قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] . فأرجع البشر كلهم إلى أب واحد وأم واحدة، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله قد أذهب عنك عبية الجاهلية، وتفاخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) . ولما حصل شجار بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري : يا للمهاجرين !
وقال الأنصاري : يا للأنصار !
أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه النخوة الجاهلية، وقال : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ! ) . وقال : ( دعوها؛ فإنها منتنة ) .
وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . ولم يفرق بين جنسياتهم . ولم تنفع أبا جهل وأبا لهب عروبتهما، ولم تضر بلالًا الحبشي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر؛ لم يضر هؤلاء عدم عروبتهم، حيث أصبحوا من سادة المسلمين، فكيف يقال بعد هذا : إن الإسلام والعروبة والقومية شيء واحد وأشكال مجازية لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا جمع بين ما فرق الله ؟ !(5/227)
ثم إذا كانت بمعنى واحد؛ فلأى شيء جاء الإسلام ؟ ! وما وظيفته في الحياة وهل هو على هذا الاعتبار إلا تحصيل حاصل، وتكرار لمضمون واحد ؟ ! ثم إذا كانت العروبة والقومية هما والإسلام شيء واحد؛ فلماذا لم تؤد القومية والعروبة دور الإسلام قبل وجوده ؟ ! ألم يكن العرب قبل الإسلام ضالين في عقائدهم، منقسمين على أنفسهم، لا تجمعهم رابطة، ولا تهدأ بينهم حرب، يتسلط قويهم على ضعيفهم، ولا يراعون فيما بينهم عروبة ولا قومية، وقد ذكرهم الله تعالى بهذا في قوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عليكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [ آل عمران : 103 ] . إن مساواة الإسلام بالعروبة والقومية مساواة بين الشيء وضده، مساواة بين الهدى والضلال، وبين الضياء والظلام، بل لو قيل : إن الإسلام أحسن من القومية والعروبة؛ لكان في هذا تنقص وهضم له؛ كما قيل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(5/228)
فكيف إذا قيل : إن الإسلام والعروبة والقومية ليست سوى أشكال لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا من أعظم المغالطة والخلط والتضليل ؟ ! وهل يقول هذا إلا من لا يفرق بين الإسلام والجاهلية، أو يقصد الإيهام والتضليل ؟ ! نسأل الله أن يهدينا إلى معرفة الحق، والعمل به، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا . ثم يمضي الكاتب في تسويته بين المتضادات، فيزعم أن اختلاف العقائد يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا، حيث يقول : " إن الدين في مضمونه إنساني، واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا ضمن واقع الانطلاق الفكري والحركي المستمر علوًا حتى أفضل مسيرة إنسانية " . وهذا معناه التسوية بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، وعقيدة المسلمين وعقيدة النصارى الذين يقولون : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ! ! وإلا؛ فأي معنى لقوله : " واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا " ؟ ! أليس معناه أن كل اعتقاد يلتقي مع الاعتقاد الآخر ويكمله ؟ ! أن الاعتقاد الصحيح اعتقاد واحد لا اختلاف فيه، هو عقيدة التوحيد التي بعث الله بها جميع رسله . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] . وأي عقيدة تخالف هذه العقيدة؛ فهي باطلة، فهي عقيدة الطاغوت الذي أمر الله باجتنابه . ولو كانت كل عقيدة تمثل عنصرًا تكامليًا كما يقول الكاتب؛ فما الفائدة من بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وأمر الناس بعقيدة واحدة ؟ ! هل هذا إلا عين المغالطة في أوضح الواضحات ومما يعلم بالضرورة ؟ !
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل(5/229)
هذا ما أردت التنبيه عليه مما جاء في مقالة الكاتب المذكور، خشية الاغترار بها، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين
3 ) حول البدع وإنكارها
في إنكار الوصية المكذوبة والمنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي
الحمد لله وحده .
أما بعد :
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إليكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إليهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 174 ] .
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] . { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ مريم : 58 ] . { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] . في هذه الآيات الكريمة يذكر الله عباده بنعمته عليهم بإنزال كتابه الذي أخرجهم به من الظلمات إلى النور ويأمرهم بالاعتصام والتمسك به، ويحذرهم من مخالفته وطلب الهداية من غيره من الآراء والأهواء المضلة؛ مما يدل على أنه سيكون هناك محاولات تبذل من شياطين الجن والإنس لصرف الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وصرفهم عن طريق الجنة إلى طريق النار .(5/230)
وما زال هذا الخبث والمكر السيئ يبذل من أعداء الله ورسوله منذ بعث الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا . ومن ذلك ما ظهر من سنوات في هذه البلاد من خرافة صاغها الشيطان مضل على صورة رؤيا منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي الشريف، وقصده بهذه النسبة ترويج هذه الفرية، وقد ضمن هذه الرؤيا المزعومة أكاذيب وتهديدات وتخويفات زعم أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه في المنام، وقال له :
" أخبر أمتي بهذه الوصية؛ لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل؛ بنى له قصرًا في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها؛ حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيرًا؛ أغناه الله، أو كان مديونًا؛ قضى الله دينه، أو عليه ذنب؛ غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله؛ اسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن يصدق بها؛ ينجو ( كذا، والصواب : ينجُ ) من عذاب الله، ومن كذب بها كفر " .
