الحول من موت الزوج؛ و{ غير إخراج } أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة.
قوله تعالى: { فإن خرجن } أي خرج الزوجات من البيت قبل الحول؛ { فلا جناح عليكم } أي لا إثم عليكم { فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي مما يعرفه الشرع، والعرف، ولا ينكره.
قوله تعالى: { والله عزيز حكيم } أي ذو عزة، وحُكم، وحِكمة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؛ لقوله تعالى: { ويذرون أزواجاً }؛ ولا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان؛ لأن هذا خلاف الأصل.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تحل لأحد بعده؟(10/146)
قلنا: هي مقيدة بمدة العدة؛ ويدل على ذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تغسله؛ ولو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسِّل زوجها.
2 - ومنها: أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل؛ هذا ما تفيده الآية؛ فهل هذا الحكم منسوخ، أو محكم؟ على قولين للعلماء؛ أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] ؛ ويؤيده ما في صحيح البخاري حينما سئل عثمان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة؛ ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة - وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب؟ فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئاً من مكانه(1)؛ وذلك لأن الترتيب بين الآيات توقيفي؛ فهذه الآية توفي رسول الله (ص) وهي تتلى في القرآن، وفي مكانها؛ ولا يمكن أن تغير؛ وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة للعدة؛ وأما بالنسبة لما يوصي به الزوج من المال فهو منسوخ بآية المواريث - وهي قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [النساء: 12] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث»(2).
والقول الثاني: أن الآية محكمة؛ فتحمل على معنًى لا يعارض الآية الأخرى؛ فيقال: إن الآية الأخرى يخاطَب بها الزوجة: تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً؛ والآية الثانية يخاطَب بها الزوج ليوصي لزوجته بما ذُكر.
3 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال لله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] ؛ ورحمة الله عزّ وجلّ لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها.(10/147)
4 - ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى: { فإن خرجن فلا جناح عليكم }؛ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.
ويتفرع عليه لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.
وكذلك يؤخذ منه قياساً كل من أوصى شخصاً بأمر يتعلق بالشخص الموصى له فإن الحق له في تنفيذ الوصية، وعدم تنفيذها.
5 - ومن فوائد الآية: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم }.
6 - ومنها: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف }.
ويتفرع على هذا أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من منعه عن المنكر فإنه يمنعه؛ ولا يعارض هذا قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ؛ لأن الإنسان ما دام مسؤولاً فإنه إذا فرط في مسؤوليته كان وازراً، ووزره على نفسه.
7 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها؛ و «المعروف» هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً؛ فلو خرجت في لباسها، أو مشيتها، أو صوتها، عن المعروف شرعاً فهي آثمة؛ وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه.
8 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة سواء كان ذلك عن طريق اللزوم، أو المطابقة، أو التضمن؛ وهي العزة، والحكمة، والحُكم؛ وقد سبق تفسير ذلك.
9 - ومنها: إثبات العزة، والحكمة على سبيل الإطلاق، لأن الله سبحانه وتعالى أطلق: قال: { عزيز حكيم }؛ فيكون عزيزاً في كل حال؛ وحكيماً حاكماً في كل حال.
القرآن
)وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241)
التفسير:(10/148)
{241 } قوله تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف }؛ الجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ فالخبر مقدم: {للمطلقات}؛ والمبتدأ مؤخر؛ وهو قوله تعالى: { متاع بالمعروف }؛ ومن ثم جاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه يجوز الابتداء بالنكرة إذا تأخر المبتدأ.
وقوله تعالى: { وللمطلقات } من ألفاظ العموم؛ لأن «أل» فيها اسم موصول؛ فيشمل كل المطلقات بدون استثناء؛ وهن من فارقهن أزواجهن؛ وسمي طلاقاً؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان»(1) أي أسيرات؛ وقال تعالى عن امرأة العزيز: {وألفيا سيدها لدى الباب} [يوسف: 25] ؛ و {سيدها} : زوجها.
قوله تعالى: { متاع } أي ما تتمتع به من لباس، وغيره؛ وقوله تعالى: { بالمعروف } متعلق بـ{ متاع }؛ يعني: هذا المتاع مقيد بالمعروف - أي ما يعرفه الناس -؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ، أي المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره.
قوله تعالى: { حقًّا } مصدر منصوب على المصدرية عامله محذوف؛ والتقدير: نحقه حقاً؛ و «الحق» هنا بمعنى الحتم الثابت؛ و{ على المتقين } أي ذوي التقوى؛ و «التقوى» هي القيام بطاعة الله على علم وبصيرة؛ وما أحسن ما قاله بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ ولا يعني قوله تعالى: { على المتقين } أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عزّ وجلّ؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب المتعة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: { وللمطلقات }؛ ويستثنى من ذلك:(10/149)
أ - من طلقت قبل الدخول وقد فرض لها المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] .
ب - من طلقت بعد الدخول فلها المهر: إن كان مسمًّى فهو ما سمي؛ وإن لم يكن مسمًّى فمهر المثل؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من طلقت بعد الدخول فلها المتعة على زوجها مطلقاً؛ لعموم الآية.
2 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها؛ لقوله تعالى: { حقًّا على المتقين }.
3 - ومنها: أنه ينبغي ذكر الأوصاف التي تحمل الإنسان على الامتثال فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور؛ لقوله تعالى: { حقًّا للمتقين }؛ لأن عدم القيام به مخالف للتقوى؛ والقيام به من التقوى.
4 - ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ؛ وهذا ما لم يكن العرف مخالفاً للشرع؛ فإن كان مخالفاً له وجب رده إلى الشرع.
5 - ومنها: أن التقوى تحمل على طاعة الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
القرآن
)كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:242)
التفسير:
{ 242 } قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته }، أي مثلَ ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته؛ فالكاف في محل المفعول المطلق؛ ومعنى «البيان» التوضيح؛ أي أن الله يوضحه حتى لا يبقى فيه خفاء؛ و{ لكم} يحتمل أن تكون اللام لتعدية الفعل: { يبين }؛ ويحتمل أن تكون اللام للتعليل؛ أي يبين الآيات لأجلكم حتى تتبين لكم، وتتضح؛ و{ آياته } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ وتشمل الآيات الكونية والشرعية؛ فإن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا من آياته الكونية والشرعية ما لا يبقى معه أدنى شبهة في أن هذه الآيات علامات واضحة على وجود الله عزّ وجلّ، وعلى ما له من حكمة، ورحمة، وقدرة.
قوله تعالى: { لعلكم تعقلون }؛ «لعل» هنا للتعليل؛ أي لتكونوا من ذوي العقول الرشيدة.
الفوائد:(10/150)
1 - من فوائد الآية: منة الله على عباده بتبيين الآيات؛ لقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.
2 - ومنها: أن مسائل النكاح والطلاق، قد يخفى على الإنسان حكمتها؛ لأن الله جعل بيان ذلك إليه، فقال تعالى: { كذلك يبين الله لكم }.
3 - ومنها: الرد على المفوضة - أهل التجهيل؛ وعلى أهل التحريف - الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ لأن أهل التفويض يقولون: إن الله لم يبين ما أراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وأنها بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم معناها؛ وأهل التحريف يقولون: إن الله لم يبين المعنى المراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وإنما وكل ذلك إلى عقولنا؛ وإنما البيان بما ندركه نحن بعقولنا؛ فنقول: لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله سبحانه وتعالى يبيّنه؛ فلما لم يبين ما قلتم علم أنه ليس بمراد.
4 - ومن فوائد الآية: الثناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود - وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات - أي الإرادات السيئة.
5 - ومنها: إثبات العلة لأفعال الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تعقلون }.
6 - ومنها: أنه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكم غير مبين؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ والآيات هنا جمع مضاف؛ فيعم.
فإن قال قائل: إننا نجد بعض النصوص تخفى علينا؟
فالجواب: أن ذلك إما لقصور في فهمنا؛ وإما لتقصير في تدبرنا؛ وإما لنقص في علومنا؛ أما أن النص نفسه لم يبين فهذا شيء مستحيل.
القرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة:243)
التفسير:(10/151)
{ 243 } قوله تعالى: { ألم }: الاستفهام الداخل هنا على النفي يراد به التقرير، والتعجيب أيضاً: { تر } أي تنظر؛ والخطاب هنا إما لرسول الله (ص)؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ والأخير أحسن؛ لأنه أعم؛ و «الرؤية» هنا رؤية الفكر؛ لا رؤية البصر.
قوله تعالى: { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }؛ لم يبين الله عزّ وجلّ من هؤلاء الذين خرجوا؛ فقيل: إنهم من بني إسرائيل؛ وقيل: إنهم من غيرهم؛ والمهم القصة، والقضية التي وقعت؛ و{ من ديارهم } أي من بيوتهم، وأحيائهم التي يأوون إليها؛ { وهم ألوف }: الجملة في موضع نصب على الحال من الواو في { خرجوا }؛ وكلمة: { ألوف } جمع ألف؛ وهو من صيغ جموع الكثرة؛ فقيل: إنهم ثمانية آلاف؛ وقيل: ثمانون ألفاً؛ وإذا نظرت إلى صيغة اللفظ - { وهم ألوف } - تجد أنها تدل على أنهم أكثر من ثمانية آلاف؛ وأنهم عالم كثير؛ و{ حذر الموت } مفعول لأجله؛ والعامل قوله تعالى: { خرجوا } يعني خرجوا خوفاً من الموت؛ وهل هذا الموت طبيعي؛ لأنه نزل في أرضهم وباء؛ أو الموت بالقتال في سبيل الله؟ في ذلك قولان لأهل العلم: فمنهم من يقول - وهم أكثر المفسرين -: إن المراد: خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت لوباء وقع في البلاد؛ فخرجوا فراراً من قدر الله؛ فأراد الله عزّ وجلّ أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه؛ وقيل: إن المراد: خرجوا حذر الموت بالقتل؛ لأنهم دهمهم العدو؛ ولكنهم جبنوا، وخرجوا خوفاً من أن يقتلهم العدو؛ فالذين قالوا بالأول قالوا: لأنا إذا أخذنا الآية بظاهرها - { حذر الموت } - تبين أنه نزل في أرضهم وباء، فخرجوا من ديارهم خوفاً من الوباء؛ والذين قالوا بالثاني قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى قال بعدها: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 190] ؛ فكأن الله عرض قصة هؤلاء الذين جنبوا، وهربوا توطئة لأمرنا بالقتال في سبيل الله، وأن نصبر.(10/152)
قوله تعالى: { فقال لهم الله موتوا } أي قال لهم قولاً كونياً، كقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] .
قوله تعالى: { ثم أحياهم }؛ «ثم» تدل على التراخي، وأن الله سبحانه وتعالى أحياهم بعد مدة؛ وقيل: إنه أحياهم لسبب؛ وهو أن نبياً من الأنبياء مرّ بهم وهم ألوف مؤلفة جثث هامدة؛ فدعا الله أن يحييهم؛ فأحياهم الله؛ وقال بعض المفسرين: إن الله أحياهم بدون دعوة نبي؛ وهذا هو ظاهر اللفظ؛ وأما الأول فلا دلالة عليه؛ وعليه فنقول: إن الله أحياهم ليُري العباد آياته.
قوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }: اللام هنا للتوكيد؛ و «ذو» بمعنى صاحب؛ و «الفضل» بمعنى العطاء، والتفضل.
قوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي لا يقومون بشكر الله عزّ وجلّ حين يتفضل عليهم؛ و «الشكر» طاعة المتفضل.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا فرار من قدر الله؛ لقوله تعالى: { حذر الموت فقال لهم الله موتوا }؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه»(1).
2 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بإماتة الحيّ، وإحياء الميت؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فماتوا بدليل قوله تعالى: { ثم أحياهم }.
3 - ومنها: أن فيها دلالة على البعث؛ وجهه: أن الله أحياهم بعد أن أماتهم.
4 - ومنها: أن بيان الله عزّ وجلّ آياته للناس، وإنقاذهم من الهلاك من فضله؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }.
5 - ومنها: أن لله نعمة على الكافر؛ لعموم قوله تعالى: { على الناس }؛ ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن؛ لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة؛ وأما على الكافر فنعمة في الدنيا فقط.
6 - ومنها: أن الشاكر من الناس قليل؛ لقوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون }.(10/153)
7 - ومنها: أن العقل يدل على وجوب شكر المنعم؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ وهذا على سبيل الذم؛ فيكون من لا يشكر مذموماً عقلاً، وشرعاً.
8 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فيكون فيه رد على من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.
9 - ومنها: أن معنى قوله تعالى: {إذا أراد شيئاً أن يقول له كن} [يس: 82] أن الله عزّ وجلّ يتكلم بما أراد؛ لا أن يقول: {كن} فقط؛ بل يتكلم بما أراد: كن كذا؛ كن كذا؛ لأن الكلام بكلمة {كن} مجمل؛ ولما قال الله للقلم: «اكتب قال: رب ماذا أكتب؟»(2)؛ فيصير معنى {كن} أي الأمر المستفاد من هذه الصيغة؛ ولكنه يكون أمراً خاصاً؛ فلو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن ينزل مطراً؛ لا يقول: {كن} فقط؛ بل يكون بالصيغة التي أراد الله عزّ وجلّ.
10 - ومن فوائد الآية: جواز حذف ما كان معلوماً، وأنه لا ينافي البلاغة؛ وهو ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف؛ لقوله تعالى: { موتوا ثم أحياهم }؛ والتقدير: «فماتوا ثم أحياهم»؛ وهذا كثير في القرآن، وكلام العرب.
11 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى يمدح نفسه بما أنعم به على عباده؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أحب إليه المدح من الله»(1)؛ فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُمدح، ويُحمد؛ لأن ذلك صدق، وحق؛ فإنه سبحانه وتعالى أحق من يُثنى عليه، وأحق من يُحمَد؛ وهو سبحانه وتعالى يحب الحق.
12 - ومنها: أن من طبيعة البشر الفرار من الموت؛ لقوله تعالى: { خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }.
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يستعد للذي يحذر منه وهو لا يدري متى يفجؤه.
القرآن
)وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:244)
التفسير:(10/154)
{244 } قوله تعالى: { وقاتلوا } فعل أمر حذف مفعوله للعلم به؛ والتقدير: قاتلوا في سبيل الله الكفار الذين يقاتلونكم، كما في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] .
قوله تعالى: { في سبيل الله } أي في الطريقة الموصلة إليه - وهي شريعته -؛ وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(2)؛ وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم } أي سميع لأقوالكم؛ عليم بأحوالكم؛ وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن الله سميع عليم تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة؛ فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الأمر بقتال الكافرين؛ وهو إما فرض عين، أو فرض كفاية، أو مستحب على حسب ما قرره العلماء؛ وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190] .
2 - ومنها: الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله تعالى بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لقوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله }.
3 - ومنها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياءً؛ لأن إيجاب الإخلاص في القتال يقتضي تحريم القتال لغير ذلك؛ اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس فهو مباح؛ بل قد يجب.
فإن قيل: لو قاتل دفاعاً عن وطنه لأنه بلد إسلامي؛ فيقاتل دفاعاً عنه لهذا الغرض؛ فهل يكون قتالاً في سبيل الله؟
فالجواب: نعم؛ لأن نيته أن لا يفرق بين وطنه وغيره إذا كان ذلك لحماية الإسلام.(10/155)
4 - ومن فوائد الآية: وجوب التمشي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة من طاعة الأمير، والصبر عند اللقاء، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك.
5 - ومنها: التحذير من مخالفة الشريعة؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم }؛ فإن مقتضى ذلك أن نحذر من مخالفته؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
6 - ومنها: الترغيب في موافقة الشرع؛ فإن ذلك لا يضيع عند الله؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
7 - ومنها: إثبات هذين الاسمين لله تعالى؛ وهما «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وحُكم؛ وقد سبق تفصيل «السمع» الذي وصف الله عزّ وجلّ به نفسه.
القرآن
)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:245)
التفسير:
{ 245 } قوله تعالى: { فيضاعفه } فيها أربع قراءات؛ الأولى: «يضاعفُه» بمدّ الضاد مع رفع الفاء؛ والثانية؛ بمدّ الضاد مع فتح الفاء؛ والثالثة: «يضَعِّفُه» حذف المد مع تشديد العين، وضم الفاء؛ والرابعة: حذف المد مع تشديد العين، وفتح الفاء؛ ولهذا جاء الرسم صالحاً للقراءات الأربع؛ لأن القرآن أول ما كُتب ليس فيه حركات؛ أما على قراءة فتح الفاء فوجهه أن الفاء السابقة للفعل للسببية؛ والفعل منصوب بـ«أنْ» بعد الفاء السببية؛ لأنه جواب الاستفهام؛ وأما على قراءة الرفع فالفاء السابقة للفعل للاستئناف؛ والفعل مرفوع لتجرده من الناصب والجازم.
قوله تعالى: { من ذا } اسم استفهام؛ أو { من } اسم استفهام، و{ ذا } ملغاة؛ و{ الذي } خبر المبتدأ؛ والمبتدأ { من }؛ وهذا الاستفهام بمعنى التشويق، والحث؛ يعني: أين الذي يقرض الله، فليتقدم.(10/156)
قوله تعالى: { يقرض الله }؛ «القرض» في اللغة: القطع؛ ومنه: المقراض - وهو المقص قاطع الثياب؛ ومعنى «أقرضت فلاناً» اقتطعت له جزءاً من مالي فأعطيته إياه؛ { يقرض الله } أي يعبده؛ وسميت العبادة قرضاً للمجازاة عليها؛ ويحتمل: أن الله أراد بالإقراض إنفاق المال في سبيله؛ لأنه تعالى لما قال: {قاتلوا في سبيل الله} [آل عمران: 167] - والقتال يكون بالنفس، والمال - قال الله سبحانه وتعالى: { من ذا الذي يقرض الله }؛ وهذا جهاد بالمال.
قوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة }؛ { أضعافاً } مصدر مبين للنوع؛ لأن مطلق الضعف يكون بواحدة؛ لكن إذا قال تعالى: { أضعافاً } صار أكثر من واحد؛ فيكون مصدراً مبيناً للنوع؛ وقد بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الأضعاف بقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261] .
قوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }؛ فيها قراءتان: بالسين؛ وبالصاد؛ و «القبض» هو التضييق؛ وهو ضد البسط؛ و «البسط» هو التوسيع؛ فهو الذي بيده القبض، والبسط؛ ويعم كل شيء؛ فيقبض في الرزق ويبسط؛ وفي العلم؛ وفي العمر؛ وفي كل ما يتعلق في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة.
قوله تعالى: { وإليه ترجعون }: تقديم المعمول: «إليه» له فائدتان؛ فائدة لفظية؛ وفائدة معنوية؛ أما الفائدة اللفظية: فهي توافق رؤوس الآيات؛ وأما الفائدة المعنوية: فهي الحصر - فالمرجع كله إلى الله عزّ وجلّ -؛ لا إلى غيره، كما أن المبدأ كله من الله سبحانه وتعالى.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { من ذا الذي }؛ والاستفهام هنا للحث، والتشويق.
2 - ومنها: أن الجزاء على العمل مضمون كضمان القرض لمقرضه.(10/157)
3 - ومنها: ملاحظة الإخلاص بأن يكون الإنسان منفقاً ماله لله عزّ وجلّ على سبيل الإخلاص، وطيب النفس، والمال الحلال، ولا يتبع إنفاقه منًّا، ولا أذًى؛ لقوله تعالى: { قرضاً حسناً }؛ فالقرض الحسن هو ما وافق الشرع بأن يكون:
أولاً: خالصاً لله؛ فإن كان رياءً وسمعة، فليس قرضاً حسناً؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(1).
ثانياً: من مال حلال؛ فإن كان من مال حرام فليس بقرض حسن؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ثالثاً: نفسه طيبة به؛ لا متكرهاً، ولا معتقداً أنه غُرْم وضريبة، كما يظن بعض الناس أن الزكاة ضريبة - حتى إن بعض الكُتّاب يعبرون بقولهم: ضريبة الزكاة - والعياذ بالله.
رابعاً: أن يكون في محله؛ بأن يتصدق على فقير، أو مسكين، أو في مصالح عامة؛ أما لو أنفقها فيما يغضب الله فإن ذلك ليس قرضاً حسناً.
خامساً: أن لا يتبع ما أنفق منًّا ولا أذًى؛ فإن أتبعه بذلك بطل ثوابه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
4 - ومن فوائد الآية: أن فضل الله وعطاءه واسع؛ وأن جزاءه للمحسن جزاء فضل؛ لقوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } مع أن أصل توفيقه للعمل الصالح فضل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الأنصار حين ذكروا له فضل الأغنياء عليهم في الصدقات، والعتق: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»(1)؛ وعلى هذا فيكون لله تعالى في توفيق العبد للعمل الصالح فضلان: فضل سابق على العمل الصالح؛ وفضل لاحق - وهو الثواب عليه أضعافاً مضاعفة -؛ وأما جزؤاه للعصاة فهو دائر بين العدل والفضل؛ إن كانت المعصية كفراً فجزاؤها عدل؛ وإن كانت دون ذلك فجزاؤها دائر بين الفضل، والعدل؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .(10/158)
5 - ومن فوائد الآية: تمام ربوبية الله عزّ وجلّ، وكمالها؛ لقوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }.
6 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق ليس هو سبب الإقتار، والفقر؛ لأن ذكر هذه الجملة بعد الحث على الإنفاق يشير إلى أن الإنفاق لا يستلزم الإعدام، أو التضييق؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال»(2)؛ وكم من إنسان أمسك، ولم ينفق في سبيل الله، فسلط الله على ماله آفات في نفس المال، كالضياع، والاحتراق، والسرقة، وما أشبه ذلك؛ أو آفات تلحق هذا الرجل ببدنه، أو بأهله يحتاج معها إلى أموال كثيرة؛ وقد يتصدق الإنسان، وينفق، ويوسع الله له في الرزق.
7 - ومن فوائد الآية: إثبات المعاد، والبعث؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }.
8 - ومنها: ترهيب المرء من المخالفة، وترغيبه في طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه راجع إلى ربه لا محالة فإنه لا بد أن يكون فاعلاً لما أُمِر به تاركاً لما نُهي عنه؛ لأنه يخاف من هذا الرجوع.
القرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246)
التفسير:(10/159)
{ 246 } قوله تعالى: { ألم تر }: الخطاب هنا إما للرسول (ص)؛ وخطاب زعيم الأمة خطاب له، وللأمة؛ لأنها تبع له؛ وإما أنه خطاب لكل من يتوجه له الخطاب؛ فيكون عاماً في أصل وضعه؛ الفرق بين المعنيين أن الأول عام باعتبار التبعية للمخاطب به أولاً - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والثاني عام باعتبار وضعه - يعني: ألم تر أيها المخاطب؛ و{ تر } : هل المراد تنظر؛ أو تسمع؛ أو تعلم؟ الفعل هنا عدِّي بـ{ إلى }؛ وإذا عدِّي بـ«إلى» تعين أن يكون من رؤية العين؛ ولو عدِّي بنفسه لأمكن أن يكون المراد بالرؤية العلم؛ فإذا كان كذلك فإنه يلزم أن يكون المعنى: ألم تر إلى شأن بني إسرائيل؛ لأن من المعلوم أننا نحن - بل والرسول صلى الله عليه وسلم - لم نشاهده؛ ويمكن أن نقول: إنها عديت بـ{ إلى }؛ وهي بمعنى النظر؛ لأن الإخبار بها جاء من عند الله؛ وما كان من عند الله فهو كالمرئي بالعين؛ بل أشد، وأبلغ.
والاستفهام هنا الظاهر أنه للتشويق - يعني يشوقنا أن ننظر إلى هذه القصة لنعتبر بها -؛ لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب؛ فيُقَرَّر به، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ وأما هذا فهو أمر ليس معلوماً للمخاطب إلا بعد أن يخبر به؛ فيكون هنا للتشويق، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] ، وقوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1] ، وما أشبهها؛ أما لو كان يخاطب من كان عالماً بها لقلنا: إن الاستفهام للتقرير.
قوله تعالى: { الملأ من بني إسرائيل } أي الأشراف منهم؛ { من بعد موسى }: لما بين قبيلتهم ذكر زمنهم، وأنهم بعد موسى - وهو نبي الله موسى بن عمران (ص) -؛ وهو أفضل أنبياء بني إسرائيل.
قوله تعالى: { إذ قالوا لنبي لهم }؛ «إذ» ظرف مبني على السكون في محل نصب؛ أي حين قالوا لنبي لهم؛ وفي «نبي» قراءتان: بالهمز، وبالياء المشددة؛ وسبق توجيههما؛ ومعنى النبوة.(10/160)
إذا قال قائل: من هذا النبي؟ قلنا: إن الله سبحانه وتعالى أبهمه؛ ولو كان في معرفة اسمه فائدة لكان الله عزّ وجلّ يبيّن اسمه لنا؛ لكن ليس لنا في ذكر اسمه فائدة؛ المهم أنه نبي من الأنبياء.
قوله تعالى: { ابعث لنا ملكاً } أي مُرْ لنا بملك، أو أقم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم، ويدبر شؤونهم؛ والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى، كما قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .............
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم(1) حتى لا تكون أمورهم فوضى.
قوله تعالى: { نقاتل في سبيل الله }؛ «نقاتل» بالجزم جواباً للأمر «ابعث» ؛ وهذا يدل على عزمهم على القتال إذا بعَث إليهم ملكاً؛ وسبق معنى «في سبيل الله»، وأن رسول الله (ص) فسرها بأحسن تفسير؛ وهو «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا»(2).
فقال لهم نبيهم يريد أن يختبرهم، وينظر عزيمتهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا }؛ «عسيتم» فيها قراءتان: بفتح السين، وكسرها؛ وهي هنا للتوقع؛ فيكون المعنى: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟
وقوله تعالى: { إن كتب عليكم } جملة شرطية معترضة بين اسم «عسى»، وخبرها؛ فاسم «عسى» الضمير: التاء؛ و{ ألا تقاتلوا } خبرها؛ وجملة { إن كتب عليكم القتال } الشرطية جوابها محذوف؛ وقد نقول: إنها لا تحتاج إلى جواب لعلمه من السياق.
وقوله تعالى: { إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا }، أي إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ فكان جوابهم أن قالوا: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }.(10/161)
قوله تعالى: { وما لنا ألا نقاتل }؛ «أن» مصدرية؛ والمعنى: أي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله وقد وجِد مقتضي ذلك؛ وهو قولهم: { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ والإنسان إذا أُخرج من داره، وبنيه فلا بد أن يقاتل لتحرير البلاد، وفكّ الأسرى.
وقوله تعالى: { وقد أخرجنا ... } جملة حالية في محل نصب.
قوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا }: هم طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، ولما استثبت نبيهم منهم قالوا: إنا عازمون على ذلك، وثابتون عليه؛ ولكن لما كتب عليهم القتال، وفرض عليهم { تولوا }، فصار ما توقعه نبيهم حقاً أنهم لن يقاتلوا؛ و{ تولوا } أي أعرضوا عن هذا الغرض، ولم يقوموا به.
قوله تعالى: { إلا قليلًا منهم }: «القليل» ما دون الثلث؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الثلث كثير»(3)؛ وهي منصوبة على الاستثناء.
قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ ومقتضى علمه بهم أن يجازيهم على ظلمهم؛ والظلم هنا ليس لفعل محرم؛ ولكنه لترك واجب؛ لأن ترك الواجب كفعل المحرم؛ فيه ظلم للنفس، ونقص من حقها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على النظر، والاعتبار؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل }.
2 - ومنها: أن في هذه القصة عبراً لهذه الأمة، حيث إن هؤلاء القوم الذين كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم.
3 - ومنها: تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.
4 - ومنها: أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }.
5 - ومنها: أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً } يخاطبون النبي؛ فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم.
6 - ومنها: إذا طلب الإنسان شيئاً من غيره أن يذكر ما يشجعه على إجابة الطلب؛ لقولهم: { نقاتل في سبيل الله }؛ فإن هذا يبعث النبي ويشجعه على أن يبعث لهم الملك.(10/162)
7 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.
8 - ومنها: امتحان المخاطَب بما طلب فعله، أو إيجادَه من غيره: هل يقوم بما يجب عليه نحوه، أم لا؛ لقوله تعالى: { هل عسيتم إن كتب القتال ألا تقاتلوا }.
9 - ومنها: أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة، ويكون عنده قوة للمدافعة.
10 - ومنها: أن من مبيحات القتال إخراج الإنسان من بلده، وأهله ليرفع ظلم الظالمين؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ لكن لو كان إخراجهم بحق - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بني النضير(1) - فلا حق لهم في المقاتلة، أو المطالبة - ولو أسلموا -؛ لأن الله أورث المسلمين أرضهم، وديارهم، وأموالهم؛ والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين؛ قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] .
11 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور، أو القيام بالمأمور؛ فإذا ابتُلي نكص؛ لقوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } مع أنهم كانوا في الأول متشجعين على القتال.(10/163)
12 - ومنها: الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»(2)، وقوله (ص): «من سمع بالدجال فلينأ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(3)؛ ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به؛ ثم لا يوفون به، كما في قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين*فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 7، 76] .
13 - ومن فوائد الآية: أن البلاء موكل بالمنطق؛ لأنه قال لهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا}؛ فكان ما توقعه نبيهم واقعاً؛ فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا.
14 - ومنها: أن بعض السؤال يكون نكبة على السائل، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] .
15 - ومنها: وجوب القتال دفاعاً عن النفس؛ لأنهم لما قالوا: { وقد أخرجنا } قال تعالى: { فلما كتب عليهم القتال } أي فرض عليهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم، ويحرروا بلادهم من عدوهم؛ وكذلك أبناءهم من السبي.
16 - ومنها: تحذير الظالم من الظلم - أيَّ ظلم كان -؛ لقوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ فإن هذه الجملة تفيد الوعيد والتهديد للظالم.
17 - ومنها: تحريم الظلم لوقوع التهديد عليه.
18 - ومنها: أن ترك الواجب من الظلم؛ لقوله تعالى: { تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين } أي المتولين الذين فرض عليهم القتال، ولم يقوموا به؛ فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم؛ وإما ترك واجب.
القرآن(10/164)
)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247)
التفسير:
{ 247 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم } بتشديد الياء؛ وفي قراءة: «نبيئهم» بالهمز.
قوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ { طالوت } علَم على المبعوث؛ و{ ملكاً } حال من { طالوت }؛ و «الملِك» هو الذي له التدبير الذي لا ينازَع فيه؛ ولكنه بالنسبة للمخلوق بحسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية.
قوله تعالى: { قالوا } أي معترضين على هذا { أنى } بمعنى الاستفهام الإنكاري { يكون له الملك علينا }.
ثم قالوا معززين لاستبعادهم هذا الشيء: { ونحن أحق بالملك منه }؛ كأنهم يرون أن الملِك لا يكون إلا كابراً عن كابر، وأن هذا لم يسبق لأحد من آبائه أنه تولى الملْك بخلافنا نحن؛ فإن الملوك كانوا منا؛ فكيف جاءه الملك؟! أيضاً { ولم يؤت سعة من المال }: فهو فقير؛ وقد يقال: إنه ليس بفقير؛ لكن ليس عنده مال واسع؛ وفرق بين الفقير المعدم، وبين من يجد، ولكن ليس ذا سعة - يعني ليس غنياً ننتفع بماله -، ويدبرنا بماله، ويحصّل الجيوش، والجنود بماله؛ فذكروا علتين؛ إحداهما: من حيث التوسط في مجتمعه؛ والثانية: من حيث المال؛ إذاً فَقَدَ القوة الحسبية، والقوة المالية؛ قالوا: هذا الرجل ليس عنده حسب؛ فليس من أبناء الملوك؛ وليس عنده مال؛ فليس من الأثرياء الذين يُخضعون الناس بأموالهم.(10/165)
وجملة: { ونحن أحق بالملك منه } في موضع نصب على الحال؛ وتأمل قول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت } حيث عبر باللام الدالة على أنه هذا الملِك بُعث لمصلحتهم؛ وبين قولهم: { أنى يكون له الملك علينا } حيث أومؤوا إلى أن بعثه للسيطرة عليهم.
جواب نبيهم: { قال إن الله اصطفاه عليكم }؛ أي اختاره عليكم؛ وأصلها من: الصفوة؛ فيكون أصل «اصطفاه» اصتفاه - بتاء الافتعال؛ ولكنها قلبت طاءً لعلة تصريفية.
وقوله هنا: { اصطفاه عليكم }؛ وفي الأول قال: { إن الله قد بعث لكم } إشارة إلى أنه تعالى فضَّله عليهم، فاختاره؛ لأنه أفضل منهم؛ فهو مفضل عليهم لما أعطاه الله مما سيُذكر.
قوله تعالى: { وزاده بسطة } أي سعة، كقوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} [البقرة: 245] ، وقوله تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] .
قوله تعالى: { في العلم والجسم }؛ المراد بـ { العلم } علم تدبير الملْك؛ فعنده الحنكة، والرأي ما جعله مختاراً عليهم من قبل الله عزّ وجلّ؛ أيضاً زاده بسطة في الجسم؛ وهي القوة، والضخامة، والشجاعة؛ فاجتمع في حقه القوتان: المعنوية - وهي العلم؛ والحسية - وهي أن الله زاده بسطة في الجسم.
قوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء } أي يعطي ملكه من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26] .
قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته، وأفعاله؛ و{ عليم } أي ذو علم بكل شيء؛ ومنه العلم بمن يستحق أن يكون ملكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن نبيهم وافقهم على أن يبعث إليهم ملِكاً ليقاتلوا في سبيل الله؛ فدعا الله عزّ وجلّ، فاستجاب له.(10/166)
2 - ومنها: كمال تعظيم الأنبياء لله تعالى، وحسن الأدب معه؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ ولم يقل: إني بعثت.
3 - ومنها: أن أفعال العباد مخلوقة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.
4 - ومنها: إسناد الفضل إلى أهله؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.
5 - ومنها: أن الله قد يعطي المُلك من لا يترقبه - لكونه غير وجيه، ولا من سلالة الملوك.
6 - ومنها: اختيار الألفاظ التي يكون بها إقناع المخاطَب، وتسليمه للأمر الواقع؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم }؛ فإنه أبلغ في الإقناع، والتسليم من قوله: إني بعثت لكم.
7 - ومنها: أن المعترض يذكر وجه اعتراضه لمخاطبه؛ لقولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }.
8 - ومنها: أن استفهام هؤلاء القوم يحتمل أن يكون المراد به الاعتراض؛ ويحتمل أن يراد به الاستكشاف، والبحث عن السبب بدون اعتراض: كيف كان ملكاً ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ فإن كان الأول فإن حالهم تقتضي الذم؛ لأنهم كيف يعترضون وهم الذين طلبوا أن يبعث لهم ملكاً!!! وإن كان الثاني فلا اعتراض عليهم، ولا لوم عليهم.(10/167)
9 - ومنها: أن المجيب يختار ما يكون به الإقناع بادئاً بالأهم فالأهم؛ لقول نبيهم في جوابه: { إن الله اصطفاه عليكم... } إلخ؛ فبدأ بذكر ما لا جدال فيه - وهو اصطفاء الله عليهم -؛ ثم ذكر بقية المؤهلات: وهي أن الله زاده بسطة في العلم، وتدبير الأمة، والحروب، وغير ذلك، وأن الله زاده بسطة في الجسم: ويشمل القوة، والطول...؛ وأن الله عزّ وجلّ هو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وفعله هذا لابد وأن يكون مقروناً بالحكمة: فلولا أن الحكمة تقتضي أن يكون طالوت هو الملك ما أعطاه الله عزّ وجلّ الملك؛ وأن الله واسع عليم: فهو ذو الفضل الذي يمده إلى من يشاء من عباده؛ فله أن يتفضل على من يشاء؛ الله أعلم حيث يجعل رسالته؛ والله أعلم أيضاً حيث يجعل ولايته.
10 - ومن فوائد الآية: أن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه، أو قوته؛ يؤخذ هذا أولاً من قولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }؛ وثانياً من قوله: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم }.
11 - ومنها: بيان أن تقدير الله عزّ وجلّ فوق كل تصور؛ لقوله تعالى: { إن الله اصطفاه عليكم } مع أنهم قَدَحوا فيه من وجهين: أنهم أحق بالملك منه، وأنه فقير؛ فبيّن نبيهم أن الله اصطفاه عليكم بما تقتضيه الحكمة.
12 - ومنها: أنه كلما كان ولي الأمر ذا بسطة في العلم، وتدبير الأمور، والجسم، والقوة كان أقوَم لملكه، وأتم لإمرته؛ لقوله تعالى: { وزاده بسطة في العلم والجسم }.
13 - ومنها: أن ملك بني آدم مُلك لله؛ لقوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء }؛ فهذا المَلِك في مملكته هو في الحقيقة ما مَلَكَ إلا بإذن الله عزّ وجلّ؛ فالمُلْك لله سبحانه وتعالى وحده يؤتيه من يشاء.(10/168)
14 - ومنها: أن ملكنا لما نملكه ليس ملكاً مطلقاً نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيد بما أذن الله به؛ ولهذا لا نتصرف فيما نملك إلا على حسب ما شرعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ملكه كما يشاء - يتلفه ويحرقه، ويعذبه إذا كان حيواناً - فليس له ذلك؛ لأن ملكه تابع لملك الله سبحانه وتعالى.
15 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ ومشيئته تعالى تابعة لحكمته؛ لقوله عزّ وجلّ: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
16 - ومنها: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تقع بمشيئته لا مكره له؛ لأنه المهيمن على كل شيء.
17 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما { واسع }، و{ عليم }، وما تضمناه من وصف، أو حكم.
18 - ومنها: إثبات سعة الله عزّ وجلّ في إحاطته، وصفاته، وأفعاله.
القرآن
)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:248)
التفسير:
{ 248 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }؛ { آية } يعني علامة، كما قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] يعني علامة تدل على أنه حق.
قوله تعالى: { أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم }؛ { أنْ }، وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر { إنّ}؛ و{ التابوت } شيء من الخشب، أو من العاج يشبه الصندوق؛ ينزل، ويصطحبونه معهم، وفيه السكينة - يعني أنه كالشيء الذي يسكنهم، ويطمئنون إليه -؛ وهذا من آيات الله.(10/169)
قوله تعالى: { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } وهم الأنبياء تركوا العلم، والحكمة؛ لأن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً، ولا ديناراً؛ وإنما ورثوا العلم؛ فهذا التابوت كان مفقوداً، وجاء به هذا الملِك الذي بعثه الله لهم، وصار معهم يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه وتعالى: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم؛ وفيه أيضاً مما ترك آل موسى، وآل هارون - عليهما الصلاة والسلام - من العلم، والحكمة.
وقوله تعالى: { آل موسى وآل هارون }؛ خص موسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، لأنهما جاءا برسالة واحدة.
وقوله تعالى: { تحمله الملائكة }: الجملة حال من { التابوت }؛ و{ الملائكة } عالم غيبي خلقوا من نور؛ وسبق الكلام مبسوطاً في أحوالهم(1).
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية } بالنصب اسم { إن } مؤخراً؛ والمشار إليه: «التابوت تحمله الملائكة، وفيه سكينة من الله، وبقية مما ترك آل موسى، وآل هارون».
قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين } أي ذوي إيمان.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث يؤيد الأمور بالآيات لتقوم الحجة؛ لقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه }؛ ولو شاء الله عزّ وجلّ لفعل ما يفعل بدون آية، وانتقم من المكذبين، والمستكبرين؛ ولكن من رحمته عزّ وجلّ أنه يبعث بالآيات حتى تطمئن القلوب، وحتى تقوم الحجة؛ ولهذا ما من رسول أرسل إلا أوتي ما على مثله يؤمن البشر؛ وحصول الآيات حكمة ظاهرة؛ لأنه لو خرج رجل من بيننا، وقال: أنا رسول الله إليكم: «افعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه؛ وإلا فإن دماءكم وأموالكم حلال لي»؛ فإنه لا يطاع؛ ولكن من رحمة الله عزّ وجلّ، وحكمته أن جعل للرسل آيات حتى تقوم الحجة، ويستجيب الناس.(10/170)
2 - ومن فوائد الآية: ما في التابوت من الآيات العظيمة، حيث كان هذا التابوت مشتملاً على ما تركه آل موسى، وآل هارون من العلم، والحكمة من وجه؛ وكان أيضاً سكينة للقوم تسكن إليه نفوسهم، وقلوبهم، ويزدادون قوة في مطالبهم.
3 - ومنها: أن للسكينة تأثيراً على القلوب؛ لقوله تعالى: { فيه سكينة من ربكم }؛ وتأمل كيف أضافه إلى ربوبيته إشارة إلى أن في ذلك عناية خاصة لهؤلاء القوم؛ والسكينة إذا نزلت في القلب اطمأن الإنسان، وارتاح، وانشرح صدره لأوامر الشريعة، وقَبِلها قبولاً تاماً.
4 - ومنها: إثبات الملائكة؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وفي قوله تعالى: { الملائكة } دليل على أن التابوت كبير.
5 - ومنها: أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمن؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.
6 - ومنها: تأكيد الشيء بأدوات التأكيد، والتكرار؛ وهنا في هذه الآية اجتمع التكرار، والأدوات؛ فقوله تعالى: { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }، ثم قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالتكرار؛ وأكد أيضاً بـ{ إن }، واللام: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالأدوات.
7 - ومنها: فضيلة الإيمان، وأن الإيمان أكبر ما يكون تأثيراً في الانتفاع بآيات الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.
8 - ومنها: أن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله (ص)؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم.(10/171)
9 - ومنها: أن الملائكة أجسام؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وأما قول من يقول: إنهم عقول فقط؛ أو أنهم أرواح، وليس لهم أجسام فقول ضعيف؛ بل باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته - أو على صورته - التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق(1).
القرآن
)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)
التفسير:
{ 249 } قوله تعالى: { فلما فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وانفصل عن مكانه؛ و «الجنود» جمع «جند»؛ وهم الجيش المقاتلون؛ وكان طالوت رجلاً ذكياً عاقلاً؛ لأن الله زاده بسطة في العلم، والجسم؛ وكان عنده علم بأحوالهم من قبل؛ وأنه لما كُتب عليهم القتال بين لهم أن الله مبتليهم بنهر؛ والنهر هو الماء الجاري الكثير؛ فابتلاهم الله عزّ وجلّ بهذا النهر؛ أولاً: ليعلم من يصبر، ومن لا يصبر؛ لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة، وصبر؛ ثانياً: ليعلم من يطيع ممن لا يطيع؛ ولهذا قال لهم الملك طالوت: { إن الله مبتليكم بنهر } أي مختبركم به.
قوله تعالى: { فمن شرب منه } أي كثيراً { فليس مني } أي فإني منه بريء؛ لأنه ليس على منهجي؛ {ومن لم يطعمه } أي لم يشرب منه شيئاً { فإنه مني } أي على طريقي، ومنهجي؛ { إلا من اغترف غرفة بيده } أي شرب قليلاً مغترفاً بيده - لا بيديه -.(10/172)
قوله تعالى: { فشربوا منه } أي شرباً كثيراً { إلا قليلاً منهم } فلم يشرب كثيراً؛ وقد قيل: إن عددهم ثمانون ألفاً؛ شرب منهم ستة وسبعون ألفاً؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي فلما تعداه طالوت، والذين آمنوا معه؛ ولا يلزم أن يكونوا عبروا من فوقه؛ { قالوا } أي الذين جاوزوه؛ والمراد بعضهم بدليل قوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله... } إلخ؛ { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } أي لا قدرة لنا؛ و «أل» للعهد الحضوري - أي: هذا اليوم -؛ يعنون به اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم؛ { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي يوقنون بذلك؛ لأن «الظن» يراد به اليقين أحياناً، كما في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 45، 46] أي يوقنون به.
قوله تعالى: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة }: { كم } للتكثير، أي ما أكثر ما تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة.
قوله تعالى: { بإذن الله } أي بقدره؛ { والله مع الصابرين } أي بالنصر، والتأييد.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده؛ لقوله تعالى: { فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم.
2 - ومنها: أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً، أو مرجفاً، أو ملحداً؛ لقوله تعالى: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }؛ والفرق بين المخذل، والمرجف، أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً... وما أشبه ذلك.(10/173)
3 - ومنها: أن من الحكمة اختيار الجند؛ ليظهر من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل؛ ويشبه هذا ما يصنع اليوم، ويسمى بالمناورات الحربية؛ فإنها عبارة عن تدريب، واختيار للجند، والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها؛ فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل، والثبات، والطاعة؛ والأساليب الحربية مأخوذة من هذا؛ ولكنها متطورة حسب الزمان.
4 - ومنها: أن طالوت امتحنهم على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من شرب من النهر كثيراً؛ فهذا قد تبرأ منه.
الوجه الثاني: من لم يشرب شيئاً؛ فهذا من طالوت - أي من جنوده المقربين -.
الوجه الثالث: من شرب منه غرفة بيده؛ فهذا لم يتبرأ منه؛ وظاهر الآية أنه مثل الوجه الثاني.
وهذا الابتلاء أولاً ليعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر؛ فهو كالترويض والتمرين على الصبر؛ ثانياً: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد، ومن لا يمتثل.
5 - ومن فوائد الآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم }؛ وهذا أمر يشهد به الحال. قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] ؛ وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] ؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف(1)؛ فالطائع قليل، والمعاند كثير.
6 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يترتب عليه مفسدة؛ لأنهم قالوا: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية؛ وأن فيها دليلاً على أن الجبان في ذُعر دائم، ورعب؛ لقولهم: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }.
7 - ومنها: أن الإيمان موجب للصبر، والتحمل؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }.(10/174)
8 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده إما بفوات محبوب؛ أو حصول مكروه؛ ليعلم سبحانه وتعالى صبرهم؛ ولهذا نظائر؛ منها ما قصه سبحانه عن بني إسرائيل حين حرم عليهم صيد الحوت في يوم السبت؛ فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً؛ وفي غير يوم السبت لا يرون شيئاً؛ فصنعوا حيلة؛ وهي أنهم وضعوا شباكاً في يوم الجمعة؛ فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك، ثم نشبت فيه؛ فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه؛ فكان في ذلك حيلة على محارم الله؛ ولهذا انتقم الله منهم؛ ووقع ذلك أيضاً للصحابة - رضوان الله عليهم - وهم في حال الإحرام: فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ ولكنهم رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك؛ وهؤلاء - أعني أصحاب طالوت - ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بهذا النهر، وكانوا عطاشاً، فقال لهم نبيهم: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }.
9 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: { إلا من اغترف غرفة بيده }؛ لأنهم لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت.
10 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { فمن شرب }، وقوله تعالى: { إلا من اغترف }، حيث أضاف الفعل إليهم.
11 - ومنها: أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.
12 - ومنها: أن من الناس من يكون مرجفاً، أو مخذِّلاً؛ لقوله تعالى: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ هؤلاء مخذِّلون؛ وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون.
13 - ومنها: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر، والتحمل، والأمل، والرجاء؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }؛ مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ فردوا عليهم.(10/175)
14 - ومنها: إثبات ملاقاة الله؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }، كما قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6] .
15 - ومنها: أن الظن يأتي في محل اليقين؛ بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }.
16 - ومنها: أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله؛ وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم، ووقع في هذه الأمة مثل غزوة «بدر»؛ وقد تُغلَب الفئة الكثيرة، وإن كان الحق معها، كما في غزوة «حنين»؛ لكن لسبب.
17 - ومنها: أن الوقائع، والحوادث لا تكون إلا بإذن الله؛ وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى؛ وفعل مخلوقاته؛ لقوله تعالى: { بإذن الله }.
18 - ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى؛ وهو ينقسم إلى قسمين: إذن كوني؛ وإذن شرعي؛ ففي هذه الآية: إذن كوني؛ وفي قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] : هذا شرعي؛ وفي قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] هذا شرعي أيضاً.
19 - ومنها : فضيلة الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }.(10/176)
20 - ومنها: إثبات المعية لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس؛ فقال تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] ؛ هذا عام، وقال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] ؛ فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة، والنصر، والتأييد؛ وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد؛ ومنها ما يقتضي التأييد؛ ومنها ما هو لبيان الإحاطة، والشمول؛ فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ، وقوله تعالى لموسى، وهارون: {إني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ؛ ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108] ؛ ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] .
فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عزّ وجلّ، وإثبات العلوّ له؟.
فالجواب: أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالًّا في الأمكنة التي نحن فيها؛ بل هو معنا وهو في السماء، كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك مع أنها في السماء.
21 - ومن فوائد الآية: الترغيب في الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ والصبر ثلاثة أنواع:(10/177)
الأول: صبر على طاعة الله : بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة، فيقوم بها من غير ملل، ولا ضجر.
الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول، أو عمل.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة، والخاصة.
وأعلاها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.
القرآن
)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250)
{ 250 } قوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده } أي ظهر طالوت، وجنوده؛ مأخوذ من «البراز» - وهي الأرض الواسعة البارزة الظاهرة.
قوله تعالى: { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }: إفراغ الشيء على الشيء يدل على عمومه له؛ والمعنى املأ قلوبنا، وأجسادنا صبراً حتى نثبت.
قوله تعالى: { وثبت أقدامنا } يعني اجعلها ثابتة لا تزول: فلا نفر، ولا نهرب؛ وربما يراد بـ «الأقدام» ما هو أعم من ذلك؛ وهو تثبيت القلوب أيضاً.
قوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين } أي قوِّنا عليهم حتى نغلبهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد؛ لقوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }.(10/178)
2 - ومنها: أن التجاء الإنسان إلى الله عند الشدائد سبب لنجاته، وإجابة دعوته، لقوله تعالى بعد ذلك: { فهزموهم بإذن الله } [البقرة: 251] ؛ وأما اعتماد الإنسان على نفسه، واعتداده بها فسبب لخذلانه، كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} [التوبة: 25] ؛ وهذا مشهد عظيم في الواقع؛ فإن كثيراً من الناس إذا أعطاه الله سبحانه وتعالى نعمة في بدنه، أو ماله، أو أهله يرى أن ذلك من حوله، وقوته، وكسبه؛ وهذا خطأ عظيم؛ بل هو من عند الله؛ هو الذي منّ به عليك؛ فانظر إلى الأصل - لا إلى الفرع -؛ والنظر إلى الفرع، وإهمال الأصل سفه في العقل، وضلال في الدين؛ ولهذا يجب عليك إذا أنعم الله عليك بنعمة أن تثني على الله بها بلسانك، وتعترف له بها في قلبك، وتقوم بطاعته بجوارحك.
3 - ومن فوائد الآية: اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه على طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وثبت أقدامنا}.
4 - ومنها: ذكر ما يكون سبباً للإباحة؛ لقوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين }؛ لم يقولوا: على أعدائنا؛ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم؛ وهذا في غاية ما يكون من البعد عن العصبية، والحمية؛ يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.
القرآن
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)
التفسير:
{ 251 } قوله تعالى: { فهزموهم } أي غلبوهم { بإذن الله } أي بتقديره؛ فالإذن هنا كوني.(10/179)
قوله تعالى: { وقتل داود جالوت }؛ داود كان من جنود طالوت؛ لكنه عليه الصلاة والسلام كان قوياً شجاعاً؛ يقال: إن جالوت طلب البراز؛ لأن جالوت قائد جبار عنيد قوي؛ فخرج إليه داود، فقتله؛ وقد ذكروا في كيفية قتله ما لا حاجة إلى ذكره، ولا سند صحيح في إثباته؛ وليس لنا في كيفية قتله كبير فائدة؛ ولذا لم يصف الله تعالى لنا القتل؛ فالمقصود قتله، وقد حصل؛ وإذا قُتل - وهو القائد - انهزم الجنود.
قوله تعالى: { وآتاه الله } ضمير المفعول به يعود إلى { داود }؛ أي أعطاه الله { الملك } فصار ملكاً؛ وآتاه { الحكمة } فصار رسولاً؛ واجتمع له ما به صلاح الدين، والدنيا: الشرع، والإمارة.
قوله تعالى: { وعلمه مما يشاء } أي من الذي يشاؤه؛ ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] .
قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ { دفع } بفتح الدال، وإسكان الفاء؛ وفي قراءة: «دفاع» بكسر الدال، وفتح الفاء، وألف بعدها؛ وهما سبعيتان؛ و{ دفع } مصدر مضاف إلى فاعله؛ و{ الناس } مفعول به؛ و{ بعضهم } بدل منه؛ و{ ببعض } متعلق بـ{ دفع }؛ وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود؛ يعني: لولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض موجود لفسدت الأرض.
وقوله تعالى: { لفسدت الأرض } جواب «لولا»؛ و «الفساد» ضد «الصلاح»؛ ومن أنواعه ما ذكره الله تعالى بقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] .
قوله تعالى: { ولكن الله ذو فضل على العالمين } أي صاحب فضل؛ و «الفضل» هو العطاء الزائد الواسع الكثير؛ { على العالمين } أي جميع الخلق؛ وسموا عالماً؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن مَنْ صَدَق اللجوء إلى الله، وأحسن الظن به أجاب الله دعاءه.
2 - ومنها: أنه يجب على المرء إذا اشتدت به الأمور أن يرجع إلى الله عزّ وجلّ.(10/180)
3 - ومنها: إضافة الحوادث إلى الله عزّ وجلّ - وإن كان من فعل الإنسان؛ لقوله تعالى: { فهزموهم }: هذا فعلهم - لكن { بإذن الله }؛ فالله هو الذي أذن بانتصار هؤلاء، وخذلان هؤلاء.
4 - ومنها: شجاعة داود - عليه الصلاة والسلام -، حيث قتل جالوت حين برز لهم؛ والشجاعة عند المبارزة لها أهمية عظيمة؛ لأنه إذا قُتِل المبارِز أمام جنده فلا شك أنه سيجعل في قلوبهم الوهن، والرعب؛ ويجوز في هذه الحال أن يخدع الإنسان من بارزه؛ لأن المقام مقام حرب؛ وكل منهما يريد أن يقتل صاحبه؛ فلا حرج أن يخدعه؛ ويُذكر أن عمرو بن ودّ لما خرج لمبارزة علي بن أبي طالب صاح به عليّ، وقال: «ما خرجت لأبارز رجلين»؛ فظن عمرو أن أحداً قد لحقه، فالتفت، فضربه علي(1)؛ هذه خدعة؛ ولكنها جائزة؛ لأن المقام مقام حرب؛ هو يريد أن يقتله بكل وسيلة.
5 - ومن فوائد الآية: أن داود - عليه الصلاة والسلام - أوتي الملك، والنبوة؛ لقوله تعالى: { وآتاه الله الملك والحكمة }.
6 - ومنها: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله؛ لقوله تعالى: {وعلمه مما يشاء}؛ فالنبي نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113] .
7 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: { وعلمه مما يشاء }؛ ولكن اعلم أن مشيئة الله تابعة لحكمته، كما قال الله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 29، 30] .(10/181)
8 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض، ومن عليها؛ لقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ وفساد الأرض يكون بالمعاصي، وترك الواجبات؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 40] ، وقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] .
9 - ومنها: إثبات حكمة الله، حيث جعل الناس يدفع بعضهم بعضاً ليقوم دين الله، فدفعَ الكافرين بجهاد المؤمنين؛ لأنه لو جعل السلطة لقوم معينين لأفسدوا الأرض؛ لأنه لا معارض لهم؛ ولكن الله عزّ وجلّ يعارض هذا بهذا.
10 - ومنها: أن من الفساد في الأرض هدم بيوت العبادة؛ لقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] ؛ وهذا تفسير لقوله تعالى هنا: { لفسدت الأرض }؛ أو هو ذكر لنوع من الفساد.
11 - ومنها: إثبات فضل الله تعالى على جميع الخلق؛ لقوله تعالى: { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حتى الكفار؛ لكن فضل الله على الكفار فضل في الدنيا فقط بإعطائهم ما به قوام أبدانهم؛ أما في الآخرة فيعاملهم بعدله بعذابهم في النار أبد الآبدين؛ وأما بالنسبة للمؤمنين فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا، والآخرة.
القرآن
)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة:252)
التفسير:(10/182)
{ 252 } قوله تعالى: { تلك } الإشارة إلى ما سبق ذكر؛ أو إلى القرآن كله؛ { آيات الله } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ { نتلوها عليك }: نقرؤها عليك؛ والمراد تلاوة جبريل، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأمين* على قلبك} [الشعراء: 193، 194] ؛ و{ بالحق }: الحق في الأخبار: هو الصدق؛ وفي الأحكام: هو العدل؛ والباء إما للمصاحبة؛ أو لبيان ما جاءت به هذه الآيات؛ والمعنى أن هذه الآيات حق؛ وما جاءت به حق.
قوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }: الجملة مؤكدة بـ{ إن }، واللام؛ لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات آيات الله سبحانه وتعالى الشرعية؛ لأن المراد بـ «الآيات» هنا: الشرعية - وهي القرآن -.
2 - ومنها: أن الله تعالى يتلو على نبيه ما أوحاه إليه؛ لقوله عزّ وجلّ: { نتلوها عليك بالحق }؛ ولكن هل الذي يتلو ذلك هو الله، أو جبريل؟ اقرأ في آية القيامة: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 - 18] ؛ يعني إذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه؛ فجبريل يتلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه من الله سبحانه وتعالى.
3 - ومنها: أن القرآن كله حق من الله، ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله تعالى: { بالحق } للمصاحبة، والملابسة أيضاً؛ فهو نازل من عند الله حقاً؛ وهو كذلك مشتمل على الحق؛ وليس فيه كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه؛ بل أحكامه كلها عدل؛ وأخباره كلها صدق.
4 - ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }.
5 - ومنها: أن هناك رسلاً آخرين غير الرسول؛ لقوله تعالى: { لمن المرسلين }؛ ولكنه (ص) كان خاتم النبيين؛ إذ لا نبي بعده.
القرآن(10/183)
)تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)
التفسير:
{ 253 } قوله تعالى: { تلك } التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] ؛ و «الأعراب» مذكر، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛ لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم المرسل الذين دلّ عليهم قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252] .
قوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }؛ يعني جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي؛ وفي الأتباع؛ وفي الدرجات؛ والمراتب عند الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: { منهم } أي من الرسل { من كلم الله } أي من كلمه الله عزّ وجلّ؛ فالعائد محذوف، وذلك مثل موسى، ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان وجه من أوجه التفضيل.
قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات } معطوف على { فضلنا }، لكن فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.(10/184)
وقوله: { ورفع بعضهم درجات } أي على بعض؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة؛ وهي أعلى درجة في الجنة، ولا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(1)؛ وفي المعراج وجد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في السماء السابعة؛ وموسى في السادسة؛ وهارون في الخامسة؛ وإدريس في الرابعة(2)؛ وهكذا؛ وهذا من رفع الدرجات.
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات البينات الدالة على رسالته، ويراد بها الإنجيل، وما جرى على يديه من إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، ونحو ذلك.
قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } أي قويناه؛ وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: { بروح القدس} ما المراد بها؟ فقيل: المراد بها: ما معه من العلم المطهر الآتي من عند الله؛ والعلم، أو الوحي يسمى روحاً، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ؛ وقيل: المراد بـ «روح القدس» جبريل، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102] ؛ فـ «روح القدس» هو جبريل؛ أيد الله عيسى به، حيث كان يقويه في مهام أموره عندما يحتاج إلى تقوية؛ والآية صالحة للأمرين، فتفسر بهما كما قررناه غير مرة.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جاءتهم البينات }؛ «لو» شرطية؛ فعل الشرط فيها { شاء الله }؛ وجوابه { ما اقتتل الذين ... }؛ ومفعول { شاء } محذوف دلّ عليه جواب الشرط؛ والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اقتتلوا؛ إما لاتفاقهم على الإيمان؛ وإما لاتفاقهم على المهادنة، وإن كفر بعضهم.(10/185)
وقوله تعالى: { من بعدهم } أي من بعد الرسل؛ { من بعدما جاءتهم البينات } أي هذا القتال حصل بعدما زال اللبس، واتضح الأمر، ووجدت البينات الدالة على صدق الرسل؛ ومع ذلك فإن الكفار استمروا على كفرهم، ورخصت عليهم رقابهم، ونفوسهم في نصرة الطاغوت؛ وقاتلوا المؤمنين أولياء الله عزّ وجلّ؛ كل ذلك من أجل العناد، والاستكبار؛ و{ البينات } أي الآيات البينات؛ وهو الوحي الذي جاءت به الرسل، وغيره من الآيات الدالة على رسالتهم.
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } أي الذين جاءتهم البينات؛ ثم بيّن كيفية اختلافهم فقال تعالى: { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وقوله تعالى: { ولكن اختلفوا } معطوف على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين... }.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } هذه الجملة توكيد لما سبق؛ يعني لو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا؛ وعلى هذا فالمفعول هنا كما سبق.
قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ هذا استدراك على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته؛ والإرادة في قوله تعالى: { ما يريد } كونية.
تنبيه:
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } بعد قوله عزّ وجلّ: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } بيان لسبب الاقتتال الواقع منهم؛ وقوله تعالى في الجملة الثانية: { ولكن الله يفعل ما يريد } بيان لكونه بإرادته كقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يشاء }.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }.
2 - ومنها: أن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ حتى خواص عباده يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الرسل هم أعلى أصناف بني آدم، ومع ذلك يقع التفاضل بينهم بتفضيل الله.(10/186)
ويتفرع عليها فائدة أخرى: أن الله يفضل أتباع الرسل بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»(1)؛ كما أن من كان من الأمم أخلص لله، وأتبع لرسله فهو أفضل ممن دونه من أمته؛ لأن الرسل إذا كانوا يتفاضلون فأتباعهم كذلك يتفاضلون؛ فإن قلت: كيف نجمع بين هذه الآية المثبتة للتفاضل بين الرسل؛ وبين قوله (ص): «لا تخيروني على موسى»(2)، ونهيه (ص) أن يفاضل بين الأنبياء؟
فالجواب: أن يقال: في هذا عدة أوجه من الجمع؛ أحسنها أن النهي فيما إذا كان على سبيل الافتخار والتعلِّي: بأن يفتخر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيقولوا: «محمد أفضل من موسى» مثلاً؛ أفضل من عيسى؛ وما أشبه ذلك؛ فهذا منهي عنه؛ أما إذا كان على سبيل الخبر فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»(3).(10/187)
3 - ومن فوائد الآية: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { منهم من كلم الله }؛ وكلام الله عزّ وجلّ عند أهل السنة، والجماعة من صفاته الذاتية الفعلية؛ فباعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه صفة كمال؛ والله عزّ وجلّ موصوف بالكمال أزلاً، وأبداً؛ أما باعتبار آحاده - أنه يتكلم إذا شاء - فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته. قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف: 143] ؛ حصل الكلام بعد مجيئه لميقات الله؛ ولهذا حصل بينهما مناجاة: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143] ؛ فقال تعالى: {لن تراني} بعد أن قال موسى: {رب أرني أنظر إليك} ؛ هذا هو الحق في هذه المسألة؛ وزعمت الأشاعرة أن كلام الله عزّ وجلّ هو المعنى النفسي - أي المعنى القائم بنفسه -؛ وأما ما يسمعه المخاطب به فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عزّ وجلّ لتعبر عما في نفسه؛ وقد أبطل شيخ الإسلام هذا القول من تسعين وجهاً في كتاب يسمى بـ «التسعينية».
4 - ومن فوائد الآية: أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة له؛ لأن الله تعالى ساق قوله: { منهم من كلم الله } على سبيل الثناء، والمدح.
ومنه يؤخذ علوّ مقام المصلي؛ لأنه يخاطب الله عزّ وجلّ، ويناجيه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قال المصلي: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: «حمدني عبدي»؛ وإذا قال المصلي: {الرحمن الرحيم} قال الله: «أثنى عليّ عبدي»(4) إلى آخر الحديث؛ فالله تعالى يناجي المصلي، وإن كان المصلي لا يسمعه؛ لكن أخبر بذلك الصادق المصدوق (ص).(10/188)
6 - ومن فوائد الآية: أن الفضائل مراتب، ودرجات؛ لقوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }؛ وهذا يشمل الدرجات الحسية، والدرجات المعنوية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(5)؛ كذلك مراتب أهل الجنة درجات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف من فوقهم - يعني العالية - كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين»(6).
7 - ومن فوائد الآية: إثبات أن عيسى نبي من أنبياء الله؛ لقوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }؛ والله عزّ وجلّ أعطاه آيات ليؤمن الناس به؛ ومن الآيات الحسية لعيسى ابن مريم إحياء الموتى بإذن الله؛ وإخراجهم من القبور؛ وإبراء الأكمه، والأبرص؛ وأن يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً يطير بالفعل بإذن الله؛ وهناك آيات شرعية مستفادة من قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } على أحد التفسيرين السابقين.
8 - ومنها: أن البشر مهما كانوا فهم في حاجة إلى من يؤيدهم، ويقويهم؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس}.
9 - ومنها: الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }؛ أي قويناه؛ ولازم ذلك أنه يحتاج إلى تقوية؛ والذي يحتاج إلى تقوية لا يصلح أن يكون ربًّا، وإلهاً.
10 - ومنها: الثناء على جبريل عليه السلام حيث وصف بأنه روح القدس؛ ومن وجه آخر: حيث كان مؤيِّداً للرسل بإذن الله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }.
11 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم }.(10/189)
12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل }؛ لأن القدرية يقولون: إن فعل العبد ليس بمشيئة الله؛ وإنما العبد مستقل بعمله؛ وهذه الآية صريحة في أن أفعال الإنسان بمشيئة الله.
13 - ومنها: أن قتال الكفار للمؤمنين كان عن عناد، واستكبار؛ لا عن جهل؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتهم البينات }.
14 - ومنها: لطف الله بالعباد، حيث كان لا يبعث رسولاً إلا ببينة تشهد بأنه رسول؛ وشهادة الله عزّ وجلّ لأنبيائه بالرسالة تكون بالقول، وبالفعل؛ مثالها بالقول: قوله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً} [النساء: 166] ؛ ومثالها بالفعل: تأييد الله للرسول، ونصره إياه، وتمكينه من قتل أعدائه.
15 - ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ في انقسام الناس إلى مؤمن، وكافر؛ لقوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }؛ ولولا هذا ما استقام الجهاد، ولا حصل الامتحان.
16 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { آمن }، و{ كفر }، حيث أضاف الفعل إلى العبد؛ وهم يرون أن الإنسان مجبر على عمله، ولا ينسب إليه الفعل إلا على سبيل المجاز كما يقال: أحرقت النار الخشب؛ وهذه الآية ترد عليهم.
17 - ومنها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { يفعل ما يريد }؛ مع أن الفعل فعل العبد: فالاقتتال فعل العبد؛ والاختلاف فعل العبد؛ لكن لما كان صادراً بمشيئة الله عزّ وجلّ وبخلقه، أضافه الله عزّ وجلّ إلى نفسه.(10/190)
18 - ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ والإرادة التي اتصف الله بها نوعان: كونية، وشرعية؛ والفرق بينهما من حيث المعنى؛ ومن حيث المتعلق؛ ومن حيث الأثر؛ من حيث المعنى: «الإرادة الشرعية» بمعنى المحبة؛ و«الإرادة الكونية» بمعنى المشيئة؛ ومن حيث المتعلق: «الإرادة الكونية» تتعلق فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه؛ فإذا قيل: هل أراد الله الكفر؟ نقول: بالإرادة الكونية: نعم؛ وبالشرعية: لا؛ لأن «الإرادة الكونية» تشمل ما يحبه الله، وما لا يحبه؛ و«الإرادة الشرعية» لا تتعلق إلا فيما يحبه الله؛ ومن حيث الأثر: «الإرادة الكونية» لا بد فيها من وقوع المراد؛ و«الإرادة الشرعية» قد يقع المراد، وقد لا يقع؛ فمثلاً: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] : الإرادة هنا شرعية؛ لو كانت كونية لكان الله يتوب على كل الناس؛ لكن الإرادة شرعية: يحب أن يتوب علينا بأن نفعل أسباب التوبة.
فإن قيل: ما تقولون في إيمان أبي بكر ؛ هل هو مراد بالإرادة الشرعية، أو بالإرادة الكونية؟ قلنا: مراد بالإرادتين كلتيهما؛ وما تقولون في إيمان أبي طالب؟ قلنا: مراد شرعاً؛ غير مراد كوناً؛ ولذلك لم يقع؛ وما تقولون في فسق الفاسق؟
قلنا: مراد كوناً لا شرعاً؛ إذاً نقول: قد تجتمع الإرادتان، كإيمان أبي بكر ؛ وقد تنتفيان، مثل كفر المسلم؛ وقد توجد الإرادة الكونية دون الشرعية، مثل كفر الكافر؛ وقد توجد الشرعية دون الكونية، كإيمان الكافر.
القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:254)
التفسير:
تقدم مراراً، وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهمية المطلوب؛ لأن النداء يقتضي التنبيه؛ ولا يكون التنبيه إلا في الأمور الهامة.(10/191)
وتوجيه النداء للمؤمنين يدل على أن التزام ما ذكر من مقتضيات الإيمان سواء كان أمراً، أو نهياً؛ وعلى أن عدم امتثاله نقص في الإيمان؛ وعلى الحث، والإغراء، كأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا، مثل ما تقول للحث، والإغراء: يا رجل افعل كذا، وكذا؛ أي لأن ذلك من مقتضى الرجولة.
{ 254 } قوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم } الإنفاق بمعنى البذل؛ والمراد به هنا بذل المال في طاعة الله؛ و{ مما رزقناكم } أي مما أعطيناكم؛ «من» يحتمل أن تكون بيانية؛ أو تبعيضية؛ والفرق بينهما أن البيانية لا تمنع من إنفاق جميع المال؛ لأنها بيان لموضع الإنفاق؛ والتبعيضية تمنع من إنفاق جميع المال؛ وبناءً على ذلك لا يمكن أن يتوارد المعنيان على شيء واحد لتناقض الحكمين.
قوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم } المراد به يوم القيامة؛ { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ ثلاثة أشياء منتفية؛ وهي «البيع»؛ وهو تبادل الأشياء؛ و «الخلة» ؛ وهي أعلى المحبة؛ و «الشفاعة» ؛ وهي الوساطة لدفع الضرر، أو جلب المنفعة؛ وفي الآية قراءتان؛ إحداهما ما في المصحف: بالضم، والتنوين: { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ و{ لا } على هذه القراءة ملغاة إعراباً؛ لأنها متكررة؛ والقراءة الثانية البناء على الفتح؛ وعلى هذه القراءة تكون { لا } عاملة عمل «إنّ»؛ لكن بالبناء على الفتح؛ لا بالتنوين.
وإنما قال سبحانه وتعالى: { لا بيع }؛ لأن عادة الإنسان أن ينتفع بالشيء عن طريق البيع، والشراء؛ فيشتري ما ينفعه، ويبيع ما يضره؛ لكن يوم القيامة ليس فيه بيع.
وقوله تعالى: { ولا خلة }؛ هذا من جهة أخرى: قد ينتفع الإنسان بالشيء بواسطة الصداقة؛ و«الخُلة» بالضم: أعلى المحبة؛ وهي مشتقة من قول الشاعر:
قد تخللتِ مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً(10/192)
يعني أن حبها دخل إلى مسالك الروح، فامتزج بروحه، فصار له كالحياة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر»(1)؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم) اتخذه حبيباً. قيل له: من أحب النساء إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عائشة» ؛ قيل: ومن الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أبوها»(2)؛ فأثبت المحبة؛ وكان أسامة بن زيد يسمى «حِب رسول الله» أي حبيبه؛ إذاً الخلة أعلى من المحبة.
فانتفت المعاوضة في هذا اليوم؛ وانتفت المحاباة بواسطة الصداقة؛ وانتفى شيء آخر: الشفاعة؛ وهي الإحسان المحض من الشافع للمشفوع له - وإن لم يكن بينهما صداقة -؛ فقال تعالى: { ولا شفاعة }؛ فنفى الله سبحانه وتعالى كل الوسائل التي يمكن أن ينتفع بها في هذا اليوم.
قوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ أي أن الكافرين بالله هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، وحصر الظلم فيهم لعظم ظلمهم، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] ؛ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أعظم الظلم أن تجعل لله نداً وهو خلقك(3).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإنفاق مما أعطانا الله؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ، حيث صدرها بالنداء.
2 - ومنها: أن الإنفاق من مقتضى الإيمان، وأن البخل نقص في الإيمان؛ ولهذا لا يكون المؤمن بخيلاً؛ المؤمن جواد بعلمه؛ جواد بجاهه؛ جواد بماله؛ جواد ببدنه.
3 - ومنها: بيان منة الله علينا في الرزق؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ ثم للأمر بالإنفاق في سبيله، والإثابة عليه؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم }.
4 - ومنها: التنبيه على أن الإنسان لا يحصل الرزق بمجرد كسبه؛ الكسب سبب؛ لكن المسبِّب هو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ فلا ينبغي أن يعجب الإنسان بنفسه حتى يجعل ما اكتسبه من رزق من كسبه، وعمله، كما في قول القائل: إنما أوتيته على علم عندي.(10/193)
5 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا منة للعبد على الله مما أنفقه في سبيله؛ لأن ما أنفقه من رزق الله له.
6 - ومنها: أن الميت إذا مات فكأنما قامت القيامة في حقه؛ لقوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه... } إلخ.
7 - ومنها: أن ذلك اليوم ليس فيه إمكان أن يصل إلى مطلوبه بأي سبب من أسباب الوصول إلى المطلوب في الدنيا، كالبيع، والصداقة، والشفاعة؛ وإنما يصل إلى مطلوبه بطاعة الله.
8 - ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لأنه تعالى أعقب قوله: { ولا شفاعة } بقوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] .
9 - ومنها: أن الكفر أعظم الظلم؛ ووجه الدلالة منه: حصر الظلم في الكافرين؛ وطريق الحصر هنا ضمير الفصل: { هم }.
10 - ومنها: أن الإنسان لا ينتفع بماله بعد موته؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم }؛ لكن هذا مقيد بما صح عن رسول الله (ص) أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به؛ أو ولد صالح يدعو له»(1).
11 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }، حيث أضاف الفعل إلى المنفقين؛ والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يفعل باختياره؛ وهذا القول يرد عليه السمع، والعقل - كما هو مقرر في كتب العقيدة -.
12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ لأننا نعلم أن رزق الله يأتي بالكسب؛ ويأتي بسبب لا كسب للإنسان فيه؛ فإذا أمطرت السماء وأنت عطشان، وشربت فهذا رزق لا كسب لك فيه، ولا اختيار، لكن إذا بعت، واشتريت، واكتسبت المال فهذا لك فيه كسب؛ والله عز وجل هو الذي أعطاك إياه؛ لو شاء الله لسلبك القدرة؛ ولو شاء لسلبك الإرادة؛ ولو شاء ما جلب لك الرزق.(10/194)
13 - ومنها: أن إنفاق جميع المال لا بأس به؛ وهذا على تقدير { من } بيانية؛ بشرط أن يكون الإنسان واثقاً من نفسه بالتكسب، وصِدق التوكل على الله.
مس-أل-ة:
ظاهر الآية الكريمة أن الإنفاق مطلق في أي وجه من وجوه الخير؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد في آيات أُخر، مثل قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261] ، ومثل قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} [البقرة: 195] ؛ وعلى هذا فيكون إطلاق الآية هنا مقيداً بالآيات الأُخر التي تدل على أن الإنفاق المأمور به ما كان في سبيل الله - أي في شرعه -.
مسألة ثانية:
ظاهر الآية نفي الشفاعة مطلقاً؛ وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذه الآية وبين النصوص الأخرى الدالة على إثبات الشفاعة في ذلك اليوم؛ فيقال: الجمع أن يحمل مطلق هذه الآية على المقيد بالنصوص الأخرى، ويقال؛ إن النصوص الأخرى دلت على أن هناك شفاعة؛ لكن لها ثلاثة شروط: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ وإذنه في الشفاعة.
القرآن
)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)
التفسير:
هذه الآية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، وقال: «أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي؛ فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر»(1)؛ ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جداً.(10/195)
{ 255 } قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو }: الاسم الكريم مبتدأ؛ وجملة: { لا إله إلا هو } خبر؛ وما بعده: إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و{ إله } بمعنى مألوه؛ و«المألوه» بمعنى المعبود حباً، وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى؛ والآلهة المعبودة في الأرض، أو المعبودة وهي في السماء - كالملائكة - كلها لا تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها لا تستحق ذلك؛ الذي يستحقه رب العالمين، كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ، وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] .
و{ إله } اسم لا؛ و{ لا } هنا نافية للجنس؛ ولا النافية للجنس تدل على النفي المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ{ لا إله } نفي عام محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله تعالى: { إلا هو } بدل من خبر { لا } المحذوف؛ لأن التقدير: لا إله حق إلا هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود بالحكم، كما قال ابن مالك:
التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلاً وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي الألوهية الحق نفياً عاماً قاطعاً إلا لله تعالى وحده.
وقوله تعالى: { الحي القيوم } هذان اسمان من أسمائه تعالى؛ وهما جامعان لكمال الأوصاف، والأفعال؛ فكمال الأوصاف في { الحي }؛ وكمال الأفعال في { القيوم }؛ لأن معنى { الحي } ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك «أل» المفيدة للاستغراق؛ وكمال حياته تعالى: من حيث الوجود، والعدم؛ ومن حيث الكمال، والنقص؛ فحياته من حيث الوجود، والعدم؛ أزلية أبدية - لم يزل، ولا يزال حياً؛ ومن حيث الكمال، والنقص: كاملة من جميع أوصاف الكمال - فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه، وبصره، وسائر صفاته كاملة؛ و{ القيوم }: أصلها من القيام؛ ووزن «قيوم» فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.(10/196)
قوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم } أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم؛ فالنوم معروف؛ والنعاس مقدمته.
قوله تعالى في الجملة الثالثة: { له ما في السموات وما في الأرض } أي له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و{ السموات } جمعت؛ و{ الأرض } أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لأن المراد بها الجنس.
قوله تعالى في الجملة الرابعة: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ { من } اسم استفهام مبتدأ؛ و{ ذا} ملغاة إعراباً؛ ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين اللفظ؛ و{ الذي } اسم موصول خبر { من }؛ والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده، حيث قال تعالى: { إلا بإذنه }.
و«الشفاعة» في اللغة: جعل الوتر شفعاً؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما لا يطيقون(2): شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(3): شفاعة في جلب منفعة.
وقوله تعالى: { إلا بإذنه } أي الكوني؛ يعني: إلا إذا أذن في هذه الشفاعة - حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه جلّ وعلا، وهيبته؛ وكلما كمل السلطان صار أهيب للملِك، وأعظم؛ حتى إن الناس لا يتكلمون في مجلسه إلا إذا تكلم؛ وانظر وصف رسولِ قريشٍ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم.(10/197)
قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ هذه هي الجملة السادسة؛ و«العلم» عند الأصوليين: إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً؛ فعدم الإدراك: جهل؛ والإدراك على وجه لا جزم فيه: شك؛ والإدراك على وجه جازم غير مطابق: جهل مركب؛ فلو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «لا أدري» فهذا جهل؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «إما في الثانية؛ أو في الثالثة» فهذا شك؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «في السنة الخامسة» فهذا جهل مركب؛ والله عز وجل يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً لها جملة، وتفصيلاً؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال تعالى: { يعلم ما بين أيديهم } أي المستقبل؛ { وما خلفهم} أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ لا يساعد عليه؛ و{ ما } من صيغ العموم؛ فهي شاملة لكل شيء سواء كان دقيقاً أم جليلاً؛ وسواء كان من أفعال الله أم من أفعال العباد.
قوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } لها معنيان؛ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ المعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السموات، والأرض - إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ وقوله تعالى: { إلا بما شاء } استثناء بدل من قوله تعالى: { شيء }؛ لكنه بإعادة العامل؛ وهي الباء؛ و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي: إلا بمشيئته؛ ويحتمل أن تكون موصولة؛ أي: إلا بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفاً؛ والتقدير: إلا بما شاءه.(10/198)
قوله تعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض }؛ أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» هو موضع قدمي الله عز وجل؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً(1)، ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري(2) أنه كان ينهى عن الأخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السنّة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل؛ وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم، وأئمة التحقيق؛ وقد قيل: إن «الكرسي» هو العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن «العرش» أعظم، وأوسع، وأبلغ إحاطة من الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن { كرسيه }: علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها لا تصح عن ابن عباس(3)؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولا في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جداً من أن يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»(4)؛ وهذا يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق~: 6] ؛ ولم يقل: أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لأن ذلك ليس مرئياً لنا؛ ولولا أن الله أخبرنا به ما علمنا به.
قوله تعالى: { ولا يؤوده }؛ أي لا يثقله، ويشق عليه { حفظهما }؛ أي حفظ السموات، والأرض؛ وهذه الصفة صفة منفية.(10/199)
قوله تعالى: { وهو العلي العظيم }: مثل هذه الجملة التي طرفاها معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء؛ و{ العظيم } أي ذو العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات هذه الأسماء الخمسة؛ وهي { الله }؛ { الحي }؛ { القيوم }؛ { العلي }؛ { العظيم }؛ وما تضمنته من الصفات.
2 - ومنها: إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله تعالى: { لا إله إلا هو }.
3 - ومنها: إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله، وجعلوا معه آلهة.
4 - ومنها: إثبات صفة الحياة لله عز وجل؛ وهي حياة كاملة: لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا توصف بنقص، كما قال تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3] ، وقال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] ، وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] .
5 - ومنها: إثبات القيومية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { القيوم }؛ وهذا الوصف لا يكون لمخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى غيره: فنحن محتاجون إلى العمال، والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء، والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الأولاد، والأولاد يحتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى المال، والمال محتاج إلينا من جهة حفظه، وتنميته؛ والكل محتاج إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15] ؛ وما من أحد يكون قائماً على غيره في جميع الأحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33] ؛ يعني الله؛ فلا أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.(10/200)
6 - ومن فوائد الآية: أن الله تعالى غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر إليه تعالى؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] ، وقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40] ؛ فأثبت أنه يُنصر؟
فالجواب: أن المراد بنصره تعالى نصر دينه.
7 - ومنها: تضمن الآية لاسم الله الأعظم الثابت في قوله تعالى: { الحي القيوم }؛ وقد ذكر هذان الاسمان الكريمان في ثلاثة مواضع من القرآن: في «البقرة»؛ و«آل عمران»؛ و«طه»؛ في «البقرة»: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ؛ وفي «آل عمران»: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }؛ وفي «طه»: {وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111] ؛ قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في { الحي }؛ وصفة الإحسان، والسلطان في { القيوم }.
8 - ومن فوائد الآية: امتناع السِّنَة والنوم لله عز وجل؛ وذلك لكمال حياته، وقيوميته، بحيث لا يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ وهذه من الصفات المنفية؛ والإيمان بالصفات المنفية يتضمن شيئين؛ أحدهما: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني: إثبات كمال ضدها؛ لأن الكمال قد يطلق باعتبار الأغلب الأكثر، وإن كان يرد عليه النقص من بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يرد عليه نقصٌ أبداً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك: إذا قيل: «فلان كريم» فقد يراد به أنه كريم في الأغلب الأكثر؛ فإذا قيل: «فلان كريم لا يبخل» عُلم أن المراد كمال كرمه، بحيث لا يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ فدل على كمال حياته، وقيوميته.(10/201)
9 - ومن فوائد الآية: إثبات الصفات المنفية؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }، وقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ و«الصفات المنفية» ما نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها.
10 - ومنها: عموم ملك الله؛ لقوله تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض }.
ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه.
11 - ومنها: أن الحكم الشرعي بين الناس، والفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله؛ وأن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين، والقوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله عز وجل؛ لأن الملك لله عز وجل.
12 - ومنها: تسلية الإنسان على المصائب، ورضاه بقضاء الله عز وجل، وقدره؛ لأنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه، وسلّم؛ ولهذا كان في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم لابنته أنه قال: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى»(1).
13 - ومنها: عدم إعجاب الإنسان بما حصل بفعله؛ لأن هذا من الله؛ والملك له.
14 - ومنها: اختصاص الله تعالى بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر: { له ما في السموات }؛ لأن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصر.
15 - ومنها: إثبات أن السموات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ وأما كونها سبعاً، أو أقل، أو أكثر، فمن دليل آخر.
16 - ومنها: كمال سلطان الله لقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم الملك صار ذلك أكمل، وأعلى.
17 - ومنها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وإلا لما صح الاستثناء.(10/202)
18 - ومنها: إثبات الإذن - وهو الأمر -؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وشروط إذن الله في الشفاعة: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26] ، وقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] .