هذا بعض ما جاء في هذه الوصية المكذوبة التي تجرأ مخترعها على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : ( من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار ) . وهذه الوصية المكذوبة قديمة، وقد ظهرت في مصر منذ أكثر من ثمانين سنة، وقد دحضها أهل العلم، وزيفوها وبينوا ما فيها من الكذب والباطل؛ منهم الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - وقد قال في رده عليها : " قد أجبنا عن هذه المسألة سنة ( 1322هـ ) ، وإننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرًا، وكلها معزوة إلى رجل اسمه شيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، والوصية مكذوبة قطعًا، لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين " . ثم رد عليها - رحمه الله - ردًا مطولًا مفيدًا دحض فيه كل ما جاء فيها من الافتراءات .(5/231)
ثم إن هذه الوصية اختصرت وجيء بها إلى هذه البلاد على يد بعض المخرفين والدجالين؛ بقصد إفساد عقائد الناس، وصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، حتى يسهل تضليلهم بمثل هذه الوصية الكاذبة . وقد تلقفها بعض الجهلة، وأخذوا يطبعونها ويوزعونها؛ متأثرين بما فيها من الوعود والوعيد؛ لأن هذا الفاجر الذي اخترعها قال فيها :
" فمن طبع منها كذا من النسخ ووزعها؛ حصل على مطلوبه، إن كان مذنبًا؛ غفر الله له، وإن كان موظفًا؛ رفع إلى وظيفة أحسن من وظيفته، وإن كان مدينًا؛ قضى دينه، ومن كذب بها؛ اسود وجهه، وحصل عليه كذا وكذا من العقوبات " .
فإذا قرأها بعض الجهلة؛ تأثر بها، وعمل على نشرها خوفًا وطمعًا .
وقد قام العلماء ببيان كذب هذه الوصية، وحذروا الناس من نشرها والتصديق بها، ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - فقد رد عليها برد جيد مفيد، وبين ما فيها من الكذب والتدجيل .
ولما رأى مروجها أن المسلمين قد تنبهوا لدسهم، وعرفوا حقيقتهم؛ أخذوا ينشرونها خفية، ويغرون بعض الجهال بنشرها وتوزيعها .
- وهذه الوصية باطلة من عدة وجوه :
أولًا : إن أحكام الدين والوعد والوعيد والأخبار عن المستقبل؛ كل هذه الأمور لا تثبت إلا بوحي من الله إلى رسله، والوحي قد انقطع بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما أكمل الله به الدين، وقد ورث لنا الكتاب والسنة، وفيهما الكفاية والهداية .
اما الرؤيا والحكايات؛ فلا يثبت بها شيء؛ لأن غالبها من وضع الشياطين؛ لإضلال الناس عن دينهم .
ومفتري هذه الوصية يعد من صدقها ونشرها بدخول الجنة، وقضاء حوائجه، وتفريج قرباته، ويتوعد من كذب بها بدخول النار، أنه يسود وجهه .
وهذا تشريع دين جديد، وكذب على الله سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك .(5/232)
ثانيًا : إن مفتري هذه الوصية جعلها أعظم من القرآن الكريم؛ لأن من كتب المصحف الشريف وأرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحصل له هذا الثواب الذي قال فيه الدجال : إنه يحصل لمن ينشر هذه الوصية .
ومن لم يكتب القرآن ويرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحرم من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مؤمنًا ! !
فكيف يحرم المؤمن من الشفاعة إذا لم يكتب هذه الوصية ويرسلها من بلد إلى بلد كما يقول مفتريها ؟ !
ثالثًا : إن هذه الوصية فيها ادعاء علم الغيب، حيث جاء فيها : " إنه من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفًا على غير دين الإسلام " . فهذا من ادعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ فإنه هو الذي يعلم عدد من يموت على الإسلام ومن يموت على الكفر، ومن ادعى علم الغيب؛ فهو كافر بالله .
رابعًا : إن الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة لا يثبتان إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المفتري في هذه الوصية جعل الثواب لمن صدقها والعقاب لمن كذب بها ولم ينشرها، وقد فضحه الله – الحمد لله – فكثيرًا من المسلمين كذبوها وزيفوها ولم يحصل لهم إلا الخير، والذين صدقوها ونشروها لم يحصل لهم إلا الخيبة والخسارة .