19 - ومنها: إثبات علم الله، وأنه عام في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }.
20 - ومنها: الرد على القدرية الغلاة؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت.
21 - ومنها: الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لأن الخوارج، والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة.
22 - ومنها: أن الله عز وجل لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً، ولا بصراً؛ قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، وقال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] .
23 - ومنها: أننا لا نعلم شيئاً عن معلوماته إلا ما أعلمنا به؛ لقوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } على أحد الوجهين في تفسيرها.
24 - ومنها: تحريم تكييف صفات الله؛ لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا ادعينا علمه فقد قلنا على الله بلا علم.
25 - ومنها: الرد على الممثلة؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم؛ بل بما يعلم خلافه؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] .
26 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله: { إلا بما شاء }.
27 - ومنها: عظم الكرسي؛ لقوله تعالى: { وسع كرسيه السموات والأرض }.
28 - ومنها: عظمة خالق الكرسي؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.(10/203)
29 - ومنها: كفر من أنكر السموات، والأرض؛ لأنه يستلزم تكذيب خبر الله؛ أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها، وقالوا: ما فوقنا فضاء لا نهاية له، ولا حدود؛ وإنما هي سدوم، ونجوم، وما أشبه ذلك؛ وهذا لا شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده الإنسان بنفسه، ووهمه؛ أو صدَّق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب والسنّة.
30 - ومنها: إثبات قوة الله؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }.
31 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى لا يثقل عليه حفظ السموات، والأرض؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما}؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي كقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق~: 38] .
32 - ومنها: إثبات ما تتضمنه هذه الجملة: { ولا يؤوده حفظهما }؛ وهي العلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحكمة، والقوة.
33 - ومنها: أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ ولولا حفظ الله لفسدتا؛ لقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} [فاطر: 41] .(10/204)
34 - ومنها: إثبات علو الله سبحانه وتعالى أزلاً، وأبداً؛ لقوله تعالى: { وهو العلي }؛ و{ العلي } صفة مشبهة تدل على الثبوت، والاستمرار؛ وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الأولى: من قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم؛ وقولهم باطل بالكتاب، والسنّة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلوّ، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يَؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إلا وهو فوق، أو تحت، أو عن يمين، أو شمال، أو متصل، أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛ ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.
35 - ومن فوائد الآية: الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال.
36 - ومنها: التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله تعالى: { وهو العلي العظيم }؛ ولهذا قال الله في سورة النساء: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} [النساء: 34] ؛ فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله عز وجل؛ وإذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله؛ وإذا كنت كبيراً في نفسك فاذكر كبرياء الله.
37 - ومنها: إثبات العظمة لله؛ لقوله تعالى: { العظيم }.(10/205)
38 - ومنها: إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العلوّ، والعظمة.
القرآن
)لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)
التفسير:
{ 256 } قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }؛ هذه الجملة نفي؛ لكن هل هي بمعنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحداً على الدين؛ أو بمعنى النفي؛ أي أنه لن يدخل أحد دين الإسلام مكرَهاً؛ بل عن اختيار؛ لقوله تعالى بعد ذلك: { قد تبين الرشد من الغي }؟ الجواب: تحتمل وجهين؛ و «الإكراه» الإرغام على الشيء.
وقوله تعالى: { في الدين }؛ «الدين» يطلق على العمل؛ ويطلق على الجزاء؛ أما إطلاقه على العمل ففي مثل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ، وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] ؛ وأمّا إطلاقه على الجزاء فمثل قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] أي يوم الجزاء؛ وقد قيل: «كما تدين تدان»؛ أي كما تعمل تجازى؛ والمراد بـ «الدين» هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام بلا شك؛ فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ يعني الدين المفهوم عندكم أيها المؤمنون؛ وهو دين الإسلام.
قوله تعالى: { قد تبين الرشد من الغي }؛ { تبين } هنا ضمنت معنى «تميَّز»؛ وكلما جاءت «مِن» بعد «تبين» فإنها مضمنة معنى التميز؛ أي تميز هذا من هذا.(10/206)
وقوله تعالى: { الرشد من الغي }: هناك رشد، وغيّ؛ وهدى، وضلال؛ فـ؛ «الرشد» معناه حسن المسلك، وحسن التصرف: بأن يتصرف الإنسان تصرفاً يحمد عليه؛ وذلك بأن يسلك الطريق الذي به النجاة؛ ويقابل بـ «الغي» كما هنا؛ والمراد بـ{ الرشد } هنا الإسلام؛ وأما «الغي» فهو سوء المسلك: بأن يسلك الإنسان ما لا يحمد عليه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ والمراد به هنا الكفر.
وتَبَيُّن الرشد من الغي بعدة طرق:
أولاً: بالكتاب ؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] ؛ فهذا من أقوى طرق البيان.
ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] .الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.
الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.
هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح.(10/207)
قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }؛ «الكفر» في اللغة مأخوذ من الستر؛ ومنه سمي «الكُفُرَّى» لوعاء طلع النخل؛ لأن الإنسان الكافر ستر نعمة الله عليه، وستر ما تقتضيه الفطرة من توحيد الله عز وجل؛ { فمن يكفر بالطاغوت } أي من ينكره، ويتبرأ منه؛ و «الطاغوت» فسره ابن القيم بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ مشتق من «الطغيان»؛ وهو تجاوز الحد: قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] ؛ لأن الماء الذي أغرق الله به الكفار بنوح تجاوز الحد حتى وصل إلى ما فوق قمم الجبال؛ فالمعبود كالأصنام طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بها حده في العبادة؛ و المتبوع كالأحبار، والرهبان الضالين طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بهم الحد في تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل؛ والمطاع كالأمراء ذوي الجور والضلال الذين يأمرون بسلطتهم التنفيذية - لا التشريعية - طاغوت؛ إذاً { فمن يكفر بالطاغوت } من كفر بالأصنام؛ ومن كفر بأحبار، ورهبان السوء؛ ومن كفر بأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله، ويلزمون بخلاف شرع الله عز وجل.
ولا يكفي الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر تخلٍّ، وعدم؛ ولا بد من إيجاد؛ الإيجاد: قوله تعالى: { ويؤمن بالله } بالجزم عطفاً على { يكفر }؛ والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان - القبول للخبر، والإذعان للطلب سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود.(10/208)
قوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى } جواب { من } الشرطية؛ { استمسك } أي تمسك تمسكاً بالغاً { بالعروة الوثقى } أي المقبض القوي الذي ينجو به؛ والمراد به هنا الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لأن به النجاة من النار.
قوله تعالى: { لا انفصام لها } أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية.
قوله تعالى: { والله سميع عليم }: سبق الكلام عليها مفصلاً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا يكره أحد على الدين لوضوح الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين}؛ هذا على القول بأنها خبرية؛ أما على القول بأنها إنشائية فإنه يستفاد منها أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدين؛ وبينت السنة كيف نعامل الكفار؛ وذلك بأن ندعوهم إلى الإسلام؛ فإن أبوا فإلى بذل الجزية؛ فإن أبوا قاتلناهم.
2 - ومنها: أنه ليس هناك إلا رشد، أو غي؛ لأنه لو كان هناك ثالث لذُكر؛ لأن المقام مقام حصر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] ، وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] .
3 - ومنها: أنه لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله}؛ فمن آمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت فليس بمؤمن.
4 - ومنها: أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله }؛ وجه هذا أنه سبحانه وتعالى جعل الكفر بالطاغوت قسيماً للإيمان بالله؛ وقسيم الشيء غير الشيء؛ بل هو منفصل عنه.
5 - ومنها: أنه لا نجاة إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لقوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى }.(10/209)
6 - ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ يؤخذ ذلك من اسم التفضيل: { الوثقى }؛ لأن التفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ ولا شك أن الأعمال تتفاضل بنص القرآن، والسنة؛ قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً }؛ [الملك: 2] و{ أحسن } اسم تفضيل؛ وهذا دليل على أن الأعمال تتفاضل بالحُسن؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها»(1) وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(2)؛ ويلزم من تفاضل الأعمال تفاضل العامل: كلما كان العمل أفضل كان العامل أفضل؛ وتفاضل الأعمال يكون بعدة أمور: بحسب العامل؛ بحسب العمل جنسه، أو نوعه؛ بحسب الزمان؛ بحسب المكان؛ بحسب الكيفية، والمتابعة؛ بحسب الإخلاص لله؛ بحسب الحال.
مثاله بحسب العامل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه»(3).
ومثاله بحسب العمل: جنسه، ونوعه ؛ فالصلاة مثلاً أفضل من الزكاة؛ والزكاة أفضل من الصيام؛ هذا باعتبار الجنس؛ ومثاله باعتبار النوع: الفريضة من كل جنس أفضل من النافلة؛ فصلاة الفجر مثلاً أفضل من راتبة الفجر.
ومثاله بحسب الزمان : قوله (ص): «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(4)، وقوله (ص): «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً»(5).
ومثاله بحسب المكان قوله (ص): «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»(6).
ومثاله بحسب الكيفية ؛ بمعنى أن كيفية العبادة تكون أفضل من كيفية أخرى، كالخشوع في الصلاة قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1، 2] .(10/210)
مثاله بحسب المتابعة : قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ؛ فكلما كان الإنسان للرسول أتبع كان عمله أفضل؛ لأن القاعدة أن الحكم المعلَّق بوصف يقوى بحسب ذلك الوصف.
ومثاله بحسب الإخلاص أنه كلما كان العامل أشد إخلاصاً لله كان أكمل ممن خالط عمله شيء من الشرك؛ ومثاله بحسب الحال : العبادة بين أهل الغفلة، والإعراض أفضل من العبادة بين أهل الطاعة، والإقبال؛ ولهذا كان العامل في أيام الصبر له أجر خمسين من الصحابة لكثرة الإعراض عن الله عز وجل، وعن دينه؛ فلا يجد أحداً يساعده، ويعينه؛ بل ربما لا يجد إلا من يتهكم به، ويسخر به؛ ومن تفاضلها باعتبار الحال أن العفة من الشاب أفضل من العفة من الشيخ؛ لأن شهوة الشاب أقوى من شهوة الشيخ؛ فالداعي إلى عدم العفة في حقه أقوى من الداعي بالنسبة للشيخ؛ ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني أشد من عقوبة الشاب؛ لقوله (ص): «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعة لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه»(1).
7 - ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله - هما «السميع العليم» ، وما تضمناه من صفة.
القرآن
)اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:257)
التفسير:(10/211)
{ 257 } قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } أي متوليهم؛ والمراد بذلك الولاية الخاصة؛ ومن ثمراتها قوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }؛ وأفرد { النور }؛ لأنه طريق واحد؛ وجمع { الظلمات } باعتبار أنواعها؛ لأنها إما ظلمة جهل؛ وإما ظلمة كفر؛ وإما ظلمة فسق؛ أما ظلمة الجهل فظاهرة: فإن الجاهل بمنزلة الأعمى حيران لا يدري أين يذهب كما قال تعالى: {أَوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [الأنعام: 122] وهذا صاحب العلم؛ {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122] : وهذا صاحب الجهل؛ وأما ظلمة الكفر فلأن الإيمان نور يهتدي به الإنسان، ويستنير به قلبه، ووجهه؛ فيكون ضده - وهو الكفر - على العكس من ذلك؛ أما ظلمة الفسق فهي ظلمة جزئية تكبر، وتصغر بحسب ما معه من المعاصي؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء(2) - والسواد ظلمة، وتزول هذه النكتة بالتوبة، وتزيد بالإصرار على الذنب؛ فالظلمات ثلاث: ظلمة الجهل، والكفر، والمعاصي؛ يقابلها نور العلم، ونور الإيمان، ونور الاستقامة.(10/212)
قوله تعالى: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت }؛ إذا تأملت هذه الجملة، والتي قبلها تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب: ففي الجملة الأولى قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } لأمور ثلاثة؛ أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به؛ ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل؛ ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أما الجملة الثانية: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت }؛ ولو كانت الجملة على سياق الأولى لقال: «والطاغوت أولياء الذين كفروا»؛ ومن الحكمة في ذلك: أولاً: ألّا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله؛ ثانياً: أن الطاغوت أهون، وأحقر من أن يُبدأ به، ويُقدّم؛ ثالثاً: أن البداءة بقوله تعالى: { الذين كفروا } أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره.
وقوله تعالى: { والذين كفروا } أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله، أو برسوله، أو بملائكته، أو باليوم الآخر، أو بالقدر، أو غيرها مما يجب الإيمان به.
وقوله تعالى: { أولياؤهم } جمع «وليّ»؛ وجمعت لكثرة أنواع الشرك، والكفر؛ بخلاف سبيل الحق؛ فإنها واحدة؛ وهذه كقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] .
قوله تعالى: { يخرجونهم }: أتى بضمير الجمع؛ لأن المراد بالطاغوت اسم الجنس؛ فيعم جميع أنواعه.(10/213)
وقوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }: استُشكل؛ لأن ظاهره: الذين آمنوا أولاً، فدخلوا في النور، ثم كفروا، فخرجوا منه؛ مع أنه يشمل الكافر الأصلي؛ فالجواب: إما أن يراد بهذا من كانوا على الإيمان أولاً، ثم أُخرجوا كما هو ظاهر اللفظ؛ أو يقال: هذا باعتبار الفطرة؛ فإن كل مولود يولد على الفطرة؛ فكانوا على الفطرة السليمة، والإيمان، ثم أخرجوهم، كقوله (ص): «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»(1)؛ و{ من النور إلى الظلمات } سبق الكلام عليها(2).
قوله تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها }؛ المشار إليه الذين كفروا، ودعاتهم؛ و{ أصحاب } جمع صحب؛ و«الصاحب» هو الملازم لغيره؛ فلا يسمى صاحباً إلا الملازم إلا صاحباً واحداً - وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم تطلق على من اجتمع به - ولو لحظة، ومات على ذلك؛ وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصحاب النار هم أهلها الملازمون لها؛ وقُدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، ولمراعاة الفواصل.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه تحصل به ولاية الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا}.
2 - ومنها: إثبات الولاية لله عز وجل؛ أي أنه سبحانه وتعالى يتولى عباده؛ وولايته نوعان؛ الأول: الولاية العامة؛ بمعنى أن يتولى شؤون عباده؛ وهذه لا تختص بالمؤمنين، كما قال تعالى: {وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30] يعني الكافرين؛ والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين ، كقوله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] ، وكما في قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا }؛ ومقتضى النوع الأول أن لله تعالى كمال السلطان، والتدبير في جميع خلقه؛ ومقتضى النوع الثاني: الرأفة، والرحمة، والتوفيق.(10/214)
3 - ومن فوائد الآية: أن من ثمرات الإيمان هداية الله للمؤمن؛ لقوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }.
4 - ومنها: أن الكافرين أولياؤهم الطواغيت سواء كانوا متبوعين، أو معبودين، أو مطاعين.
5 - ومنها: براءة الله عز وجل من الذين كفروا؛ يؤخذ من المنطوق، والمفهوم؛ فالمفهوم في قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } فمفهومه: لا الذين كفروا؛ المنطوق من قوله تعالى: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت}؛ وهذا مقابل لقوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا }.
6 - ومنها: سوء ثمرات الكفر، وأنه يهدي إلى الضلال - والعياذ بالله؛ لقوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }؛ وهذا الإخراج يشمل ما كان إخراجاً بعد الوقوع في الظلمات، وما كان صدًّا عن النور؛ وعلى الثاني يكون المراد بإخراجهم من الظلمات: استمرارهم على الظلمات.
7 - ومنها: أن الكفر مقابل الإيمان؛ لقوله تعالى: { ولي الذين آمنوا والذين كفروا... } إلخ؛ ولكن هل معنى ذلك أنه لا يجتمع معه؟ الجواب أنه قد يجتمع معه على القول الراجح الذي هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»(3)؛ وهذا الكفر لا يرفع الإيمان لقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما...} [الحجرات: 9] إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] ؛ فأثبت الأخوة الإيمانية مع الاقتتال الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كفر؛ وانظر إلى الإنسان يكون فيه كذب - وهو من خصال المنافقين؛ ويكون فيه حسد - وهو من خصال اليهود؛ ويكون فيه صدق - وهو من خصال المؤمنين؛ ويكون فيه إيثار - وهو من صفات المؤمنين أيضاً؛ لكن الكفر المطلق - وهو الذي يخرج من الإسلام - لا يمكن أن يجامع الإيمان.(10/215)
8 - ومن فوائد الآية: إثبات النار؛ لقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار }؛ والنار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] ؛ فقال تعالى: {أعدت} بلفظ الماضي؛ والإعداد هو التهيئة؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه رآها: ففي صلاة الكسوف عرضت عليه النار، ورأى فيها عمرو بن لُحيّ يجر قصبه في النار(1)؛ ورأى المرأة التي تعذب في هرة؛ ورأى صاحب المحجن يعذب(2)؛ المهم أن النار موجودة أبدية؛ وليست أزلية؛ لأنها مخلوقة بعد أن لم تكن؛ ولكنها أبدية لا تفنى: قال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} [فاطر: 36] ؛ وذكر تأبيد أهلها في ثلاثة مواضع من القرآن؛ وبهذا يعرف بطلان قول من يقول: «إنها تفنى»؛ وأنه قول باطل مخالف للأدلة الشرعية.
9 - ومنها: أن الكافرين مخلدون في النار؛ لقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار }؛ والصاحب للشيء: الملازم له.
10 - ومنها: أن الخلود خاص بالكافرين؛ وأن من يدخل النار من المؤمنين لا يخلّد؛ لقوله تعالى: { هم فيها خالدون }؛ يعني: دون غيرهم.
القرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258)
التفسير:(10/216)
{ 258 } قوله تعالى: { ألم تر } الهمزة للاستفهام؛ والمراد به هنا التقرير، والتعجيب؛ «التقرير» يعني تقرير هذا الأمر، وأنه حاصل؛ و«التعجيب» معناه: دعوة المخاطَب إلى التعجب من هذا الأمر العجيب الغريب الذي فيه المحاجة لله عز وجل؛ { تر } أي تنظر نظر قلب؛ لأنه لم يدرك زمنه حتى يراه بعينه؛ والخطاب في قوله تعالى: { ألم تر } إما للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ وإما لكل من يتأتى خطابه ممن نزل عليهم القرآن؛ وهذا أعم؛ وقد ذكرنا قبل ذلك أن ما جاء بلفظ الخطاب في القرآن فله ثلاث حالات؛ إما أن يدل الدليل على أنه للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وللأمة؛ أو يدل الدليل على أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لا يكون هذا، ولا هذا: والحكم فيه أنه عام للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولغيره؛ ولكن هل هذا الخطاب المعين يراد به الأمة، وخوطب إمامها لأنهم تبع له؛ أو يراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره يفعله على سبيل الأسوة؟ قولان لأهل العلم؛ ومؤادهما واحد؛ فمن أمثلة ما دل الدليل على أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2] ؛ ومن الأمثلة التي دل الدليل على أنه للرسول، ولغيره قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: ]؛ فوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {إذا طلقتم} وهو عام؛ فدل على أن المراد به العموم؛ ومما يحتمل، مثل قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] ؛ فهذا يحتمل أنه للرسول (صلى الله عليه وسلم) وحده؛ ولكن أمته تبع له؛ وهو ظاهر اللفظ - وإن كان هذا الشرك لا يقع منه؛ لأن «إنْ» قد يراد بها فرض الشيء دون وقوعه - وهنا { ألم تر } يحتمل الأمرين؛ يعني: ألم تنظر يا محمد، أو: ألم تنظر أيها المخاطب.(10/217)
قوله تعالى: { إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }؛ ذكر «إبراهيم» في الآية ثلاث مرات؛ وفيها قراءتان: { إبراهيم }، و{ إبراهام }؛ وهما سبعيتان؛ و{ حاج }: هذه صيغة مفاعلة؛ وصيغة المفاعلة لا تكون غالباً إلا بين اثنين، كـ«قاتل»، و«ناظر»، و«دافع» - أقول: غالباً؛ لئلا يرد علينا مثل: «سافر»؛ فإنها من واحد؛ ومعنى «حاجه» أي ناظره، وأدلى كل واحد بحجته؛ و«الحجة» هي الدليل، والبرهان؛ و{ في ربه } أي في وجوده، وفي ألوهيته؛ فإبراهيم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ وهذا ينكر الله رأساً - كما أنكره من بعده فرعون - وقال: أين الدليل على وجود ربك؟
قوله تعالى: { أن آتاه الله الملك }: { أن } مصدرية دخلت على الفعل الماضي؛ وإذا دخلت على الفعل الماضي لا تنصبه؛ لكنها لا تمنع أن يسبك بمصدر؛ والتقدير هنا: أنه حاج إبراهيم لكونه أُعطي مُلكاً؛ و «أل» في قوله تعالى: { الملك } الظاهر أنها لاستغراق الكمال - أي ملكاً تاماً لا ينازعه أحد في مملكته؛ لأن الله لم يعطه ملك السموات، والأرض؛ بل ولا ملك جميع الأرض؛ وبهذا نعرف أن فيما ذُكر عن بعض التابعين من أنه ملك الأرض أربعة - اثنان مؤمنان؛ واثنان كافران - نظراً؛ ولم يُمَلِّك الله جميع الأرض لأيّ واحد من البشر؛ ولكن يُمَلِّك بعضاً لبعض؛ والله عز وجل يقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251] ؛ أما أن يَملِك واحد من البشر جميع الأرض فهذا مستحيل في سنة الله عز وجل فيما نعلم.(10/218)
فهذا رجل ملك - ولا يعنينا أن نعرف اسمه: أهو «نُمروذ بن كنعان»، أم غيره؛ المهم هو القصة - لما آتاه الله ملكاً دام مدة طويلة، وملك أراضي واسعة ملكاً تاماً لا ينازعه أحد - وكما قال تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام...} [يونس: 24] الآية - استطال والعياذ بالله، واستكبر، وعلا، وأنكر وجود العلي الأعلى، فكان يحاج إبراهيم لطغيانه بأن آتاه الله الملك؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7] ؛ إذا رأى الإنسان نفسه استغنى فقد يطغى، ويزيد عتوه، وعناده.
قوله تعالى: { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت }: هذا بيان المحاجة؛ وهذه لا شك - كما يُعلم من سياق اللفظ - أنها جواب لسؤال؛ كأنه قال: ما ربك؟ أو: من هو؟ أو: ما شأنه؟ أو: ما فعله؟ فقال: { ربي الذي يحيي ويميت } كما قال فرعون لموسى: {وما رب العالمين * قال رب السموات والأرض...} [الشعراء: 23، 24] ، ومعنى «الرب» الخالق المالك المدبر؛ وهذه الأوصاف لا تثبت على الكمال، والشمول إلا لله عز وجل؛ و{ يحيي ويميت } أي يجعل الجماد حياً؛ ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] ؛ ثم يبقى في الأرض؛ ثم يُعدَم ويَفنى، فإذا هو خبر من الأخبار:(10/219)
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار قال إبراهيم هذا الكلام؛ كأنه يقول له: هو الذي يوجِد، ويعدِم؛ ثم أتى بمثال - وهو الإحياء والإماتة التي لا يقدر عليها أحد؛ لكن هذا المعاند المكابر قال: { أنا أحيي وأميت }؛ قالها إما تلبيساً؛ وإما مكابرة؛ إما تلبيساً كما قاله أكثر المفسرين؛ وقالوا: إنه أتى باثنين، فقتل أحدهما، وأبقى الآخر، فقال: «أمتّ الأول، وأحييت الثاني»؛ هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين؛ وعلى هذا فيكون قوله: { أنا أحيي وأميت} تلبيساً؛ والحقيقة أنه ما أحيا، ولا أمات هنا؛ وإنما فعل ما يكون به الموت في دعوى الإماتة؛ واستبقى ما كان حياً في دعواه الإحياء؛ فلم يوجِد حياة من عنده؛ وقال بعضهم: بل قال ذلك مكابرة؛ يعني: هو يعلم أنه لا يحيي، ولا يميت؛ كأنه يقول لإبراهيم: إذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي، وأميت؛ ثم إن إبراهيم عليه السلام انتقل إلى أمر لا يمكن الجدال فيه، فقال: { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب }.
قوله تعالى؛ { فبهت الذي كفر } أي تحير، واندهش، ولم يحرِ جواباً؛ فغلب إبراهيم الذي كفر؛ لأن وقوف الخصم في المناظرة عجز.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يوفقهم للهداية.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلاغة القرآن الكريم في عرض الأمور العجيبة معرض التقرير، والاستفهام؛ لأن «التقرير» يحمل المخاطَب على الإقرار؛ و«الاستفهام» يثير اهتمام الإنسان؛ فجمع بين الاستفهام، والتقرير.
2 - ومنها: بيان كيف تصل الحال بالإنسان إلى هذا المبلغ الذي بلغه هذا الطاغية؛ وهو إنكار الحق لمن هو مختص به، وادعاؤه المشاركة؛ لقوله: { أنا أحيي وأميت }.
3 - ومنها: أن المحاجة لإبطال الباطل، ولإحقاق الحق من مقامات الرسل؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }.(10/220)
4 - ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة، والمحاجة؛ لأنها سُلَّم، ووسيلة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل؛ ومن طالع كتب شيخ الإسلام ونحوها تعلَّم المناظرة - ولو لم يدرسها فناً.
5 - ومنها: أن النعم قد تكون سبباً للطغيان؛ لأن هذا الرجل ما طغى وأنكر الخالق إلا لأن الله آتاه الملك؛ ولهذا أحياناً تكون الأمراض نعمة من الله على العبد؛ والفقر والمصائب تكون نعمة على العبد؛ لأن الإنسان إذا دام في نعمة، وفي رغد، وفي عيش هنيء فإنه ربما يطغى، وينسى الله عز وجل.
6 - ومنها: صحة إضافة الملكية لغير الله؛ لقوله تعالى: { أن آتاه الله الملك }.
7 - ومنها: أن ملك الإنسان ليس ملكاً ذاتياً من عند نفسه؛ ولكنه معطى إياه؛ لقوله تعالى: { أن آتاه الله الملك}؛ وهذه الآية كقوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 26] .
8 - ومنها: فضيلة إبراهيم (ص)، حيث قال مفتخراً، ومعتزاً أمام هذا الطاغية: { ربي }؛ فأضافه إلى نفسه، كأنه يفتخر بأن الله سبحانه وتعالى ربه.(10/221)
9 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يحيي ويميت }؛ وهذه المسألة أنكرها كثير من علماء الكلام؛ وعللوا ذلك بعلل عليلة؛ بل ميتة لا أصل لها؛ لأنهم قالوا: إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث؛ وإن الحوادث إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يتصف الله بها! إذاً هي ممتنعة؛ لأنها نقص على كل تقدير؛ وحينئذٍ يجب أن ننزه الله عنها، وأن تكون ممتنعة عليه؛ والجواب عن ذلك أن قولكم: «الحوادث لا تقوم إلا بحادث» مجرد دعوى؛ ونحن نعلم أن الحوادث تحدث منا، ولكنها ليست سابقة بسبقنا؛ ولا يعد ذلك فينا نقصاً؛ فالحوادث تحدث بعد مَن أحدثها؛ ولا مانع من ذلك؛ فمن الممكن أن يكون المتصف بها قديماً وهي حادثة؛ وأما قولكم: «إنها إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يوصف بها»؟ فنقول: هي كمال حال وجودها؛ فإذا اقتضت الحكمة وجودها كان وجودها هو الكمال؛ وإذا اقتضت الحكمة عدمها كان عدمها هو الكمال.
10 - ومن فوائد الآية: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يحيي ويميت }؛ إذاً فاعتمد على الله عز وجل، ولا تخف، ولا تقدر أسباباً وهمية؛ مثلاً دعيت إلى أيّ عمل صالح فقلت: أخشى إن عملت هذا العمل أن أموت؛ نقول: هذا إذا كان مجرد وهم فإن هذه الخشية لا ينبغي أن يبني عليها حكماً، بحيث تمنعه من أمر فيه مصلحته، وخيره.
11 - ومنها: أن الإنسان المجادل قد يكابر فيدعي ما يعلم يقيناً أنه لا يملكه؛ لقول الرجل الطاغية: { أنا أحيي وأميت }؛ ومعلوم أن هذا إنما قاله في مضايقة المحاجة؛ والإنسان في مضايقة المحاجة ربما يلتزم أشياء هو نفسه لو رجع إلى نفسه لعلم أنها غير صحيحة؛ لكن ضيق المناظرة أوجب له أن يقول هذا إنكاراً، أو إثباتاً.
12 - ومنها: حكمة إبراهيم (ص)، وجودته في المناظرة سواء قلنا: إن هذا من باب الانتقال من حجة إلى أوضح منها، أو قلنا: إنه من باب تفريع حجة على حجة.(10/222)
13 - ومنها: الرد على علماء الهيئة الذين يقولون: إن إتيان الشمس ليس إتياناً لها بذاتها؛ ولكن الأرض تدور حتى تأتي هي على الشمس؛ ووجه الرد أن إبراهيم قال: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق }؛ إذاً الله أتى بها من المشرق؛ وهم يقولون: إن الله لم يأت بها من المشرق؛ ولكن الأرض بدورتها اطلعت عليها؛ ونحن نقول: إن الله لم يقل: إن الله يدير الأرض حتى تُرى الشمس من المشرق؛ فأدرها حتى تُرى من المغرب! ويجب علينا أن نأخذ في هذا الأمر بظاهر القرآن، وألا نلتفت لقول أحد مخالف لظاهر القرآن؛ لأننا متعبدون بما يدل عليه القرآن؛ هذا من جهة؛ ولأن الذي أنزل القرآن أعلم بما خلق: قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ؛ فإذا كان يقول في كلامه إن الشمس: «تأتي»، و«تطلع»، و«تغرب»، و«تزول»، و«تتوارى»؛ كل هذه الأفعال يضيفها إلى الشمس؛ لماذا نحن نجعلها على العكس من ذلك، ونضيفها إلى الأرض!!! ويوم القيامة سيقول الله لنا: {ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65] ؛ لا يقول: ماذا أجبتم العالم الفلكي الفلاني؛ على أن علماء الفلك قديماً، وحديثاً مختلفون في هذا؛ لم يتفقوا على أن الأرض هي التي بدورانها يكون الليل، والنهار؛ وما دام الأمر موضع خلاف بين الفلكيين أنفسهم؛ فإننا نقول كما نقول لعلماء الشرع إذا اختلفوا: «إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول»؛ بل نقول: لو جاء علماء الفلك بأجمعهم ما عدلنا عن ظاهر القرآن حتى يتبين لنا أمر محسوس؛ وحينئذ نقول لربنا إذا لاقيناه: إنك قلت - وقولك الحق: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }، وقلت: {اتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ؛ ونحن ما وسعنا إلا أن نقول: إن قولك: { وترى الشمس إذا طلعت } [الكهف: 17] أي إذا طلعت رأي العين؛ لا في حقيقة الواقع؛ لأننا علمنا بحسنا، وبصرنا بأن الذي يكون به تعاقب الليل، والنهار هو دوران الأرض؛ أما والحس لم يدل على هذا؛ ولكنه مجرد(10/223)
أقيسة ونظريات، فإنني أرى أنه لا يجوز لأحد أن يعدل عن كلام ربه الذي خلق، والذي أنزل القرآن تبياناً لكل شيء لمجرد قول هؤلاء.
14 - ومن فوائد الآية: أن الحق لا تمكن المجادلة فيه؛ لقوله تعالى: { فبهت الذي كفر }.
15 - ومنها: إثبات أن من جحد الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: { فبهت الذي كفر }؛ وهذه هي النكتة في الإظهار مقام الإضمار؛ لأجل أن نقول: كل من جادل كما جادل هذا الرجل فهو كافر.
16 - ومنها: الإشارة إلى أن محاجة هذا الرجل محاجة بباطل؛ لقوله تعالى: { الذي كفر }؛ لأن الذين كفروا هم الذين يحاجون حجة باطلة؛ قال الله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 5].
17 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان حرّ: يهتدي بنفسه، ويضل بنفسه؛ وهذه الآية واضحة في أن الهداية بيد الله.
18 - ومنها: التحذير من الظلم؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ ومن الظلم أن يتبين لك الحق فتجادل لنصرة قولك؛ لأن العدل أن تنصاع للحق، وألا تكابر عند وضوحه؛ ولهذا ضل من ضل من أهل الكلام؛ لأنه تبين لهم الحق؛ ولكن جادلوا؛ فبقوا على ما هم عليه من ضلال.
19 - ومنها: أن الله لا يمنع فضله عن أحد إلا إذا كان هذا الممنوع هو السبب؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ فلظلمهم لم يهدهم الله؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] .
20 - ومنها: أنه كلما كان الإنسان أظلم كان عن الهداية أبعد؛ لأن الله علق نفي الهداية بالظلم؛ وتعليق الحكم بالظلم يدل على عليته؛ وكلما قويت العلة قوي الحكم المعلق عليه.(10/224)
21 - ومنها: أن من أخذ بالعدل كان حرياً بالهداية؛ لمفهوم المخالفة في قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ فإذا كان الظالم لا يهديه الله، فصاحب العدل حري بأن يهديه الله عز وجل؛ فإن الإنسان الذي يريد الحق ويتبع الحق - والحق هو العدل - غالباً يُهدى، ويوفّق للهداية؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية عبارة من أحسن العبارات؛ قال: «من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق»؛ وهذه كلمة مأخوذة من القرآن منطوقاً، ومفهوماً.
القرآن
)أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:259)
التفسير:
{ 259 } قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ { أو }: حرف عطف؛ والكاف: قيل إنها زائدة للتوكيد؛ وقيل: إنها اسم بمعنى «مثل»؛ وعلى كلا القولين فهي معطوفة على { الذي } في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] ؛ يعني: أو ألم تر إلى مثل الذي مر - إذا جعلنا الكاف بمعنى «مثل»؛ فإن جعلنا الكاف زائدة، فالتقدير: أو ألم تر إلى الذي مر على قرية... إلخ.
وفي قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } تقديم المفعول على الفاعل؛ لأن { هذه } مفعول مقدم؛ ولفظ الجلالة فاعل مؤخر.(10/225)
قوله تعالى: { مائة } منصوبة على أنها نائبة مناب الظرف؛ لأنها مضافة إليه؛ والظرف هي كلمة { عام }؛ وهي متعلقة بـ {أماته} ؛ وقيل: متعلقة بفعل محذوف؛ والتقدير: فأبقاه مائة عام؛ قالوا: لأن الموت لا يتأجل؛ الموت موت؛ ولكن الذي تأجل هو بقاؤه ميتاً مائة عام.
قوله تعالى: { كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثتَ }: اختلفت الحركة في التاء باعتبار من ترجع إليه؛ و{ كم } مفعول مقدم لـ { لبثت }؛ يعني: كم مدة لبثت.
قوله تعالى: { لم يتسنه } فيها قراءتان: { لم يتسنَّه } بالهاء الساكنة؛ و{ لم يتسنَّ } بحذفها عند الوصل؛ فالقراءتان تختلفان في حال الوصل؛ لا في حال الوقف؛ في حال الوقف: بالهاء الساكنة على القراءتين: { لم يتسنَّه }؛ وفي حال الوصل: بحذف الهاء في قراءة سبعية: { لم يتسنَّ وانظر }.
قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ الواو حرف عطف؛ والمعطوف عليه محذوف دل عليه السياق؛ والتقدير؛ لتعلم قدرة الله، ولنجعلك آية للناس.
قوله تعالى: { أعلم } بفتح الهمزة على أنه فعل مضارع؛ فالجملة خبرية؛ والقراءة الثانية «اعْلمْ» بهمزة الوصل على أنه فعل أمر؛ وعلى هاتين القراءتين يختلف عود الضمير في { قال }؛ فعلى القراءة الأولى مرجعه { الذي مر على قرية } ؛ وعلى الثانية يرجع إلى الله.
وقد اختلف المفسرون في تعيين القرية، والذي مر بها؛ وهو اختلاف لا طائل تحته؛ إذ لم يثبت فيه شيء عن معصوم؛ والمقصود العبرة بما في هذه القصة - لا تعيين الرجل، ولا القرية - ومثل هذا الذي يأتي مبهماً، ولم يعين عن معصوم، طريقنا فيه أن نبهمه كما أبهمه الله عز وجل.(10/226)
قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }: «القرية» مأخوذة من القَرْي؛ وهي الجمع؛ وتطلق على الناس المجتمعين في البلد؛ وتطلق على البلد نفسها - حسب السياق - فمثلاً في قوله تعالى: {قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت: 31] المراد بـ «القرية» هنا المساكن؛ لأنه تعالى قال: {أهل هذه القرية} ؛ وأما في قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة} فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {أهلكناها} ، وقوله تعالى: {وهي ظالمة} : وهذا لا يوصف به البلد.
فتبين أن القرية يراد بها أحياناً البلد التي هي محل مجتمع الناس؛ ويراد بها القوم المجتمعون - على حسب السياق؛ وكما قال أولاد يعقوب لأبيهم: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82] : فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {واسأل القرية} ؛ لأن السؤال لا يمكن أن يوجه إلى القرية التي هي البناء؛ وإذا كانت «القرية» تطلق على أهل القرية بنص القرآن فلا حاجة إلى أن نقول: هذا مجاز أصله: واسأل أهل القرية؛ لأنا رأينا في القرآن الكريم أن «القرية» يراد بها الساكنون.
قوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } جملة حالية في محل نصب؛ ومعناها أنه ساقط بعضها على بعض ليس فيها ساكن.
قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ { أنى } اسم استفهام للاستبعاد؛ وسياق الآية يرجحه؛ أي أنه استبعد حسب تصوره أن الله سبحانه وتعالى يعيد إلى هذه القرية ما كان سابقاً، وقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؛ وقال بعضهم: إنه للاستعجال، والتمني؛ كأنه يقول: متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها وقد كانت بالأمس قرية مزدهرة بالسكان، والتجارة، وغير ذلك؛ فمتى يعود عليها ما كان قبل.
قوله تعالى: { فأماته الله } أي قبض روحه.(10/227)
قوله تعالى: { مائة } فيها ألف بين الميم، والهمزة؛ والميم مكسورة، والألف عليها دائرة إشارة إلى أن الألف هذه تكتب، ولا ينطق بها؛ وبهذا نعرف خطأ من ينطقون بها: «مَائة» بميم مفتوحة؛ ومن قرأ بها في القرآن فقد لحن لحناً يجب عليه أن يعدله؛ وبعض الكتاب المعاصرين يكتبها بدون ألف كـ «فِئة» يعني: ميم، وهمزة، وتاء؛ وهذا أحسن إلا في رسم المصحف؛ فيتبع الرسم العثماني؛ وإلا إذا أضيف إليها عدد كـ «ثلاثمائة» و«أربعمائة»؛ فتكتب الألف، ولا ينطق بها.
قوله تعالى: { عام } مشتقة من العوم؛ وهو السباحة؛ لأن الشمس تسبح فيه على الفصول الأربعة؛ وهي الربيع؛ الصيف؛ الخريف؛ الشتاء؛ كل واحد من هذه الفصول له ثلاثة من البروج المذكورة في قوله:
حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسد سنبلة ميزان فعقرب قوس فجدي فكذا دلو وذي آخرها الحيتان هذه اثنا عشر برجاً للفصول الأربعة؛ كل واحد من الفصول له ثلاثة؛ وقيل: إن كلمة { عام } غير مشتقة؛ فهي مثل كلمة «باب» و«ساج» و«سنة»؛ وما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس لها اشتقاق؛ وأياً كان فالمعنى معروف.
قوله تعالى: { ثم بعثه } أي أحياه؛ ولعل قائلاً يقول: إن المتوقع أن يقول: «ثم أحياه» ليقابل { أماته}؛ لكن «البعث» أبلغ؛ لأن «البعث» فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة، واندفاع؛ فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة؛ قال مثلاً: «كن حياً»، فكان حياً.
قوله تعالى: { قال كم لبثت }؛ القائل هو الله عز وجل؛ يعني كم لبثت من مدة؛ والمدة مائة عام.
قوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ { أو } للشك؛ قال العلماء: وإنما قال ذلك؛ لأن الله أماته في أول النهار، وأحياه في آخر النهار؛ فقال: لبثت يوماً إن كان هذا هو اليوم الثاني من موته؛ أو بعض يوم إن كان هو اليوم الذي مات فيه.(10/228)
قوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ { بل } هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني لم تلبث يوماً، أو بعض يوم؛ بل لبثت مائة عام.
قوله تعالى: { فانظر } أي بعينك { إلى طعامك }: أبهمه الله عز وجل فلم يبين من أي نوع هو؛ و «الطعام» كل ما له طعم من مأكول، ومشروب؛ لكنه إذا قرن بالشراب صار المراد به المأكول.
قوله تعالى: { وشرابك }: لم يبين نوع الشراب؛ { لم يتسنه } أي لم يتغير.
قوله تعالى: { وانظر إلى حمارك } أي انظر إليه بعينك؛ فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس فيه لحم، ولا عصب، ولا جلد.
قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس } أي لنصيِّرك علامة للناس على قدرتنا.
قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها }؛ وفي قراءة: «ننشرها» بالراء؛ { ننشزها } بالزاي يعني: نركب بعضها على بعض؛ من النشَز؛ وهو الارتفاع، كقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} [النساء: 128] ؛ فـ { ننشزها } يعني: نعلي بعضها على بعض؛ فنظر إلى العظام يأتي العظم، ويركب على العظم الثاني في مكانه حتى صار الحمار عظاماً؛ كل عظم منها راكب على الآخر في مكانه، ثم بعد ذلك كسا الله العظام لحماً بعد أن أنشز بعضها ببعض بالعصب؛ أما قراءة «ننشرها» بالراء فمعناها: نحييها؛ لأن العظام قد يبست، وصارت كالرميم ليس فيها أيّ مادة للحياة، ثم أحييت بحيث صارت قابلة لأن يركب بعضها على بعض.
قوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً } أي نسترها باللحم؛ فشاهد ذلك بعينه، فاجتمع عنده آيتان من آيات الله؛ إبقاء ما يتغير على حاله - وهو طعامه، وشرابه؛ وإحياء ما كان ميتاً - وهو حماره.
قوله تعالى: { فلما تبين له } أي تبين لهذا الرجل - الذي مر على القرية، واستبعد أن يحييها الله بعد موتها؛ أو استبطأ أن الله سبحانه وتعالى يحييها بعد موتها، وحصل ما حصل من آيات الله عز وجل بالنسبة له، ولحماره، ولطعامه، وشرابه - تبين له الأمر الذي تحقق به قدرة الله عز وجل.(10/229)
قوله تعالى: { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ وفي قراءة: { اعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ والفائدة من القراءتين: كأنه أُمر أن يعلم، فعلم، وأقر؛ و«العلم» - كما سبق - هو إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً لما هو عليه؛ وعدم الإدراك هو الجهل البسيط؛ وإدراك الشيء على غير ما هو عليه: هو الجهل المركب؛ وعدم الجزم: شك؛ أو ظن؛ أو وهم؛ فإن تساوى الأمران فهو شك؛ وإن ترجح أحدهما فالراجح ظن؛ والمرجوح وهم.
و«القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] : لما نفى أن يعجزه شيء قال تعالى: {إنه كان عليماً قديراً} فلما نفى العجز، ذكر القدرة، والعلم مقابلها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث ينوع الأدلة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ لقوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ فهذه الآية وما قبلها، وما بعدها كلها في سياق قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى.
2 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يهتم الإنسان بأعيان أصحاب القصة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمة لكان الله يبين ذلك: يقول: فلان؛ ويبين القرية.
3 - ومنها: أن العبرة بالمعاني والمقاصد دون الأشخاص.
4 - ومنها: إطلاق القرية على المساكن؛ لقوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } مع أنه يحتمل أن يراد بهذه الآية المساكن، والساكن؛ لأن كونها خاوية على عروشها يدل على أن أهلها أيضاً مفقودون، وأنهم هالكون.(10/230)
5 - ومنها: قصور نظر الإنسان، وأنه ينظر إلى الأمور بمعيار المشاهَد المنظور لديه؛ لقوله هذا الرجل: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ فكونك ترى أشياء متغيرة لا تستبعد أن الله عز وجل يزيل هذا التغيير؛ وكم من أشياء قدَّر الناس فيها أنها لن تزول، ثم تزول؛ كم من أناس أمَّلوا دوام الغنى، ودوام الأمن، ودوام السرور، ثم أعقبه ضد ذلك؛ وكم من أناس كانوا على شدة من العيش، والخوف، والهموم، والغموم، ثم أبدلهم الله سبحانه وتعالى بضد ذلك.
6 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء - ولكنه لم يشك في قدرة الله - لا يكفر بهذا.
7 - ومنها: بيان قدرة الله عز وجل في إماتة هذا الرجل لمدة معينة، ثم إحيائه؛ لقوله تعالى: { فأماته الله مائة عام ثم بعثه }.
8 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل، والقول، وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { قال كم لبثت}؛ والأولى الأخذ بظاهر القرآن، وأن القائل هو الله عز وجل.
9 - ومنها: جواز امتحان العبد في معلوماته؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }.
10 - ومنها: الرد على الأشاعرة الذين قالوا: «إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذه الأصوات التي سمعها موسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وغيرهما ممن كلمه الله هي أصوات خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه»؛ وأن هذا القول مقتضاه إنكار القول من الله عز وجل.
11 - ومنها: بيان حكمة الله، حيث أمات هذا الرجل، ثم بعثه ليتبين له قدرة الله عز وجل.
12 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئاً؛ لقوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } مع أنه لبث مائة عام.
13 - ومنها: أن الله قد يمنّ على عبده بأن يريه من آياته ما يزداد به يقينه؛ لقوله تعالى: { فانظر إلى طعامك... } إلخ.
14 - ومنها: أن قدرة الله فوق ما هو معتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير.(10/231)
15 - ومنها: الرد على أهل الطبيعة الذين يقولون: إن السنن الكونية لا تتغير؛ لقوله تعالى: { لم يتسنه }: لكون هذا الطعام، والشراب لم يتغير لمدة مائة سنة، والرياح تمر به، والشمس، والحر.
16 - ومنها: جواز الانتفاع بالحُمُرِ؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك }.
17 - ومنها: ثبوت الملكية فيها: لأن الله أضاف الحمار إلى صاحبه؛ فقال تعالى: { حمارك }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه»(1)؛ وإثبات الملكية يقتضي حل الثمن؟
فالجواب: أنها إذا بيعت للأكل فهو حرام؛ لأنه هو المحرم؛ وأما إذا بيعت للانتفاع فهذا حلال؛ لأن الانتفاع بها حلال؛ إذاً فهذا لا يعارض الحديث؛ فإذا اشترى الحمار للأكل فالثمن حرام؛ وإن اشتراه للمنفعة فالمنفعة حلال، وثمنها حلال.
18 - ومن فوائد الآية: أن الله يحدث للعبد ما يكون عبرة لغيره؛ لقوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ ومثل ذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم، وأمه: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] .
19 - ومنها: أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله عز وجل، وأحدثه في الكون؛ لأن ذلك يزيد الإيمان، حيث إن هذا الشيء آية من آيات الله.
20 - ومنها: أنه ينبغي النظر إلى الآيات على وجه الإجمال، والتفصيل؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك}: مطلق؛ ثم قال تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها... } إلخ؛ فيقتضي أن نتأمل أولاً في الكون من حيث العموم، ثم من حيث التفصيل؛ فإن ذلك أيضاً يزيدنا في الإيمان.
21 - ومنها: أن الله عز وجل جعل اللحم على العظام كالكسوة؛ بل هو كسوة في الواقع؛ لقوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً }، وقال تعالى: { فكسونا العظام لحماً } [المؤمنون: 14] ؛ ولهذا تجد اللحم يقي العظام من الكسر والضرر؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم.(10/232)
22 - ومنها: أن الإنسان بالتدبر، والتأمل، والنظر يتبين له من آيات الله ما لا يتبين لو غفل؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له... } إلخ.
23 - ومنها: بيان عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }.
24 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }؛ لأن من الأشياء فعل العبد؛ والله سبحانه وتعالى قادر على فعل العبد؛ وعند القدرية المعتزلة أن الله ليس بقادر على أفعال العبد؛ لأن العبد عندهم مستقل خالق لفعله، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعاله.
25 - ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فأماته الله... ثم بعثه }؛ وهذه أفعال متعلقة بمشيئته، واختياره: متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل؛ متى شاء خلق، ومتى شاء أمات؛ ومتى شاء أذل، متى شاء أعز.
26 - ومنها: أن كلام الله عز وجل بحروف، وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }، وقوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ فإن مقول القول حروف بصوت سمعه المخاطَب، وأجاب عليه بقوله: { لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ ولكن الصوت المسموع من كلام الله عز وجل ليس كصوت المخلوقين؛ الحروف هي الحروف التي يعبر بها الناس؛ لكن الصوت: لا؛ لأن الصوت صفة الرب عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .
27 - ومنها: أنه يلزم من النظر في الآيات العلم، واليقين؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }.
28 - ومنها: أنه يمكن الرد على الجبرية على قراءة: «اعلم» ؛ لأنه لو كان الإنسان مجبوراً لكان توجه الخطاب إليه بالأمر والتكليف، لغواً وعبثاً.(10/233)
29 - ومنها: ثبوت كرامات الأولياء؛ وهي كل أمر خارق للعادة يجريه الله عز وجل على يد أحد أوليائه تكريماً له، وشهادةً بصدق الشريعة التي كان عليها؛ ولهذا قيل: كل كرامة لوليّ فهي آية للنبي الذي اتبعه؛ و«الولي» كل مؤمن تقي؛ لقوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63] .
30 - ومنها: وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير.
القرآن
)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260)
التفسير:
في { إبراهيم } قراءتان؛ { إبراهيم } بكسر الهاء، وياء بعدها؛ و {إبراهام} بفتح الهاء، وألف بعدها؛ وكذلك في { أرني } قراءتان: {أرِني} بكسر الراء؛ و {أرْني} بسكونها؛ وفي { فصرهن } قراءتان أيضاً: {فصُرهن} بضم الصاد؛ و {فصِرهن} بكسرها؛ وفي { جزءاً } قراءتان أيضاً: {جزْءاً} بسكون الزاي؛ و {جزُءاً} بضمها؛ وكل هذه القراءات سبعية.
{ 260 } قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني } { إذ } : مفعول فعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ و{ أرني }: الرؤية هنا بصرية، فتنصب مفعولاً واحد؛ لكن لما دخلت عليها همزة التعدية صارت تنصب مفعولين؛ الأول: الياء؛ والثاني: جملة: { كيف تحيي الموتى }.(10/234)
قوله تعالى: { أو لم تؤمن } فيها إعرابان مشهوران؛ أحدهما: أن الهمزة دخلت على مقدر عُطف عليها قوله تعالى: { ولم تؤمن }؛ وهذا المقدر يكون بحسب السياق؛ وعلى هذا فالهمزة في محلها؛ الثاني: أن الواو حرف عطف على ما سبق؛ والهمزة للاستفهام؛ وأصل محلها بعد الواو؛ والتقدير: «وألم تؤمن»؛ والثاني أسهل، وأسلم؛ لأن الإنسان ربما يقدر فعلاً ليس هو المراد؛ وأسهل؛ لئلا يُتعب الإنسان نفسه في طلب فعل يكون مناسباً.
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم }؛ إبراهيم (ص) هو الأب الثالث للأنبياء؛ فالأول: آدم؛ والثاني: نوح؛ والثالث: إبراهيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ، وقال تعالى في نوح: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77] ؛ وآدم معلوم أنه أبو البشر: قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] .
قوله تعالى: { رب }: منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ وحرف النداء محذوف للعلم به.
قوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى } أي اجعلني أنظر، وأرى بعيني؛ والسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان؛ لأن إبراهيم لم يشك في القدرة؛ ولا عن معنى الإحياء؛ لأن معنى الإحياء عنده معلوم؛ لكن أراد أن يعلم الكيفية: كيف يحيي الله الموتى بعد أن أماتهم، وصاروا تراباً وعظاماً.
وقوله تعالى: { الموتى }: هل مراد إبراهيم (ص) أيّ موتى يكونون؛ أو أن المراد به الموتى من بني آدم، فضرب الله له مثلاً بالطيور الأربعة؟ إذا نظرنا إلى لفظ { الموتى } وجدناه عاماً؛ يعني أيّ شيء يحييه الله أمامه فقد أراه؛ فيترجح الاحتمال الأول.
قوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }: هذا الاستفهام للتقرير؛ وليس للإنكار، ولا للنفي؛ فهو كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ يعني: قد شرحنا لك؛ فمعنى { أو لم تؤمن }: ألست قد آمنت؛ لتقرير إيمان إبراهيم (صلى الله عليه وسلم).(10/235)
وقد فسر كثير من الناس الإيمان في اللغة بـ«التصديق»؛ وهذا التفسير ليس بدقيق؛ لكنه تفسير بما يقارب؛ كتفسيرهم «الريب» بالشك؛ وتفسيرهم «الرهن» بالحبس؛ وتفسير قوله تعالى: {أن تبسل نفس} [الأنعام: 70] أي تحبس؛ وما أشبه ذلك مما يفسرونه بالمعنى المقارِب الذي يَقرُب للفهم؛ وإلا فإن بين الإيمان، والتصديق فرقاً؛ وقد سبق بيان ذلك.
قوله تعالى: { بلى } حرف يجاب بها النفي المقرون بالاستفهام لإثباته؛ فإذا قلت: ألست حاضراً معنا في الدرس؟ فالجواب: «بلى» - إن كنت حاضراً؛ و«نعم» - إن لم تكن حاضراً.
قوله تعالى: { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليزداد طمأنينة؛ وإلا فقد كان مطمئناً؛ و«الطمأنينة» هي الاستقرار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اركع حتى تطمئن راكعاً... اسجد حتى تطمئن ساجداً»(1)، أي تستقر؛ فأراه الله سبحانه وتعالى الآية: قال تعالى: { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً }.
قوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير }: لم يعينها الله عز وجل؛ ولهذا تعتبر محاولة تعيينهن لا فائدة منها؛ لأنه لا يهمنا أكانت هذه الطيور إوَزًّا، أم حماماً، أم غرباناً، أم أيَّ نوع من أنواع الطيور؛ لأن الله لم يبينها لنا؛ ولو كان في تبيينها فائدة لبيَّنها الله عز وجل.
قوله تعالى: { فصرهن إليك } بكسر الصاد من صار يصير؛ وبضمها من صار يصور؛ أي أملهن إليك؛ و«الصُّور» الميل؛ ومنه الرجل الأصور - التي مالت عينه إلى جانب من جفنه؛ ويسمى «الأحول»؛ فمعنى { صرهن } أي أملهن، واضممهن إليك.
قوله تعالى: { ثم اجعل على كل جبل }، أي من الجبال التي حولك { منهن جزءاً } أي من مجموعهن؛ والله أعلم بالحكمة من تعيين العدد، والجبال.
قوله تعالى: { ثم ادعهن }؛ ففعل عليه الصلاة والسلام فجمع الأربعة، وذبحهن، وقطعهن أجزاءً، وجعل على كل جبل جزءاً؛ ثم دعاهن فأقبلن.(10/236)
قوله تعالى: { يأتينك سعياً } قيل: إنها جواب لفعل الأمر في قوله تعالى: { ادعهن }؛ وقيل: إنها جواب لفعل شرط مقدر؛ والتقدير: «إن تدعهن يأتينك»؛ فعلى القول الأول يكون جواباً لقوله: { ادعهن }؛ لأن من لازم أمر الله إياه بدعائهن أن يدعوَهن؛ فكأن الشرط معلوم من الأمر؛ وعلى القول الثاني لا إشكال إذا جعلت { يأتينك } جواباً لفعل شرط محذوف - يعني: إن تدعهن يأتينك؛ و{ يأتينك } مبنية على السكون في محل جزم؛ وإنما بنيت على السكون لاتصالها بنون النسوة.
وقوله تعالى: { سعياً } مصدر؛ لكن هل هو مصدر عامله محذوف، والتقدير: يسعَين سعياً؛ أو هو مصدر في موضع الحال، فيكون بمعنى: ساعيات؟ يحتمل هذا، وهذا؛ والثاني أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير؛ والقاعدة أنه إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام محذوفاً منه، أو غير محذوف فهو غير محذوف منه.
وقوله تعالى: { سعياً }؛ هل نفسر السعي في كل موضع بحسبه؛ أو نقول: سعياً على الأرجل؟ في هذا قولان للمفسرين؛ أحدهما أن السعي هنا بمعنى الطيران؛ فالمعنى: يأتينك طيراناً لا نقص فيهن؛ لأن سعي كل شيء بحسبه؛ وسعي الطيور هو الطيران؛ الثاني: أن المراد بالسعي المشي بسرعة على الأرجل؛ ولكن الأولى - فيما يظهر لنا - هو الطيران؛ لأن كونهن يمشين على الأرجل لا يدل على كمالهن؛ إذ إن الطائر إذا كُسر جناحه صار يمشي؛ لكن كونهن يطرن أبلغ؛ لأنه كأنهن أتين على أكمل الحياة، والوجوه.(10/237)
قوله تعالى: { واعلم أن الله عزيز حكيم }: الخطاب لإبراهيم (ص)؛ فإذا علمت ذلك علمت كمالَ قدرته عز وجل لكمال عزته، وكمالَ حكمته؛ لأنه حكيم؛ والله سبحانه وتعالى يقرن كثيراً بين هذين الاسمين: «العزيز» و «الحكيم» ؛ لأن العزيز من المخلوقين قد تفوته الحكمة لعزته: يرى نفسه عزيزاً غالباً، فيتهور في تصرفاته، ويتصرف بدون حكمة؛ والحكيم من المخلوقين قد لا يكون عزيزاً؛ فإذا اقترنت حكمته بعزة صار له سلطان وقوة، ولم تفته الأمور؛ فجمع الله لنفسه بين العزة، والحكمة؛ وسبق الكلام عليهما مفصلاً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن التوسل إلى الله بربوبيته من آداب الدعاء التي يتوسل بها الرسل؛ لقوله تعالى: {رب}؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية؛ إذ إنه فعل؛ وكل ما يتعلق بأفعال الرب فهو من مقتضيات الربوبية؛ ولهذا قال رسول الله (ص) حين ذكر الرجل يطيل السفر يمد يديه إلى السماء: «يقول: يا رب! يا رب!»(1)؛ ولو تأملت أكثر أدعية القرآن لوجدتها مصدرة بـ«الرب»؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
2 - ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه، لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى}؛ لأنه إذا رأى بعينه ازداد يقينه.(10/238)
3 - ومنها: أن عين اليقين أقوى من خبر اليقين؛ لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى }؛ لأن إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر؛ لكن يريد عين اليقين؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة»(2)؛ وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم؛ وعين؛ وحق؛ كلها موجودة في القرآن؛ مثال «علم اليقين» قوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: 5] ؛ ومثال «عين اليقين» قوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 7] ؛ ومثال «حق اليقين» قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 56] ؛ نضرب مثالاً يوضح الأمر: قلت: إن معي تفاحة حلوة - وأنا عندك ثقة؛ فهذا علم اليقين: فإنك علمت الآن أن معي تفاحة حلوة؛ فأخرجتُها من جيبي، وقلت: هذه التفاحة؛ فهذا عين اليقين؛ ثم أعطيتك إياها، وأكلتَها وإذا هي حلوة؛ هذا حق اليقين.
4 - ومن فوائد الآية: إثبات أفعال الله الاختيارية؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى له أفعال تتعلق بمشيئته؛ لقوله تعالى: { تحيي الموتى }.
5 - ومنها: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإحياء الموتى؛ وقد قرر الله ذلك في آيات كثيرة.
6 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }، وقوله تعالى: { قال فخذ أربعة }؛ والله سبحانه وتعالى؛ يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء؛ بما شاء: من القول؛ متى شاء: في الزمن؛ كيف شاء: في الكيفية.
7 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف، وأصوات مسموعة؛ لوقوع التحاور بين الله عز وجل، وإبراهيم (ص).(10/239)
8 - ومنها: إثبات أن إبراهيم مؤمن بقدرة الله عز وجل على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن قال بلى }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»(1)؛ فأثبت شكاً فينا، وفي إبراهيم، وأننا أحق بالشك من إبراهيم؟ فالجواب أن الحديث لا يراد به هذا المعنى؛ لأن هذا معنًى يخالف الواقع؛ فليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم شك في إحياء الموتى؛ وإنما المعنى أن إبراهيم لم يشك؛ فلو قدر أنه يشك فنحن أحق بالشك منه؛ وما دام الشك منتفياً في حقنا فهو في حقه أشد انتفاءً؛ فإذا عُلم أننا الآن نؤمن بأنه تعالى هو القادر، فإبراهيم أولى منا بالإيمان بذلك؛ هذا هو معنى الحديث، ولا يحتمل غيره؛ فإن قلت: لا زال هنا إشكال؛ وهو: هل إبراهيم أكمل إيماناً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا؛ ولكن قاله (ص) على سبيل التواضع؛ ولهذا قرن بينه وبين قوله (صلى الله عليه وسلم): «ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»(2)؛ فيوسف بقي في السجن بضع سنين، وجاءه رسول الملك يدعوه؛ فقال له: لا أخرج، {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50] ؛ مع أن غيره لو حبس سبع سنين، وقالوا له: «اخرج»، فإنه يخرج؛ هذا مقتضى الطبيعة؛ لكن يوسف - عليه الصلاة والسلام - كان حليماً حازماً؛ قال: لا أخرج حتى تظهر براءتي كاملة؛ فتبين من هذا أنه لا يلزم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أن يكون إبراهيم أقوى إيماناً.(10/240)
9 - ومن فوائد الآية: إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: { بلى ولكن ليطمئن قلبي }؛ ففيه رد على من قال: إن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ ولا ريب أن هذا القول ضعيف؛ لأن الواقع يكذبه؛ والنصوص تكذبه أيضاً: ففي القرآن قال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4] ، وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} [التوبة: 124] ؛ وفي السنة: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»(3)؛ فالإيمان يزيد كمية، وكيفية؛ فمثال زيادة الكمية: أن الذي يسبح عشراً أزيد إيماناً من الذي يسبح خمساً؛ والذي يصلي عشر ركعات أزيد إيماناً من الذي يصلي ستاً؛ وأما زيادة الكيفية فمثالها: رجل صلى ركعتين بطمأنينة، وخشوع، وتأمل فإيمانه أزيد ممن صلاهما بسرعة؛ كذلك يزداد الإيمان بحسب إقرار القلب: كلما كثرت الآيات لدى الإنسان فلا شك أن إيمانه يزداد قوة، ورسوخاً؛ اقرأ قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] أي على طرَف {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] : هذا إيمانه ضعيف مهزوز: إن لم تأته فتنة فهو مستقر؛ وإن أتته فتنة - شبهة، أو شهوة - انقلب على وجهه؛ فمثلاً نحن الآن في المملكة العربية السعودية ليس عندنا - ولله الحمد - أحد يعارضنا في العقيدة؛ فليس عندنا معتزلة، ولا جهمية، ولا جبرية...، فنحن ثابتون على الفطرة؛ ولكن لو يبتلى الإنسان، فيأتيه واحد من عفاريت الإنس جيد في المجادلة، والمحاجة من المعتزلة لأوشك أن يؤثر عليه، وينقله إذا لم يكن لديه رسوخ في العلم، والإيمان؛ كذلك لو أن إنساناً عنده إيمان لكن تعرضت له امرأة ذات منصب، وجمال، وأغرته حتى وقع في الفاحشة؛ وإنسان آخر تعرضت له هذه المرأة فقال: «إني أخاف الله» تجد الفرق بينهما؛ فالمهم أن القول الراجح الذي لا شك فيه، والذي تدل عليه الأدلة السمعية،(10/241)
والواقعية أن الإيمان يزيد، وينقص.
10 - ومن فوائد الآية: جواز الاقتصار في الجواب على الحرف الدال عليه؛ لقوله تعالى: { بلى }؛ وعليه فلو قيل للرجل: ألم تطلق زوجتك؟ فقال: «بلى»: طلقت؛ ولو قيل للرجل عند عقد النكاح: أقبلت النكاح، وقال: «نعم» انعقد النكاح؛ لأن حرف الجواب يغني عن ذكر الجملة.
11 - ومنها: امتنان الله على العبد بما يزداد به إيمانه، لقوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير... } إلى قوله تعالى: { يأتينك سعياً }.
12 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «العزيز» و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من الصفة؛ وهي العزة، والحكمة؛ لأن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ولا عكس؛ يعني: ليس كل صفة يؤخذ منها اسم؛ لكن كل اسم يؤخذ منه صفة؛ لأن أسماء الله عز وجل أعلام، وأوصاف؛ فكل اسم من أسمائه متضمن للصفة التي دل عليها اشتقاقه، أو لوازمها.
القرآن
)مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)
التفسير:(10/242)
{ 261 } قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة }؛ يطلق المثل على الشبه؛ ويطلق على الصفة؛ فإن ذكر مماثل، فالمراد به الشبه؛ وإلا فالمراد به الصفة؛ ففي قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن...} [محمد: 15] المراد بالمثل الصفة؛ لأنه لم يذكر المماثل؛ أما إذا قيل: «مثَل هذا كمثَل هذا» فهذا يعني الشبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...} [البقرة: 17]، وكما في هذه الآية: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } فهذا المراد به الشبه؛ يعني شبه هؤلاء كشبه هذا الشيء؛ والذي يظهر من الآية أنه لا يوجد فيها مطابقة بين الممثل، والممثل به؛ لأن «الممثل» هو العامل؛ و«الممثل به» هو العمل؛ فالحبة ليست بإزاء المنفِق؛ لكنها بإزاء المنفَق؛ والذي يكون بإزاء المنفِق زارعَ الحبة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها تقدير: إما في المبتدأ؛ وإما في الخبر: فإما أن يقدر: مثل عمل الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة؛ أو يقدر: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل زارع حبة أنبتت سبع سنابل؛ والحكمة من هذا الطيّ أن يكون المثل صالحاً للتمثيل بالعامل، والتمثيل بالعمل؛ وهذا من بلاغة القرآن؛ و «الإنفاق» معناه البذل؛ و «أموال» جمع مال؛ وهو كل ما يتموله الإنسان من أعيان، أو منافع؛ الأعيان كالدراهم، والدنانير، والسيارات، والدور، وما أشبه ذلك؛ والمنافع كمنافع العين المستأجرة؛ فإن المستأجر مالك للمنفعة.(10/243)
وقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ «سبيل» بمعنى طريق؛ وسبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه؛ لأنه يهدي إليه، ويوصل إليه؛ قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] ؛ وأضيف إلى الله لسببين؛ السبب الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده، وشرعه لهم؛ والسبب الثاني: أنه موصل إليه؛ ويضاف «السبيل» أحياناً إلى سالك السبيل؛ فيقال: سبيل المؤمنين، كما قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ؛ ولا تناقض بينهما؛ لأنه يضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم هم الذين سلكوه؛ وإلى الله باعتبار أنه الذي شرعه، وأنه موصل إليه.
قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ حبة بذرها إنسان، فأنبتت سبع سنابل { في كل سنبلة مائة حبة }؛ فتكون الجميع سبعمائة؛ فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة؛ وهذا ليس حدّاً.
قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء } أي يزيد ثواباً لمن يشاء حسب ما تقتضيه حكمته.
قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ فهو واسع العلم، والقدرة، والرحمة، والمغفرة، وغير ذلك من صفاته؛ فإنها صفات واسعة عظيمة عليا؛ و{ عليم } أي ذو علم - وهو واسع فيه - وعلمه شامل لكل شيء جملة، وتفصيلاً؛ حاضراً، ومستقبلاً، وماضياً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: ضرب الأمثال؛ وهو تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم.
2 - ومنها: أن القرآن على غاية ما يكون من البلاغة، والفصاحة، لأن الفصاحة هي الإفصاح بالمعنى، وبيانه؛ وضرب الأمثال من أشد ما يكون إفصاحاً، وبياناً: قال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] .
3 - ومنها: فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.(10/244)
4 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله } بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.
5 - ومنها: الإشارة إلى موافقة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ لأن { في } للظرفية؛ والسبيل بمعنى الطريق؛ وطريق الله: شرعه؛ والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله؛ والإنفاق الذي يكون موافقاً للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67].
ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك إخلاصاً لله، واتباعاً لشرعه؛ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل «المرائي»: رجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله؛ ولا يهمه أن يقبل الله منه، أو لا يقبل؛ المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم، أو جواد.
وأما أن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - وهذا كثير: كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله.
6 - ومن فوائد الآية: إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: { أموالهم }؛ فإن الإضافة هنا تفيد الملكية.
7 - ومنها: وجه الشبه في قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.(10/245)
8 - ومنها: أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }.
9 - ومنها: إثبات الصفات الفعلية - التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يضاعف }؛ و«المضاعفة» فعل.
10 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: { لمن يشاء }؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
11 - ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: { يضاعف لمن يشاء}؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى أحسن إلي، أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء.
12 - ومن فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «الواسع» ، و «العليم» ؛ لقوله تعالى: { واسع عليم }؛ وإثبات ما تضمناه من صفة؛ وهما السعة، والعلم.
13 - ومنها: الحث، والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.
القرآن(10/246)
)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:262)
التفسير:
{ 262 } قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } ذكره مرة أخرى ليبني عليها ما بعدها؛ وهي قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى }.
قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه؛ { ولا أذى } أي أذى المنفَق عليه بأن يقول المنفِق: «لقد أنفقت على فلان كذا، وكذا» أمام الناس؛ فإن هذا يؤذي المنفق عليه.
قوله تعالى: { لهم أجرهم }؛ «الأجر» ما يعطاه العامل في مقابلة عمله؛ ومنه أجرة الأجير؛ وسمى الله سبحانه وتعالى الثواب أجراً؛ لأنه عز وجل تكفل للعامل بأن يجزيه على هذا العمل؛ فصار كأجر الأجير.
قوله تعالى: { عند ربهم }: أصل العندية تكون في المكان؛ وقد يراد بها ما يعم المكان، والالتزام، كما تقول: عندي لفلان كذا، وكذا؛ أي في عهدي، وفي ذمتي له كذا، وكذا - حتى وإن لم يكن ذلك عنده في مكانه - فالعندية قد يراد بها المكان؛ وقد يراد بها ما يلتزم به الإنسان في ذمته، وعهده؛ وهنا { عند ربهم } يحتمل المعنيين؛ يحتمل أنه عند الله سبحانه وتعالى ملتزم به، ولا بد أن يوفيه؛ ويحتمل معنى آخر - وكلاهما صحيح - أن الثواب هذا يكون في الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ وهذه عندية مكان - ولا ينافي ما سبق من عندية العهد، والالتزام بالوفاء؛ فتكون الآية شاملة للمعنيين.
قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي مما يستقبل { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى - لكمال نعيمهم - لأن المنعَّم لو أصابه الحزن، أو الخوف لتنغص نعيمه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم }.(10/247)
2 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.
3 - ومنها: أن من أتبع نفقته منًّا، أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم }؛ فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
4 - ومنها: أن المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.
مس-أل-ة:
هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى؛ بل هو لمصلحة المعطى؛ أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى؛ ولكن يخشى عليه الإعجاب، أو المراءاة.
مس-أل-ة أخرى:
هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟ الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟ الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.(10/248)
5 - ومن فوائد الآية: إثبات العندية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { عند ربهم }؛ والعندية تفيد القرب؛ فيكون الله عز وجل في مكان، وبعض الأشياء عنده، وبعض الأشياء بعيدة عنه؛ ولكن كلها قد أحاط الله بها؛ كلها بالنسبة إليه - إلى علمه، وقدرته، وسلطانه، وربوبيته - كلها سواء - لكن لا شك أن من كان حول العرش ليس كمن حول الفرش؛ ولكن يجب أن نعلم أن المكان ليس محيطاً به، كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
6 - ومن فوائد الآية: أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
القرآن
)قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة:263)
التفسير:
{ 263 } قوله تعالى: { قول } مبتدأ؛ و{ خير } خبره؛ وساغ الابتداء به هنا وهو نكرة؛ لأنه وصف؛ وإن شئت فقل: لأنه أفاد؛ وطريق إفادته الوصف؛ وإذا عللت بأنه أفاد صار أحسن؛ لأنه أعم.
قوله تعالى: { قول معروف } أي ما نطق به اللسان معروفاً في الشرع، ومعروفاً في العرف.
قوله تعالى: { ومغفرة } أي: مغفرة الإنسان لمن أساء إليه؛ قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43] ؛ القول المعروف إحسان؛ والمغفرة إحسان؛ ولكن الفرق بينهما أن «القول المعروف» إسداء المعروف القولي إلى الغير؛ و «المغفرة» تسامح الإنسان عن حقه في جانب غيره.(10/249)
قوله تعالى: { خير من صدقة يتبعها أذى }؛ «الصدقة» بذل الإحسان المالي؛ الإنسان قد ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال؛ لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى - وإن نفعت؛ لأنك لو تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى؛ فإن هذا الإحسان صار في الحقيقة إساءة - وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته - لكن هو في الحقيقة إساءة له.
قوله تعالى: { والله غني } أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد؛ وكل من في السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى؛ هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ فله الغنى المطلق من جميع الوجوه.
قوله تعالى: { حليم }؛ «الحلم» تأخير العقوبة عن مستحقها؛ قال ابن القيم في النونية:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبته ليتوب من عصيان وجمع الله في هذه الآية بين «الغِنى» و «الحِلم» ؛ لأن الآية في سياق الصدقة، فبين عز وجل أن الصدقات لا تنفع الله؛ وإنما تنفع من يتصدق؛ والآية أيضاً في سياق من أتبع الصدقة أذى ومِنّة؛ وهذا حري بأن يعاجَل بالعقوبة، حيث آذى هذا الرجل الذي أعطاه المال لله؛ ولكن الله حليم يحلم على عبده لعله يتوب من المعصية.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة... }؛ و «القول المعروف» كل ما عرفه الشرع، والعادة؛ مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.(10/250)
2 - ومنها: الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
3 - ومنها: أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.
4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغني» و «الحليم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من الصفات.
5 - ومنها: المناسبة في ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين؛ لأن في الآية إنفاقاً؛ وإذا كان الله عز وجل هو الذي يخلِف هذا الإنفاق فإنه لكمال غناه؛ كذلك المغفرة عمن أساء إليك: فإن المغفرة تتضمن الحلم، وزيادة؛ فختم الله الآية بالحلم؛ وقد يقال: إن فيه مناسبة أخرى؛ وهي أن المن بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ والله سبحانه وتعالى حليم على أهل الكبائر؛ إذ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، والله أعلم.
القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264)
التفسير:
{ 264 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: تصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يحصل به تنبيه المخاطب؛ فيدل على العناية بموضوع الخطاب؛ ولهذا قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك: فإنه خير تأمر به؛ أو شر ينهى عنه»(1)؛ وصدق رضي الله عنه.(10/251)
ثم في توجيه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان فيه فوائد؛ الفائدة الأولى: الحث على قبول ما يلقى إليهم، وامتثاله؛ وجه ذلك: أنه إذا علق الحكم بوصف كان ذلك الوصف علة للتأثر به؛ كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا؛ أو لا تفعلوا كذا؛ الفائدة الثانية: أن ما ذكر يكون من مكملات الإيمان، ومقتضياته؛ الفائدة الثالثة: أن مخالفة ما ذكر نقص في الإيمان.
قوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم }: الإبطال للشيء يكون بعد وجوده؛ فالبطلان لا يكون غالباً إلا فيما تم؛ و «الصدقات» جمع صدقة؛ وهي ما يبذله الإنسان تقرباً إلى الله.
قوله تعالى: { بالمن والأذى }؛ الباء للسببية؛ و «المن» إظهار أنك مانّ عليه، وأنك فوقه بإعطائك إياه؛ و «الأذى» أن تذكر ما تصدقت به عند الناس فيتأذى به.
قوله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس }؛ الكاف هنا للتشبيه؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: مثلكم كالذي ينفق ماله رئاء الناس؛ و{ رئاء } مفعول لأجله؛ وهي مصدر راءى يرائي رئاءً ومراءاة، كقاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة؛ وجاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة؛ و«الرياء» فِعل العبادة ليراه الناس، فيمدحوه عليها.(10/252)
قوله تعالى: { ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر } معطوف على قوله تعالى: { ينفق }؛ وسبق معنى الإيمان بالله، واليوم الآخر؛ وهذا الوصف ينطبق على المنافق؛ فالمنافق - والعياذ بالله - لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؛ ولا ينفق إلا مراءاةً للناس؛ ومع ذلك لا ينفق إلا وهو كاره، كما قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء: 142] ، وقال في سورة «التوبة»: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] ؛ هؤلاء لا ينفقون إلا وهم كارهون؛ لأنهم لا يرجون من هذا الإنفاق ثواباً؛ إذ إنه لا إيمان عندهم، و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وسمي «اليوم الآخر» ؛ لأنه لا يوم بعده؛ كل يذهب إلى مستقره: أهل الجنة إلى مستقرهم؛ وأهل نار إلى مستقرهم؛ فهو يوم آخر لا يوم بعده؛ ولذلك فهو مؤبد: إما في جنة؛ وإما في نار.
قوله تعالى { كمثل صفوان } أي كشِبْه صفوان؛ وهو الحجر الأملس { عليه تراب }؛ والتراب معروف؛ { فأصابه وابل } أي مطر شديد الوقع سريع التتابع؛ فإذا أصاب المطر تراباً على صفوان فسوف يزول التراب؛ ولهذا يقول تعالى: { فتركه صلداً } أي ترك الوابلُ هذا الصفوانَ أملس ليس عليه تراب؛ وجه الشبه بين المرائي والصفوان الذي عليه تراب، أن من رأى المنافق في ظاهر حاله ظن أن عمله نافع له؛ وكذلك من رأى الصفوان الذي عليه تراب ظنه أرضاً خصبة طينية تنبت العشب؛ فإذا أصابها الوابل الذي ينبت العشب سحق التراب الذي عليه، فزال الأمل في نبات العشب عليه من الوابل؛ ولهذا قال تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا }؛ وصح عود واو الجماعة في { يقدرون } على { الذي } في قوله تعالى: { كالذي ينفق ماله }؛ لأن { الذي } اسم موصول يفيد العموم؛ فهو بصيغته اللفظية مفرد، وبدلالته المعنوية جمع؛ لأنه عام؛ وسمى الله عز وجل ما أنفقوا كسباً باعتبار ظنهم أنهم سينتفعون به.(10/253)
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق؛ و{ الكافرين } أي الذين حقت عليهم كلمة الله، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: تحريم المن، والأذى في الصدقة؛ لقوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }.
2 - ومنها: بلاغة القرآن، حيث جاء النهي عن المنّ، والأذى بالصدقة بهذه الصيغة التي توجب النفور؛ وهي: { لا تبطلوا صدقاتكم }؛ فإنها أشد وقعاً من «لا تَمُنّوا، ولا تؤذوا بالصدقة».
3 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة يبطل ثوابها؛ لقوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }.
4 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ وجه ذلك: ترتيب العقوبة على الذنب يجعله من كبائر الذنوب؛ وقد قال شيخ الإسلام في حد الكبيرة: «كل ذنب رُتب عليه عقوبة خاصة، كالبراءة منه، ونفي الإيمان، واللعنة، والغضب، والحد، وما أشبه ذلك»؛ وهذا فيه عقوبة خاصة؛ وهي إبطال العمل؛ ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»(1).
5 - ومنها: أن المنّ والأذى بالصدقة مناف لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }؛ كأنه يقول: «إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتموه صار منافياً لهذا الوصف، ومنافياً لكماله».
6 - ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس ليقربه إلى الذهن؛ لقوله تعالى: { فمثله كمثل صفوان... } إلخ.(10/254)
7 - ومنها: تحريم مراءاة الناس بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس }؛ والتسميع كالمراءاة؛ والفرق بينهما أن المراءاة فيما يُرى - كالأفعال - والتسميع بما يقال.
8 - ومنها: أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله، وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى: { ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر }؛ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس؛ يقول الشاعر:
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عاري أنت لا تظن أنك إذا راءيت الناس أنك ستبقى مخادعاً لهم؛ بل إن الله سبحانه وتعالى سيظهر ذلك؛ ما أسر إنسان سريرة إلا أظهرها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات اليوم الآخر؛ وهو يوم القيامة.
10 - ومنها: بلاغة القرآن في التشبيه؛ لأنك إذا طابقت بين المشبه، والمشبه به، وجدت بينهما مطابقة تامة.
11 - ومنها: إثبات كون القياس دليلاً صحيحاً؛ وجه ذلك: التمثيل، والتشبيه؛ فكل تمثيل في القرآن فإنه دليل على القياس؛ لأن المقصود به نقل حكم هذا المشبه به إلى المشبه.(10/255)
12 - ومنها: أن الرياء مبطل للعمل؛ وهو نوع من الشرك؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(2)؛ فإن قصد بعمله إذا رآه الناس أن يتأسى الناس به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، وقال: «إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي»(1)؛ وفي الحج كان (ص) يقول: «لتأخذوا مناسككم»(2)؛ وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»(3).
13 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى تحسر هؤلاء عند احتياجهم إلى العمل، وعجزهم عنه؛ لقوله تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا }؛ وعجز الإنسان عن الشيء بعد محاولة القدرة عليه أشد حسرة من عدمه بالكلية؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً} [البقرة: 63 - 65] ؛ وكونه حطاماً ينظرون إليه أشد حسرة من كونه لم ينبت أصلاً؛ وقوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً} [الواقعة: 68 - 70] ؛ وكونه بين أيديهم أجاجاً لا يستسيغون شربه أشد مما لو لم يوجد أصلاً؛ والإنسان العاقل يجعل العمل لله: لله؛ والعمل للناس: للناس؛ أنا قد أحب أن أخرج للناس في ثوب جميل: لا بأس أن أتجمل ليراني الناس على هذه الحال؛ لكن أصلي ليراني الناس أصلي: لا يصح؛ لأن العمل لله يجب أن يكون لله لا يشاركه فيه أحد.(10/256)
14 - ومن فوائد الآية: أن من قضى الله عليه بالكفر لا تمكن هدايته؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين الواقع من أن الله سبحانه وتعالى هدى قوماً كافرين كثيرين؟ فالجواب أن من هدى الله لم تكن حقت عليهم كلمة الله؛ فأما من حقت عليه كلمة الله فلن يُهْدى، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
15 - ومنها: أن المنافق كافر؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين } بعد أن ذكر ما يتعلق بصفة المنافق؛ وهو الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله، واليوم الآخر؛ وهذا ينطبق تماماً على المنافقين؛ ولا ريب أن المنافقين كفار - وإن تظاهروا بالإسلام - ولكن هل نعاملهم معاملة الكفار؟ الجواب: لا نعاملهم معاملة الكفار؛ لأن أحكام الدنيا تجري على الظاهر؛ وأحكام الآخرة تجري على الباطن والسرائر، كما قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصِّل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10] ، وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] ؛ ولأنه لو عومل الناس في الدنيا على السرائر لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق من وجه؛ وكان في ذلك الفوضى التي لا نهاية لها من وجه آخر؛ أما تكليف ما لا يطاق فلأننا لا نعلم ما في صدور الناس؛ فلا يمكن أن نحكم عليه؛ وأما الفوضى فلأنه يستطيع كل ظالم له ولاية أن يعاقب هذا الرجل، أو يعدم هذا الرجل بحجة أنه مبطن للكفر؛ ولما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: «لا أقتلهم؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(4).
القرآن(10/257)
)وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:265)
التفسير:
{ 265 } قوله تعالى: { مثل }: مبتدأ؛ وخبره قوله تعالى: { كمثل جنة }؛ وقوله تعالى: { ينفقون } أي يبذلون؛ وقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله } أي طلب رضوان الله.
قوله تعالى: { وتثبيتاً } معطوفة على { ابتغاء }؛ وقوله تعالى: { من أنفسهم }؛ { من } ابتدائية؛ يعني: تثبيتاً كائناً في أنفسهم لم يحملهم عليه أحد؛ ومعنى يثبتونها: يجعلونها تثبت، وتطمئن؛ أي لا تتردد في الإنفاق، ولا تشك في الثواب؛ وهذا يدل على أنهم ينفقون طيبة نفوسهم بالنفقة.
قوله تعالى: { كمثل جنة بربوة }؛ «الجنة» البستان الكثير الأشجار؛ وسميت بذلك؛ لأنها تجن من فيها، وفي قوله تعالى: { بربوة } بفتح الراء قراءة أخرى بضم الراء؛ و«الربوة» المكان المرتفع؛ من ربا الشيء إذا زاد، وارتفع، كما في قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] .
قوله تعالى: { أصابها وابل } أي نزل عليها وابل؛ و «الوابل» المطر الشديد.
هذه جنة بربوة مرتفعة للهواء بائنة ظاهرة للشمس؛ أصابها وابل؛ ماذا تكون هذه الجنة! ستثمر ثمراً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: { فآتت أكلها ضعفين }؛ «الأكل» بمعنى الثمر الذي يؤكل: قال الله تعالى: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] يعني ثمرها الذي يؤكل؛ و{ ضعفين } أي مضاعفاً، وزائداً.(10/258)
قوله تعالى: { فإن لم يصبها وابل فطل }: الجملة شرطية؛ الشرط: «إن»؛ وفعل الشرط: { لم يصبها}؛ و{ طل } أي فهو طل - والجملة جواب الشرط؛ والمعنى: فإن لم يصبها المطر الشديد أصابها طل - وهو المطر الخفيف، ويكفيها عن المطر الكثير؛ لأنها في أرض خصبة مرتفعة بينة للشمس، والهواء؛ والمثل منطبق: فقد شبه هذا الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله، وتثبيتاً من نفسه بهذه الجنة.
وهل المشبه نفس الرجل أو النفقة؟ الجواب: المشبه هو النفقة؛ ولهذا قال بعضهم: إن التقدير: «مَثَل إنفاق الذين ينفقون أموالهم كمثل جنة»؛ ويحتمل أن التقدير: «كمثل صاحب جنة»؛ فيكون المشبه «المنفِق» لا «الإنفاق»؛ وقال بعضهم: لا حاجة إلى التقدير للعلم به من السياق، وأن هذا من بلاغة القرآن، حيث طوى ذكر الشيء لدلالة السياق عليه.
قوله تعالى: { والله بما تعملون بصير }: قدم الجار والمجرور - وهو متعلق بـ{ بصير } - لإفادة الحصر، ومراعاة الفواصل؛ والحصر هنا إضافي للتهديد؛ لأن الله بصير بما نعمل، وبغيره.
وهل { بصير } هنا من البصر بالعين؛ أو من العلم؟ الجواب: كونه من العلم أحسن ليشمل ما نعمله من الأقوال؛ فإن الأقوال تسمع، ولا تُرى؛ وليشمل ما في قلوبنا؛ فإن ما في قلوبنا لا يُسمع، ولا يُرى؛ وإنما يعلم عند الله عز وجل، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق~: 16] .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا إنفاق نافع إلا ما كان مملوكاً للإنسان؛ لقوله تعالى: { أموالهم }؛ فلو أنفق مال غيره لم يقبل منه إلا أن يكون بإذن من الشارع، أو المالك.
فإن قال قائل: عندي مال محرم لكسبه، وأريد أن أتصدق به فهل ينفعني ذلك؟(10/259)
فالجواب: إن أنفقه للتقرب إلى الله به: لم ينفعه، ولم يسلم من وزر الكسب الخبيث؛ والدليل قوله (ص): «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»(1)؛ وإن أراد بالصدقة به التخلص منه، والبراءة من إثمه: نفعه بالسلامة من إثمه، وصار له أجر التوبة منه - لا أجر الصدقة.
ولو قال قائل: عندي مال اكتسبته من ربا فهل يصح أن أبني به مسجداً، وتصح الصلاة فيه؟
فالجواب: بالنسبة لصحة الصلاة في هذا المسجد هي صحيحة بكل حال؛ وبالنسبة لثواب بناء المسجد: إن قصد التقرب إلى الله بذلك لم يقبل منه، ولم يسلم من إثمه؛ وإن قصد التخلص سلم من الإثم، وأثيب - لا ثواب باني المسجد - ولكن ثواب التائب.
2 - ومن فوائد الآية: بيان ما للنية من تأثير في قبول الأعمال؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }.
3 - ومنها: اشتراط الإخلاص لقبول الأعمال؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }.
4 - ومنها: أن الإنفاق لا يفيد إلا إذا كان على وفق الشريعة؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }؛ وجه ذلك أن من ابتغى شيئاً فإنه لا بد أن يسلك الطريق الموصل إليه؛ ولا طريق يوصل إلى مرضات الله إلا ما كان على وفق شريعته في الكم، والنوع، والصفة؛ كما قال تعالى في الكم: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] ؛ وقال تعالى في النوع: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله إلا الطيب»(2)؛ وفي الصفة قال الله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... } إلخ [البقرة: 264] .
5 - ومن فوائد الآية: إثبات رضا الله؛ لقوله تعالى: { مرضات الله }؛ وهو من الصفات الفعلية.(10/260)
6 - ومنها: بيان أن تثبيت الإنسان لعمله، واطمئنانه به من أسباب قبوله؛ لقوله تعالى: { وتثبيتاً من أنفسهم}؛ لأن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهاً فيه خصلة من خصال المنافقين؛ كما قال تعالى: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] .
7 - ومنها: فضل الإنفاق على وجه التثبيت من النفس؛ لأنه يندفع بدافع نفسي؛ لا بتوصية من غيره، أو نصيحة.
8 - ومنها: إثبات القياس؛ لقوله تعالى: {مثل... كمثل...} ؛ وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق أن كل مثال في القرآن سواء كان تمثيلياً، أو إفرادياً، فهو دليل على ثبوت القياس.
9 - ومنها: أنه يحسن في التعليم أن يبين المعقول بالمحسوس؛ لقوله تعالى: { كمثل جنة بربوة }؛ وهذا من البلاغة؛ لأنه يقرب المعقول إلى أذهان الناس.
10 - ومنها: اختيار المكان الأنفع لمن أراد أن ينشئ بستاناً؛ لقوله تعالى: { كمثل جنة بربوة }.
11 - ومنها: بركة آثار المطر؛ لقوله تعالى: { فآتت أكلها ضعفين }؛ ولهذا وصف الله المطر بأنه مبارك في قوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} [ق~: 9] الآيتين.
12 - ومنها: أنه إذا كان مكان البستان طيباً فإنه يكفي فيه الماء القليل؛ لقوله تعالى: { فإن لم يصبها وابل فطل }.
13 - ومنها: إثبات علم الله، وعمومه؛ لقوله تعالى: { بما تعملون بصير }.
14 - ومنها: التحذير من مخالفة الله عز وجل؛ لكونه عالماً بما نعمل.
القرآن
)أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة:266)
التفسير:(10/261)
{ 266 } قوله تعالى: { أيود أحدكم } الاستفهام هنا بمعنى النفي، كما سيتبين من آخر الآية؛ و «يود» أي يحب؛ و «الود» خالص المحبة.
قوله تعالى: { أن تكون له جنة } أي بستان { من نخيل وأعناب }؛ وهذه من أفضل المأكولات؛ فالتمر حلوى، وقوت، وفاكهة؛ والعنب كذلك: حلوى، وقوت، وفاكهة؛ وظاهر كلمة «أنهار» أن الماء عذب؛ وجمع { الأنهار } باعتبار تفرقها في الجنة، وانتشارها في نواحيها؛ إذاً يعتبر هذا البستان كاملاً من كل النواحي: نخيل، وأعناب، ومياه، وثمرات؛ وهو أيضاً جنة كثيرة الأشجار، والأغصان، والزروع، وغير ذلك - هذا هو المشهد الأول من الآية.
والمشهد الثاني قوله تعالى: { وأصابه الكبر } أي أصاب صاحب الجنة الكِبَر، فعجز عن تصريفها، والقيام عليها؛ { وله ذرية ضعفاء } يعني صغاراً، أو عاجزين؛ فالأب كبير؛ والذرية ضعفاء - إما لصغرهم، أو عجزهم.
قوله تعالى: { فأصابها } أي أصاب هذه الجنة { إعصار } أي ريح شديدة؛ وقيل: ريح منطوية التي ينطوي بعضها على بعض؛ وهذا الإعصار { فيه نار } أي حرارة شديدة؛ مر الإعصار على هذه الجنة { فاحترقت } حتى تساقطت أوراقها، وثمراتها، ويبست أغصانها، وعروقها؛ فماذا يكون حال هذا الرجل؟! يكون في غاية ما يكون من البؤس؛ لأنه فقد هذه الجنة في حال الكبر، والذرية الضعفاء؛ فهو في نفسه لا يكتسب، وذريته لا يكتسبون له ولا لأنفسهم؛ فتكون عليه الدنيا أضيق ما يكون، ويتحسر على هذه الجنة أشد ما يكون من التحسر.(10/262)
هذا الأمر الذي بينه الله هنا ضربه الله مثلاً للمنفق المانّ بنفقته؛ انظر كيف يبدئ الله ويعيد في القرآن العظيم للتنفير من المن بالصدقة؛ والذي يشبه الإعصار نفس المنّ؛ فهذا الرجل تصدق بألف درهم، فهذه الصدقة تنمو له: الألف يكون بسبعمائة ألف إلى أضعاف كثيرة؛ لكنه - والعياذ بالله - منّ بهذه الصدقة، فصار هذا المنّ بمنزلة الإعصار الذي أصاب تلك الجنة الفيحاء؛ ولا يمكن أن تنزل هذه الصورة على المرائي؛ لأن المرائي لم يغرس شيئاً أصلاً.
قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مِثل ذلك البيان؛ وهذا التعبير يرد كثيراً في القرآن، وتقديره كما سبق؛ وإذا كان هذا التقدير فإننا نقول: الكاف اسم بمعنى مثل؛ وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق؛ وعاملها { يبين }؛ و{ الآيات } يشمل الآيات الكونية، والشرعية - يبينها الله، ويوضحها.
قوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }: «لعل» هنا للتعليل؛ و «التفكر» إعمال الفكر فيما يراد.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بيان تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنه أقرب إلى الفهم؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للمانّ بالصدقة بصاحب هذه الجنة؛ ووجه الشبه سبقت الإشارة إليه.
2 - ومنها: جواز ضرب المثل بالقول؛ فهل يجوز ضرب المثل بالفعل - وهو ما يسمى بالتمثيل؟
الجواب: نعم، يجوز لكن بشرط ألا يشتمل على شيء محرم؛ ولنضرب لذلك أمثلة للأشياء المحرمة في التمثيل:
أولاً: أن يكون فيه قيام رجل بدور امرأة، أو قيام امرأة بدور رجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال(1).(10/263)
ثانياً: أن يتضمن ازدراء ذوي الفضل من الصحابة، وأئمة المسلمين؛ لأن ازدراءهم واحتقارهم محرم؛ والقيام بتمثيلهم يحط من قدرهم - لا سيما إذا عُلم من حال الممثِّل أنه فاسق؛ لأن الغالب إذا كان فاسقاً وقد تقمص شخصية هذا الرجل التَّقي الذي له قدره، وفضله في الأمة، فإن هذا قد يحط من قدره بهذا الذي قام بدور في التمثيلية.
ثالثاً: أن يكون فيه تقليد لأصوات الحيوانات، مثل أن يقوم بدور تمثيل الكلب، أو الحمار؛ لأن الله لم يذكر التشبيه بالحيوانات إلا في مقام الذم، كقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} [الجمعة: 5] ، وقوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث...} [الأعراف: 175، 176] الآيتين؛ وكذلك السنة لم تأت بالتشبيه بالحيوان إلا في مقام الذم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً»(2)، وقوله: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»(3).
رابعاً: أن يتضمن تمثيل دَور الكافر، أو الفاسق؛ بمعنى أن يكون أحد القائمين بأدوار هذه التمثيلية يمثل دَور الكافر، أو دَور الفاسق؛ لأنه يخشى أن يؤثر ذلك على قلبه: أن يتذكر يوماً من الدهر أنه قام بدور الكافر، فيؤثر على قلبه، ويدخل عليه الشيطان من هذه الناحية؛ لكن لو فعل هل يكون كافراً؟
الجواب: لا يكون كافراً؛ لأن هذا الرجل لا ينسب الكفر إلى نفسه؛ بل صور نفسه صورة من ينسبه إلى نفسه، كمن قام بتمثيل رجل طلق زوجته؛ فإن زوجة الممثل لا تطلق؛ لأنه لم ينسب الطلاق إلى نفسه؛ بل إلى غيره.(10/264)
وقد ظن بعض الناس أنه إذا قام بدور الكافر فإنه يكفر، ويخرج من الإسلام، ويجب عليه أن يجدد إسلامه، واستدل بالقرآن، وكلام أهل العلم؛ أما القرآن فاستدل بقوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 6]: وهؤلاء القوم يدعون أنهم يخوضون، ويلعبون؛ يعني: على سبيل التسلية ليقطعوا بها عناء الطريق؛ ويقول أهل العلم: إن من أتى بكلمة الكفر - ولو مازحاً - فإنه يكفر؛ قالوا: وهذا الرجل مازح ليس جادّاً؛ فالجواب أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة»(4): فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق يمزح عليها فإنها تطلق؛ فهل تقولون: إذا قام الممثل بدور رجل طلق امرأته فإنها تطلق امرأته؟ سيقولون: لا؛ وكلنا يقول: لا؛ والفرق ظاهر؛ لأن المازح يضيف الفعل إلى نفسه، والممثل يضيفه إلى غيره؛ ولهذا لا تطلق زوجته لو قام بدور تمثيل المطلِّق؛ ولا يكفر لو قام بدوره تمثيل الكافر؛ لكن أرى أنه لا يجوز من ناحية أخرى؛ وهي أنه لعله يتأثر قلبه في المستقبل، حيث يتذكر أنه كان يوماً من الدهر يمثل دور الكافر؛ ثم إنه ربما يعَيَّر به فيقال مثلاً: أين أبو جهل؟! إذا قام بدوره.(10/265)
ويمكن أن نأتي بدليل على جواز التمثيل؛ وذلك في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأقرع، والأعمى، والأبرص؛ فالملك أتى الأبرص، والأقرع، والأعمى، وسألهم ماذا يريدون؛ كل ذكر أمنيته؛ فأعطاه الله سبحانه وتعالى أمنيته؛ ثم عاد إليهم المَلَك مرة أخرى؛ عاد إلى الأبرص بصورته، وهيئته - يعني أبرص فقيراً - وقال له: «إني رجل فقير، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك»(1)؛ فالملَك يمثل دور رجل فقير - وهو ليس بفقير - وأبرص - وليس بأبرص - وكذلك بالنسبة للأقرع، والأعمى؛ فبعض العلماء استدل بهذا الحديث على جواز التمثيل.
فعليه نقول إذا كان التمثيل لا يشتمل على شيء محرم من الأمثلة التي ذكرناها، أو غيرها، فإنه لا بأس به، وليس من الكذب في شيء؛ لأن الكذب يضيف الإنسان الأمر إلى نفسه، فيأتي إليك يقرع الباب؛ تقول: مَن؟ يقول: أنا زيد - وليس هو بزيد؛ فهذا كاذب؛ لكن يأتي إنسان يقول: أنا أمثل دور فلان، ويعرف الناس أنه ليس فلاناً؛ فليس بكذب؛ لكنه إذا نسب القول إلى شخص معيَّن فهذا يحتاج إلى ثبوت هذا القول عن هذا الشخص المعين؛ أما إذا حكى قصة رجل بوصفه - لا بعينه - فليس بكذب.
3 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يبين لعباده الآيات الشرعية، والكونية؛ كلها مبينة في كتابه سبحانه وتعالى أتم بيان.(10/266)
4 - ومنها: الحث على التفكر، وأنه غاية مقصودة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }؛ فالإنسان مأمور بالتفكر في الآيات الكونية، والشرعية؛ لأن التفكر يؤدي إلى نتائج طيبة؛ لكن هذا فيما يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه؛ أما ما لا يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله عز وجل: هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذات الله»(2)؛ لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه؛ وغاية لا تمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتفكر في كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ بل يجب الكف عنه؛ لأنه سيؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إما إلى التكييف، أو التمثيل، أو التعطيل - ولا بد؛ وأما التفكر في معاني أسماء الله فمطلوب؛ لأن المعنى كما قال الإمام مالك - رحمه الله - لما سئل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] : كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .
القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة:267)
التفسير:
{ 267 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: سبق مراراً وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته، والعناية به؛ لأن النداء يتضمن التنبيه؛ والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به، وأن تصديره بـ{ يا أيها الذين آمنوا } يفيد عدة فوائد:(10/267)
أولاً: الإغراء؛ و«الإغراء» معناه الحث على قبول ما تخاطَب به؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه»(1)؛ ولهذا لو ناديتك بوصفك، وقلت: يا رجل، يا ذكي، يا كريم. معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك.
ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان؛ كأنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا } إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا.
ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب.
قوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ لكن الفرق بين ما هنا، وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه؛ وهناك بيان للذي ينَفق عليه.
وقوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم } أي مما كسبتموه بطريق حلال؛ و{ كسبتم } أي ما حصلتموه بالكسب، كالذي يحصل بالبيع والشراء، والتأجير، وغيرها؛ وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك.
قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }: قال بعضهم: إنه معطوف على { ما } في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض»؛ ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى: { طيبات }؛ يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض»؛ لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا، كما قال تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة: 29] .
وقوله: { مما }: لو قلنا: إن «مِن» للتبعيض يكون المعنى: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم، وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض؛ وهناك احتمال أن «مِن» لبيان الجنس؛ فيشمل ما لو أنفق الإنسان كل ماله؛ وهذا عندي أحسن؛ لأن التي للجنس تعم القليل والكثير.(10/268)
قوله تعالى: { أخرجنا لكم من الأرض } يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل، والأعناب، والزروع، والفاكهة، والمعادن، وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه.
قوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تقصدوا الخبيث منه فتنفقونه؛ لأن «التيمم» في اللغة: القصد؛ ومنه قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] ؛ والمراد بـ{ الخبيث } هنا الرديء؛ يعني: لا تقصدوا الرديء تخرجونه، وتبقون لأنفسكم الطيب؛ فإن هذا ليس من العدل؛ ولهذا قال تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }.
وقوله تعالى: { منه تنفقون } يحتمل في { منه } وجهان؛ أحدهما: أنها متعلقة بـ{ الخبيث } على أنها حال؛ أي الخبيث حال كونه مما أخرجنا لكم من الأرض؛ وعلى هذا يكون في { تنفقون } ضمير محذوف؛ والتقدير: تنفقونه؛ الوجه الثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: { تنفقون }؛ يعني: ولا تقصدوا الخبيث تنفقون منه؛ وقدمت على عاملها للحصر؛ والوجهان من حيث المعنى لا يختلفان؛ فإن معناها أن الله ينهانا أن نقصد الخبيث - وهو الرديء - لننفق منه.
قوله تعالى: { ولستم بآخذيه }: أي لستم بآخذي الرديء عن الجيد لو كان الحق لكم { إلا أن تغمضوا فيه } أي تأخذوه عن إغماض؛ و «الإغماض» أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه.(10/269)
قوله تعالى: { واعلموا أن الله غني حميد }؛ فهو لم يطلب منكم الإنفاق لفقره واحتياجه؛ { حميد }: يحتمل أن تكون بمعنى حامد؛ وبمعنى محمود؛ وكلاهما صحيح؛ لأن «فعيلاً» تأتي بمعنى فاعل؛ وبمعنى مفعول؛ إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم» بمعنى راحم؛ و«سميع» بمعنى سامع؛ وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل»، و«جريح»، و«ذبيح»، وما أشبه ذلك؛ وهنا { حميد } تصح أن تكون بمعنى حامد، وبمعنى محمود؛ أما كون الله محموداً فظاهر؛ وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده؛ ولهذا أثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده؛ وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد.
ووجه المناسبة في ذكر «الحميد» بعد «الغني» أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه؛ بخلاف غنى المخلوق؛ فقد يحمد عليه، وقد لا يحمد؛ فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً؛ وإنما يحمد إذا بذله؛ والله عز وجل غني حميد؛ فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه؛ ولكن لمصلحتكم أنتم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله؛ وهذا يدل على فضيلة الإيمان.
2 - ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ ووجهه أن الله تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا }؛ فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.
3 - ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }؛ والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب.
4 - ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.
5 - ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟(10/270)
فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به(1)؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275] .
6 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }؛ ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية؛ ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه؛ وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن، وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء؛ وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق .
7 - ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب الزكاة في القليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»(2)؛ و «الوسق» هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.(10/271)
ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله (ص): «ليس فيما دون خمسة أوسق» ؛ و «الوسق» كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها، لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق.
تنبيه:
لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.
8 - ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد؛ وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد؟ الأمر في ذلك واضح؛ لأن نمو التجارة بالكسب، وغالبه من فعل العبد: يبيع، ويشتري، ويكسب؛ أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد في الواقع، كما قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64] .
9 - من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض } لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة.(10/272)
وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس(1)؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.
10 - ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.
11 - ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن، وقال: «إياك وكرائم أموالهم»(2)، تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية؛ لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال؛ ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة؛ فصار الواجب وسطاً؛ لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود؛ ولا نمكنه من إخراج الأردأ؛ بل يخرج الوسط.(10/273)
12 - ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(3)؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟!! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟!! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»(4)، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة.
13 - ومن فوائد الآية: إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك؛ أي قس هذا بهذا.
14 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة؛ وهما «غني» و «حميد» .
القرآن
)الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268)
التفسير:
{ 268 } قوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }؛ { الشيطان } مبتدأ؛ وخبره جملة: { يعدكم}؛ و{ يأمركم } فيها قراءتان: الضم، والسكون؛ فأما الضم فواضح؛ لأنه فعل مضارع لم يدخل عليه ناصب، ولا جازم؛ وأما السكون فللتخفيف سماعاً لا قياساً.(10/274)
قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً }: هذه الجملة مقابلة لما سبقها: الفضل ضد الفقر؛ والمغفرة ضد الفحشاء؛ لأن الفحشاء تُكسب الذنوب؛ والمغفرة تمحو الذنوب؛ ففرق بين هذا، وهذا؛ والجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: جملة: { يعدكم }.
قوله تعالى: { والله واسع عليم } جملة خبرية مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: { واسع }؛ و{ عليم } خبر ثانٍ.
قوله تعالى: { الشيطان } اسم من أسماء إبليس؛ قيل: إنه مشتق من «شطن» إذا بعُد - وعلى هذا فالنون أصلية؛ وقيل: إنه مشتق من «شاط» إذا تغيظ، وغضب؛ لأن صفته هو التغيظ، والغضب، والحمق، والجهل؛ ولكن الأول أقرب: أنه من «شطن» إذا بعد؛ بدليل أنه مصروف؛ و «أل» فيه للجنس؛ فليس خاصاً بشيطان واحد.
قوله تعالى: { يعدكم الفقر } أي يهددكم الفقر إذا تصدقتم؛ وقوله تعالى: { بالفحشاء } أي البخل؛ وإنما فُسِّر بالبخل؛ لأن فحش كل شيء بحسب القرينة، والسياق؛ فقد يراد به الزنى، كقوله تعالى: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } [الإسراء: 32] ؛ وقد يراد به اللواط، كما في قوله تعالى عن لوط إذا قال لقومه: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف: 80] ؛ وقد يراد به ما يستفحش من الذنوب عموماً، كقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} [الشورى: 37] .
قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة } أي لذنوبكم إن تصدقتم؛ { وفضلًا } أي زيادة؛ فالصدقة تزيد المال؛ لقوله تعالى: { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [الروم: 39] ، وقوله (ص): «ما نقصت صدقة من مال»(1).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات إغواء الشياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}.(10/275)
2 - ومنها: أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً، أو إحجاماً؛ أما الإقدام: فيأمره بالزنى مثلاً، ويزين له حتى يُقْدم عليه؛ وأما الإحجام: فيأمره بالبخل، ويعده الفقر لو أنفق؛ وحينئذٍ يحجم عن الإنفاق.
3 - ومنها: أن أبواب التشاؤم لا يفتحها إلا الشياطين؛ لقوله تعالى: { يعدكم الفقر }؛ فالشيطان هو الذي يفتح لك باب التشاؤم يقول: «إذا أنفقت اليوم أصبحت غداً فقيراً؛ لا تنفق»؛ والإنسان بشر: ربما لا ينفق؛ ربما ينسى قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39] ، وقول رسوله (ص): «ما نقصت صدقة من مال» .
4 - ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان؛ لأنه في الواقع عدو له في الخبر، وعدو له في الطلب؛ في الخبر: يعده الفقر؛ في الطلب: يأمره بالفحشاء؛ فهو عدو مخبراً، وطالباً - والعياذ بالله.
5 - ومنها: أن البخل من الفواحش؛ لأن المقام مقام إنفاق؛ فيكون المراد بالفاحشة: البخل، وعدم الإنفاق.
6 - ومنها: أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع؛ فهو شبيه بالشيطان؛ وكذلك من أمر غيره بالإسراف فالظاهر أنه شيطان؛ لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} [الإسراء: 27] .
7 - ومنها: البشرى لمن أنفق بالمغفرة، والزيادة؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا } ؛ شتان ما بين الوعدين: { الشيطان يعدكم الفقر }؛ { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فالله يعدنا بشيئين: المغفرة، والفضل؛ المغفرة للذنوب؛ والفضل لزيادة المال في بركته، ونمائه.
فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً؛ فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة؛ فما وجه الزيادة؟(10/276)
فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يربيها له حتى تكون مثل الجبل؛ وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال؛ فيزداد ماله.
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه؛ وهذا مشاهد؛ فالإنفاق يقي المال الآفات.
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل، وتكون ثمرته أكثر من الكثير؛ وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه؛ أو تضره؛ وهذا شيء مشاهد.
8 - ومنها: أن هذه المغفرة التي يعدنا الله بها مغفرة عظيمة؛ لقوله تعالى: { منه }؛ لأن عظم العطاء من عظم المعطي؛ ولهذا جاء في الحديث الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني»(1).
9 - ومنها: أنه ينبغي للمنفق أن يتفاءل بما وعد الله؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فإذا أنفق الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل أن الله يغفر له الذنوب، ويزيده من فضله كان هذا من خير ما تنطوي عليه السريرة.
10 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }؛ وما تضمناه من صفة؛ ويستفاد من الاسمين، والصفتين إثبات صفة ثالثة باجتماعهما؛ لأن الاسم من أسماء الله إذا قرن بغيره تضمن معنًى زائداً على ما إذا كان منفرداً مثل قوله تعالى: {فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء: 149] ؛ فالجمع بين العفْوِ والقدرة لها ميزة: أن عفوه غير مشوب بعجز إطلاقاً؛ لأن بعض الناس قد يعفو لعجز؛ فقوله تعالى: { واسع عليم }: فالصفة الثالثة التي تحصل باجتماعهما: أن علمه واسع.(10/277)
وكل صفاته واسعة؛ وهذا مأخوذ من اسمه «الواسع»؛ فعلمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وكل صفاته واسعة.
القرآن
)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)
التفسير:
{ 269 } قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ { يؤتي } بمعنى يعطي؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول هنا: { الحكمة }؛ والمفعول الثاني: { مَن } في قوله تعالى: { من يشاء }؛ والمعنى: أن الله يعطي الحكمة من يشاء؛ و{ الحكمة } مِن أحكم بمعنى أتقن؛ وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وتستلزم علماً، ورشداً، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة؛ والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة.
قوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }، أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً.
فإن قال قائل: ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }، وقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة }؟
فالجواب: - والله أعلم - أن الحكمة قد تكون غريزة؛ وقد تكون مكتسبة؛ بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلاً عن الناس؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي - سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل، أو من قِبل الممارسة والتجارب؛ على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب فهو من الله عز وجل؛ هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة، وأبواب الخير.
قوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }، أي ما يتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الذين يتصرفون تصرفاً رشيداً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة }؛ وهذه من الصفات الفعلية.(10/278)
2 - ومنها: أن ما في الإنسان من العلم والرشد فهو فضل من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ فإذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم، ورشد، وقوة، وقدرة، وسمع، وبصر فلا يترفع؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل؛ ولو شاء الله لحرمه إياها، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها؛ فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه؛ وربما يسلب منه الحكمة؛ فتكون كل تصرفاته طيشاً، وضلالاً، وهدراً.
3 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
4 - ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل؛ لأن الحكمة كمال؛ ومعطي الكمال أولى به؛ فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق.
5 - ومنها: الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.
6 - ومنها: وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر.
7 - ومنها: أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق؛ فقد يكون غريزياً جبل الله العبد عليه؛ وقد يكون كسبياً يحصل بالمران، ومصاحبة الحكماء.
8 - ومنها: منّة الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.(10/279)
9 - ومنها: فضيلة العقل؛ لقوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }؛ لأن التذكر بلا شك يحمد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلا من صاحب العقل دل ذلك على فضيلة العقل؛ والعقل ليس هو الذكاء لأن العقل نتيجته حسن التصرف - وإن لم يكن الإنسان ذكياً؛ والذكاء؛ قوة الفطنة - وإن لم يكن الإنسان عاقلاً؛ ولهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلاً، ولا كل عاقل ذكياً؛ لكن قد يجتمعان؛ وقد يرتفعان؛ وهناك عقل يسمى عقل إدراك؛ وهو الذي يتعلق به التكليف، وهذا لا يلحقه مدح، ولا ذم؛ لأنه ليس من كسب الإنسان.
10 - ومن فوائد الآية: أن عدم التذكر نقص في العقل - أي عقل الرشد؛ لقوله تعالى: { وما يذَّكر إلا أولو الألباب }؛ فإن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، ونقص بنقص ذلك الوصف.
11 - ومنها: أنه لا يتعظ بالمواعظ الكونية أو الشرعية إلا أصحاب العقول الذين يتدبرون ما حصل من الآيات سابقاً، ولاحقاً؛ فيعتبرون بها؛ وأما الغافل فلا تنفعه.
القرآن
)وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة:270)
التفسير:
{ 270 } قوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ { ما } هنا شرطية؛ والدليل على أنها شرطية أنها مركبة من شرط، وجواب؛ والشرط هو: { أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ والجواب: { فإن الله يعلمه}؛ و{ مِن } زائدة زائدة؛ أي زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ لأنها تفيد النص على العموم؛ وهي حرف جر زائد من حيث الإعراب؛ ولهذا نعرب: { نفقةٍ } على أنها مفعول به - أي: ما أنفقتم نفقةً أو نذرتم نذراً فإن الله يعلمه؛ ويجوز أن تكون بياناً لاسم الشرط { ما } في قوله تعالى: { ما أنفقتم }؛ لأن «ما» الشرطية مبهمة؛ والمبهم يحتاج إلى بيان.(10/280)
قوله تعالى: { فإن الله يعلمه } هذه جملة جواب الشرط؛ والفاء هنا واقعة في جواب الشرط وجوباً؛ لأنه جملة اسمية؛ وإذا وقع جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء؛ وفي ذلك يقول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:
اسمية طلبية وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس قوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار } جملة منفية؛ والمبتدأ فيها قوله تعالى: { من أنصار }؛ و{ من } فيها زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ يعنى تزيد المعنى - وهو النص على العموم - وإن كانت في الإعراب زائدة؛ ولهذا نعرب { أنصار } على أنها مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء؛ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، أي أيّ شيء تنفقونه من قليل أو كثير فإن الله يعلمه.
وقوله تعالى: { أو نذرتم من نذر }، أي أوجبتم على أنفسكم من طاعة، مثل أن يقول القائل: «لله عليّ نذر أن أتصدق بكذا»؛ أو «أن أصوم كذا»؛ { فإن الله يعلمه }؛ وذِكر العلم يستلزم أن الله يجازيهم، فلا يضيع عند الله عز وجل.
قوله تعالى: { وما للظالمين } أي للمانعين ما يجب إنفاقه، أو الوفاء به من النذور { من أنصار } أي مانعين للعذاب عنهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء؛ وذلك لقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، وكلمة { نفقة } نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعم؛ وعلى ذلك تشمل القليل، والكثير؛ لكن الثواب عليها مشروط بأمرين: الإخلاص لله؛ وأن تكون على وفق الشرع.
2 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله؛ لقوله تعالى: { فإن الله يعلمه }؛ لأنك إذا أنفقت وأنت تشعر أن الله يعلم هذا الإنفاق فسوف تحتسب الأجر على الله.
3 - ومنها: أن ما نذره الإنسان من طاعة فهو معلوم عند الله.
4 - هل تدل الآية على جواز النذر؟(10/281)
الجواب: الآية لا تدل على الجواز، كما لو قال قائل مثلاً: «إن سرَقتَ فإن الله يعلم سرقتك»؛ فإن هذا لا يعني أن السرقة جائزة؛ وعلى هذا فالآية لا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر(1)؛ لأن النهي عن النذر يعني إنشاءه ابتداءً؛ فأما الوفاء به فواجب إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»(2).
5 - ومنها: عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان، أو ينذره من قليل، أو كثير.
6 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه تدخل إطلاقاً؛ وجه ذلك: أنه إذا كان الله يعلمه فلا بد أن يقع على حسب علمه؛ وإلا لزم أن يكون الله غير عالم؛ ولهذا قال بعض السلف: جادلوهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا.
7 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم؛ لقوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار }؛ ولا يرد على هذا ما وقع في أُحد من انتصار الكافرين لوجهين:
الوجه الأول: أنه نوع عقوبة، حيث حصل من بعض المسلمين عصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152].
الوجه الثاني: أن هذا الانتصار من أجل أن يمحق الله الكافرين؛ لأن انتصارهم يغريهم بمقاتلة المسلمين؛ حتى تكون العاقبة للمسلمين، كما قال تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] .
8 - ومن فوائد الآية: أن من دعا على أخيه وهو ظالم له فإن الله لا يجيب دعاءه؛ لأنه لو أجيب لكان نصراً له؛ وقد قال تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21] .(10/282)
9 - ومنها: الثواب على القليل، والكثير؛ وفي القرآن ما يشهد لذلك، مثل قوله تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 121] ، وقوله تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7، 8] .
القرآن
)إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271)
التفسير:
{ 271 } قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات } أي تظهروها { فنعمَّا هي }: جملة إنشائية للمدح؛ وقُرنت بالفاء وهي جواب الشرط لكونها فعلاً جامداً { وإن تخفوها } أي تصدَّقوا سراً { وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها المعدمين؛ وذكر { الفقراء } هنا على سبيل المثال؛ { فهو خير لكم } أي من إظهارها؛ والجملة: جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء لكونها اسمية.
قوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم } الجملة استئنافية؛ ولذلك كان الفعل مرفوعاً؛ و «التكفير» بمعنى السَّتر؛ { سيئاتكم } جمع سيئة؛ وهي ما يسوء المرء عمله، أو ثوابه.
قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، أي عليم ببواطن الأمور كظواهرها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الصدقة، والترغيب فيها سواء أبداها، أو أخفاها.
2 - ومنها: أن إخفاء الصدقة أفضل من إبدائها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص؛ وأستر للمتصدق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحة ترجح على إخفائها - مثل أن يكون إبداؤها سبباً لاقتداء الناس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دفع ملامة عن المتصدق، أو غير ذلك من المصالح - فإبداؤها أفضل.
3 - ومنها: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: { وتؤتوها الفقراء }.
ويتفرع على هذا فرعان:
أحدهما: أن مؤونة إيصالها على المتصدق.(10/283)
الثاني: أنه لو نوى أن يتصدق بماله، ثم بدا له ألا يتصدق فله ذلك؛ لأنه لم يصل إلى الفقير.
4 - ومنها: تفاضل الأعمال - أي أن بعض الأعمال أفضل من بعض؛ لقوله تعالى: { فهو خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يكون بأسباب:
أ - منها التفاضل في الجنس ، كالصلاة - مثلاً - أفضل من الزكاة، وما دونها.
ب - ومنها التفاضل في النوع ؛ فالواجب من الجنس أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(1).
ج - ومنها التفاضل باعتبار العامل لقوله (ص): «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»(2).
د - ومنها التفاضل باعتبار الزمان ، كقوله (ص) في العشر الأول من ذي الحجة: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(3)، وكقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3].
هـ - ومنها التفاضل بحسب المكان ، كفضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره.
و - ومنها التفاضل بحسب جودة العمل وإتقانه ، كقوله (ص): «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة؛ والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»(4).
ز - ومنها التفاضل بحسب الكيفية ، مثل قوله (ص): «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»(5).
وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ لأن الإنسان يشرف، ويفضل بعمله؛ وتفاضل الأعمال يستلزم زيادة الإيمان؛ لأن الإيمان قول، وعمل؛ فإذا تفاضلت الأعمال تفاضل الإيمان - أعني زيادة الإيمان، ونقصانه - وهو مذهب أهل السنة، والجماعة.(10/284)
5 - ومن فوائد الآية: أن الصدقة سبب لتكفير السيئات؛ لقوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم }؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ، ثم تلا (ص): {تتجافى جنوبهم عن المضاجع...}(1) [السجدة: 16] .
6 - ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية - كما هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ فإن تكفير السيئات حاصل بعد العمل الذي يحصل به التكفير.
7 - ومنها: بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد؛ لقوله تعالى: { من سيئاتكم }.
8 - ومنها: إثبات اسم الله عز وجل «الخبير» ؛ وإثبات ما دل عليه من صفة.
9 - ومنها: تحذير العبد من المخالفة؛ لقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ فإن إخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.
القرآن
)لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (البقرة:272)
التفسير:(10/285)
{ 272 } قوله تعالى: { ليس عليك هداهم }؛ الخطاب هنا للرسول (ص)؛ و{ هداهم }: الضمير يعود على بني آدم؛ والهدى المنفي هنا هدى التوفيق؛ وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ؛ ولقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] ، وقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22] ، وقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] ... إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة، والإرشاد؛ أما هداية التوفيق فليست على الرسول، ولا إلى الرسول؛ لا يجب عليه أن يهديهم؛ وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم؛ ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب؛ ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده.
قوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }؛ وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } أي: وليس لله عز وجل؛ فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به؛ بل لأنفسكم تقدمونه؛ وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم؛ و{ ما } هذه شرطية بدليل اقتران الجواب بالفاء في قوله تعالى: { فلأنفسكم }؛ وقوله تعالى: { من خير } بيان لـ{ ما } الشرطية؛ لأن { ما } الشرطية مبهمة تحتاج إلى بيان؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه فلأنفسكم؛ والمراد بـ «الخير» كل ما بذل لوجه الله عز وجل من عين، أو منفعة؛ وأغلب ما يكون في الأعيان.
وقوله تعالى: { فلأنفسكم }: الفاء رابطة للجواب؛ والجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فهو لأنفسكم؛ يعني: وليس لغيركم.(10/286)
قوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } يعني: لا تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله؛ فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه؛ بل هو خسارة عليه.
وقوله تعالى: { إلا ابتغاء } أي إلا طلب؛ و{ وجه الله }: المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن من دخل الجنة نظر إلى وجه الله.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم }؛ { ما } هذه أيضاً شرطية بدليل جزم الجواب: { يوف }؛ فإنه مجزوم بحذف حرف العلة؛ وهو الألف؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه من الأعيان، والمنافع قليلاً كان أو كثيراً يوف إليكم؛ أي: تعطَونه وافياً من غير نقص؛ بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
قوله تعالى: { وأنتم لا تظلمون }، أي: لا تنقصون شيئاً منه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن هداية الخلق لا تلزم الرسل؛ ونعنى بذلك هداية التوفيق؛ أما هداية الدلالة فهي لازمة عليهم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67].
2 - ومنها: أن الإنسان إذا بلغ شريعة الله برئت ذمته؛ لقوله تعالى: { ليس عليك هداهم }؛ ولو كانت ذمته لا تبرأ لكان ملزماً بأن يهتدوا.
3 - ومنها: إثبات أن جميع الأمور دقيقها، وجليلها بيد الله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }.
4 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }؛ لأنهم يقولون: «إن العبد مستقل بعمله، ولا تعلق لمشيئة الله سبحانه وتعالى فيه».
5 - ومنها: إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }.(10/287)
6 - ومنها: أن هداية الخلق بمشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة تابعة للحكمة؛ فمن كان أهلاً لها هداه الله؛ لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ؛ ومن لم يكن أهلاً للهداية لم يهده؛ لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، ولقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
7 - ومنها: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره؛ لقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }؛ وليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره؛ ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له؛ ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال: «يا رسول الله، إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها»(1)؛ وكذلك حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه(2)؛ إذاً فالآية لا تدل على منع الصدقة عن الغير؛ وإنما تدل على أن ما عمله الإنسان لا يصرف إلى غيره.
8 - ومن فوائد الآية: أن الإنفاق الذي لا يُبتغى به وجه الله لا ينفع العبد؛ لقوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله }.
9 - ومنها: التنبيه على الإخلاص: أن يكون الإنسان مخلصاً لله عز وجل في كل عمله؛ حتى في الإنفاق وبذل المال ينبغي له أن يكون مخلصاً فيه؛ لقوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله }؛ فالإنفاق قد يحمل عليه محبة الظهور، ومحبة الثناء، وأن يقال: فلان كريم، وأن تتجه الأنظار إليه؛ ولكن كل هذا لا ينفع؛ إنما ينفع ما ابتغي به وجه الله.(10/288)
10 - ومنها: إثبات وجه الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { إلا ابتغاء وجه الله }؛ وأهل السنة والجماعة يقولون: إن لله سبحانه وتعالى وجهاً حقيقياً موصوفاً بالجلال والإكرام لا يماثل أوجه المخلوقين؛ وأنه من الصفات الذاتية الخبرية؛ و«الصفات الذاتية الخبرية» هي التي لم يزل، ولا يزال متصفاً بها، ونظير مسماها أبعاض وأجزاء لنا.
وأهل التعطيل ينكرون أن يكون لله وجه حقيقي، ويقولون: المراد بـ «الوجه» الثواب، أو الجهة، أو نحو ذلك؛ وهذا تحريف مخالف لظاهر اللفظ، ولإجماع السلف؛ ولأن الثواب لا يوصف بالجلال والإكرام؛ والله سبحانه وتعالى وصف وجهه بالجلال والإكرام، فقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] .
11 - ومنها: الإشارة إلى نظر وجه الله؛ لقوله تعالى: { إلا ابتغاء وجه الله }؛ وهذا - أعني النظر إلى وجه الله - ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف؛ لقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23] ، وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] ؛ فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم «الزيادة» بأنها النظر إلى وجه الله(1) ... إلى آيات أخرى؛ وأما السنة فقد تواترت بذلك؛ ومنها قوله (ص): «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته»(2)؛ وأما إجماع السلف فقد نقله غير واحد من أهل العلم.
12 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يُنْقص من عمله شيئاً؛ لقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم }.
13 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق من الحرام لا يقبل؛ وذلك لقوله تعالى: { من خير }؛ ووجهه: أن الحرام ليس بخير؛ بل هو شر.
14 - ومنها: نفي الظلم في جزاء الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وأنتم لا تظلمون }؛ وهذا يستلزم كمال عدله؛ فإن الله عز وجل كلما نفى عن نفسه شيئاً من الصفات فإنه مستلزم لكمال ضده.
القرآن(10/289)
)لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273)
التفسير:
{ 273 } في هذه الآية بيان لمصرف الإنفاق؛ كأن سائلاً يسأل: إلى أين نصرف هذا الخير؟ فقال تعالى: { للفقراء... }؛ وعلى هذا فتكون { للفقراء } إما متعلقة بقوله تعالى: { تنفقوا }؛ أو بمحذوف تقديره: الإنفاق، أو الصدقات للفقراء؛ و{ الفقراء } جمع فقير؛ و «الفقير» هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من «الفقر» الموافق لـ«القفر» في الاشتقاق الأكبر - الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و«القفر» الأرض الخالية، كما قال الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر وليس قربَ قبرِ حرب قبر فـ «الفقير» معناه الخالي ذات اليد؛ ويقرن بـ«المسكين» أحياناً؛ فإذا قرن بـ«المسكين» صار لكل منهما معنى؛ وصار «الفقير» من كان خالي ذات اليد؛ أو من لا يجد من النفقة إلا أقل من النصف؛ والمسكين أحسن حالاً منه، لكن لا يجد جميع الكفاية؛ أما إذا انفرد أحدهما عن الآخر صار معناهما واحداً؛ فهو من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت.
قوله تعالى: { الذين أحصروا في سبيل الله } أي منعوا من الخروج من ديارهم { في سبيل الله } أي في شريعته { لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي لا يقدرون على السفر لقلة ذات اليد؛ أو لعجزهم عن السفر لما أصابهم من الجراح، أو الكسور، أو نحو ذلك.(10/290)
قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء } أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أغنياء؛ وفي { يحسبهم } قراءتان: فتح السين، وكسرها؛ و{ من التعفف } أي بسبب تعففهم عن السؤال، وإظهار المسكنة؛ لأنك إذا رأيتهم ظننتهم أغنياء مع أنهم فقراء، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة، واللقمتان والتمرة، والتمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس»(3).
قوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم } أي تعرف أحوالهم بعلامتهم؛ والعلامة التي فيهم هي أن الإنسان إذا رآهم ظنهم أغنياء؛ وإذا دقق في حالهم تبين له أنهم فقراء؛ لكنهم متعففون؛ وكم من إنسان يأتيك بمظهر الفقير المدقع: ثياب ممزقة، وشعر منفوش، ووجه كالح، وأنين، وطنين؛ وإذا أمعنت النظر فيه عرفت أنه غني؛ وكم إنسان يأتيك بزي الغني، وبهيئة الإنسان المنتصر على نفسه الذي لا يحتاج إلى أحد؛ لكن إذا دققت في حاله علمت أنه فقير؛ وهذا يعرفه من منّ الله عليه بالفراسة؛ وكثير من الناس يعطيهم الله سبحانه وتعالى علماً بالفراسة يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه، ونظراته، وكذلك بعض عباراته، كما قال الله عز وجل: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] .(10/291)
قوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافاً }؛ هل النفي للقيد؛ أو للقيد والمقيد؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ فإن النفي للقيد؛ أي أنهم لا يلحون في المسألة؛ ولكن يسألون؛ وإن نظرنا إلى مقتضى السياق ترجح أنهم لا يسألون الناس مطلقاً؛ فيكون النفي نفياً للقيد - وهو الإلحاف، والمقيد - وهو السؤال؛ والمعنى أنهم لا يسألون مطلقاً؛ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء؛ بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم؛ ولكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم - وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألح - وإن كان فقيراً - يثقل عليك، وتمل مسألته؛ حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه؛ فتحرمه، أو تنهره مع علمك باستحقاقه؛ وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف ترق له، وتعطيه أكثر مما تعطي السائل.
إذاً في قول الله تعالى: { الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً } خمس صفات؛ والسادسة أنهم فقراء؛ فهؤلاء هم المستحقون حقاً للصدقة، والإنفاق؛ وإذا تخلفت صفة من الصفات فالاستحقاق باقٍ؛ لكن ليست كما إذا تمت هذه الصفات الست.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }: هذه الجملة شرطية ذيلت بها الآية المبينة لأهل الاستحقاق حثاً على الإنفاق؛ لأنه إذا كان الله عليماً بأيّ خير ننفقه فسيجازينا عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
الفوائد:(10/292)
1 - من فوائد الآية: أنه لا يجوز أن نعطي من يستطيع التكسب؛ لقوله تعالى: { لا يستطيعون ضرباً في الأرض }؛ لأنه عُلم منه أنهم لو كانوا يستطيعون ضرباً في الأرض، والتكسب فإنهم لا يعطون؛ ولهذا لما جاء رجلان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة صعَّد فيهما النظر وصوَّبه، ثم قال: «إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب»(1)؛ فإذا كان الإنسان يستطيع الضرب في الأرض والتجارة والتكسب، فإنه لا يعطى؛ لأنه وإن كان فقيراً بماله؛ لكنه ليس فقيراً بعمله.
2 - ومن فوائد الآية: فضيلة التعفف؛ لقوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }.
3 - ومنها: التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون فطناً ذا حزم، ودقة نظر؛ لأن الله وصف هذا الذي لا يعلم عن حال هؤلاء بأنه جاهل؛ فقال تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }؛ فينبغي للإنسان أن يكون ذا فطنة، وحزم، ونظر في الأمور.
4 - ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { من التعفف }؛ فإن { من } هنا سببية؛ أي بسبب تعففهم يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء.
5 - ومنها: الإشارة إلى الفراسة، والفطنة؛ لقوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم }؛ فإن السيما هي العلامة التي لا يطلع عليها إلا ذوو الفراسة؛ وكم من إنسان سليم القلب ليس عنده فراسة، ولا بُعد نظر يخدع بأدنى سبب؛ وكم من إنسان عنده قوة فراسة، وحزم، ونظر في العواقب يحميه الله سبحانه وتعالى بفراسته عن أشياء كثيرة.
6 - ومنها: الثناء على من لا يسأل الناس؛ لقوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافاً }؛ وقد كان من جملة ما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ألا يسألوا الناس شيئاً؛ حتى إن الرجل ليسقط سوطه من على بعيره، فينزل، فيأخذه ولا يقول لأخيه: أعطني إياه(1)؛ كل هذا بعداً عن سؤال الناس.(10/293)
والسؤال - أي سؤال المال - لغير ضرورة محرم إلا إذا علمنا أن المسؤول يفرح بذلك ويُسَر؛ فإنه لا بأس به؛ بل قد يكون السائل مثاباً مأجوراً لإدخاله السرور على أخيه؛ كما لو سأل إنسان صديقاً له يعرف أنه يكون ممتناً بهذا السؤال؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي على البرمة: «هو على بريرة صدقة؛ ولنا هدية»(2).
7 - ومن فوائد الآية: بيان عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }؛ فأيّ خير يفعله العبد فإن الله به عليم.
القرآن
)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:274)
التفسير:
{ 274 } قوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ وجملة: { فلهم أجرهم } خبر المبتدأ؛ واقترنت بالفاء لمشابهة المبتدأ بالشرط في العموم؛ لأن المبتدأ هنا اسم موصول؛ واسم الموصول يشبه الشرط في العموم.
قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم } يحتمل أن يراد بـ «الأموال» هنا كل الأموال؛ ويحتمل أن يراد الجنس فيشمل الكل، والبعض.
قوله تعالى: { بالليل والنهار }؛ الباء هنا للظرفية، وفيه عموم الزمن؛ وقوله تعالى: { سراً وعلانية } فيه عموم الأحوال؛ أي على كل حال، وفي كل زمان؛ و{ سراً } أي خفاءً؛ وهو مفعول مطلق لـ{ ينفقون }؛ يعني إنفاقاً سراً، و{ علانية } أي جهراً.
قوله تعالى: { فلهم أجرهم عند ربهم } أي ثوابهم عند الله؛ وسمي أجراً؛ لأنه يشبه عقد الإجارة التي يعوَّض فيه العامل على عمله؛ وهذا الأجر قد بُين فيما سبق بأن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] .(10/294)
قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ { ولا هم يحزنون } أي فيما مضى؛ فهم لا يحزنون على ما سبق؛ ولا يخافون من المستقبل؛ لأنهم يرجون ثواب الله عز وجل؛ ولا يحزنون على ما مضى؛ لأنهم أنفقوه عن طيب نفس.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سواء كان ليلاً، أو نهاراً، أو سراً، أو جهاراً.
2 - ومنها: كثرة ثوابهم؛ لأنه سبحانه وتعالى أضاف أجرهم إلى نفسه، فقال تعالى: { فلهم أجرهم عند ربهم}؛ والثواب عند العظيم يكون عظيماً.
3 - ومنها: أن الإنفاق يكون سبباً لشرح الصدر، وطرد الهم، والغم؛ لقوله تعالى: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ وهذا أمر مجرب مشاهد أن الإنسان إذا أنفق يبتغي بها وجه الله انشرح صدره، وسرت نفسه، واطمأن قلبه؛ وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد أن ذلك من أسباب انشراح الصدر.
4 - ومنها: كرم الله عز وجل حيث جعل هذا الثواب الذي سببه منه وإليه، أجراً لفاعله؛ كالأجير إذا استأجرته فإن أجره ثابت لازم.
5 - ومنها: كمال الأمن لمن أنفق في سبيل الله؛ وذلك لانتفاء الخوف، والحزن عنهم.
القرآن
)الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275)
التفسير:(10/295)
{ 275 } قوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ و{ لا يقومون } خبره؛ و{ الذين يأكلون الربا } أي الذين يأخذون الربا فينتفعون به بأكل، أو شرب، أو لباس، أو سكن، أو غير ذلك؛ لكنه ذكر الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثرها إلحاحاً؛ و{ الربا } في اللغة: الزيادة؛ ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] أي زادت؛ وفي الشرع: زيادة في شيئين منع الشارع من التفاضل بينهما.
قوله تعالى: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }؛ اختلف المفسرون في هذا القيام، ومتى يكون؛ فقال بعضهم - وهم الأكثر: إنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان؛ و «التخبط» هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام المصروعين - والعياذ بالله - يشهدهم الناس كلهم؛ وهذا القول هو قول جمهور المفسرين؛ وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
القول الثاني: إنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع؛ لأنهم - والعياذ بالله - لشدة شغفهم بالربا كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر؛ لأنهم سكارى بمحبة الربا، وسكارى بما يربحونه - وهم الخاسرون؛ فيكون القيام هنا في الدنيا؛ شبَّه تصرفاتهم العشوائية الجنونية المبنية على الربا العظيم - الذي يتضخم المال من أجل الربا - بالإنسان المصروع الذي لا يعرف كيف يتصرف؛ وهذا قول كثير من المتأخرين؛ وقالوا: إن يوم القيامة هنا ليس له ذكر؛ ولكن الله شبَّه حالهم حين طلبهم الربا بحال المصروع من سوء التصرف؛ وكلما كان الإنسان أشد فقراً كانوا له أشد ظلماً؛ فيكثرون عليه الظلم لفقره؛ بينما حاله تقتضي الرأفة، والتخفيف؛ لكن هؤلاء ظلمة ليس همهم إلا أكل أموال الناس.(10/296)
فاختلف المفسرون في معنى «القيام» ، ومتى يكون؛ لكنهم لم يختلفوا في قوله تعالى: { يتخبطه الشيطان من المس }؛ يعني متفقين على أن الشيطان يتخبط الإنسان؛ و{ من المس } أي بالمس بالجنون؛ وهذا أمر مشاهد: أن الشيطان يصرع بني آدم؛ وربما يقتله - نسأل الله العافية -؛ يصرعه، ويبدأ يتخبط، ويتكلم، والإنسان نفسه لا يتكلم - يتكلم الشيطان الذي صرعه.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }: المشار إليه قيامهم كقيام المصروع؛ { بأنهم قالوا... } إلخ: الباء للسببية؛ يعني أنهم عُمّي عليهم الفرق بين البيع، والربا؛ أو أنهم كابروا فألحقوا الربا بالبيع؛ ولذلك عكسوا التشبيه، فقالوا: إنما البيع مثل الربا، ولم يقولوا: «إنما الربا مثل البيع»، كما هو مقتضى الحال.
قوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا } أي أباح البيع، ومنع الربا؛ وهذا رد لقولهم: { إنما البيع مثل الربا}؛ فأبطل الله هذه الشبهة بما ذكر.
قوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه } أي من بلغه حكم الربا بعد أن تعامل به { فانتهى } أي كف عن الربا بالتوبة منه { فله ما سلف }، أي ما أخذه من الربا قبل العلم بالحكم.
قوله تعالى: { وأمره إلى الله } أي شأنه إلى الله - تبارك وتعالى - في الآخرة؛ { ومن عاد } أي ومن رجع إلى الربا بعد أن أتته الموعظة { فأولئك }: أتى باسم الإشارة الدال على البعد؛ وذلك لسفوله - أي هوى بعيداً؛ { أصحاب النار } أي أهلها الملازمون لها؛ وأكد ذلك بقوله تعالى: { هم فيها خالدون }.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: التحذير من الربا، حيث شبه آكله بمن يتخبطه الشيطان من المس.
2 - ومنها: أن من تعامل بالربا فإنه يصاب بالنهمة العظيمة في طلبه.(10/297)
3 - ومنها: أن الشيطان يتخبط بني آدم فيصرعه؛ ولا عبرة بقول من أنكر ذلك من المعتزلة، وغيرهم؛ وقد جاءت السنة بإثبات ذلك؛ والواقع شاهد به؛ وقد قسم ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد الصرع إلى قسمين: صرع بتشنج الأعصاب؛ وهذا يدركه الأطباء، ويقرونه، ويعالجونه بما عندهم من الأدوية، والثاني: صرع من الشيطان؛ وذلك لا علم للأطباء به؛ ولا يعالج إلا بالأدوية الشرعية كقراءة القرآن، والأدعية النبوية الواردة في ذلك.
4 - ومن فوائد الآية: بيان علة قيام المرابين كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ وهي: { أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } يعني: فإذا كان مثله فلا حرج علينا في طلبه.
5 - ومنها: مبالغة أهل الباطل في ترويج باطلهم؛ لأنهم جعلوا المقيس هو المقيس عليه؛ لقولهم: { إنما البيع مثل الربا }؛ وكان مقتضى الحال أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع.
6 - ومنها: أن الحكم لله - تبارك وتعالى - وحده؛ فما أحله فهو حلال؛ وما حرمه فهو حرام سواء علمنا الحكمة في ذلك، أم لم نعلم؛ لأنه تعالى رد قولهم: { إنما البيع مثل الربا } بقوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا }؛ فكأنه قال: ليس الأمر إليكم؛ وإنما هو إلى الله.
7 - ومنها: أن بين الربا والبيع فرقاً أوجب اختلافهما في الحكم؛ فإنا نعلم أن الله تعالى لا يفرق بين شيئين في الحكم إلا وبينهما فرق في العلة، والسبب المقتضي لاختلافهما؛ لقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8] ، وقوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50] .
8 - ومنها: أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم فهو حلال له بشرط أن يتوب، وينتهي؛ لقوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف }.(10/298)
9 - ومنها: أنه لو تاب من الربا قبل أن يقبضه فإنه يجب إسقاطه؛ لقوله تعالى: { فانتهى }؛ ومن أخذه بعد العلم فإنه لم ينته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع؛ وأول رباً أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»(1)؛ فبين (ص) أن ما لم يؤخذ من الربا فإنه موضوع.
10 - ومنها: رأفة الله تعالى بمن شاء من عباده؛ لقوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى }؛ وهذه ربوبية خاصة تستلزم توفيق العبد للتوبة حتى ينتهي عما حرم الله عليه.
11 - ومنها: التحذير من الرجوع إلى الربا بعد الموعظة؛ لقوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
12 - ومنها: التخويف من التفاؤل البعيد لمن تاب من الربا؛ لأنه تعالى قال: { فله ما سلف وأمره إلى الله }؛ يعني أن الإنسان يتفاءل، ويؤمل؛ لأن الأمر قد لا يكون على حسب تفاؤله.
13 - ومنها: بيان عظم الربا؛ لقوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
القرآن
)يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة:276)
التفسير:
{ 276 } قوله تعالى: { يمحق الله الربا }؛ «المحق» بمعنى الإزالة؛ أي يزيل الربا؛ والإزالة يحتمل أن تكون إزالة حسية، أو إزالة معنوية، فالإزالة الحسية: أن يسلط الله على مال المرابي ما يتلفه؛ والمعنوية : أن يَنزع منه البركة.
قوله تعالى: { ويربي الصدقات } أي يزيدها: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
قوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم }؛ إذا نفى الله تعالى المحبة فالمراد إثبات ضدها - وهي الكراهة؛ و «الكَفّار» كثير الكفر، أو عظيم الكفر؛ و «الأثيم» بمعنى الآثم، كالسميع بمعنى السامع، والبصير بمعنى الباصر، وما أشبه ذلك.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: محق الربا: إما حساً، وإما معنًى، كما سبق.(10/299)
2 - ومنها: التحذير من الربا، وسد أبواب الطمع أمام المرابين.
3 - ومنها: أن الله يرْبي الصدقات - أي يزيدها؛ والزيادة إما أن تكون حسية؛ وإما أن تكون معنوية؛ فإن كانت حسية فبالكمية، مثل أن ينفق عشرة، فيخلف الله عليه عشرين؛ وأما المعنوية فأن يُنْزل الله البركة في ماله.
4 - ومنها: مقابلة الضد بالضد؛ فكما أن الربا يُمحَق، ويزال؛ فالصدقة تزيد المال، وتنميه؛ لأن الربا ظلم، والصدقة إحسان.
5 - ومنها: إثبات المحبة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم }؛ ووجه الدلالة أن نفي المحبة عن الموصوف بالكفر، والإثم يدل على إثباتها لمن لم يتصف بذلك - أي لمن كان مؤمناً مطيعاً؛ ولولا ذلك لكان نفي المحبة عن «الكفار الأثيم» لغواً من القول لا فائدة منه؛ ولهذا استدل الشافعي - رحمه الله - بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] على أن الأبرار يرون الله عز وجل؛ لأنه لما حجب الفجار عن رؤيته في حال الغضب دل على ثبوتها للأبرار في حال الرضا؛ وهذا استدلال خفي جيد؛ والمحبة الثابتة لله عز وجل هي محبة حقيقية تليق بجلاله، وعظمته؛ وليست - كما قال أهل التعطيل - إرادة الثواب، أو الثواب؛ لأن إرادة الثواب ناشئة عن المحبة؛ وليست هي المحبة؛ وهذه القاعدة - أعني إجراء النصوص على ظاهرها في باب صفات الله - اتفق عليها علماء السلف، وأهل السنة والجماعة؛ لأن ما يتحدث الله به عن نفسه أمور غيبية يجب علينا الاقتصار فيها على ما ورد.
القرآن
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:277)
التفسير:(10/300)
{ 277 } قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } أي آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به؛ { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات؛ وهي المبنية على الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله (ص)؛ { وأقاموا الصلاة } أي أتوا بها قويمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وعطْفها على العمل الصالح من باب عطف الخاص على العام؛ لأن إقامة الصلاة من الأعمال الصالحة، ونُص عليها لأهميتها؛ { وآتوا الزكاة } أي أعطوا الزكاة مستحقها؛ وعلى هذا فتكون { الزكاة } مفعولاً أولاً بـ{ آتوا }؛ والمفعول الثاني محذوف - أي آتوا الزكاة مستحقها؛ و «الزكاة» هي النصيب الذي أوجبه الله عز وجل في الأموال الزكوية؛ وهو معروف في كتب الفقه.
قوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم } أي لهم ثوابهم عند الله؛ والجملة هذه خبر { إن } في قوله تعالى: { إن الذين آمنوا... }.
قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبل من أمرهم؛ { ولا هم يحزنون } أي فيما مضى من أمرهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإيمان، والعمل الصالح؛ لأن ذكر الثواب يستلزم التشجيع، والحث، والإغراء.
2 - ومنها: أنه لابد مع الإيمان من العمل الصالح؛ فمجرد الإيمان لا ينفع العبد حتى يقوم بواجبه - أي واجب الإيمان: وهو العمل الصالح.
3 - ومنها: أن العمل لا يفيد حتى يكون صالحاً؛ والصلاح أن ينبني العمل على أمرين: الإخلاص لله عز وجل - وضده الشرك؛ والمتابعة - وضدها البدعة؛ فمن أخلص لله في شيء، ولكنه أتى بعمل مبتدع لم يقبل منه؛ ومن أتى بعمل مشروع لكن خلطه بالشرك لم يقبل منه؛ وأدلة هذا معروفة.
4 - ومنها: بيان أهمية إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
5 - ومنها: أن هذين الركنين - أعني إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - أعلى أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ للنص عليهما من بين سائر الأعمال الصالحة.(10/301)
6 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى ضمن الأجر لمن آمن، وعمل صالحاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ لقوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم }.
7 - ومنها: الإشارة إلى عظمة هذا الثواب؛ لأنه أضافه إلى نفسه - تبارك وتعالى - والمضاف إلى العظيم يكون عظيماً.
8 - ومنها: أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع - الإيمان، والعمل الصالح، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة - ليس عليهم خوف من مستقبل أمرهم؛ ولا حزن فيما مضى من أمرهم؛ لأنهم فعلوا ما به الأمن التام، كما قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] .
القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278)
التفسير:
{ 278 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: الجملة ندائية؛ فائدتها: تنبيه المخاطب.
قوله تعالى: { اتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
قوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا } أي اتركوا ما بقي من الربا.
قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }: هذا من باب الإغراء، والحث على الامتثال؛ يعني: إن كنتم مؤمنين حقاً فدعوا ما بقي من الربا؛ وهذه الجملة يقصد بها الإغراء، والإثارة - أعني إثارة الهمة.
فإن قلت: كيف يوجِّه الخطاب للمؤمنين، ويقول: { إن كنتم مؤمنين }؛ أفلا يكون في هذا تناقض؟ فالجواب: ليس هنا تناقض؛ لأن معنى الثانية التحدي؛ أي إن كنتم صادقين في إيمانكم فاتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلوغ القرآن أكمل البلاغة؛ لأن الكلام في القرآن يأتي دائماً مطابقاً لمقتضى الحال؛ فإذا كان الشيء مهماً أحاطه بالكلمات التي تجعل النفوس قابلة له؛ وهذا أكمل ما يكون من البلاغة.
2 - ومنها: أنه إذا كان الشيء هاماً فإنه ينبغي أن يصَدَّر بما يفيد التنبيه من نداء، أو غيره.(10/302)
3 - ومنها: وجوب تقوى الله، لقوله تعالى: { اتقوا الله }؛ و «التقوى» وصية الله لعباده الأولين، والآخرين؛ قال الله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] .
4 - ومنها: وجوب ترك الربا - وإن كان قد تم العقد عليه؛ لقوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }؛ وهذا في عقد استوفي بعضه، وبقي بعضه.
5 - ومنها: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام - وإن عقدت في حال الشرك؛ لعموم قوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في عرفة عام حجة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع؛ وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»(1)؛ ولكن يجب أن نعلم أن العقود التي مضت في الكفر على وجه باطل، وزال سبب البطلان قبل الإسلام فإنها تبقى على ما كانت عليه؛ مثال ذلك: لو تبايع رجلان حال كفرهما بيعاً محرماً في الإسلام، ثم أسلما فالعقد يبقى بحاله؛ ومثال آخر: لو تزوج الكافر امرأة في عدتها، ثم أسلما بعد انقضاء عدتها فالنكاح باق؛ ولهذا أمثلة كثيرة.
6 - ومن فوائد الآية: تحريم أخذ ما يسمى بالفوائد من البنوك؛ لقوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }؛ وزعم بعض الناس أن الفوائد من البنوك تؤخذ لئلا يستعين بها على الربا؛ وإذا كان البنك بنك كفار فلئلا يستعين بها على الكفر؛ فنقول: أأنتم أعلم أم الله!!! وقد قال الله تعالى: { ذروا ما بقي من الربا }؛ والاستحسان في مقابلة النص باطل.(10/303)
فإن قال قائل: إذا كان البنك بنكاً غير إسلامي، ولو تركناه لهم صرفوه إلى الكنائس، وإلى السلاح الذي يقاتَل به المسلمون، أو أبقوه عندهم، ونما به رباهم؛ فنقول: إننا مخاطبون بشيء، فالواجب علينا أن نقوم بما خوطبنا به؛ والنتائج ليست إلينا؛ ثم إننا نقول: هذه الفائدة التي يسمونها فائدة هل هي قد دخلت في أموالنا حتى نقول: إننا أخرجنا من أموالنا ما يستعين به أعداؤنا على كفرهم، أو قتالنا؟
والجواب: أن الأمر ليس كذلك؛ فإن هذه الزيادة التي يسمونها فائدة ليست نماءَ أموالنا؛ فلم تدخل في ملكنا؛ ثم إننا نقول له: إذا أخذته فأين تصرفه؟ قال: أصرفه في صدقة؛ في إصلاح طرق؛ في بناء مساجد تخلصاً منه، أو تقرباً به؛ نقول له: إن فعلت ذلك تقرباً لم يقبل منك، ولم تسلم من إثمه؛ لأنك صرفته في هذه الحال على أنه ملكك؛ وإذا صرفته على أنه ملكك لم يقبل منك؛ لأنه صدقة من مال خبيث؛ ومن اكتسب مالاً خبيثاً فتصدق به لم يقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»(1)؛ وإن أخرجته تخلصاً منه فأي فائدة من أن تلطخ مالك بالخبيث، ثم تحاول التخلص منه؛ ثم نقول أيضاً: هل كل إنسان يضمن من نفسه أن يخرج هذا تخلصاً منه؟! فربما إذا رأى الزيادة الكبيرة تغلبه نفسه، ولا يخرجها؛ أيضاً إذا أخذت الربا، وقال الناس: إن فلاناً أخذ هذه الأموال التي يسمونها الفائدة؛ أفلا تخشى أن يقتدي الناس بك؟! لأنه ليس كل إنسان يعلم أنك سوف تخرج هذا المال، وتتخلص منه.
ولهذا أرى أنه لا يجوز أخذ شيء من الربا مطلقاً؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا }؛ ولم يوجه العباد إلى شيء آخر.(10/304)
8 - ومن فوائد الآية: أن ممارسة الربا تنافي الإيمان؛ لقوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ ولكن هل يُخرج الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر؟ مذهب الخوارج أنه يخرجه من الإيمان إلى الكفر؛ فهو عند الخوارج كافر، كفرعون، وهامان، وقارون؛ لأنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب؛ ومذهب أهل السنة والجماعة أنه مؤمن ناقص الإيمان؛ لكنه يُخشى عليه من الكفر لا سيما آكل الربا؛ لأنه غذي بحرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: «فأنى يستجاب لذلك»(2) - نسأل الله العافية.
9 - ومن فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث حرم عليهم ما يتضمن الظلم؛ وأكد هذا التحريم، وأنزل القرآن فيه بلفظ يحمل على ترك هذا المحرم؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }، وقوله تعالى: { اتقوا الله }، وقوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ والحكم: { ذروا ما بقي من الربا }.
القرآن
)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279)
التفسير:
{ 279 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني: فإن لم تتركوا ما بقي من ربا؛ { فأذنوا } بالقصر وفتح الذال، بمعنى أعلنوا؛ وفي قراءة { فآذنوا } بالمد، وكسر الذال؛ والمعنى: أن من لم ينته عن الربا فقد أعلن الحرب على الله ورسوله.
قوله تعالى: { وإن تبتم } أي رجعتم إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته إلى طاعته؛ وذلك هنا بترك الربا؛ والتوبة من الربا، كالتوبة من غيره - لابد فيها من توافر الشروط الخمسة المعروفة.(10/305)
قوله تعالى: { فلكم رؤوس أموالكم }؛ { رؤوس } جمع رأس؛ و «الرأس» هنا بمعنى الأصل؛ أي لكم أصول الأموال؛ وأما الربا فليس لكم، ثم علل الله عز وجل هذا الحكم بقوله تعالى: { لا تظلمون }؛ لأنكم لم تأخذوا الزيادة؛ { ولا تُظلمون }؛ لأنها لم تنقص رؤوس أموالكم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { فإن لم تفعلوا }؛ لأن الجبرية يقولون: إن الإنسان لا يستطيع الفعل، ولا الترك؛ لأنه مجبر؛ وحقيقة قولهم تعطيل الأمر والنهي؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما أمر به، ولا ترك ما نهي عنه.
2 - ومنها: أن المصِرّ على الربا معلن الحرب على الله ورسوله؛ لقوله تعالى: { فأذنوا بحرب من الله ورسوله }.
ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا كان معلناً الحرب على الله، ورسوله فهو معلن الحرب على أولياء الله، ورسوله - وهم المؤمنون؛ وذلك بدلالة الالتزام؛ لأن كل مؤمن يجب أن ينتصر لله، ورسوله؛ فالمؤمنون هم حزب الله عز وجل ورسوله.
3 - ومن فوائد الآية: عظم الربا لعظم عقوبته؛ وإنما كان بهذه المثابة ردعاً لمتعاطيه عن الاستمرار فيه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه جاء في الوعيد على الربا ما لم يأت على ذنب دون الشرك؛ ولهذا جاء في الحديث الذي طرقه متعددة: «إن الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه»(1)؛ وهذا كلٌّ يستبشعه؛ فالربا ليس بالأمر الهين؛ والمؤمن ترتعد فرائصه إذا سمع مثل هذه الآية.
4 - ومنها: أنه يجب على كل من تاب إلى الله عز وجل من الربا ألا يأخذ شيئاً مما استفاده من الربا؛ لقوله تعالى: { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم }.
5 - ومنها: أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رأس المال من الربا لأيّ غرض كان؛ سواء أخذه ليتصدق به، أو ليصرفه في وجوه البر تخلصاً منه، أو لغير ذلك؛ لأن الله أمر بتركه؛ ولو كان هنا طريق يمكن صرفه فيه لبينه الله عز وجل.(10/306)
6 - ومنها: الإشارة إلى الحكمة من تحريم الربا - وهي الظلم؛ لقوله تعالى: { لا تظلمون ولا تظلمون }.
فإن قال قائل: إن بعض صور الربا ليس فيه ظلم، مثل أن يشتري صاعاً من البر الجيد بصاعين من الرديء يساويانه في القيمة؛ فإنه لا ظلم في هذه الصورة؛ قلنا: إن العلة إذا كانت منتشرة لا يمكن ضبطها فإن الحكم لا ينتقض بفقدها؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي إليه بتمر جيد فسأل: «من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديّ فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوَّه أوَّه! عين الربا عين الربا لا تفعل»(2)؛ ثم أرشدهم إلى أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم؛ ويشتروا بالدراهم تمراً جيداً؛ فدل هذا على أن تخلف الظلم في بعض صور الربا لا يخرجه عن الحكم العام للربا؛ لأن هذه العلة منتشرة لا يمكن ضبطها؛ ولهذا أمثلة كثيرة؛ ودائماً نجد في كلام أهل العلم أن العلة إذا كانت منتشرة غير منضبطة فإن الحكم يعم، ولا ينظر للعلة.
7 - ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { ورسوله }.
8 - ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد، حيث أرسل إليهم الرسل؛ لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما ينفعها، ويضرها على وجه التفصيل لقصورها؛ إنما تعرفه على سبيل الجملة؛ لقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] ؛ فمن أجل ذلك أرسل الله الرسل؛ فكان في هذا رحمة عظيمة للخلق.
9 - ومنها: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعض؛ لقوله تعالى: { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }.
القرآن
)وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280)
التفسير:(10/307)
{ 280 } قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة } { كان } تامة تكتفي بمرفوعها؛ و{ ذو } فاعل رفعت بالواو؛ لأنها من الأسماء الستة؛ والجملة شرطية؛ والجواب: جملة: { فنظرة إلى ميسرة }.
قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } جملة شرطية نقول في إعرابها ما سبق في قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }.
أما القراءات في هذه الآية: قوله تعالى: { ميسرة } فيها قراءتان: { ميسَرة } بفتح السين؛ و{ ميسُرة } بضمها؛ و{ تصدقوا } فيها قراءتان: { تصَدَّقوا } بتخفيف الصاد؛ و{ تَصَّدَّقوا } بتشديدها؛ أي تتصدقوا؛ لكن أدغمت التاء في الصاد.
قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة } أي إن وجِد ذو عسرة؛ أي صاحب إعسار لا يستطيع الوفاء؛ والجملة شرطية؛ وجواب الشرط قوله تعالى: { فنظرة إلى ميسرة }؛ ويجوز في «نظرة» في إعرابها وجهان؛ أحدهما: أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليكم نظرة؛ أو فله نظرة؛ وأما أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عليه نظرة؛ أي إنظار إلى ميسرة؛ أي: إيسار.
قوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم } أي تُبرءوا المعسر في دينه؛ و{ أن } وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ خبره قوله تعالى: { خير لكم } أي من إنظاره.
قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } هذه الجملة الشرطية مستقلة يراد بها الحث على العلم؛ «مستقلة» أي أنها لا توصل بما قبلها؛ لأنها لو وصلت بما قبلها لأوهم معنًى فاسداً: أوهم أن التصدق خير لنا إن كنا نعلم؛ فإن لم نكن نعلم فليس خيراً لنا؛ ولا شك أن هذا معنًى فاسد لا يراد بالآية؛ لكن المعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافعلوا - أي تصدقوا.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: ثبوت رحمة الله عز وجل؛ وجه ذلك أنه أوجب على الدائن إنظار المدين؛ وهذا رحمة بالمعسر.(10/308)
2 - ومنها: حكمة الله عز وجل بانقسام الناس إلى موسر، ومعسر؛ الموسر في الآية: الدائن؛ والمعسر: المدين؛ وحكمة الله عز وجل هذه لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا بها، ولذلك بدأ الشيوعيون - الذين يريدون أن يساووا بين الناس - يتراجعون الآن؛ لأنهم عرفوا أنه لا يمكن أن يصلح العباد إلا هذا الخلاف؛ قال عز وجل: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} [الزخرف: 32] ؛ ولولا هذا الاختلاف لم يمكن أن يسخر لنا أحد ليعمل ما نريد؛ لأن كل واحد ندّ للآخر؛ فلا يمكن إصلاح الخلق إلا بما تقتضيه حكمة الله عز وجل، وشرعه من التفاوت بينهم: فهذا موسر؛ وهذا فقير؛ حتى يتبين بذلك حكمة الله عز وجل، وتقوم أحوال العباد.
3 - ومن فوائد الآية: وجوب إنظار المعسر - أي إمهاله حتى يوسر؛ لقوله تعالى: { فنظرة إلى ميسرة }؛ فلا تجوز مطالبته بالدَّين؛ ولا طلب الدَّين منه.
4 - ومنها: أن الحكم يدور مع علته وجوداً، وعدماً؛ لأنه لما كان وجوب الإنظار معللًا بالإعسار صار مستمراً إلى أن تزول العلة - وهي العسرة - حتى تجوز مطالبته.
ولو أن الناس مشوا على تقوى الله عز وجل في هذا الباب لسلمت أحوال الناس من المشاكل؛ لكن نجد الغني يماطل: يأتيه صاحب الحق يقول: اقضني حقي؛ فيقول: غداً؛ ويأتيه غداً فيقول: بعد غد؛ وهكذا؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم»(1)؛ ونجد أولئك القوم الأشحاء ذوي الطمع لا يُنظرون المعسر، ولا يرحمونه؛ يقول له: أعطني؛ وإلا فالحبس؛ ويحبس فعلاً - وإن كان لا يجوز حبسه إذا تيقنا أنه معسر، ولا مطالبته، ولا طلب الدين؛ بل يعزر الدائن إذا ألح عليه في الطلب وهو معسر؛ لأن طلبه مع الإعسار معصية؛ والتعزير عند أهل العلم واجب في كل معصية لا حدّ فيها، ولا كفارة.(10/309)
5 - ومن فوائد الآية: فضيلة الإبراء من الدَّين، وأنه صدقة؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ والإبراء سنة؛ والإنظار واجب؛ وهنا السنة أفضل من الواجب بنص القرآن؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ ووجه ذلك أن الواجب ينتظم في السنة؛ لأن إبراء المعسر من الدَّين إنظار، وزيادة؛ وعلى هذا فيبطل إلغاز من ألغز بهذه المسألة، وقال: «لنا سنة أفضل من الواجب»، ومثل ذلك قول بعضهم في الوضوء ثلاثاً: «إنه أفضل من الوضوء واحدة مع أن الواحدة واجب، والثلاث سنة»؛ فيُلغِز بذلك، ويقول: «هنا سنة أفضل من واجب»؛ فيقال له: هذا إلغاز باطل؛ لأن هذه السنة مشتملة على الواجب؛ فهي واجب، وزيادة؛ وصدق الله، حيث قال في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه»(2)؛ وهذا الحديث يبطل مثل هذه الألغاز التافهة.
6 - ومن فوائد الآية: تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل، وأن العاملين بعضهم أفضل من بعض؛ وهذا أمر معلوم بالضرورة الشرعية والعقلية أن العمال يختلفون، كما قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95] ، وكما قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] .
ويتفرع على تفاضل العمال بتفاضل الأعمال: تفاضل الإيمان، لأن الأعمال من الإيمان عند أهل السنة، والجماعة؛ فإذا تفاضلت لزم من ذلك تفاضل الإيمان؛ ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
7 - ومن فوائد الآية: فضيلة العلم، وأن العلم يهدي صاحبه إلى الخير؛ لقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }.(10/310)
8 - وهل يستفاد من الآية الكريمة: أن إبراء الغريم يجزئ من الزكاة: فلو أن إنساناً أبرأ فقيراً، ثم قال: أبرأته عن زكاتي؛ لأن الله سمى الزكاة صدقة؛ فقال تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين... }؟
فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267] ؛ وجعْل الدَّين زكاة للعين هذا من تيمم الخبيث لإخراجه عن الطيب؛ والمراد بالخبيث هنا الرديء - وليس الحرام؛ لأن العين مُلك قائم بيد المالك يتصرف فيه كيف يشاء؛ والدَّين الذي على معسر مال تالف؛ لأن الأصل بقاء الإعسار؛ وحينئذٍ يكون هذا الدَّين بمنزلة المال التالف؛ فلا يصح أن يجعل هذا المال التالف زكاة عن العين؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن إبراء الغريم المعسر لا يجزئ من الزكاة بلا نزاع؛ ولو قلنا: يجزئ لكان كل إنسان له غرماء لا يستطيعون الوفاء يقول: أبرأتكم ونويتها من الزكاة؛ فتبقى الأموال عنده، والديون التالفة الهالكة التي لا يرجى حصولها تكون هي الزكاة؛ وهذا لا يجوز؛ ولهذا لو خيرت شخصاً، وقلت له: أنا أعطيك عشرة ريالات نقداً، أو أحولك على إنسان فقير معسر عنده العشرة فإنه يختار العشرة نقداً؛ ولا يتردد؛ بل لو خيرته بين عشرة نقداً، وعشرين في ذمة معسر لاختار العشرة؛ فصارت العشرة المنقودة بالنسبة للدَّين من باب الطيب؛ وذاك من باب الرديء؛ وبهذا يتبين أنه لا يجزئ إبراء المدين المعسر عن زكاة مال بيد مالكه؛ لأنه من باب تيمم الخبيث؛ إذاً نقول: لا يجوز إبراء الفقير، واحتساب ذلك من الزكاة؛ نعم لو فرض أنه سيجعلها زكاة عن الدَّين الذي في ذمة المعسر - إذا قلنا بوجوب الزكاة في الدَّين - لكان ذلك مجزئاً؛ لأن هذا صار من جنس المال الذي أديت الزكاة عنه.
الخلاصة:(10/311)
تبين مما ذكر من الآيتين أن المعاملة بالدَّين ثلاثة أقسام:
الأول: أن يأخذ به رباً؛ وهذا محرم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278] .
الثاني: أن يكون المدين معسراً؛ فلا تجوز مطالبته، ولا طلب الدّين منه حتى يوسر؛ لقوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }.
الثالث: أن يبرئ المعسر من دينه؛ وهذا أعلى الأقسام؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }.
تتمة:
في هذه الآية وجوب الإنظار إلى ميسرة؛ ومن المعلوم أن حصول الميسرة مجهول؛ وهذا لا يضر؛ لأنه ليس من باب المعاوضة؛ ولكن لو اشترى فقير من شخص، وجعل الوفاء مقيداً بالميسرة فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان؛ فأكثر العلماء على عدم الجواز لأن الأجل مجهول؛ فيكون من باب الغرر المنهي عنه؛ والقول الثاني: أن ذلك جائز لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي (ص): «قدم لفلان اليهودي بزّ من الشأم لو أرسلت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة؛ فأرسل إليه فامتنع»(1)؛ ولأن هذا مقتضى العقد إذا علم البائع بإعسار المشتري؛ إذ لا يحلّ له حينئذٍ أن يطلب منه الثمن حتى يوسر؛ وهذا القول هو الراجح.
القرآن
)وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)
التفسير:
{ 281 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتقوا عذاب يوم؛ أي احذروه؛ والمراد به يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { ترجعون فيه إلى الله }؛ وعلى هذا تكون { يوماً } منصوبة على المفعولية؛ لأن الفعل وقع عليها - لا فيها.
قوله تعالى: { ترجعون } صفة لـ { يوماً }؛ لأنه نكرة؛ والجمل بعد النكرات صفات؛ وهي بضم التاء، وفتح الجيم على أنه مبني لما لم يسم فاعله؛ وفي قراءة بفتح التاء، وكسر الجيم على أنه مبني للفاعل.(10/312)
قوله تعالى: { ثم توفى كل نفس } أي تعطى؛ والتوفية بمعنى الاستيفاء؛ وهو أخذ الحق ممن هو عليه؛ فـ { توفى كل نفس } أي تعطى ثوابها، وأجرها المكتوب لها - إن كان عملها صالحاً؛ أو تعطى العقاب على عملها - إن كان عملها سيئاً.
قوله تعالى: { ما كسبت } أي ما حصلت عليه من ثواب الحسنات، وعقوبة السيئات.