ثم إن هذا المفتري أراد أن يوهم العوام والجهال بصدق هذه الوصية، فحلف بالله أيمانًًا مكررة أنه صادق، وأنها حقيقة، وأنه إن كان كاذبًا؛ يخرج من الدنيا على غير الإسلام، وأراد أن يتظاهر بحب الإسلام، وبغضه للمعاصي والمنكرات، حتى يحسن به الظن ويصدق .
وهذا من مكره وخبثه، بل ومن غباوته وجهله؛ فإن الحلف وكثرة الإيمان لا تدل على صدق كل حالف، فكثير من الكذابين يحلفون للتغرير بالناس، فهذا إبليس حلف للأبوين عليهما السلام : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] .
الله تعالى قال لنبيه : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] .
وأخبر أن المنافقين يحلفون على الكذب وهم يعلمون، ويقول عنهم :(5/233)
{ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ التوبة : 107 ] .
هل يظن هذا الغبي الأحمق أنه إذا افترى الكذب على الله ورسوله في هذه الوصية، وحلف في آخرها؛ أن المسلمين سيصدقون ويقبلون أقواله ؟ ! حاشا وكلا .
وأما تظاهره بالغيرة على الدين، والتألم من المنكرات؛ فهو من التغرير الذي يقصد من ورائه أن يحسن الناس به الظن، ويقبلوا قوله، ولم يدر أن فرعون اللعين تظاهر لقومه بالنصح والشفقة حينما قال لهما يحذرهم من اتباع موسى عليه السلام :
{ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] .
فما كل من تظاهر بالمناصحة والغيرة يكون صادقًا .
ويكفينا ما جاء في الكتاب والسنة من التحذير من المنكرات والمعاصي، وبيان العقوبات المترتبة عليها، ففي ذلك الكفاية لأهل الإيمان . . .
هذا؛ وربما يسأل سائل : ما هو الهدف الذي يقصده صاحب هذه الوصية ؟ وما هو الدافع لقيامه بافترائها وترويجها ؟
والجواب : أن هدفه من ذلك تضليل الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وصرفهم إلى الخرافات والحكايات المكذوبة، فإذا صدقوا في هذه وراجت بينهم، اخترع لهم أخرى وأخرى، حتى ينشغلوا بذلك عن الكتاب والسنة، فيسهل الدس عليهم، وتغيير عقائدهم؛ فإن المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم؛ فلن يستطيع المضللون صرفهم عن دينهم، لكنهم إذا تركوا الكتاب والسنة وصدقوا الخرافات والحكايات والرؤى الشيطانية؛ سهل قيادهم لكل مضلل وملحد .
وقد يكون من وراء ذلك منظمات سرية من الكفار، تعمل على ترويج هذه المفتريات؛ لصرف المسلمين عن دينهم .
ومما يدل على ذلك أن هذه الخرافة موجودة منذ قرن من الزمان، ويبعد أن يكون مخترعها على قيد الحياة، فلولا أن هناك من يعمل على ترويجها من بعده؛ لم تظهر .(5/234)
فإياكم أيها المسلمون والتصديق بهذه المفتريات، ولا يكن لها رواج بينكم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، ومن رأيتموه يكتب هذه الوصية المكذوبة ويروجها؛ فبلغوا عنه أهل العلم، فبلغوا عنه أهل الحسبة والسلطة؛ لأخذ على يديه، وردعه، وكفى شره عن المسلمين .
إن أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين وشياطين الجن والإنس دائمًا يحاولون صرف الناس عن دين الحق إلى دين الباطل، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وعن اتباع الرسل إلى اتباع الشياطين والمضلين، فكانوا يحرفون شرائع الأنبياء، ويغيرون الكتب المنزلة على الرسل؛ كما فعلوا في التوراة والإنحيل .
ولما بعث الله خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن العظيم والشرع القويم؛ تكفل سبحانه بحفظ القرآن العظيم من التغيير والتبديل، فقال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقال تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .(5/235)
وحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كذب الكذابين؛ بما أقام عليها من الحراس الأمناء، وصفوة العلماء، الذين حفظوها ونقلوها بأمانة، ونفوا عنها كل ما حاول إدخال فيها الكذابون والدجالون، فوضعوا الضوابط والقواعد التي يعرف بها الحديث الصحيح من الحديث المكذوب، ودونوا الأحاديث الصحيحة وحموها، وحشروا الأحاديث المكذوبة وحذروا منها . فلما لم يجد أعداء الله ورسوله لهم منفذ لدس في كتاب الله وسنة رسوله؛ لجؤوا إلى محاولة صرف الناس عن الكتاب والسنة، وإشغالهم بالحكايات المكذوبة والمنامات المزورة، التي تشمل على الترغيب الترهيب والوعود الكاذبة التي تغري وتغر ضعاف الإيمان والجهلة، فصرفوا كثيرًا منهم إلى الشرك والإلحاد والبدع باسم الدين والعبادة والزهد جريًا وراء تلك الخرافات .