قوله تعالى: { وهم لا يظلمون } جملة استئنافية؛ ويحتمل أن تكون جملة حالية؛ لكن الأول أظهر؛ والمعنى: لا ينقصون شيئاً من ثواب الحسنات،ولا يزاد عليهم شيئاً من عقوبة السيئات.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب اتقاء هذا اليوم الذي هو يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }؛ واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.
2 - ومنها: أن التقوى قد تضاف لغير الله - لكن إذا لم تكن على وجه العبادة؛ فيقال: اتق فلاناً، أو: اتق كذا؛ وهذا في القرآن والسنة كثير؛ قال الله سبحانه وتعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 130، 131] ؛ لكن فرق بين التقويين؛ التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، وخضوع؛ والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم، أو عذاب النار؛ وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق دعوة المظلوم»(1)؛ فأضاف «التقوى» هنا إلى «دعوة المظلوم» ؛ واشتهر بين الناس: اتق شر من أحسنت إليه؛ لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله عز وجل؛ بل هي بمعنى الحذر.
3 - ومن فوائد الآية: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: {ترجعون فيه إلى الله} .
4 - ومنها: أن مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً، وتقديراً، وجزاءً؛ فالمرجع كله إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] ، وقال تعالى: {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8] ، أي في كل شيء.(10/313)
5 - ومنها: إثبات قدرة الله عز وجل؛ وذلك بالبعث؛ فإن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد أن كانوا رميماً، وتراباً.
6 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً }؛ لأن توجيه الأمر إلى العبد إذا كان مجبراً من تكليف ما لا يطاق.
7 - ومنها: أن الإنسان لا يوفى يوم القيامة إلا عمله؛ لقوله تعالى: { ثم توفى كل نفس ما كسبت }؛ واستدل بعض العلماء على أنه لا يجوز إهداء القرب من الإنسان إلى غيره؛ أي أنك لو عملت عملاً صالحاً لشخص معين؛ فإن ذلك لا ينفعه، ولا يستفيد منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: { توفى كل نفس ما كسبت }؛ لا ما كسب غيرها؛ فما كسبه غيره فهو له؛ واستثني من ذلك ما دلت السنة على الانتفاع به من الغير كالصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»(2)؛ والحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استفتته أن تحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة قالت: أفأحج عنه قال: «نعم»(1)؛ وكذلك المرأة التي استفتته أن تحج عن أمها التي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت قالت: أفأحج عنها قال صلى الله عليه وسلم: «نعم»(2)؛ وكذلك الصدقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استفتاه أن يتصدق عن أمه: «نعم»(3)؛ وأذن لسعد بن عبادة أن يتصدق بمخرافه عن أمه(4)؛ وأما الدعاء للغير إذا كان المدعو له مسلماً فإنه ينتفع به بالنص، والإجماع؛ أما النص ففي الكتاب، والسنة؛ أما الكتاب ففي قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] ؛ وأما السنة ففي قوله (ص): «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه»(5)، وكان (ص) إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل»(6)؛ وأما الإجماع: فإن المسلمين كلهم يصلون على الأموات، ويقولون في(10/314)
الصلاة: «اللهم اغفر له، وارحمه»؛ فهم مجمعون على أنه ينتفع بذلك.
والخلاف في انتفاع الميت بالعمل الصالح من غيره فيما عدا ما جاءت به السنة معروف؛ وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن أيّ قربة فعلها، وجعل ثوابها لميت مسلم قريب، أو بعيد نفعه ذلك؛ ومع هذا فالدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه؛ لأنه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(7)؛ ولم يذكر العمل مع أن الحديث في سياق العمل.
وأما ما استدل به المانعون من إهداء القرب من مثل قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 3] فإنه لا يدل على المنع؛ بل على أن سعي الإنسان ثابت له؛ وليس له من سعي غيره شيء إلا أن يجعل ذلك له؛ ونظير هذا أن تقول: «ليس لك إلا مالك»، فإنه لا يمنع أن يقبل ما تبرع به غيره من المال.
وأما الاقتصار على ما ورد فيقال: إن ما وردت قضايا أعيان؛ لو كانت أقوالاً من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا: نعم، نتقيد بها؛ لكنها قضايا أعيان: جاءوا يسألون قالوا: فعلت كذا، قال: نعم، يجزئ؛ وهذا مما يدل على أن العمل الصالح من الغير يصل إلى من أُهدي له؛ لأننا لا ندري لو جاء رجل وقال: يا رسول الله، صليت ركعتين لأمي، أو لأبي، أو لأخي أفيجزئ ذلك عنه، أو يصل إليه ثوابه لا ندري ماذا يكون الجواب؛ ونتوقع أن يكون الجواب: «نعم»؛ أما لو كانت هذه أقوال بأن قال: «من تصدق لأمه أو لأبيه فإنه ينفعه»، أو ما أشبه ذلك لقلنا: إن هذا قول، ونقتصر عليه.
8 - ومن فوائد الآية: أن الصغير يكتب له الثواب؛ وذلك لعموم قوله تعالى: { ثم توفى كل نفس }.
فإن قال قائل: وهل يعاقب على السيئات.
فالجواب: «لا»؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة...» ، وذكر منها: «الصغير حتى يحتلم»(8)؛ ولأنه ليس له قصد تام لعدم رشده؛ فيشبه البالغ إذا أخطأ، أو نسي.(10/315)
القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)
التفسير:
هذه الآية الكريمة أطول آية في كتاب الله؛ وهي في المعاملات بين الخلق؛ وأقصر آية في كتاب الله قوله تعالى: {ثم نظر} [المدثر: 21] ؛ لأنها ستة أحرف؛ وأجمع آية للحروف الهجائية كلها آيتان في القرآن فقط؛ إحداهما: قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً} [آل عمران: 154] الآية؛ والثانية قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه...} [الفتح: 29] الآية؛ فقد اشتملت كل واحدة منهما على جميع الحروف الهجائية.(10/316)
{ 282 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ سبق الكلام على مثل هذه العبارة.
قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين } أي إذا داين بعضكم بعضاً؛ و «الدين» كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع، أو أجرة، أو صداق، أو قرض، أو غير ذلك.
قوله تعالى: { إلى أجل مسمى } أي إلى مدة محدودة { فاكتبوه } أي اكتبوا الدين المؤجل إلى أجله؛ والفاء هنا رابطة لجواب الشرط في { إذا }.
قوله تعالى: { وليكتب } للام للأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الواو؛ وهي تسكن إذا وقعت بعد الواو، كما هنا؛ وبعد «ثم». والفاء، كما في قوله تعالى: {ثم ليقطع فلينظر} [الحج: 15] بخلاف لام التعليل؛ فإنها مكسورة بكل حال؛ و{ بينكم } أي في قضيتكم؛ و{ كاتب } نكرة يشمل أيّ كاتب؛ { بالعدل } أي بالاستقامة - وهو ضد الجور؛ والمراد به ما طابق الشرع؛ وهو متعلق بقوله تعالى: { ليكتب }.
قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب }، أي لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك.
قوله تعالى: { كما علمه الله } يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه؛ ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
قوله تعالى: { فليكتب }؛ الفاء للتفريع: واللام لام الأمر؛ ولكنها سكنت؛ لأنها وقعت بعد الفاء؛ وموضع: {فليكتب } مما قبلها في المعنى قال بعض العلماء: إنها من التوكيد؛ لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة؛ فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح.(10/317)
قوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق } أي يملي؛ وهما لغتان فصيحتان؛ فـ «الإملال» و«الإملاء» بمعنًى واحد؛ فتقول: «أمليت عليه»؛ و«أمللت عليه» لغة عربية فصحى - وهي في القرآن.
قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ لما أمر الله عز وجل بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً، ونهياً؛ الأمر: { وليتق الله ربه } يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: { ولا يبخس منه شيئاً } أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.
قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً }، أي لا يحسن التصرف؛ { أو ضعيفاً }؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون، أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ { أو لا يستطيع أن يمل هو} أي لا يقدر أن يملي لخرس، أو غيره؛ وقوله تعالى: { أن يمل } مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: { هو } للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في { يمل }.
قوله تعالى: { فليملل }: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ { وليه } أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.
قوله تعالى: { بالعدل } متعلق بقوله تعالى: { فليملل } يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و «العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد، ولا ينقص.
قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم }، أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.
وقوله تعالى: { من رجالكم } الخطاب للمؤمنين.
قوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.(10/318)
وقوله تعالى: { فرجل وامرأتان }: الجملة جواب الشرط في قوله تعالى: { فإن لم يكونا... }؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و «رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.
وقوله تعالى: { فرجل } أي فذَكَر بالغ؛ و{ امرأتان } أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.
قوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء }: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله تعالى: { ترضون } موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود - أي الرجل والمرأتان - ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب»(1)؛ إذاً العبرة بالرضى عند عموم الناس؛ لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.
وقوله تعالى: { من الشهداء }: بيان لـ «مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.
قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة { أنْ }؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله تعالى: { فتذكر }: تخفيف الكاف: { فتذْكِرَ }، وتشديدها: { فتذَكِّرَ }؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة { إن } مع ضم الراء في قوله تعالى: { فتذكِّرُ }، وتشديد الكاف.(10/319)
وقوله تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى } من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي؛ ومن غرائب التفسير أن بعضهم قال: { فتذكر } معناه تجعلها بمنزلة الذَّكَر - لا سيما على قراءة التخفيف؛ أي تكون المرأتان كالذَّكَر؛ وهذا غريب؛ لأنه لا يستقيم مع قوله تعالى: { أن تضل إحداهما } فالذي يقابل الضلال بمعنى النسيان: التذكير - أي تنبيه الإنسان على نسيانه.
وفي قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى }: لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.
قوله تعالى: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، أو أدائها؛ و{ ما } هذه زائدة لوقوعها بعد { إذا }؛ وفيها بيت مشهور يقول فيه:
يا طالباً خذ فائدة ما بعد إذا زائدة واستعمالات «ما» عشر؛ هي كما جاءت في بيت من الشعر:
محامل «ما» عشر إذا رمت عدّها فحافظ على بيت سليم من الشعر ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها بكفّ ونفي زيد تعظيم مصدر ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في القرآن شيء زائد بمعنى أنه لا معنى له؛ بل زائد إعراباً فقط؛ أما في المعنى فليس بزائد.
قوله تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله }، أي لا تمَلّوا أن تكتبوا الدَّين صغيراً كان أو كبيراً إلى أجله المسمى.
قوله تعالى: { ذلكم } المشار إليه كل ما سبق من الأحكام؛ { أقسط عند الله } أي أقوم، وأعدل؛ { وأقوم للشهادة } أي أقرب إلى إقامتها؛ { وأدنى ألا ترتابوا } أي أقرب إلى انتفاء الريبة عندكم.(10/320)
قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم }: فيها قراءتان؛ إحداهما بنصب { تجارةً }، و{ حاضرةً }؛ والثانية برفعهما؛ على الأول اسم { تكون } مستتر؛ والتقدير: إلا أن تكون الصفقة تجارة حاضرة؛ وجملة: { تديرونها } صفة ثانية لـ { تجارة }؛ أما على قراءة الرفع فإن { تجارة } اسم { تكون }؛ و{ حاضرة } صفة؛ وجملة: { تديرونها } خبر { تكون }.
والتجارة هي كل صفقة يراد بها الربح؛ فتشمل البيع، والشراء، وعقود الإجارات؛ ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الإيمان، والجهاد في سبيله تجارة، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] .
وأما قوله تعالى: { حاضرة } فهي ضد قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين }؛ فالحاضر ما سوى الدَّين.
و قوله تعالى: { تديرونها } أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته، والآخر يأخذ الثمن، وهكذا.
قوله تعالى: { فليس عليكم جناح }: الفاء عاطفة، أو للتفريع؛ يعني ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها؛ والضمير في قوله تعالى: { تكتبوه } يعود على التجارة؛ فهذه التجارة المتداولة بين الناس ليس على الإنسان جناح إذا لم يكتبها؛ لأن الخطأ فيها، والنسيان بعيد؛ إذ إنها حاضرة تدار، ويتعاطاها الناس بخلاف المؤجلة.
قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } أي باع بعضكم على بعض.
قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }؛ مأخوذة من: الإضرار؛ يحتمل أن تكون مبنية للفاعل؛ فيكون أصلها «يضارِر» بكسر الراء الأولى؛ أو للمفعول؛ فيكون أصلها «يضارَر» بفتحها؛ ويختلف إعراب { كاتب }، و{ شهيد } بحسب بناء الفعل؛ فإن كانت مبنية للفاعل فـ { كاتب } فاعل؛ وإن كانت للمفعول فـ { كاتب } نائب فاعل؛ وهذا من بلاغة القرآن تأتي الكلمة صالحة لوجهين لا ينافي أحدهما الآخر.(10/321)
قوله تعالى: { وإن تفعلوا } أي يضار الكاتب، أو الشهيد - على الوجهين { فإنه } أي الفعل - وهو المضارة؛ { فسوق بكم } أي خروج بكم عن طاعة الله إلى معصيته؛ وأصل «الفسق» في اللغة الخروج؛ ومنه قولهم: فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها.
قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
قوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ الواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على { اتقوا الله }؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى، وعدمها - وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.
قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم } يشمل كل ما في السماء، والأرض.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.
2 - ومنها: أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.
3 - ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: { يا أيها الذين آمنوا } لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.
4 - ومنها: بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات - التي هي معاملة الخالق - فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.
5 - ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله عز وجل، وبالأحوال الشخصية، كالمواريث، وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر، والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.(10/322)
فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»(1)؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة».
فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء!!! أما الأحكام - الحلال، والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما يحتاج الإنسان إليه.
6 - ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله تعالى: { تداينتم بدين } سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.
7 - ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى؛ ومؤجل بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛ لقوله تعالى: { بدين إلى أجل مسمى }؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله تعالى: { مسمى } - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»(2)؛ والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.(10/323)
8 - ومن فوائد الآية: جواز السلم - وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مائة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن، وقدمه.
9 - ومنها: وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله تعالى: { فاكتبوه }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آخر الآية: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة - أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] ؛ وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.
10 - ومنها: حضور كل من الدائن، والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: { بينكم }؛ ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.
11 - ومنها: أنه لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب }.
12 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و«العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .
ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.
13 - ومنها: أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله تعالى: { كاتب بالعدل }؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.
14 - ومنها: تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى { فليكتب } - هذا ظاهر الآية - ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.(10/324)
15 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }.
16 - ومنها: تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل.
فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.
17 - ومنها: أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله عز وجل.
18 - ومنها: مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله تعالى: { فليكتب }.
19 - ومنها: أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لقوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق }؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.
لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟!
فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }.
20 - ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يؤخذ من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] ؛ وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.
21 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عز وجل على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }.(10/325)
22 - ومنها: أنه ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب عز وجل خالق مالك مدبر.
23 - ومنها: أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛ لقوله تعالى: { ولا يبخس منه شيئاً }.
24 - ومنها: أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل }.
25 - ومنها: أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ السفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس، أو عييّ، أو نحو ذلك.
26 - ومنها: قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله تعالى: { فليملل وليه }.
27 - ومنها: وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله تعالى: { بالعدل }؛ فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.
28 - ومنها: طلب الإشهاد على الحق.
29 - ومنها: أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة - وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.
30 - ومنها: أنه لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.
31 - ومنها: قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.
32 - ومنها: جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }؛ فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.
33 - ومنها: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:(10/326)
الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.
الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] .
34 - ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أو كبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.
35 - ومنها: أنه إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله تعالى: { إلى أجله }.
36 - ومنها: أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:
الأولى: أنه أقسط عند الله - أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.
الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.
الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.
37 - ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ ويؤيد هذا قوله (صلى الله عليه وسلم): «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»(1).
38 - ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: { وأقوم للشهادة }. فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأن الشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.
39 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب، وشك؛ لقوله تعالى: { وأدنى ألا ترتابوا }.(10/327)
ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان، وسكون.
ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري، أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه.
ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه»(2)؛ لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري؛ لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.
40 - ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة }؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذاً هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.
41 - ومنها: أن التجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.
42 - ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: { تديرونها بينكم }؛ فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار - يعني يتداول؛ ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي، فيبيعون عليه.(10/328)
43 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}.
44 - ومنها: الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى، ولم يُشهِد(1)؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج، والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛ اللهم إلا أن يكون التصرف للغير، كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.
45 - ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم، ولا يتأخر؛ لقوله تعالى: { إذا تبايعتم }؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.
46 - ومنها: تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد: سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.
47 - ومنها: أن المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما، فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً - على حسب الحال - إن كان في الهجر إصلاح له.
فإن قال قائل: أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه، أو كان كبيرة؟.
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم، ولا يُحكَم عليه.(10/329)
48 - ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال تعالى: { فإنه فسوق بكم }؛ ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار، كما قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 18 - 20] .
49 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
50 - ومنها: امتنان الله عز وجل على عباده بالتعليم، حيث قال تعالى: { ويعلمكم الله }.
51 - ومنها: أن الدِّين الإسلامي شامل للأحكام المتعلقة بعبادة الله عز وجل، والمتعلقة بمعاملة عباد الله؛ لأنه بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات قال تعالى: { ويعلمكم الله }؛ فيكون في ذلك إبطال لزعم من زعم أن الدين الاسلامي في إصلاح ما بين العبد وبين ربه؛ ولا علاقة له بالمعاملة بين الناس.
52 - ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل: 78] .
53 - ومنها: ثبوت صفة العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ لأن المعلم عالم.(10/330)
54 - ومنها: أن العلم من منة الله عز وجل على عباده؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }، وكما قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164] ؛ ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] ؛ والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد؛ ثم الجهاد بالسلاح لا يكون إلا للكافر المعلن كفره، ولا يكون للمنافق؛ والجهاد بالعلم يكون لهذا، ولهذا - للمنافق، وللكافر المعلن بكفره؛ والعلم أفضل بكثير من المال؛ والعلم جهاد في سبيل الله - ولا سيما في وقتنا الحاضر؛ فإن الناس قد انفتح بعضهم على بعض، واختلط بعضهم ببعض، وصاروا يأخذون الثقافات من يمين ويسار، واحتاج الناس الآن للعلم الراسخ المبني على الكتاب والسنة حتى لا يقع الناس في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لذلك تجد رجلاً يمر به حديث، أو حديثان، ثم يقال: أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا! من ينال مرتبتي! أنا الذي أفتي بعشرة مذاهب! ثم مع ذلك يندد بمن خالفه - ولو كان من كبار العلماء؛ وربما يضخم الخطأ الذي يقع منه - ولو كان ممن يشار إليه بالفضل، والعلم، والدِّين؛ وهذه خطيرة جداً؛ لأن العامي وإن كان وثق بشخص لا يهمه هذا الكلام؛ لكن كلما كرر الضرب على الحديد لابد أن يتأثر؛ لذلك نرى أن طلب العلم من أهم الأمور خصوصاً في هذا الوقت.(10/331)
55 - ومن فوائد الآية: إثبات هذا الاسم من أسماء الله - وهو { عليم }؛ وإثبات ما دلّ عليه من الصفة - وهي العلم.
56 - ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }.
57 - ومنها: الرد على القدرية سواء الغلاة منهم، أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع؛ يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل - وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم - وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ وجه ذلك ما قاله الشافعي - رحمه الله: «ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا»؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله عز وجل؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إنكار لعلمه؛ وإن كان على وفقه فلا بد أن تكون مرادة له؛ لأنه أراد أن تقع على حسب علمه.
القرآن
)وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة:283)
التفسير:(10/332)
{ 283 } قوله تعالى: { وإن كنتم على سفر } أي مسافرين؛ وذلك كقوله تعالى في آية الصيام: {ومن كان مريضاً أو على سفر} [البقرة: 185] ؛ وأتى بكلمة: { على } لتحقق هذا الأمر - وهو السفر؛ لأن { على } تدل على الاستعلاء؛ فكأنه متمكن من السفر، كالراكب على الراحلة؛ و «السفر» مفارقة الوطن؛ وبعضهم قال: مفارقة محل الإقامة؛ لأن الإنسان قد لا يستوطن؛ ولكن يقيم دائماً؛ والمفارقة قد تكون طويلة - ويسمى سفراً طويلاً؛ وقد تكون قصيرة - ويسمى سفراً قصيراً.
قوله تعالى: { ولم تجدوا كاتباً } أي يكتب بينكم؛ وهذا كما سبق يحتاج إليه فيما إذا تداينا بدين إلى أجل مسمى؛ فيكون المعنى: إن كنتم على سفر، وتداينتم بدَين إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً { فرهان مقبوضة}.
قوله تعالى: { فرهان مقبوضة } فيها قراءاتان؛ لقراءة الأولى: { فرِهان } بكسر الراء، ومدّ الهاء؛ والثانية: { فرُهُن } بضم الراء، والهاء بدون مدّ؛ ولهذا تكتب بالألف في خط المصحف لكي تصلح للقراءتين؛ ومعنى { فرهان } أي فعليكم رهن؛ أو فالوثيقة رهن - أو رهان؛ وعلى هذا فتكون إما مبتدأ خبره محذوف؛ وإما خبر مبتدأ محذوف؛ والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية؛ وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية فإنه يقترن بالفاء وجوباً؛ ولا تحذف إلا شذوذاً، أو اضطراراً؛ ومن حذفها قول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ........ ولم يقل: فالله يشكرها؛ ولكن هذا على سبيل الضرورة، أو الندرة، والشذوذ.(10/333)
و «الرهان» جمع رهْن؛ و«الرهن» في اللغة الحبس؛ ومنه قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] أي محبوسة بما عملت؛ ولكنه في اصطلاح الفقهاء: توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه، أو بعضِهِ منها، أو من بعضها، مثل ذلك: زيد مدين لعمرو بعشرة آلاف ريال، فأرهنه سيارة تساوي عشرين ألف ريال؛ هنا يمكن استيفاء الدَّين من بعضه؛ لأن الرهن أكثر من الدَّين؛ مثال آخر: زيد مدين لعمرو بعشرين ألف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء بعضه منها؛ لأن الدَّين أكثر من الرهن؛ فإذا كان الدَّين مساوياً للرهن، كما لو كان دينه عشرة آلاف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء الدَّين كله من كل الرهن.
وقوله تعالى: { مقبوضة } أي يقبضها من يتوثق بها - وهو الطالب - من المطلوب الذي هو الراهن؛ والطالب الذي قبض الرهن يسمى مرتهناً؛ فهنا راهن، ومرتهن، ورهن، ومرهون به؛ فالرهن: العين؛ والراهن: معطي الرهن؛ والمرتهن؛ آخذ الرهن؛ والمرهون به: الدين؛ فأركان الرهن أربعة.
ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض؛ فيرجع في ذلك إلى العرف؛ ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان، وتحت سيطرته.
قوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً } أي اتخذه أميناً؛ بمعنى أنه وثق منه أن لا ينكر، ولا يبخس، ولا يغير؛ والجملة شرطية جوابها قوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ والفاء في { فليؤد } رابطة لجواب الشرط؛ وهو قوله تعالى: { إن أمن... }؛ وجاءت الفاء رابطة مع أن جواب الشرط فعل مضارع؛ لأنه مقترن بلام الأمر الدالة على الطلب؛ ومتى كانت الجملة الجزائية طلبية وجب اقترانها بالفاء؛ واللام هنا جاءت ساكنة لوقوعها بعد الفاء؛ ولام الأمر تقع ساكنة إذا وقعت بعد الفاء، أو الواو، أو «ثم»؛ بخلاف لام التعليل فإنها تكون مكسورة على كل حال؛ و{ اؤتمن } فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله؛ و{ أمانته } أي ما ائتمن عليه.(10/334)
قوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ «يتق» مجزومة بحذف حرف العلة - وهو الياء؛ والكسرة دليل عليها - وهنا أردف الاسم الأعظم: { الله } بقوله تعالى: { ربه } تحذيراً من المخالفة؛ لأن «الرب» هو الخالق المالك المدبر؛ فاخشَ هذا الرب الذي هو إلهك أن تخالف تقواه.
قوله تعالى: { ولا تكتموا الشهادة }؛ { لا } ناهية؛ و «الكتمان» الإخفاء؛ و «الشهادة» ما شهد به الإنسان؛ أي لا تخفوا ما شهدتم به لا في أصله، ولا في وصفه؛ في أصله بأن ينكر الشهادة رأساً؛ وفي وصفه بأن يزيد فيها، أو ينقص.
قوله تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي من يخفيها أصلاً، أو وصفاً، فقد وقع قلبه في الإثم؛ وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفيّ؛ فالإنسان قد يكتمها، ولا يُعْلَم بها؛ فالأمر هنا راجع إلى القلب؛ ولأن القلب عليه مدار الصلاح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(1).
قوله تعالى: { والله بما تعملون عليم }؛ «ما» هذه موصولة تفيد العموم، وتشمل كل ما يعمله الإنسان من خير أو شر في القلب، أو في الجوارح؛ وقَدّم { بما تعملون } على متعلّقها لقوة التحذير، وشدته؛ فكأنه حصر علمه فيما نعمل؛ فيكون هذا أشد في بيان إحاطته بما نعمل؛ فيتضمن قوة التحذير؛ وليس مقتضاه حصر العلم على ما نعمل فقط.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض.
2 - ومنها: عناية الله عز وجل بحفظ أموال عباده؛ يعني أنه سبحانه وتعالى ذكر حتى هذه الصورة: أن الإنسان إذا داين غيره، ولم يجد كاتباً فإنه يرتهن رهناً حفظاً لماله، وخوفاً من النزاع، والشقاق في المستقبل.(10/335)
3 - ومنها: جواز الرهن؛ لقوله تعالى: { فرهان }؛ ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً، أو طويلًا؛ وبألا نجد كاتباً؛ فهل هذا الشرط معتبر؟ الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله، ورهن درعه عند يهودي حتى مات(1)؛ وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب.
فإذا قال قائل: إذا كان الأمر هكذا فما الجواب عن الآية؟ فالجواب عن الآية أن الله عز وجل ذكر صورة إذا تعذر فيها الكاتب فإن صاحب الحق يتوثق لحقه بالرهن المقبوض؛ فذكر هذه الصورة لا على أنها شرط للحكم؛ يعني كأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه؛ وإن كنتم في السفر، وليس عندكم كاتب فرهان مقبوضة.
4 - ومن فوائد الآية: أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على لزوم القبض في الرهن؛ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن قبض الرهن شرط لصحته؛ لأن الله جعل القبض وصفاً في الرهن؛ والوصف لازم للموصوف.
والقول الثاني: أن القبض شرط للزوم الرهن - لا لصحته؛ وعلى هذا القول يكون الرهن صحيحاً - وإن لم يُقبَض - لكنه ليس بلازم؛ فللراهن أن يتصرف فيه بما شاء.
والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة، ولا للزوم؛ وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال؛ لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر؛ وليس ثمة كاتب، فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وعليه فالرهن لازم صحيح بمجرد عقده - وإن لم يقبض؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه، أو راهناً سيارته وهو يستعملها؛ ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك.(10/336)
5 - ومن فوائد الآية: أنه إذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن، ولا إشهاد، ولا كتابة؛ لقوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ ولهذ قال كثير من العلماء: إن هذه ناسخة لما سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة }؛ والصحيح أنها ليست ناسخة؛ بل مخصِّصة لما سبق.
6 - ومنها: وجوب أداء الأمانة على من اؤتمن؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فإذا وجب أداء الأمانة حرمت الخيانة.
7 - ومنها: أنه لو تلفت العين بيد الأمين فإنه لا ضمان عليه ما لم يتعد، أو يفرط؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فسماها الله سبحانه وتعالى أمانة؛ والأمين يده غير متعدية؛ فلا يضمن إلا إذا حصل تعدٍّ، أو تفريط؛ ومن التعدي إذا أعطي الإنسانُ أمانة للحفظ تصرف فيها - كما يفعل بعض الناس - ببيع، أو شراء، أو نحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز؛ وإذا أردت أن تفعل فاستأذِن من صاحبها؛ فإن أذن لك صارت عندك قرضاً.
8 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على هذا الذي اؤتمن ألا يغتر بثقة الناس به، فيفرط فيما يجب عليه من أداء الأمانة؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يتقي الله: قال تعالى: { وليتق الله }، وأردفها بقوله تعالى: { ربه }؛ ففيه فائدة - وهي أن الإنسان في هذه المقامات ينظر إلى مقام الربوبية كما ينظر إلى مقام الألوهية؛ فبنظره إلى مقام الألوهية يفعل هذا تعبداً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً له؛ وبنظره إلى مقام الربوبية يحذر المخالفة؛ لأن الرب هو الذي له الخلق، والملك، والتدبير؛ فلا بد أن يقرن الإنسان بين مقام الألوهية، ومقام الربوبية.(10/337)
9 - ومن فوائد الآية: إثبات ما دلّ عليه هذان الاسمان؛ وهما «الله» ، و «الرب» ؛ فالأول فيه إثبات الألوهية؛ والثاني فيه إثبات الربوبية؛ لأن المعبود لابد أن يكون أهلاً للعبادة؛ والرب لابد أن يكون أهلاً للربوبية؛ ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الصفات؛ ولهذا نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ والتوحيدان يستلزمان كمال الأسماء، والصفات؛ ولهذا قال إبراهيم (ص) لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42] .
10 - ومن فوائد الآية تحريم كتمان الشهادة؛ يعني إخفاءها سواء كان كتمان أصلها، أو وصفها؛ وسواء كان الحامل لها القرابة، والغنى؛ أو البعد، والفقر؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما...} [النساء: 135] الآية.
11 - ومنها: أن كتْم الشهادة من الكبائر؛ لوجود العقوبة الخاصة بها - وهي قوله تعالى: { فإنه آثم قلبه }.
12 - ومنها: عظم كتم الشهادة؛ لأنه أضاف الإثم فيها إلى القلب؛ وإذا أثم القلب أثمت الجوارح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله»(1)؛ وقوله (ص): «التقوى هاهنا»(2) وأشار إلى صدره؛ فالتقوى في القلب، وليست في اللسان، ولا في الأفعال، ولا في الأحوال؛ فقد يكون الإنسان متقياً بفعله متقياً بقوله غير متقٍ بقلبه: تجده بفعله يتزيّ بزي المسلم الخالص - من إعفاء اللحية، والوقار، والسكينة، وكذلك يقول قول المسلم الخالص: «أستغفر الله»، «اللهم اغفر لي»، ويذكر الله، ويكبر؛ هذه لا شك تقوى في الظاهر؛ والغالب أنها دليل على تقوى الباطن.
13 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون عليم }؛ فإن { ما } اسم موصول؛ والاسم الموصول يفيد العموم، فيشمل كل ما نعمل من أعمال القلب، وأعمال الجوارح.(10/338)
إذا قال قائل: ما فائدة التقديم هنا - إن قيل: لمراعاة الفواصل قلنا: فالنون تأتي في الفواصل كثيراً، مثل قوله تعالى: {إنه خبير بما تفعلون} [النمل: 88] ؛ وإن قيل: للحصر قلنا: لا يصح؛ لأن الله يعلم كل شيء؛ لا يختص علمه بما نعمل فقط؛ فلا وجه للحصر؛ إذاً ما الفائدة؟.
فالجواب: الفائدة شدة التحذير، والتنبيه، كأنه يقول: لو لم يعلم شيئاً - وحاشاه من ذلك - لكان عالماً بعملنا؛ فمن قوة التحذير والإنذار جاء الكلام على وجه الحصر الإضافي.
14 - إذا قال قائل: هل نستفيد من هذا أن من أسماء الله «العليم»؟ قلنا: ربما نقول ذلك؛ وقد لا نقوله؛ قد نقول: إن الاسم إذا قيد بمتعلِّق فإنه ينقلب إلى وصف، فيكون «عليم بكذا» ليس كقوله تعالى: {وهو السميع العليم} [البقرة: 137] ؛ لأن هذا قُيد: «عليم بـ...»، فكان وصفاً، وليس اسماً؛ أما لو قال تعالى: {وهو العليم الحكيم} [الزخرف: 84] لكان هذا اسماً بلا شك.
15 - ومن فوائد الآية: التحذير من المخالفة بكون الله سبحانه وتعالى عالماً بما نعمل؛ وجه التحذير: تقديم المعمول.
16 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد إلا إذا وقعت؛ فإن قوله تعالى: { بما تعملون عليم } يتضمن ما قد عملناه بالفعل، وما سنعمله.
القرآن
)لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)
التفسير:
{ 284 } قوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض } جملة خبرية قُدِّم فيها الخبر لإفادة الحصر؛ يعني: أن كل شيء في السموات أو في الأرض فهو لله خلقاً، وملكاً، وتدبيراً؛ وليس لأحد غيره فيه ملك.
قوله تعالى: { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه }؛ جملة شرطية جوابها: { يحاسبكم به الله }.(10/339)
وقوله تعالى: { وإن تبدوا } أي وإن تظهروا؛ { ما في أنفسكم } أي ما في قلوبكم؛ { أو تخفوه } يعني تسرُّوه، فلا يطلع عليه أحد.
قوله تعالى: { يحاسبكم به الله } أي يُطْلِعكم عليه على وجه المحاسبة؛ ولا يلزم من المحاسبة العقوبة؛ ولهذا قال تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.
قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فيها قراءتان؛ قراءة بالسكون؛ وقراءة بالرفع؛ وجه قراءة السكون أنه معطوف على { يحاسبكم } الذي هو جواب الشرط؛ والمعطوف على المجزوم مجزوم؛ ووجه قراءة الرفع أنه على سبيل الاستئناف؛ فالفاء استئنافية تفيد قطع الجملة التي بعدها عما قبلها؛ و «المغفرة» ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأن مادة «غفر» مأخوذة من المغفر - وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه ليتقي بها السهام؛ وهو جامع بين ستر الرأس، والوقاية؛ و{ يعذب من يشاء } أي يعاقب.
قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير } أي يوجد المعدوم، ويعدم الموجود بدون عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] .(10/340)
ولما نزلت على رسول الله (ص): { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله (ص)، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؛ قال رسول الله (ص): «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا! بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؛ فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] ؛ فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال تعالى: «نعم»؛ {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال تعالى: «نعم»(1).
الفوائد:(10/341)
1 - من فوائد الآية: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض }؛ وليس معلوماً لنا سوى السموات والأرض؛ ويدخل في السموات الكرسي، والعرش، والملائكة، وأرواح بني آدم التي تكون في السماء، كأرواح المؤمنين في الجنة؛ لأن المراد بذلك كل ما علا؛ بل ويشمل ما بين السماء والأرض من الأفلاك، والنجوم، وغير ذلك؛ لأنها داخلة في السموات؛ لأنها في جهتها؛ ويدخل في الأرض العاقل، وغير العاقل؛ فيشمل بني آدم، والجن، ويشمل الحيوانات الأخرى، ويشمل الأشجار، والبحار، والأنهار، وغير ذلك.
2 - ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل هو القائم على هذه السموات والأرض يدبرها كما يشاء؛ لأنها ملكه.
3 - ومنها: أن الله لا شريك له في ذلك الملك؛ يستفاد ذلك من تقديم الخبر الذي حقه التأخير؛ وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه.
4 - ومنها: وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية - ولابد؛ ولهذا قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ؛ فجعل الربوبية موجباً لعبادته؛ وفي سورة النمل قال تعالى: {أمن خلق السموات والأرض...} [النمل: 60] إلى آخر الآيات التي فيها تختم كل آية بقوله تعالى: {أإله مع الله} [النمل: 60] يعني: فإذا كان هو المنفرد بما ذُكِر فإنه المنفرد بالألوهية.
5 - ومن فوائد الآية: إثبات صفات الكمال لله عز وجل؛ لأننا إذا تأملنا في هذا الملك الواسع العظيم، وأنه يدبَّر بانتظام لا مثيل له علمنا بأن الذي يدبره كامل الصفات؛ فيؤخذ منه كل صفة كمال لله، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والعزة، والحكمة، وغير ذلك من صفاته عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقوم بملك هذه الأشياء العظيمة إلا من هو متصف بصفات الكمال.(10/342)
6 - ومنها: إثبات أن السموات أكثر من واحدة؛ وهي سبع بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ أما القرآن فمثل قوله تعالى: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون: 86] ، وقوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} [الطلاق: 12] ؛ وأما السنة فمثل قوله (ص): «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين...»(1) الحديث؛ وأما الأرض فإنها جاءت بلفظ الإفراد في القرآن، وجاءت في السنة بلفظ الجمع؛ وعددها سبع: جاء ذلك في صريح السنة، وفي ظاهر القرآن؛ ففي ظاهر القرآن: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] ؛ لأن المماثلة في الوصف متعذرة؛ فلم يبق إلا العدد؛ وأما في السنة لمثل قوله (ص): «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(2).
7 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله وسعته؛ لقوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولا محاسبة إلا من بعد علم.
8 - ومنها: تحذير العبد من أن يخفي في قلبه ما لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا علم بأن الله عالم بما يبدي وبما يخفي فسوف يراقب الله سبحانه وتعالى خوفاً من أن يحاسَب على ما أخفاه كما يحاسَب على ما أبداه.
9 - ومنها: إثبات أن العبد يحاسب على ما في نفسه؛ وظاهره العموم؛ لقوله تعالى: { ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولكن جاءت النصوص الأخرى بالتفصيل في ذلك على النحو التالي:(10/343)
الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر؛ بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيماناً ويقيناً حاول أن يفسد ذلك عليه؛ ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله (ص) ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذاك صريح الإيمان»(3)؛ وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»(4).
الثاني: أن يهمّ بالشيء المحرم، أو يعزم عليه، ثم يتركه؛ وهذا أنواع:
النوع الأول: أن يتركه لله؛ فيثاب على ذلك، كما جاءت به السنة فيمن همّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى: «لأنه تركها من جرّائي»(5)، أي من أجلي.
النوع الثاني: أن يهمّ بها، ثم يتركها عزوفاً عنها؛ فهذا لا له، ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئ ما نوى»(6).
النوع الثالث: أن يتمناها، ويحرص عليها؛ ولكن لا يعمل الأسباب التي يحصِّلها بها؛ فهذا يعاقب على نيته دون العقاب الكامل، كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو بنيته؛ فهما في الوزر سواء»(7).
النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها؛ ولكن يعجز عنها؛ فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»(8).(10/344)
10 - ومن فوائد الآية: إثبات محاسبة العبد؛ لقوله تعالى: { يحاسبكم به الله }؛ ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(1)؛ فينبغي للإنسان أن يكون كيساً يحاسب نفسه قبل أن يحاسَب؛ وإني لأعجب أن كثيراً من الناس إذا كان له تجارة دنيوية فإنه لا ينام حتى ينظر في الدفاتر: ما الذي خرج؟ وما الذي دخل؟ وما الذي بقي في ذمم الناس؟ وما الذي بيع؟ وما الذي اشتري؟ إما بنفسه؛ وإما بمن يجعلهم على هذا؛ ولكننا في أعمالنا الأخروية عندنا تفريط - يعني يندر يوماً من الأيام أن تقول: ماذا عملت اليوم؟ وتستغفر مما أسأت فيه، أو فرطت؛ وتحمد الله على ما قمت به من طاعته.
11 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لم يصرح بالمعاقبة؛ ولا يلزم من المحاسبة المؤاخذة؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ويؤيده ما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، ويقول: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر؛ فإذا رأى أنه قد هلك يقول الله عز وجل: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(2).
12 - ومنها: سعة علم الله عز وجل، وكان من أسمائه: «الواسع» أي ذو السعة في جميع صفاته.
13 - ومنها: إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ومشيئته تعالى مقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] ؛ كل شيء أضافه الله إلى مشيئته فاعلم أنه مقرون بحكمة؛ لا يشاء شيئاً إلا لحكمة - أياً كان هذا الشيء.
14 - ومنها: أنه بعد المحاسبة إما أن يغفر للإنسان؛ وإما أن يعذبه؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن كان كافراً عذب؛ وإن كان مسلماً كان تحت المشيئة، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .(10/345)
15 - ومنها: إثبات القدرة لله، وعمومها في كل شيء؛ لقوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ فلا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل؛ وأما المخلوق فقدرته محدودة.
فإن قيل: لماذا ختم الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ولم يختمها بالرحمة، ولا بالعقوبة؟
فالجواب: أن المحاسبة تكون بعد البعث؛ والبعث يدل على القدرة؛ كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} [الأحقاف: 33] ، وقال تعالى: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39] .
وجه آخر: لو ختمت الآية بما يقتضي الرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب؛ ولو ختمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب؛ والقدرة تناسب الأمرين: تناسب المغفرة، وتناسب التعذيب؛ لأن المغفرة، والتعذيب كلٌّ لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل.
القرآن
)آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)
التفسير:
{ 285 } قوله تعالى: { آمن }؛ سبق مراراً، وتكراراً بأنه الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان - لقبول الخبر، والإذعان للحكم، أو لما يقتضيه؛ أما مجرد التصديق، والإقرار فلا ينفع؛ ولهذا كان أبو طالب مقراً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه على حق؛ لكن لما لم يكن منه قبول وإذعان لم ينفعه هذا الإقرار؛ فالإيمان شرعاً هو الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان.(10/346)
قوله تعالى: { الرسول }؛ «أل» هنا للعهد؛ والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ { الرسول } بمعنى مرسَل؛ و «الرسول» - كما قال العلماء - هو من أوحي إليه بشرع، وأُمِر بتبليغه؛ هذا الذي عليه أكثر أهل العلم؛ و «النبي» هو الذي لم يؤمر بتبليغه ما لم يدل الدليل على أن المراد به الرسول؛ ففي القرآن الكريم كل من وصف بالنبوة فهو رسول؛ لقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...} [النساء: 163] إلى قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] ؛ ولقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [غافر: 78] .
قوله تعالى: { بما أنزل إليه من ربه } أي بالذي أنزل إليه من ربه؛ والذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّنه الله سبحانه وتعالى في قوله: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113] - فهو القرآن، والسنة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم كيف آمن بهما؟ الرسول آمن بأن القرآن من عند الله أنزله إليه ليبلغه إلى الناس، وآمن بأن ما أوحي إليه من السنة هو من الله عز وجل؛ أوحي به ليبلغه إلى الناس؛ ثم هو أيضاً آمن بما يقتضيه هذا المنزل من قبول، وإذعان؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس تصديقاً بما أنزل إليه، وأقواهم إيماناً بلا شك، وكان أيضاً أعظمهم تعبداً لله عز وجل حتى إنه كان يقوم في الليل حتى تتورم قدماه مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر(1)؛ وقام معه ابن مسعود رضي الله عنه ذات ليلة يقول: فقام فأطال حتى هممت بأمر سوء؛ قالوا: بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «هممت أن أجلس، وأدعه»(2)؛ لأن الرسول كان يقوم قياماً طويلاً - صلوات الله وسلامه عليه؛ إذاً فهو أقوى الناس إيماناً، وأشدهم رغبة في الخير، وأكثرهم عبادة.(10/347)
وقوله تعالى: { من ربه } يراد بها الربوبية أخص الخاصة؛ لأن ربوبية الله عز وجل عامة؛ وخاصة؛ وأخص الخاصة؛ فالعامة الشاملة لكل الخلق، مثل: {رب العالمين} [الفاتحة: 1] ؛ و الخاصة للمؤمنين؛ و خاصة الخاصة للرسل - عليهم الصلاة والسلام -؛ فالذين يقولون: {ربنا إننا آمنا فاغفر لنا} [آل عمران: 16] هذه ربوبية خاصة لكل المؤمنين؛ ومثل: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } هذه أخص الخاصة، ومثلها: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65] ؛ يقابل ذلك «العبودية»: عبودية عامة؛ وخاصة؛ وأخص الخاصة؛ العامة مثل قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93] ؛ و الخاصة مثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ و خاصة الخاصة مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] ؛ ولا شك أن الربوبية الخاصة تقتضي تربية خاصة لا يماثلها تربية أحد من العالمين.
قوله تعالى: { والمؤمنون } بالرفع عطفاً على { الرسول } يعني: المؤمنون كذلك آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله؛ فيؤمنون بثلاثة أشياء: بالمرسِل - وهو الله عز وجل؛ والمرسَل - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والمرسَل به - وهو الوحي: الكتاب، والسنة.
فإن قال قائل: كيف قال تعالى: { والمؤمنون }: فوصفهم بالإيمان مع أنهم مؤمنون؟ فنقول: هذا من باب التحقيق؛ يعني: أن المؤمنين حققوا الإيمان، وليس إيمانهم إيماناً ظاهراً فقط - كما يكون من المنافق الذي يُظهر الإيمان، ولكنه مبطن للكفر.
قوله تعالى: { كل } يعني: من الرسول، والمؤمنين؛ { آمن بالله }: أي بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته - كما تقدم ذلك مبسوطاً.(10/348)
قوله تعالى: { وملائكته } معطوف على الاسم الكريم: «الله» ؛ والملائكة عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، وأعطاهم قوة، وقدرة على تنفيذ ما يريد منهم؛ قال الله تعالى في ملائكة النار: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] .
قوله تعالى: { وكتبه }؛ وفي قراءة: «وكتابه» ؛ ولا منافاة؛ لأن المفرد المضاف يعم؛ والكتب المنزلة على الأنبياء الذي يظهر من نصوص الكتاب والسنة أنها بعدد الأنبياء، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ، وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ؛ ولكن مع ذلك فنحن لا نعرف على التعيين إلا عدداً قليلاً منها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى - إن كانت غير التوراة؛ وإن كانت هي التوراة فالأمر ظاهر؛ نعرف هذه الكتب، ونؤمن بها على أعيانها؛ والباقي نؤمن بها على سبيل الإجمال؛ ولكن كيف الإيمان بهذه الكتب؟ نقول: الإيمان بالقرآن هو الإيمان بأنه كلام الله منزل على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين؛ ونصدق بكل أخباره؛ ونلتزم بكل أحكامه؛ وأما الإيمان بالكتب السابقة فهو أن نؤمن بأن الله أنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وآتى داود الزبور، وأنزل صحفاً على إبراهيم، وموسى؛ وأن كل ما جاء فيها من خبر فهو حق صدق؛ وأما الأحكام فما جاءت شريعتنا بخلافه فالعمل على ما جاءت به شريعتنا؛ لأنه منسوخ؛ وأما ما لا يخالف شريعتنا فاختلف العلماء في العمل به؛ والصحيح أنه يعمل به؛ وبسط ذلك في أصول الفقه؛ وليعلم أن التوراة التي بأيدي اليهود اليوم، والإنجيل الذي بأيدي النصارى لا يوثق بهما؛ لأنهم حَرَّفوا، وبدلوا، وكتموا الحق.
قوله تعالى: { ورسله } جمع رسول.(10/349)
قوله تعالى: { لا نفرق بين أحد من رسله }؛ هنا التفات من الغيبة إلى التكلم؛ ومقتضى السياق لو كان على نهج واحد لقال: «لا يفرقون بين أحد من رسله»؛ ولكنه تعالى قال: { لا نفرق }؛ وفائدة الالتفات هي التنبيه؛ لأن الكلام إذا كان على نسق واحد فإن الإنسان ينسجم معه، وربما يغيب فكره؛ وأما إذا جاء الالتفات فكأنه يقرع الذهن يقول: انتبه! فالالتفات هنا من الغيبة إلى التكلم له فائدة زائدة على التنبيه - وهي أن يقول هؤلاء المؤمنون: { لا نفرق } بقلوبنا، وألسنتنا { بين أحد من رسله }؛ فالكل عندنا حق؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به من الرسالة، وعيسى بن مريم (ص) صادق، وموسى (ص) صادق، وصالح (ص) صادق، ولوط (ص) صادق، وإبراهيم (ص) صادق... وهكذا؛ لا نفرق بينهم في هذا الأمر - أي في صدق رسالتهم، والإيمان بهم؛ ولكن نفرق بينهم فيما كلفنا به: فنعمل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأما شريعة أولئك فعلى ما ذكرنا من الخلاف.
قوله تعالى: { سمعنا وأطعنا } أي سمعنا ما أمرتنا به، أو نهيتنا عنه؛ وأطعنا فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور.
قوله تعالى: { غفرانك } مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: نسألك غفرانك؛ والمغفرة ستر الذنب، والتجاوز عنه.
قوله تعالى: { ربنا } أي يا ربنا؛ وحذفت «يا» النداء للبداءة باسم الله.
قوله تعالى: { وإليك المصير } أي المرجع في أمور الدنيا، والآخرة؛ ومن المصير إليه: يوم القيامة؛ وقدم الخبر لإفادة الحصر.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن محمداً (ص) مكلف بالإيمان بما أنزل إليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أشهد أني رسول الله»(1)، في قصة دين جابر رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري.(10/350)
2 - ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { بما أنزل إليه من ربه }؛ والمنزل هو الوحي؛ والكلام وصف لا يقوم إلا بمتكلم؛ لا يمكن أن يقوم بنفسه؛ وعلى هذا يكون في الآية دليل على أن القرآن كلام الله - الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
3 - ومنها: إثبات علوّ الله عز وجل؛ لأن النزول لا يكون إلا من أعلى؛ لقوله تعالى: { بما أنزل إليه }.
4 - ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { الرسول }، وقوله تعالى: { بما أنزل إليه من ربه }.
5 - ومنها: عظم ربوبية الله، وأخصيتها بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: { بما أنزل إليه من ربه }.
ويتفرع على ذلك أن الله سبحانه وتعالى سينصره؛ لأن الربوبية الخاصة تقتضي ذلك - لا سيما وأنه سوف يبلِّغ ما أنزل إليه من ربه.
6 - ومن فوائد الآية: أن المؤمنين تبع للرسول (ص)؛ لقوله تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون }؛ وجه التبعية أنه ذكر ما آمن به قبل أن يذكر التابع - يعني ما قال: «آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه»، وهذا يدل على أنهم أتباع للرسول (ص) لا يستقلون بشريعة دونه.
7 - ومنها: أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً بالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد اتباعاً له؛ وجهه أنه تعالى قال: { بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } يعني: والمؤمنون آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه؛ وعليه فكل من كان أقوى إيماناً كان أشد اتباعاً.
8 - ومنها: أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين شامل لكل أصول الدين؛ لقوله تعالى: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله }؛ ويبقى عندنا إشكال؛ وهو أنه ليس في الآية ذكر الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر؟ والجواب من أحد وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن هذا داخل في عموم قوله تعالى: { بما أنزل إليه من ربه }.(10/351)
والوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان بالكتب، والرسل متضمن للإيمان باليوم الآخر، والقدر.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات الملائكة.
10 - ومنها: أن الإيمان بالرسل ليس فيه تفريق؛ لا تقول مثلاً: نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا نؤمن بعيسى لأن عيسى من بني إسرائيل؛ نحن لا نفرق بين الرسل؛ وقد سبق لنا معنى قوله تعالى: { لا نفرق }.
11 - ومن فوائد الآية: أن من صفات المؤمنين السمع، والطاعة؛ لقوله تعالى: { وقالوا سمعنا وأطعنا }؛ وهذا كقوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} [النور: 51، 52] ، وكقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36] ؛ والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لا يسمع، ولا يطيع؛ بل هو معرض؛ لم يرفع لأمر الله، ورسوله رأساً.
القسم الثاني: من يسمع، ولا يطيع؛ بل هو مستكبر؛ اتخذ آيات الله هزواً، كقوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشره بعذاب أليم} [لقمان: 7] ، وكقوله تعالى: {وقالوا سمعنا وعصينا} [البقرة: 93] ؛ وهذا أعظم جرماً من الأول.
القسم الثالث: من يسمع، ويطيع؛ وهؤلاء هم المؤمنون الذين قالوا سمعنا وأطعنا، وقال الله سبحانه وتعالى فيهم: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب: 71] .(10/352)
12 - ومن فوائد الآية: أن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله؛ لقوله تعالى: { غفرانك }؛ فكل إنسان محتاج إلى مغفرة - حتى النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إلى مغفرة؛ ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل الجنة أحداً عملُه قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة»(1)؛ وقال الله سبحانه وتعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 1، 2] ، وقال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19] ؛ واعلم أن الإنسان قد يكون بعد الذنب أعلى مقاماً منه قبل الذنب؛ لأنه قبل الذنب قد يكون مستمرئاً للحال التي كان عليها، وماشياً على ما هو عليه معتقداً أنه كامل، وأن ليس عليه ذنوب؛ فإذا أذنب، وأحس بذنبه رجع إلى الله، وأناب إليه، وأخبت إليه، فيزداد إيماناً، ويزداد مقاماً - يرتفع مقامه عند الله عز وجل؛ ولهذا قال الله تعالى في آدم: {وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه} [طه: 121، 122] - فجعل الاجتباء بعد هذه المعصية - {فتاب عليه وهدى} [طه: 122] ؛ وهذا كثيراً ما يقع: إذا أذنب الإنسان عرف قدر نفسه، وأنه محتاج إلى الله، ورجع إلى الله، وأحس بالخطيئة، وأكثر من الاستغفار، وصار مقامه بعد الذنب أعلى من مقامه قبل الذنب.
13 - ومن فوائد الآية: تواضع المؤمنين، حيث قالوا: { سمعنا وأطعنا }، ثم سألوا المغفرة خشية التقصير.(10/353)
14 - ومنها: إثبات أن المصير إلى الله عز وجل في كل شيء؛ لقوله تعالى: { وإليك المصير }؛ وقد سبق في التفسير أن المراد بذلك المصير إلى الله في الآخرة، والمصير إلى الله في الدنيا أيضاً؛ فهو الذي يحكم بين الناس في الدنيا والآخرة - كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] : هذا في الدنيا؛ والآخرة: كما قال تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة: 3] ، وقال تعالى: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة} [النساء: 141] .
القرآن
)لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)
التفسير:
هذه الآية، والتي قبلها وردت فيها نصوص تدل على الفضل العظيم؛ منها:
1 - أنها من كنز تحت العرش(1).
2 - أنها فتحت لها أبواب السماء عند نزولها(2).
3 - أنها لم يعطها أحد من الأنبياء قبل رسول الله (ص)(3).
4 - أن من قرأهما في ليلة كفتاه(4).
{ 286 } قوله تعالى: { لا يكلف الله }؛ «التكليف» الإلزام بما فيه مشقة؛ يعني لا يلزم الله؛ { نفساً إلا وسعها} أي إلا طاقتها؛ فلا يلزمها أكثر من الطاقة.
قوله تعالى: { لها ما كسبت } أي ما عملت من خير لا ينقص منه شيء؛ { وعليها ما اكتسبت } أي ما اقترفت من إثم لا يحمله عنها أحد؛ و «الكسب» ، و «الاكتساب» بمعنًى واحد؛ وقيل بينهما فرق؛ وهو أن «الكسب» في الخير، وطرقه أكثر؛ و «الاكتساب» في الشر، وطرقه أضيق - والله أعلم.(10/354)
قوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا }: هذه الجملة مقول لقول محذوف - أي «قولوا ربنا»؛ أو: «قالوا ربنا» عوداً على {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} - أي: و {قالوا سمعنا وأطعنا} ، وقالوا: { ربنا لا تؤاخذنا.. }؛ و{ ربنا } منادى حذفت منه «يا» النداء اختصاراً، وتيمناً بالبداءة باسم الله عز وجل؛ و{ لا تؤاخذنا } أي لا تعاقبنا بما أخطأنا فيه.
قوله تعالى: { إن نسينا أو أخطأنا }: «النسيان» هو ذهول القلب عن معلوم؛ يكون الإنسان يعلم الشيء، ثم يغيب عنه؛ ويسمى هذا نسياناً، كما لو سألتك: ماذا صنعت بالأمس؟ تقول: «نسيت»؛ فأنت فاعل؛ ولكن غاب عنك فعله؛ و «الخطأ» : المخالفة بلا قصد للمخالفة؛ فيشمل ذلك الجهل؛ فإن الجاهل إذا ارتكب ما نهي عنه فإنه قد ارتكب المخالفة بغير قصد للمخالفة.
قوله تعالى: { ربنا ولا تحمل علينا إصراً }: أتى بالواو ليفيد أن هذه الجملة معطوفة على التي قبلها؛ وكرر النداء تبركاً بهذا الاسم الكريم، وتعطفاً على الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا من أسباب إجابة الدعاء؛ و «الإصر» هو الشيء الثقيل الذي يثقل على الإنسان من التكاليف، أو العقوبات.
قوله تعالى: { كما حملته على الذين من قبلنا } أي اليهود، والنصارى، وغيرهم.
قوله تعالى: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي لا قدرة لنا على تحمله من الأمور الشرعية، والكونية.
قوله تعالى: { واعف عنا } أي تجاوز عما قصرنا فيه من الواجبات؛ { واغفر لنا } أي تجاوز عما اقترفناه من السيئات؛ { وارحمنا } أي تفضل علينا بالرحمة حتى لا نقع في فعل محظور، أو في تهاون في مأمور.
قوله تعالى: { أنت مولانا }: الجملة هنا خبرية مكونة من مبتدأ، وخبر كلاهما معرفة؛ وقد قال علماء البلاغة: إن الجملة المكونة من مبتدأ، وخبر كلاهما معرفة تفيد الحصر؛ والمراد: متولي أمورنا.(10/355)
قوله تعالى: { فانصرنا على القوم الكافرين } الفاء هنا للتفريع؛ يعني فبولايتك الخاصة انصرنا على القوم الكافرين - أي اجعل لنا النصر عليهم؛ وهو عام في كل كافر.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بيان رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث لا يكلفهم إلا ما استطاعوه؛ ولو شاء أن يكلفهم ما لم يستطيعوا لفعل.
فإذا قال قائل: كيف يفعل وهم لا يستطيعون؟ وما الفائدة بأن يأمرهم بشيء لا يستطيعونه؟
فالجواب: أن الفائدة أنه لو كلفهم بما لا يستطيعون، وعجزوا عاقبهم على ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة من أصول الشريعة؛ ولها نظائر في القرآن، وكذلك في السنة.
2 - ومن فوائد الآية: إثبات القاعدة المشهورة عند أهل العلم؛ وهي: لا واجب مع العجز؛ ولا محرم مع الضرورة ؛ لكن إن كان الواجب المعجوز عنه له بدل وجب الانتقال إلى بدله؛ فإن لم يكن له بدل سقط؛ وإن عجز عن بدله سقط؛ مثال ذلك: إذا عجز عن الطهارة بالماء سقط عنه وجوب التطهر بالماء؛ لكن ينتقل إلى التيمم؛ فإن عجز سقط التيمم أيضاً - مثال ذلك: شخص محبوس مكبل لا يستطيع أن يتوضأ، ولا أن يتيمم: فإنه يصلي بلا وضوء، ولا تيمم؛ مثال آخر: رجل قتل نفساً معصومة خطأً: فعليه أن يعتق رقبة؛ فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع سقطت الكفارة؛ مثال ثالث: رجل جامع زوجته في نهار رمضان: فعليه أن يعتق رقبة؛ فإن لم يجد فعليه صيام شهرين؛ فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً؛ فإن لم يجد فلا شيء عليه.
ومثال سقوط التحريم مع الضرورة: رجل اضطر إلى أكل الميتة بحيث لا يجد ما يسد رمقه سوى هذه الميتة: فإنه يحل له أكلها؛ وهل له أن يشبع؛ أو يقتصر على ما تبْقى به حياته؟
والجواب: إن كان يرجو أن يجد حلالاً عن قرب فيجب أن يقتصر على ما يسد رمقه؛ وإن كان لا يرجو ذلك فله أن يشبع، وأن يتزود منها - وأن يحمل معه منها - خشية أن لا يجد حلالاً عن قرب.(10/356)
ومعنى الضرورة أنه لا يمكن الاستغناء عن هذا المحرم؛ وأن ضرورته تندفع به - فإن لم تندفع فلا فائدة؛ مثال ذلك: رجل ظن أنه في ضرورة إلى التداوي بمحرم؛ فأراد أن يتناوله: فإنه لا يحل له ذلك لوجوه:
الأول: أن الله حرمه؛ ولا يمكن أن يكون ما حرمه شافياً لعباده، ولا نافعاً لهم.
الثاني: أنه ليس به ضرورة إلى هذا الدواء المحرم؛ لأنه قد يكون الشفاء في غيره، أو يشفى بلا دواء.
الثالث: أننا لا نعلم أن يحصل الشفاء في تناوله؛ فكم من دواء حلال تداوى به المريض ولم ينتفع به؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: «إنها شفاء من كل داء إلا السام - يعني الموت»(1)؛ فهذه مع كونها شفاءً لا تمنع الموت؛ ولذلك لو اضطر إلى شرب خمر لدفع لقمة غص بها جاز له ذلك، لأن الضرورة محققة، واندفاعها بهذا الشرب محقق.
الخلاصة الآن: أخذنا من هذه الآية الكريمة: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } قاعدتين متفقاً عليهما؛ وهما:
أ - لا واجب مع العجز .
ب - ولا محرم مع الضرورة .
3 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يحمل وزر غيره؛ لقوله تعالى: { وعليها ما اكتسبت }.
إذا قال قائل: ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1)؟
فالجواب: أن هذا لا يرد؛ لأن الذي فعلها أولاً اقتدى الناس به؛ فكان اقتداؤهم به من آثار فعله؛ ولما كان هو المتسبِّب، وهو الدال على هذا الفعل كان مكتسباً له.
4 - ومنها: يسر الدين الإسلامي؛ لقوله تعالى: { لا يكلف الله نفسها إلا وسعها }.(10/357)
ويتفرع على هذا أن يختلف الناس فيما يلزمون به؛ فالقادر على القيام في الفريضة يلزمه القيام؛ والعاجز عن القيام يصلي قاعداً؛ والعاجز عن القعود يصلي على جنب؛ وكذلك القادر على الجهاد ببدنه يلزمه الجهاد ببدنه إذا كان الجهاد فرضاً؛ والعاجز لا يلزمه؛ وكذلك القادر على الحج ببدنه وماله يلزمه أداء الحج ببدنه، والعاجز عنه ببدنه عجزاً لا يرجى زواله القادر بماله يلزمه أن ينيب من يحج عنه؛ والعاجز بماله وبدنه لا يلزمه الحج.
5 - ومن فوائد الآية: أن للإنسان طاقة محدودة؛ لقوله تعالى: { إلا وسعها }؛ فالإنسان له طاقة محدودة في كل شيء: في العلم، والفهم، والحفظ، فيكلف بحسب طاقته.
6 - ومنها: أن للإنسان ما كسب دون أن ينقص منه شيء، كما قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112] .
7 - ومنها: أن الأعمال الصالحة كسب؛ وأن الأعمال السيئة غُرْم؛ وذلك مأخوذ من قوله تعالى: { لها }، ومن قوله تعالى: { عليها }؛ فإن «على» ظاهرة في أنها غُرم؛ واللام ظاهرة في أنها كسب.
8 - ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق، حيث علمهم دعاءً يدعونه به، واستجاب لهم إياه في قوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }.
9 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل في الدعاء بالوصف المناسب، مثل الربوبية - التي بها الخلق، والتدبير؛ ولهذا كان أكثر الأدعية في القرآن مصدرة بوصف الربوبية، مثل: «ربنا» ، ومثل: «ربِّ» .(10/358)
10 - ومنها: رفع المؤاخذة بالنسيان، والجهل؛ لقوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، فقال الله تعالى: «قد فعلت»(2)؛ ولا يلزم من رفع المؤاخذة سقوط الطلب؛ فمن ترك الواجب نسياناً، أو جهلاً، وجب عليه قضاؤه، ولم يسقط الطلب به؛ ولهذا قال النبي - صلوات الله وسلامه عليه: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها»(3)؛ ولما صلى الرجل الذي لا يطمئن في صلاته قال له: «ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ»(4)؛ ولم يعذره بالجهل مع أنه لا يحسن غير هذا؛ إذاً فعدم المؤاخذة بالنسيان، والجهل لا يسقط الطلب؛ وهذا في المأمورات ظاهر؛ أما المنهيات فإن من فعلها جاهلاً، أو ناسياً فلا إثم عليه، ولا كفارة؛ مثال ذلك: لو أكل وهو صائم ناسياً فلا إثم عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل، أو شرب، فليتم صومه»(5)؛ وكذلك لو أكل وهو صائم جاهلاً فإن صومه صحيح سواء كان جاهلاً بالحكم، أو بالوقت؛ لأن أسماء بنت أبي بكر قالت: «أفطرنا على عهد رسول الله (ص) يومَ غيم، ثم طلعت الشمس»(6)؛ ولم يؤمروا بالقضاء؛ ولكن لو فعل المحرم عالماً بتحريمه جاهلاً بما يترتب عليه لم يسقط عنه الإثم، ولا ما يترتب على فعله؛ مثل أن يجامع الصائم في نهار رمضان وهو يجب عليه الصوم عالماً بالتحريم - لكن لا يعلم أن عليه الكفارة: فإنه آثم، وتجب عليه الكفارة؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، هلكت قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم»(7)؛ فألزمه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة (2)؛ لأنه كان عالماً بالحكم بدليل قوله: «هلكت» .
فإن قال قائل: «قد ذكرتم أن المأمور لا يسقط بالجهل والنسيان»، فما الفائدة من عذره الجهل؟(10/359)
فالجواب: أن الفائدة عدم المؤاخذة؛ لأنه لو فعل المأمور على وجه محرم يعلم به لكان آثماً؛ لأنه كالمستهزئ بالله عز وجل وآياته، حيث يعلم أن هذا محرم، فيتقرب به إلى الله.
11 - ومن فوائد الآية: أن فعل الإنسان واقع باختياره؛ لقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }؛ فيكون فيها رد على الجبرية الذين يقولون: «إنه لا اختيار للعبد فيما فعل»؛ وبيان مذهبهم، والرد عليهم بالتفصيل مذكور في كتب العقائد.
12 - ومنها: أن النسيان وارد على البشر؛ والخطأ وارد على البشر؛ وجهه: قوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، فقال الله تعالى: «قد فعلت»(1)؛ وهذا إقرار من الله سبحانه وتعالى على وقوع النسيان، والخطأ من البشر.
فإذا قال قائل: ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى يجعل البشر ينسى، ويخطئ؟
فالجواب: ليتبين للإنسان ضعفه، وقصوره: ضعفه في الإدراك، وضعفه في الإبقاء، وفي كل حال؛ وليتبين بذلك فضل الله عليه بالعلم، والذاكرة، وما أشبه ذلك؛ وليعرف الإنسان افتقاره إلى الله عز وجل في دعائه في رفع النسيان، والجهل عنه؛ فيلجأ إلى الله عز وجل، فيقول: «رب علمني ما جهلت، وذكرني ما نسيت»، وما أشبه ذلك.
13 - ومن فوائد الآية: امتنان الله على هذه الأمة برفع الآصار التي حملها مَنْ قبلنا؛ لقوله تعالى: { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا }، فقال الله تعالى: «قد فعلت»(2).(10/360)
14 - ومنها: أن من كان قبلنا مكلفون بأعظم مما كلفنا به؛ لقوله تعالى: { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا }؛ مثال ذلك: قيل لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل: لن تقبل توبتكم حتى تقتلوا أنفسكم - أي يقتل بعضكم بعضاً؛ قيل: أنهم أمروا أن يكونوا في ظلمة، وأن يأخذ كل واحد منهم سكيناً، أو خنجراً، وأن يطعن من أمامه سواء كان ابنه، أو أباه، أو عمه، أو أخاه، أو غيرهم؛ وهذا لا شك تكليف عظيم، وعبء ثقيل؛ أما نحن فقيل لنا - حتى في الشرك: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 68 - 70] .
15 - ومن فوائد الآية: أن ينبغي للإنسان أن يسأل الله سبحانه وتعالى العافية، فلا يُحَمِّلُه ما لا طاقة له به؛ ففيه رد على الصوفية الذين قالوا: نحن لا نسأل الله تعالى أن يقينا ما يشق علينا؛ لأننا عبيده؛ وإذا حصل لنا ما يشق فإننا نصبر عليه لنكسب أجراً.
16 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان سؤال الله العفو؛ لأن الإنسان لا يخلو من تقصير في المأمورات؛ فيسأل الله العفو عن تقصيره؛ لقوله تعالى: { واعف عنا }؛ وسؤالُ الله المغفرة من ذنوبه التي فعلها؛ لقوله تعالى: { واغفر لنا }؛ لأن الإنسان إن لم يُغفر له تراكمت عليه الذنوب، ورانت على قلبه، وربما توبقه، وتهلكه.
17 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله أن يرحمه في مستقبل أمره؛ فيعفو عما مضى، ويغفر؛ ويرحم في المستقبل؛ لقوله تعالى: { وارحمنا }؛ وبه نعرف اختلاف هذه الكلمات الثلاث: طلب العفو عن التفريط في الطاعات؛ والاستغفار عن فعل المحرمات؛ والرحمة فيما يستقبله الإنسان من زمنه - أن الله يرحمه، ويوفقه لما فيه مصلحته.(10/361)
18 - ومنها: أن المؤمن لا وليّ له إلا ربه؛ لقوله تعالى: { أنت مولانا }؛ وولاية الله نوعان: خاصة، وعامة؛ فالولاية الخاصة ولاية الله للمؤمنين، كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] ، وقوله تعالى: { والله ولي المؤمنين }، وقوله تعالى: {إن وليّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] ؛ والعامة: ولايته لكل أحد؛ فالله سبحانه وتعالى ولي لكل أحد بمعنى أنه يتولى جميع أمور الخلق؛ مثاله قوله تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30] .
19 - ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله تعالى في الدعاء بما يقتضي الإجابة؛ لقوله تعالى: { أنت مولانا } بعد أن ذكر الدعاء في قوله تعالى: { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا }.
20 - ومنها: أنه يجب على الإنسان اللجوء إلى الله عز وجل في النصرة على القوم الكافرين؛ لقوله تعالى: { فانصرنا على القوم الكافرين }؛ والنصر على الكافرين يكون بأمرين: بالحجة، والبيان؛ وكذلك بالسيف، والسلاح؛ وأما السيف، والسلاح فظاهر؛ وأما الحجة، والبيان فقد يجتمع كافر، ومسلم، ويتناظران في أمر من أمور العقيدة فإن لم ينصر الله المسلم خُذل، وكان في ذلك خُذلان له، وللدين الذي هو عليه؛ وهذا النوع من النصر يتعين في المنافقين؛ لأن المنافق لا يجاهَد بالسيف، والسلاح؛ لأنه يُظهر أنه معك؛ ولهذا لما استؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(1).
---
(1) انظر 1/337.
(2) سبق تخريجه 1/344.
(1) سبق تخريجه 2/236.
(2) راجع مسلماً ص1039، كتاب الأشربة، باب 13: آداب الطعام والشراب وأحكامها، حديث رقم 5265 [105] 2020.
(3) راجع ابن ماجة ص2675، كتاب الأطعمة، باب 8: الأكل باليمين، حديث رقم 3266؛ قال الألباني: "صحيح" (صحيح ابن ماجة 2/225، حديث رقم 2643 – 3266).(10/362)
(4) أخرجه البخاري ص59 – 60، كتاب الأذان، باب 93: الالتفات في الصلاة، حديث رقم 751.
(1) راجع تفسير الطبري 24/418 – 420، تفرد به إسماعيل بن رافع، وقد اختلف فيه (ذكره ابن كثير في تفسيره سورة الأنعام 2/239)؛ قال الحافظ في التقريب: "ضعيف الحفظ"؛ وقال الدارقطني وغيره: "متروك الحديث" (ميزان الاعتدال 1/227)؛ وقال الذهبي: "ومن تلبيس الترمذي قال: ضعفه بعض أهل العلم، قال: وسمعت محمداً – يعني البخاري – يقول: هو ثقة مقارب الحديث" (المرجع السابق)؛ وقال البخاري في التاريخ الكبير: "محمد بن يزيد بن أبي زياد روى عنه إسماعيل بن رافع حديث الصور مرسل، ولم يصح" 1/260، رقم 829)؛ وقال ابن كثير في تفسيره (2/234، تفسير سورة الأنعام آية رقم 73): "وروينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني في كتابه المطولات..."؛ وقال أيضاً (2/239): "وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جداً، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعلها سياقاً واحداً، فأنكر عليه بسبب ذلك".
(2) أخرجه مسلم ص1178/ كتاب الفتن، باب 5: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، حديث رقم 7258 [19] 2889.
(1) سبق تخريجه 1/258.
(2) أخرجه الشافعي في مسنده 1/304، حديث رقم 792، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/48، باب : كان إذا رأى شيئاً يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة، حديث 13100، أخرجه البيهقي بسنده إلى الشافعي، والحديث مرسل لأنه عن مجاهد أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم...، الحديث.
(1) أخرجه مسلم ص1196، كتاب الزهد والرقائق، باب 13: المؤمن أمره كله خير، حديث رقم 7500 [64] 2999.
(1) سبق تخريجه 2/272.(10/363)
(1) أخرجه البخاري ص209، كتاب الشهادات، باب 9: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، حديث رقم 2652، وأخرجه مسلم ص1122، كتاب فضائل الصحابة، باب 52: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حديث رقم 6472 [212] 2533.
(1) أخرجه البخاري ص579، كتاب الإكراه، باب 1: من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، حديث رقم 6943.
(1) أخرجه البخاري ص22، كتاب الوضوء، باب 69: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، حديث رقم 240، وأخرجه مسلم ص997، كتاب الجهاد والسير، باب 39: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم 4649 [107] 1794.
(2) أخرجه مسلم ص1169، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب 1: صفة الجنة، حديث رقم 7130 [1] 2822.
(1) أخرجه البخاري ص563، كتاب الفرائض، باب 9: ميراث الجد مع الأب والإخوة، حديث رقم 6737؛ وأخرجه مسلم ص958، كتاب الفرائض، باب 1: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، حديث رقم 4141 [2] 1615.
(2) أخرجه أحمد 2/361، حديث رقم 8721، وأخرجه أبو داود ص1228، كتاب الطهارة، باب 41، الوضوء بما البحر، حديث رقم 83، وأخرجه الترمذي ص1638، كتاب الطهارة، باب 52: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، حديث رقم 69، وأخرجه النسائي ص2108، كتاب المياه، باب 4: الوضوء بماء البحر، حديث رقم 333، وأخرجه ابن ماجة ص2500، كتاب الطهارة وسننها، باب 38: الوضوء بما البحر، حديث رقم 386؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح 1/33.
(3) سبق تخريجه 1/365.
(1) سبق تخريجه 1/91.
(1) سبق تخريجه 2/427، حاشية رقم (1).
(1) راجع: زاد المعاد 3/502.
(2) راجع: زاد المعاد 3/526.
(3) أخرجه البخاري ص209، كتاب الشهادات، باب 10: ما قيل في شهادة الزور، حديث رقم 2654، وأخرجه مسلم ص693، كتاب الإيمان، باب 38: الكبائر وأكبرها، حديث رقم 29 [143] 87.(10/364)
(4) أخرجه مسلم ص695، كتاب الإيمان، باب 43: قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا، حديث رقم 284 [164] 102.
(5) أخرجه البخاري ص3، كتاب الإيمان، باب 7: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم 13: وأخرجه مسلم ص688، باب 17: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، حديث رقم 170 [71] 45.
(6) أخرجه البخاري ص509، كتاب الأدب، باب 31: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، حديث رقم 6019، وأخرجه مسلم ص688، كتاب الإيمان، باب 19: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير...، حديث رقم 173 [74] 47.
(7) أخرجه البخاري ص509، كتاب الأدب، باب 129: إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث رقم 6016، واللفظ له، وأخرجه مسلم بطريق أخرى ص688، كتاب الإيمان باب 18: بيان تحريم إيذاء الجار، حديث رقم 172 [73] 46.
(1) راجع البخاري ص211، كتاب الشهادات، باب 18: بلوغ الصبيان وشهادتهم، حديث رقم 2664، وأخرجه مسلم ص1013، كتاب الإمارة، باب 23: بيان سن البلوغ، حديث رقم 4837 [91] 1868.
(2) أخرجه البخاري ص195، كتاب المظالم والغصب، باب 30: النهي بغير إذن صاحبه، حديث رقم 2475، وأخرجه مسلم ص690، باب 24: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي...، حديث رقم 102 [100] 57.
(3) أخرجه أحمد ج4/431، حديث رقم 20116، وأخرجه أبو داود ص1537، كتاب الملاحم، باب 14: خروج الدجال، حديث رقم 4319، واللفظ لأحمد، وقال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح 3/30.
(1) أخرجه البخاري ص565، كتاب الفرائض، باب 26: لا يرث المسلم الكافر...، حديث رقم 6764؛ وأخرجه مسلم ص958، كتاب الفرائض، باب 23: لا يرث المسلم الكافر...، حديث رقم 4140 [1] 1614.
(2) أخرجه البخاري ص3، كتاب الإيمان، باب 4: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم 10.(10/365)
(3) أخرجه البخاري ص1، كتاب الوحي، باب 1: كيف كان بدء الوحي...، حديث رقم 1، وأخرجه مسلم ص1019، كتاب الإمارة، باب 45: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، حديث رقم 4927 [155] 1907.
(1) انظر: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص127.
(2) أخرجه البخاري ص414، كتاب التفسير، باب 1: قوله تعالى: (وتقول هل من مزيد)، حديث رقم 4850، وأخرجه مسلم ص1172، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب 13: النار يدخلها الجبارون...، حديث رقم 7172 [34] 2846.
(1) راجع البخاري ص21 كتاب الوضوء، باب 63: غسل الدم، حديث رقم 227؛ وصحيح مسلم ص727، كتاب الطهارة باب 33: نجاسة الدم، وكيفية غسله؛ حديث رقم 675 [110] 291.
(2) أخرجه البخاري ص530، كتاب الاستئذان، باب 47: إذا كانوا أكثر من ثلاثة...، حديث رقم 6290، وأخرجه مسلم ص1066، كتاب السلام، باب 15: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، حديث رقم 5696 [37] 2184.
(3) أخرجه مسلم ص728، كتاب الحيض، باب 3: جواز غسل الحائض رأس زوجها...، حديث رقم 694 [16] 302.
(1) أخرجه أحمد 3/158، حديث رقم 12640، وأخرجه أبو داود ص1374، كتاب النكاح، باب 3، النهي عن تزوج من لم يلد من النساء، حديث رقم 2050/أ، وأخرجه النسائي ص2296، كتاب النكاح، باب 11: كراهية تزويج العقيم، حديث رقم 3229.
(2) أخرجه أحمد 5/315، 23062، وأخرجه ابن ماجة ص2709، كتاب تعبير الرؤيا، باب 1: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، حديث رقم 3898، وأورده الألباني في صحيح ابن ماجة 2/338، حديث رقم 3146.
(1) أخرجه البخاري ص554، كتاب الإيمان والنذور، باب 1: قول الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله في إيمانكم)، حديث رقم 6622، وأخرجه مسلم ص967، كتاب الإيمان، باب 3: ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها...، حديث رقم 4281 [19] 1625.(10/366)
(2) أخرجه مسلم 696، كتاب الإيمان، باب 45: بيان غلظ تحريم النميمة، حديث رقم 290 [168] 105.
(3) أخرجه البخاري ص531، كتاب الدعوات، باب 4: التوبة، حديث رقم 6308، وأخرجه مسلم ص1153، كتاب التوبة، باب 1: في الحض على التوبة...، حديث رقم 6953 [2] 2675.
(1) أخرجه البخاري في 455، كتاب الطلاق، باب 11: الطلاق في الإغلاق والكره...، حديث رقم 5269، وأخرجه مسلم ص699، كتاب الإيمان، باب 58: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، حديث رقم 331 [201] 127.
(1) أخرجه النسائي ص2109، كتاب الحيض، باب 5: جمع المستحاضة بين الصلاتين وغسلها إذا جمعت، حديث رقم 361، وقال الألباني: صحيح (صحيح النسائي 1/120 – 121)، حديث رقم 359.
(1) راجع البخاري ص453، كتاب الطلاق، باب 1: وقول الله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)، حديث رقم 5251؛ ومسلماً ص926 – 927، كتاب الطلاق، باب 1: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها...، حديث رقم 3652 [1] 1471.
(2) سبق تخريجه 1/91.
(3) سبق تخريجه 2/400.
(1) سبق تخريجه 2/420.
(2) أخرجه البخاري ص112، كتاب الزكاة، باب 18: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، حديث رقم 1427، وأخرجه مسلم ص841، كتاب الزكاة، باب 32: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى...، حديث رقم 2386 [95] 1034.
(1) راجع البخاري ص501، كتاب اللباس، باب 61: المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم 5885.
(1) سبق تخريجه 1/91.(10/367)
(2) أخرجه أحمد 5/277، حديث رقم 22738، وأخرجه أبو داود ص1387، كتاب الطلاق، باب 17: في الخلع، حديث رقم 2226، وأخرجه الترمذي ص1769، كتاب الطلاق واللعان، باب 11: ما جاء في المختلعات، حديث رقم 1187، وأخرجه ابن ماجة ص2600، كتاب الطلاق، باب 21: كراهية الخلع للمرأة، حديث رقم 2055، وأخرجه الدارمي 20/216، كتاب الطلاق، باب 6: النهي عن أن تسأل المرأة زوجها طلاقها، حديث رقم 2270، وأخرجه ابن حبان 6/191، ذكر تحريم الله الجنة على السائلة طلاقها...، حديث رقم 4172، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/200 قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/17: صحيح.
(1) أخرجه البخاري ص208، كتاب الشهادات، باب 3: شهادة المختبئ، حديث رقم 2639، وأخرجه مسلم ص918، كتاب النكاح، باب 17: لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى...، حديث رقم 3526 [111] 1433.
(1) أخرجه البخاري ص453، كتاب الطلاق، باب 1: وقول الله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)، حديث رقم 5251، وأخرجه مسلم ص926 – 927، كتاب الطلاق، باب 1: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها...، حديث رقم 3652 [1] 1471.
(2) أخرجه مسلم ص699، كتاب الإيمان، باب 57، بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس...، حديث رقم 330 [200] 126.
(3) أخرجه البخاري ص136 كتاب الحج، باب 132: الخطبة أيام منى، حديث رقم 1741.
(1) أخرجه أحمد 3/453، حديث 15847، وأخرجه الترمذي ص1847، كتاب البر والصلة، باب 27: ما جاء في الخيانة والغش، حديث رقم 1940؛ وأخرجه أبو داود ص1492، كتاب القضاء باب 31: في القضاء، حديث رقم 3635، وأخرجه ابن ماجة ص2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بنى في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2342، قال الألباني في صحيح أبي داود 2/404: حسن.(10/368)
(2) أخرجه أحمد 1/313، حديث رقم 2867 من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن ماجة ص2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بني في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2340؛ وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً 2/571، كتاب الأقضية، باب 26، القضاء في المرفق، وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي سعيد الخدري 2/57 – 58، وقال حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 1/443، حديث رقم 250، صحيح.
(3) أخرجه البخاري ص154، كتاب الصوم، باب 51: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع...، حديث رقم 1968.
(1) سبق تخريجه 2/164.
(1) أخرجه أحمد 4/394، حديث رقم 19747، وأخرجه أبو داود ص1376، كتاب النكاح، باب 18: في الولي، حديث رقم 2085، وأخرجه الترمذي ص1757، كتاب النكاح، باب 14: ما جاء لا نكاح إلا بولي، حديث رقم 1101، وأخرجه ابن ماجة ص2589، كتاب النكاح، باب 15: لا نكاح إلا بولي، حديث رقم 1881؛ كما أخرجه الحاكم في مستدركه 2/169 – 170) وأقره الذهبي على تصحيحه؛ وقال الألباني في الإرواء 6/235: صحيح.
(2) أخرجه البخاري ص444، كتاب النكاح، باب 42: لا ينكح الأب وغيره البكر...، حديث رقم 5136؛ وأخرجه مسلم ص914، كتاب النكاح، باب 9: استئذان الثيب...، حديث رقم 3473 [64] 1419.
(3) أخرجه مسلم ص914، كتاب النكاح، باب 9: استئذان الثيب...، حديث رقم 3477 [67] 1421.
(4) أخرجه البخاري ص194، كتاب المظالم، باب 25: الغرفة والعلية المشرفة...، حديث رقم 2468؛ وأخرجه مسلم ص939، كتاب الطلاق، باب 4: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية، حديث رقم 3681 [22] 1475.
(1) أخرجه البخاري ص51: كتاب الأذان، باب 20: قول الرجل فاتتنا الصلاة، حديث رقم 635، وأخرجه مسلم ص771، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 28: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة...، حديث رقم 1359 [151] 602.(10/369)
(2) أخرجه أحمد 2/204، حديث رقم 6902، وأخرجه ابن ماجة ص2614، كتاب التجارات، باب 64، ما للوالد من مال ولده، حديث رقم 2291.
(1) سبق تخريجه 3/128، حاشية (1).
(2) سبق تخريجه 3/128، حاشية (2).
(1) سبق تخريجه ص910.
(1) سبق تخريجه 1/265، حاشية (3).
(2) سبق تخريجه 1/91.
(1) أخرجه البخاري ص162، كتاب البيوع، باب 19: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، حديث رقم 2079، وأخرجه مسلم ص942، كتاب البيوع، باب 11، الصدق في البيع والبيان، حديث رقم 3858 [47] 1532.
(1) أخرجه البخاري ص216، كتاب الشروط، باب 6: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم 2721، وأخرجه مسلم ص914، كتاب النكاح، باب 8: الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم 3472 [63] 1418.
(2) أخرجه أبو داود ص1489، كتاب الأقضية، باب 12، في الصلح، حديث رقم 3594، وفي سنده كثير بن زيد؛ قال الحافظ فيه: صدوق يخطئ؛ وقال الألباني: فمثله حسن الحديث إن شاء الله ما لم يتبين خطؤه، كيف وهو لم يتفرد به (الإرواء 5/143)، حديث 1303، وقال في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/395.
(3) أخرجه البخاري ص162، كتاب البيوع، باب 16: السهولة والسماحة في الشراء والبيع...، حديث رقم 2076، وأخرجه ابن ماجة واللفظ له ص2608، باب 28: السماحة في البيع، حديث رقم 2203.
(1) راجع البخاري ص537، كتاب الدعوات، باب 58: الدعاء على المشركين، حديث رقم 6396؛ ومسلماً ص775، كتاب المساجد، باب 36: الدليل لمن قال: "الصلاة الوسطى" هي صلاة العصر، حديث رقم 1425 [205] 627.
(2) راجع البخاري ص93، كتاب العمل في الصلاة، أبواب العمل في الصلاة، باب 2: ما ينهى من الكلام في الصلاة، حديث رقم 1200؛ ومسلماً ص761، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 7: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، حديث رقم 1203 [35] 539.(10/370)
(1) أخرجه البخاري ص47، كتاب مواقيت الصلاة، باب 26: فضل صلاة الفجر، حديث رقم 574، وأخرجه مسلم ص776، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم 438 [215] 635.
(2) أخرجه البخاري ص45: كتاب مواقيت الصلاة، باب 16: فضل صلاة العصر، حديث رقم 554، وأخرجه مسلم ص776، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم 1434 [211] 633.
(3) أخرجه البخاري ص51، كتاب الأذان، باب 18، الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة...، حديث رقم 631.
(4) أخرجه البخاري ص55، كتاب الأذان، باب 51، إنما جعل الإمام ليؤتم به، حديث رقم 689، وأخرجه مسلم ص743، كتاب الصلاة، باب 19: ائتمام المأموم بالإمام، حديث رقم 926 [82] 412.
(5) راجع صحيح البخاري ص55، كتاب الأذان، باب 51: إنما جعل الإمام ليؤتم به، حديث رقم 687؛ وأخرجه مسلم ص744، كتاب الصلاة، باب 21: استخلاف الإمام...، حديث رقم 936 [90] 418.
(1) راجع البخاري ص371، كتاب التفسير، باب 40: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن...،)، حديث رقم 4530.
(2) أخرجه أحمد 5/267، حديث رقم 22650، وأخرجه أبو داود ص1437، كتاب الوصايا، باب 6: ما جاء في الوصية للوارث، حديث، رقم 2870، وأخرجه الترمذي ص1864، كتاب الوصايا، باب 5: ما جاء لا وصية لوارث، حديث رقم 2120؛ وأخرجه ابن ماجة ص2640، كتاب الوصايا، باب 6: لا وصية لوارث، حديث رقم 2713، قال الألباني في صحيح أبي داود 2/207، حسن صحيح، راجع الإرواء 6/87، حديث رقم 1655.(10/371)
(1) أخرجه أحمد 5/73، حديث رقم 20971؛ واللفظ له وأخرجه من طريق أبي حرة 5/72 – 73، حديث رقم 20971، وأخرجه الترمذي ص1766، كتاب الرضاع، باب 11: ما جاء في حق المرأة على زوجها حديث رقم 1163، وأخرجه ابن ماجة ص2588، كتاب النكاح، باب 3: حق المرأة على الزوج، حديث رقم 1851، وفي سنده سليمان بن عمرو بن الأحوص؛ قال عبد القادر الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول لابن الأثير 5/504، حاشية رقم _1): (لم يوثقه غير ابن حبان، وللحديث شواهد في الصحيحين منها حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث صحيح. أهـ. وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 1/311: حسن، وقال في الإرواء: في إسناده جهالة لكن له شاهد يتوقى به من حديث عم أبي حرة الرقاش، فالحديث بمجموع الطريقين حسن إن شاء الله تعالى 7/54، 96، 97. أهـ. باختصار.
(1) أخرجه البخاري ص284، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54: حديث رقم 3473، وأخرجه مسلم ص1071، كتاب السلام، باب 32: الطاعون والطيرة، والكهانة...، حديث رقم 5772 [92] 2218.
(2) أخرجه الترمذي ص1868، كتاب القدر، باب 17: إعظام أمر الإيمان بالقدر، حديث رقم 2155؛ وأبو داود ص1568، كتاب السنة، باب 16: في القدر، حديث رقم 4700؛ والحاكم 2/498، كتاب التفسير، تفسير سورة (ن والقلم)؛ وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي؛ وأخرجه ابن أبي عاصم من عدة طرق في كتاب السنة 1/48 – 49، باب ذكر القلم، وصحهها الألباني، وذكر الحديث في صحيح أبي داود، وقال: "صحيح" (3/148، حديث رقم 4700)؛ وقال عبد القار الأرناؤوط في جامع الأصول: "وهو حديث صحسح بطرقه" (4/18، حاشية رقم 1).
(1) أخرجه البخاري ص383، كتاب تفسير القرآن سورة الأعراف، باب 1: قول الله عز وجل: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منا وما بطن)، حديث رقم 4673، وأخرجه مسلم ص1156، كتاب التوبة، باب 6: غيرة الله تعالة وتحريم الفواحش، حديث رقم 6992 [33] 2760.(10/372)
(2) سبق تخريجه 2/176.
(1) سبق تخريجه 1/91.
(1) أخرجه مسلم ص770، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 26: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، حديث رقم 1347 [142] 595.
(2) سبق تخريجه 2/278.
(1) راجع أبا داود ص1416، كتاب الجهاد، باب 80: في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، حديث رقم 2608، 2609؛ وقال الشوكاني: رجالهما رجال الصحيح إلا علي بن بحر وهو ثقة (نيل الأوطار 8/256)< وقل الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح (2/125، حديث رقم 2608، 2609).
(2) سبق تخريجه 2/176.
(3) راجع حاشية رقم (1) 2/307.
(1) راجع البخاري ص329، كتاب المغازي، باب 14: حديث بني النضير...، حديث رقم 4028؛ ومسلماً ص991، كتاب الجهاد والسير، باب 20: إجلاء اليهو من الحجاز، حديث رقم 4592 [62] 1766.
(2) أخرجه البخاري ص238، كتاب الجهاد والسير، باب 112: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أو ل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، حديث رقم 2966، وأخرجه مسلم ص986، كتاب الجهاد والسير، باب 6: كراهة تمني لقاء العدو...، حديث رقم 4542 [20] 1742.
(3) سبق تخريجه 3/60.
(1) انظر 2/275.
(1) راجع البخاري ص415، كتاب التفسير، 53 سورة النجم، باب (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، حديث رقم 4858، وصحيح مسلم ص708، كتاب الإيمان، باب 77: معنى قول الله عز وجل: (ولقد رءاه نزلة أخرى...)، حديث رقم 432 [280] 174.
(1) أخرجه البخاري ص271، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: 7، قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم 3348، وأخرجه مسلم ص718، كتاب الإيمان، باب 96، قوله: "يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"، حديث رقم 532 [379] 222.(10/373)
(1) لم أقف على هذا السياق، وإنما وقفت على قول علي رضي الله عنه لعمرو بن عبد ود: "يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوكم رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال علي: فإني أدعوك إلى النزال، فقال: لم يا ابن أخي، فوالله ما أحب أن أقتلك، قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك،..." فتنازلا، وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، والواقعة وقعت في غزوة الخندق؛ راجع: سيرة ابن هشام 3/134 – 135؛ والسيرة النبوية لابن كثير – مقتبسة من البداية والنهاية – 3/202 – 203؛ وسير أعلام النبلاء، السيرة النبوية 1/492 – 493.
(1) أخرجه مسلم ص738، كتاب الصلاة، باب 7: استحباب القول مثل قول المؤذن...، حديث رقم 849 [11] 384.
(2) راجع البخاري ص260، كتاب بدء الخلق، باب 6: ذكر الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم، حديث رقم 3207؛ ومسلماً ص705، كتاب الإيمان، باب 74: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم 411 [259] 162.
(1) سبق تخريجه 3/35.
(2) أخرجه البخاري ص189، كتاب الخصومات، باب 1: ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي، حديث رقم 2411، وأخرجه ص1095، كتاب الفضائل، باب 42: من فضائل موسى، حديث رقم 6153 [160] 2373.
(3) سبق تخريجه 1/118.
(4) سبق تخريجه 1/7.
(5) سبق تخريجه 3/236.
(6) أخرجه البخاري ص263، كتاب بدء الخلق، باب 8: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم 2356، وأخرجه مسلم ص1170، كتاب صفة الجنة، باب 3: ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، حديث رقم 7144 [11] 2831.
(1) أخرجه البخاري ص39، كتاب الصلاة، باب 80: الخوخة والممر في المسجد، حديث رقم 466؛ وأخرجه مسلم ص1097، كتاب فضائل الصحابة، باب 1: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث رقم 6170 [2] 2382.(10/374)
(2) أخرجه البخاري ص298، كتاب المناقب، باب ، حديث رقم 3662؛ أخرجه مسلم ص1098، كتاب فضائل الصحابة، باب 1 من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث رقم 6177 [8] 2384.
(3) أخرجه البخاري ص367، كتاب تفسير القرآن، 2 سورة البقرة، باب 3: قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)، حديث رقم 4477، وأخرجه مسلم ص693، كتاب الإيمان، باب 37: بيان كون الشرك أقبح الذنوب...، حديث رقم 257 [141] 86.
(1) أخرجه مسلم ص963، كتاب الوصية، باب 3: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 4223 [15] 1631.
(1) أخرجه مسلم ص805، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب 44: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، حديث رقم 1885 [258] 810.
(2) سبق تخريجه 3/236.
(3) سبق تخريجه 3/236.
(1) راجع المعجم الكبير للطبراني 12/93، حديث رقم 12404؛ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/326)؛ وراجع مستدرك الحاكم 2/282، كتاب التفسير، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
(2) راجع البخاري ص612 – 613، كتاب الاعتصام بالسنة، باب 25: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء"، حديث رقم 7363.
(3) راجع تفسير الطبري 5/397 – 398، القول في تأويل قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض)، حديث رقم 5787 – 5788؛ ذكر ابن أبي العز أن المحفوظ عن ابن عباس أن الكرسي هو موضع القدمين (شرح العقيدة الطحاوية ص371) وذكر شعيب الأرناؤوط: أن أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بأنه موضع القدمين أصح إسناداً (شرح العقيدة الطحاوية ص371، حاشية رقم 1)، وذكر محمود شاكر أنه إذا كان أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم صحيح الإسناد فإن الخبر الآخر صحيح على شرط الشيخين (تفسير الطبري 5/401، حاشية رقم 1).(10/375)
(4) أخرجه ابن حبان في صحيحه 1/287، باب ذكر الاستحباب للمرء أن يكون له من كل خير حظ...، حديث رقم 362؛ وفي سنده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال أبو حاتم وأبو زرعة: كذاب، وقال علي بن الجنيد: صدق أبو حاتم ينبغي أن لا يحدث عنه (ميزان الاعتدال 1/73)؛ وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 5/399، تحقيق أحمد شاكر وفي سنده ابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي: قال البخاري: ضعفه عليّ جداً، وقال النسائي وأحمد ويحيى: ضعيف (ميزان الاعتدال 2/564؛ وقال شعيب في تخريج شرح العقيدة الطحاوية ص370، 371) ضعيف.
(1) أخرجه البخاري ص100، كتاب الجنائز، باب 32: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته، حديث رقم 1284، وأخرجه مسلم ص822، كتاب الجنائز، باب 6: البكاء على الميت، حديث رقم 2135 [11] 923.
(1) أخرجه البخاري ص44، كتاب مواقيت الصلاة، باب 5: فضل الصلاة لوقتها، حديث رقم 527، وأخرجه مسلم ص693، كتاب الإيمان، باب 36: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث رقم 253 [138] 85.
(2) أخرجه البخاري ص545 – 546، كتاب الرقاق، باب 38: التواضع، حديث رقم 6502.
(3) أخرجه البخاري ص299، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب ، حديث رقم 3673، وأخرجه مسلم ص1123، كتاب فضائل الصحابة، باب 54، تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث رقم 6487 [221] 2540.
(4) أخرجه البخاري ص969، كتاب العيدين، باب 11، فضل العمل في أيام التشريق، حديث رقم 969؛ وأخرجه الترمذي ص1722، كتاب الصوم، باب 52: ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم 757؛ واللفظ له.
(5) أخرجه البخاري ص229، كتاب الجهاد، باب 36: فضل الصوم في سبيل الله، حديث رقم 2840، وأخرجه مسلم ص862، كتاب الصوم، باب 31: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه...، حديث رقم 2713 [168] 1153.(10/376)
(6) أخرجه البخاري ص92، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، باب 1: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث رقم 1190، وأخرجه مسلم ص908، كتاب الحج، باب 94: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، حديث رقم 3374 [505] 1394.
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير 2/21؛ وقال المنذري في الترغيب والترهيب رواته محتج بهم في الصحيح 2/587، ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين، حديث رقم 9.
(2) أخرجه مسلم ص702، كتاب الإيمان، باب 64: رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب...، حديث رقم 369 [231] 144.
(1) أخرجه البخاري ص108، كتاب الجنائز، باب 92: ما قيل في أولاد المشركين، حديث رقم 1385، وأخرجه مسلم ص1141، كتاب القدر، باب 6: معنى كل مولود يولد على الفطرة...، حديث رقم 6755 [22] 2658.
(2) انظر 3/271.
(3) أخرجه البخاري ص6، كتاب الإيمان، باب 36: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم 48، وأخرجه مسلم ص691، كتاب الإيمان، باب 28: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، حديث رقم 221 [116] 64.
(1) راجع البخاري ص287، كتاب المناقب، باب 9: قصة خزاعة، حديث رقم 3521؛ ومسلماً ص1173، كتاب الجنة، باب 13: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم 7192 [50] 3856.
(2) راجع مسلماً ص820، كتاب الكسوف، باب 3: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، حديث رقم 2102 [10] 904.
(1) أخرجه أحمد 1/295، حديث رقم 2678، واللفظ له، وأخرجه أبو داود ص1483، كتاب البيوع، باب 64: في ثمن الخمر والميتة، حديث رقم 3488، وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/370: صحيح.
(1) أخرجه البخاري ص60، كتاب الأداب، باب 95: وجوب القراءة للإمام والمأموم...، حديث رقم 757؛ وأخرجه مسلم ص740، كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة...، حديث رقم 885 [45] 397.(10/377)
(1) أخرجه مسلم ص838، كتاب الزكاة، باب 19: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث رقم 2346 [65] 1015.
(2) أخرجه أحمد 1/251، حديث رقم 1843، وفيه هشيم بن بشير، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، وقد عنعن في هذا الحديث، وقال الترمذي: (سمعت إسحاق بن منصور يقول: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع هشيم حديث أبي بشر: ليس الخبر كالمعاينة، وأخرج ابن حبان له شاهداً 8/33، باب ، ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به هشيم، حديث رقم 6181، وأخرج الحاكم الشاهد له، 2/380، كتاب التفسير، سورة الأنبياء، وقال صحيح على شرط الشيخين، واقره الذهبي وقال: سمعه من أبي بشر ثقتان.
(1) أخرجه البخاري ص274، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 11، قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم...)...، حديث رقم 3372، وأخرجه مسلم ص703، كتاب الإيمان، باب 69: زيادة طمأنينة لقلب بتظاهر الأدلة، حديث رقم 382 [238] 151.
(2) التخريج السابق.
(3) سبق تخريجه 2/420.
(1) سبق تخريجه 1/337.
(1) أخرجه مسلم ص696، كتاب الإيمان، باب 46: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية...، حديث رقم 293 [171] 106.
(2) سبق تخريجه 1/90.
(1) سبق تخريجه 2/127.
(2) أخرجه مسلمص893، كتاب الحج، باب 51: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً حديث رقم 3137 [310] 1297.
(3) سبق تخريجه 2/42.
(4) أخرجه البخاري ص420، كتاب التفسير، باب 5: قوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم) الآية، حديث رقم 4905، وأخرجه مسلم ص1130، كتاب البر والصلة، باب 16: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، حديث رقم 6583 [63] 2584.
(1) سبق تخريجه 2/247.
(2) سبق تخريجه 2/247.
(1) أخرجه البخاري ص501، كتاب اللباس، باب 61: المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم 5886.(10/378)
(2) أخرجه أحمد 1/230، حديث رقم 2033، قال الحافظ في البلوغ: [رواه أحمد بإسناد لا بأس؛ وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"]، وقال الهيثمي: (رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير؛ وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية) (مجمع الزوائد 2/187)، وقال أحمد شاكر، في تخريج المسند 3/326: إسناده حسن.
(3) أخرجه البخاري ص204، كتاب الهبة، باب 14: هبة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها، حديث رقم 2589، وأخرجه مسلم ص960، كتاب الهبات، باب 2: تحريم الرجوع في الصدقة بعد القبض...، حديث رقم 4170 [5] 1622.
(4) أخرجه أبو داود ص1384، كتاب الطلاق، باب 9: في الطلاق على الهزل، حديث رقم 2194؛ وأخرجه الترمذي ص1769، كتاب الطلاق واللعان، باب 9: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، حديث رقم 1184، وأخرجه ابن ماجة ص2599، كتاب الطلاق، باب 13: من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، = =حديث رقم 2039، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/198، كتاب الطلاق، وقال: [حديث صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين]، وعقب الذهبي: [قلت: فيه لين]: وقال الحافظ: [مختلف فيه، قال النسائي: 3/236)، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود 2/9).
(1) سبق تخريجه 2/427 حاشية (2).
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر 6/250 حديث رقم 6319؛ وفي سنده الوازع بن نافع عن سالم عن ابن عمر، وقال: لم يروه عن سالم إلا الوازع بن نافع. أهـ. وقال العراقي في الوازع بن نافع: متروك [تخريج إحياء علوم الدين 4/424، حاشية (1)]، وقال: أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عباس في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه. أهـ. المرجع السابق.
(1) سبق تخريجه 1/337.
(1) انظر 3/328.(10/379)
(2) أخرجه البخاري ص114، كتاب الزكاة، باب 32، زكاة الورق، حديث رقم 1447؛ وأخرجه مسلم ص831، كتاب الزكاة، باب 1: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، حديث رقم 2263 [1] 979.
(1) راجع البخاري ص118، كتاب الزكاة، باب 66: في الركاز الخمس، حديث رقم 1499؛ ومسلماً ص981، كتاب الحدود، باب 11: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، حديث رقم 4465 [45] 1710.
(2) راجع 1/148.
(3) أخرجه البخاري ص3، كتاب الإيمان، باب 7: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم 13.
(4) أخرجه مسلم ص1009، كتاب الإمارة، باب 10: وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، حديث رقم 4773 [44] 1842.
(1) سبق تخريجه 2/278.
(1) أخرجه البخاري ص834، كتاب الأذان، باب 149: الدعاء قبل السلام، حديث رقم 834؛ وأخرجه مسلم 1148، كتاب الذكر والدعاء، باب 14: الدعوات والتعوذ، حديث رقم 6869 [48] 2705.
(1) راجع البخاري ص553، كتاب القدر، باب 6: إلقاء العبد النذر إلى القدر، حديث رقم 6608؛ ومسلماً ص964، كتاب النذر، باب 2: النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً، رقم 4237 [2] 1639.
(2) أخرجه البخاري ص559، كتاب الإيمان والنذور، باب 28: النذر في الطاعة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر)، حديث رقم 6696.
(1) سبق تخريجه 3/268، حاشية (2).
(2) سبق تخريجه 3/29، حاشية (1).
(3) سبق تخريجه 3/269، حاشية (2).
(4) أخرجه البخاري ص425، كتاب تفسير القرآن، باب 80: سورة عبس، حديث رقم 4937؛ وأخرجه مسلم ص803، كتاب صلاة المسافرين، باب 38، فضل الماهر بالقرآن...، حديث رقم 1862 [244] 798 واللفظ له.
(5) أخرجه البخاري ص53، كتاب الأذان، باب 36: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة...، حديث رقم 660؛ وأخرجه مسلم ص840، كتاب الزكاة، باب 30: فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم 2380 [91] 1031.(10/380)
(1) أخرجه أحمد 5/231، حديث رقم 22366، وأخرجه الترمذي ص1915، كتاب الإيمان، باب 8: ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم 2616، وأخرجه ابن ماجة ص2715، كتاب الفتن، باب 12، كف اللسان في الفتنة، حديث رقم 3973، وفيه عاصم بن أبي النجود قال الذهبي فيهك في الحديث دون الثبت صدوق يهم (ميزان الاعتدال 2/357)، لكن أخرج الحاكم من طويق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتبة عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ... مثله (2/412 – 413) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 2/359: صحيح، وقال شعيب في تخريج جامع العلوم والحكم 2/134 حاشية (1): حديث صحيح بطرقه.
(1) أخرجه البخاري ص222، كتاب الوصايا، باب 19: ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، حديث رقم 2760؛ وأخرجه مسلم ص836، كتاب الزكاة، باب 15: وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، حديث رقم 2326 [51] 1004؛ واللفظ للبخاري.
(2) أخرجه البخاري ص221، كتاب الوصايا، باب 16: إذا قال: أرضي وبستاني صدقة الله، حديث رقم 2756.
(1) راجع مسلماً ص709، كتاب الإيمان، باب 80: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، حديث رقم 449 [297] 181، 450 [298] 181.
(2) سبق تخريجه 2/316.
(3) أخرجه البخاري ص117، كتاب الزكاة، باب 53: قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافاً) وكم الغنى...، حديث رقم 1479؛ وأخرجه مسلم ص741، كتاب الزكاة، باب 34: المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه...، حديث رقم 2393 [101] 1039.
(1) أخرجه أحمد 4/224، حديث رقم 18135، أخرجه أبو داود ص1344، كتاب الزكاة، باب 24: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، حديث رقم 1633؛ وأخرجه النسائي ص2256، كتاب الزكاة، باب 91: مسالة القوي المكتسب، حديث رقم 2599، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح 2/228، والإرواء 3/381، حديث رقم 876.(10/381)
(1) راجع صحيح مسلم ص842، كتاب الزكاة، باب 35: كراهة المسألة، حديث رقم 2403 [108] 1043.
(2) أخرجه البخاري ص118، كتاب الزكاة، باب 61: الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 1493، وأخرجه مسلم ص849، كتاب الزكاة، باب 52، إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب...، حديث رقم 2485 [170] 1074.
(1) أخرجه مسلم ص880 – 881، كتاب الحج، باب 19: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 2950 [147] 1218.
(1) سبق تخريجه 3/277.
(1) سبق تخريجه 2/247.
(2) أخرجه مسلم ص838، كتاب الزكاة، باب 19: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم 2346 [65] 1015.
(1) أخرجه ابن ماجة بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون باب أ) بدون (أيسرها...) ص2613، كتاب التجارات، باب 58: التغليظ في الربا، حديث رقم 2275؛ وقال الألباني في صحيح ابن ماجة: (صحيح) 2/27 – 28، وأخرجه الحاكم بتمامه 2/37، كتاب البيوع، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
(2) أخرجه البخاري ص181، كتاب الوكالة، باب 11: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، حديث رقم 2312، وأخرجه مسلم ص954، كتاب المساقاة، باب 18: بيع الطعام مثلاً بمثل، حديث رقم 4083 [96] 1594.
(1) أخرجه البخاري ص178، كتاب الحوالات، باب 1: الحوالة وهل يرجع في الحوالة، حديث رقم 2287؛ وأخرجه مسلم ص950، كتاب المساقاة، باب 7: تحريم مطل الغني وصحة الحوالة...، حديث رقم 4002 [33] 1564.
(2) 3/268 حاشية (2).
(1) أخرجه أحمد 6/147 حديث رقم 25656، وأخرجه الترمذي ص1772، كتاب البيوع، باب 7: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، حديث رقم 1213، وأخرجه النسائي ص2386، كتاب البيوع، باب 70: البيع إلى الأجل المعلوم، حديث رقم 4632؛ وأخرجه الحاكم 2/23 – 24، كتاب البيوع، وقال: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في صحيح الترمذي 2/4 – 5: صحيح.(10/382)
(1) سبق تخريجه 1/148.
(2) أخرجه البخاري ص152، كتاب الصوم، باب 42: من مات وعليه صوم، حديث رقم 1952؛ وأخرجه مسلم ص861، كتاب الصيام، باب 27: قضاء الصوم عن الميت حديث رقم 2692 [153] 1147.
(1) أخرجه البخاري ص120، كتاب الحج، باب 1، وجوب الحج وفضله...، حديث رقم 1513؛ وأخرجه مسلم ص900، كتاب الحج، باب 71: الحج عن العاجز لزمانه وهرم...، حديث رقم 3251 [407] 1334.
(2) أخرجه البخاري ص145، كتاب الحج، باب 22: الحج والنذور عن الميت، حديث رقم 1852.
(3) سبق تخريجه 3/364 حاشية (1).
(4) أخرجه البخاري ص221، كتاب الوصايا، باب 16: إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله، حديث رقم 2756.
(5) أخرجه مسلم 827، كتاب الجنائز، باب 19: من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، حديث رقم 2199 [59] 948.
(6) أخرجه أبو داود ص1465، كتاب الجنائز، باب : 67 الاستفغار عند القبر للميت، حديث رقم 3221، وأخرجه الحاكم 1/370، كتاب الجنائز، وقال: صحيح، وقال الذهبي: صحيح (المرجع السابق 1/371) وقال: عبد الله بن بحير ليس بالعمدة، ومنهم من يقويه، وهانئ روى عنه جماعة، وليس له ذكر في الكتب الستة (المرجع السابق)، وقال النسائي: ليس به بأس (ت التهذيب 9/23)، أخرج له أبو داود هذا الحديث، وأخرج الترمذي وابن ماجة حديثاً آخر: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى...)، وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/305: صحيح؛ وقال عبد القادر في تخريج جامع الأصول 11/149، حديث رقم 8658 حاشية (1): ‘إسناده حسن.
(7) سبق تخريجه 3/248.(10/383)
(8) أخرجه أحمد 6/100 – 101: حديث رقم 25201؛ وأخرجه أبو داود ص1544، كتاب الحدود، باب 17: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، حديث رقم 4398؛ وأخرجه النسائي ص2312، كتاب الطلاق باب 21: من لا يقع طلاقه من الأزواج، حديث رقم 3462؛ وأخرجه ابن ماجة ص2599، كتاب الطلاق، باب 15: طلاق المعتوه والصغير والنائم، حديث رقم 2041، وأخرجه الدارمي 2/225، كتاب الحدود، باب 1: رفع القلم عن ثلاثة، حديث رقم 2296، وأخرجه الحاكم 2/59، كتاب البيوع، وقال: صحيح على شرط مسلم؛ وأقره الذهبي، ومدار الحديث على حماد بن أبي سليمان: اختلفوا فيه؛ وقال الذهبي: وثقه ابن معين وغيره (الميزان 1/595)؛ فهو حسن الحديث (تحرير التقريب 1/319)، وقال الألباني في صحيح أبي داود 3/55: صحيح، وقال عبد القادر في تخريج جامع الأصول 3/611، حاشية (3): إسناده حسن.
(1) أخرجه البخاري ص47، كتاب مواقيت الصلاة، باب 30: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، حديث رقم 581.
(1) أخرجه مسلم ص1093، كتاب الفضائل، باب 38: وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، حديث رقم 6128 [141] 2363.
(2) أخرجه البخاري ص174، كتاب السلم، باب 2: السلم في وزن معلوم، حديث رقم 2241، وأخرجه مسلم ص957، كتاب المساقاة، باب 25: السلم، حديث رقم 4118 [127] 1604.
(1) أخرجه البخاري ص220، كتاب الوصايا، باب 1: الوصايا، حديث رقم 2738، وأخرجه مسلم ص962، كتاب الوصية، باب 1: وصية الرجل مكتوبة عنده، حديث رقم 4204 [1] 1627، واللفظ لمسلم.
(2) ذكره العجلوني في كتاب "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" بلفظ: "رحم الله امراءاً جب الغيبة عن نفسه" 1/513، حديث رقم 1367، ولم يذكر أصلاً لهذا الأثر.(10/384)
(1) راجع أحمد ص1614 – 1615، حديث رقم 22228؛ وأبا داود ص1490 – 1491، كتاب القضاء، باب 20: إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد يجوز له أن يقضي به، حديث رقم 3607؛ والنسائي ص2388، كتاب البيوع، باب 81: التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، حديث رقم 4651؛ ومستدرك الحاكم 2/17 – 18، كتاب البيوع؛ وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ورجاله باتفاق الشيخين ثقات، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (المرجع السابق)؛ وقال الألباني: صحيح (صحيح أبي داود 2/399، حديث رقم 3607).
(1) سبق تخريجه 2/25.
(1) راجع البخاري ص234، كتاب الجهاد، باب 89: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، حديث رقم 2916.
(1) سبق تخريجه 2/25.
(2) سبق تخريجه 1/335.
(1) أخرجه مسلم ص699، كتاب الإيمان، باب 58: بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس...، حديث رقم 329 [199] 125.
(1) أخرجه ابن حبان 4/170، ذكر ما يقول المسافر إذا رأى قرية يريد دخولها، حديث رقم 2698، وأخرجه ابن خزيمة 4/150، حديث رقم 2565؛ وأخرجه الحاكم 1/446، كتاب المناسك، وقال: حديث صحيح الإسناد؛ وأقره الذهبي.
(2) سبق تخريجه 2/20.
(3) أخرجه مسلم ص200، كتاب الإيمان، باب 60: بيان الوسوسة في الإيمان...، حديث رقم 340 [209] 132.
(4) أخرجه أحمد 1/235، حديث رقم 2097، وأخرجه أبو داود ص1597، كتاب الأدب، باب 108، في رد الوسوسة، حديث رقم 5112، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح 3/256.
(5) أخرجه مسلم ص699 – 700، كتاب الإيمان، باب 59: إذا هم العبد بحسنة...، حديث رقم 336 [205] 129.
(6) أخرجه البخاري ص1: كتاب بدء الوحي، باب 1: كيف كان بدء الوحي، حديث رقم 1، وأخرجه مسلم ص1019، كتاب الإمارة، باب قوله: إنما الأعمال بالنية حديث رقم 4927 [155] 1907.(10/385)
(7) أخرجه أحمد 4/230، حديث رقم 18187، وأخرجه الترمذي ص1885 – 1886، كتاب الزهد، باب 16: ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن، حديث رقم 2325؛ وأخرجه ابن ماجة ص2733 كتاب الزهد، باب 26: النية، حديث رقم 4228، وقال الألباني في صحيح الترمذي 2/270 حديث رقم 1894: صحيح.
(8) أخرجه البخاري ص4، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا...)، حديث رقم 31، وأخرجه مسلم ص1178، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب 4: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم 7252 [14] 2888.
(1) نقله الترمذي عن عمر بن الخطاب ص899، كتاب صفة القيامة، باب 35: حديث الكيس من دان نفسه، في سباق حديث رقم 2459، واخرجه ابن أبي شيبة 8/115، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث رقم 34448؛ وفيه راوٍ لم يسمه.
(2) سبق تخريجه 1/200.
(1) راجع البخاري ص413، كتاب تفسير القرآن، باب 2: قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر...)، حديث رقم 4836، وأخرجه مسلم ص1169، كتاب صفات المنافقين، باب 18: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم 7124 [79] 2819.
(2) راجع البخاري ص88، كتاب التهجد، باب 9: طول القيام في صلاة الليل، حديث رقم 1135؛ وصحيح مسلم ص800، كتاب صلاة المسافرين، باب 27: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، حديث رقم 1815 [204] 773.
(1) أخرجه البخاري ص469، كتاب الأطعمة، باب 41: الرطب والتمر وقول الله تعالى: (وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)، حديث رقم 5443.
(1) أخرجه مسلم ص1169، كتاب صفات المنافقين، باب 17: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، حديث رقم 7122 [78] 2818.(10/386)
(1) راجع أحمد ص1571، حديث رقم 21672، وص1590، حديث رقم 21897، من حديث أبي ذر؛ قال الهيثمي: رواه أحمد بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/315)؛ وقال الساعاتي: "وهو الذي أثبته هنا" (الفتح الرباني 18/99 – 101)؛ وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم" (السلسلة الصحيحة 3/471، حديث رقم 1482)؛ ومن حديث حذيفة راجع أحمد ص1726، حديث رقم 23640؛ والمعجم الكبير للطبراني 3/169، حديث رقم 3025؛ مسند أبي داود الطيالسي ص56، حديث رقم 418؛ قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/327، 315)؛ وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم" (السلسلة الصحيحة 3/471، حديث رقم 1482).
(2) راجع مسلماً ص804، كتاب صلاة المسافرين، باب 43: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة...، حديث رقم 1877 [254] 806؛ لكن فيه: "هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم...".
(3) راجع حاشية رقم 1.
(4) راجع البخاري ص327، كتاب المغازي، باب 12: حديث رقم 4008؛ ومسلماً ص804، كتاب صلاة المسافرين، باب 43: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة...، حديث رقم 1878 [255] 807.
(1) أخرجه البخاري ص487، كتاب الطب، باب 7: الحبة السوداء، حديث رقم 5687؛ وأخرجه مسلم ص1070، كتاب السلام، باب 29: التداوي بالحبة السوداء، حديث رقم 5766 [88] 2215.
(1) سبق تخريجه 2/42.
(2) سبق تخريجه 3/119.
(3) أخرجه البخاري ص48، كتاب مواقيت الصلاة، باب 37: من نسي صلاة فليصلها...، حديث رقم 597، وأخرجه مسلم ص785، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 55: قضاء الصلاة الفائتة...، حديث رقم 1566 [314] 684.
(4) أخرجه البخاري ص60، كتاب الأذان، باب 95: وجوب القراءة للإمام والمأموم...، حديث رقم 757؛ وأخرجه مسلم ص740، كتاب الصلاة، باب 11؛ وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة...، حديث رقم 885 [45] 397.(10/387)
(5) أخرجه مسلم ص863، كتاب الصيام، باب 33: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، حديث رقم 3716 [171] 1155.
(6) أخرجه البخاري ص153، كتاب الصوم، باب 46: إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، حديث رقم 1959.
(7) أخرجه البخاري ص151، كتاب الصوم، باب 30: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء...، حديث رقم 1936.
(1) سبق تخريجه 3/119.
(2) المرجع السابق.
(1) سبق تخريجه 3/325.(10/388)
تفسير سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
سورة الكهف مكيَّة واستثنى بعض المفسرين بعض الآيات: أولها (1 - 8)، وآية رقم (28) ومن
(107 - 110) على أنها مدنية، ولكن هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل أن السُّور المكيَّة مكيَّةٌ كلها وأن المدنيَّة مدنيَّةٌ كُلُّها، فإذا رأيت استثناءً فلا بد من دليل.
والمَكِّي ما نزل قبل الهجرة والمدنِيُّ ما نزَل بعد الهجرة حتى وإن نزل بغير المدينة مثل قوله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3) فقد نزلت بعرفة عام حجة الوداع.
* * *
)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1) )قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسانا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (الكهف:3)
قوله تعالى(الْحَمْدُ ) هو وصفُ المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، وبقولنا محبةً وتعظيماً خرج المدح؛ لأن المدح لا يستلزم المحبة والتعظيم، بل قد يَمدح الإنسان شخصاً لا يساوي فلساً ولكن لرجاء منفعة أو دفع مضرة، أما الحمد فإنه وصف بالكمال مع المحبة والتعظيم.
( لِلَّهِ) هذا اسمٌ عَلَمٌ على الله مُختَصٌّ به لا يوصف به غيره، وهو عَلَمٌ على الذات المقدَّسة تبارك وتعالى.
(الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) جملة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ } هل هي خَبَرٌ، أراد الله أن يُخبر عباده بأنه محمود، أو هي إنشاءٌ وتوجيهٌ على أنَّنا نحمدُ الله على هذا، أو الجميع؟
الجواب: الجميع، فهو خبرٌ من الله عن نفسه، وهو إرشادٌ لنا أن نَحمدَ الله على ذلك.(11/1)
(عَبْدِهِ) يعني مُحَمَّداً ، وَصَفَهُ تعالى بالعبودية؛ لأنه أعبَدُ البَشَر لله . وقد وصَفَه تعالى بالعبودية في حالات ثلاث:
1 -حالِ إنزال القرآن عليه كما في هذه الآية.
2 -في حالِ الدفاعِ عنهُ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: )وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)
3 -وفي حالِ الإسراءِ به، قال تعالى: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1)
يعني في أشرف مقاماتِ النبي صلى الله عليه وسلم وَصفهُ الله بأنه عبدٌ، ونِعمَ الوصفُ أن يكون الإنسانُ عبداً لله، حتى قال العاشق في معشوقته:
لا تدعُني إلَّا بيا عَبدَها فإنه أشرف أسمائي { الكتاب} أي: القرآن، سُمِّي كتاباً؛ لأنه يُكتب، أو لأنهُ جامع، لأن الكَتْب بمعنى الجَمْع، ولهذا يقالُ: الكتيبةُ يعني المجموعةُ من الخيل، والقرآن صالح لهذا وهذا فهو مكتوبٌ وهو أيضاً جامع.
(لم يجعل له عوجا)لم يجعل لهذا القرآن عوجاً بل هو مستقيم؛ ولهذا قال:
( قيما)وقيماً حال من قوله: {الكتاب)، يعني: حالَ كونه قَيِّماً. فإن قال قائل: "لماذا لم نجعلها صفة، لأن الكتابَ منصوبٌ وَقَيِّماً منصوب؟".(11/2)
فالجواب: أن قيماً نَكِرة والكتاب معرفة ولا يمكن أن توصف المعرفة بالنَّكِرَة، ومعنى {قيما} أي: مستقيماً غايةَ الاستقامة، وهنا ذَكَرَ نَفْيَ العيبِ أولاً ثم إثباتَ الكمال ثانياً. وهكذا ينبغي أن تُخلي المكان من الأذى ثم تَضع الكمال؛ ولهذا يقال: "التخلية قبل التحلية"، يعني قبل أن تُحلِّي الشيء أخلِ المكان عمَّا ينافي التحلي ثم حَلِّه، وفي قوله تعالى: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قيما). تنبيه. وهو أنه يجب الوقوف على قوله: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } لأنك لو وصلت لصار في الكلام تناقضٌ، إذ يوهمُ أن المعنى لم يكن له عوج قَيِّم.
ثم بيَّن تعالى الحكمة من إنْزال القرآن في قوله(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسانا )
الضمير في قوله: {لينذر } يحتملُ أن يكون عائداً على {عبده } ويحتملُ أن يكون عائداً على { الكتاب} وكلاهما صحيح، فالكتاب نَزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل أن يُنذِر به، والكتاب نفسُه مُنذِر، ينذر الناس.
( بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) أي من قِبَلِ الله ، والبأس هو العذاب، كما قال تعالى:(فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)(لأعراف: من الآية4)، يعني عذابنا، والإنذار: هو الإخبار بما يُخَوِّف.
( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ )التبشير: الإخبار بما يسر، وهنا نجد أنه حُذِف المَفعول في قوله: {لِيُنْذِر } وذكر المفعول في قوله: { وَيُبَشِّر}، فكيف نقدر المفعول بـ"ينذر"؟
الجواب: نُقدِّرُه في مقابل من يُبَشَّر وهم المؤمنون فيكون تقديره "الكافرين"، وهذه فائدة من فوائد علم التفسير: أنّ الشيء يعرَف بذكر قبيله المقابل له، ومنه قوله تعالى: { فأنفروا ثباتا أو أنفروا جميعاً} [النساء: 71] . {ثبات } : يعني "متفرقين" والدليل ذكر المقابل له(أو أنفروا جميعاً)(11/3)
وقوله تعالى: { الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } يفيد أنه لا بدَّ مع الإيمان من العمل الصالح، فلا يكفي الإيمان وحده بل لا بد من عمل صالح.؛ ولهذا قيل لبعض السلف: "أليس مِفتاحُ الجنَّة لا إله إلَّا الله؟" يعني فمن أتى به فُتح له! قال: بلى، ولكن هل يفتحُ المفتاحُ بلا أسنان؟
(الْمُؤْمِنِين) الذين آمنوا بما يجب الإيمان به، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ما يجب الإيمان به لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه"
( يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) يعني يعملون الأعمال الصالحات، ومتى يكون العمل صالحاً؟
الجواب: لا يمكن أن يكون صالحاً إلَّا إذا تضمن شيئين:
1 -الإخلاص لله تعالى: بألَّا يقصد الإنسان في عمله سوى وجه الله والدار الآخرة.
2 -المتابعة لشريعة الله: ألّا يخرج عن شريعة الله سواء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره.
ومن المعلوم أن الشرائع بعد بِعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها منسوخة بشريعته صلى الله عليه وسلم.
وضد الإخلاص: الشرك، والاتباع ضد الابتداع، إذاً البدعة لا تقبل مهما ازدانت في قلب صاحبها ومهما كان فيها من الخشوع ومهما كان فيها من ترقيق القلب لأنها ليست موافقة للشريع؛ ولهذا نقول: كُل بدعة مهما استحسنها مبتدعها فإنها غير مقبولة، بل هي ضلالة كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عمل عملاً على وفق الشريعة ظاهراً لكن القلب فيه رياء فإنه لا يقبل لفقد الإخلاص، ومن عمل عملاً خالصاً على غير وفق الشريعة فإنه لا يقبل، إذاً لا بد من أمرين: إخلاصٍ لله ، واتباعٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلَّا لم يكن صالحاً، ثم بيَّن تعالى ما يُبَشَّر به المؤمنون فقال:(11/4)
(أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسانا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (الكهف:3) (أجرا) أي ثواباً، وسمى الله ثواب الأعمال أجراً لأنها في مقابلة العمل، وهذا من عدله جلَّ وعلا أن يسمي الثواب الذي يثيب به الطائعَ أجراً حتى يطمئن الإنسان لضمان هذا الثواب؛ لأنه معروف أن الأجير إذا قام بعمله فإنه يستحق الأجر.
وقوله: {حسانا } جاء في آية أخرى ما هو أعلى من هذا الوصف وهو قوله تعالى: )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة)(يونس: من الآية26) وجاء في آية أخرى: { هل جزاء الاحسان الا الإحسان} [الرحمن: 60] فهل نأخذ بما يقتضي التساوي أو بما يقتضي الأكمل؟
الجواب: بما يقتضي الأكمل، فنقول: {حسنا } أي هو أحسن شيء ولا شك في هذا، فإن ثواب الجنة لا يعادله ثواب.
وقوله: ( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) أي باقين فيه أبداً، إلى ما لا نهاية، فلا مرض ولا موت ولا جوع ولا عطش ولا حر ولا برد، كل شيء كامل من جميع الوجوه.
واعلم أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنَّة موجودة الآن وأنها مؤبدة، وأن النار موجودة الآن وأنها مؤبدة، وقد جاء هذا في القرآن، فآيات التأبيد بالنسبة لأصحاب اليمين كثيرة، أما بالنسبة لأصحاب الشمال فقد ذُكر التأبيد في آيات ثلاث:
1 -في سورة النساء، قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (النساء:168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (النساء:169)
2 -في سورة الأحزاب، قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (الأحزاب:64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (الأحزاب:65)
3 -في سورة الجن في قوله تعالى: )ِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(الجن: من الآية23)(11/5)
وإذا كانت ثلاثُ آيات من كتاب الله صريحة في التأبيد فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف، كما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلَّا خلافاً له حظٌّ من النَّظرِ وما ذكر من الخلاف في أبدية النار لا حظَّ له، كيف يقول الخالق العليم: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ثم يقال: لا أبدية؟ هذا غريب، من أغرب ما يكون، فانتبهوا للقاعدة في مذهب أهل السنّة والجماعة: أن الجنَّة والنار مخلوقتان الآن لأن الله ذكر في الجنة {أعدت } وفي النار (أعدت). وثانياً: أنهما مؤبدتان لا تفنَيان لا هما ولا من فيهما كما سمعتم.
* * *
)وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً(4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (الكهف:5)
قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } كالإيضاح لما أبهم في الآية السابقة، فيه إنذار لمثل النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، ولليهود الذين قالوا: العُزير ابن الله، وللمشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله.
والعزير ليس بنبي ولكنه رجل صالح.
( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بالولد أو بالقول، { مَا لَهُمْ بِهِ } أي بهذا القول، أو { مَا لَهُمْ بِهِ } أي بالولد (مِنْ عِلْمٍ ) فإذا انتفى العلم ما بقي إلَّا الجهل.
(ٍ وَلا لِآبَائِهِمْ) الذين قالوا مثل قولهم، ليس لهم في ذلك علم، ليسَ هناك إلّا أوهام ظنوها حقائق وهي ليست علوماً.
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) قد يُشكل على طالب العلم نَصْبُ(كَلِمَة)(11/6)
والجواب(كَلِمَة )تمييز والفاعل محذوف والتقدير "كبرت مقالتهم كلمةً" تخرج من أفواههم: أي عَظُمت لأنها عظيمة والعياذ بالله، كما قال تعالى: )تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً) (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93) . يعني: مستحيل غاية الاستحالة أن يكون له ولد.
فإن قال قائل: "أليس الله يقول: )قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف:81)
الجواب: نعم. ولكن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، لأننا نفهم من آيات أخرى أنه لا يمكن أن يكون وهذا كقوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: )فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)(يونس: من الآية94)وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يَشك، ولكن على فرض الأمر الذي لا يقع، كقوله تعالى: )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الانبياء:22) . فإنه لا يمكن أن يكون فيهما آلهة سوى الله ، فتبين بهذا أن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، بل قد يكون مستحيلاً غاية الاستحالة.(11/7)
قوله: (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) هل لنا أن نستفيد من قوله: (ُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أن هؤلاء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم لا يستيقنون أن لله ولداً؛ لأن أي عاقل لا يمكن أن يقول إن لله ولداً، فكيف يمكن أن يكون لله ولدٌ، وهذا الولد من البشر نراه مثلنا يأكل ويشرب ويلبس، ويلحقه الجوع والعطش والحر والبرد، كيف يكون ولدٌ لله تعالى؟ هذا غير ممكن؛ ولذلك قال:( إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) "إن" بمعنى "ما" ومن علامات "إن" النافية أن يقع بعدها "إلَّا" {إن أنت إلا نذير } [فاطر: 23] ، { إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110] .
(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقول هؤلاء إلَّا كذباً. والكذب: هو الخبر المخالف للواقع، والصدق: هو الخبر المطابق للواقع، فإذا قال قائل: "قدِم فلانٌ اليوم" وهو لم يَقدُم، فهذا كذب سَواءٌ علم أم لم يعلم، ودليل ذلك قصة سُبَيْعةَ الأسلمِيَّةِ رضي الله عنها حينما مات عنها زوجها وهي حامل فوضعت بعد موته بليالٍ ثم خلعت ثياب الحداد، ولبست الثياب الجميلة تريد أن تُخطَب، فدخل عليها أبو السنابل فقال لها: "ما أنت بناكح حتى يأتي عليك أربعةُ أشهر وعشر"، لأنها وضعت بعد موت زوجها بنحو أربعين ليلة أو أقل أو أكثر، فلبست ثياب الإحداد ثم أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالخبر فقال لها: "كذب أبو السنابل" ، مع أن الرجل ما تعمد الكذب، يظن أنها تعتدُ بأطول الأجلين، فإن بقيت حاملاً بعد أربعةِ أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تضع، وإن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تتم لها أربعةُ أشهر وعشر، تعتد أطول الأجلين، ولكن السنَّة بينت أن الحامل عِدَّتُها وضع الحمل ولو دون أربعةِ أشهر، فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على قول أبي السنابل "كَذب" مع أنه لم يتعمد.
* * *(11/8)
)فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6)
قوله تعالى: {)فَلَعَلَّكَ } الخِطاب للرسول صلى الله عليه وسلم { بَاخِعٌ نَفْسَكَ } مهلكٌ نفسَك، لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجيبوه حَزِنَ حَزناً شديداً، وضاق صدره حتى يكادَ يَهلك، فسلَّاه الله وبيّن له أنه ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، وإنما عليه البلاغ وقد بلَّغ.
( عَلَى آثَارِهِمْ) أي باتباع آثارهم، لعلَّهم يرجعون بعد عدم إجابتهم وإعراضهم.
( إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيث)ِ أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن.
(أَسَفاً) } مفعول من أجله، العامل فيه: { بَاخِعٌ } المعنى أنه لعلك باخع نفسك من الأسف إذا لم يؤمنوا بهذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلا،. قال تعالى: { فإنما عليك البلاغ} [الرعد: 40] ، وهكذا ورثته من بعده: العلماء، وظيفتهم البلاغ وأما الهداية فبيد الله، ومن المعلوم أن الإنسان المؤمن يحزن إذا لم يستجبِ الناس للحق، لكنَّ الحازنَ إذا لم يقبل الناس الحق على نوعين:
1 - نوع يحزن لأنه لم يُقبل.
2 - ونوع يحزن لأن الحق لم يُقبل.
والثاني هو الممدوح لأن الأول إذا دعا فإنما يدعو لنفسه، والثاني إذا دعا فإنما يدعو إلى الله ، ولهذا قال تعالى: {أدع الى سبيل ربك } [النحل: 125 .
لكن إذا قال الإنسان أنا أحزن؛ لأنه لم يُقبل قولي؛ لأنه الحق ولذلك لو تبين لي الحق على خلاف قولي أخذت به فهل يكون محموداً أو يكونُ غير محمود؟
الجواب: يكون محموداً لكنه ليس كالآخرَ الذي ليس له همٌّ إلَّا قَبول الحق سَواء جاء من قِبَله أو جاء من قبل غيره.
* * *
)إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)(11/9)
إذا تأملت القرآن تجد أنه غالباً يقدم الشرع على الخلق، قال الله تعالى: {الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان(3) ( الرحمن) ، وتأمل الآيات في هذا المعنى تجد أن الله يبدأ بالشرائع قبل ذكر الخلق وما يتعلق به؛ لأن المخلوقات إنما سُخِّرت للقيام بطاعة الله ، قال الله تبارك وتعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) ، وقال )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: من الآية29)إذاً المهم القيام بطاعة الله ، وتأمل هذه النكتة حتى يتبين لك أن أصل الدنيا وإيجاد الدنيا، إنما هو للقيام بشريعة الله .
قوله تعالى: { إنا جعلنا} أي صَيَّرنا، وجعل تأتي بمعنى: خلق وبمعنى صيَّر، فإن تعدَّت لمفعولٍ واحدٍ فإنها بمعنى "خلق"، مثل قوله تعالى: ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)(الأنعام: من الآية1)وإن تعدَّت لمفعولين فهي بمعنى صَيَّر، مثل قوله تعالى: )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) : أي صيَّرناه بلغة العرب،وإنما نبَّهتُ على ذلك؛ لأن الجهمية يقولون: إنَّ الجعلَ بمعنى الخلق في جميع المواضع، ويقولون: معنى قوله تعالى: {)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا } : أي خلقناه، ولكن هذا غلط على اللغة العربية.
( جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ) هنا جعل بمعنى صَيَّر فالمفعول الأول "ما" والمفعول الثاني "زينة" أي أنَّ ما على الأرض جعله الله زينة للأرض وذلك لاختبار الناس. هل يتعلقون بهذه الزينة أم يتعلقون بالخالق؟ الناس ينقسمون إلى قسمين، منهم من يتعلق بالزينة ومنهم من يتعلق بالخالق، واسمع إلى قوله تعالى مبيناً هذا الأمر.(11/10)
)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (لأعراف:175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:176)
إذاً جعل الله الزينة لاختبار العباد، سَواءٌ أكانت هذه الزينة فيما خلقه الله وأوجده، أم مما صنعه الآدمي، فالقصور الفخمة المزخرفة زينة ولا شك، ولكنها من صنع الآدمي، والأرض بجبالها وأنهارها ونباتها وإذا أنزل الله الماء عليها اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، هذه زينة من عند الله تعالى.
قوله تعالى: { لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ } أي نختبرهم.
وقوله تعالى: { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } الضمير يعود للخلق، وتأمل قوله تعالى: { ْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولم يقل: "أكثر عملاً"؛ لأن العبرة بالأحسن لا بالأكثر ، وعلى هذا لو صلى الإنسان أربع ركعات لكنْ على يقين ضعيف أو على إخلال باتباع الشرع، وصلى آخر ركعتين بيقين قوي ومتابعةٍ قوية فأيهما أحسن؟ الثاني؛ بلا شك أحسن وأفضل، لأن العبرة بإحسان العمل وإتقانه إخلاصاً ومتابعة.(11/11)
في بعض العبادات الأفضل التخفيف كركعتي الفجر مثلاً، لو قال إنسان: أنا أحب أن أطيل فيها في قراءة القرآن وفي الركوع والسجود والقيام، وآخر قال: أنا أريد أن أخفف، فالثاني أفضل؛ ولهذا ينبغي لنا إذا رأينا عامِّيَّاً يطيل في ركعتي الفجر أن نسأله: "هل هاتان الركعتان ركعتا الفجر أو تحية المسجد؟". فإن كانت تحية المسجد فشأنه، وإن كانت ركعتي الفجر قلنا: لا، الأفضل أن تخفف، وفي الصيام رخَّص صلى الله عليه وسلم لأمته أن يواصلوا إلى السَّحَر، وندبهم إلى أن يفطروا من حين غروب الشمس، فصام رجلان أحدهما امتد صومه إلى السحور والثاني أفطر من حين غابت الشمس، فأيهما أفضل؟ الثاني أفضل بلا شك، والأول وإن كان لا ينهى عنه فإنه جائز ولكنه غير مشروع، فانتبه لهذا { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولذلك تجد النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من العبادات ما كان أحسن: يحث على اتباع الجنائز وتمر به الجنائز ولا يتبعها، يحث على أن نصوم يوماً ونُفطِر يوماً ومع ذلك هو لا يفعل هذا، بل كان أحياناً يطيل الصوم حتى يقال: لا يفطر، وبالعكس يفطر حتى يقال: لا يصوم، كل هذا يتبع ما كان أرضى لله وأصلح لقلبه.
***
)وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) (الكهف:8)
قوله تعالى: { صَعِيداً } هذه الأرض بزينتها، بقصورها وأشجارها ونباتها، سوف يجعلها الله تعالى { صَعِيداً جُرُزاً } أي خالياً، كما قال تعالى: )وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) (طه:105)
، أي نسفاً عظيماً ولهذا جاء مُنَكَّراً: أي نسفاً عظيماً، قال تعالى: )فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً) (طه:106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (طه:107) وبلحظة: كن فيكون! إذاً هذه الأرض يا أخي لا يَتعلَّق قلبك بها فهي زائلة، هي ستصير كأن لم تكن كما قال : ) كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(يونس: من الآية24).(11/12)
وتأمل الجملة الآن: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ } فيها مُؤكِّدان، "إنَّ" و"اللام"، ثم إنها جاءت بالجملة الإسمية الدالة على القدرة المستمرة، إذا قامت القيامة أين القصور؟ لا قصور، لا جبال، لا أشجار، الأرض كأنها حجر واحد أملس، ما فيها نبات ولا بناء ولا أشجار ولا غير ذلك، سيحولها الله تعالى { جُرُزاً } خالية من زينتها التي كانت عليها.
* * *
)أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) (الكهف:9)
قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتَ } "أم" هنا منقطعة، فهي بمعنى "بل"، و{ ْ حَسِبْتَ } بمعنى ظننتَ، هنا أتى بـ"أم" المنقطعة التي تتضمن الاستفهام من أجل شد النَّفس إلى الاستماع إلى القصة لأنها حقيقة عَجب، هذه القصة عجب.
( الْكَهْفِ) الغار في الجبل.
(وَالرَّقِيم) بمعنى المرقوم: أي المكتوب لأنه كتب في حجر على هذا الكهف قصتُهم من أولها إلى آخرها.
( كَانُوا ) أي أصحاب الكهف والرقيم.
( مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) من آيات الله الكونية.
(عَجَبا) أي محل تعجُّب واستغراب لأن هؤلاء سبعةٌ معهم كلب كرهوا ما عليه أهل بلدهم من الشرك فخرجوا متَّجهين إلى الله يريدون أن ينجوا بأنفسهم مما كان عليه أهل بلدهم، فلجأوا إلى هذا الغار، وكان من حسن حظهم أن هذا الغار له باب لا يتَّجه للمشرق ولا للمغرب، سبحان الله! توفيق؛ لأنه لو اتجه إلى المشرق لأكلتهم الشمس عند الشروق، ولو اتجه إلى المغرب لأكلتهم عند الغروب. كما قال تعالى: {)وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ)(الكهف: من الآية17) } وسيأتينا إن شاء الله تعالى.
* * *(11/13)
)إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10)
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ)من هنا بدأت القصة، وعلى هذا يكون )إِذْ أَوَى) متعلق بمحذوف تقديره: "اذكر إذ أوى الفتية" وكان كفار قريش قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصتهم وهو عليه الصلاة والسلام لم يقرأ الكتب، قال تعالى عنه: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). فوعدهم فأنجز الله له الوعد.
و{الْفِتْيَة } جمع فتى، وهو الشاب الكامل القوة والعزيمة.
( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي لجأوا إليه من قومهم فارين منهم خوفاً أن يصيبهم ما أصاب قومهم من الشرك والكفر بالبعث، فقالوا: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة)ً لجأوا إلى الله.
( آتِنَا ) أعطنا.
( لَدُنْكَ ) أي من عندك.
(رحمة)أي رحمة ترحمنا بها، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر - رضي الله عنه - حين قال أبو بكر لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي قَالَ: قُلِ "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" .
(وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (وَهَيِّئْ ) اجعل لنا، وتهيئة الشيء أن يُعد ليكون صالحاً للعمل به.
(مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) الرشد: ضد الغَيّ، أي اجعل شأننا موافقاً للصواب.
* * *
)فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11)
قوله تعالى: {)فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أي أنمناهم نومة عميقة. والنوم نوعان:
1 -خفيف: وهذا لا يمنع السماع ولهذا إذا نمت فأول ما يأتيك النوم تسمع مَن حولك.
2 -عميق: إذا نمت النوم العميق لا تسمع مَن حولك.(11/14)
ولهذا قال: {)فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أي بحيث لا يسمعون.
) فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ( أي معدودة، وسيأتي بيانها في قوله تعالى: )وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)
* * *
)ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف:12)
قوله تعالى: {)ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } وذلك بإيقاظهم من النوم. وسمى الله الاستيقاظ من النوم بعثاً لأن النوم وفاةٌ، قال تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) قال تعالى: )اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الزمر42) فالنوم وفاة.
وقوله: { بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ }، قد يقع فيه إشكال؟ هو: هل الله لا يعلم قبل ذلك؟
الجواب: لا، واعلم أن هذه العبارة يراد بها شيئان:
1 - علم رؤية وظهور ومشاهدة، أي لنرى، ومعلوم أن علم ما سيكون ليس كعلم ما كان؛ لأن علم الله بالشيء قبل وقوعه علمٌ بأنه سيقع، ولكن بعد وقوعه علمٌ بأنه وقع.(11/15)
2 - أن العلم الذي يترتب عليه الجزاء هو المراد، أي لنعلم علماً يترتب عليه الجزاء وذلك كقوله تعالى: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(محمد: من الآية31) . قبل أن يبتلينا قد علم من هو المطيع ومن هو العاصي، ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاء ولا الثواب، فصار المعنى لنعلم علم ظهور ومشاهدة وليس علم الظهور والمشاهدة كعلم ما سيكون، والثاني علماً يترتب عليه الجزاء.
أما تحقق وقوع المعلوم بالنسبة لله فلا فرق بين ما علم أنه يقع وما علم أنه وقع، كلٌّ سواء، وأما بالنسبة لنا صحيح أنَّا نعلم ما سيقع في خبر الصادق لكن ليس علمنا بذلك كعلمنا به إذا شاهدناه بأعيننا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "ليس الخبر كالمعاينة" .
( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ) قوله: { الْحِزْبَيْنِ } يعني الطائفتين.
وقوله: { أَحْصَى } يعني أبلغ إحصاءً، وليست فعلاً ماضياً بل اسم تفضيل فصار المعنى: أي الحزبين أضبط لما لبثوا أمداً، أي: المدة التي لبثوها؛ لأنهم تنازعوا أمرهم فقالوا: (لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ )(الكهف: من الآية19)وقال آخرون) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم)(الكهف: من الآية19). ثم الناس من بعدهم اختلفوا كم لبثوا.
***
)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13)
نِعمَ القائل صدقاً وعلماً وبياناً وإيضاحاً؛ لأن كلام الله تبارك وتعالى متضمن للعلم والصدق والفصاحة والإرادة، أربعة أشياء. كلامه عن علم وكلامه أيضاً عن صدق، وكلامه في غاية الفصاحة وإرادته في هذا الكلام خير إرادة، يريد بما يتكلم به أن يهدي عباده.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) قصُّ الله أكمل القصص وأحسن القصص؛ لأنه صادر عن:
1 -علم.
2 -عن صدق.(11/16)
3 -صادر بأفصح عبارة وأبينها وأوضحها ولا كلامَ أوضح من كلام الله إلَّا من أضل الله قلبه، وقال: هذا أساطير الأولين.
4 -وبأحسن إرادة لم يرد الله تعالى بما يقص علينا أن نضل ولا بما حكم علينا أن نجور، بل أراد أن نهتدي ونقوم بالعدل.
وقوله: { )نَحْنُ } إذا قال قائل أليس الله واحداً؟
فالجواب: نعم واحد لا شك، لكن لا شك أنه جلَّ وعلا أعظم العظماء، والأسلوب العربي إذا أسند الواحدُ إلى نفسه صيغة الجمع فهو يعني أنه عظيم، ومعلوم أنه لا أحد أعظم من الله تعالى؛ ولهذا تجد الملوك أو الرؤساء إذا أرادوا أن يُصدروا المراسم يقولون: "نحن فلان بن فلان نأمر بكذا وكذا". إذاً كل ضمائر الجمع المنسوبة إلى الله تعالى المراد بها التعظيم.
()نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ )أي نقرأه عليك ونحدثك به { نَبَأَهُم} أي خبرهم { بِالْحَقِّ } أي بالصدق المطابق للواقع.
( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) فتية شباب ولكن عندهم قوة العزيمة وقوة البدن وقوة الإيمان.
( وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) زادهم الله هدى لأن الله تعالى يزيد الذين يهتدون هدى، وكلما ازددت عملاً بعلمك زادك الله هدى أي زادك الله علماً.
* * *
)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14)
)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي ثبتناها وقويناها وجعلنا لها رِباطاً، لأن جميع قومهم على ضدهم، ومخالفة القوم تحتاج إلى تثبيت لا سيما أنهم شباب والشاب ربما يؤثر فيه أبوه ويقول له "اكفر"، ولكن الله ربط على قلوبهم فثبتهم، اللهم ثبتنا يا رب.(11/17)
( إِذْ قَامُوا) يعني في قومهم معلنين بالتوحيد متبرئين مما كان عليه هؤلاء الأقوام. { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ } وليس رب فلان وفلان بل هو رب السموات والأرض فهو مالك وخالق ومدبِّر السموات والأرض. لأن الرَّب الذي هو اسم من أسماء الله معناه الخالق المالك المدبر ولم يبالوا بأحد فهم كسحرة فرعون: )قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72)
والدنيا كلها قاضية منتهية طالت بك أم قصرت، ولا بد لكل إنسان من أحد أمرين: إما الهَرَم وإما الموت، ونهاية الهرم الموت أيضاً؛ ولهذا يقول الشاعر:
لا طِيب للعيش ما دامت مُنغَّصةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرم الإنسان كلما تذكر أنه سيموت طالت حياته أم قصرت فإنه لا يطيب العيش له، ولكن من نعمة الله أن الناس ينسَون هذا الأمر، ولكنَّ هؤلاء الناسين منهم من ينسى هذا الأمر باشتغاله بطاعة الله، ومنهم من ينساه بانشغاله بالدنيا.
( السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) السمواتِ السبعِ والأرضُ كذلك سبعٌ كما جاءت بذلك النصوص، ولا حاجة لذكرها؛ لأنها معلومة والحمد لله.
( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِه إِلَها) ِ لن ندعو دعاء مسألة ولا دعاء عبادة إلهاً سواه، فأقروا بالربوبيَّة وأقرُّوا بالألوهية، الربوبية قالوا: { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } والألوهية قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً } أي سواه.
( لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً )الجملة هذه مؤكدة بثلاثة مؤكدات وهي: "اللام" و"قد" و"القسم الذي دلَّت عليه اللام".
وقوله: { إِذاً } أي لو دعونا إلهاً سواه {( لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي: قولاً مائلاً وموغلاً بالكفر، وصدقوا، لو أنهم دعوا غير الله إلهاً لقالوا هذا القول المائل الموغل بالكفر والعياذ بالله.
* * *(11/18)
)هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15)
قوله تعالى: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } يشيرون إلى وجهة نظرهم في انعزالهم عن قومهم، قالوا: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا } أي صيَّروا آلهة من دون الله، عبدوها من دون الله.
( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يعني هلَّا { يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ } أي على هذه الآلهة، أي: على كونها آلهة وكونهم يعبدونها. فالمطلوب منهم شيئان:
1 - أن يثبتوا أن هذه آلهة.
2 - أن يثبتوا أن عبادتَهم لها حق، وكلا الأمرين مستحيل.
( بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) السلطان كلُّ ما للإنسان به سُلطة، قد يكون المراد به الدليل مثل قوله تعالى)إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا )(يونس: من الآية68)، وقد يكون المراد به القوة والغلبة مثل قوله تعالى عن الشيطان: )إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:100) وقد يكون الحجة والبرهان كمافي قوله تعالى: { بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي بحجة ظاهرة يكون لهم بها سُلطة؛ ولهذا قالوا:
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) الفاء للتفريع، مَن: استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، واعلم أن الاستفهام إذا ضُمِّن معنى النفي صار فيه زيادة فائدة، وهي أنه يكون مُشْرَباً معنى التحدي لأن النفي المجرد لا يدل على التحدي، لو قلت: "ما قام زيد"، ما فيه تحدي، لكن لو قلت: "من أظلم ممن افترى على الله كذباً" فهذا تحدي، كأنك تقول: أخبرني أو أوجد لي أحداً أظلم ممن افترى على الله كذباً.(11/19)
فقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ } أي من أشد ظلماً ممن افترى على الله كذباً في نسبة الشريك إليه وغير ذلك، كل من افترى على الله كذباً فلا أحد أظلم منه، أنت لو كذبت على شخص لكان هذا ظلماً، وعلى شخص أعلى منه لكان هذا ظلماً أعلى من الأول، فإذا افتريت كذباً على اللهِ صار لا ظلم فوق هذا، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }، فإن قال قائل: "نجد أن الله تعالى يقول: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ويقول: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البقرة: من الآية114). وأظلم تدل على اسم التفضيل، فكيف الجمع؟". نقول: إن الجمع هو أنها اسم تفضيل في نفس المعنى الذي وردت به، فمثلاً)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: أي لا أحد أظلم منعاً ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي الكذب، أي الكذب أظلم؟ الكذب على الله، فتكون الأظلمية هنا بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه، ليست أظلمية مطلقة لأنها لو كانت أظلمية مُطلَقاً لكان فيه نوع من التناقض، لكن لو قال قائل: "ألا يمكن أن تقول إنها اشتركت في الأظلمية؟ يعني هذا أظلم شيء وهذه أظلم شيء"؟.
فالجواب: لا يمكن، لأنه لا يمكن أن تقرن بين من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وبين من افترى على الله كذباً، فإن الثاني أعظم، فلا يمكن أن يشتركا في الأظلمية، وحينئذٍ يتعين المعنى الأول، أن تكون الأظلمية بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه.
)وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16)(11/20)
قوله تعالى: {)وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } هذا من قول الفتية، يعني: قال بعضهم لبعض: ما دمتم اعتزلتم قومكم وما يعبدون إلَّا الله.
وقوله: { إِلَّا اللَّهَ } يحتمل أن تكون استثناء من قوله: {يَعْبُدُون } وعلى هذا يكون هؤلاء القوم يعبدون الله ويعبدون غيره، والفتية اعتزلوهم وما يعبدون إلَّا الله، ويحتمل أن تكون "إلَّا" منقطعة فيكون المعنى أن هؤلاء القوم لا يعبدون الله. ويكون المعنى: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون مطلقاً" { إِلَّا اللَّهَ } أي لكنِ الله لم تعتزلوه ولكنكم آمنتم به، ويحتمل أن تكون استثناء متصلاً على سبيل الاحتياط، يعني: أن هؤلاء الفتية قالوا: { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } يخشون أن يكون أحد من أقوامهم يعبد الله. و "ال" في الكهف تحتمل أن تكون للعهد، وكأنه كهف ألفوا أن يأووا، إليه أو أن المراد بها الكمال، أي إلى الكهف الكامل الذي يمنعكم من قومكم، أما الأول فيحتاج إلى دليل أن هؤلاء الفتية كانوا يذهبون إلى كهف معين يأوون فيه، وأما الثاني فوجهه أنه إنما يطلبون كهفاً يمنعهم ويحميهم فتكون "ال" لبيان الكمال، أي إلى كهف يمنعكم ويحميكم من عدوكم.
( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) يعني أنكم إذا فعلتم ذلك فإن الله سييسر لكم الأمر؛ لأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهنا سؤال في قوله: { اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } الفاء، يتبادر للذهن أنها في جواب الشرط، والمعروف أن "إذ" ليست للشرط وإنما الذي للشرط هو "إذا" أو "إذ" إذا اقترنت بـ"ما"، فإذا لم تقترن بـ"ما" فليست للشرط؟(11/21)
والجواب عن ذلك أن يقال: إما أنها ضُمِّنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها { اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أو أن "الفاء" للتفريع وليست واقعة في جواب الشرط، والمعنى: فحينئذ { )وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } فأووا إلى الكهف.
( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)أي يهيّئ لكم من شأنكم {مِرْفَقا } أي مكاناً ترتفقون به.
* * *
)وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (الكهف:17)
قوله تعالى: { )وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } في قوله: { تَزَاوَرُ } قراءتان {تَزَّاور} بتشديد الزاي وأصلها تَتَزاور، و{تزَاور} بتخفيف الزاي، والمراد بذلك أنها تميل: { عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } تصور كيف يكون الكهف الآن إذا كانت تزاور عنه ذات اليمين؟ يكون وجه الكهف إلى الشمال. ولهذا قال بعضهم: إن وجه الكهف إلى "بنات نعش" النجوم المعروفة في السماء، يعرفها أهل البر.
(وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) تكون على شمال الغار.
وقوله: { تَقْرِضُهُم } قيل: المعنى تتركهم وقيل: تصيب منهم، وهو الأقرب أنها تصيب منهم، وفائدة هذه الإصابة أن تمنع أجسامَهم من التغيُّر لأن الشمس كما يقول الناس: إنها صحة وفائدة للأجسام.
(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) الضمير يعود على هؤلاء الفتية، هذه الفجوة يعني الشيء الداخل، يعني ليسوا على باب الكهف مباشرة، بل في مكان داخل، لأن ذلك أحفظ لهم.(11/22)
وفي قوله تعالى: { إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ } { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُم} دليل على أن الشمس هي التي تتحرك وهي التي بتحركها يكون الطلوع والغروب خلافاً لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور هو الأرض، وأما الشمس فهي ثابتة، فنحن لدينا شيء من كلام الله، الواجب علينا أن نجريه على ظاهره وألا نتزحزح عن هذا الظاهر إلَّا بدليل بَيِّن، فإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض فحينئذ يجب أن نؤول الآيات إلى المعنى المطابق للواقع، فنقول: إذا طلعت في رأي العين وإذا غربت في رأي العين، تزاور في رأي العين، تقرض في رأي العين، أما قبل أن يتبين لنا بالدليل القاطع أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور وبدورانها يختلف الليل والنهار فإننا لا نقبل هذا أبداً، علينا أن نقول: إنَّ الشمس هي التي بدورانها يكون الليل والنهار، لأن الله أضاف الأفعال إليها والنبي صلى الله عليه وسلم حينما غربت الشمس قال لأبي ذر: "أتدري أين تذهب؟" فأسند الذَّهاب إليها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله تعالى أعلم بخلقه ولا نقبل حدْساً ولا ظناً، ولكن لو تيقنا يقيناً أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به.
قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } الضمير يعود على حال هؤلاء الفتية:
1 -خروجهم من قومهم.
2 -إيواؤهم لهذا الغار.
3 -تيسير الله لهم غاراً مناسباً.
لا شك أن هذا من آيات الله الدالة على حكمته ورحمته ، هل نعتبر أن هذا كرامة؟
الجواب: نعم نعتبره كرامة ولا شك.(11/23)
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (مَنْ يَهْدِ) من" شرطية والدليل على أنها شرطية حذف الياء مِن يهدي، والجواب: "فهو المهتدِ" و"المهتد" أصلها "المهتدي" بالياء لكن حذفت الياء تخفيفاً كما حذفت في قوله تعالى: {الكبير المتعال } (الرعد: 9)
( وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يُقدِّر أن يكون ضالاً.
( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) أي من يتولاه ويرشده إلى الصواب، وفي هذا الخبر من الله تنبيه إلى أننا لا نسألُ الهداية إلَّا من الله، وأننا لا نجزع إذا رأينا من هو ضال لأن الإضلال بيد الله، فنحن نؤمن بالقدر ولا نَسخطُ الإضلال الواقع من الله لكن يجب علينا أن نُرشد هؤلاء الضالين، فهنا شرع وقدَر، القدر يجب عليك أن ترضى به على كل حال، والمقدور فيه تفصيل. والمشروع يجب أن ترضى به على كل حال، فنحن نرضى أن الله جعل الناس على قسمين مهتد وضال، ولكن يجب علينا مع ذلك أن نسعى في هداية الخلق.
* * *
)وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (الكهف:18)
قوله تعالى: {)وَتَحْسَبُهُمْ } أيها الرائي: إذا رأيتهم { أَيْقَاظاً } لأنه ليس عليهم علامة النوم، فالنائم يكون مسترخياً، وهؤلاء كأنهم أيقاظ، ولذلك يُفرِّق الإنسان بين رجل نائم ورجل مضطجع لمَّا يراه، حتى لو أن المضطجع أراد أن يتناوم ويخدع صاحبه لعرف أنه ليس بنائم.
( وَهُمْ رُقُودٌ ) جمع راقد.
( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) يعني مرة يكونوا على اليمين ومرة على الشمال، ولم يذكر الله الظهر ولا البطن، لأن النوم على اليمين وعلى الشمال هو الأكمل.(11/24)
(وَنُقَلِّبُهُم ) فيه دليل على أن فعل النائم لا ينسب إليه، ووجه الدلالة أن الله أضاف تقلبهم إليه، فلو أنّ النائم قال في نومه: "امرأتي طالق" أو "في ذمتي لفلان ألف ريال" لم يثبت لأنه لا قصد له ولا إرادة له؛ لا في القول؛ ولا في الفعل، والحكمة من تقليبهم ذات اليمين وذات الشمال: بعض العلماء قال لئلَّا تأكل الأرض الجانب الذي يكون ملاصقاً لها، ولكن الصحيح أن الحكمة ليست هذه، الحكمة من أجل توازن الدم في الجسد لأن الدم يسير في الجسد، فإذا كان في جانب واحد أوشك أن ينحَرِم منه الجانب الأعلى، ولكن الله بحكمته جعلهم يتقلبون.
قوله تعالى: { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } يعني كأنه، والله أعلم، لم ينم.
( بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ )أي جالس على بطنه وقد مدَّ ذراعيه.
( بِالْوَصِيدِ ) وهو فتحة الكهف أو فِناء الكهف يعني: إما أن يكون على الفتحة، وإما أن يكون إلى جنب الكهف في فِنائه ليحرسهم، وفي هذا دليل على جواز اتخاذ الكلب للحراسة، حراسة الآدميين، أما حراسة الماشية فقد جاءت به السنّة، وحراسة الحرث جاءت به السنة كذلك . حراسة الآدمي من باب أولى لأنه إذا جاز اتخاذ الكلب لحراسة الماشية والحرث أو للصيد الذي هو كمال فاتخاذه لحراسة البيت من باب أولى.
قال الله تعالى: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } أي لو اطَّلعت أيها الرائي عليهم لولَّيت منهم فراراً، رهبة ينْزِلها الله في قلب من يراهم، حتى لا يحاول أحد أن يدنو منهم، ولهذا قال: { } مع أنهم لم يلحقوه، لكنه خائف منهم.
( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً ) ملئت: لم يُملأ قلبُه فقط، بل كلُّه، وهذا يدل على شدة الخوف الذي يحصل لمن رآهم
***(11/25)
)وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف:19)
قوله تعالى: {)وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } أي كما فعلنا بهم من هذه العناية من تيسير الكهف لهم، وإنامتهم هذه المدة الطويلة، بعثهم الله، أي مثل هذا الفعل بعثناهم، فعلنا بهم فعلاً آخ-ر، { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } كما جرت به العادة أن الناس إذا ناموا يتساءلون إذا قاموا، من الناس من يقول: ماذا رأيت في منامك ومن الناس من يقول: لعلَّ نومك لذيذ أو ما أشبه ذلك { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } ليس المعنى أنهم بعثوا للتساؤل ولكن بعثوا فتساءلوا. فاللام جاءت للعاقبة لا للتعليل، كما في قوله تعالى: )فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)(القصص: من الآية8)، اللام ليست للتعليل أبداً، ولا يمكن أن تكون للتعليل لأن آل فرعون لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه فكان لهم عدواً وحزناً.
( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) كما جرت العادة، أي كم مدة لبثتم؟ { لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } { لَبِثْنَا يَوْماً } أي كاملاً.
( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) أي بعض اليوم، ذلك لأنهم دخلوا في أول النهار وبُعثوا من النوم في آخر النهار، فقالوا: { لَبِثْنَا يَوْماً } إن كان هذا هو اليوم الثاني أو { بَعْضَ يَوْمٍ } إن كان هذا هو اليوم الأول، وهذا مما يدل على عمق نومهم.(11/26)
( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) أي قال بعضهم لبعض، وكأن هؤلاء القائلين قد شعروا بأن النومة طويلة ولكن لا يستطيعون أن يُحدِّدوا، أمَّا الأولون فحددوا بناءً على الظاهر، وأما الآخرون فلم يحددوا بناء على الواقع، لأن الإنسان يفرق بين النوم اليسير والنوم الكثير، ثم قال بعضهم لبعض:
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) الوَرِق: هو الفضة كما جاء في الحديث: "وفي الرِّقةِ رُبْع العُشْرِ" كان معهم دراهم من الفضة.
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) تضمن هذا:
أولاً: جواز التوكيل في الشراء، والتوكيل في الشراء جائز، وفي البيع جائز أيضاً، فإن الرسول وكَّل أحد أصحابه أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، وقال: اشتر أضحية، فاشترى شاتين بالدينار ثم باع إحداهما بدينار فرجع بشاة ودينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله له في بيعه، فكان لواشترى تراباً لربح فيه .
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنه يجوز تصرف الفضولي، أي يجوز للإنسان أن يتصرف بمال غيره إذا علم أن غيره يرضى بذلك، فهؤلاء وكلوا أحدهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي برزق.
ثانياً: في هذا أيضاً دليل أنه لا بأس على الإنسان أن يطلب أطيب الطعام لقولهم( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً)(11/27)
ثالثاً: فيه دليل أيضاً على ضعف قول الفقهاء: إنه لا يصح الوصف بالأفعل، أي لا يجوز أن أصف المبيع بأنه أطيب كل شيء، فلا تقول: "أبيع عليك برَّاً أفضل ما يكون" لأنه ما من طَيِّب إلَّا وفوقه أطيب منه، ولكن يقال: هذا يرجع إلى العرف، فأطيب: يعني في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وهل من السنّة ما يشهد لطلب الأزكى من الطعام؟ نعم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة الذين باعوا التمر الرديء بتمر جيد ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه ، ولم ينههم عن هذا، وما قال: هذا تَرَفُّه، اتركوا طلب الأطيب، فالإنسان قد فتح الله له في أن يختار الأطيب من الطعام أو الشراب أو المساكن أو الثياب أو المراكب، ما دام الله قد أعطاه القدرة على ذلك فلا يُلام.
( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) يعني يشتري ويأتي به، فجمعوا بالتوكيل بين الشراء والإحضار.
( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) أي يتعامل بخفية لئلَّا يُشْعَر بهم فيؤذَون، وهذا يعني أنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلَّا قليلاً. ثم علَّلوا هذا؛ أي الأمر بالتطلف والنهي عن الإشعار بقولهم:
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:20)
أي أنهم لا بد أنهم يقتلونكم أو يردونكم على أعقابكم بعد إيمانكم { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } أي إذا عدتم في ملَّتهم أبداً، وفي هذا دليل على أخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة إلَّا الوسائل المحرمة؛ فإنها محرمة لا يجوز أن يقع الإنسان فيها.
***(11/28)
)وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف:21)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) أي قيام الساعة. { السَّاعَةَ } أي لا شك، واقعة لا محالة.
( لا رَيْبَ فِيهَا ) متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً.
( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) وهم أمراؤهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا الأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.(11/29)
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا" .
ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم:
***
)سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
والوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قاله في الذين قالوا: { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ }، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.(11/30)
( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت ، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: { واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا} هذا واحد، { والله أمرنا بها} هذا اثنان، قال الله تعالى: {قل إن الله لايأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: { والله أمرنا بها } وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: { وجدنا عليها اباءنا } صحيح، وهنا لما قال: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ ) يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { ْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) أي ما يعلمهم قبل إعلام الله أنهم سبعة وثامنهم كلبهم إلَّا قليل.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) أي في شأنهم، في زمانهم، في مكانهم، في مآلهم.(11/31)
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً ) أي لا يصل إلى القلب لأنه إذا وصل الجدال إلى القلب اشتد المجادل، وغضب وانتفخت أوداجه وتأثر، لكن لما لم يكن للجدال فيهم كبير فائدة قال الله تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً } يعني إلَّا مراءً على اللسان لا يصل إلى القلب، ويؤخذ من هذا أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال به، وهذا يقع كثيراً؛ أحياناً يحتمي بعض الناس إذا جودل في شيء لا فائدة فيه، فنقول: "يا أخي لا تتعب، اجعل جدالك ظاهراً على اللسان فقط لا يصل إلى القلب فتحتمي وتغضب"، وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه، وهذا كثير، وأكثر ما يوجد في علم الكلام، فإن علماء الكلام الذين خاضوا في التوحيد وفي العقيدة يأتون بأشياء لا فائدة منها، مثل قولهم: "تسلسل الحوادث في الأزل وفي المستقبل" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ الذي لا داعيَ له، وهم يكتبون الصفحات في تحرير هذه المسألة نفياً أو إثباتاً مع أنه لا طائل تحتها، فالشيء الذي ليس فيه فائدة لا تتعب نفسك فيه، وإذا رأيت من صاحبك المجادلة فقل له: "تأمل الموضوع" وسدَّ الباب.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي ولا تستفت في أهل الكهف { مِنْهُمْ } أي من الناس سواءٌ من أهل الكتاب أم من غيرهم أحداً عن حالهم وزمانهم ومكانهم، وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يستفتي من ليس أهلاً للإفتاء، حتى وإن زعم أن عنده علماً فلا تَسْتَفْتِهِ إذا لم يكن أهلاً.
***
)وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف:24)(11/32)
قوله تعالى: {)وَلا تَقُولَنَّ } الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم كالخطاب الذي قبله { لِشَيْءٍ } أي في شيء { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ذكروا أن قريشاً أرسلت إلى اليهود في المدينة وقالوا: إن رجلاً بعث فينا يقول: إنه نبي، فقالوا: اسألوه عن ثلاثة أشياء:
1 - عن فتية خرجوا من مدينتهم ولجأوا إلى غار، ما شأنهم.
2 - وعن رجل مَلَكَ مشارق الأرض ومغاربها.