فدين هؤلاء المنحرفين لا ينبني على الكتاب والسنة، وإنما ينبني على الحكايات المكذوبة والمنامات المذعومة، فضلوا عن الهدى، وتركوا كتاب الله وسنة رسوله إلى وساوس الشياطين، وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة .
قال تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 - 37 ] .
فيا عباد الله ! تمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، واحذروا الدسائس المضلة التي يروجها أعداء الملة .
وفق الله الجميع للاعتصام بالكتاب والسنة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
نظرات في كتاب " علموا أولادكم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
لمعالي الدكتور محمد عبده يماني
اطلعت على كتاب ألفه معالي الدكتور محمد عبده يماني تحت عنوان : " علموا أولادكم حب رسول الله " ، وطبعه عدة طبعات، وجاء على غلاف الطبعة الثالثة منه ما نصه :
" طبع بموافقة وزارة الإعلام رقم 1112/ م ج " ، وتاريخ " 30/3/1405 هـ " .(5/236)
ولم يذكر معاليه موافقة مراقبة المطبوعات في الافتاء، مع أن هذا أمر لازم، يجعل لهذه الجهة بتخطيه لها المطالبة بحقها نحو هذا الإجراء المخالف لنظام المطبوعات .
ونحن وكل مسلم نتفق مع معالي الدكتورعلى أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل مسلم، بل هي من أعظم أصول الإيمان ومسائل العقيدة، وتأتي في الدرجة الثانية بعد محبة الله تعالى، وبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بغض شيء مما جاء به ردة عن دين الإسلام . ونتفق كذلك مع معاليه على أن بيان هذا للناس أمر واجب .
ولكن بيانه يكون بالطريقة الشرعية، والأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وعلى ضوء العقائد المعتبرة عند أهل السنة والجماعئة، وهذا ما لم يتوفر في كتاب معاليه كما يأتي بيانه، وذلك على النحو التالي :
1- قوله في العنوان :
" علموا أولادكم حب رسول الله "
هل المحبة تعلم تعليمًا، أو هي عمل قلبي يقوى وينمى ؟ !
كان الأولى بالدكتور أن يقول : بينوا لأولادكم وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونموها في قلوبهم؛ ببيان صفاته وخصائصه، وما جاء على يديه من هداية الأمة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وإنقاذها من الخرافات والبدع والشركيات إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة .
2- لماذا اقتصر معاليه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر محبة الله تعالى التي هي الأصل الذي تتبعه محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
لماذا يذكر الفرع ويترك الأصل ؟ !
ألم تكن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأتي بعد محبة الله تعالى في الكتاب السنة؛ كقوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } [ التوبة : 24 ] . . . إلى قوله تعالى : { أَحَبَّ إليكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 24 ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كن فيه؛ وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . . ) الحديث ؟ !(5/237)
وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] .
3- ما علاقة محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتداع الاحتفال في اليوم الذي يقال : إنه اليوم الذي ولد فيه، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، حيث ذكر معالي الدكتور ذلك في كتابه، ودعا إليه من صفحة ( 95 ) إلى صفحة ( 103 ) ، وحاول في هذه الصفحات أن يسوغ هذا الاحتفال؛ دون أن يبرز دليلًا صحيحًا واحدًا أو استدلالًا صحيحًا على ما قال، سوى أنه عادة أحدثها بعض الناس : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } .
ولسنا بصدد مناقشة الشبهات التي ذكرها هنا؛ لأن هذا له موضع آخر، وقد نوقشت والحمد لله في أكثر من كتاب وتبين أن الاحتفال بالمولد بدعه محدثة .
ونحن نسأل معالي الدكتور : هل شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الاحتفال لأمته أو هو شيء محدث بعده ؟
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
وهل فعله صحابته وخلفاؤه الراشدون الذين لا يسويهم أحد في محبته - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
هل كانوا مقصرين في محبته حين لم يفعلوه ؟ !
لا؛ بل إنهم لم يفعلوه؛ لأنه بدعة، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البدعة، وفعل البدع معصية له - صلى الله عليه وسلم - يتناقض مع محبته؛ لأن محبته تقضي متابعته وترك ما نهى عنه .
فيا معالي الدكتور ! كيف نعلم أولادنا محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ندعوهم لمخالفته بفعل البدع ؟ ! أليس هذا تناقضًا ؟ !(5/238)
ليتك قلت : علموهم متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانهوهم عن مخالفته، وألزموهم بطاعته؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
4- ما علاقة تحديد المكان الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموضوع محبته . . . حيث شغل الدكتور حيزًا كبيرًا من كتابه في البحث عن تحديده من صفحة ( 179 ) إلى ( 191 ) ، واتبع فكره وقلمه في ذلك بما لا جدوى من ورائه ولم يكلف بمعرفته .
هل عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المكان لأمته ؟ !