3 - وعن الروح، ثلاثة أشياء؛ فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف، فقال: "أخبركم غداً"، فتوقف الوحي نحو خمسة عشر يوماً، لم ينْزل عليه الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري عن قصص السابقين كما قال تعالى: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). ولكن الله اختبره، فأمسك الوحي خمسة عشر يوماً، كما ابتلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله"، فقال له الملك: "قل إن شاء الله". فلم يقل وطاف على تسعين امرأة يجامعهن، وما الذي حصل؟ أتت واحدة منهن بشق إنسان ، حتى يُري الله عباده أن الأمر أمره وأن الإنسان مهما بلغ في المرتبة عند الله تعالى والوجاهة؛ فإنه لا مفر له من أمر الله.(11/33)
مكث الوحي خمسة عشر يوماً، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيلحقه الغم والهم لئلَّا يتخذ هؤلاء القوم مِن تأخرِ إخباره بذلك وسيلةً إلى تكذيبه، والحقيقة أن هذا ليس وسيلة للتكذيب، يعني قد يقولون وعدَنا محمد بأن يخبرنا غداً ولم يفعل فأين الوحي الذي يدّعي أنه ينْزِل عليه؟ ولكن نقول: إنَّ تأخر الوحي وتأخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على صدقه، لأنه لو كان كاذباً لصنع قصة فيما بين ليلة وضحاها، وقال: هذه قصتهم، فتأخر الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم يدل على كمال صدقه عليه الصلاة والسلام.
)وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً)إلَّا قولاً مقروناً بمشيئة الله، فقرْنُ ذلك بمشيئة الله يستفيد منه الإنسان فائدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الله ييسر الأمر له حيث فوضه إليه جلَّ وعلا.
والثانية: إن لم يفعل لم يحنث.(11/34)
فيستفاد من قوله: { إِنِّي فَاعِلٌ } أنه لو قال: سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزمه أن يأتي بالمشيئة، يعني لو قال لك صاحبك: "هل تمر عليَّ غداً؟" فقلت: "نعم" ولم تقل: إن شاء الله فلا بأس لأن هذا خبر عما في نفسكَ، وما كان في نفسك فقد شاءه الله فلا داعي لتعليقه بالمشيئة، أما إن أردت أنه سيقع ولا بد فقل: إن شاء الله، وجه ذلك أن الأول خبر عمَّا في قلبك، والذي في قلبك حاضر الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل فهذا خبر عن شيء لم يكن ولا تدري هل يكون أو لا يكون، انتبهوا لهذا الفرق؛ إذا قال الإنسان: سأسافر غداً، فإن كان يخبر عمَّا في قلبه فلا يحتاج أن يقول: إن شاء الله، لماذا؟ لأنه خبر عن شيء واقع، أما إذا كان يريد بقوله: سأسافر، أنني سأنشئ السفر وأسافر فعلاً، فهنا لا بد أن يقول: إن شاء الله، ولهذا كانت الآية الكريمة: { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ولم تكن إني سأفعل، بل قال: { إِنِّي فَاعِلٌ }، فلا تقل لشيء مستقبل إني فاعله إلَّا أن يكون مقروناً بمشيئة الله.
( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) يعني اذكر أمر ربِّك بأن تقول: "إن شاء الله" إذا نسيت أن تقولها، لأن الإنسان قد ينسى وإذا نسي فقد قال الله تعالى: ) رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة: من الآية286)وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" .(11/35)
فالمشيئة إذا نسيها الإنسان فإنه يقولها إذا ذكرها، ولكن هل تنفعه، بمعنى أنه لو حنِث في يمينه فهل تسقط عنه الكفارة إذا كان قالها متأخراً؟ من العلماء من قال: إنها تنفعه حتى لو لم يذكر الله إلَّا بعد يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، لأن الله أطلق: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومن العلماء من قال: لا تنفعه إلَّا إذا ذكر في زمن قريب بحيث ينبني الاستثناء على المستثنى منه، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، فمثلاً إذا قلت: والله لأفعلن هذا ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت بعد عشرة أيام فقلت: إن شاء الله، ثم لم تفعل بناء على أن من قال: إن شاء الله لم يحنَث، فمن العلماء من قال: ينفعه لأن الله تعالى قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومنهم من قال: لا ينفعه لأن الكلام لم ينبنِ بعضه على بعض، إذاً ما الفائدة من أمر الله أن نذكره إذا نسينا؟ قال: الفائدة هو ارتفاع الإثم، لأن الله قال: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإذا نسيت، فقلها إذا ذكرت، لكن هل تنفعك فلا تحنث أم يرتفع عنك الإثم دون حكم اليمين؟ الظاهر: الثاني؛ أن يرتفع الإثم، وأما الحنْث فإنه يحنَث لو خالف لأن الاستثناء بالنسبة للحِنْث لا ينبغي إلَّا أن يكون متصلاً، ثم الاتصال هل يقال: إن الاتصال معناه أن يكون الكلام متواصلاً بعضه مع بعض أو أن الاتصال ما دام بالمجلس؟
الجواب: فيه خلاف، بعضهم يقول: ما دام في المجلس فهو متصل، وإذا قام عن المجلس فقد انقطع، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" فجعل التفرق فاصلاً، ومنهم من قال: العبرة باتصال الكلام بعضه مع بعض، والظاهر والله أعلم أنه إذا كان في مجلسه، ولم يذكر كلاماً يقطع ما بين الكلاميْن، فإنه ينفعه الاستثناء؛ فلا يحنث.(11/36)
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) عسى" بمعنى الرجاء إذا وقعت من المخلوق، فإن كانت من الخالق فهي للوقوع، فقول الله تبارك وتعالى: )إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:99) ، نقول: عسى هنا واقعة، وقال الله : )إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) . أما من الإنسان فهي للرجاء، كقوله:
{ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي } هذه للرجاء.
( أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) أي يدلني إلى الطريق، ولهذا قال: { لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } أي هداية وتوفيقاً، وقد فعل الله، فهداه في شأن أصحاب الكهف للرشد.
***
)وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)
قوله تعالى: { َلَبِثُوا } يعني أصحاب الكهف { فِي كَهْفِهِمْ } الذي اختاروه لأنفسهم وناموا فيه.
( ثَلاثَ مِائَةٍ ) تكتب اصطلاحاً ثلاثمائة مربوطة: ثلاث مربوطة بمائة، وتكتب مائة بالألف، لكن هذه الألف لا يُنطَق بها، وبعضهم يكتب ثلاث وحدها ومئة وحدها، وهذه قاعدة صحيحة.
وقوله: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ } {مِائَة } بالتنوين و{ سِنِينَ } تمييز مبين لثلاث مائة لأنه لولا كلمة سنين لكنا لا ندري هل ثلاث مائة يوم أو ثلاث مائة أسبوع أو ثلاث مائة سنة؟، فلما قال: { سِنِينَ } بيَّن ذلك.
( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: "لماذا لم يقل مائة وتسع سنين؟".(11/37)
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً }، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية وازدادوا تسعاً بالقمرية، فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، من الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا، لأن الحساب عند الله تعالى واحد، وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن "ثلاث مائة سنين" شمسية، "وازدادوا تسعاً" قمرية قول ضعيف.
أولاً: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: {هو الذى جعل الشمس صياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [البقرة: 189] وقال تعالى (يسئلونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج ).
***
)قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:26)(11/38)
قوله تعالى: {)قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قوله(قُل) أي قل يا محمد: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }، وهذه الجملة تمسك بها من يقول: إنَّ قوله: { ولبثوا فى كهفهم} [الكهف: 25] هي من قول الذين يتحدثون عن مكث أهل الكهف بالكهف وهم اليهود الذين يَدَّعون أن التوراة تدل على هذا، وعلى هذا القول يكون قوله: { ولبثوا} مفعولاً لقول محذوف والتقدير: "وقالوا: لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } ولكن هذا القول وإن قال به بعض المفسرين فالصواب خلافه وأن قوله: {لبثوا } من قول الله، ويكون قوله: { أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } من باب التوكيد أي: توكيد الجملة أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، والمعنى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وقد أعلَمَنا أنهم لبثوا { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } وما دام الله أعلم بما لبثوا فلا قول لأحد بعده.
قال الله : { له غيب السماوات والأرض } أي له ما غاب في السموات والأرض، أو له علم غيب السموات والأرض، وكلا المعنيين حق، والسموات جمع سماء وهي سبع كما هو معروف، والأرض هي أيضاً سبع أرَضين ، فلا يعلم الغيب - علم غيب السموات والأرض - إلَّا الله، فلهذا من ادعى علم الغيب فهو كافر، والمراد بالغيب المستقبل، أما الموجود أو الماضي فمن ادعى علمهما فليس بكافر؛ لأن هذا الشيء قد حصل وعلمه من علمه من الناس، لكن غيب المستقبل لا يكون إلَّا لله وحده، ولهذا من أتى كاهناً يخبره عن المستقبل وصدَّقه فهو كافر بالله ؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: من الآية65)، أما ما كان واقعاً؛ فإنه من المعلوم أنه غيب بالنسبة لقوم وشهادة بالنسبة لآخرين.
( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هذا يسميه النحويون فعل تعَجُّب.(11/39)
( أَبْصِرْ بِهِ ) بمعنى ما أبصره.
( وَأَسْمِعْ ) بمعنى ما أسمعه، وهو أعلى ما يكون من الوصف، والله تبارك وتعالى يبصر كل شيء، يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويبصر ما لا تدركه أعين الناس مما هو أخفى وأدق، وكذلك في السمع، يسمع كل شيء، يعلم السر وأخفى من السر ويعلم الجهر )وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه:7) . تقول عائشة في قصة المجادلة التي ظاهر منها زوجها، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة في الحجرة، والحجرة صغيرة كما هو معروف، وكان الرسول يحاور المرأة وعائشة يخفى عليها بعض الحديث، والله يقول: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) . تقول عائشة "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها" ، والله فوق كل شيء، ومع ذلك سمع قولها ومحاورتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الإيمان بأن الله تعالى ذو بصر نافذ لا يغيب عنه شيء وذو سمع ثاقب لا يخفى عليه شيء ، والإيمان بذلك يقتضي للإنسان ألا يُري ربَّه ما يكرهه ولا يُسمعه ما يكرهه؛ لأنك إن عملت أي عمل رآه وإن قلت أي قول سمعه، وهذا يوجب أن تخشى الله وألا تفعل فعلاً يكرهه ولا تقول قولاً يكرهه الله ، لكن الإيمان ضعيف، فتجد الإنسان عندما يريد أن يقول أو أن يفعل؛ لا يخطر بباله أن الله يسمعه أو يراه إلَّا إذا نُبِّه، والغفلة كثيرة، فيجب علينا جميعاً أن ننتبه لهذه القضية العظيمة.
( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قوله: { مَا لَهُمْ } هل الضمير يعود على أصحاب الكهف أو على من هم في السموات والأرض؟(11/40)
الجواب: الثاني هو المتعين، يعني ليس لأحد ولي من دون الله، حتى الكفار وليهم الله وحتى المؤمنون وليهم الله قال الله تعالى: ) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61) )ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )(الأنعام: من الآية62). والله ولي كُلِّ أحد، وهذه هي الولاية العامة ، أليس الله تعالى يرزق الكافرين وينمي أجسامهم وييسر لهم ما في السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر والنجوم والأمطار؟! هذه ولاية، ويتولى المؤمنين أيضاً بذلك؛ لكن هذه ولاية عامة.
أما الولاية الخاصة، فهي للمؤمنين. قال تعالى: )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة: من الآية257)، والولاية الخاصة تستلزم عناية خاصة، أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح، ولهذا قال: { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }. يخرجهم بالعلم، فيعلمهم أولاً ويخرجهم ثانياً بالتوفيق.
إعراب الجملة هذه: {م } نافية، و {لهم } خبر مقدم، و {من ولى } مبتدأ مؤخر دخل على هذه الكلمة حرف الجر الزائد لأنك لو حذفت {من } وقلت: "ما لهم من دونه وليٌّ" لاستقام الكلام، لكن جاءت {من } من أجل التوكيد والتنصيص على العموم، يعني: لا يمكن أن يوجد لأهل السموات والأرض ولي سوى الله.(11/41)
قوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } هذه كقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] ، وقال: )وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشورى: من الآية10)، والحكم كوني وشرعي، فالخلق والتدبير حكم كوني، والحكم بين الناس بالأوامر والنواهي حكم شرعي، وقوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا} يشمل النوعين. فلا أحد يشرك الله في حكمه لا الكوني ولا الشرعي، وفيه دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، وأنه ليس لنا أن نُشَرِّع في دين الله ما ليس منه، لا في العبادات ولا في المعاملات، وأما من قال: إن لنا أن نُشَرِّع في المعاملات ما يناسب الوقت، فهذا قول باطل: لأنه على قولهم لنا أن نجوز الربا ولنا أن نجوز الميسر وأن نجوز كل ما فيه الكسب ولو كان باطلا، فالشرع صالح في كل زمان ومكان ولن يُصلحَ آخر هذه الأمة إلَّا ما أصلح أولها ، الحكم الكوني لا أحد يُشرك الله فيه ولا أحد يدعي هذا، هل يستطيع أحد أن يُنَزِّل الغيث؟! وهل يستطيع أحد أن يُمسك السموات والأرض أن تزولا؟! ولكن الحكم الشرعي هو محل اختلاف البشر ودعوى بعضهم أن لهم أن يشرعوا للناس ما يرون أنه مناسب.
***
)وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الكهف:27)
قوله تعالى: {)وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } هذا كالنتيجة لقوله: {ولا يشرك فى حكمه لأحدا } يعني إذا كان لا يشرك في حكمه أحداً فاتْلُ{( مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)(11/42)
فقوله: { وَاتْلُ } يشمل التلاوة اللفظية والتلاوة العملية، أمّا التلاوة اللفظية فظاهر، تقول: "فلان تلا علي سورة الفاتحة"، والتلاوة الحكمية العملية أن تعمل بالقرآن، فإذا عملت به فقد تلوتَه أي تَبعتَه، ولهذا نقول في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)(فاطر: من الآية29)يشمل التلاوة اللفظية والحكمية، والخطاب في قوله: { وَاتْلُ } للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به، فهو خاص به.
الثاني: ما دلَّ الدليل أنه للعموم، فهو للعموم.
الثالث: ما يحتمل الأمرين، فقيل: إنه عام، وقيل: إنه خاص، وتتبعه الأمة لا بمقتضى هذا الخطاب، ولكن بمقتضى أنه أسوتها وقدوتها.
فمثال الأول الذي دلَّ الدليل على أنه خاص به، قوله تبارك وتعالى: )أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1)
فهذا لا شك أنه خاص به، وكذلك قوله تعالى: )أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (الضحى:6) ، فهو خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومثال الثاني الذي دلَّ الدليل على أنه عام، قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ )(الطلاق: من الآية1)، فقوله: { طَلَّقْتُمُ } للجماعة؛ وهم الأمة، لكن الله نادى زعيمها ورسولها لأنهم تابعون له فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ }، إذاً الخطاب يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة، ومثال ما يحتمل الأمرين هذه الآية: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ }، لكن قد يقول قائل: إن هذه الآية فيها قرينة قد تدل على أنه خاص به كما سنذكره إن شاء الله، ولكن الأمثلة على هذا كثيرة، والصواب أن الخطاب للأمة ولكن وُجِّه لزعيمها وأسوتها؛ لأن الخطابات إنما توجه للرؤساء والمتبوعين.(11/43)
وقوله: ( مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ) هو القرآن، وفي إضافة الرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دليل على أن ما أوحاه الله إلى رسوله من تمام عنايته به.
وقوله: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: { كن} في أمر كوني فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها. والنفي هنا ليس نفياً للوجود، ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه)(الفتح: من الآية15). قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله ، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله.
( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) يعني لن تجد أيها النبي من دون الله ملتحداً، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله ، إذاً عندما يصيب الإنسان شيء يتضرر به أو يخاف منه، يلتجئ إلى من؟ إلى الله، ونظير هذه الآية قوله تعالى:)قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن:22)(11/44)
)وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)
قوله تعالى: {)وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله: { بِالْغَدَاةِ } أي أول النهار.
وقوله: { وَالْعَشِيِّ } آخر النهار.
قوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } مخلصين لله يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" ، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله .
ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11). وقوله تعالى: )رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم:65) ، أي شبيهاً ونظيراً، وقال الله تبارك وتعالى: ) فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية22).وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهاً لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ، يعني إلَّا في ما أثبته كالوجه واليدين؟(11/45)
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: ) آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(آل عمران: من الآية72) ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته" ، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:(11/46)
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونوراً. الوجه الثاني: أن يقال: "على صورته" أي على الصورة التي اختارها الله ، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه)(البقرة: من الآية114)، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح لقومه: { ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون "خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن" ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: )يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7
أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله: { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله: { تريد زينة الحياة الدنيا} إشارة إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.(11/47)
قال تعالى: { ذِكْرِنَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ } يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً.
قوله تعالى: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي ما تهواه نفسه.
( وَكَانَ أَمْرُهُ) أي شأنه { فُرُطاً } أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام واليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.
***
)وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)
قوله تعالى: {)وَقُلِ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. أي قلها معلنا { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } لا من غيره، فلا تطلبوا الحق من طريق غير طريق الله ، لأن الحق من عند الله.
( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)والأمر في قوله: { فَلْيَكْفُرْ)} للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: "إن كنت صادقاً فافعل كذا"، ويدل عليه قوله تعالى بعده: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }، يعني من كفر فله النار قد أعدت، وقوله: { لِلظَّالِمِينَ } المراد به الكافرون، والدليل على هذا قوله: { فَلْيَكْفُرْ }، فإن قال قائل: "هل الكفر يسمى ظلماً؟".(11/48)
فالجواب: نعم، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] ، ولا أحد أظلم ممن كفر بالله أو جعل معه شريكاً، وهو الذي خلقه وأمده وأعده.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ } أي بأهل النار { سُرَادِقُهَا } أي ما حولها، يعني أن النار قد أحاطت بهم فلا يمكن أن يفروا عنها يميناً ولا شمالاً.
وقوله: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } يعني أن أهل النار إذا عَطشوا عَطشاً شديداً وذلك بأكل الزَّقوم أو بغير ذلك أغيثوا بهذا الماء { بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } يكون كعَكَر الزيت يعني تَفَلَهُ الخاثر في أسفله أو ما أشبه ذلك مما هو منظر كريه، ولا تقبله النفوس كما قال تعالى: )مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)(ابراهيم: من الآية17)، أي كالصديد يتجرعه ولا يكاد يُسيغه.
( يَشْوِي الْوُجُوهَ ) إذا قَرُبَ منها شَواها وتساقطت والعياذ بالله من شدة فيح هذا الماء، وإذا وصل إلى أمعائهم قطعها كما قال جلَّ وعلا: ) وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(محمد: من الآية15)، وما أعظم الوجع والألم فيمن تقطع أمعاؤه من الداخل، لكن مع ذلك تقطع وتعاد كالجلود ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب)(النساء: من الآية56)، الله أكبر، سبحان القادر على كل شيء، وبلحظة يكون هذا الشيء متتابعاً، كلما نَضَجت بُدِّلوا، وكلما تقطَّعت الأمعاء فإنها توصل بسرعة.
قوله: { بِئْسَ الشَّرَابُ } هذا قدح وذم لهذا الشراب، و"بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم.(11/49)
قوله: { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } أي وقبح مرتفقها والارتفاق بها. والمرتفق ما يرتفق به الإنسان، قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً، ففي الجنة ) وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: من الآية31))، وفي النار) وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: من الآية29)،.
***
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
هذا من أسلوب القرآن، فإن الله إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وهذا من معنى قوله: ( مَثَانِيَ)(الزمر: من الآية23)أي تثنى فيه المعاني والأحوال والأوصاف ليكون الإنسان جامعاً بين الخوف والرجاء في سيره إلى ربه.
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قد سبق الكلام في معنى هذه الآية، قال تعالى: { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ولم يقل "إنَّا لا نضيع أجرهم"، ولكن قال تعالى: { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } وذلك لبيان العلة في ثواب هؤلاء وهو أنهم أحسنوا العمل، و { هل جزاء الأحسان الا الأحسان} [الرحمن: 60] ، هذا من الوجه المعنوي، ومن الوجه اللفظي أن تكون رؤوس الآية متوافقة ومتطابقة، لأنه لو قال: "إنَّا لا نضيع أجرهم" لاختلفت رؤوس الآيات.
وبماذا يكون الإحسان في العمل؟ يكون بأمرين:
1 – الإخلاص لله 2 – المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في الآية الكريمة من الحث على إحسان العمل.
***
)أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:31)
قوله تعالى: { )أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } المشار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.(11/50)
( جَنَّاتُ ) جمع جنة وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
( عَدْنٍ ) بمعنى الإقامة، أي جنات إقامة لا يبغون عنها حِوَلا أي تحولا عنها، ومن تمام النعيم أن كل واحد منهم لا يرى أن أحداً أنعم منه، ومن تمام الشقاء لأهل النار أن كل واحد منهم لا يرى أحداً أشد منه عذاباً، ولكن هؤلاء، أهل الجنة، لا يرون أن أحداً أنعم منهم لأنهم لو رأوْا ذلك لتنغص نعيمهم حيث يتصورون أنهم أقل.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ) الأنهار جمع نهر وهي أربعة أنواع ذكرها الله تعالى في سورة محمد، قال الله تعالى: )مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (محمد:15) ، وهنا قال: { مِنْ تَحْتِهِمُ }، وفي آية أخرى قال: "تحتهم" وفي ثالثة {من تحتها }، وفي رابعة: {تحتها } والمعنى واحد، لأنهم إذا كانت الأنهار تجري تحت أشجارها وقصورها فهي تجري تحت سكانها.
قوله تعالى(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ).
( يُحَلَّوْنَ فِيهَا ) أي الجنات.
( مِنْ أَسَاوِرَ ) قال بعضهم: إن { مِنْ } هنا زائدة لقول الله تعالى: ) وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ)(الانسان: من الآية21)، فـ {من } زائدة. ولكن هذا القول ضعيف، لأن {من } لا تزاد في الإثبات كما قال ابن مالك في الألفية:(11/51)
وزيد في نفي وشبهِهِ فَجَرّ نكرة كما لباغٍ من مفر وعلى هذا فإما أن تكون للتبعيض: أي يحلون فيها بعض أساور، أي يحلى كل واحد منهم شيئاً من هذه الأساور وحينئذٍ لا يكون إشكال، وإما أن تكون "للبيان" أي بيان ما يحلون، وهو أساور وليس قلائد أو خُروصا مثلاً، وأما قوله: { مِنْ ذَهَبٍ } فهي بيانية، أي لبيان الأساور أنها من ذهب، ولكن لا تحسبوا أن الذهب الذي في الجنة كالذهب الذي في الدنيا، فإنه يختلف اختلافاً عظيماً، قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ، ولو كان كذهب الدنيا لكان العين رأته.
قوله تعالى: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }، السندس: ما رَقَّ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه.
وقوله: { خُضْراً } خصَّها باللون الأخضر لأنه أشد ما يكون راحة للعين ففيه جمال وفيه راحة للعين.
قال تعالى(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ )
قوله: { )أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } حال من قوله تبارك وتعالى: { مُتَّكِئِينَ } أي حال كونهم متكئين فيها، والاتكاء يدل على راحة النفس وعلى الطمأنينة.
قوله: { عَلَى الْأَرَائِكِ } جمع أريكة، والأريكة نوع من المرتفق الذي يرتفق فيه، وقيل: إن الأريكة سرير في الخيمة الصغيرة المغطاة بالثياب الجميلة تشبه ما يسمونه بالكوخ.
قال الله تعالى: { عَلَى الْأَرَائِكِ } هذا مدح لهذه الجنة وما فيها من نعيم، ففيها الثناء على هذه الجنة بأمرين: بأنها { نِعْمَ الثَّوَابُ } وأنها { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }. قال الله تعالى: )أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (الفرقان:24)
***
)وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً)
(الكهف:32)(11/52)
قوله تعالى: {)وَاضْرِبْ } يعني اجعل وصيِّر.
(لَهُم ) أي للكفار: قريش وغيرهم.
( مَثَلاً ) مفعول اضرب، وبَيَّن المثل بقوله: { رَجُلَيْنِ } وعلى هذا يكون "رجلين" عطف بيان وتفصيل للمثل
قوله: { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } أغلب ما في الجنتين العنب، وأطراف الجنتين النخيل وما بينهما زرع، ففيهما الفاكهة والغذاء من الحب وثمر النخل.
***
قال الله تعالى:
)كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً) (الكهف:33)
قوله تعالى: { )كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } ولم يقل آتتا أُكُلَهَا؟ لأنه يجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى في كلتا، وقد اجتمع ذلك في قول الشاعر:
كلاهما حين جدَّ الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي يشير إلى فرسين تسابقا فيقول: كلاهما، أي كلا الفرسين، "حين جد الجري بينهما" أي المسابقة، "قد أقلعا" أي توقفا عن المجاراة، و"رابي" أي منتفخ، فقد قال: "قد أقلعا" ولم يقل: "قد أقلع"، وقال: "رابي" ولم يقل: "رابيان"، ففي البيت مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، وهنا آتت أُكُلَها مراعاة اللفظ.
قوله: { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً } أي ولم تنقص.
قوله تعالى: { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } كان خلال الجنتين نهر من الماء يجري بقوة، فكان في الجنتين كلُّ مقومات الحياة: أعناب، ونخيل، وزرع، ثم بينهما هذا النهر المطَّرِد.
قال الله تعالى:
)وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34)
قوله تعالى: { )وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي أن أحد الرجلين كان له ثمر، كأن له ثمر زائد على الجنتين أو ثمر كثير من الجنتين.(11/53)
وقوله: { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } وهما يتجاذبان الكلام.
قوله: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } افتخر عليه بشيئين:
1 – بكثرة المال 2 – العشيرة والقبيلة. فافتخر عليه بالغنى والحسب، يقول ذلك افتخاراً وليس تحدثاً بنعمة الله بدليل العقوبة التي حصلت عليه.
***
) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) (الكهف:35)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً) (الكهف:36)
قوله تعالى: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } ذكرت بلفظ الإفراد مع أنه قال: { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } فإما أن يقال: إن المراد بالمفرد الجنس، وإما أن يراد إحدى الجنتين، وتكون العظمى هي التي دخلها.
( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) هذه جملة حالية يعني الحال أنه ظالم لنفسه، وبماذا ظلم نفسه؟ ظلم نفسه بالكفر كما سيتبين.
قال: { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } يعني ما أظن أن تفنى وتزول أبداً، أعجب بها وبما فيها من قوة وحسنِ المنظر، وغير ذلك حتى نسي أن الدنيا لا تبقى لأحد، ثم أضاف إلى ذلك قوله:
( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) فأنكر البعث، لأنه إذا كانت جنَّتُه لا تبيد فهو يقول: لا بعث وإنما هو متاع الحياة الدنيا.
( لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً ) يعني على فرض أن تقوم الساعة وأرد إلى الله.(11/54)
( لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً ) أي مرجعاً، فكأنه يقول بما أن الله أنعم علي بالدنيا، فلا بد أن ينعم علي بالآخرة، وهذا قياس فاسد؛ لأنه لا يلزم من التنعيم في الدنيا أن ينعم الإنسان في الآخرة، ولا من كون الإنسان لا يُنَعَّم في الدنيا ألا يُنَعَّم في الآخرة، لا تلازم بين هذا وهذا، بل إن الكفار يُنعمون في الدنيا وتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولكنهم في الآخرة يُعذَّبون. وهذا كقوله تبارك وتعالى في سورة فُصِّلت: )لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) (فصلت:50)
هذا مثلُ هذا.
***
)قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37)
قوله تعالى: {)قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي يناقشه في الكلام.
( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) ذكره بأصله.
والهمزة في قوله: { أَكَفَرْتَ } للإنكار.
أما قوله: { خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ } فلأن آدم أبا البشر خُلق من تراب.
وأما { مِنْ نُطْفَةٍ } فلأن بني آدم خُلِقوا من نطفة، والمعنى: أنَّ الذي { خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } قادر على البعث الذي أنت تُنكره.
وقوله: { سَوَّاكَ } أي عدَّلك وصيَّرك رجلاً، وهذا الاستفهام للإنكار بلا شك، ثم هل يمكن أن نجعله للتعجب أيضاً؟(11/55)
الجواب: يمكن أن يكون للإنكار وللتعجب أيضاً يعني: كيف تكفر { بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً }! ويستفاد من هذا أن منكر البعث كافر ولا شك في هذا كما قال تعالى: )زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (التغابن:7)
***
)لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (الكهف:38)
قوله تعالى: {)لَكِنَّا } أصلها "لكن أنا" وحذفت الهمزة تخفيفاً وأدغمت النون الساكنة الأولى بالنون الثانية المفتوحة فصارت لكنَّا، وتكتب بالألف خطّاً وأما التلاوة ففيها قراءتان إحداهما بالألف وصلاً ووقفاً، والثانية بالالف وقفاً وبحذفها وصلاً.
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) أي هو الله ربي مثل قوله تعالى: {هو الله أحد } وعلى هذا فتكون {هو } ضمير الشأن، يعني الشأن أن الله تعالى ربي.
و{ وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } وهذا كقول ابن آدم لأخيه قابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين } [المائدة: 27] ، يعني أنت كفرت ولكني أنا أعتز بإيماني وأؤمن بالله.
***
)وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) (الكهف:39)
قوله تعالى: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ } يعني هلَّا { إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } أي حين دخولك إيَّاها { قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } حتى تجعل الأمر مفوضاً إلى الله .
وقوله: { مَا شَاءَ اللَّهُ } فيها وجهان:
1 - أنَّ {ما } اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذا ما شاء الله".
2 - أنَّ {ما } شرطية و{شاء } فعل الشرط وجوابه محذوف والتقدير "ما شاء الله كان".(11/56)
وقوله: { لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } أي لا قوة لأحد على شيء إلَّا بالله وهذا يعني تفويض القوة لله ، يعني فهو الذي له القوة مطلقاً، القوة جميعاً، فهذه الجنة ما صارت بقوتك أنت ولا بمشيئتك أنت ولكن بمشيئة الله وقوته، وينبغي للإنسان إذا أعجبه شيء من ماله أن يقول: "ما شاء الله لا قوة إلَّا بالله" حتى يفوض الأمر إلى الله لا إلى حوله وقوته، وقد جاء في الأثر أن من قال ذلك في شيء يعجبه من ماله فإنه لن يرى فيه مكروهاً .
قوله تعالى: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) .
(إِن ) شرطية وفعل الشرط ترى والنون للوقاية والياء محذوفة للتخفيف والأصل "ترني".
( أَنَا ) ضمير فصل لا محلَّ له من الإعراب.
( أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) أي إن احتقرتني لكوني أقل منك مالا وأقل منك ولدا ولست مثلك في عزَّة النفر.
***
)فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (الكهف:40)
قوله تعالى: {)فَعَسَى رَبِّي } هذه الجملة هي جواب الشرط. وهل هي للترجي أم للتوقع؟
الجواب: فيها احتمالان:
الأول: أنها للترجي وأن هذا دعا أن يؤتيه الله خيراً من جنته وأن ينْزل عليها حسباناً من السماء؛ لأنه احتقره واستذله فدعا عليه بمثل ما فعل به من الظلم، ولا حرج على الإنسان أن يَدعوَ على ظالمه بمثل ما ظلمه، ويحتمل أنه دعا عليه من أجل أن يعرف هذا المفتخر ربه ويدعَ الإعجاب بالمال وهذا من مصلحته. فكأنه دعا أن يؤتيه الله ما يستأثر به عليه، وأن يتلف هذه الجنة حتى يعرف هذا الذي افتخر بجنته وعزة نفره أن الأمر أمر الله ، فكأنه دعا عليه بما يضره لمصلحة هي أعظم. فكون الإنسان يعرف نفسه ويرجع إلى ربه خير له من أن يفخر بماله ويعتز به، هذا إذا جعلنا عسى للترجي.(11/57)
الثاني: أن تكون عسى للتوقع، والمعنى أنك إن كنت ترى هذا فإنه يُتَوقع أن الله تعالى يُزيل عني ما عبتني به ويزيل عنك ما تفتخر به، وأياً كان فالأمر وقع إما استجابة لدعائه وإما تحقيقاً لتوقعه.
( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)والمراد بالحسبان هنا ما يدمرها من صواعق أو غيرها.
وقوله: { مِنَ السَّمَاءِ } خصَّ السماء لأن ما جاء من الأرض قد يدافع، يعني لو نفرض أنه جاءت أمطار وسيول جارفة أو نيران محرقة تسعى وتحرق ما أمامها، يمكن أن تُدافع، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه أو يتعذر.
( فَتُصْبِحَ صَعِيداً) أي تصبح لا نبات فيها.
( زَلَقاً ) يعني قد غمرتها المياه.
***
)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (الكهف:41)
قوله تعالى: {)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً } فلا يوجد فيها ماء.
و{ غَوْراً } بمعنى غائر فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فدعا دعوة يكون فيها زوال هذه الجنة إمَّا بماء يغرقها حتى تصبح { صَعِيداً زَلَقاً }، وإما بغور لا سُقيا معه لقوله: { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } وكلا الأمرين تدمير وخراب. فالفيضانات تدمر المحصول، وغور الماء حتى لا يستطيع أن يطلبه لبعده في قاع الأرض أيضاً يدمر المحصول، فماذا كان بعد هذا الدعاء أو هذا التوقع؟
***
)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (الكهف:42)
قوله تعالى: {)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي بثمر صاحب الجنتين فهلكت الجنتان.
( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) من الندم، وذلك أن الإنسان إذا ندم يقلب كفيه على ما قد حصل.
( عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) وهذا يدل على أنه أنفق فيها شيئاً كثيراً.(11/58)
( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي هامدة على عروشها. و{ عُرُوشِهَا } جمع عرش أو عريش وهو ما يوضع لتمدد عليه أغصان الأعناب وغيرها.
( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) ولكن الندم بعد فوات الأوان لا ينفع، إنما ينتفع من سمع القصة، أما من وقعت عليه فلا ينفعه الندم لأنه قد فات الأوان.
***
)وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً) (الكهف:43)
فالذي كان يفتخر به ويقول: { أنا أكثر منك مالاًوأعز نفرا} لم تمنعه فِئَتُهُ من عقوبة الله ولم ينتصر هو بنفسه لأنه والعياذ بالله كفر وحاور المؤمن فعوقب بهذه العقوبة.
***
)هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (الكهف:44)
قوله تعالى: {)هُنَالِكَ الْوَلايَةُ } فيها قراءتان:
1 - الوِلاية 2 - الوَلايَة.
فالوَلاية: بمعنى النُّصرة، كما قال تعالى: ) مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )(لأنفال: من الآية72)والوِلاية: بمعنى الملك والسلطة، فيوم القيامة لا نصرة ولا ملك إلَّا { لِلَّهِ الْحَقِّ }، وإذا كان ليس هناك انتصار ولا سلطان إلا لله فإن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئاً.
(هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) ,(هو) الضمير يعود على الله، { خَيْرٌ ثَوَاباً } من غيره، إذا أثاب عن العمل فهو { خَيْرٌ ثَوَاباً } لأن غير الله إن أثاب فإنه يثيب على العمل بمثله، وإن زاد فإنه يزيد شيئاً يسيراً أما الله فإنه يثيب العمل بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
كذلك هو { وَخَيْرٌ عُقْباً } جلَّ وعلا، لأن من كان عاقبته نصر الله وتَوَلِّيَهُ فلا شك أن هذا خير من كل ما سواه. جميع العواقب التي تكون للإنسان على يد البشر تزول لكن العاقبة التي عند الله لا تزول.(11/59)
إنَّ هذا المثل الذي ضربه الله في هذه الآيات هل هو مثل حقيقي أو تقديري؟ يعني هل هذا الشيء واقع أو أنه شيء مُقدَّر؟
الجواب: من العلماء من قال إنه مثل تقديري كقوله تبارك وتعالى: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76) ، وكقوله: )ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر:29) ، وما شابه ذلك، فيكون هذا مثلاً تقديرياً وليس واقعياً. ولكن السياق وما فيه من المحاورة والأخذ والرد يدل على أنه مثل حقيقي واقع، فهما رجلان أحدهما أنعم الله عليه والثاني لم يكن مثله.
***
ثم ضرب الله تعالى مثلاً آخر فقال)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (الكهف:45)
قوله تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } وهو المطر { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ } يعني أن الرِّياض صارت مختلطة بأنواع النبات المتنوع بأزهاره وأوراقه وأشجاره كما يشاهد في وقت الربيع كيف تكون الأرض، سبحان الله، كأنه وَشْيٌ من أحسن الوشْيات، إذا اختلط من كل نوع ومن كل جنس.
( فَأَصْبَحَ ) يعني هذا النبات المختلف المتنوع.
( هَشِيماً) هامداً.(11/60)
(ً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) أي تحمله، فهذا هو { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }. الآن الدنيا تزدهر للإنسان وتزهو له وإذا بها تخمد بموته أو فَقدها، لا بد من هذا، إما أن يموت الإنسان أو أن يفقد الدنيا . هذا مثل موافق تماماً، وقد ضرب الله تعالى هذا النوع من الأمثال في عدة سور من القرآن الكريم حتى لا نغتر بالدنيا ولا نتمسك بها، والعجب أننا مغترون بها ومتمسكون بها مع أن أكدارها وهمومها وغمومها أكثر بكثير من صفوها وراحتها والشاعر الذي قال:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساءُ ويومٌ نُسَرْ لا يريد، كما يظهر لنا، المعادلة، لكن معناه أنه ما من سرور إلَّا ومعه مساءة، وما من مساءة إلَّا ومعها سرور، لكن صفوها أقل بكثير من أكدارها، حتى المنعمون بها ليسوا مطمئنين بها كما قال الشاعر الآخر:
لا طِيبَ للعيش ما دامت مُنغَّصَةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرمِ قال تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } ما وجد فهو قادر على إعدامه، وما عُدِم فهو قادر على إيجاده، وليس بين الإيجاد والعدم إلَّا كلمة (كن}، قال الله تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82) . وفي قوله: { مُقْتَدِراً } مبالغة في القدرة، ثم قال الله مقارناً بين ما يبقى وما لا يبقى:
***
)الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)
قوله تعالى: { )الْمَالُ } من أي نوع سواء كان من العروض أو النقود أو الآدميين أو البهائم.(11/61)
( وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ولا ينفع الإنسان في الآخرة إلَّا ما قدَّم منها، وذكر البنين دون البنات لأنه جرت العادة أنهم لا يفتخرون إلَّا بالبنين، والبنات في الجاهلية مهينات بأعظم المهانة كما قال الله : )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل:58) ، أي صار وجهه مسوداً وقلبه ممتلئاً غيظاً
{ يتوارى من القوم} يعني يختبئ منهم {من سوء ما بشر به }، ثم يُقَدِّرُ في نفسه )أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)(النحل: من الآية59). بقي قسم ثالث وهو أن يُمسِكَهُ على عِزٍّ وهذا عندهم غير ممكن، ليس عندهم إلَّا أحد أمرين:
1 - إما أن يمسكه على هون.
2 - يَدُسه في التراب، أي يدفنه فيه وهذا هو الوأد، قال الله تعالى: { أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }.
وقوله تعالى: { زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي أن الإنسان يتجمل به يعني يتجمل أنَّ عنده أولاداً، قدر نفسك أنك صاحب قِرى يعني أنك مضياف وعندك شباب، عشرة، يستقبلون الضيوف، تجد أن هذا في غاية ما يكون من السرور، هذه من الزينة، كذلك قدر نفسك أنك تسير على فرس وحولك هؤلاء الشباب يَحُفُّونك من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، تجد شيئاً عظيماً من الزينة، ولكن هناك شيء خير من ذلك.
قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) هي الأعمال الصالحات من أقوال وأفعال ومنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنها الصدقات والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، هذه الباقيات الصالحات.
( خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً ) أي أجراً ومثوبة.(11/62)
( وَخَيْرٌ أَمَلاً ) أي خير ما يُؤمِّله الإنسان لأن هذه الباقيات الصالحات هي كما وصفها الله بباقيات ، أما الدنيا فهي فانية وزائلة.
***
)وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:47)
قوله تعالى: {)وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } أي اذكر لهم {)وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } وعلى هذا فإن { )وَيَوْمَ } ظرف عامِلُهُ محذوف والتقدير اذكر { وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي: اذكر للناس هذه الحال، وهذا المشهد العظيم { {)وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } وقد بين الله في آية أخرى أنه يسيرها فتكون سراباً )وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) (النبأ:20) وتكون كالعهن المنفوش: )وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:5) ، وذلك بأن الله تعالى يدُك الأرض وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً )يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:14) ثم تتطاير في الجو، هذا معنى تُسَيَّرُ. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: )وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل:88) . بعض الناس قال إنَّ هذه الآية تعني دوران الأرض، فإنك ترى الجبال فتظنها ثابتة ولكنها تسير، وهذا غلط وقول على الله تعالى بلا علم لأن سياق الآية يأبى ذلك كما قال الله تعالى)وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ(87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي(11/63)
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل:88) )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل:89) . فالآية واضحة أنها يوم القيامة، وأما زعم هذا الرجل القائل بذلك بأن يوم القيامة تكون الأمور حقائق وهنا يقول: { وترى الجبال تحسبها} فلا حسبان في الآخرة، فهذا غلط أيضاً لأنه إذا كان الله أثبت هذا فيجب أن نؤمن به ولا نحرفه بعقولنا، ثم إن الله يقول: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:2) . فإذا قلنا إن زلزلة الساعة هي قيامها، فقد بيَّن الله أن الناس يراهم الرائي فيظنهم سكارى وما هم بسكارى، وعلى كل حال فإن الواجب علينا جميعاً أن نجري الآيات على ظاهرها وأن نعرف السياق لأنه يعين المعنى ، فكم من جملة في سياق يكون لها معنى ولو كانت في غير هذا السياق، لكان لها معنى آخر، ولكنها في هذا السياق يكون لها المعنى المناسب لهذا السياق.
وقوله تعالى: { وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً } أي: ظاهرة لأنها تكون قاعاً وصفصفاً، وهي الآن ليست بارزة لأنها مكورة، وأكثرها غير بارز، ثم إن البارز لنا أيضاً كثير منه مختفٍ بالجبال، فيوم القيامة لا جبال ولا أرض كروية بل تمد الأرض مدَّ الأديم، قال الله : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (الانشقاق:3) ، فقوله: ( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) يدل على أن الأرض الآن غير ممدودة.
وقوله: { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي الناس، بل إن الوحوش تحشر كما قال الله : )وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:5(11/64)
بل جميع الدواب أيضاً كما قال تعالى في سورة الأنعام: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) . فكلٌّ شيء يحشر، ولهذا يقول الله هنا: { { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي: الناس، وفي الآية الأخرى { الوحوش} وفي الأخيرة جميع الدواب.
وقوله: { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي نترك، { مِنْهُمْ أَحَداً } كل الناس يحشرون، إن مات في البر حشر، في البحر حشر، في أي مكان، لا بد أن يحشر يوم القيامة ويجمع.
***
)وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (الكهف:48)
قوله تعالى: { )وَعُرِضُوا } أي: عرض الناس { عَلَى رَبِّكَ } أي: على الله .
( صَفّاً) أي: حال كونهم صفاً بمعنى صفوفاً، فيحاسبهم الله ، أما المؤمن فإنه يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول له عملت كذا وعملت كذا، فيقر فيقول له أكرم الأكرمين: "إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" يغفر الله له يوم القيامة، ولا يعاقبه عليها وفي الدنيا يسترها، فكم من ذنوب لنا اقترفناها في الخفاء؟ كثيرة، سواء كانت عملية في الجوارح الظاهرة أو عملية من عمل القلوب، فسوء الظن موجود، الحسد موجود، إرادة السوء للمسلم موجودة، وهو مستور عليه. وأعمال أخرى من أعمال الجوارح ولكن الله يسترها على العبد. إننا نؤمِّل إن شاء الله أن الذي سترها علينا في الدنيا، أن يغفرها لنا في الآخرة.(11/65)
ثم قال تعالى: { صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي يقال لهم ذلك. وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام وقد والقسم المقدر، يعني والله لقد جئتمونا { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً } ليس معكم مال ولا ثياب ولا غير ذلك، بل ما فقد منهم يرد إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح أنهم يحشرون يوم القيامة "حفاة، عراة، غرْلا" و "غُرْلا" جمع أغرل وهو الذي لم يختن، إذاً سوف يعرضون على الله صفا ويقال: { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }، ويقال أيضاً:
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا)ً هذا إضراب انتقال، فهم يوبخون { لَقَدْ جِئْتُمُونَا } فلا مفر لكم { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) } فلا مال لكم ولا أهل، ويوبخون أيضاً على إنكارهم البعث فيقال: { بَلْ زَعَمْتُمْ } في الدنيا { أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً }، وهذا الزعم تبين بطلانه، فهو باطل.
***
)وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)
قوله تعالى: { )وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي وزِّع بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.(11/66)
( فَتَرَى ) أيها الإنسان { الْمُجْرِمِينَ } أي: الكافرين { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي: خائفين مما كتب فيه لأنهم يعلمون ما قدموه لأنفسهم، وهذا يشبه قول الله تعالى عن اليهود الذين قالوا: )وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) ، فتُحُدوا وقيل لهم: )قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:94) ، قال الله)وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ )(البقرة: من الآية95) يعني يعرفون أنهم إذا ماتوا عُذِّبوا، ومن كان يعلم أنه إذا مات عُذب فلن يتمنى الموت أبداً، فهؤلاء مشفقون مما في كتاب الله، يعني يعلمون أنه مُحتوٍ على الفضائح والسيئات العظيمة.
ويقولون إذا علموا: ( يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)
( يا ) حرف نداء { ويلتنا } وهي الهلاك ولكن كيف تنادى؟
الجواب: إما أن "يا" للتنبيه فقط لأن النداء يتضمن الدعاء والتنبيه، وإما أن نقول إنهم جعلوا ويلتهم بمنْزلة العاقل الذي يوجه إليه النداء، ويكون التقدير "يا ويلتنا احضري"! لكن المعنى الأول أقرب لأنه لا يحتاج إلى تقدير، ولأنه أبلغ.
( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ)أي شيء لهذا الكتاب؟
( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) يعني أثبتها عدداً، كأنهم يتضجرون من هذا، ولكن هذا لا ينفعهم.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا)أي وجدوا ثواب ما عملوا.
( حَاضِراً ) لم يغب منه شيء وعبَّر الله تعالى بالعمل عن الثواب لأنه مثلُه بلا زيادة.(11/67)
ثم قال الله تعالى: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وذلك لكمال عدله فلا يزيد على مسيء سيئة واحدة، ولا يَنقص من محسن حسنة واحدة، قال تعالى: )وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه:112) . وهذه الآية { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } من الصفات المنفية عن الله، وأكثر الوارد في الصفات الصفات المثبتة كالحياة والعلم والقدرة. وأما ذكر الصفات المنفية فقليل بالنسبة للصفات المثبتة، ولا يتم الإيمان بالصفات المنفية إلَّا بأمرين:
الأول نفي الصفة المنفية.
والثاني إثبات كمال ضدها.
فالنفي الذي لم يتضمن كمالاً لا يمكن أن يكون في صفات الله . بل لا بد في كل نفي نفاه الله عن نفسه أن يكون متضمناً لإثبات كمال الضد، والنفي إن لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، أي قابلية الموصوف له، وإذا لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعجز الموصوف، وإذا كان نفياً محضاً فهو عدمٌ لا كمال فيه، والله تعالى له الصفات الكاملة كما قال تعالى: { ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] أي الوصف الأكمل.
قلنا إذا لم يتضمن النفي كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، كيف ذلك؟ ألسنا نقول إن الجدار لا يظلِم؟ بلى، هل هذا كمال للجدار؟ لا، لماذا؟ لأن الجدار لا يقبل أن يوصف بالظلم، ولا يوصف بالعدل، فليس نفي الظلم عن الجدار كمالاً، وقد يكون النفي إذا لم يتضمن كمالاً نقصاً لعجز الموصوف به عنه، لو أنك وصفت شخصاً بأنه لا يظلم بكونه لا يجازي السيئة بمثلها لأنه رجل ضعيف لا يقدر على الانتصار لنفسه لم يكن هذا مدحاً له.(11/68)
فالخلاصة أن كل وصفٍ وصف الله به نفسه وهو نفي، فإنه يجب أن نعتقد مع انتفائه ثبوتَ كمال ضده، قال تعالى: )أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الاحقاف:33) ، فعلى هذه القاعدة نفى الله "العي" وهو العجز؛ لثبوت كمال ضد العجز وهو القدرة، إذاً نؤمن أن الله له قدرة لا يلحقها عجز، وقال تعالى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38) ، أي من تعب وإعياء وذلك لكمال قدرته جلَّ وعلا.
قلنا: إن الله لا يظلم أحداً وذلك لكمال عدله، لكن الجهمية قالوا: "لا يظلم" لعدم إمكان الظلم في حقه، وليس لأنه قادر على أن يظلم ولكنه لا يظلم، قالوا لأن الخلق كلَّهم خلق الله، ملك لله، فإذا كانوا ملكاً لله فإنه إذا عذَّب محسناً فقد عذب ملكه، وليس ذلك ظلماً لأنه يفعل في ملكه ما يشاء، ولكن قولهم هذا باطل، لأنه إذا كان الله قد وعد المحسنين بالثواب والمسيئين بالعذاب، ثم أحسن المحسن فعذبه وأساء المسيء فأثابه فأقل ما يقال فيه: إنه وحاشاه أخلف وعده. هذا أقل ما يقال، وهذا ولا شك مناف للعدل وللصدق، فنقول لهم: إنَّ الله قال في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي" ، وهذا يدل على أنه قادر عليه، لكن حرَّمه على نفسه لكمال عدله جلَّ وعلا، إذاً نحن نقول لا يظلم الله أحداً لكمال عدله لا لأن الظلم غير ممكن في حقه، كما قالت الجهمية.
***
)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف:50)(11/69)
قوله تعالى: { )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } "إذ" هذه تأتي كثيراً في القرآن، والمُعرِبون يقولون: إنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكرْ إذْ يعني اذكر هذا للأمة حتى تعتبر به ويتبين به فضيلة بني آدم عند الله.
وقوله: { لِلْمَلائِكَةِ } هم عالم غيبي خلقهم الله من نور. كما أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلقهم من نور . وأعلمنا الله تعالى في القرآن أنه خلق الجنَّ من نار، وأنه خلق البشر من طين، إذاً المخلوقات التي نعلمها هي، الملائكة من نور، والجن من نار، والإنسان من طين، فالملائكة إذاً عالم غيبي والإيمان بهم أحد أركان الإيمان، والملائكة على خلاف الشياطين كما يتبين من الآية، وهم أقدر من الشياطين وأطهر من الشياطين، ولهم من النفوذ ما ليس للشياطين، فالشياطين لا يمكن أن يَلِجُوا إلى السماء، بل من حاول أُتبع بالشهاب المحرق، والملائكة يصعدون فيها، فهم يصعدون بأرواح بني آدم إلى أن تصل إلى الله، وهم أيضاً قد ملؤوا السموات، فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة إيماناً لا شك فيه، وأنهم عالم غيبي، لكن قد يكونون من العالم المحسوس بقدرة الله، كما كان جبريل ، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق وهو واحد وهذا يدل على عظمة خِلقته، وعظمة خِلقة جبريل تدل على عظمة الخالق جلَّ وعلا، أحياناً يأتي جبريل الذي هذا وصفه وهذا خلقه على صورة إنسان، ولكن ليس تقلبه هكذا بقدرته هو، ولكن بقدرة خالقه جلَّ وعلا، والله أعطاه القدرة على التقلب والتكيف بقدرة الله جلَّ وعلا.(11/70)
وقوله تعالى: { اسْجُدُوا لِآدَمَ } قال بعضهم: سجود تحية، وليس سجوداً على الجبهة، قالوا ذلك فراراً من كونه سجوداً على الجبهة، لأن السجود على الجبهة لا يصح إلا لله، ولكن الذي يجب علينا أن نأخذ الكلام على ظاهره ونقول: الأصل أنه سجود على الجبهة. وإذا كان امتثالاً لأمر الله لم يكن شركاً كما أن قتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب، وإذا وقع امتثالاً لأمر الله كان طاعة من الطاعات، فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله وشرع في تنفيذ الذبح، ولا يخفى ما في ذبح الابن من قطيعة الرحم، لكن لما كان هذا امتثالاً لأمر الله صار طاعة، ولما تحقق مراد الله تعالى من الابتلاء نسخ الأمر ورفع الحرج، إذاً فالسجود لآدم لولا أمر الله لكان شركاً، لكن لما كان بأمر الله كان طاعة لله.
وآدم: هو أبو البشر خلقه الله من طين وخلقه بيده ، قال أهل العلم لم يخلق الله شيئاً بيده إلا آدم وجنة عدن، فإنه خلقها بيده وكتب التوراة بيده جل وعلا، فهذه ثلاثة أشياء كلها كانت بيد الله، أما غيرُ آدم فيخلق بالكلمة (كن) فيكون، وهو نبي، وليس برسول؛ لأن أول رسول أرسل إلى البشرية هو نوح عليه الصلاة والسلام، أرسله الله لما اختلف الناس: )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ )(البقرة: من الآية213)، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. فكان أول رسول نوحٌ عليه الصلاة والسلام وآدم نبي مُكلَّم . فإذا قال قائل كيف يكون نبياً ولا يكون رسولاً؟
الجواب: يكون نبياً ولا يكون رسولاً؛ لأنه لم يكن هناك داع إلى الرسالة، فالناس كانوا على ملة واحدة والبشر لم ينتشروا بعد كثيراً ولم يفتتنوا في الدنيا كثيراً، نفر قليل، فكانوا يستنون بأبيهم ويعملون عمله، ولما انتشرت الأمة وكثرت واختلفوا أرسل الله الرسل.(11/71)
( اسْجُدُوا ) امتثالاً لأمر الله { إِلَّا إِبْلِيسَ } لم يسجد. وإبليس هو الشيطان ولم يسجد، بَيَّنَ الله سبب ذلك في قوله: { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } فالجملة استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي: من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم.
) فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (أي: خرج عن طاعة الله تعالى في أمره، وأصل الفسوق الخروج، ومنه قولهم فسقت التمرة إذا انفرجت وانفتحت.
فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟
فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال: { إِلَّا إِبْلِيسَ } ثم ذكر أنه { كَانَ مِنَ الْجِنِّ }، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟ قال العلماء إنه كان - أي: إبليس - يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل، ماذا قال لله؟ {قال أنا خيراً منه } [الأعراف: 12] ، فكيف تأمرني أن أسجد لواحد أنا خير منه؟ ثم علل بعلة هي عليه قال: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(لأعراف: من الآية 12). وهذا عليه فإن المخلوق من الطين أحسن من المخلوق من النار، المخلوق من النار، خلق من نار محرقة ملتهبة فيها علامة الطيش تجد اللهب فيها يروح يميناً وشمالاً، ما لها قاعدة مستقرة، ولقد ذكر ابن القيم - - في كتابه "إغاثة اللهفان" فروقاً كثيرة بين الطين وبين النار، ثم على فرض أنه خلق من النار وكان خيراً من آدم أليس الأجدر به أن يمتثل أمر الخالق؟ بلى، لكنه أبى واستكبر.
قال الله لما بين حال الشيطان:
( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ).(11/72)
( أَفَتَتَّخِذُونَهُ ) الخطاب يعود لمن اتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله فعبدوا الشيطان وتركوا عبادة الرحمن، قال الله تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يّس:60)
)وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يّس:61)
قوله: { وَذُرِّيَّتَهُ } أي: من ولدوا منه، سُئل بعض السلف - سأله ناس من المتعمقين - فقالوا هل للشيطان زوجة؟ قال إني لم أحضر العقد، وهذا السؤال لا داعي له، نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري، أليس الله قد خلق حواء من آدم؟ بلى، فيجوز أن الله خلق ذرية إبليس منه كما خلق حواء من آدم.
وهذه المسائل - مسائل الغيب - لا ينبغي للإنسان أن يورد عليها شيئاً يزيد على ما جاء في النص؛ لأن هذه الأمور فوق مستوانا، نحن نؤمن بأن لإبليس ذرية ولكن هل يلزمنا أن نؤمن بأن له زوجة؟
الجواب: لا يلزمنا.
( أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) أي تتولونهم وتأخذون بأمرهم من دون الله { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } هذا محط الإنكار، يعني كيف تتخذون هؤلاء أولياء وهم لكم أعداء؟ هذا من السفه ونقص العقل ونقص التصرف أن يتخذ الإنسان عدوه وليا.
( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) أي بئس هذا البدل بدلاً لهم، وما هو البدل الخير؟
الجواب: أن يتخذوا الله ولياً لا الشيطان.
وقوله: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ } يمكن أن نقول إنها بمعنى الكافرين لأنهم هم الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء على وجه الإطلاق، ويمكن أن نقول إنها تعم الكافرين ومن كان ظُلمهم دون ظلم الكفر، فإن لهم من ولاية الشيطان بقدر ما أعرضوا به عن ولاية الرحمن.
***
)مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف:51)(11/73)
قوله تعالى:)مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } يعني أن هؤلاء الذين اتخذهم الناس أولياء من دون الله ليس لهم حق الكون وبالتدبير، فالله - - ما أشهدهم خلق السموات والأرض؛ لأن السموات والأرض مخلوقتان قبل الشياطين.
) وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ( يعني ما أشهدت بعضَهم خلق بعض. فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوه، وفي هذه الجملة دليل على أن كل من تكلم في شيء من أمر السموات والأرض، بدون دليل شرعي أو حسي فإنه لا يُقبل قوله، فلو قال: إن السموات تكونت من كذا والأرضُ تكونت من كذا وبعضهم يقول: الأرض قطعة من الشمس وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا دليل على صحته.
فإننا نقول له: إن الله ما أشهدك خلق السموات والأرض، ولن نقبل منك أيَّ شيء من هذا، إلاَّ إذا وجدنا دليلاً حسياً لا مناص لنا منه، حينئذٍ نأخذ به؛ لأن القرآن لا يعارض الأشياء المحسوسة.
) وَمَا كُنْتُ ( الضمير في { كُنْتُ} يعود إلى الله.
) كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (أي: أنصاراً ينصرون ديني، لماذا؟ لأن المضل يصرف الناس عن الدين، فكيف يتخذ الله المضلين عضدا، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي لك أيها الإنسان أن تتخذ المضلين عضدا تنتصر بهم، لأنهم لن ينفعوك بل سيضرونك، إذاً لا تعتمد على السفهاء ولا تعتمد على أهل الأهواء المنحرفة؛ لأنه لا يمكن أن ينفعوك بل هم يضرونك، فإذا كان الله لم يتخذ المضلين عضدا فنحن كذلك لا يليق بنا أن نتخذ المضلين عضدا؛ لأنهم لا خير فيهم خير، وفي هذا النهي عن بطانة السوء وعن مرافقة أهل السوء، وأن يحذر الإنسان من جلساء السوء.
***
)وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)
(الكهف:52)(11/74)
قوله تعالى: {)وَيَوْمَ يَقُولُ } أي اذكر يوم يقول: { نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } فينادونهم ولا يستجيبون لهم، وهذا يكون يوم القيامة، يقال لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم أولياء شفعاء.
( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) فهذه الأصنام لا تنفع أهلها بل تُلقى هي وعابدوها في النار، قال الله :
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (الانبياء:98)
( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق هو مكان الهلاك، يعني أننا جعلنا بينهم حائلاً مهلكاً حيث لا يمكن أن يذهبوا إلى شركائهم، ولا أن يأتي شركاؤهم إليهم، أرأيت لو كان بينك وبين صاحبك خندق من نار هل يمكن أن تذهب إليه لتنصره، أو أن يأتي إليك لينصرك؟
الجواب: لا يمكن، هؤلاء يجعل الله بينهم يوم القيامة { مَوْبِقاً }.
***
)وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) (الكهف:53)
قوله تعالى: { )وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } المجرمون يعني الكافرين، كما قال : { إنا من المجرمين انا منتقمون} [السجدة: 22 .( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا )أي أيقنوا: { مُوَاقِعُوهَا } والظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملتقوا ربهم } [البقرة: 46] ، أي: يوقنون أنهم ملاقو الله، وإلَّا فالظن الذي هو ترجيح أحد الأمرين المشكوك فيهما لا يكفي في الإيمان.
( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ) يعني لم يجدوا مكانا ينصرفون عنها إليه، وهذه الجملة معطوفة على (رأى) وليست داخلة تحت قوله ظنوا، لأنه لو كان داخلاً في الظن لقال "ولن"، يعني أنهم لما رأوْها وظنوا أنهم مواقعوها لم يجدوا عنها مصرفاً أي مكاناً ينصرفون إليه لينجوا به منها.
***(11/75)
)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54)
قوله تعالى: { صَرَّفْنَا } يعني نوعنا، تصريف الشيء يعني تنويعه كما قال تعالى: { وتصريف الرياح} [البقرة: 164] ، أي تنويعها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، إذاً { صَرَّفْنَا } أي نوعنا في هذا القرآن من كل مثل، وهكذا الواقع. فكلام الله صدق، أمثال القرآن تجدها متنوعة فتارة لإثبات البعث، وتارة لإثبات وحدانية الله، وتارة لبيان حال الدنيا، وتارة لبيان حال الآخرة، وتارة تكون مطولة، وتارة مختصرة، فهي أنواع. كل نوع في مكانه من البلاغة والفصاحة.
( مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)أي من كل جنس وصنف، فهذا مثل لكذا وهذا مثل لكذا، لماذا؟
الجواب: من أجل أن يتذكر الناس ويتعظوا ويعقلوها. ولكن يوجد من الناس من لا يتعظ بهذه المثل، بل على العكس، ولهذا قال: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }، قوله: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ }، بعض المفسرين يقول: { َ الْأِنْسَانُ } يعني الكافر، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لا دليل على تخصيصه بالكافر، بل نقول { الْأِنْسَانُ } من حيث الإنسانية.(11/76)
( شَيْءٍ جَدَلاً ) يعني أكثر ما عنده، ولكن من حيث الإيمان فالمؤمن لا يكون مجادلاً، بل يكون مستسلماً للحق ولا يجادل فيه، ولهذا قال عبد الله بن مسعود : "ما أوتي قوم الجدل إلَّا ضلوا" وتدبر حال الصحابة تجد أنهم مستسلمون غاية الاستسلام لما جاءت به الشريعة، ولا يجادلون ولا يقولون لم؟ ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم" هل قال الصحابة "لِمَ"؟ بل قالوا سمعنا وأطعنا، ما جادلوا، وكذلك في بقية الأوامر، لكن الإنسان من حيث هو إنسان أكثر شيء عنده الجدل. إذاً إذا مر بك مثل هذا في القرآن الكريم { الْأِنْسَانُ } فلا تحمله على الكافر إلا إذا كان السياق يُعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياق يراد به ذلك، صار هذا عاماً يراد به الخاص، لكن إذا لم يكن في السياق ما يعين ذلك فاجعله للعموم، اجعله إنساناً بوصف الإنسانية، والإنسانية إذا غلب عليها الإيمان اضمحل مقتضاها المخالف للفطرة.
قوله: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } هذا وقع في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة حين جاء إليهما ذات ليلة ووجدهما نائمين فقال: "ألا تصليان"، قال علي : "إنَّ أنفُسَنا بيد الله ولو شاء لأيقظنا"، فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذه ويقول: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أنفسهما بيد الله، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الفريضة: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فعذر الناسي والنائم وهو يعلم عليه الصلاة والسلام ذلك ولكنه يريد أن يَحُثَّهُما، وأراد علي أن يدفع اللوم عنه وعن زوجه فاطمة
***(11/77)
)وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) (الكهف:55)
قوله تعالى: { )وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني ما منع الناس عن الإيمان والاستغفار نقص البيان، فقد ذكر الله أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وكان الواجب على الإنسان إذا ضربت له الأمثال أن يؤمن. لكنه ما منعهم من الإيمان نقصٌ في البيان، فالأمر والحمد لله بين واضح أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية لكنه العناد.
ولهذا قال جلَّ وعلا: { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) أي ما ينتظرون إلَّا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً.
وقوله: { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني يطلبون مغفرته، فالمؤمن كثير الاستغفار لربه، والكافر إذا آمن لا بد أن يستغفر الله بما وقع فيه من الذنوب، فإذا آمن واستغفر زال عنه ما كان من الذنوب. قال تعالى)قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (لأنفال:38)
وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } يعني مقابلة ومعاينة ومباشرة، وما هي سنة الأولين؟
الجواب: هي أخذهم بالعذاب العام، لكن لم يأخذ الله هذه الأمة بعذاب شامل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه ألا يهلك أمَّته بسنة بعامة فأجاب الله دعاءه.
***
)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (الكهف:56)(11/78)
قوله تعالى: { )وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } هذه وظيفة الرسل ما نرسل المرسلين من أولهم نوح إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إلَّا لهذين الأمرين: مبشرين ومنذرين، يعني ولم نرسلهم من أجل أن يجبروا الناس على الإيمان بل هم مبشرون ومنذرون، يبشرون المؤمنين وينذرون الكافرين.
( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) منصوبة على الحال من المرسلين، يعني إلَّا حال كونهم مبشرين ومنذرين.
( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) المجادلة هي المخاصمة وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد يَجْدُلُ حجته للآخر والجَدْل هو فتل الحبل حتى يشتد ويقوى، هذا أصل المجادلة، إذاً يجادل أي يخاصم، والمخاصمة بالباطل باطلة، مثال ذلك في الرسل يقولون: ) أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)(التغابن: من الآية6)، ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً)(المؤمنون: من الآية24)، ويجادلون في البعث فيقولون: { من يحي العظام وهى رميم} [يس: 78] ، ويجادلون في الآلهة يقولون: إذا كان المشركون وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فعيسى من حصب جهنم، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل الله مجادلتهم بعيسى قال الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى )(الانبياء: من الآية101)، ومنهم عيسى ) أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)(الانبياء: من الآية101)ويستفاد من الآية أن كل إنسان يجادل من أجل أن يدحض الحق فإن له نصيباً من هذه الآية، يعني أن فيه نصيباً من الكفر والعياذ بالله لأن الكافرين هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا قال قائل: "الشبهات التي يوردها من يوردها من الناس، كيف يقال إنها باطل وهي شبهة؟".(11/79)
فالجواب: إذا كان غرضهم منها أن يُدحضوا الحق، مثل الذين ينكرون حقيقة استواء الله على العرش ويقولون: إنه لو استوى على العرش لكان "جسماً"، فهؤلاء جادلوا بالباطل من أجل أن يدحضوا الحق الذي أثبته الله لنفسه، وأما مسألة أن الله "جسم" أو غير "جسم" فهذه شيء آخر، المهم أنهم أتوا بهذه الكلمة من أجل إدحاض الحق، ونحن لا ننكر عليهم مسألة أنه "جسم أو غير جسم"، ننكر أنهم أنكروا حقيقة الاستواء، وأما مسألة أنه "جسم أو غير جسم" فهذا مبحث آخر، وهو أننا لا نثبت اللفظ "جسم" ولا ننكره، أما المعنى فنقول: إن الله تعالى حق قائم بذاته موصوف بصفاته يفعل ما يشاء، يستوي على عرشه، وينزل إلى السماء الدنيا، وينْزِل ليفصل بين العباد، ويعجب ويفرح ويضحك، المهم أنه كلما رأيت شخصاً يجادل يريد أن يدحض الحق، فله نصيب من هذه الآية.
( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (( وَاتَّخَذُوا) أي صيروا. { (آيَاتِي) يعني القرآن.(11/80)
(وَمَا أُنْذِرُوا ) أي ما أنذروا به من العذاب اتخذوها { هُزُواً } مثال ذلك أن الكفار استهزؤوا لما أخبر الله عن شجرة الزقوم )إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (الصافات:64) ، يعني في قعره، فصاروا يضحكون كيف تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة أبعد ما يكون عن النار، النار حارة جافة والشجرة رطبة، فجعلوا يستهزئون ويقولون: هذا من هذيان محمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا ما أنذروا به هزواً والله قال: )فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (الصافات:66) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (الواقعة:55) ، يملؤون بطونهم من هذه الزَّقوم ملئاً تاماً ثم تحترق من العطش، فماذا يسقون؟ يسقون ماءً حاراً (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي على ما في بطونهم { مِنَ الْحَمِيمِ }، ومع ذلك يشربون شرباً ليس عادياً بالنسبة إلى البشر، ولكنه شرب الإبل الهيم، العطاش، هذه الشجرة التي يهزؤون بها هي التي يملؤون بها بطونهم في جهنم.
***
)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:57)
قوله تعالى: { )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ } أي ذكره الواعظ بآيات ربه الكونية، كأخذه الأمم المكذبين، أو الشرعية كالقرآن.
( فَأَعْرَضَ عَنْهَا )ولم يقبلها، أي لا أ حد أظلم منه، فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية، وبين الآية التي في أول السورة وهي قوله تعالى: { )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الأنعام:21) ونحوها؟
فالجواب: بأحد وجهين:(11/81)
الأول: أن الأفضلية باعتبار ما شاركه في أصل المعنى، فقوله تعالى: { )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } يعني من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها من الذين يُذَكَّرون فيُعرِضون، قد يذكر الإنسان فيعرض، لكن أشد ما يكون أن يذكر بآيات الله ثم يعرض عنها، وفي افتراء الكذب قد يفتري الإنسان الكذب على فلان وفلان، وأعظم ما يكون الافتراء عليه هو الله ، وأنت إذا أخذت بهذه القاعدة سلمت من إشكال كبير.
الثاني: وقيل: إن "أظلم" و"أظلم" يشتركان في الأظلمية ويتساويان فيها بالنسبة لغيرهما، وفيه نظر لأنه لا يمكن أن نقول: إنّ من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أنه يساوي من افترى على الله كذباً، أو من منع مساجد الله أن يُذْكر فيها اسمه يساوي من كذب على الله، ونحو ذلك.
قوله: { بِآياتِ رَبِّهِ } الكونية والشرعية؛ الكونية أن يقال له: إن كسوف الشمس والقمر يخوف الله بهما عباده فيعرض عنها ويقول: أبداً خسوف القمر طبيعي، وكسوف الشمس طبيعي، ولا إنذار ولا نذير، وهذا إعراض، أما الآيات الشرعية فكثير من يذكر بآيات الله ويعرض عنها.
( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) يعني نسي ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي والاستكبار وغير ذلك مما يمنعه عن قبول الحق، لأن الإنسان والعياذ بالله كلما أوغل في المعاصي، ازداد بعداً عن الإقبال على الحق كما قال الله : ) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(الصف: من الآية5)، ولذلك يجب أن يُعلم أن من أشد عقوبات الذنوب أن يعاقب الإنسان بمرض القلب والعياذ بالله، فالإنسان إذا عوقب بهلاك حبيب أو فقد محبوب من المال، فهذه عقوبة لا شك، لكن إذا عوقب بانسلاخ القلب فهذه العقوبة أشد ما يكون. يقول ابن القيم :(11/82)
والله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى طريق العفو والغفران وإنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن هذا هو الذي يخشاه الإنسان العاقل، أما المصائب الأخرى فهي كفارات وربما تزيد العبد إيماناً.
( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صيرنا.
( عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي قلوب من { ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ }، وأعيد ضمير الجمع على مفرد باعتبار المعنى؛ لأن "مَن" سواء كان اسماً موصولاً أو شرطية يجوز في عود الضمير إليها أن يعود على لفظها فيكون مفرداً أو يعود على معناها فيكون مجموعاً أو مثنى حسب السياق، فإذا قلت: "يعجبني من قام" فهنا عاد على اللفظ، وإذا قلت: "يعجبني من قاما" فهنا يعود على المعنى، وكذلك لو قلت: "يعجبني من قاموا" وقد يراعى اللفظ مرة والمعنى مرة أخرى وتعود الضمائر لمراعاة الأمرين في سياق واحد، قال تعالى: { ومن يؤمن بالله وعمل صالحا } فهنا روعي اللفظ، وفي قوله: { يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار } روعي اللفظ أيضاً، وقوله: {خالدين فيها أبدا } روعي فيها المعنى، وفي قوله: { قد أحسن الله له رزقا} روعي اللفظ، كل هذا جاء في سياق واحد: ) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: من الآية11)، فروعي اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ثم اللفظ ثالثاً.
( أَكِنَّةً ) أي: أغطية تمنعهم من { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أن يفقهوا القرآن فلا يفهمونه، وفي هذا الحث على فقه القرآن، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن ويتعلم معناه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.(11/83)
( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صمماً. تأمل، والعياذ بالله، القلوب عليها غِطاء فلا تفقه، والآذان عليها صمم فلا تسمع، فلا يسمعون الحق ولا يفهمونه.
( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) يعني لو أرشدتهم يا محمد إلى الهدى.
( فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً ) أي ما دامت قلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقرٌ لن يهتدوا، فمن أين يأتي الهدى، والآذان لا تسمع الحق والقلوب لا تنقاد للحق والعياذ بالله؟! فإن قال قائل: هل في هذا تيئيس للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه وإن دعا لا يقبل منه أو فيه تسلية له؟
فالجواب: في هذا تسلية له، وأنهم إذا لم يقبلوا الحق فلا عليك منهم(فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً )
***
)وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58)
قوله تعالى: { )وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } هذا فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقول: لماذا لم يعاجلوا بالعقوبة، كيف يكذبونني وأنا رسول الله ولم يعاقبهم؟! ولكن بَيَّن الله له أنه هو {الْغَفُور } أي الذي يستر الذنوب ويتجاوز عنها.(11/84)
( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي صاحب الرحمة الذي يلطف بالمذنب. ولهذا قال: { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } يعني لو أراد الله أن يؤاخذ الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب، وقد بين الله هذا العذاب في آيات أخرى فقال: )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45) أي لأهلكهم في الحال، ولكن
( يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً )"بل" هذه للإضراب الإبطالي، يعني بل لن يسلموا من العذاب إذا أُخر عنهم، لهم موعد { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) }، أي مكاناً يؤولون إليه، وهذا يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ما يحصل للكفار من القتل على أيدي المؤمنين كما قال : )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:15) ، إذاً يحتمل أن يكون المراد ما سيكون عليهم من القتل، والأخذ في الدنيا، أو ما سيكون عليهم يوم القيامة الذي لا مفر منه.
***
)وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)
قوله تعالى: { )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي: قرى الأمم السابقين، قد يقول قائل هنا إشكال: فإن القرى جماد، والجماد لا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلاً: "هذه البيوت عمرناهم" ولكن تقول: "هذه البيوت عمرناها"، فلماذا قال: "أهلكناهم"؟(11/85)
فالجواب: قال هذا؛ لأن الذي يهلك هم أهل القرى، وفي هذا دليل واضح على أن القرى قد يراد بها أهلها، وقد يراد بها البناء المجتمع، فالقرية أو القرى تارة يراد بها أهلها وتارة يراد بها المساكن المجتمعة، قال تعالى: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:59) ، فالمراد بالقرى هنا أهلها، وقال تعالى: ) إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِالْقَرْيَة)(العنكبوت: من الآية31)والمراد بالقرية هنا المساكن المجتمعة.
( لَمَّا ظَلَمُوا ) المراد بالظلم هنا الكفر، أي: حين كفروا. { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً } يعني جعلنا لإهلاكهم موعداً، والله يفعل ما يشاء، إن شاء عجَّل العقوبة وإن شاء أخر، لكن إذا جاء الموعد لا يتأخر: ولهذا قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: )يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4) ، فهو أجل معين عند الله في الوقت الذي تقتضيه حكمته.
***
)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (الكهف:60)(11/86)
قوله تعالى:)وَإِذْ } مفعول لفعل محذوف والتقدير "اذكر إذ قال"، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه؛ أي: غلامه يوشع بن نون، وكان موسى - عليه الصلاة والسلام - ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ قال موسى: "لا"، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، فقال الله - - إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل وسار هو وفتاه يوشع بن نون، جاء ذلك في البخاري ، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً، كان الحوت في المكتل، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر.
( لا أَبْرَحُ )أي لا أزال، والخبر محذوف والتقدير "لا أزال أسير".
( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قيل: إنه مكان الله أعلم به، لكن موسى يعلم، وقيل: إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض، وكان فيما سبق بينهما أرض، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك.
( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أو هنا للتنويع، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي: دهوراً طويلة، وقيل: { أَوْ } بمعنى "إلَّا" أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلَّا أن { أَمْضِيَ حُقُباً) أي: دهوراً طويلة قبل أن أبلغه، لكن الوجه الأول أسد، فتهيئَا لذلك وسارا، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين، فسار موسى إليه طلباً للعلم.
)فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (الكهف:61)
قوله تعالى: {)فَلَمَّا بَلَغَا } أي: موسى وفتاه.
( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) أي: بين البحرين.(11/87)
( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع، ولهذا يخاطب الله - - بني إسرائيل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: } )وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50) )وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة)(البقرة: من الآية55)، مع أنهم ما قالوا هذا؛ لكن قاله أجدادهم.
( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) نسيان ذهول وليس نسيان ترك، وهذا من حكمة الله - -، أن الله أنساهما ذلك لحكمة، وهذا الحوت قد جعله الله - - علامة لموسى، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر، وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً، لكنه أي: الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره، هذا الحوت - سبحان الله - خرج من المكتل، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه.
( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.
( سَرَباً )أي مثل السرب، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء، وهذا من آيات الله، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه، لكن هذا الحوت من آيات الله، أولاً: أنه قد مات، وأنهما يقتاتان منه، ثم صار حياً ودخل البحر ثانياً: أنه صار طريقه على هذا الوجه، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى.
***
)فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) (الكهف:62)
قوله تعالى: {)فَلَمَّا جَاوَزَا } الفاعل موسى وفتاه {) جَاوَزَا } يعني تعديا ذلك المكان، قال موسى لفتاه:(11/88)
{ آتِنَا غَدَاءَنَا } وكان ذلك؛ لأن الغداء هو الطعام الذي يؤكل في الغداة.
( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ) أي تعباً.
وقوله: { مِنْ سَفَرِنَا هَذَا } ليس المراد من حين ابتداء السفر ولكن من حين ما فارقا الصخرة، ولذلك طلب الغداء، قال أهل العلم وهذا من آيات الله فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر، تعبا سريعاً من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان.
***
)قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (الكهف:63)
قوله تعالى: { )قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } أي: قال الفتى لموسى:
{ أَرَأَيْتَ } أي ما حصل حين لجأنا إلى الصخرة، والمراد بالاستفهام التعجب أو تعجيب موسى.
( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) يعني نسيت أن أتفقده أو أسعى في شأنه أو أذكره لك، وإلا فالحوت معروف كان في المكتل.
( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) قوله: { أَنْ أَذْكُرَهُ } هذه بدل من الهاء في "أنسانيه"، يعني ما أنساني ذكره إلا الشيطان.
( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ) أي اتخذ الفتى أو موسى سبيل الحوت في البحر.
( عَجَباً ) يعني محل عجب، وهو محل عجب، ماء سيال يمر به هذا الحوت، ويكون طريقه سرباً، فكان هذا الطريق للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، ولنا أيضاً عجب؛ لأن الماء عادة يتلاءم على ما يمر به لكن هذا الحوت – بإذن الله – لم يتلاءم الماء عليه.
***
)قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) (الكهف:64)(11/89)
قوله تعالى: { )قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي قال موسى عليه الصلاة والسلام: {) ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي: ما كنا نطلب؛ لأن الله أخبره بأنه إذا فقد الحوت، فذاك محل اتفاقه مع الخضر.
( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) يعني رجعا بعد أن أخذا مسافة تعبا فيها، ارتدا على آثارهما، يعني يقصان أثرهما؛ لئلا يضيع عنهما المحل الذي كانا قد أويا إليه.
***
)فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65)
قوله تعالى: { )فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } وهو الخضر كما صحَّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله: {) عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } هل هو عبدٌ من عباد الله الصالحين أو من الأولياء الذين لهم كرامات أم من الأنبياء الموحى إليهم؟ كل ذلك ممكن، لكن النصوص تدل على أنه ليس برسول ولا نبي، إنما هو عبد صالح أعطاه الله تعالى كرامات؛ ليبين الله بذلك أن موسى لا يحيط بكل شيء علماً وأنه يفوته من العلم شيء كثير.
( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) أي: أن الله جلَّ وعلا جعله من أوليائه برحمته إياه.
( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) يعني علماً لا يطَّلِع عليه الناس، وهو علم الغيب في هذه القصة المعينة وليس علم نبوة ولكنه علم خاص؛ لأن هذا العلم الذي اطَّلع عليه الخضر لا يمكن إدراكه وليس شيئاً مبنياً على المحسوس، فيبنى المستقبل على الحاضر، بل شيء من الغائب، فأطلعه الله تعالى على معلومات لا يطَّلع عليها البشر.
***
)قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف:66)(11/90)
قوله تعالى: { )قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } أي قال موسى للخضر: هل أتبعك، وهذا عرض لطيف وتواضع، وتأمّل هذا الأدب من موسى - عليه الصلاة والسلام - مع أن موسى أفضل منه وكان عند الله وجيهاً، ومع ذلك يتلطف معه لأنه سوف يأخذ منه علماً لا يعلمه موسى، وفي هذا دليل أنَّ على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه ومع أُستاذه وأن يُعامله بالإكرام، ثم بين موسى أنه لا يريد أن يَتَّبِعَه ليأكل من أكله أو يشرب من شربه، ولكن { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } ولا شك أن الخضر سيفرح بمن يأخذ عنه العلم، وكل إنسان أعطاه الله علماً ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم، لأن العلم الذي يُؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما جاء في الحديث الصحيح: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِية أوَ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" .
فقال له الخضر:
)قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف:68)
( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) وبيّن له عذره في قوله هذا، فقال: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }، وأين الدليل للخضر أن موسى لم يحط بذلك خُبرا؟
الجواب: لأنه قال: { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ } وهذا يدل على أنه لا علم له فيما عند الخضر.
فماذا قال موسى ؟
***
)قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (الكهف:69)
( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ) هذا الذي قاله موسى قاله فيما يعتقده في نفسه في تلك الساعة من أنه سيصبر، لكنه علَّقه بمشيئة الله لئلَّا يكون ذلك اعتزازاً بنفسه وإعجاباً بها.(11/91)
وقوله: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ } هو كقول إسماعيل بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما قال له أبوه: )يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102)، وموسى قال للخضر: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ) }، وأيضاً أصبر على ما تفعل وأمتثل ما به تأمر { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) }، وعده بشيئين:
1 - الصبر على ما يفعل.
2 - الائتمار بما يأمر، والانتهاء عما ينهى.
قال الخضر:
***
)قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:70)
قوله تعالى: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي } ومعلوم أنه سيتبعه.
( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ) أي عن شيء مما أفعله.
( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (حَتَّى ) هنا للغاية، يعني إلى أن { أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي: إلى أن أذكر لك السبب، وهذا توجيه من معلم لمن يتعلم منه، ألَّا يتعجل في الرد على معلمه، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكراً، وهذا من آداب المتعلم ألَّا يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر.
***
)فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (الكهف:71)
قوله تعالى: {)فَانْطَلَقَا } الفاعل موسى والخضر، وسكت عن الفتى، فهل الفتى تأخر عن الركوب في السفينة، أم أنه ركب ولكن لما كان تابعاً لم يكن له ذكر؟
الجواب: الذي يظهر - والله أعلم - أنه كان تابعاً، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة، والأصل هو موسى طوي ذكره، وهو أيضاً تابع.
( حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ) مرَّت سفينة، وهما يمشيان على شاطئ البحر، فركبا فيها.(11/92)
(أَخَرَقْتَهَا ) أي: الخضر بقلع إحدى خشبها الذي يدخل منه الماء، فقال له موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهذا إنكار من موسى على الخضر مع أنه قال له: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً } لكنه لم يصبر؛ لأن هذه مشكلتها عظيمة، سفينة في البحر يخرقها فتغرق! واللام في قوله: { لِتُغْرِقَ } ليست للتعليل ولكنها للعاقبة، يعني أنك إذا خرقتها غرق أهلها، وإلَّا لا شك أن موسى لا يدري ما غرض الخضر، ولا شك أيضاً أنه يدري أنه لا يريد أن يغرق أهلها، لأنه لو أراد أن يغرق أهلها لكان أول من يغرق هو وموسى، لكن اللام هنا للعاقبة ولام العاقبة ترد في غير موضع في القرآن، مثل قول الله تعالى: )فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)(القصص: من الآية8)لو سألنا أي إنسان: هل آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً؟
الجواب: أبداً، ولكن هذه للعاقبة.
( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) يعني شيئاً عظيماً، يعني كان موسى شديداً قوياً في ذات الله، فهو أنكر عليه، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق، وزاده توبيخاً في قوله: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }، والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات:
1 - اللام.
2 - قد.
3 - القسم المقدر الذي تدل عليه اللام، والإمر بكسر الهمزة الشيء العظيم، ومنه قول أبي سفيان لهرقل لما سأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له حاله وصفاته وما كان من أخلاقه، فلما انصرف مع قومه، قال أبو سفيان: "لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كَبْشَة إنه ليخافه مَلِكُ بني الأصفر" ، يعني بابن أبي كبشة الرسول صلى الله عليه وسلم. و: "أمِرَ أمرُه" يعني عَظُم أمره.
)قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:72)
فاعتذر موسى:
)قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (الكهف:73)(11/93)
وسبب نسيان موسى؛ أن الأمر عظيم اندهش له: أن تغرق السفينة وهم على ظهرها، وهذه توجب أن الإنسان ينسى ما سبق من شدة وقع ذلك في النفس.
وقوله: { بِمَا نَسِيتُ } أي بنسياني، ولهذا نقول في إعراب "ما" إنها مصدرية، أي: بنسياني ذلك وهو قولي: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً)
( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ) يعني لا تثقل علي وتعسر علي الأمور؛ وكأن هذا والله أعلم توطئة لما يأتي بعده.
***
)فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)
(الكهف:74)
قوله تعالى: { )فَانْطَلَقَا } بعد أن أرست السفينة على الميناء. { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ } ولم يقل "قتله"، وفي السفينة قال: { أَخَرَقْتَهَا } ولم يقل: "فخرقها"، يعني كأن شيئاً حصل قبل القتل فقتله .
( غُلاماً) الغلام هو الصغير، ولم يصبر موسى . { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } وفي قراءة "زاكية" لأنه غلام صغير، والغلام الصغير تكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، إذاً فهو زكي لأنه صغير ولا تكتب عليه السيئات.
( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يعني أنه لم يقتل أحداً حتى تقتله، ولكن لو أنه قتل هل يُقتل أو لا؟
الجواب: في شريعتنا لا يقتل لأنه غير مُكلَّف ولا عَمْد له، على أنه يحتمل أن يكون هذا الغلام بالغاً وسمي بالغلام لقرب بلوغه وحينئذٍ يزول الإشكال.
( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) هذه العبارة أشد من العبارة الأولى. في الأولى قال: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمرا }، ولكن هنا قال: { نُكْراً } أي منكراً عظيماً، والفرق بين هذا وهذا، أن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل، لم تغرق السفينة، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال.
فقال الخضر:
***(11/94)
)قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:75)
قوله تعالى: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } هنا فيها لوم أشد على موسى، في الأولى قال: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ } وفي الثانية قال: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } يعني كأنك لم تفهم ولن تفهم، ولذلك كان الناس يفرقون بين الجملتين، فلو أنك كلمت شخصاً بشيء وخالفك فتقول في الأول: "ألم أقل إنك"، وفي الثاني تقول: "ألم أقل لك" يعني أن الخطاب ورد عليك وروداً لا خفاء فيه، ومع ذلك خالفت، فكان قول الخضر لموسى في الثانية أشد: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ }، فقال له موسى لما رأى أنه لا عذر له:
***
)قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (الكهف:76)
قوله تعالى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } أي امنعني من صحبتك، وفي قول موسى:
(فَلا تُصَاحِبْنِي) إشارة إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - يرى أنه أعلى منه منْزِلة وإلَّا لقال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا أصاحبك".
( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ) يعني أنك وصلت إلى حال تعذر فيها، لأنه أنكر عليه مرتين مع أن موسى التزم ألَّا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً.
***
)فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (الكهف:77)
قوله تعالى: {)فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } ولم يعين الله القرية فلا حاجة إلى أن نبحث عن هذه القرية، بل نقول: قرية أبهمها الله فنبهمها.
( اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ) أي: طلبا من أهلها طعاماً.(11/95)
( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) } ولا شك أن هذا خلاف الكرم، وهو نقص في الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" .
(فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) أي: أنه مائل يريد أن يسقط، فإن قيل: هل للجدار إرادة؟
فالجواب: نعم له إرادة، فإن ميله يدل على إرادة السقوط، ولا تتعجب إن كان للجماد إرادة فها هو "أُحُد" قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه: "يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" والمحبة وصف زائد على الإرادة، أما قول بعض الناس الذين يجيزون المجاز في القرآن: إنَّ هذا كناية وأنه ليس للجماد إرادة فلا وجه له.
(فَأَقَامَهُ) أي أقامه الخضر، لكن كيف أقامه؟ الله أعلم، قد يكون أقامه بيده، وأن الله أعطاه قوة فاستقام الجدار، وقد يكون بناه البناء المعتاد، المهم أنه أقامه، ولم يبين الله تعالى طول الجدار ولا مسافته ولا نوعه فلا حاجة أن نتكلف معرفة ذلك.
()قَالَ) أي: موسى: { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ولم ينكر عليه أن يبنيه ولا قال: كيف تبنيه وقد أبوا أن يضيفونا؟! بل قال: { لَوْ شِئْتَ } وهذا لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف {{ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي عِوَضاً عن بنائه.
***
)قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:78)
قوله تعالى: )قَالَ } أي قال الخضر لموسى: { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي انتهى ما بيني وبينك فلا صحبة. { سَأُنَبِّئُكَ } أي سأخبرك عن قُربٍ قبل المفارقة { بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً }، وإنما قلنا: "سأخبرك عن قرب" لأن السين تدل على القرب بخلاف سوف، وهي أيضاً تفيد مع القرب التحقيق.
(بِتَأْوِيل ) أي بتفسيره وبيان وجهه.
***(11/96)
)أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف:79)
قوله تعالى: { )أَمَّا السَّفِينَةُ } "ال" في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.
( فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.
( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:
( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا)ً فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء - رحمهم الله - أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:
)وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) (الكهف:80)
قوله تعالى: { أَبَوَاهُ } أي: أبوه وأمه { مُؤْمِنَيْنِ } أي: وهو كافر.
( فَخَشِينَا ) أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.
( أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.
***(11/97)
(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف:81)
قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ } أي في الدين، { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.
***
)وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)
قوله تعالى: { لِغُلامَيْنِ } يعني صغيرين.
( يَتِيمَيْنِ ) قد مات أبوهما.
( فِي الْمَدِينَةِ ) أي: القرية التي أتياها.
( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ) أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.
( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فكان من شكر الله - - لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.
( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي: أراد الله { أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال "فأردنا" ولا قال "فأردت"، بل قال: { فَأَرَادَ رَبُّكَ }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية - خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر - تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.
( وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ) حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.(11/98)
( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.
( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله - - وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.
( أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ) أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به ) سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ)(الكهف: من الآية78). أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.
( مَا لَمْ تَسْطِعْ ) وفي الأول قال: { مَا لَمْ تَسْطِعْ } لأن "استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع" كل منها لغة عربية صحيحة.
وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.
وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.
ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:
***
)وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:83)
قوله تعالى: {)وَيَسْأَلونَكَ } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.(11/99)
( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المشرق: "حيث يطلع قرن الشيطان" ، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم "المالك للمشرق والمغرب"، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشمس إنها: "تطلع بين قرني شيطان" .
(قُل ) لمن سألك: { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:
***
)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84)
قوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.
( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن "كل شيء" بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عن ملكة اليمن سبأ: { وأوتيت من كل شئ} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {تدمر كل شئ } [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: ) فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ )(الاحقاف: من الآية25)
)فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف:85)(11/100)
قوله تعالى: {)فَأَتْبَعَ سَبَباً } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع {)فَأَتْبَعَ سَبَباً } وجال في الأرض.
***
)حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف:86)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.
( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) هي أرض البحر { حَمِئَةٍ } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلَّا فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.
( وَوَجَدَ عِنْدَهَا ) أي عند العين الحمئة وهو البحر ( قَوْماً )
( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:
)قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) (الكهف:88)(11/101)
حكمٌ عدل: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: {( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى )
يقول: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.
(ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً) لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
قوله: (نُكْراً } ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.
( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { الْحُسْنَى } وهي الجنة كما قال تعالى: )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: من الآية26)، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن: { الْحُسْنَى } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله .(11/102)
( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { الْحُسْنَى } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.
***
)ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) (الكهف:90)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها" دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.
( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.
***
)كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) (الكهف:91)
قوله تعالى: { )كَذَلِكَ } يعني الأمر كذلك على حقيقته.(11/103)
( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.
) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (الكهف:93)
قوله تعالى: { أَتْبَعَ سَبَباً } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.
( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا ) أي: لا بينهما ولا وراءهما.
( قَوْماً ) قيل: إنهم الأتراك.
( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فيها قراءتان: "لَّا يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً" و"لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" والفرق بينهما ظاهر: لا { يَفْقَهُونَ } يعني هم، لا "يُفْقِهُونَ" أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.
***
)قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)
قوله تعالى: { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: {{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }؟(11/104)
والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله - - قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.
( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ )يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث الصحابة بأن الله - - يأمر آدم يوم القيامة فيقول:
"يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد" [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: "أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ". ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ..." إلخ الحديث .(11/105)
وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.
(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ )الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.
( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلَّا هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) هذا لا يقال إلَّا لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:
)قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95)(11/106)
قوله تعالى: { )قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } { مَا } مبتدأ و{ خَيْرٌ } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان - عليه الصلاة والسلام - في هدية ملكة سبأ، قال: )أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)(النمل: من الآية36)وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه - - التي لا يحتاج معها إلى أحد.
( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.
( أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:
***
)آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96)
قوله تعالى: { )آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.(11/107)
( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يعني جانبي الجبلين { قَالَ انْفُخُوا } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: ) وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر)(سبأ: من الآية12)، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء - سبحان الله -.
قال ذو القرنين: { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فأفرغ عليه القطر - النحاس - فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.
***
)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)
قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطيع).( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
***(11/108)
)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98)
قوله تعالى: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله - - وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: ) يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19، أيضاً ذو القرنين - - قال:
{ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) يعني بخروج هؤلاء المفسدين.
( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا" . يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) فما هو هذا الوعد؟(11/109)
الجواب: الوعد هو أن الله - - يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر "فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ" ثم "يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ" في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، "فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر ، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { حَقّاً } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله - منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو - - لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.
***
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (الكهف:99)
قوله تعالى: {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { يَوْمَئِذٍ } يعني إذا خرجوا صار "يموج بعضهم في بعض"، ثم اختلفوا في معنى "يموج بعضهم في بعض" هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول:(11/110)
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي: يومئذْ يريد الله - - خروجهم.
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم" ، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلَّا من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون - الله أكبر -. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.
النفخة الثانية: يقول الله : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68 .
النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض ، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: ) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: من الآية68).(11/111)
(فَجَمَعْنَاهُمْ ) أي: جمعنا الخلائق { جَمْعاً } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) كل الخلائق، حتى الملائكة - ملائكة السماء - كما قال الله : )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.
***
)وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً) (الكهف:100)
)وَعَرَضْنَا (أي عرضناها لهم فتكون أمامهم - اللّهم أجرنا منها -.
) جَهَنَّمَ ( اسم من أسماء النار.
)عَرَضْنَا (يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله - - بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق :
كلنا مصبَّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلَّا أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.
***
)الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف:101)
قوله تعالى: { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق - في نفس السورة - أنَّ )عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(الكهف: من الآية57) فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.(11/112)
( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء)(المائدة: من الآية112)، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { سَمْعاً } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟
الجواب: يحتمل المَعْنَيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.
)أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (الكهف:102)
قوله تعالى: {)أَفَحَسِبَ } أي: أفظن { الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } من هم عباده؟
الجواب: كل شيء فهو عبد الله: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟
الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.
( مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله - - يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟
الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.
( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) يعني أن الله هيأ النار { نُزُلاً} للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.
***
)قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الكهف:103)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي يا محمد للأمة كلها: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)
الجواب: نعم.(11/113)
نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلَّا من اتصف بأربع صفات:
1 - الذين آمنوا.
2 - وعملوا الصالحات.
3 - وتواصوا بالحق.
4 - وتواصوا بالصبر.
وهنا يقول:
***
)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104)
قوله تعالى: { )الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم:
{ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } فَغُطي عليهم الحق – والعياذ بالله – وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه – والعياذ بالله – لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.
***
)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)
(الكهف:105)
قوله تعالى: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟
الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله - -، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.
( وَلِقَائِهِ ) أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟(11/114)
الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً) (يّس:78) يكذبنا فيه فقال: { وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟
)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّس:79)
ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟
الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله : )وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(الروم: من الآية27)هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:
1 - أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: )قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم:9) ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.
2 - ) وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يّس: من الآية79)وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟
الجواب: لا أحد يمنعه.
3 - )الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يّس:80) شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقوله: { (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ )(11/115)
4 - )أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّس:81)
الجواب: بلى، قال الله تعالى: )لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر:57) فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: ) بَلَى)(يّس: من الآية81).
5 - )وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يّس: من الآية81)الخلَّاق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {وهو بكل خلق عليم } [يس: 79 .
6 - )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82)لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد }؛ ولهذا قال : )إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يّس:53)
كلمة واحدة.
7 - )فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (يّس:83)
كل شيء فبيده ملكوته - - يتصرف كما يشاء، فنسأله - - أن يهدينا صراطه المستقيم.
8 - { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله - - لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.
في قوله: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم - - يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.(11/116)
( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟
الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالى: ) وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(البقرة: من الآية217). أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.
( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله .
وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) )فَهُوَ فِي عِيشَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ) (القارعة:11) . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.
***
)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (الكهف:106)
قوله تعالى: { )ذَلِكَ } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.
( جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.(11/117)
( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) قوله: { وَاتَّخَذُوا } معطوفة على { كَفَرُوا } أي: بما كفروا واتخذوا، فهم - والعياذ بالله - كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.
( هُزُواً ) أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله - - للرسول صلى الله عليه وسلم: )وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً)(الانبياء: من الآية36): ) أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)(الفرقان: من الآية41)والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! )إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا)(الفرقان: من الآية42). أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.
ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:
***
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:
1 - الإيمان 2 - العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.
و{ الصَّالِحَاتِ } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.
ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلَّا بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" .(11/118)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" . أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟
الجواب: لشريعة الله أحسن، إلَّا إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلى الله عليه وسلم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.
( كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) قوله: { كَانَتْ لَهُمْ } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {وكان اللع غفورا رحيما }؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن "كان" قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.
( جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟
الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ" أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.
***
)خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
قوله تعالى: { )خَالِدِينَ فِيهَا } أبداً، ولا نزاع في هذا بين أهل السنة.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها بدلاً، { حِوَلاً } أي: تحولا؛ لأن كل واحد راضٍ بما هو فيه من النعم، وكل واحد لا يرى أن أحداً أكمل منه، وهذا من تمام النعيم، أنت مثلاً لو نزلت قصراً منيفاً فيه من كل ما يبهج النفس، ولكنك ترى قصر فلان أعظم منه، هل يكمل سرورك؟(11/119)
الجواب: من يريد الدنيا لا يكمل سروره، لأنه يرى أن غيره خير منه، لكن في الجنة، وإن كان الناس درجات، لكن النازل منهم - وليس فيهم نازل - يرى أنه لا أحد أنعم منه، عكس أهل النار، أهل النار يرى الواحد منهم أنه لا أحد أشد منه، وأنه أشدهم عذاباً.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) يعني لو قيل للواحد: هل ترغب أن نجعلك في مكان آخر غير مكانك لقال: "لا"، وهذا من نعمة الله على الإنسان أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله - - وأن يطمئن ولا يقلق.
***
)قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي: يا محمد: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً } يعني حبراً يكتب به ( لِكَلِمَاتِ رَبِّي )
( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) قبل أن تنفد كلمات الله - -، لأنه المدبر لكل الأمور، وبكلمة {كن } لا نَفاد لكلامه - -، بل أن في الآية الأخرى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } ، أي: لو كان أقلاماً ) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان:27) . لَنَفِد البحر وتكسرت الأقلام وكلمات الله - جلَّ وعلا - باقية.(11/120)
( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) يعني زيادة، فإن كلمات الله لا تنفد، وفي هذا نص صريح على إثبات كلام الله - -، وكلمات الله - - كونية، وشرعية، أما الشرعية فهو ما أوحاه إلى رسله، وأما الكونية فهي ما قضى به قَدَرهُ )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82) ، وكل شيء بإرادته، إذاً فهو يقول لكل شيء { كُنْ فَيَكُونُ }، ومن الكلمات الشرعية ما أوحاه - - إلى من دون الرسل، كالكلمات التي أوحاها إلى آدم، فإن آدم عليه الصلاة والسلام، نبي وليس برسول، وقد أمره الله ونهاه، والأمر والنهي كلمات شرعية.
***
)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)
قوله تعالى: { )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يغضب كما يغضب الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.(11/121)
أمّا من زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله - - إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟
الجواب: لا، كما أمره الله - - أن يقول: )قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجن:21) ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يتعلقون بالله - - إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحلف بالله - - وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلَّا يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلّا فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.
( يُوحَى إِلَيَّ ) هذا هو الميزة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلَّا إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.(11/122)
( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من "إنَّما"؛ لأن كلمة "إنما" من أدوات الحصر، تقول: "إنما زيد قائم" يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: "إنما العلم بالتعلم" وليس هناك طريق للعلم إلَّا بالتعلم.
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي: يُأمِّل أن يلقى الله - - ويؤمن بذلك.
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ) دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله - - ولقاء الله - - ليس ببعيد، قال الله تعالى: )مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). قال بعض العلماء: إن قوله { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } بمعنى قولِهم "كل آتٍ قريب".
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً }.
وتأمل قوله: { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: "ربنا الله" ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى
)إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(11/123)
تفسير سورة الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فإننا نبدأ بتفسير سور المفصل التي تبتدىء من سورة (ق) عند بعض العلماء، أو من سورة الحجرات عند آخرين.
وسنتكلم على سورة الحجرات لما فيها من الآداب العظيمة النافعة التي ابتدأها الله بقوله تبارك وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم }. اعلم أن الله تعالى إذا ابتدأ الخطاب بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } فإنه كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه، فأرعه سمعك، واستمع إليه لما فيه من الخير، وإذا صدَّر الله الخطاب بـ{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } دل ذلك على أن التزام ما خوطب به من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان، يقول الله عز وجل: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } قيل: معنى {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } أي: لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله، والمراد: لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ أو بفعل. وقيل: المعنى لا تقدموا شيئاً بين يدي الله ورسوله. وكلاهما يصبان في مصب واحد، والمعنى: لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ ولا فعلٍ، وقد وقع لذلك أمثلة، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين » () لأن الذي يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين كأنه تقدم بين يدي الله ورسوله، فبدأ بالصوم قبل أن يحين وقته، ولهذا قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: « من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم » () . ومن التقدُّم بين يدي الله ورسوله البدع بجميع أنواعها،(12/1)
فإنها تقدم بين يدي الله ورسوله؛ بل هي أشد التقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور ». وأخبر بأن « كل بدعة ضلالة » () . وصدق - عليه الصلاة والسلام - فإن حقيقة حال المبتدع أنه يستدرك على الله ورسوله ما فات، مما يدعي أنه شرع، كأنه يقول: إن الشريعة لم تكمل، وأنه كملها بما أتى به من البدعة، وهذا معارض تماماً لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }. فيقال لهذا الرجل الذي ابتدع: أهذا الذي فعلته كمال في الدين؟ إن قال: نعم، فإن قوله هذا يتضمن أو يستلزم تكذيب قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }، وإن قال: ليس كمالاً في الدين، قلنا: إذن هو نقص؛ لأن الله يقول: { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } فالبدعة كما أنها ضلالة في نفسها فهي في الحقيقة تتضمن الطعن في دين الله، وأنه ناقص، وأن هذا المبتدع كمله بما ادعى أنه من شريعة الله - عز وجل - فالمبتدعون كلهم تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولم يبالوا بهذا النهي حتى وإن حسن قصدهم؛ فإن فعلهم ضلالة، وقد يُثاب على حسن قصده، ولكنه يؤزر على سوء فعله، ولهذا يجب على كل مبتدع علم أنه على بدعة أن يتوب منها، ويرجع إلى الله - عز وجل - ويلتزم سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والبدعة أنواع كثيرة: بدع في العقيدة، وبدع في الأقوال، وبدع في الأفعال.
أما البدع في العقيدة ، فإنها تدور على شيئين:
إما تمثيل، وإما تعطيل. فالتمثيل أن يثبت لله تعالى الصفات، لكن على وجه المماثلة، فإن هذا بدعة؛ لأنه لم يكن من طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه(12/2)
الراشدين، فيكون بدعة، فمثلاً يثبت أن لله وجهاً ويجعله مماثلاً لأوجه المخلوقين، أو أن لله يداً ويجعلها مماثلة لأيدي المخلوقين، وهلم جرا، فهؤلاء مبتدعة بلا شك، وبدعتهم تكذيب لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء } ولقوله: {ولم يكن له كفواً أحد }. ولقوله تعالى: {هل تعلم له سمياً } .
أما التعطيل فهو أن ينكر ما وصف الله تعالى به نفسه، فإن كان إنكار جحد وتكذيب، فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهو تحريف وليس بكفر إذا كان اللفظ يحتمله، فإن كان لا يحتمله فلا فرق بينه وبين إنكار التكذيب، فمثلاً إذا قال إنسان: إن الله سبحانه وتعالى قال: {بل يداه مبسوطتان } والمراد باليدين النعمة نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، فهذا تحريف؛ لأن النعمة ليست واحدة، ولا ألف ولا ملايين، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فليست النعمة اثنتين لا بالجنس ولا بالنوع، فيكون هذا تحريفاً وبدعة، لأنه على خلاف ما تلقاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، والأئمة الهداة من بعدهم.
أما البدعة في الأقوال : فمثل أولئك الذين يبتدعون تسبيحات أو تهليلات أو تكبيرات، لم ترد بها السنة، أو يبتدعون أدعية لم ترد بها السنة، وليست من الأدعية المباحة.
وأما بدع الأفعال : فمثل الذين يصفقون عند الذكر، أو يهزون رؤوسهم عند التلاوة تعبداً، أو ما أشبه ذلك من أنواع البدع، وكذلك الذين يتمسحون بالكعبة في غير الحجر الأسود والركن اليماني، وكذلك الذين يتمسَّحون بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حجرة قبره الشريف، وكذلك الذين يتمسَّحون بالمنبر الذي يقال إنه منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، وكذلك الذين يتمسحون بجدران مقبرة البقيع أو بغير ذلك.
والبدع كثيرة: العقدية والقولية والفعلية، وكلها من التقدم بين يدي الله ورسوله، وكلها معصية لله ورسوله، فإن الله يقول: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم }(12/3)
والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: «إياكم ومحدثات الأمور» .
ومن البدع ما يُصنع في رجب، كصلاة الرغائب التي تُصلَّى ليلة أول جمعة من شهر رجب، وهي صلاة ألف ركعة يتعبدون لله بذلك، وهذا بدعة لا تزيدهم من الله إلا بعداً؛ لأن كل من تقرَّب إلى الله بما لم يشرعه فإنه مبتدع ظالم، لا يقبل الله منه تعبده، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» () . ومن التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله أن يقول الإنسان قولاً يُحكم به بين عباد الله أو في عباد الله، وليس من شريعة الله، مثل أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا واجب، أو هذا مستحب بدون دليل، فإن هذا من التقدم بين يدي الله ورسوله، وعلى من قال قولاً وتبين له أنه أخطأ فيه أن يرجع إلى الحق حتى لو شاع القول بين الناس وانتشر وعَمِلَ به مَن عمل من الناس، فالواجب عليه أن يرجع وأن يُعلن رجوعه أيضاً، كما أعلن مخالفته التي قد يكون معذوراً فيها إذا كانت صادرة عن اجتهاد ، فالواجب الرجوع إلى الحق، فإن تمادى الإنسان في مخالفة الحق فقد تقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{واتقوا الله} هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن التقدم بين يدي الله ورسوله مخالف للتقوى، لكن نص عليه وقدمه لأهميته، ومعنى {واتقوا الله} أي اتخذوا وقاية من عذاب الله - عز وجل - وهذا لا يتحقق إلا إذا قام الإنسان بفعل الأوامر وترك النواهي، بفعل الأوامر تقرُّباً إلى الله تعالى، ومحبة لثوابه، وترك النواهي خوفاً من عذاب الله - عز وجل - ، ومن الناس من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، وتصاعد في نفسه وعز في نفسه، وأوغل في الإثم، وانتفخت أوداجه، وقال: أمثلي يُقال له: اتق الله! وما علم المسكين أن الله خاطب من هو أشرف منه ومن هو أتقى عباد الله لله، فأمره بالتقوى، قال الله تبارك وتعالى: {يا(12/4)
أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً }. وقال الله تعالى: {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه }. ومن الذي لا يستحق أن يُؤمر بتقوى الله؟ فكل واحد منَّا يستحق أن يؤمر بتقوى الله - عز وجل - والواجب أنه إذا قيل له: اتق الله. أن يزداد خوفاً من الله، وأن يراجع نفسه، وأن ينظر ماذا أمر به، إنه لم يؤمر أن يتقي فلاناً وفلاناً، إنما أمر أن يتقي الله عز وجل، وإذا فسرنا التقوى بأنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، تقرباً إليه ومحبة لثوابه، وترك نواهيه خوفاً من عقابه، فإن أي إنسان يترك واجباً فإنه لم يتق الله، وقد نقص من تقواه بقدر ما حصل منه من المخالفة، فالتقوى مخالفتها تختلف، فقد تكون مخالفتها كفراًًً وقد تكون دون ذلك، فترك الصلاة مثلاً ترتفع به التقوى نهائياً؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما دلَّ على ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن بعض العلماء حكى إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومنهم التابعي المشهور عبدالله بن شقيق - رحمه الله - حيث قال: ( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) () . وكذلك نقل إجماعهم إسحاق بن راهويه، ولم يصح عن أي صحابي أنه قال عن تارك الصلاة: إن تارك الصلاة في الجنة، أو إنه مؤمن، أو ما أشبه ذلك، والزاني لم يتق الله؛ لأنه زنا فخالف أمر الله وعصاه، والسارق لم يتق الله، وشارب الخمر لم يتق الله، والعاق لوالديه لم يتق الله، والقاطع لرحمه لم يتق الله، والأمثلة على هذا كثيرة، فقوله تعالى: { واتقوا الله } كلمة عامة شاملة تشمل كل الشريعة { إن الله سميع عليم } هذه الجملة تحذير لنا أن نقع فيما نهانا عنه من التقدُّم بين يدي الله ورسوله، أو أن نخالف ما أمر به من تقواه {سميع(12/5)
} أي سميع لما تقولون { عليم } أي عليم بما تقولون وما تفعلون؛ لأن العلم أشمل وأعم، إذ إن السمع يتعلق بالمسموعات، والعلم يتعلق بالمعلومات، والله تعالى محيط بكل شيء علماً، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول العلماء - رحمهم الله -: إن السمع الذي اتصف به ربنا - عز وجل - ينقسم إلى قسمين: سمع إدراك وسمع إجابة، فسمع الإدراك معناه أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظهر، حتى إنه - عز وجل - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير }. قالت عائشة - رضي الله عنها -: ( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كنت في الحجرة - أي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم - والمرأة تجادله وهو يحاورها وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها ) () . والله - عز وجل - أخبر بأنه سمع كل ما جرى بين هذه المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سمع إدراك، ثم إن سمع الإدراك قد يُراد به بيان الإحاطة والشمول، وقد يراد به التهديد، وقد يُراد به التأييد، فهذه ثلاثة أنواع.
الأول: يراد به بيان الإحاطة والشمول مثل هذه الآية.
الثاني: يُراد به التهديد مثل قوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأَنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق }. وانظر كيف قال: { سنكتب ما قالوا } حين وصفوا الله تعالى بالنقص ، قبل أن يقول : { وقتلهم الأَنبياء } مما يدلّ على أن وصف الله بالنقص أعظم من قتل الأنبياء.
الثالث: سمع يُراد به التأييد، ومنه قوله - تبارك وتعالى - لموسى وهارون : { لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى }، فالمراد بالسمع هنا التأييد يعني: أسمعك وأؤيدك ، يعني أسمع ما تقولان وما يُقال لكما.
أما سمع الإجابة فمعناه : أن الله يستجيب لمن دعاه، ومنه قول إبراهيم : { إن ربي لسميع الدعاء }. أي مجيب الدعاء، ومنه قول(12/6)
المصلي: ( سمع الله لمن حمده ) يعني استجاب لمن حمده فأثابه، ولا أدري أنحن ندرك معنى ما نقوله في صلاتنا أو أننا نقوله تعبداً ولا ندري ما المعنى؟! عندما نقول: الله أكبر، تكبيرة الإحرام يعني أن الله أكبر من كل شيء - عز وجل - ولا نحيط بذلك ؛ لأنه أعظم من أن تحيط به عقولنا، وعندما نقول: سمع الله لمن حمده. يعني استجاب الله لمن حمده ، وليس المعنى أنه يسمعه فقط ، لأن الله يسمع من حمده ومن لا يحمده إذا تكلم ، لكن المراد أنه يستجيب لمن حمده بالثواب ، فهذا السمع يقتضي الاستجابة لمن دعاه .
أما قوله تعالى: {عليم } فالمراد أنه ذو علم واسع، قال الله تعالى: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }. فعندما تؤمن بأن الله سميع ، وأن الله عليم ، هل يمكن وأنت في عقلك الراشد أن تقول ما لا يرضيه ؟ لا ، لأنه يسمع ، فلا ينبغي لك أن تُسمِع الله ما لا يرضاه منك ، أسمِعْهُ ما يحبه ويرضاه إذا كنت مؤمناً حقًّا بأن الله سميع، وأعتقد لو أن أباك نهاك عن قول من الأقوال فهل تتجرأ أن تسمعه ما لا يرضاه أو أن تسمعه ما نهاك عنه؟ فالله أعظم وأجلّ، فاحذر أن تسمع الله ما لا يرضاه منك، وإذا آمنت بأنه بكل شيء عليم وهذا أعم من السمع؛ لأنه يشمل القول والفعل وحديث النفس حتى ما توسوس به نفسك يعلمه - عز وجل - إذا علمت ذلك هل يمكن أن تفعل شيئاً لا يُرضيه؟ لا، لأنه ليس المقصود من إخبار الله لنا بأنه عليم بكل شيء، أن نعلم هذا وأن نعتقده فقط. بل المقصود هذا، والمقصود شيء آخر، وهو الثمرة والنتيجة التي تترتب على أنه بكل شيء عليم، فإذا علمنا بأنه بكل شيء عليم فهل نقول بما لا يرضى؟ لا، لأنه سوف يعلمه، وإذا علمنا بأنه على كل شيء عليم هل نعتقد ما لا يرضى؟ لا، لأننا نعلم أنه يعلم ما في قلوبنا، قال الله تعالى: { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }. وقال تعالى: { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه }،(12/7)
يحول بينك وبين قلبك ، فيجب علينا إذا مر بنا اسم من أسماء الله تعالى ، أو صفة من صفات الله أن نؤمن بهذا الاسم ، وهذه الصفة، وأن نقوم بما هو الثمرة من الإيمان بهذا الاسم ، أو الصفة . وما تضمنته الآية الكريمة من أدب عظيم وجه الله تعالى عباده إليه. وهذا هو الأدب الأول .
أما الأدب الثاني ففي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }، الآية الأولى فيها النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي شيء، سواء من الأقوال أو الأفعال أو غيرها، أما هذه الآية فهي في رفع الصوت وإن لم يكن هناك تقدم في الأحكام من تحليل أو تحريم أو إيجاب، يقول الله - عز وجل - : { لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي } فإذا خاطبك النبي صلى الله عليه وسلم بصوت فاخفض صوتك عن صوته، وإذا رفع صوته فارفع صوتك لكن لابد أن يكون دون صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولهذا قال: { لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي } .
{ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } يعني لا تنادونه بصوت مرتفع، كما ينادي بعضكم بعضاً، بل يكون جهراً بأدب وتشريف وتعظيم، يليق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كقوله: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً }. يعني إذا دعاكم لشيء فلا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم لبعض، إن شئتم أجبتم وإن شئتم فلا تجيبوا، بل يجب عليكم الإجابة، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } وهنا قال: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بعضكم لبعض } كذلك أيضاً لا تنادونه بما تتنادون به، فلا تقولون: يا محمد، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وما أشبه ذلك. { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } يعني كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته،(12/8)
وعن الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس، قد يحبط عمله من حيث لا يشعر؛ لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ردَّة عن الإسلام توجب حبوط العمل، ولما نزلت هذه الآية كان ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - جهوري الصوت، وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما نزلت هذه الآية تغيَّب في بيته وصار لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقده الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل عنه فأخبروه أنه في بيته منذ نزلت الآية، فأرسل إليه رسولاً يسأله، فقال: إن الله تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } .
وإنه قد حبط عمله، وإنه من أهل النار، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فحضر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، وقال: « أما ترضى أن تعيش حميداً، وتُقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ » () قال : بلى رضيت، فقُتل - رضي الله عنه - شهيداً في وقعة اليمامة، وعاش حميداً، وسيدخل الجنة بشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولذلك كان ثابت - رضي الله عنه - ممن يُشهد له بأنه من أهل الجنة بعينه؛ لأن كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد له بأنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم فنشهد له بالعموم، فنقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة إلا من شهد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الآية الكريمة بيان تعظيم الرسول صلى الله عليه(12/9)
وسلم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس، وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولما نزلت هذه الآية تأدَّب الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارَّة ولا يفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقول من إسراره، حتى يستثبته مرة أخرى ، وفي هذه الآية دليل على أن كل من استهان بأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - فإن عمله حابط؛ لأن الاستهانة بالرسول - عليه الصلاة والسلام - ردَّة، والاستهزاء به ردَّة كما قال الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } وكانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - أرغب بطوناً - يعني أوسع - ولا أجبن عند اللقاء، ولا أكذب ألسناً، فأنزل الله هذه الآية، ولما سألهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، يعني نتكلم بكلام لا نريده ، ولكن لنقطع به عنا عناء الطريق ، فأنزل الله هذه الآية. { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }. ولهذا كان الصحيح أن من سب الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً مرتدًّا، فإن تاب قبلنا توبته لكننا لا نرفع عنه القتل، بل نقتله أخذاً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قتلناه بعد توبته النصوح الصادقة صلينا عليه كسائر المسلمين الذين يتوبون من الكفر أو من المعاصي.
ثم أثنى الله تعالى على الذين يغضون أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: { إن الذين يغضون أصوتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم } لما نهى عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضنا لبعض، أثنى على الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، أي يخفضونها ويتكلمون بأدب، فلا إزعاج ولا صخب، ولا(12/10)
رفع صوت، لكن يتكلمون بأدب وغض، قال الله تعالى: { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أعاد الإشارة { أولئك } تعظيماً لشأنهم ورفعة لمنزلتهم، لأن { أولئك } من أسماء الإشارة الدالة على البعد، وذلك لعلو منزلتهم ، فأتى باسم الإشارة بياناً لرفعة منزلتهم وعلوها.
{ امتحن الله قلوبهم }. قال العلماء: معناها أخلصها للتقوى، فكانت قلوبهم مملوءة بتقوى الله - عز وجل - ولهذا تأدَّبوا بآداب الله تعالى التي وجه لها فغضوا أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر عن ثوابهم: { لهم مغفرة وأجر عظيم }، مغفرة من الله لذنوبهم، وأجر عظيم على أعمالهم الصالحة، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الصلاح صلاح القلب، لقوله: { امتحن الله قلوبهم للتقوى }. وكما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: « التقوى هاهنا » وأشار إلى صدره الذي هو محل القلب ثلاث مرات: « التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا » () ولا شك أن التقوى تقوى القلب، أما تقوى الجوارح وهي إصلاح ظاهر العمل، فهذا يقع حتى من المنافقين: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } لكن الكلام على تقوى القلب التي هي بها الصلاح ، نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك. وبعض الناس يفعل المعاصي كإسبال الثوب مثلاً، أو حلق اللحية، أو شرب الدخان، وتنهاه وتخوِّفه من عقاب الله، فيقول: التقوى هاهنا، كأنه يزكي نفسه، وهو قائم بمعصية الله، فنقول له بكل سهولة: لو كان ما هنا متقياً لكانت الجوارح متقية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله » () .
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }. هذه الآية تشير إلى قوم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان معهم قوم جُفاة لا يقدرون الأمور قدرها، فجعلوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته - أي حجرات(12/11)
نسائه - ويرفعون أصواتهم بذلك يريدون أن يخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليهم () ، يقول الله في هؤلاء: { أكثرهم لا يعقلون } يعني ليس عندهم عقل، والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لأن العقل عقلان: عقل رشد، وعقل تكليف، فأما عقل الرشد فضده السفه، وأما عقل التكليف فضده الجنون، فمثلاً: إذا قلنا: يشترط لصحة الوضوء أن يكون المتوضىء عاقلاً مميزاً، فالمراد بالعقل هنا عقل التكليف، وإذا قلنا: يشترط للتصرف في المال أن يكون المتصرف عاقلاً، أي عقل رشد، يحسن التصرف، فالمراد بقوله هنا: { أكثرهم لا يعقلون } أي عقل رشد؛ لأنهم لو كانوا لا يعقلون عقل تكليف لم يكن عليهم لوم ولا ذم، لأن المجنون فاقد العقل لا يلحقه لوم ولا ذم، وهذا واضح، وقوله: { أكثرهم لا يعقلون } يفهم منه أن بعضهم يعقل وأنه لم يحصل منه رفع صوت، بل هو متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال تعالى: { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } أي لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم من بيتك، وتكلمهم بما يريدون لكان خيراً لهم في أنهم يلتزمون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وحاجتهم ستقضى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأته أحد في حاجة إلا قضاها، إذا كان يدركها، وهو أحق الناس بقول الشاعر:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
{ والله غفور رحيم } في قوله: { والله غفور رحيم } إشارة إلى أن الله غفر لهم ورحمهم، وهذا من كرمه - جل وعلا - أنه يغفر ويرحم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الله لا يغفر الشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي سوى الشرك لمن يشاء، فكل أحد أذنب ذنباً دون الشرك مهما عظم فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ما لم يتب، فإذا تاب فلا عذاب، لقوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له(12/12)
العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً }. وقلنا: إن الآية تدل على أن الله غفر لهم ورحمهم؛ لأن الله ختم الآية بقوله: {والله غفور رحيم } وهذا يدل على أنه غفر لهم ورحمهم، ولذلك قال العلماء في قول الله تعالى في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، قال: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأَرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأَرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأَخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم }. أخذ العلماء من هذه الآية أن هؤلاء المفسدين المحاربين لله ورسوله، إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم العذاب، واستدلوا بأن الله ختم الآية بقوله: {فاعلموا أن الله غفور رحيم } أي قد غفر لهم فرحمهم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها في الآيات، إن ختم الآية بعد ذكر الحكم دليل على ما تقتضيه هذه الأسماء التي ختمت بها الآية، ولهذا قرأ رجل فقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم } فسمعه أعرابي عنده فقال له: أعد الآية، فأعادها وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم } قال له: أعد الآية، فأعادها فقال: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم } فقال: الآن أصبت، ثم علل فقال: لأنه لو غفر ورحم ما قطع، ولا تتناسب المغفرة والرحمة مع القطع، لكنه عز وحكم فقطع، فتأمل هذا الفهم فإنه مفيد جدًّا، والشاهد من هذا أن قوله تعالى: { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم } يدل على أن الله غفر لهم ورحمهم.
ثم قال الله - تبارك وتعالى -: { يا أيها الذين آمنوا(12/13)
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } تقدم الكلام على قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: { إن جاءكم فاسق } الفاسق هو من انحرف في دينه وعقيدته ومروءته، وضده العدل وهو من استقام في دينه ومروءته، فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته بمعنى أنه مصر على المعاصي تارك للواجبات، لكنه لم يصل إلى حد الكفر، أو منحرف في مروءته لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء، ويتحدث برفع صوت، ويأتي معه بأغراض بيته، يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة، فهذا عند العلماء ليس بعدل. { إن جاءكم فاسق بنبإ } أي جاءكم بخبر من الأخبار، وهو فاسق، مثال ذلك: جاءنا رجل حالق للحيته، وحالق اللحية فاسق، لأنه مصر على معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: « أعفوا اللحى » () . وهذا لم يعف لحيته، بل حلقها، فهذا الرجل من الفاسقين؛ لأنه مصر على معصية، جاءنا بخبر فلا نقبله لما عنده من الفسق، ولا نرده لاحتمال أن يكون صادقاً، ولهذا قال الله - عز وجل -: { فتبينوا } ولم يقل فردوه، ولم يقل فاقبلوه، بل يجب علينا أن نتبين، وفي قراءة (فتثبتوا) وهما بمعنى متقارب، والمعنى: أن نتثبت.
فإذا قال قائل: إذن لا فائدة من خبره.
قلنا: لا بل في خبره فائدة، وهو أنه يحرك النفس حتى نسأل ونبحث؛ لأنه لولا خبره ما حركنا ساكناً، لكن لما جاء بالخبر نقول: لعله كان صادقاً، فنتحرك ونسأل ونبحث، فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه لوجود القرينة الدالة على صدقه، وإلا رددناه، وقوله - سبحانه وتعالى -: { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } يفيد أنه إن جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر، لكن هذا فيه عند العلماء تفصيل، دل عليه القرآن والسنة، فمثلاً الشهادة بالزنا: لو جاءنا رجل عدل في دينه، مستقيم في مروءته، وشهد أن فلاناً زنا فلا نقبل شهادته، وإن كان عدلاً، بل نجلده ثمانين جلدة؛ لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا، وقد(12/14)
قال الله تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً }، فنجلده ثمانين جلدة ولا نقبل له شهادة أبداً، ونحكم بأنه فاسق، وإن كان عدلاً حتى يتوب، وإذا شهد رجلان عدلان على زيد أنه زنا فلا نقبل شهادتهما، ولا ثلاثة، فإذا كانوا أربعة عدول فنعم؛ لأن الله تعالى قال: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون }. وقال تعالى: { لولا جاءو عليه بأربعة شهداء } {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } حتى وإن كانوا صادقين، فلو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص فهم عند الله كاذبون غير مقبولين، نجلد كل واحد ثمانين جلدة، وإذا جاءنا رجل شهد على شخص بأنه سرق فلا نقبل شهادته، بل لابد من رجلين، وإذا جاءنا رجل شهد بأنه رأى هلال رمضان فنقبل شهادته، لأن السنة وردت بذلك، فقد قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: تراءى الناس الهلال - يعني ليلة الثلاثين من شعبان - فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بالصيام () ، وإذا كان رجل غنيًّا ثم أصيب بجائحة ثم جاء يسأل الزكاة، وأتى بشاهد أنه كان غنيًّا وأصابته جائحة وافتقر فلا نقبل شهادة الواحد، ولا نقبل شهادة اثنين، بل لابد من ثلاثة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة: « إنها لا تحل المسألة » وذكر منها رجل أصابته جائحة - يعني اجتاحت ماله - فشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن فلاناً قد أصابته جائحة فحلت له المسألة () (ثلاثة من ذوي الحجا) يعني من ذوي العقل، وكذلك نقبل رجلاً مع يمين المدعي كما لو ادعى شخص على آخر بأنه يطلبه ألف ريال، فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: عندي رجل واحد، فإذا أتى برجل واحد وحلف معه، حكمنا له بما ادعاه وهناك أشياء أيضاً لا يتسع المجال لذكرها، وعلى هذا فخبر العدل فيه(12/15)
تفصيل على ما تقدم وخبر الفاسق يتوقف فيه حتى يتبين الأمر، ثم بين الله - عز وجل - الحكمة من كوننا نتبين بخبر الفاسق فقال: { أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } يعني أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة؛ لأن الإنسان إذا تسرع ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناءً على الخبر الذي سمعه من الفاسق، وقد يكرهه، وقد يتحدث فيه في المجالس، فيصبح بعد أن يتبين أن خبر الفاسق كذب نادماً على ما جرى منه، وفي هذه الآية دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار ولا سيما مع الهوى والتعصب، فإذا جاءك خبر عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر فيجب أن تتثبت، وألا تتسرع في الحكم؛ لأنك ربما تتسرع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد، ومن ثم جاء التحذير من النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا يدخل الجنة قتَّات» () أي نمَّام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين يُعذبان، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» - أي في أمر شاق عليهما - «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول»، أو لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول «وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» يمشي بين الناس ينمّ الحديث إلى الآخرين ليفسد بين الناس، ثم أخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين وغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله، لمَ فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» () . ومن هذا النوع ما ينسب إلى بعض العلماء من الفتاوى التي لم يتكلم بها إطلاقاً، أو تكلم ولكن فُهِمَ ما ينقل عنه خطأ، فإن بعض الناس قد يفهم من العالِم كلمة على غير مراد العالِم بها، وقد يسأل العالِم سؤالاً يتصوره العالم على غير ما في نفس هذا السائل، ثم يجيب على حسب ما فهمه، ثم يأتي هذا الرجل وينشر هذا القول الذي ليس بصحيح، وكم من أقوال نسبت إلى علماء أجلاء، لم يكن لها أصل؛ لهذا يجب(12/16)
التثبُّت فيما يُنقل عن العلماء أو غير العلماء، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء، وكثر فيه التعصب، وصار الناس كأنهم يمشون في عمى.
قول الله - تبارك وتعالى -: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإِيمان وزينه في قلوبكم } هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله } وسبب ما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه عن قوم ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكد من الأخبار إذا جاء بها من لا تُعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه () ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } ولكن العبرة بعموم اللفظ وقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم } أي لشق عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا له أمثلة كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه في رمضان يصلي بهم صلاة القيام فانصرفوا وقد بقي من الليل ما بقي، وقالوا: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا - يعني طلبوا منه أن يقوم بهم كل الليل - ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة» () ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العنت والمشقة، ومنها أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن أمره في السر - يعني فيما لا يظهر للناس - وهو العمل الذي يفعله في بيته من العبادات فكأنهم تقالُّوها فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما هم فلم يكن لهم ذلك، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا(12/17)
أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» () فحذرهم أن يعملوا عملاً يشق عليهم، ومن ذلك أيضاً حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه وعن أبيه - أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله: إنه ليصومن النهار، وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنت قلت هذا؟» قال: نعم، قال: «إنك لا تطيق ذلك» () ثم أرشده لما هو أفضل وأهون، والحاصل أنه يوجد من الصحابة - رضي الله عنهم - من له همَّة عالية لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يطيعهم في كثير من الأمر؛ لأن ذلك يشق عليهم لو أنه أطاعهم، ثم قال عز وجل: {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان }، قد يقول قائل: ما هو ارتباط قوله: {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان } بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم }؟.
والجواب: أنكم تطيعونه - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - فيما يخالفكم فيه؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان فتقدمون طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخالفكم فيه؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وهذا استدراك من أبلغ ما يكون من الاستدراك، يعني: ولكن إذا خالفكم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه، ولن تحملوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بسببه، {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان } - أي جعله محبوباً في قلوبكم - {وزينه في قلوبكم } بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به - وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبة عارضة، لكن إذا زُيّن له الشيء ثبت في المحبة ودامت، ولهذا قال: {حبب إليكم الإِيمان } وهذا في القلب، {وزينه في قلوبكم } أيضاً في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب للإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه {وكره إليكم(12/18)
الكفر والفسوق والعصيان } كرّه إليكم الكفر الذي هو مقابل الإيمان، والفسوق الذي هو مقابل الاستقامة، والعصيان الذي هو مقابل الإذعان، وهذا تدرج من الأعلى إلى ما دون: فالكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء - رحمهم الله - في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر، لكنه فعل كبيرة، مثل أن يفعل الإنسان كبيرة من الكبائر ولم يتب منها، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما أشبه ذلك، والعصيان: هو الصغائر التي تكفَّر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر » () .
{ أولئك هم الراشدون }. أولئك: المشار إليه من حبب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان {هم الراشدون } يعني الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل: حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يحسن الإنسان التصرف فيه، ولا يبذله في غير فائدة، والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله - عز وجل - فهؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون، وهنا تجد هذه الأفعال كلها مضافة إلى الله، ولهذا قال بعدها: {فضلاً من الله } يعني أن الله أفضل عليكم فضلاً أي تفضُّلاً منه، وليس بكسبكم، ولكنه من الله - عز وجل - ولكي يُعلم أنّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص، فمن علم الله منه حُسن النية، وحُسن القصد والإخلاص حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإنَّ الله تعالى يقول: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ويقول الله - عز وجل -: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله(12/19)
أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } فالذنوب سبب للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضَّل الله عليهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وُفقوا للحق، قال الله - عز وجل -: {فضلاً من الله ونعمةً } يعني إنعاماً منه عليهم، والنعمة نعمتان: نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، فنعمة الدنيا متصلة بنعمة الآخرة في حقهم. وأما الكفار فهم منعَّمون في الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين } أي تنعُّم، فهؤلاء الكفار عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخرة عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله، أما المؤمن فإنه يحصل على النعمتين جميعاً، على نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، حتى وإن كان فقيراً أو مريضاً أو عقيماً، أو لا نسب له، فإنه في نعمة، لقول الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
وخلاصة الكلام في النعمة، أن هناك نعمتين: نعمة عامة لجميع الخلق، الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة {والله عليم حكيم } هذان إسمان من أسماء الله يقرن الله بينهما دائماً: العلم والحكمة، عليم بكل شيء، قال الله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }. وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأَرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأى أرض تموت }. وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأَرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين }. وقال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء }. فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، والإنسان إذا علم أن الله محيط(12/20)
بكل شيء حتى ما يضمره في قلبه، فإنه يخاف ويرهب ويهرب من الله إليه - عز وجل - ولا يقول قولاً يغضب الله، ولا يفعل فعلاً يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تُغضب الله؛ لأنه يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - يعلم ذلك، لا يخفى عليه، وأما الحكيم فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي أن جميع ما يحكم به جل وعلا موافق ومطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة، قال الله تبارك وتعالى: { حكمة بالغة فما تغنى النذر }. وقال تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين }. وقال تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }. فمعنى الحكيم، أي ذو الحكمة البالغة، وله معنى آخر وهو: ذو الحكم التام، فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }. وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأَخر } ولا أحد يحكم بهواه {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأَرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون }
{ وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } طائفتان مفردها طائفة، وهي الجماعة من الناس، وقوله: {اقتتلوا } جمع، وإنما جمع لأن الطائفة تشتمل على أفراد كثيرين، فلذلك صح أن يعود الضمير على مثنى؛ مراعاة للمعنى، وإلا لكان مقتضى اللغة أن يقول: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا)، ليطابق الضمير مرجعه لكنه عاد إليه بالمعنى.
والاقتتال بين المؤمنين له أسباب متعددة، والشيطان قد يئس أن يُعبد في جزيرة العرب، ولكنه رضي في التحريش بينهم () ، يحرش بينهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، فإذا حصل الاقتتال فالواجب على المؤمنين الآخرين الصلح بينهما، ولهذا قال: {فأصلحوا بينهما }، أي اسعوا إلى الصلح بكل وسيلة حتى ولو كان ببذل(12/21)
المال، والتنازل عن الحق لأحدهما عن الآخر؛ لأن الصلح لابد فيه من أن يتنازل أحد الطرفين عما يريد من كمال حقه، وإلا لما تم الصلح، ولهذا لما قال الله تعالى: {والصلح خير } وقال: {وأحضرت الأنفس الشح }. لأن كل إنسان يريد أن يتم قوله فلابد من التنازل، فإذا أصلحنا بينهما ثم حصل بغي قال الله عز وجل: {فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى } يعني لو فرض أنه بعد الصلح عادت إحدى الطائفتين تقاتل الأخرى فهنا لا صلح، بل نقاتل التي تبغي {حتى تفيء إلى أمر الله } أي ترجع إليه، وأمر الله يعني دينه وشرعه، فانظر في أول الأمر الإصلاح، فإذا تم الصلح وبغت إحداهما على الأخرى، وجب أن نساعد المبغي عليها، فنقاتل معها {فإن فاءت } فإنه يجب الكف عن قتالهم، ولا يجوز أن نجهز على جريح، ولا أن نتبع مدبراً، ولا أن نسلب مالاً ولا أن نسبي ذرية، لأن هؤلاء مؤمنون، {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } أي: فإن فاءت إلى أمر الله بعد أن قاتلناها ورجعت ووضعت الحرب، وجب أن نصلح بينهما بالعدل، وهذا غير الإصلاح الأول، الإصلاح الأول لوقف القتال، وهذا الإصلاح بالتقدير فننظر ماذا تلف على كل طائفة، ثم نسوي بينهما، فمثلاً إذا كانت إحدى الطائفتين أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، والثانية أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، فحينئذ تعادل الطائفتان، فإن كانت إحداهما أتلفت على الأخرى ما قيمته ثمانمائة ألف ريال، والأخرى أتلفت ما قيمته مليون فالفرق مائتا ألف ريال تحملها على الأخرى التي أتلفت ما قيمته مليون، ولهذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } أي يحب العادلين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المقسطين على منابر من نور عن يمين الله عز وجل، الذين يعدلون في أهليهم، وما ولوا () من أمور المسلمين، ثم قال - عز وجل -: {إنما المؤمنون إخوة } هذا كالتعليل لقوله:(12/22)
{فأصلحوا بينهما } يعني إنما أوجب الله علينا الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين؛ لأن المؤمنين إخوة. الطائفتان المقتتلتان هما أخوان، ونحن أيضاً إخوة لهم حتى مع القتال.
فإذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» () والكافر ليس أخاً للمؤمن؟
فالجواب أن يقال: إن الكفر الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام هو كفر دون كفر، فليس كل ما أطلق الشرع عليه أنه كفر يكون كفراً، فهنا صرح الله - عز وجل - بأن هاتين الطائفتين المقتتلتين إخوة لنا مع أن قتال المؤمن كفر. فيقال: هذا كفر دون كفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» () ومعلوم أن الطاعن في النسب والنائح على الميت لا يكفر كفراً أكبر، فدل ذلك على أن الكفر في شريعة الله في الكتاب وفي السنة كفران: كفر مخرج عن الملة، وكفر لا يخرج عن الملة {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } وفي هذا من الحمل على العطف على هاتين الطائفتين المقتتلتين ما هو ظاهر في قوله: {فأصلحوا بين أخويكم } كما أنك تصلح بين أخويك الأشقاء من النسب، فأصلح بين أخويك في الإيمان {واتقوا الله لعلكم ترحمون } يعني اتقوا الله تعالى بأن تفعلوا ما أمركم به وتتركوا ما نهاكم عنه؛ لأنكم إذا قمتم بهذا فقد اتخذتم وقاية من عذاب الله، وهذه هي التقوى، وعلى هذا كلما سمعت كلمة تقوى في القرآن فالمعنى أنها اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه {لعلكم ترحمون } أي ليرحمكم الله - عز وجل - إذا اتقيتموه.
ثم قال الله - عز وجل - في جملة ما بيّن لعباده من الآداب والأخلاق الفاضلة: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن }. السخرية: هي الاستهزاء والازدراء، ومن المعلوم أن الله تعالى جعل الناس في هذه الحياة الدنيا طبقات، فقال(12/23)
الله تبارك وتعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } أي ليسخِّر بعضهم بعضاً في المصالح، وليس المراد هنا الاستهزاء، وقال الله تبارك وتعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } إذا ثبت هذا التفضيل بين الناس فهم يتفاضلون في العلم، فبعضهم أعلم من بعض في علوم الشريعة، وعلوم الوسيلة إلى علوم الشريعة كعلوم اللغة العربية من النحو والبلاغة وغيرها، وهم يتفاضلون في الرزق، فمنهم من بسط له في رزقه، ومنهم من قَدَرَ عليه في رزقه، وهم يتفاضلون في الأخلاق، فمنهم ذوو الأخلاق الفاضلة العالية، ومنهم دون ذلك، وهم يتفاضلون في الخلقة، منهم السوي الخلقة، ومنهم من دون ذلك، ويتفاضلون كذلك في الحسب، منهم من هو ذو حسب ونسب، ومنهم دون ذلك، فهل يجوز لأحد أن يسخر ممن دونه؟ يقول الله - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } فيخاطبنا - جل وعلا - بوصف الإيمان، وينهانا أن يسخر بعضنا من بعض؛ لأن المفضِّل هو الله - عز وجل - وإذا كان هو الله لزم من سخريتك بهذا الشخص الذي هو دونك أن تكون ساخراً بتقدير الله - عز وجل - وإلى هذا يوحي قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» () . وفي الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار» () . فلماذا تسخر من هذا الرجل الذي هو دونك في العلم أو في المال، أو في الخُلُق، أو في الخلقة، أو في الحسب، أو في النسب، لماذا تسخر منه؟ أليس الذي أعطاك الفضل هو الله الذي حرمه هذا - في تصورك - فلماذا، ولهذا قال - عز وجل -: {عسى أن يكونوا خيراً منهم } رب ساخر اليوم مسخور منه في الغد، ورب مفضول اليوم يكون فاضلاً في الغد، وهذا شيء مشاهد، وفي بعض الآثار يروى: «من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» () .(12/24)
وفي الآثار أيضاً: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» () . إذن يجب على الإنسان أن يتأدب بما أدبه الله به، فلا يسخر من غيره عسى أن يكون خيراً منه، {ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن } ونص على النساء والرجال بالتفصيل، حتى لا يقول أحد: إن هذا خاص بالرجال، لو ذكر الرجال وحدهم، أو خاص بالنساء وحدهن، وبهذا نعرف الفرق بين القوم والنساء. إذا جمع بين القوم والنساء فالقوم هم الرجال والنساء هن الإناث، وإن ذكر القوم وحدهم شمل الرجال والنساء، مثل ما يذكر في الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم أرسلوا إلى قومهم فهو يشمل الذكور والإناث، لكن إذا ذكر القوم والنساء صار النساء هن الإناث، والقوم هم الذكور.
وهذا الأدب عام لجميع الأمة، ويجب على كل طالب علم أن يكون أول من يمتثل أمر الله - عز وجل - ويجتنب نهيه؛ لأنه مسؤول عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه كغيره من المكلفين.
والثاني: أن طالب العلم قدوة، أي عمل يعمله فسوف يقتدي به الناس، ويحتجون به، فإذا كان طالب العلم هو الذي يسخر من العلماء أو من دون العلماء فهذه بلية في الواقع، فالواجب على الإنسان إذا خالف غيره أن يلتمس له العذر، ثم يتصل بهذا المخالف ويبحث معه، فربما يكون الحق مع من خالفه ويناقشه بأدب واحترام وهدوء، حتى يتبين الحق، وأما سخريته بما خالف رأيه أو رأي شيخه فهذا غلط، وكل إنسان يخالفك في قولك فإن الواجب عليك أن تحمله على أحسن المحامل وأن هذا اجتهاده، وأن الله - عز وجل - سيأجره على اجتهاده إذا أخطأ، وإن أصاب فله أجران، ثم تتصل به وتناقشه، ولا تستحي، فربما تبين أن الحق معك فتكون لك منة على هذا الرجل، وربما يتبين لك أن الحق معه فيكون له منة عليك، وأما السخرية فهذا ليس من آداب طالب العلم، بل ولا من آداب المؤمن مع أخيه.
{ ولا تلمزوا أنفسكم } اللمز: العيب، بأن تقول: فلان بليد، فلان طويل، فلان قصير، فلان أسود، فلان أحمر، وما أشبه(12/25)
ذلك مما يعد عيباً، وقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم } فسَّر بمعنيين:
المعنى الأول: لا يلمز بعضكم بعضاً، لأن كل واحد منا بمنزلة نفس الإنسان، أخوك بمنزلة نفسك، فإذا لمزته فكأنما لمزت نفسك.
والمعنى الثاني: إن المعنى لا تلمز أخاك، لأنك إذا لمزته لمزك، فلمزك إياه سبب لكونه يلمزك، وحينئذ تكون كأنك لمزت نفسك، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من لعن والديه» فقالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» () وعلى كل حال في الآية تحريم عيب المؤمنين بعضهم بعضاً، فلا يجوز لك أن تعيب أخاك بصفة خَلْقية أو صفة خُلُقية، أما الصفة الخَلْقية التي تعود إلى الخلقة فإن عيبك إياه في الحقيقة عيب لخالقه - عز وجل - فالذي خلق الإنسان هو الله عز وجل، والذي جعله على هذه الصفة هو الله عز وجل، والإنسان لا يمكن أن يكمل خِلقته فيكون الطويل قصيراً، أو القصير طويلاً، أو القبيح جميلاً، أو الجميل قبيحاً؟ فأنت إذا لمزت إنساناً وعبته في خلقته فقد عبت الخالق في الواقع، ولهذا لو وجدنا جداراً مبنيًّا مائلاً وعبنا الجدار فعيبنا لباني الجدار، إذن إذا عبت إنساناً في خلقته فكأنما عبت الخالق - عز وجل - فالمسألة خطيرة، أما عيبه بالخُلُق بأن يكون هذا الرجل سريع الغضب، شديد الانتقام، بذيء اللسان، فلا تعبه؛ لأنه ربما إذا عبته ابتلاك الله بنفس العيب، ولهذا جاء في الأثر: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» () لكن إذا وجدت فيه سوء خُلُق فالواجب النصيحة، أن تتصل به إن كان يمكن الاتصال به، وتبين له ما كان به من عيب، أو أن تكتب له كتاباً: رسالة باسمك أو باسم ناصح مثلاً، {ولا تنابزوا بالأَلقاب } يعني لا ينبز بعضكم بعضاً باللقب، فتقول له مثلاً: يا فاسق، يا فاجر، يا كافر، يا شارب الخمر، يا سارق، يا زاني، لا تفعل هذا؛ لأنك إذا نبزته باللقب فإما أن يكون اللقب فيه، وإما أن(12/26)
لا يكون فيه، فإن كان فيه فقد ارتكبت هذا النهي، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه وارتكبت النهي أيضاً، ثم قال - عز وجل -: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان } يعني بئس لكم أن تنقلوا من وصف الإيمان إلى وصف الفسوق، فإذا ارتكبتم ما نهى الله عنه صرتم فسقة، فالإنسان إذا ارتكب كبيرة واحدة من الكبائر صار فاسقاً، وإذا ارتكب صغيرة وكررها وأصرّ عليها صار فاسقاً، فلا تجعل نفسك بعد الإيمان وكمال الإيمان فاسقاً، هذا معنى قوله: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان } لأن هذه الجملة جملة إنشائية تفيد الذم، وما أفاد الذم فإنه منهي عنه بلا شك، فاستفدنا من هذه الآية الكريمة تحريم السخرية، وتحريم لمز الغير، وتحريم التنابز بالألقاب، وأن من صنع ذلك فهو فاسق بعد أن كان مؤمناً، والفسق ليس وصفاً على اللسان فقط، بل يترتب عليه أحكام، فمثلاً قال العلماء: الفاسق لا يصح أن يكون وليًّا على ابنته، فيزوجها من يصح أن يكون وليًّا من أقاربها، فإن لم يكن لها أقارب أو خافوا من أبيها إن زوَّجها فيزوِّجها القاضي، والفاسق لا تقبل شهادته؛ لأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فيشهد عند القاضي بحق، فيقول القاضي: لا نقبلك؛ لأنك فاسق، والفاسق لا يصلح أن يكون إماماً بالناس في الصلاة، والفاسق الذي يظهر فسقه لا يصح أذانه، كل هذا قال به العلماء رحمهم الله، وإن كان في بعض هذه المسائل خلاف، لكني أقول: إن كلمة فاسق ليست بالأمر الهين حتى يقولها الإنسان {بئس الاسم } ولهذا ذمه الله، فقال: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } يعني من كان يفعل هذه الأشياء الثلاثة، ولم يتب فأولئك هم الظالمون، فالذي لا يتوب يكون ظالماً، والظلم كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - «ظلمات يوم القيامة» () ، وإذا كان المؤمنون يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فهؤلاء الظلمة ليس لهم نور، فيجب الحذر مما(12/27)
نهى الله - عز وجل - لأنك أيها العبد، عبد لله تأتمر بأمره، وتنتهي عن نهيه.
فإن قال قائل: ما معنى التوبة؟
فنقول: التوبة من العبد أن ينتقل من معصية الله إلى طاعته، والتوبة من الله أن يقبل الله من العبد فيبدل سيئاته حسنات.
قال الله تبارك وتعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله } إلى أن قال: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }، وقد تطلق التوبة من الله على توفيقه العبد إلى التوبة، فلله تعالى على العبد توبتان: توبة بمعنى التوفيق للتوبة، وتوبة بمعنى قبول التوبة. والدليل على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأَرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم }. {ثم تاب عليهم ليتوبوا } أي وفقهم للتوبة فتابوا، أما التوبة الأخرى وهي قبول توبة العبد، فمثل قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات } وتوبة العبد تحتاج إلى شروط، إذ ليس كل توبة مقبولة، وليس كل من قال: أنا تائب إلى الله يكون تائباً، بل لابد من شروط:
الشرط الأول: أن يخلص لله تعالى في التوبة، أي لا يحمله على التوبة أنه خائف من أبيه، أو خائف من أخيه الأكبر، أو خائف من السلطات، أو تاب لأجل أن يقال: فلان مستقيم، والإخلاص لله في التوبة أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضى الله - عز وجل - والوصول إلى كرامته، والإخلاص شرط في كل عبادة.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل، ومعنى يندم أي: يتحسر، ويتكدر أنه وقع منه هذا الشيء. ويخجل من الله عز وجل.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب في الحال. وذلك بأن يأتي بالواجب إن أمكن تداركه، أو بدله إذا لم يكن تداركه، وأن يقلع عن المحرم إذا كان الذنب فعلاً محرماً، فإذا كان الذنب في حق الإنسان بأن يكون شخص سرق من إنسان مالاً، والسرقة حرام، وتاب الرجل وندم(12/28)
وعزم على ألا يعود، فلابد أن يوصل هذا المال إلى صاحبه، ولا يمكن أن تتم التوبة إلا بهذا، فإذا قال: أخشى إن ذهبت إلى هذا الرجل وأعطيته المال أن يترتب على ذلك ضرر عليَّ، وعلى سمعتي، وربما أُحبس، وربما يدعي أن المبلغ المسروق أكثر، وأنا قد تبت إلى الله قبل أن يقدر عليَّ فكيف تكون الحال؟ فهل يجوز أن يتصدق به عن صاحبه؟
والجواب: لا يجوز، لأن صاحبه معلوم، أما لو كان مجهولاً كما لو سرق من أناس نسيهم أو جهلهم ولا يدري أين هم، فهنا يتصدق بما سرق عنهم، لكن إذا كان معلوماً لابد أن يوصله، ويمكن أن يعطي شخصاً يثق به، ويقول: يا فلان، إني سرقت هذا المال من فلان، وقد ندمت وتبت إلى الله، ومن فضلك أعطه إياه، وقل له: هذه دراهم من إنسان تستحقها عليه، وهو الآن يبذلها، ولكن لابد أن يكون هذا الرجل الذي وكله أن يوصل الدراهم موثوقاً عند صاحب المال وأميناً لأنه لو لم يكن موثوقاً لاتهمه صاحب المال، وقال: أنت السارق والمسروق أكثر، فلابد أن يكون ثقة، وإذا لم يمكن فيمكن أن ترسل بالبريد، ويقال: هذه دراهم من شخص تستحقها عليه، وفي هذه الحال من المعلوم أنك لن تكتب اسمك، وأيضاً يحسن أن لا تكتبها بقلمك، لأنه ربما يمر عليه ويعرف خطك يوماً من الدهر، هذا إذا كان الحق مالياً، أما إذا كان الحق غير مالي، مثل أن يكون شخص اغتبته، في مجلس أو مجالس، فكيف تكون التوبة من هذا؟ قال كثير من العلماء: لابد أن تذهب إليه، وتستحله، وإلا فسيأخذ من حسناتك يوم القيامة، فاذهب إليه وقل له: يا فلان سامحني.
وقال بعض العلماء: لا يجب أن تستحله، وإنما تستغفر له وتثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والحسنات يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث: «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» () .
القول الثالث: وهو قول وسط، ولعله الصواب: إن كان صاحبك الذي اغتبته قد علم بذلك فلابد من أن تذهب إليه وتستحله، لأنه لن يزول ما في قلبه حتى تستحله، أما إذا لم يعلم(12/29)
فيكفي أن تستغفر له، وأن تثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والله غفور رحيم، وينبغي لمن جاء إليه أخوه يعتذر منه أن يسامحه، ولا ينبغي أن يناقش ويرى ما الذي حصل، لأنه ربما يذكر شيئاً كبيراً فتعجز نفس صاحبه عن أن يحلله، لأن النفس أمارة بالسوء، فالأولى أن لا يسأل، وأن يحتسب الأجر من الله، ويقول: هذا جاء معتذراً، ومن عفا فأجره على الله، ويرجى في المستقبل أن تعود هذه الغيبة ثناء حسناً، وهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو الحق، وهو أنه إن كان عالماً فلابد أن تستحله حتى يزول ما في قلبه، وإن كان غير عالم فلا حاجة إلى استحلاله، هذا بالنسبة للذي اغتاب غيره، أما الذي اغتيب وطُلب منه السماح فالذي نرى أن الأفضل والأكمل أن يحلله، لأنه أخوه جاءه معتذراً نادماً فليحلله. وثقوا أنه إذا حلله ستكون كبيرة وعظيمة على الشخص الذي استحله، سيرى أنه أهدى إليه أكبر هدية، فتنقلب الكراهية التي كانت من قبل إلى محبة وألفة، وهذا هو المطلوب من المسلمين أن يكون بعضهم لبعض إلفاً محبًّا وادًّا.
الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل، أي يكون في نفسه نية عازمة جازمة أن لا يعود لهذا الذنب في المستقبل، فإن تاب وهو يقول: ربما أنه يطرأ علي أن أفعل الذنب، فهذا التائب لا تصح توبته، لأنه لابد أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت قبولها، لأنه يأتي وقت يسد باب التوبة، ولا تقبل من الإنسان، والباب الذي يغلق عن التائبين عام وخاص، أما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فسيأتي زمن تخرج الشمس من المغرب، والذي يردها الله - عز وجل - لو اجتمعت الخلائق كلها على أن تردها ما ردتها، لكن يردها الله - عز وجل - الذي أمره {إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ترجع هذه الشمس العظيمة إذا غربت من مغربها، وإذا طلعت الشمس من مغربها آمن كل من على الأرض، اليهودي،(12/30)
والنصراني، والبوذي، والشيوعي، وغيرهم كلهم يؤمنون؛ لأنهم يرون شيئاً واضحاً في الدلالة على الرب - عز وجل - لكن لا ينفعهم الإيمان، لقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا }، وفسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك } أنه خروج الشمس من مغربها () وحينئذ لا تنفع التوبة، مع أن الناس كلهم يؤمنون، لكن لا تنفع، لأنه انسد الباب، وإذا سُدَّ كيف يدخل الناس؟
أما الخاص فهو أن يحضر الإنسان أجله، فإذا حضر الإنسان الأجل فلا تنفع التوبة، لقول الله تبارك وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن }، وإني أسأل هل أحد منا يعلم متى يموت؟! أبداً، ربما يموت الإنسان وهو على مكتبه، أو وهو على فراشه، أو وهو في صلاته، في أي لحظة، وإذا كنا نعلم هذا ونوقن به، فالواجب أن نبادر بالتوبة لئلا يفجأنا الموت، فينسد الباب، ولهذا كانت التوبة مما يجب على الفور، فلنبادر بالتوبة إلى الله - عز وجل - {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن }، هذا الخبر من الله - عز وجل - له أمر واقع يدل عليه لما أغرق الله تعالى فرعون وقومه، قال فرعون حين أدركه الغرق: {آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرءيل } يعني الله - عز وجل - {وأنا من المسلمين } فقيل له: {ءالئن } أي: الآن تتوب؟ لماذا لم تتب قبل؟ {ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } فلم تقبل توبته - والعياذ بالله - وإذا تاب العبد فإن الله يفرح بهذا فرحاً عظيماً لا يتصوره إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم» أو قال «بتوبة عبده من أحدكم براحلته» الراحلة هي البعير «كان عليها طعامه وشرابه فأضلها» يعني ضاعت عنه «فطلبها فلم(12/31)
يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت» ضعفت قواه وخارت واضطجع ينتظر الموت «فبينما هو كذلك إذا بناقته متعلقاً زمامها بالشجرة فأخذ الزمام فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك» يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك لكنه «أخطأ من شدة الفرح» () وهل تجدون فرحاً أعظم من هذا؟ لا، لأنه لا فرح أشد من حياة بعد الإشراف على الموت، فالرب - عز وجل - يفرح بتوبة أحدنا أشد من فرحة هذا الرجل بناقته .
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً }. تصدير الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا } يدل على العناية به، ولهذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إذا سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا } فارعها سمعك: فإما خير تؤمر به، وإما شر تُنهى عنه. ويعني: وإما خير تحصل به العبرة والاتعاظ، كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الأَلباب } وهنا يقول - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن }، الظن: هو أن يكون لدى الإنسان احتمالان يترجح أحدهما على الآخر، وهنا عبر الله تعالى بقوله: {كثيراً من الظن } ولم يقل: اجتنبوا الظن كله، لأن الظن ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ظن خير بالإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يُظن به خيراً، ويُثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله.
القسم الثاني: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء، كما صرح بذلك العلماء، فقالوا - رحمهم الله -: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة. أما ظن السوء بمن قامت القرينة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولهذا من الأمثال المضروبة السائرة: (احترسوا من الناس بسوء الظن)، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد: احترسوا من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا(12/32)
تثقوا بهم، والإنسان لابد أن يقع في قلبه شيء من الظن بأحد من الناس لقرائن تحتف بذلك، إما لظهور علامة في وجهه، بحيث يظهر من وجهه العبوس والكراهية في مقابلتك وما أشبه ذلك، أو من أحواله التي يعرفها الإنسان منه أو من أقواله التي تصدر منه فيظن به ظن السوء، فهذه إذا قامت القرينة على وجوده فلا حرج على الإنسان أن يظن به ظن السوء.
فإذا قال قائل: أيهما أكثر الظن المنهي عنه أم الظن المباح؟
قلنا: الظن المباح أكثر؛ لأنه يشمل نوعاً كاملاً من أنواع الظن، وهو ظن الخير، ويشمل كثيراً من ظن السوء الذي قامت القرينة على وجوده؛ لأنه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على هذا الظن السيء، فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصف بهذا الظن، ولهذا قال: {كثيراً من الظن } ولم يقل: أكثر الظن، ولا كل الظن، بل قال: {كثيراً من الظن } ثم قال: {إن بعض الظن إثم } وقد توحي هذه الجملة أن أكثر الظن ليس بإثم، وهو منطبق تماماً على ما بيناه وقسمناه، أن الظن نوعان: ظن خير، وظن سوء، ثم ظن السوء لا يجوز إلا إذا قامت القرينة على وجوده، ولهذا قال: {إن بعض الظن إثم } فما هو الظن الذي ليس بإثم؟ نقول: هو ظن الخير، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا ليس بإثم، لأن ظن الخير هو الأصل، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا أيضاً أيدته القرينة. {ولا تجسسوا } التجسس طلب المعايب من الغير، أي أن الإنسان ينظر ويتصنت ويتسمع لعله يسمع شرًّا من أخيه، أو لعله ينظر سوءاً من أخيه، والذي ينبغي للإنسان أن يعرض عن معايب الناس، وأن لا يحرص على الاطلاع عليها، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يخبرني أحد عن أحد شيئاً»، يعني شيئاً مما يوجب ظن السوء به «فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» () فلا ينبغي للإنسان أن يتجسس، بل يأخذ الناس على ظاهرهم، ما لم يكن هناك قرينة تدل على خلاف(12/33)
ذلك الظاهر، وفي هذه الجملة من الآية قراءة أخرى (ولا تحسسوا) فقيل: معناهما واحد، وقيل: بل لكل واحدة منهما معنى، والفرق هو أن التجسس أن يحاول الإنسان الاطلاع على العيب بنفسه، والتحسس أن يلتمسه من غيره، فيقول للناس مثلاً: ما تقولون في فلان، ما تقولون في فلان؟ وعلى هذا فتكون القراءتان مبينتين لمعنيين كلاهما مما نهى الله عنه، لما في هذا من إشغال النفس بمعايب الآخرين، وكون الإنسان ليس له هم إلا أن يطلع على المعايب، ولهذا من ابتلي بالتجسس أو بالتحسس تجده في الحقيقة قلقاً دائماً في حياته، وينشغل بعيوب الناس عن عيوبه، ولا يهتم بنفسه، وهذا يوجد كثيراً من بعض الناس الذين يأتون إلى فلان وإلى فلان، ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فتجد أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل ضائعة بمضرة؛ لأن ما وقعوا فيه فهو معصية لله - عز وجل - هل أنت وكيل عن الله - عز وجل - تبحث عن معايب عباده، والعاقل هو الذي يتحسس معايب نفسه، وينظر معايب نفسه ليصلحها، لا أن ينظر في معايب الغير ليشيعها - والعياذ بالله - ولهذا قال الله - عز وجل -: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } فعلى كل حال هذه آداب وتوجيه من الله - عز وجل - إلى أخلاق فاضلة، مأمور بها، وأخلاق منهي عنها.
{ ولا يغتب بعضكم بعضاً } الغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ذكرك أخاك بما يكره» وهذا تفسير من الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو أعلم الناس بمراد الله - تبارك وتعالى - في كلامه: «ذكرك أخاك بما يكره»، سواء كان ذلك في خلقته، أو خلقه، أو في أحواله، أو في عقله، أو في ذكائه، أو في غير ذلك،مثل أن تقول: فلان قبيح المنظر، دميم، فيه كذا، فيه كذا، تريد معايب جسمه، أو في خُلقه بأن تقول: فلان أحمق، سريع الغضب، سيء التصرف، وما أشبه ذلك، أو في خلقته الباطنة كأن تقول: فلان بليد، فلان لا يفهم، فلان سيء الحفظ، وما أشبه هذا، ورسول الله صلى(12/34)
الله عليه وسلم حدها بحد واضح بيّن «ذكرك أخاك بما يكره»، قالوا: يا رسول الله، أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» () أي جمعت بين البهتان والغيبة، وعلى هذا فيجب الكف عن ذكر الناس بما يكرهون، سواء كان ذلك فيهم، أو ليس فيهم، واعلم أنك إذا نشرت عيوب أخيك فإن الله سيسلط عليك من ينشر عيوبك، جزاءً وفاقاً، لا تظن أن الله غافل عما يعمل الظالمون، بل سيسلط عليه من يعامله بمثل ما يعامل الناس، لكن إذا كانت الغيبة للمصلحة فإنه لا بأس بها، ولا حرج فيها، ولهذا لما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في رجال خطبوها، بيَّن معايب من يرى أن فيه عيباً، فقد خطبها ثلاثة: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وأبو جهم بن حارث، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة بن زيد» () ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيباً في هذين الرجلين، للنصيحة وبيان الحق، ولا يعد هذا غيبة بلا شك، ولهذا لو جاء إنسان يستشيرك في معاملة رجل، قال: فلان يريد أن يعاملني ببيع، أو شراء، أو إجارة، أو في تزويج أو ما أشبه ذلك، وأنت تعرف أن فيه عيباً فإن الواجب أن تبين له ذلك، ولا يعد هذا كما يقول العامة من قطع الرزق، بل هو من بيان الحق، فإذا عرفت أن في هذا الرجل الذي يريد أن يعامله هذا الشخص ببيع أنه مماطل كذاب محتال، فقل له: يا أخي لا تبع لهذا إنه كذاب مماطل، إنه محتال، ربما يدعي أن في السلعة عيباً وليس فيها عيب، وربما يدعي الغبن وليس مغبوناً، وما أشبه ذلك فتقع معه في صراع ومخاصمة، أو جاء إنسان يستشيرك في شخص خطب منه ابنته، والشخص ظاهره العدالة والاستقامة، وظاهره حسن خلق، ولكنك تعرف فيه خصلة معيبة فيجب عليك أن تبين هذا، فمثلاً: تعرف أن في هذا(12/35)
الرجل كذباً، أو تعرف أنه يشرب الدخان لكنه يجحده ولا يبينه للناس، يجب أن تبين تقول: هذا الرجل ظاهره أنه مستقيم، وأنه خلوق، وأنه طيب، ولكن فيه العيب الفلاني، حتى لو كان هذا متجهاً إلى أن يزوجه، ثم هو بعد ذلك بالخيار؛ لأنه سيدخل على بصيرة، وعلى كل حال يستثنى من الغيبة وهي ذكر الرجل بما يكره، إذا كان على سبيل النصيحة، ومنه ما يذكر في كتب الرجال مثلاً، فلان بن فلان سيء الحفظ، فلان بن فلان كذوب، فلان بن فلان فيه كذا وكذا، يذكرون ما يكره من أوصافه، نصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا كان الغرض من ذكرك أخاك ما يكره النصيحة فلا بأس.
كذلك لو كان الغرض من ذلك الظلم والتشكي، فإن ذلك لا بأس به، مثل أن يظلمك رجل وتأتي إلى رجل يستطيع أن يزيل هذه المظلمة، فتقول: فلان أخذ مالي، فلان جحد حقي، وما أشبه ذلك، فلا بأس، فإن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أبا سفيان، تقول: إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال لها الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» () فذكرت وصفاً يكرهه أبو سفيان بلا شك ولكنه من باب التظلم والتشكي، وقد قال الله تعالى في كتابه {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } يعني فله أن يجهر بالسوء من القول لإزالة مظلمته .
ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له، وصديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه أو لا؟
الظاهر أنه يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وهذا يقع كثيراً، كثيراً ما يؤذى الإنسان، ويجنى عليه بجحد مال أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول: فلان قال في كذا، يريد أن يخفف ما في قلبه من الألم والحسرة، أو يتكلم في ذلك مع أولاده، أو مع أهله، أو مع زوجته أو ما(12/36)
أشبه ذلك، هذا لا بأس به؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم.
{ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله } التقوى يكثر الأمر بها في القرآن الكريم، وكذلك في السنة، فما هي التقوى التي يكثر ورودها في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ إنها كلمة عظيمة، إنها تعني الوقاية من عذاب الله، وتكون الوقاية من عذاب الله بأمرين:
الأمر الأول: امتثال أوامر الله - عز وجل - بأن يقول القائل إذا سمع أمر الله {سمعنا وأطعنا } فإن هذا هو قول المؤمنين، قال الله تعالى: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ولا تقل: ما الفرق بين كذا وكذا؟ يعني: لماذا يأمر الله بكذا ولا يأمر بكذا، فمثلاً في لحوم الإبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحومها () ، ولهذا كان أكل لحوم الإبل ناقض للوضوء على القول الراجح من أقوال العلماء، فلا تقل: لماذا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم الإبل، ولا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم البقر؟ مع أن كل منهما يسمى بدنة، ولا تقل: لماذا تؤمر الحائض بقضاء شهر الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة، على سبيل التشكيك، ولكن قل: سمعنا وأطعنا.
الأمر الثاني: اجتناب ما نهى الله عنه، فإذا نهى الله عن شيء فقل: سمعنا وأطعنا، واجتنبنا. وتأمل قول الله - عز وجل - في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما الخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }. أي فبعد هذا التبصير والتبيين هل تنتهون أو لا؟ وهذا الاستفهام بمعنى الأمر، أي فانتهوا، ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: (انتهينا انتهينا)(12/37)
() ، فصارت التقوى تتحقق بأمرين:
الأول: امتثال أمر الله - عز وجل - دون تردد.
والثاني: اجتناب نهي الله - عز وجل - دون تردد.
يقول الله - عز وجل -: {إن الله تواب رحيم } هو الله سبحانه وتعالى رحيم وهو رحمن، وقد اجتمع الاسمان في أعظم سورة في كتاب الله، في الفاتحة، قال العلماء: إذا ذكر الرحمن وحده كما في قوله تعالى:{وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } أو ذكر الرحيم وحده كما في هذه الآية {تواب رحيم } فمعناهما واحد، يعني أن الرحيم والرحمن ذو الرحمة الواسعة الشاملة، والرحمن إذا ذكر وحده كذلك هو ذو الرحمة الواسعة الشاملة، أما إذا اجتمعا جميعاً فالرحمن باعتبار الوصف، والرحيم باعتبار الفعل، يعني أنه - عز وجل - ذو رحمة واسعة، وهو أيضاً راحم وموصل الرحمة إلى من يشاء من عباده، كما قال الله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } أسأل الله أن يعمني وجميع إخواننا المسلمين برحمته، وأن يجعلنا من دعاة الخير والإصلاح، إنه على كل شيء قدير.