هل اعتنى الصحابة والتابعون ومن بعدهم من القرون المفضلة وأئمة الإسلام المعتبرون بتعيين هذا المكان ؟ !
وماذا يرجع على الأمة من تعيين ؟ !
لو كان في ذلك ما يعود على الأمة بخير؛ ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يهتم بشأن بيته الذي كان يسكنه في مكه قبل الهجرة، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، وقيل له : أتنزل في دارك ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - :
( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ؟ ) .
ما كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالأمكنة التي سكنها وعاش فيها؛ على أن يهتم بالمكان الذي ولد فيه، ولم يكن صحابته يفعلون ذلك؛ لأن ذلك يفضي إلى أن نتخذ هذه الأمكنة متعبدات ومعتقدات فاسدة .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة لم يهتم بشأن غار حراء الذي ابتدأ نزول الوحي عليه فيه؛ لأن الله لم يأمره بذلك .
ولما رأى عمر - رضي الله عنه - الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان؛ قطعها مخافة أن يفتن الناس بها .
فلا تفتحوا للناس بابًا مغلقًا، وتذكروا قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ } [ الفرقان : 63 ] .(5/239)
ولهذا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى البقعة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا فائدة من ذلك، وليس في الاعتناء بذلك دلالة على محبته - صلى الله عليه وسلم - وإنما علامة محبته - صلى الله عليه وسلم - اتباعه، والعمل بسنته وترك ما نهى عنه؛ كما قال الشاعر الحكيم في ملازمة المحبة للطاعة :
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
5- حشد معالي الدكتور في كتابه هذا أمورًا وأشياءَ كثيرة فيها نظر، وذكر فيها أحاديث لم يبين درجتها، ولم يوثقها من دواوين السنة المعتبرة .
والواجب عليه – كالباحث يحمل أكبر درجة علمية – أن لا يهمل ذلك؛ لأن القراء ينتظرون منه ومن أمثاله أن يقدم لهم بحثًا مستوفيًا الجوانب العلمية والمعنوية .
ومما جاء في كتابه :
أ أبيات : " طلع البدر علينا " ؛ قال عنها :
" هذا نشيد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون شك ولا ريب " . . .
إلى أن قال : " وقد ارتفع هذا النشيد لأول مرة من حناجر المسلمين والمهاجرين والأنصار منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا " .
ونقول : ما الذي يجعلك يا معالي الدكتور تجزم بسماع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النشيد دون شك ولا ريب ؟ وما الذي يجعلك تجزم بنسبته إلى المهاجرين والأنصار ؟ أين سندك في هذا ؟ أيظن معاليكم أن القراء يقتنعون بمثل هذا الكلام دون تحقيق وتوثيق ؟
كلا .
ب في ( ص111 ) قال معالي الدكتور : " وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن سنته ؟ فقال : المعرفة رأس مالي، والحب أساسي، والشوق مركبي . . . " الخ .
ولا ندري من أين جاء الدكتور بهذا الحديث، فهو لم يذكر له سند، ولم يعزه إلى كتاب، ولا تجوز النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون التثبت؛ لأن ما ينسب قد يكون مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فيدخل تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار ) .(5/240)
6- في الكتاب مبالغات في حقه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها، حيث قال عليه الصلاة والسلام :
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) . رواه البخاري وغيره .
ومن هذه المبالغات :
أ ما جاء في ( ص113 ) :
" واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع . . . الخ " .
ونقول تعقيبًا على ذلك : أليس الخضوع والعبادة حق لله ؟ ! وكذلك الخضوع، إذا كان القصد منه الخضوع بالجسم؛ فهو لا يكون إلا لله؛ لأنه سبحانه هو الذي يركع له ويسجد، وإذا كان المراد به الانقياد لطاعته؛ فالتعبير خطأ؛ لأنه موهم .
والمشروع عند ذكره صلى الله عليه وسلم هو الصلاة عليه، لا ما ذكره معالي الدكتور، وأن كان قد نقله عن غيره؛ فهو قد أقره .
ب جاء في ( ص 208 ) قوله :
" ومما تجدر الإشارة إليه أنه صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء خلقًا، وأن كان آخرهم مبعثًا " .
هكذا قال ! ولم يذكر له مستندًا ولا دليلًا ! !
وهل هناك أحد من بني آدم يخلق قبل خلق أبيه وأمه بآلاف السنين ؟ ! أليس نسل آدم كلهم من ماء مهين و { مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } ؟ !
كيف يخلق محمد صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء، ثم يخلق مرة ثانية، ويولد بعد ما تزوج أبوه بأمه، وحملت به عن طريق انتقاله ماءً دافقًا من صلب أبيه إلى رحم أمه؛ كما هي سنة الله في بني آدم ؟ ! هل خلق مرتين ؟ !
ويصر الدكتور على هذه المقالة المنكرة، حيث يقول في ( ص 211 ) :
" ولقد أنكر بعض المحدثين ( يعني : المعاصرين ) من الغيورين على الإسلام أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم عليه السلام . . . الخ " .
ويرد على هذا المنكر برد لا طائل تحته .
ومعنى كلامه أن أكثر المعاصرين موافقون له على هذه المقالة، أما السابقون؛ فلم يستثن منهم أحدًا .(5/241)
وهذا من التلبيس والمجازفة؛ فإن هذا القول لم يقل به أحد يعتد به من الأمة لا قديمًا ولا حديثًا . وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم؛ فهو إذن ليس من بني آدم .
وأيضًا؛ لماذا تحتفلون بولادته وهو مخلوق قبل آدم ؟ !
هذا تناقض عجيب .
وليت الدكتور بدل أن يقدم للقراء مثل هذه المعلومات الخاطئة قدم لهم معلومات صحيحة تفيدهم وتنفعهم من الحث على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وترك ما نهى عنه وحذر منه من البدع، فذلك خير وأبقى .
هذا؛ وسيكون لي – إن شاء الله – مع هذا الكتاب جولة أخرى لمناقشته، وليس لي قصد من وراء ذلك إلا بيان الحق والنصيحة .
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل .
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزماتها
تعقيب على ما نشره معالي الدكتور محمد عبده يماني في " مجلة أهلًا وسهلًا "
( العدد السابع، ذوالقعدة 1407هـ ) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان . وبعد :
فمما لا يشك فيه أي مسلم وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن بغضه صلى الله عليه وسلم أو بغض شيء مما جاء به ردة عن الإسلام، وأن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته، واتباعه وحسن الأدب معه، وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق، وتستلزم عدم الغلو في حقه، والاطراء في مدحه، والابتداع في دينه بإحداث شيء لم يشرع أو عمل شيء لم يأمر به .
أقول هذا بمناسبة أنني قد قرأت مقالًا للدكتور محمد عبده يماني في موضوع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفه بأوصاف خرج في بعضها إلى حد الإطراء الممنوع؛ كما سأبين ذلك .(5/242)
ولكنني قبل هذا البيان أتساءل : ما الذي حمل معالي الدكتور محمد على نشر هذا المقال بين ركاب الطائرات ؟ هل هو لتعريف المسلمين بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان خصائصه وصفاته ؟ فما أظن مسلمًا يجهل ذلك ولو بصفة إجمالية، وإنما الذي يجهله غالب المسلمين اليوم ويجب أن يبين لهم هو هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته وعبادته والشريعة التي جاء بها في الأمور التي حذر منها، هذا هو الذي يحتاج الناس إلى بيانه وشرحه، وهو الذي ينبغى للدكتور محمد عبده وغيره من أصحاب الأقلام أن يشرحوه ويوضحوه للناس في مختلف الوسائل الإعلامية وغيرها، خصوصا ما يتعلق بأمور العقيدة .
هذا، ونأتي الأن على الأخطاء التي وقعت في مقال معالي الدكتور محمد، وفقنا الله وإياه للصواب، وهي :
1- قوله : " ما أجمل أن نرتبط بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أقول : هذا كلام مجمل؛ فإن كان يريد ما يفعله المبتدعون من إحياء الموالد والهتاف بالأناشيد الجماعية المتضمنة للغلو في مدحه أو الاستغاثة به ودعائه من دون الله؛ فهذا منكر وباطل، لا يجوز لمسلم أن يفعله أو يرضى به بل يجب منعه وإنكاره .
وإن كان يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته؛ فهذا حق وواجب، لكن لا يسمى ذكرى، وليس المقصود منه إحياء الذكرى، بل المقصود منه طلب الهداية والنجاة، ويسمى اتباعًا لا ذكرى؛ لأن تسميته ذكرى – ولا سيما في وقتنا هذا – توهم ارتباطه بوقت معين هو يوم مولده، فيكون هذا من الدعوة لإحياء الموالد المبتدعة، فيحسن أن يقال :
ما أجمل أن نتبع سنة نبينا .
2- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وإنه سوف يعطيك حتى ترضى، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } . "(5/243)
لو قال : يعطيك ربك فترضى؛ كما هو لفظ في الآية التي ساقها؛ بدل : " حتى ترضى " ؛ لكان ذلك هو الصواب المطابق للآية؛ لأن التقيد بألفاظ الكتاب والسنة أضمن للصواب وأبعد عن الغلو والمخالفة، وفرق بين المعنيين .
3- قوله : " يذكرني يا رسول الله قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } " .
قال الدكتور :
" ما هذه العظمة ؟ ! ما هذه المقامات العلى ؟ ! استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوك أولًا، ثم تستغفر لهم بعد أن يستغفروا، عندها يجدون الله توابا رحيما " .