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا } الخطاب هنا مصدر بنداء الناس عموماً، مع أن أول السورة وجه الخطاب فيه للذين آمنوا، وسبب ذلك أن هذا الخطاب في هذه الآية موجه لكل إنسان؛ لأنه يقع التفاخر بالأنساب من كل إنسان، فيقول - عز وجل -: {يا أيها الناس }، والخطاب للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } من ذكر هو آدم، وأنثى هي حواء، هذا هو المشهور عند علماء التفسير، وذهب بعضهم إلى أن المقصود بالذكر والأنثى هنا الجنس، يعني أن بني آدم خُلقوا من هذا الجنس من ذكر وأنثى، وفي الآية دليل على أن الإنسان يتكون من أمه وأبيه أي يخلق من الأم والأب، ولا يعارض هذا قول الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب } فإذا قلنا: إن المراد بالصلب صلب الرجل، والترائب ترائب(12/38)
المرأة فلا إشكال، وإن قلنا بالقول الراجح: إن الصلب والترائب وصفان للرجل، يعني الماء الدافق هو ماء الرجل، أما المرأة فلا يكون ماؤها دافقاً () ، وعلى هذا فيكون الإنسان مخلوقاً من ماء الرجل، لكن ماء الرجل وحده لا يكفي، بل لابد أن يتصل بالبويضة التي يفرزها رحم المرأة فيزدوج هذا بهذا، فيكون الإنسان مخلوقاً من الأمرين جميعاً، أي من أبيه وأمه، {وجعلنكم شعوباً } أي صيرناكم شعوباً {وقبآئل } فالله تعالى جعل بني آدم شعوباً وهم أصول القبائل، وقبائل وهم ما دون الشعوب، فمثلاً بنو تميم يعتبرون شعباً، وأفخاذ بني تميم المتفرعون من الأصل يسمون قبائل، {وجعلنكم شعوباً وقبآئل } هل الحكمة من هذا الجعل أن يتفاخر الناس بعضهم على بعض، فيقول هذا الرجل: أنا من قريش، وهذا يقول أنا من كذا، أنا من كذا؟ ليس هذا المراد، المراد التعارف، أن يعرف الناس بعضهم بعضاً، إذ لولا هذا الذي صيره الله - عز وجل - ما عرف الإنسان من أي قبيلة، ولهذا كان من كبائر الذنوب أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه () ، لأنه إذا انتسب إلى غير أبيه غير هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي أنهم شعوب وقبائل من أجل التعارف، فيقال: هذا فلان ابن فلان ابن فلان إلى آخر الجد الذي كان أباً للقبيلة، {لتعرفوا } أي: لا لتفاخروا بالأحساب والأنساب، {إن أكرمكم عند الله أتقكم } ليس الكرم أن يكون الإنسان من القبيلة الفلانية، أو من الشعب الفلاني، الكرم الحقيقي النافع هو الكرم عند الله، ويكون بالتقوى، فكلما كان الإنسان أتقى لله كان عند الله أكرم، فإذا أحببت أن تكون عند الله كريماً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - والتقوى كلها الخير، وكلها البركة، وكلها سعادة في الدنيا والآخرة، {ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون }. وما أكثر ما ترد على أسماعنا كلمة التقوى، وليس لفظاً يجري على الألسن ويمر بالآذان بل يجب أن يكون لفظاً(12/39)
عظيماً موقراً معظماً محترماً، ويفوت الإنسان من التقوى بقدر ما خالف فيه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإذا رأينا مثلاً إنساناً يتقدم إلى المسجد ويصلي مع الجماعة ويخشع في صلاته، ويؤديها بكل طمأنينة، وآخر بالعكس يصلي في بيته ويقتصر فيها على الواجب، فالأول أتقى، إذن فهو أكرم عند الله حتى لو كان مولى من الموالي، والآخر من أرفع الناس نسباً، فإن الأتقى لله هو الأكرم عند الله - عز وجل - وكل إنسان يحب أن يحظى عند السلطان في الدنيا، ويكون أقرب الناس إليه، فكيف لا نحب أن نكون أقرب الناس إلى الله، وأكرمهم عنده؟! المسألة هوى وشيطان، وإلا لكان الأمر واضحاً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - لتنال الكرم عند الله، {إن الله عليم خبير } بكل شيء، لأنه هنا مطلق، ولم يقيد بحال من الأحوال، {خبير } الخبرة هي العلم ببواطن الأمور، والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال، لكن العلم بالبواطن أبلغ، فيكون عليم بالظواهر، وخبير بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة، وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم، لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط، ولكن ليس عنده حذق، فإنه لا يسمى خبيراً، فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم، ثم قال الله تعالى: {قالت الأَعراب آمنا } الأعراب اسم جمع لأعرابي، والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً، فالأعراب افتخروا، فقالوا: آمنا آمنا، افتخروا بإيمانهم، فقال الله - عز وجل -: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } قيل: إن هؤلاء من المنافقين، لقول الله تعالى: {وممن حولكم من الأَعراب منافقون } والمنافق مسلم، ولكنه ليس بمؤمن، لأنه مستثنى في الظاهر، إذ إن حال المنافق أنه كالمسلمين، ولهذا لم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع علمه بنفاقهم مع أنهم مسلمون ظاهراً لا(12/40)
يخالفون، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا.
وقيل: إنهم أعراب غير منافقين، لكنهم ضعفاء الإيمان، يمشون مع الناس في ظاهر الشرع، لكن قلوبهم ضعيفة، وإيمانهم ضعيف.
وعلى القول الأول: يكون قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أنه لم يدخل أصلاً، وعلى الثاني: أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق، ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال، والقاعدة عندنا في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين، فإنها تحمل عليهما جميعاً إذا لم يتنافيا، فإن تنافيا طلب المرجح.
فالأعراب الغالب عليهم أنهم لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله، فيقولون آمنا، فقال الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم : {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ووجه ذلك أن الإسلام في القلب، وهو صعب، والإسلام علامة في الجوارح، وكل إنسان يمكن أن يعمل بجوارحه عملاً متقناً كأحسن ما يكون، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن، وأنهم يصلون، وأن الواحد من الصحابة يحقر صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، ومع ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» () نسأل الله العافية، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وهذا يدل على أن الإسلام يستطيعه كل إنسان يمكن أن يصلي ويسجد ويقرأ ويصوم ويتصدق وقلبه خالٍ من الإيمان، ولهذا قال: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وهنا التعبير يقول: {لما يدخل } ولم يقل: (ولم يدخل)، قال العلماء: إذا أتت (لما) بدل (لم) كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه، فمثلاً إذا قلت: (فلان لمّا يدخلها) أي أنه قريب منها، ومنه قوله تعالى: {بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب } أي لم يذوقوه، ولكن قريب منه، وهنا قال: (لما يدخل) أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من الدخول،(12/41)
{وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيئاً } إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل سيوفرها لكم كاملة، كما قال الله تبارك وتعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجززز إلا مثلها وهم لا يظلمون }. فكل إنسان يجزى على عمله إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن رحمة الله تعالى سبقت غضبه () {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } وقد يعاقب، وقد يعفو الله عنه، فالسيئات يمكن أن تمحى، والحسنات لا يمكن أن تنقص، ولهذا قال: {لا يلتكم من أعملكم شيئاً } أي لا ينقصكم. {إن الله غفور رحيم } ختم الآية بالمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا، قريبون من المغفرة والرحمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من دخوله.
في هذه الآية الكريمة فرق بين الإسلام والإيمان، وكذلك في حديث جبريل عليه السلام فرق بين الإسلام والإيمان، ففي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ». وفي الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» () . ففرق بين الإسلام والإيمان، وفي أدلة أخرى يجعل الله الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فهل في هذا تناقض؟
والجواب: لا، فإذا قرن الإسلام بالإيمان صارا شيئين، وإذا ذكر الإسلام وحده، أو الإيمان وحده صارا بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية كثيرة، ولهذا قال أهل السنة والجماعة: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، يعني إذا ذُكرا في سياق واحد فهما شيئان، وإذا ذُكر أحدهما دون الآخر فهما شيء واحد، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد أعمالاً هي من الإسلام، وجعلها من الإيمان فقال: «الإيمان بضع(12/42)
وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله» مع أنها من الإسلام، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله». «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وإماطة الأذى عن الطريق من الإسلام؛ لأنها عمل، والأعمال جوارح «والحياء شعبة من الإيمان» () وهذا في القلب، فالمهم الإيمان والإسلام إذا افترقا فهما شيء واحد، وإن اجتمعا فهما شيئان.
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، أي ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد: المؤمنون حقًّا الذين تم إيمانهم إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا أقروا إقراراً مستلزماً للقبول والإذعان، وليس مجرد الإقرار كافياً، بل لابد من قبول وإذعان، والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار، وذلك مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، مصدق به، يقول في لاميته المشهورة:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
ويقول عن دين الرسول:
ولقد علمت أن دين محمد خير أديان البرية دينا
لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن له، وكان آخر ما قال: إنه على الشرك على ملة عبدالمطلب () ، فالذين آمنوا بالله ورسوله، هم الذين أقروا إقراراً تامًّا بما يستحق الله عز وجل، وبما يستحق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبلوا بذلك وأذعنوا، {ثم لم يرتابوا } كلمة، {ثم} هنا في موقع من أحسن المواقع؛ لأن (ثم) تدل على الترتيب والمهلة، ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة، {لم يرتابوا }: أي لم يلحقهم شك في الإيمان بالله ورسوله.
وهنا ننبه إلى مسألة يكثر السؤال عنها في هذا الوقت - وإن كان أصلها موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام -: وهي الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، فيلقي الشيطان في قلب الإنسان أحياناً وساوس وشكوكاً في الإيمان أو في(12/43)
القرآن، أو في الرسول، يحب الإنسان أن يمزق لحمه، ويكسر عظمه ولا يتكلم بذلك، فما موقف الإنسان من هذا؟ موقف الإنسان من هذا أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي، ويعرض عن هذا، ولا يفكر فيه إطلاقاً، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان، أي خالص الإيمان، وهذا إنما كان خالص الإيمان، لأن الشيطان لا يأتي للإنسان الشاك يشككه في دينه، وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر، ليشككه في دينه، فيفسده عليه () ، فالمؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه واطمأن قلبه بالإيمان هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه، أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوساوس، لأنه منته منه، والمهم أن قوله: {ثم لم يرتابوا } يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان، ولو طالت المدة.
فإذا قال قائل: ما الطريقة التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره؟
قلنا: أولاً: أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة، ولم تكن وليدة بنفسها.
ثانياً: أن يتفكر في شريعة الله وكمالها.
ثالثاً: أن يتفكر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وما إلى ذلك.
رابعاً: أن يكثر من ذكر الله - عز وجل - فإنه بذكر الله تطمئن القلوب، ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة، لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان، كماهو مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله - .
{ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } هذا أيضاً معطوف على قوله: {آمنوا } أي هم مع إيمانهم بالله - عز وجل - ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله بالجهاد في سبيل الله، يجاهدون أعداء الله ليرجعوا إلى دين الله ويستقيموا عليه، لا للانتقام منهم، ولا للانتصار لأنفسهم، ولكن ليدخلوا في دين الله - عز وجل - والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا للانتقام، فالقتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس، أو(12/44)
أخذاً بالثأر فقط، لكن الجهاد حقيقة هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا، أما الجهاد انتصاراً للنفس، أو دفاعاً عن النفس فقط، فليس في سبيل الله، لكن لاشك أن من قاتل دفاعاً عن نفسه فإنه إن قتل فهو شهيد () ، وإن قتله صاحبه فصاحبه في النار كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيمن أراد أن يأخذ مالك قال: «لا تعطه»، قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني، قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «أنت شهيد»، قال: إن قتلته؟ قال: «فهو في النار» () ، فالجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي حده النبي عليه الصلاة والسلام وفصَّله فصلاً قاطعاً، { أولئك هم الصادقون } في إيمانهم وعدم ارتيابهم، أما الذين قالوا من الأعراب آمنا ولكنهم لم يؤمنوا حقيقة ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين، ولهذا قال الله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } .
{ قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض } هذا إنكار لقول الذين قالوا آمنا، يعني أتعلمون الله تعالى بأنكم آمنتم وهو عليم بكل شيء، وتعلمون الله بمعنى: تخبرون الله، وليس المراد أن ترفعوا جهله عن حالكم، فهو يعلم حالهم - عز وجل - ويعلم أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين، لكن تعلمون هنا بمعنى تخبرون، وليس معناه أن ترفعوا الجهل عن الله - عز وجل - لأن الله ليس جاهلاً بحالهم، بل هو عالم، {أتعلمون الله بدينكم } حينما قلتم آمنا، {والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض } ومنها أي ما في السموات وما في الأرض حالكم إن كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين، وفي هذه الآية إشارة إلى أن النطق بالنية في العبادات منكر؛ لأن الإنسان الذي يقول: أريد أن أصلي، يعلّم الله - سبحانه وتعالى - بما يريد من العمل، والله يعلم، والذي يقول: أريد أن أصوم كذلك، والذي يقول: نويت أن أتصدق كذلك، والذي يقول: نويت أن أحج كذلك أيضاً، ولهذا لا يسن(12/45)
النطق بالنية في العبادات كلها لا في الحج ولا في الصدقة، ولا في الصوم، ولا في الوضوء، ولا الصلاة، ولا في غير ذلك، لأن النية محلها القلب، والله عالم بذلك، ولا حاجة إلى أن تخبر الله بها، {والله بكل شيء عليم }، فما في السموات عام، وما في الأرض عام، فكل شيء يعلمه الله، وقد تقدم لنا الكلام مراراً على هذه الصفة من صفات الله، والتي هي من أوسع صفاته - جل وعلا - {والله بكل شيء عليم } خفي أو بين، عام أو خاص، فهو عالم به - جل وعلا -.
{ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } في هذه الآية تكررت {أن } ثلاث مرات: أي يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، وحذف الجملة مع (أن)، مطرد كما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية. {يمنون عليك أن أسلموا } أي: بأن أسلموا أي بإسلامهم، ويعني بذلك قوماً أسلموا بدون قتال فجعلوا يمنون على الرسول - عليه الصلاة والسلام - يذكرون له الفضائل ويقولون: نحن آمنا بك من دون قتال، مع أن المصلحة لهم، ولهذا قال الله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان }، وقوله: {بل الله يمن عليكم } هذا إضراب لإبطال ما سبق، أي ليس لكم منة على الرسول - عليه الصلاة والسلام - بإسلامكم، بل المنة لله - عز وجل - عليكم أن هداكم للإيمان، ولا شك أن هذا أعظم منة أن يمن الله على العبد بالهداية إلى الإيمان، مع أن الله أضل كثيراً من الأمة عنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم في النار وواحداً من الجنة () ، فمن وفق بأن واحداً في الجنة فإن هذه منة عظيمة، ولهذا كان الأنصار رضي الله عنهم حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين كلما ذكر إليهم شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «ألم أجدكم في ضلال فهداكم الله بي»، قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟» قالوا: الله ورسوله(12/46)
أمن () ، كلما ذكر شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، فالمنة لله على كل من هداه الله بنعمه، فالمنة لله - عز وجل - عليه وقوله: {إن كنتم صادقين } أي إن كنتم من ذوي الصدق القائلين بالصدق، فإن المنة لله عليكم {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } .
{ إن الله يعلم غيب السماوات والأَرض والله بصير بما تعملون }. أخبر الله في هذه الآية أنه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض، وما ظهر فهو من باب أولى، وأخبر - عز وجل - أن من جملة ما يعلمه عمل بني آدم، ولهذا قال: {والله بصير بما تعملون }، وهذه الآية تفيد مسألة عظيمة في سلوك الإنسان وعمله، وهي أن يعلم بأن الله تعالى بصير بعمله محيط به، فيخشى الله ويتقيه، وفيها الترغيب في الأعمال الصالحة فإنها لن تضيع، وفيها الترهيب من العمل السيىء؛ لأن العبد سيجازى عليه؛ لأن الكل معلوم عند الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية والتوفيق.
------------------------------------------
( 1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914) ومسلم، كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين (1082) .
( 2) أخرجه البخاري معلقاً، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا».
( 3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607) والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) وابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
( 4) أخرجه مسلم كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718/18).
( 5) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (رقم 2622).
( 6) عزاه السيوطي في الدر المنثور (8/69 - 70) إلى سعيد بن منصور والبخاري تعليقاً وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه، وابن المنذر وابن مردويه(12/47)
والبيهقي في سننه .
وأخرج البخاري الجزء الأول من قولها في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً}. والبيهقي في سننه الكبرى (7/382).
( 7) أخرجه الإمام أحمد (3/137) والحاكم في المستدرك (2343) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأصل القصة في صحيح مسلم.
( 8) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564).
( 9) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599).
( 10) أخرجه الإمام أحمد (3/488) (6/393 - 394) وانظر تفسير السيوطي الدر المنثور (7/552 - 554).
( 11) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى (5893)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (259).
( 12) أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342).
( 13) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة (1044).
( 14) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة (6056) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169).
( 15) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله (216) ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292).
( 16) انظر تفسير ابن كثير (سورة الحجرات).
( 17) أخرجه أبو داود، كتاب شهر رمضان، باب في قيام شهر رمضان (1375) والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان (806) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب قيام شهر رمضان (1327).
( 18) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (5063) ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه... (1401).
( 19) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر (1976) ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي(12/48)
عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًّا... (1159).
( 20-) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان... (233) (16).
( 21) أخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس... (2812).
( 22) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1827).
( 23) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (64).
( 24) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (67).
( 25) أخرجه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (2246) (5).
( 26) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {وما يهلكنا إلا الدهر} الآية (4826) ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (2246).
( 27) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب رقم 53 (2505) وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. وقال الألباني في ضعيف الجامع: موضوع (5710).
( 28) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب رقم 54 (2506) وقال: هذا حديث حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6245).
( 29) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (90).
( 30) تقدم تخريجه ص (38).
( 31) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة (2447) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2579).
( 32) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (رقم 293)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (6786) والخطيب البغدادي في تاريخه (7/303).
( 33) أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى... (رقم 2941).
( 34) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة (6308) ومسلم، كتاب التوبة،(12/49)
باب في الحض على التوبة والفرح بها (2744).
( 35) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس (4860) والترمذي، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3896) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
( 36) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والاداب، باب تحريم الغيبة (2589).
( 37) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها (1480).
( 38) أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه (5364). ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند (1714).
( 39) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل (360).
( 40) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة (رقم 3049)، والإمام أحمد (2/351).
( 41) انظر تفسير جزء عم لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى.
( 42) أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (2609 - 2611). وأخرجه البخاري بلفظ: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام»، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4326، 4327) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم (61 - 63).
( 43) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً} (رقم 3344) ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (رقم 1064).
( 44) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} (7404) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2751).
( 45) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان (50) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه (8).
( 46) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (9)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (35)(12/50)
(58).
( 47) أخرجه البخاري، كتاب التفسير باب {إنك لا تهدي من أحببت}، (رقم 4772)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (رقم 24).
( 48) أخرجه الطبراني في الأوسط (7481) وأبو يعلى في المسند (5964) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1656) (1657).
( 49) أخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم (141).
( 50) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص (4771، 4772)، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1420، 1421).
( 51) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (222).
( 52) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (رقم 4330) ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه (رقم 1061).(12/51)
تفسير سورة (ق)
{ بسم الله الرحمن الرحيم}، البسملة سبق الكلام عليها، وأنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة إلا سورة براءة، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكتبوا أمامها بسملة، ولكن جعلوا فاصلاً بينها وبين آخر سورة الأنفال، وليس هناك ذكر يذكر بدلاً عن البسملة، كما يوجد في هامش بعض المصاحف، حيث كتب: (أعوذ بالله من النار، ومن كيد الفجار، ومن غضب الجبار، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين)، ولا شك أن هذا كلام بدعي لا أصل له .
{ ق والقرءان المجيد } (ق) حرف من الحروف الهجائية التي يتركب منها الكلام العربي، وهي كسائر الحروف، ليس لها معنى في حد ذاتها، ومن المعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي، وإذا كانت هذه الحروف ليس لها معنى باللسان العربي، فهي كذلك ليس لها معنى في كتاب الله - عز وجل - من حيث المعنى الذاتي لها، وأما بالنسبة للمغزى العظيم الكبير، فلها مغزى عظيم كبير، ألا وهو أن هذا القرآن الذي أعجز العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم لم يأت بشيء جديد من حروف لم يعرفونها، بل هو بالحروف التي يعرفونها، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثله، فدل ذلك على أنه من كلام العزيز الحميد - جل وعلا - ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدأت بالحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن () .
{ والقرءان المجيد } الواو هنا حرف قسم. أقسم الله تعالى بالقرآن، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء، وإقسامه هنا بالقرآن إقسام بكلامه، وكلام الله تعالى من صفاته، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أنه يجوز الإقسام بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وأما آياته فلا يُقسم بها إلا إذا قصد الإنسان بالآيات كلماته، كالقرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، وما أشبه ذلك، وأما الآيات الكونية كالشمس والقمر فلا يجوز لنا أن نقسم بها، أما الله - عز وجل - فله أن يقسم بما شاء، والقرآن مأخوذ من قرأ إذا تلي، أو من قرأ إذا جمع، ومنه قرية؛ لأن الناس يجتمعون فيها، والقرآن يتضمن(13/1)
المعنيين، فهو متلو وهو مجموع أيضاً، {المجيد } أي ذي المجد، وهو العظمة والسلطان المطلق، فالقرآن له عظمة عظيمة، مهيمن مسيطر على جميع الكتب السابقة، حاكم عليها، ليس محكوماً عليه، وهو أيضاً مجيد، به يمجد ويعلو ويظهر من تمسك به، وهذا كقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ } () .
{ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } هنا لا يتراءى للإنسان التالي جواب القسم، فاختلف العلماء - رحمهم الله - في مثل ذلك: هل له جواب، أو جوابه يعرف من السياق، أو يعرف من المقسم به؟ وأظهر ما يكون أن نقول: إن مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب القسم، لأنه معروف من عظمة المقسم عليه، فكأنه أقسم بالقرآن على صحة القرآن، فالقرآن المجيد لكونه مجيداً كان دليلاً على الحق، وأنه منزل من عند الله - عز وجل - وحينئذ لا يحتاج القسم إلى جواب؛ لأن الجواب في ضمن القسم: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } عجبوا: الواو تعود على المكذبين للرسول - عليه الصلاة والسلام - الذين كذبوا رسالته، وكذبوا بالقرآن، وكذبوا بالبعث، وكذبوا باليوم الآخر، ولهذا {عجبوا أن جاءهم منذر منهم } عجبوا عجب استغراب واستنكار، وإنما قلنا ذلك لأن العجب تارة يُراد به الاستنكار والتكذيب، وتارة يراد به الاستحسان، فقول عائشة - رضي الله عنها -: «كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» () . والمراد بالعجب هنا الاستحسان، وقوله هنا: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } المراد به الاستنكار والتكذيب، {أن جاءهم منذر منهم } أي: ليس بعيداً عنهم بل هو منهم نسباً وحسباً ومسكناً، يعرفونه، ومع ذلك قالوا هذا شيء عجيب {أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد } لما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الله سوف يبعثهم، وسوف يجازيهم، ويحاسبهم تعجبوا كيف هذا؟ أيحيى الإنسان بعد أن كان(13/2)
رفاتاً، قال الكافرون: {هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا تراباً } إذا من المعروف أنها ظرفية، وكل ظرف يحتاج إلى عامل، والعامل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير [{أءذا متنا وكنا تراباً } نرجع ونبعث] ثم قال: {ذلك رجع بعيد } ولهذا يحسن عند التلاوة أن تقف على قوله: {أءذا متنا وكنا تراباً } لأن قوله: {ذلك رجع بعيد } جملة استئنافية لا علاقة لها من حيث الإعراب بما قبلها، والاستفهام هنا بمعنى الإنكار والتكذيب، كأنهم يقولون: لا يمكن أن نرجع ونبعث بعد أن كنا تراباً وعظاماً، ولكن بين الله - عز وجل - أنه قادر على ذلك، فلما قالوا: {ذلك رجع بعيد } ومرادهم بالبعد هنا الاستحالة، فهم يرون أن ذلك مستحيل، وربما تلطف بعضهم وقال: {ذلك رجع بعيد } فهم تارة ينكرون إنكاراً مطلقاً، ويقولون هذا محال، وتارة يقولون: هذا بعيد، قال الله تعالى مبيناً قدرته على ذلك: {قد علمنا ما تنقص الأَرض منهم } الأرض تأكل الإنسان إذا مات، فالله تعالى يعلم ما تنقص الأرض من أجزاء بدنه ذرة بعد ذرة، ولو أكلته الأرض، وقوله: {ما تنقص الأَرض منهم } قد يفيد أنها لا تأكل كل الجسم وفي ذلك تفصيل، أما الأنبياء فإن الأرض لا تأكلهم مهما داموا في قبورهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» () وأما غيرهم فقد يبقى الجسم مدة طويلة لا تأكله الأرض إلى ما شاء الله، وقد تأكله الأرض، لكن إذا أكلته الأرض فإنه يبقى عجب الذنب، وعجب الذنب هو عبارة عن الجزء اليسير من العظم بأسفل الظهر، هذا يبقى بإذن الله لا تأكله الأرض كأنه يكون نواة للجسم عند بعثه يوم القيامة، فإنه منه يخلق الآدمي في قبره، فإذا تم النفخ في الصور قاموا من قبورهم لله - عز وجل - وإذا كان الله تعالى عالم بما نقصت الأرض منهم فهو قادر على أن يرد هذا الذي نقصته الأرض عند البعث، {وعندنا } أي عند الله تعالى {كتاب حفيظ }، أي: حافظ لكل شيء، قال الله(13/3)
تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحفظين كراماً كتبين يعلمون ما تفعلون }. قال تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم } بل هنا للإضراب الانتقالي، وليست للإضراب الإبطالي؛ لأن الأول ثابت والثاني زائد عليه، وهذا هو الفرق بين (بل) التي للإضراب الإبطالي، وبين (بل) التي للإضراب الانتقالي، فصارت بل للإضراب دائمة لكن إن كانت تبطل الأول سموها إضراب إبطال، وإن كانت لا تبطله فهو إضراب انتقالي، كأنه انتقل من موضوع إلى آخر {بل كذبوا بالحق لما جاءهم } ولكن قلوبهم موقنة إلا أن ألسنتهم تكذب، كما قال الله تعالى عن آل فرعون: {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلماً وعلواً } {لما جاءهم } لما هنا بمعنى حين، فهي ظرف وليست حرفاً، {فهم في أمر مريج } الفاء هنا للتعقيب والسببية، والمعنى فهم لما كذبوا بالحق في أمر مريج، أي: مختلط اختلط عليهم الأمر - والعياذ بالله - وهو كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } يعني لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة وظلوا في طغيانهم يعمهون، هؤلاء لما كذبوا صاروا في أمر مريج، التبس عليهم الأمر، وترددوا في أمرهم، وهكذا كل إنسان يرد الحق أول مرة، فليعلم أنه سيبتلى بالشك والريب في قبول الحق في المستقبل، ولهذا يجب علينا من حين أن نسمع أن هذا الشيء حق أن نقول: سمعنا وأطعنا، خلافاً لبعض الناس الآن، تقول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا؟ فيقول: الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ سبحان الله، افعل ما أمرك به سواء على الوجوب أو على الاستحباب، لأن معنى قوله: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ معناه إذا كان للاستحباب فأنا في حل منه، وإذا كان للوجوب فعلته، وهذا خطأ، ولكن قل: سمعنا وأطعنا، ثم إذا وقعت المخالفة فحينئذ ربما يكون السؤال عنه: هل هو واجب أو مستحب؟ ربما يكون وجيهاً، أما قبل فلا.
قد يقول قائل: أنا أسأل هل هو واجب أو مستحب؟ لأن هناك فرقاً بين الواجب والمستحب، والواجب أحب إلى(13/4)
الله، فأنا أفعله من أجل إذا اعتقدت أنه واجب أُثاب عليه ثواب واجب، وإذا اعتقدت أنه سنة أُثاب عليه ثواب سنة.
قلنا: نعم، هذا طيب، لكن ثواب انقيادك للحق لأول مرة وبكل سهولة وبدون سؤال أفضل من كونك تعتقده واجباً أو مستحبًّا، وإذا كان الله قد أوجبه عليك أثابك ثواب الواجب، وإن كنت لا تدري، فالانقياد وتمام الانقياد أفضل بكثير من كون أعتقد هذا واجباً أو مستحبّاً.
ثم قال: {أفلم ينظروا إلى السماء } استدل بالآيات الكونية على صحة الآيات الشرعية.
والاستفهام هنا للتوبيخ، يوبخهم - عز وجل - لماذا لم ينظروا إلى هذا؟ لماذا لم ينظروا إلى السماء وما فيها من عجائب القدرة الدالة على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون، وقوله: {أفلم ينظروا إلى السماء } يشمل نظر البصر، ونظر البصيرة، نظر البصر يكون بالعين، ونظر البصيرة يكون بالقلب، أي: التفكر، وقوله: {إلى السماء فوقهم كيف بنينها } قد يقول قائل: إن كلمة: {فوقهم } لا فائدة منها، لأن السماء معروفة أنها فوق، ولكن نقول: إن النص على كونها فوقهم إشارة إلى عظمة هذه السماء، وأنها مع علوها وارتفاعها وسعتها وعظمتها تدل على كمال خلقه وقدرته - جل وعلا - {كيف بنينها } بناها الله - عز وجل - بقوة وجعلها قوية، فقال - جل وعلا -:{وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } أي قوية، وقال تعالى: {والسماء بنينها بأيد } أي بقوة، وهذا البناء لا نعلم كيف بناها الله - عز وجل - لكننا نعلم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، خلق الأرض في أربعة، والسماء في يومين، كما قال الله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات في يومين } وقوله: {وزينها } أي حسنَّا منظرها، بما خلق الله تعالى فيها من النجوم العظيمة المنيرة المنتظمة في سيرها، وهذه النجوم قال قتادة - رحمه الله - وهو من أئمة التابعين: «خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، وعلامات يُهتدى بها، ورجوماً للشياطين، فمن ابتغى فيها(13/5)
شيئاً سوى ذلك فقد أضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به» () يشير إلى ما ينتحله المنجمون من الاستدلال بحركات هذه النجوم على الحوادث الأرضية، حتى إنهم يبنون سعادة الشخص وشقاءه على هذه النجوم، مثلاً يقولون: إذا ولد في النجم الفلاني فهو سعيد، وإذا ولد في النجم الفلاني فهو شقي، وهذا لا أثر لها، أعني تحركات النجوم في السماء، ليس لها أثر فيما يحدث في الأرض، ثم قال تعالى: {وما لها من فروج } يعني ليس للسماء من فروج، أي من فطور وتشقق، بل مبنية محكمة قوية.
{ والأَرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } هذه ثلاثة أمور، أولاً: الأرض مدها الله - عز وجل - مع أنها بالنسبة للسماء صغيرة جداً، لكنها ممدودة للخلق، مسطحة لهم كما قال تعالى:{وإلى الأَرض كيف سطحت }
ثانياً: {وألقينا فيها روسى } أي جبال ثابتات لا تزعزعها الرياح فهي قاسية، وكذلك أيضاً ترسي الأرض.
ثالثاً: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } أي من كل زوج سار لناظره، والمراد بالزوج هنا الصنف، يعني أن ما ينبت في الأرض أصناف متعددة متنوعة حتى إنك ترى البقعة من الأرض وهي صغيرة تشتمل على أنواع من هذه الأصناف، تختلف في ألوانها، وتختلف في أحجامها، وتختلف في ملمسها ما بين شديدة ولينة إلى غير ذلك من الاختلافات العظيمة، بل إنها تختلف في مذاقها إذا كانت من ذوات الثمر، كما قال تعالى: {ونفضل بعضها على بعض في الأُكل } فمن القادر على أن يخلق هذه الأشياء؟ هو الله سبحانه وتعالى، وهذه التي {فيها من كل زوج بهيج } مع أنها في مكان واحد وتسقى بماء واحد، والأرض أيضاً واحدة، من يقدر على هذا؟ الجواب: هو الله - عزوجل - إنك تأتي الأرض المعشبة التي أنبت الله تعالى فيها من أصناف النبات، فتتعجب ترى هذه مثلاً زهرتها صفراء، وهذه بيضاء، وهذه بنفسجية، وهذه منفتحة، وهذه منضمة إلى غير ذلك من الآيات العظيمة، فهذا أكبر دليل على أن الله قادر على إحياء الموتى(13/6)
الذي أنكره هؤلاء المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: {أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد } فالقادر على خلق هذه المخلوقات العظيمة قادر على إحياء الموتى، ثم يقال: من الذي خلق الإنسان؟ هو الله، وإعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى:{وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } فإذا كنتم أيها المشركون تقرون بأن الله هو الخالق، وأنه هو الذي خلقكم وأوجدكم، فلماذا تنكرون أن يعيدكم مع أن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
{ تبصرةً وذكرى لكل عبد منيب } يعني أن الله تعالى حثنا على أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض، وما يحدث فيهما تبصرة، أي لأجل التبصرة والذكرى، قال العلماء: والفرق بين التبصرة والذكرى أن التبصرة مستمرة، والذكرى عند النسيان، فهذه الآيات تذكرك إذا نسيت، وتبصرك إذا جهلت، وقد يقال: إن الفرق بينهما أن التبصرة في مقابل الجهل، والذكرى في مقابل النسيان، وكلا القولان حق، المهم أنك إذا نظرت إلى السماء وإلى الأرض وما فيهما مما أودعه الله - عز وجل - من النبات فإنك سوف تبصر بقلبك، وتذكر أيضاً إذا نسيت، ولكن لمن هذه التبصرة والذكرى {لكل عبد منيب }، ليست لكل إنسان، ما أكثر ما ينظر الكفار في الآيات، ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، إنما الذي ينتفع بها هم كل عبد منيب، أي: رجاع إلى الله - عز وجل -.
{ ونزلنا من السماء ماءً مبركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد }. يقول - جل وعلا -: {ونزلنا }، لأن المطر ينزل شيئاً فشيئاً، وربما يعبر عنه بأنزل لأنه تجيء به الأودية والشعاب، وقوله: {من السماء } أي من العلو، لأن هذا المطر ينزل من السحاب وليس من السماء التي هي السقف المحفوظ، بدليل قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأَرض }، إذن هو ينزل من العلو، والحكمة في إنزاله من العلو ليشمل قمم الجبال ومراتع الإبل،والسهل والأودية، لأنه لو جاء يمشي سيحاً من الأرض ما وصل(13/7)
إلى قمم الجبال، ولكن الله - عز وجل - جعله من فوق، وقوله: {ماءً مبركاً } من بركته أنه يُنبت به{جنات وحب الحصيد } ، الجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار، وسميت البساتين الكثيرة الأشجار جنات، لأنها تُجن أي تستر ما تحتها، وكل بستان ذو شجر ملتف بعضه إلى بعض يسمى جنة، وأما قوله: {وحب الحصيد } يعني به الزروع التي تحصد، فذكر الله هنا الأشجار والزروع، فمن الأشجار تجد الثمار، ومن الزروع تحصد الحبوب، {والنخل باسقات لها طلع نضيد } خص الله النخل لأنها أشرف الأشجار، ولهذا شبه بها المؤمن حيث قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن من الشجر شجراً مثلها مثل المؤمن» قال ابن عمر - رضي الله عنهما - فذهب الناس يخوضون في شجر البوادي، كل يقول: هي الشجرة الفلانية، يقول ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة، لكني كنت أصغر القوم - يعني فاستحيا أن يتكلم وهو أصغرهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هي النخلة» () وهي الشجرة المذكورة في قول الله تعالى: {ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } فلهذا خصها هنا بالذكر فقال: {والنخل باسقات } أي عاليات {لها طلع نضيد } أي منضود، فالطلع في شماريخه تجده منضوداً من أحسن ما يكون النضد، ومع ذلك تجد هذه الثمرات تسقى بالشمراخ الدقيق اللين مع أنه قد يكون فيه أحياناً أكثر من ثلاثين حبة. {رزقاً للعباد } أي فعلنا ذلك، أنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات. فعلنا ذلك رزقاً للعباد أي عطاءً وفضلاً للعباد، والعباد هنا يشمل العباد المؤمنين والعباد الكافرين؛ لأن الكافر عبد لله كما قال الله تعالى: {إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً }. والمراد هنا العبودية الكونية القدرية، أما العبودية الشرعية فلا يكون عبداً لله إلا من كان ممتثلاً لأمره، مجتنباً لنهيه، مصدقاً بخبره، {وأحيينا به بلدةً ميتاً } أحيينا بالماء(13/8)
الذي ننزله من السماء بلدة ميتة، {بلدةً } لما كانت مؤنثة اللفظ، مذكرة المعنى، صح أن توصف بوصف مذكر،{بلدةً ميتاً } أي بلد ميت، أحياه بهذا الماء الذي نزل من السماء، تجد الأرض هامدة خاشعة ليس فيها نبات، فإذا أنزل الله المطر عجت بالنبات واخضرت وازدهرت، فهذه حياة بعد الموت {كذلك الخروج } أي مثل ذلك الإحياء {الخروج }، خروج الناس من قبورهم لله - عز وجل - وإنما ذكر الله تعالى الخروج لأن من عباد الله من أنكر ذلك {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } وحجتهم أنهم قالوا من يحيي العظام وهي رميم؟ من يحيي العظام بعد أن أرمت وصارت تراباً؟ هذا مستنكر عندهم بعيد، ولكن الله سبحانه وتعالى بين أنه ليس ببعيد، وأنهم كما يشاهدون الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا، إذن فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها بنزول المطر قادر على إحياء الأموات بعد موتهم، وهذا قياس جلي واضح، كذلك الخروج.
{ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخون لوط وأصحاب الأَيكة وقوم تبع} ذكر الله هؤلاء المكذبين لفائدتين:
الفائدة الأولى: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس أول رسول كُذِّب، بل قد كُذِّبت الرسل من قبل، كما قال الله تعالى:{ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } . قيل: إنه شاعر، قيل: إنه مجنون، قيل: إنه كاهن. وقد قال الله تعالى: {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون }، هذه فائدة لذكر قصص الأمم السابقة، وهي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإنسان إذا رأى غيره قد أصيب بمثل مصيبته يتسلى بلا شك، وتهون عليه المصيبة.
الفائدة الثانية: التحذير لمكذبي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال في آخر ما ذكر {كل كذب الرسل فحق وعيد } فحق عليهم وعيد الله بالعذاب، وقد قال عز وجل:{فكلا أخذنا بذنبه } يعني كل واحد من هذه الأمم جوزي بمثل ذنبه فعوقب بمثل ذنبه، {كذبت قبلهم قوم نوح }، وقد لبث فيهم ألف سنة(13/9)
إلا خمسين عاماً، يعني تسعمائة وخمسين سنة، وهو يدعوهم إلى الله - عز وجل - ولكن لم يستفيدوا من ذلك شيئاً، كلما دعاهم ليغفر لهم {جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم } تغطوا{وأصروا واستكبروا استكباراً }. وبقي فيهم هذه المدة، وقد قال الله تعالى في النهاية: {ومآ آمن معه إلا قليل }. {وأصحاب الرس } قوم جاءهم نبيهم ولكنهم قتلوه بالرس، وهو البئر، أي حفروا بئراً ودفنوه، هذا قول، والقول الثاني: أصحاب الرس،أي أنهم قومٌ حول ماءٍ وليسوا بالكثرة الكافية، ومع هذا كذبوا رسولهم {وثمود } وهم قوم صالح في بلاد الحجر المعروفة، كذبوا صالحاً وقالوا: {ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين }. وهذا تحدٌّ، فأرسل الله عليهم صيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين {وعاد } كذلك أيضاً عاد أرسل الله إليهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله - عز وجل - بالريح العقيم {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } وكانوا يفتخرون بقوتهم ويقولون: {من أشد منا قوةً }. فأراهم الله - عز وجل - قوته وأهلكهم بالريح اللطيفة التي لا يرى لها جسم، ومع ذلك دمرتهم تدميراً، {وفرعون } الذي أرسل الله إليه نبيه موسى عليه السلام، وفرعون كان معروفاً بالجبروت والعناد والاستكبار، حتى إنه استخف قومه وقال لهم إنه رب {فقال أنا ربكم الأَعلى } فأطاعوه فجاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، لكنهم كذبوا، وأراهم الله تعالى آية كانوا يفتخرون بما يضاد ما جاء به موسى وهو السحر، فجمعوا لموسى عليه الصلاة والسلام كل السحرة في مصر، واجتمعوا وألقوا الحبال والعصي، وألقوا عليها السحر فصار الناس يشاهدون هذه الحبال والعصي وكأنها حيات وثعابين، ورهب الناس كما قال الله تعالى: {واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم }. حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة؛ لأنه شاهد أن كل الجو حوله ثعابين تريد أن تلتهم ما تقابله، فأوحى الله إلى موسى أن ألقِ عصاك، فألقى العصا(13/10)
فالتهمت جميع هذه الحيات، وهذا من آيات الله، إذ إن الحية كما هو معروف ليست بذات الكبر لكي تأكل هذا، وكان هذا يذهب بخاراً، إذا أكلت هذه الحبال والعصي، فالسحرة رأوا أمراً أدهشهم ولم يملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا مع ذلك إيماناً تامًّا {وألقى السحرة ساجدين }، وتأمل قوله تعالى: {وألقى السحرة ساجدين } ولم يقل سجدوا، كأن شيئاً اضطرهم إلى السجود، كأنهم سجدوا بغير اختيار لقوة ما رأوا من الآية العظيمة، ومع هذه الآية البينة الواضحة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام لم يؤمن فرعون بل قال: {إن هؤلآء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون }، فهمّ بأن يهجم على موسى ومن معه من المؤمنين، فأمر الله موسى أن يخرج من مصر إلى جهة المشرق نحو البحر الأحمر، فامتثل أمر الله، وخرج من مصر إلى هذه الناحية، فتبعهم فرعون بجنوده على حنق، يريد أن يقضي على موسى وقومه، فلما وصلوا إلى البحر قال قوم موسى له: {إنا لمدركون }. {قال كلا } يعني لن ندرك {إن معى ربي سيهدين } فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر، البحر الذي عرضه مسافات طويلة فضرب البحر فانفلق البحر اثني عشر طريقاً، وصارت قطع الماء كأنها جبال، وصارت هذه الطرق التي كانت رياً من الماء، وطيناً زلقاً، صارت طريقاً يبساً بإذن الله في لحظة، فدخل موسى وقومه عابرين من أفريقيا إلى آسيا من طريق البحر، فلما تكاملوا داخلين وخارجين للناحية الشرقية دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا للدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم، فلما أدرك فرعون الغرق أعلن فقال: {آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به }. وتأمل أنه لم يقل: آمنت بالله، بل قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، لماذا؟ إذلالاً لنفسه، حيث كان ينكر على بني إسرائيل ويهاجمهم، فأصبح عند الموت يقر بأنه تبع لهم، وأنه يمشي خلفهم، ولكن ماذا قيل له: {ءالئن } تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنك من المسلمين {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين }. فلم(13/11)
تقبل توبته، لأنه لم يتب إلا حين حضره الموت، والتوبة بعد حضور الموت لا تنفع، كما قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن } لا تنفع التوبة إذا حضر الموت، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة قبل الموت، ولكن الله قال: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءايةً }. ننجيك ببدنك لا بروحك، الروح فارقت البدن، لكن البدن بقي طافياً على الماء.وبيَّن الله الحكمة {لتكون لمن خلفك ءايةً } لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون فلو لم يتبين لهم أنه غرق بنفسه لكانت أوهامهم تذهب كل مذهب، لعله لم يغرق، لعله يخرج إلينا من ناحية أخرى، فأقر الله أعين بني إسرائيل بأن شاهدوا جسمه غارقاً في الماء، {لتكون لمن خلفك ءايةً } .
{ وإخون لوط } إخوان لوط يعني قوم لوط، أرسل إليهم لوط عليه الصلاة والسلام، لأنهم كانوا - والعياذ بالله - يأتون الذكران، ويدعون النساء، أي أن الواحد يجامع الذكر ويدع النساء، كما قال لهم عليه الصلاة والسلام: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون }. دعاهم إلى الله - عز وجل - وأنذرهم وخوَّفهم من هذا الفعل الرذيل، ولكنهم أصروا عليه، فأرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة، يعني معلَّمة، كل حجارة عليها علم، يعني علامة على من تنزل عليه وتصعقه، وهذه الخصلة الرذيلة من أقبح الخصال، ولهذا كان حدها في الشريعة الإسلامية القتل بكل حال، يعني أنها أعظم من الزنا، فإذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرَّب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم حتى يموت، أما اللواط فإن حده القتل بكل حال، يعني لو تلوط شخص بالغ بآخر بالغ باختيار منهما فإنه يجب أن يقتل الفاعل والمفعول به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» () . قال(13/12)
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن الصحابة أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا كيف يُقتل؟ فقال بعضهم: إنه يحرق بالنار لعظم جرمه، والعياذ بالله، وقال آخرون: إنه يرجم بالحجارة، وقال آخرون: إنه يلقى من أعلى مكان في البلد ويتبع بالحجارة، والشاهد أن ابن تيمية رحمه الله نقل إجماع الصحابة على قتله، وإجماع الصحابة حجة فيكون مؤيداً للحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ولأن هذه الفاحشة الكبرى - والعياذ بالله - فاحشة مفسدة للمجتمع، لأنه يصبح المجتمع الرجالي مجتمعاً نسائياً، وهو أيضاً لا يمكن التحرز منه، فالزنا يمكن التحرز منه إذا رؤيت امرأة مع رجل في محل ريبة فإنه يمكن مناقشتهما، لكن إذا رؤي ذكر مع ذكر كيف يمكن أن نناقشهما، والأصل أن الرجل مع الرجل يجتمع ولا يتفرق، لهذا كان القول بوجوب قتلهما هو الحق، أما قوم لوط فإن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجين، مسومة فدمرهم تدميراً، حتى جعل عالي قريتهم سافلها.
{ وأصحاب الأَيكة }، يعني الشجرة، أرسل الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى الله وذكَّرهم به، وحذَّرهم من بخس المكيال والميزان، ولكنهم - والعياذ بالله - بقوا على كفرهم وعنادهم {فأخذهم عذاب يوم الظلة } وهذا العذاب يقال: إن الله تعالى أرسل إليهم حرًّا شديداً ولم يجدوا مفرًّا منه إلا أنه أرسلت غمامة واسعة باردة فصاروا يتدافعون إلى ظلها، يتظللون بها، فأنزل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، وفي هذا يقول تعالى: {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم }. {وقوم تبع } أيضاً ممن كذبوا الرسل وهم أصحاب تُبّع، وهو ملك من ملوك اليمن أرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه ولم ينقادوا له، فيقول - عز وجل -: {كل كذب الرسل فحق وعيد } أي أن هؤلاء الأمم الذين أشار الله تعالى إلى قصصهم كلهم كذبوا الرسل، فحق عليهم وعد الله - والعياذ بالله - بعذابه وانتقامه.
{ أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في(13/13)
لبس من خلق جديد } الاستفهام هنا للنفي، وعيينا هنا بمعنى تعبنا، والخلق الأول هو ابتداء الخلائق يعني هل نحن عجزنا عن ابتداء الخلائق حتى نعجز عن إعادة الخلائق؟! من المعلوم أن الجواب: لا، كما قال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن }. أي لم يتعب بذلك، فإذا كان الله - جل وعلا - لم يتعب بالخلق الأول فإن إعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } وهذا استدلال عقلي يراد به إقناع هؤلاء الجاحدين لإعادة الخلق، فإن الذين كفروا زعموا أن لن يبعثوا وأنه لا بعث، وأنكروا هذا واستدلوا لذلك بدليل واهٍ جدًّا، فقالوا فيما حكاه الله عنهم: {من يحي العظام وهي رميم } فقال الله تعالى: {قل يحييها الذذذ أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم }. ثم ساق الأدلة العقلية الدالة على أن الله تعالى قادر على أن يحيي العظام وهي رميم، قال تعالى: {بل هم في لبس من خلق جديد } أي هم مقرون بأننا لم نعِ بالخلق الأول، وأنا أوجدناه لكن هم في لبس من خلق جديد، ولهذا حصل الإضراب هنا، حيث قال: {بل هم } يعني أن هذا عجبٌ من حالهم كيف يقرون بأول الخلق ثم ينكرون البعث بعد الموت، بل هم{في لبس } أي في شك وتردد {من خلق جديد } وهو إعادة الخلق. والقادر على ابتداء الخلق يكون قادراً على إعادته من باب أولى، وهذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسان أن يفر منه، ثم قال - عز وجل - مستدلاًّ على قدرته على البعث: {ولقد خلقنا الإنسان } يعني ابتدأنا خلقه وأوجدناه وجعلنا له عقلاً وسمعاً وبصراً وتفكيراً وحديثاً للنفس، {ونعلم ما توسوس به نفسه } يعني ونحن نعلم ما توسوس به نفسه، أي ما تحدثه به نفسه، دون أن ينطق به، فالله تعالى عالم به، بل إن الله عالم بما سيحدث به نفسه في المستقبل، والإنسان نفسه لا يعلم ما يُحدث به نفسه في المستقبل، والله يعلم ما توسوس به نفسك غداً وبعد غدٍ، وإلى أن تموت وأنت لا تعلم(13/14)
وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن لا نحدث أنفسنا بما يُغضبه وبما يكره. فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه، لأنه يعلم ذلك، أفلا يليق بنا أن نستحيا من ربنا - عز وجل - أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه؟!: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }، حبل الوريد هو الأوداج، وهما العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم، يسمى الوريد، ويسمى الودج، وجمعه أوداج، ويضرب المثل بهما في القرب، أقرب شيء إلى قلبك هو حبل الوريد، هذا أقرب إلى المخ، وأقرب من كل شيء فيه الحياة هما الوريدان . واختلف المفسرون في قوله: {ونحن أقرب إليه } هل المراد قرب ذاته - جل وعلا - أو المراد قرب ملائكته؟.
والصحيح أن المراد قرب ملائكته . ووجه ذلك أن قرب الله تعالى صفة عالية لا يليق أن تكون شاملة لكل إنسان، لأننا لو قلنا: إن المراد قرب ذات الله لكان قريباً من الكافر وقريباً من المؤمن. لأنه قال: {خلقنا الإنسان }، أي إنسان المؤمن والكافر {ونحن أقرب إليه } أي إلى هذا الإنسان الذي خلقناه من حبل الوريد، فإذا قلنا الآية الشاملة، وقلنا أن القرب هنا القرب الذاتي صار الله قريباً بذاته من الكافر، وهذا غير لائق، بل الكافر عدو لله - عز وجل - لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة، أي أقرب إليه بملائكتنا، ثم استدل لقوله بقوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان } فإذ بمعنى حين، وهي متعلقة بالقرب، أي أقرب إليه في هذا الحال حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد.
فإن قال قائل: كيف يضيف الله القرب المسند إليه والمراد به الملائكة ألهذا نظير؟.
قلنا: نعم، له نظير. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه } قرأناه المراد بذلك جبريل، ونسب الله فعل جبريل إلى نفسه؛ لأنه(13/15)
رسوله، كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه لأنهم رسله، كما قال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }. وما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الصواب.
فإن قال قائل: وهل الله تعالى قريب من المؤمن على كل حال؟.
قلنا: بل في بعض الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» () . فهذا قربٌ في حال الدعاء، مصداق ذلك قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون }. كذلك هو قريب من المؤمن في حال السجود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» () . وعلى هذا فيكون المؤمن قريباً من الله تعالى حال عبادته لربه، وحال دعائه لربه، أما القرب العام فإن المراد به القرب بالملائكة على القول الراجح.
وقوله: {إذ يتلقى المتلقيان } هما ملكان بين الله مكانهما من العبد، فقال: {عن اليمين وعن الشمال قعيد }، ولم يقل على اليمين وعلى الشمال، لأنهما ليسا على كتفيه، بل هما في مكان قريب، أقرب من حبل الوريد، ولكن قد يقول قائل ملحد: أنا ألتمس حولي لا ألمس أحداً، أين القعيد؟ فنقول: هذا من علم الغيب الذي لا تدركه عقولنا، وعلينا أن نصدق به ونؤمن به، كما لو لمسناه بأيدينا، أو شاهدناه بأعيننا، أو غير ذلك من أدوات الحس، علينا أن نؤمن بذلك، لأنه قول الله - عز وجل - {عن اليمين وعن الشمال قعيد }، قاعد مستقر، أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، هذا المكتوب عرضة للمحو والإثبات،لأن المكتوب الذي بأيدي الملائكة عرضة للمحو والإثبات لقول الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }. يعني أصل أم الكتاب هو لوح محفوظ مكتوب فيه ما يستقر عليه العبد، فما يستقر عليه العبد مكتوب، لكن ما كان قابلاً للمحو والإثبات في أيدي الملائكة، قال الله - عز وجل -:(13/16)
{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات }. حسنة تذهب السيئة وتمحوها بعد أن كتبت، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أم الكتاب الأصل مكتوب فيها ما يستقر عليه العبد، نسأل الله أن يجعلنا ممن يستقر على الإيمان والثبات في الدنيا والآخرة.
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } {ما يلفظ }: ما هنا نافية، و{قول } مجرورة بمن الزائدة إعراباً المفيدة معنىً، لكن تأتي حروف الجر أحياناً زائدة في الإعراب، لكنها تفيد معنى التوكيد، ولهذا إذا اقترن المنفي بمن الزائدة، أو بالباء الزائدة مثل {ومآ أنا بظلام للعبيد } فإنه أوكد من النفي المجرد من حرف الجر الزائد، {ما يلفظ من قول } إذا جعلنا من زائدة إعراباً مفيدة معنىً ففائدة معناها التوكيد على العموم أي: أي قول يلفظه الإنسان لديه رقيب عتيد، {رقيب } مراقب ليلاً ونهاراً، لا ينفك عن الإنسان، {عتيد } حاضر لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره، فهو قاعد مراقب حاضر، لا يفوته شيء {من قول } أي قول نقوله، كل قول لأن {من } هذه زائدة و{قول } نكرة في سياق النفي فهي للعموم، أي قول، وظاهر الآية الكريمة أن القول مهما كان يكتب، سواء كان خيراً أم شرًّا، أم لغواً يكتب، لكن يحاسب على ما كان خيراً أو شرًّا، ولا يلزم من الكتابة أن يحاسب الإنسان عليها، وهذا ظاهر اللفظ، وهو أحد القولين لأهل العلم.
ومن العلماء من يقول: إنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات فقط، أما اللغو فلا يكتب.
والقول الأول أولى، وهو العموم، أما النتيجة فواحدة، لأنه حتى على القول بأن الكاتب يكتب كل شيء يقولون: إنه لا يحاسب إلا على الحسنات والسيئات، لكن كوننا نقول بالعموم هو المطابق لظاهر الآية، ثم هو الذي فيه الدليل على أن المَلَكين لا يتركان شيئاً، مما يدل على كمال عنايتهما بما ينطق به الإنسان، وبناءً على ذلك يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من أقوال اللسان، فكم زلة لسانية أوجبت الهلاك(13/17)
- والعياذ بالله - ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الرجل الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك» () قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، نسأل الله العافية.
احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
احذر آفات اللسان، إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حفظ اللسان مَلاك الأمر كله، فقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «أفلا أدلك على ملاك ذلك كله»؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: «كف عليك هذا». لا تطلقه، لا تتكلم، قال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال له: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» () فالمؤمن يجب أن يحذر لسانه فإنه آفة عظيمة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» () . وحينئذ نعرف أن الصمت مفضّل على الكلام؛ لأن الكلام قد لا يدري الإنسان أخيراً هو أم شراً، ثم إني أقول: الكلمة إذا أطلقتها وخرجت من فمك فهي كالرصاصة تطلقها، لا يمكنك أن تمنعها إذا خرجت من فوهة البندقية، إذا انطلقت تفسد أو تصلح، كذلك الكلمة، فالعاقل يمنع لسانه ولا يتكلم إلا بخير، والخير إما في ذات المتكلم به، وإما في غيره، يعني قد يكون الكلام ليس خيراً لا بنفسه، لكنه خير من جهة آثاره، قد يتكلم الإنسان بكلام لغو ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن منكر، وليس إثماً ووزراً، لكن يتكلم من أجل أن يفتح الباب للحاضرين، لأنه أحياناً تستولي على المجلس الهيبة ولا أحد يتكلم، فيبقى الناس كلهم في غم، فيتكلم من أجل أن يفتح الباب للناس، وتنشرح صدورهم، ويحصل تبادل الكلام الذي قد يكون نافعاً، نقول: هذا الكلام الذي تكلم وفتح به باب الكلام وأزال عن الناس الغم يعتبر خيراً(13/18)
لغيره، وهذا داخل إن شاءالله في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » .
{ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد }، السكرة هنا: هي تغطية العقل كالإغماء ونحوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن للموت سكرات» () . وقوله: {سكرة الموت } مفرد مضاف، فيشمل الواحدة أو أكثر، وقوله {بالحق }: أي أن الموت حق كما جاء في الحديث: «الموت حق، والجنة حق، والنار حق» () فهي تأتي بالحق، وتأتي أيضاً بحق اليقين، فإن الإنسان عند الموت يشاهد ما تُوُعِّد به، وما وُعِدَ به؛ لأنه إن كان مؤمناً بُشِّر بالجنة، وإن كان كافراً بُشِّر بالنار - أعاذنا الله منها - {ذلك } أي الموت {ما كنت منه تحيد } اختلف المفسرون في (ما) هل هي نافية؟ فيكون المعنى: ذلك الذي لا تحيد منه، ولا تنفك منه، أو أنها موصولة؟ فيكون المعنى ذلك الذي كنت تحيد منه، ولكن لا مفر منه، فعلى الأول يكون معنى الآية، ذلك الذي لا تحيد منه، بل لابد منه، وقد قال الله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم }. وتأمل يا أخي: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم } ولم يقل فإنه يدرككم، وما ظنك بشيء تفر منه وهو يلاقيك، إن فرارك منه يعني دنوك منه في الواقع فلو كنت فارًّا من شيء وهو يقابلك فكلما أسرعت في الجري أسرعت في ملاقاته، ولهذا قال: {فإنه ملقيكم } وفي الآية الأخرى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }، لأنه ذكر في هذه الآية أن الإنسان مهما كان في تحصنه فإن الموت سوف يدركه على كل حال، وهنا يقول تعالى: {ذلك ما كنت منه تحيد } ، وعلى المعنى الثاني، أي: ذلك الذي كنت تحيد منه وتفر منه في حياتك، قد وصلك وأدركك، وعلى كل حال ففي الآية التحذير من التهاون بالأعمال الصالحة، والتكاسل عن التوبة، وأن الإنسان يجب أن يبادر، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، ثم قال: {ونفخ في الصور ذلك يوم(13/19)
الوعيد } النافخ في الصور هو ملك، وَكَّله الله تعالى به يسمى إسرافيل، والنفخ في الصور نفختان:
الأولى: نفخة الصعق فيسبقها فزع، ثم صعق.
والثانية: نفخة البعث. وبينهما أربعون، وقد سئل أبو هريرة راوي الحديث: ما المراد بالأربعين؟ فقال: أبيت () . أي أني لا أدري ما المراد بالأربعين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، المهم أن المراد بقوله: {ونفخ في الصور } النفخة الثانية بدليل قوله: {ذلك يوم الوعيد } وهذا يعني أنه بهذه النفخة صار يوم القيامة الذي هو يوم الوعيد.
فإن قال قائل: يوم القيامة يوم الوعيد للكفار، ويوم الوعد للمؤمنين، فلماذا ذكر الله تعالى هنا الوعيد دون الوعد؟
فالجواب: لأن السورة كلها مبدوءة بتكذيب المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام، فناسب أن يغلب فيها جانب الوعيد { ق والقرءان المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر } إلخ.. فكان من الحكمة أن يذكر الوعيد دون الوعد، ومع ذلك فقد ذكر الله تعالى أصحاب الجنة فيما بعد، لأن القرآن مثاني.
{ وجاءت كل نفس معها سآئق وشهيد } جاءت يعني يوم القيامة كل نفس، أي كل إنسان كل بشر. ويحتمل أن يكون معنى كل نفس من بني الإنسان ومن الجن أيضاً، ممن يلزمون بالشرائع، لأننا إن نظرنا إلى السياق وهو قوله: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } الخ.. قلنا: المراد بالنفس هنا نفس الإنسان، وإذا نظرنا إلى أن الشرائع تلزم الجن كما تلزم الإنس، وأن الجن يحشرون يوم القيامة، ويدخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم النار، قلنا: إن هذا عام، فالله أعلم بما أراد، {معها سآئق } يسوقها {وشهيد } يشهد عليها بما عملت، لأن هؤلاء الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قد وكلوا بكتابة أعمال بني آدم من خير وشر، وكما سبق أنهم يكتبون كل شيء: الخير والشر واللغو، لكن لا يحاسب الإنسان إلا على الخير أو الشر، ثم قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا } {كنت} الخطاب للإنسان، وفيهاالتفات، والالتفات معناه(13/20)
أن ينتقل الإنسان في أسلوبه من خطاب إلى غيبة، أو من غيبة إلى خطاب، أو من تكلم إلى غيبة، وفائدة ذلك الالتفات أنه يشد ذهن السامع، فبينما الكلام على نسق واحد، إذا به يختلف، انظر إلى قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً } ولم يقل وبعث، وانظر إلى الفاتحة نقرأها كل يوم في كل ركعة من صلواتنا {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد } ولم يقل (نعبده) فالالتفات أسلوب من أساليب اللغة العربية، وفائدته شدُّ ذهن السامع لما يلقى إليه من الكلام {لقد كنت في غفلة من هذا } {لقد كنت } هذه الجملة، يقول العلماء: إنها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: اللام، والثالث: قد، والتقدير (والله لقد كنت في غفلة من هذا).فإن قيل: أليس خبر الله تعالى حقًّا وصدقاً. سواءٌ أكد أم لم يؤكد؟
قلنا: بلى، ولا شك، ولكن مادام القرآن نزل باللسان العربي، فإنه لابد أن يكون التأكيد في موضعه، وعدم التأكيد في موضعه، لأن المقصود أن يكون هذا القرآن في أعلى مراتب البلاغة {لقد كنت } أي: أيها الإنسان{في غفلة من هذا } أي كنت غافلاً عن هذا اليوم ساهٍ في الدنيا، كأنك خلقت لها {فكشفنا عنك غطاءك } يعني هذا اليوم كشف الغطاء، وبان الخفي، واتضح كل شيء {فبصرك اليوم حديد } أي قوي بعد أن كان في الدنيا أعشى أعمى، غافل، لكن يوم القيامة {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا }
{وقال قرينه هذا ما لدى عتيد } قرين الإنسان هو المَلَك الموكل به ليحفظ أعماله؛ لأن الله تعالى وكَّل ببني آدم ملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد، وهذا من عناية الله بك أيها الإنسان، أن وكَّل بك هؤلاء الملائكة يعلمون ما تفعل، ويكتبون، لا يزيدون فيه ولا ينقصون فيه، فيقول القرين: {هذا ما لدى عتيد } أي: حاضر، ويحضر للإنسان فيقال: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } قوله: {ألقيا } قد يشكل على طالب العلم، لأنه قال:(13/21)
{وقال قرينه هذا ما لدى عتيد } وقرين مفرد، وهنا {ألقيا } فيها ألف التثنية، فكيف صح أن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين؟
اختلف المفسرون في الجواب عن هذا، فقال بعض العلماء: ألقيا اتصل بها ضمير التثنية بناءً على تكرار الفعل، مثل قوله: ألقي ألقي، فالتكرار للفعل لا للفاعل.
القول الثاني: أن قوله: {وقال قرينه هذا ما لدى عتيد } إما أن يكون مفرداً مضافاً، والمعروف أن المفرد المضاف يكون للعموم، فيشمل كل ما ثبت من قرين، وعلى هذا فيكون {وقال قرينه } أي الملكان الموكلان به. فإذا قال قائل: أروني دليلاً أو شاهداً على أن المفرد يكون لأكثر من واحد.
قلنا: يقول الله - عز وجل -: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }. وهل نعمة الله واحدة؟ لا، لأن الله تعالى قال: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً }. لكن نعمة الله مفرد مضاف، فتكون شاملة لكل نعمة.
ويمكن أن يقول قائل: إن قوله: {وقال قرينه } هو واحد من الملكين، ولا شك أنه يجوز أن يتكلم واحد من الاثنين باسم الاثنين.
{كل كفار عنيد منع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر} خمسة أوصاف:
{كفار }، صيغة مبالغة، فإما أن يقال إنه كان صيغة مبالغة، لأن هذا الكافر قد فعل أنواعاً من الكفر، فإذا جمعت الأنواع صارت كثيرة، وقد يقال: إن هذه الصيغة ليست صيغة مبالغة، وإنما هي صيغة نسبة، كما يقال: نجار، وحداد، وما أشبه ذلك ممن ينسب إلى هذه الحرفة، فكفار، أي: كافر، لكنه قد تمكن الكفر في قلبه - والعياذ بالله -.
{عنيد } أي: معاند للحق، لا يقبل مهما عرض له الحق بصورة شيقة بينة واضحة لا يقبل.
{مناع للخير } فيمنع الدعوة إلى الله، ويمنع بذل أمواله فيما يرضي الله، ويمنع كل خير، لأن قوله: {للخير } لفظ يشمل كل خير، وقوله: مناع كأنه يلتمس كل خير فيمنعه، فتكون هذه الصيغة صيغة مبالغة.
{معتد } أي: يعتدي على غيره، فلم يمنع غيره من الخير فقط، بل يعتدي عليه، وانظروا إلى كفار قريش ماذا(13/22)
صنعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، منعوه واعتدوا عليه.
{مريب } أي: واقع في الريبة والشك والقلق، وكذلك أيضاً يشكك غيره فيدخل في قلبه الريبة، فكلمة {مريب} تقتضي وصف الإنسان بها، وحمل هذا الوصف إلى غيره.
{الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر }، ما أوسع هذه الكلمة، وإذا كانت هذه الكلمة وصفاً للكفَّار العنيد، فالمعنى أنه يعبد مع الله غيره، وكلنا يعلم أن المشركين كانوا يعبدون مع الله غيره، فيعبدون اللات، ويعبدون العزى، ويعبدون مناة، ويعبدون هبل، وكل قوم لهم طاغية يعبدونها كما يعبدون الله، يركعون لها، ويسجدون لها، ويحبونها كما يحبون الله، ويخافون منها كما يخافون من الله - نسأل الله العافية - هذا إذا جعلنا قوله تعالى: {مع الله إلهاً ءاخر } وصف لهذا الكفَّار العنيد.
أما إذا جعلناه أشمل من ذلك فإنها تعم كل إنسان تعبد لغير الله، وتذلل لغير الله، حتى التاجر الذي ليس له هم إلا تجارته وتنميتها فإنه عابد لها، حتى صاحب الإبل الذي ليس له هم إلا إبله هو عابد لها، والدليل على أن من انشغل بشيء عن طاعة الله فهو عابد له، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبدالخميصة، تعس عبدالخميلة» () . عبدالدينار هذا تاجر الذهب، وعبدالدرهم تاجر الفضة، وعبدالخميصة تاجر الثياب؛ لأن الخميصة هي الثوب الجميل المنقوش، وعبدالخميلة تاجر الفرش، أو ليس بتاجر، يعني لا يتجر بهذه الأشياء لكن مشغول بها عن طاعة الله، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من اشتغل بهذه الأشياء الأربعة عبداً لها، وفي القرآن الكريم ما يدل على أن العبادة أوسع من هذا، قال الله تعالى: {أرءيت من اتخذ إلهه هواه }. فدل ذلك على أن كل من قدم هوى نفسه على هدي ربه فهو قد اتخذ إلهاً غيره، ولهذا يمكننا أن نقول: إن جميع المعاصي داخلة في الشرك في هذا المعنى، لأنه قدمها على مرضاة الله تعالى وطاعته، فجعل هذا(13/23)
شريكاً لله - عز وجل - في تعبده له، واتباعه إياه، فالشرك أمره عظيم، وخطره جسيم، حتى الرجل إذا تصدق بدرهم وهو يلاحظ لعل الناس يرونه ليمدحوه ويقولون: إنه رجل كريم. يعتبر مشركاً مرائياً، والرياء شرك، وأخوف ما خاف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته الشرك الخفي، وهو الرياء () ، فعلى هذا نقول: {الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر }، إن كانت وصفاً خاصًّا بالكفَّار العنيد، فإنها تختص بمن يعبد الصنم والوثن، وإن كانت للعموم فهي تشمل كل من اشتغل بغير الله عن طاعته، وتقدم ذكر الأمثلة والأدلة على ما ذكرنا.
قال الله تعالى: {فألقياه في العذاب الشديد } وهو عذاب النار، نسأل الله أن يعيذنا منها بمنه وكرمه، {قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد } هو يدعي أن قرينه هو الذي أطغاه وهو صده عن سبيل الله، فيقول قرينه: {ربنا مآ أطغيته }، ما أمرته أن يكذب، ولا أن يكون عنيداً، ولا أن يكون معتدياً، ولا أن يكون مريباً، ولا أن يكون مشركاً مع الله أحداً، ما فعلت هذا {ولكن كان في ضلل بعيد } أي: كان هذا الكافر في ضلال بعيد عن الحق، حينئذ لدينا خصمان: الكفَّار العنيد، والقرين، فالكفَّار العنيد يدعي أن القرين هو الذي أغواه وأطغاه، والقرين ينكر ذلك، فيقول الله - عز وجل - {لا تختصموا لدى }، الخصومة منقطعة، لأن الحجة قائمة ولا عذر لأحد، {وقد قدمت إليكم بالوعيد }، أي أوعدتكم على المخالفة فلا حجة لكم، {ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد }. يعني لا أحد يستطيع أن يبدل قولي؛ لأن الحكم لله - عز وجل - وحده، فإذا كان الله تعالى قد وعد فهو صادق الوعد سبحانه وتعالى، وأما الإيعاد فقد يغفر ما شاء من الذنوب إلا الشرك {ومآ أنا بظلام للعبيد } يعني لست أظلم أحداً، وكلمة (ظلاَّم) لا تظن أنها صيغة مبالغة، وأن المعنى أني لست كثير الظلم، بل هي من باب النسبة، أي: لست بذي ظلم، والدليل على أن هذا هو المعنى، وأنه يتعين أن يكون(13/24)
هذا المعنى قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنةً يضاعفها }، ويقول - عز وجل -: {ومن يعمل من الصالحت وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً }. ويقول - عز وجل -: {ولا يظلم ربك أحدًا }. والآيات في هذا كثيرة، أن الله لا يظلم، بل إننا إذا تأملنا وجدنا أن فضل الله وإحسانه أكثر من عدله. جزاء سيئة سيئة مثلها، وجزاء حسنة عشرة أمثالها، ولو أردنا أن نأخذ بالعدل لكان السيئة بالسيئة، والحسنة بالحسنة، لكن فضل الله زائد على عدله - عز وجل - فهو سبحانه وتعالى يجزي بالفضل والإحسان لمن كان محسناً، وبالعدل بدون زيادة لمن كان مسيئاً {ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد} .
{يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد } يوم: ظرف زمان، والظروف الزمانية والمكانية، وكذلك حروف الجر لابد لها من متعلق، أي لابد لها من فعل، أو ما كان بمعنى الفعل تتعلق به، فما هو متعلق قوله: {يوم نقول لجهنم } نقول: هو محذوف، والتقدير: (اذكر يوم نقول لجهنم) وليعلم أنه يوجد في اللغة العربية كلمات تحذف بل ربما جمل تحذف، وذلك فيما إذا دل عليها السياق، فهنا الكلمة التي تتعلق بها كلمة يوم محذوفة، والتقدير: اذكر {يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد } يسألها الله - عز وجل -: {هل امتلأَت } وهو يعلم سبحانه وتعالى أنها امتلأت، أو لم تمتلىء؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، لكنه يسألها هل امتلأت، ليقرر لها ما وعدها سبحانه وتعالى، فإن الله يقول: {وتمت كلمة ربك لأَملأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين }. فيسألها: {هل امتلأَت } يعني هل حصل ما وعد الله به؛ لأن الله تكفل بأن يملأ الجنة ويملأ النار، فتقول: {هل من مزيد }، (هل) أداة استفهام، وهي حرف. وهل هي استفهام طلب، بمعنى: أنها تطلب الزيادة، أو استفهام نفي، بمعنى: أنها تقول: لا مزيد على ما فيها؟ في هذا للعلماء قولان:
القول الأول: إن المعنى: لا مزيد على ما فيَّ، و(هل) تأتي لاستفهام(13/25)
النفي كما في قوله تعالى: {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأَرض } أي ما من خالق؟ وعلى هذا فتكون النار امتلأت إذا قالت: لا مزيد على ذلك، فالمعنى أنها امتلأت.
القول الثاني: أنها استفهام طلب، يعني تطلب الزيادة.
وإذا اختلف العلماء في التفسير أو غير التفسير فلنرجع إلى ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلننظر أي القولين أولى بالصواب، ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «لاتزال جهنم تلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة عليها قدمه» أو قال عليها رجله «فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط () » فأولى القولين بالصواب، إنها استفهام طلب يعني تطلب الزيادة، ولكن رحمة الله سبقت غضبه، يضع عليها عز وجل رجله على الوجه الذي أراد، ثم ينزوي بعضها ينضم إلى بعض وتتضايق وتقول: لا مزيد على ذلك، فحقت كلمة الله أنه ملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وفي الحديث الذي سقته إثبات القدم، أو الرجل لله عز وجل، والمراد رجل حقيقة لله عز وجل، إلا أنها لا تشبه أرجل المخلوقين بأي وجه من الوجوه، نعلم علم اليقين أنها ليست مثل أرجل المخلوقين، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }. والمقصود من قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم } هو تحذير للناس، لأن كل واحد منا لا يدري أيكون من حطب جهنم، أو يكون ممن نجا منها؟ نسأل الله أن ينجينا وإياكم منها.
{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } أي قربت للمتقين مكاناً غير بعيد {هذا } أي ما تشاهدون من قرب الجنة {ما توعدون } أي: هذا الذي توعدون، فإن الله تعالى وعد المؤمنين العاملين الصالحات وعدهم الجنة، وصدق وعده عز وجل، ولكن لمن؟{لكل أواب حفيظ } الأواب: صيغة مبالغة من أبى يئوب بمعنى رجع، أي لكل أواب إلى الله، أي رجاع إليه، {حفيظ } أي: حفيظ لما أمره الله به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: «احفظ الله(13/26)
يحفظك» () والمعنى أنه حفيظ لأوامر الله، لا يضيعها ولا يقابلها بكسل وتوانٍ بل هو نشيط فيها، وإذا عصى بترك واجب، أو فعل محرم تجده يرجع إلى الله، فهو أواب رجاع إلى الله تعالى من المعاصي إلى الطاعات، وكذلك حفيظ حافظ لما أمر الله به، محافظ عليه، قائم به {من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } من بدل مما سبقها {خشى الرحمن } أي: خافه عن علم وبصيرة، لأن الخشية لا تكون إلا بعلم، والدليل قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء } فهي خشية أي خوف ورهبة وتعظيم لله عز وجل، لأنها صادرة عن علم، وقوله: {من خشى الرحمن بالغيب } لها معنيان:
المعنى الأول: أنه خشي الرحمن مع أنه لم يره، لكن رأى آياته الدالة عليه.
المعنى الثاني: خشيه بالغيب، أي: بغيبته عن الناس، فهو يخشى الله وهو غائب عن الناس، لأن من الناس من يخشى الله إذا كان بين الناس، وإذا انفرد فإنه لا يخشى الله، مثل المرائي المنافق، إذا كان مع الناس تجده من أحسن الناس خشية، وإذا انفرد لا يخشى الله، كذلك أيضاً من الناس من يكون عنده خشية ظاهرية، لكن القلب ليس خاشياً لله عز وجل - فيكون بالغيب، أي ما غاب عن الناس، سواء كان عمله في مكان خاص، أو ما غاب عن الناس بقلبه، فإن خشية القلب هي الأصل {وجاء بقلب منيب } أي جاء يوم القيامة بقلب منيب يعني رجاع إلى الله - عز وجل - يعني أنه مات وهو منيب إلى الله فهو كقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } والمعنى أنه بقي على الإنابة والرجوع إلى الله - عز وجل - إلى أن مات، وإلى أن لقي الله، لأن الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يختم لنا بالخير.
{ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود }، ادخلوها: أمر، وهل هو أمر إلزام، أو أمر إكرام؟ لا شك أنه أمر إكرام، لأن الآخرة ليس فيها تكليف وإلزام، بل إما إكرام وإما إهانة. فقوله تعالى للمجرمين: {ادخلوا أبوب جهنم } هذا أمر إهانة، وقوله للمؤمنين هنا {ادخلوها بسلام } هذا أمر إكرام(13/27)
وقوله {بسلام }، الباء هنا للمصاحبة، والمعنى: دخولاً مصحوباً بسلام، سلام من كل آفة، فأصحاب الجنة سالمون من الأمراض، وسالمون من الهرم، وسالمون من الموت، وسالمون من الغل، وسالمون من الحسد، وسالمون من كل شيء، فأهل الجنة سالمون {لهم ما يشاءون فيها } أي لهؤلاء المتقين ما يشاءون {فيها } أي: في الجنة {ولدينا مزيد } يعني مزيد على ما يتمنون ويشاءون، لأن الإنسان بحكمه مخلوقاً يعجز عن أن يستقصي كل شيء وتنقطع نيته بحيث لا يدري ما يتمنى، لكن هؤلاء أهل الجنة، كل ما يشتهون فيها فإنه موجود طيب، لو اشتهى الإنسان ثمرة معينة كرمان أو عنب أو ما أشبه ذلك يجدها في أي وقت، كل شيء يشتهيه الإنسان ويطلبه فإنه موجود لا ينتهي، بل قال الله - عز وجل -: {ولدينا مزيد } يعني نعطيهم فوق ما يشتهون ويتمنون. ومن الزيادة النظر إلى وجه الله - عز وجل - ولهذا استدل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من أهل العلم بهذه الآية على إثبات رؤية الله - عز وجل - وقال: إن هذه الآية: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد }. كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.
{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلد هل من محيص } لما كانت قريش تكذب النبي عليه الصلاة والسلام وتنكر البعث، وتقول: {أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون } حذرهم الله - عز وجل - أن يقع بهم ما وقع بمن سبق من الأمم، فقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي: كثيراً من القرون أهلكناهم، والقرن هنا بمعنى القرون، كما قال تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } فأمم كثيرة أهلكها الله - عز وجل - لما كذبت الرسل {فنقبوا في البلد } أي: بحثوا في البلاد يريدون المفر واالجأ من عذاب الله، ولكنهم لم يجدوا مفراً، ولهذا قال: {هل من محيص } أي لا محيص لهم {ولو ترى إذ فزعوا(13/28)
فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد } فما أصاب القوم الذين كذبوا الرسل أولاً يصيب من كذب ثانياً؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {أفلم يسيروا في الأَرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } {إن في ذلك } أي ما سبق من الآيات العظيمة ومنها ما قص الله تعالى في هذه الآيات الكريمة من إهلاك الأمم السابقة، فيه ذكرى لنوعين من الناس: الأول {لمن كان له قلب } أي: من كان له لب وعقل يهتدي به بالتدبر والثاني: {أو ألقى السمع وهو شهيد } أي استمع إلى غيره ممن يعظه وهو حاضر القلب فبين الله تعالى أن الذكرى تكون لصنفين من الناس:
الأول: من له عقل ووعي يتدبر ويتأمل بنفسه ويعرف، والثاني: من يستمع إلى غيره، ولكن بشرط أن يكون شهيداً أي حاضر القلب، وأما من كان لا يستمع للموعظة، أو يستمع بغير قلب حاضر، أو ليس له عقل يتدبر به، فإنه لا ينتفع بهذه الذكرى، لأنه غافل ميت القلب.
{ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } هذه ثلاثة مخلوقات عظيمة بين الله - عز وجل - أنه خلقها في ستة أيام، وأكَّد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد. لأن تقدير الآية: (والله لقد خلقنا السماوات والأرض)، فالسماوات معلومة لنا جميعاً وهي سبع سماوات طباقاً، والأرض هي الأرض التي نحن عليها، وهي سبع أراضين، كما جاءت به السنة صريحاً () ، وكما هو ظاهر القرآن في قوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن }. الثالث: {وما بينهما } أي: بين السماء والأرض، والذي بين السماء والأرض مخلوقات عظيمة، يدل على عظمها أن الله جعلها عديلة لخلق السماوات وخلق الأرض، فهي مخلوقات عظيمة، والآن كلما تقدم العلم بالفلك ظهر من آيات الله - عز وجل - فيما بين السماء والأرض ما لم يكن معلوماً لكثير من(13/29)
الناس من قبل {في ستة أيام } أولها الأحد وآخرها الجمعة، ولو شاء عز وجل لخلقها في لحظة، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون، لكنه - جل وعلا - يخلق الأشياء بأسباب ومقدمات تتكامل شيئاً فشيئاً حتى تتم، كما لو شاء لخلق الجنين في بطن أمه في لحظة، لكنه يخلقه أطواراً حتى يتكامل، كذلك السماوات لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة، ولكنه عز وجل يخلق الأشياء تتكامل شيئاً فشيئاً، وقال بعض العلماء: فيه فائدة أخرى، وهي أن يعلّم عباده التأني في الأمور، وأن لا يأخذوا الأمور بسرعة، لأن المهم وهو الإتقان وليس الإعجال والإسراع {وما مسنا من لغوب } أي: ما مسنا من تعب وإعياء، وهذا كقوله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن } فهو - عز وجل - خلق هذه السماوات العظيمة، والأراضين، وما بينها، بدون تعب ولا إعياء، وإنما انتفى عنه التعب - جل وعلا - لكمال قوته وقدرته {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً } {فاصبر على ما يقولون } أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصبر على ما يقولون، وقد قال - عز وجل - في آية أخرى {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار } اصبر، فإن العاقبة للمتقين {فاصبر على ما يقولون } فهم يقولون: إن محمداً كذاب، وساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، وأنه لا بعث، وإن كانوا يقرون بالرب عز وجل وأنه خالق السماوات والأرض، لكن لا يقرون بأمور الغيب المستقبلة، فأمره الله أن يصبر على ما يقولون، والصبر على ما يقولون يتضمن شيئين: الأول عدم التضجر مما يقول هؤلاء، وأن يتحمل ما يقوله أعداؤه فيه وفيما جاء به، والثاني: أن يمضي في الدعوة إلى الله، وأن لا يتقاعس {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين: قبل(13/30)
طلوع الشمس، وقبل الغروب، قال أغلب المفسرين: المراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من صلى البردين دخل الجنة» () والبردان هما الفجر وفيه برودة الليل، والعصر وفيه برودة النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها » () فالصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وأفضلهاالعصر، لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات فقال: {حفظوا على الصلوت والصلاة الوسطى } وهي العصر، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم () ، {ومن الليل فسبحه } أيضاً سبح الله من الليل و(من) هنا للتبعيض، يعني سبحه أيضاً جزء من الليل، ويدخل في ذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويدخل في ذلك أيضاً التهجد {وأدبر السجود } أي وسبح الله أدبار السجود، أي أدبار الصلوات، وهل المراد بالتسبيح أدبار الصلوات النوافل التي تصلى بعد الصلوات كراتبة الظهر بعدها، وراتبة المغرب بعدها، وراتبة العشاء بعدها، أو المراد التسبيح الخاص؟ وهو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. فيه قولان للمفسرين، ولو قيل بهذا وهذا لكان له وجه {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب } أي انتظر لهذا النداء الذي يكون عند النفخ في الصور وحشر الناس {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج } من القبور {إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير } (إنا) يقول الله عن نفسه {إنا } تعظيماً له {نحى ونميت } أي: نحيي بعد الموت، ونميت بعد الحياة، فهو قادر على الإحياء بعد الموت، وعلى الموت بعد الإحياء {وإلينا المصير } أي المرجع {يوم تشقق(13/31)