ونقول للدكتور محمد :
أولًا : ليس في الآية الكريمة أن استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم كما قلت، وليس فيها أنهم لا يجدون الله توابًا رحيمًا إلا إذا فعلوا ذلك، وإنما فيها إرشادهم أن يستغفروا، ويذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار لهم؛ ليكن ذلك أرجى للقبول وحصول المغفرة والرحمة، وإلا فمن استغفر الله صادقًا مخلصًا؛ غفر الله له، ولو لم يستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما تدل عليه الآيات الآخرى والأحاديث النبوية .
ثانيًا : المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار منه خاص في حال حياته، أما بعد موته عليه الصلاة والسلام؛ فلا يجوز الذهاب إلى قبره، وطلب الاستغفار منه؛ لأن هذا شيء لم يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا إذا أجدبوا؛ طلبوا من عمه العباس – أو من غيره من الصالحين – أن يدعو الله لهم بالسقيا؛ كما فعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكونوا يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه الدعاء والاستغفار؛ كما كانوا يفعلون ذلك في حال حياته .(5/244)
وإطلاق الدكتور محمد هذا الكلام الذي قاله يفهم منه العموم، فيغتر به الجهال، ويظنون أن ذلك مستمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
4- قوله : " وناهيك من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ } " .
نأخذ عليه في ذلك مأخذين :
المأخذ الأول : أنه لم يكمل الآية الكريمة بذكر بقيتها، وهي قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
المأخذ الثاني : أنه لم يبين المراد من الآية، وأن المقصود منها أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم حيّا بين أظهرهم ضمانة لهم من وقوع العذاب، أما بعد خروجه من بين أظهرهم بالهجرة أو بوفاته صلى الله عليه وسلم فقد فقدت هذه الضمانة، ولم يبق إلا الضمانة الثانية، وهى الاستغفار .
قال ابن عباس رضي الله عنهما :
" كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار " .
وقال أيضًا :
" إن الله جعل في هذه الأمة أمانين، لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم ( يعني : الاستغفار ) .
ذكر ذلك ابن كثير، ثم ذكر ما رواه الترمذي بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنزل الله علي أمانين لأمتي : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، فإذا مضيت؛ تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة ) .
5- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وما اختص الله تعالى أحدًا ممن شاء أو يشاء ببعض ما اختصك به " .(5/245)
هذا القول فيه غلو وتقوّل على الله تعالى بلا علم، ثم هو مخالف للواقع، فقد اختص الله تعالى بعض أنبيائه بخصائص عظيمة، فخلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وجعل إبراهيم إمامًا للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، واتخذه خليلًا، وكلم موسى تكليمًا، وخلق عيسى من أم بلا والد، وأيده بروح القدس، وجعله يكلم الناس في المهد، ويحي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله .
قال تعالى :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } .
ولا شك أن أكملهم وأفضلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختصه الله بخصائص عظيمة، لكن القول بأنه ما اختص أحدًا ببعض ما اختصه به كلام غير سليم؛ لأن الأنبياء يشتركون في بعض الصفات، ويتفاضلون في بعضها، فالخلة مثلًا مشتركة بين إبراهيم ومحمد عليهما السلام .
6- قوله : " وكما أدبك ربك يا رسول الله فأحسن تأديبك، ولم يختص بذلك أحدًا غيرك " .
نقول : هذا النفي فيه نظر، إذ كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أدبهم ربهم، وهيأهم لحمل رسالته، وأهلهم لكرامته؛ قال تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
وقال في حق يوسف عليه السلام : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيمَ وَإِسْحَاقَ } .
وقال في حق موسى عليه السلام .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ، وقال { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .(5/246)
ولم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم : أن ربه اختصه بأن أدبه فأحسن تأديبه؛ حتى يصح ما قاله الدكتور محمد، وإنما أخبر أن الله أدبه فأحسن تأديبه – إن صح الحديث -، ولم ينف ذلك عن غيره من الرسل .
7- قوله : " ولم يعرف رسول من الرسل أمر الله بغض الصوت عنده إلا سيد الأولين والآخرين " .
نقول : بل كل الرسل يجب احترامهم وتوقيرهم، وتحرم إساءة الأدب معهم؛ برفع الصوت وغيره من أنواع الأذى .
قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } .
وقال الله لبني إسرائيل : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } . والتعزير معناه : التوقير والمناصرة، وهذا يعني تحريم أذيتهم بالقول والفعل .
8- قوله : " فجعل أمره صلى الله عليه وسلم من أمر الله؛ كما جعل طاعته هي عين طاعته، من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " .
أما قوله : " إن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الله " ؛ فهذا صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمره الله به؛ كما قال تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
وأما قوله : " إن طاعة الرسول هي عين طاعة الله " ؛ فهو محل نظر؛ لأن طاعة الرسول مستقلة عن طاعة الله، لكنها تابعة لها ومرتبطة بها، ولهذا عطفها الله عليها في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ } ، والعطف يقتضي المغايرة .
وطاعة الله تعني الأخذ بكتابه، وطاعة الرسول تعني الأخذ بسنته .
قال ابن كثير : " { أَطِيعُواْ اللَّهَ } ؛ أي : أتبعوا كتابه، { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ؛ أي : خذوا بسنته " انتهى .
وطاعة الله تعني العبودية له سبحانه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني المتابعة له والإقرار برسالته، وبينهما فرق واضح .(5/247)
وقول الدكتور : " من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " ؛ إن كان يقصد به تلاوة الآية؛ فليس هذا لفظها، وإنما لفظها : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه؛ فقد أطاع الله، ومن عصاه؛ فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } " .
9- قوله : " كما جعل مبايعته هي عين مبايعته؛ { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } " .
نقول : وهذا من جنس ما قبله، فليست مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي عين مبايعة الله؛ كما يقول الدكتور، بل هي من جنس قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، وهذا من باب التشريف والتكريم له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالته .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية :
" أي : هو معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } الآية " .
ثم ساق الحديث بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سل سيفه في سبيل الله؛ فقد بايع الله ) .
وساق الحديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود : ( من استلمه؛ فقد بايع الله تعالى ) .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } .(5/248)
فالآية الكريمة إنما تدل على أن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي بمنزلة مبايعة الله عز وجل، لا أنها عين مبايعة الله؛ بدليل أنه ذكر مبايعتين : مبايعة الرسول، ومبايعة الله، فدل على التغاير؛ كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، فذكر طاعتين، وهذا واضح بحمد الله لكل من تأمله .
والذي نريده من معالي الدكتور تجنب هذه الإيهامات التي قد يفهم منها خلاف المقصود، وتكون سببًا لبلبلة الأفكار .
والله الموفق، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .
تعقيب على ما كتبه الدكتور أحمد جمال العمري في موضوع زيارة المسجد النبوي الشريف
ينشط بعض كتابنا وشعرائنا في أول ربيع الأول في كتابة المقالات وإنشاء القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر سيراته وتساعدهم بعض الصحف والمجالات بنشر تلك المقالات والقصائد على ما فيها من غلو وخطأ في المعلومات والأحكام الشرعية، ولا نرى لها سببًا ظاهرًا سوى مشاركة المبتدعه في إحياء ذكر المولد النبوي في أول هذا الشهر والتي أحدثها الفاطميون الشيعة في آخر القرن الرابع وتوارثها من لا يميز بين السنة والبدعة .
وأن المفروض في صحفنا ومجلاتنا أن تكون يقظة، لا تنشر إلا ما هو جاد ومسمر ومفيد للأمة؛ لأنها تصدر من بلاد التوحيد ومهبط الوحي فهي محل القدوة للعالم الإسلامي كله، فيجب ألا تنشر ما يحل بالعقيدة، ويشجع البدعة .
وكان من جملة ما نشر بهذا الصدد كلمة للدكتور أحمد جمال العمري في جدة، نشرتها " مجلة القافلة " التي تصدر من الظهران في ( العدد الثالث، المجلد الثالث والثلاثون – في ربيع الأول 1405هـ ) ، هذه الكلمة بعنوان : ( في رحاب المسجد النبوي الشريف ) .(5/249)
وقد اشتملت على أخطاء ومغالطات لا يسع من قرأها من أهل العلم السكوت عليها، فكان لا بد من بينها؛ نصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهي كما يلي الرد عليها :
1- قال : " والذي لا شك فيه أن من أبرز فضائل المدينة المنورة أنها تحوي المسجد النبوي الشريف، الذي يضم قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر خليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " .
هكذا قال ! !
ونحب أن ننبه الدكتور وغيره إلى أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضم قبرًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من بناء المساجد على القبور وشدد في ذلك، ولعن من فعله وهو في سياق الموت .
ولما توفي صلى الله عليه وسلم دفنه الصحابة في بيته في حجرة عائشة خارج المسجد، ودفن فيما بعد معه الخليفتان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما وهكذا كان المسجد الشريف على حده، والقبور في بيت النبي صلى الله عليه وسلم على حده، وقد بينت عائشة رضي الله عنها الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم بقولها :
لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذالك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ؛ يحذر ما صنعوا، فلولا ذلك؛ لأبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا . رواه البخاري ومسلم .
وقد بقي قبره صلى الله عليه وسلم معزولًا عن المسجد، والمسجد خال من القبور؛ كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه، حتى جاء عهد الوليد بن عبد الملك بعد موت الصحابة، وأراد توسعة المسجد، فشملت التوسعة الجهة الشرقية، ودخلت بسببها الحجرة النبوية في المسجد .
ولم يكن هذا بمشورة أهل العلم وموافقتهم، وإنما نفذ بقوة السلطة .
وكان الخلفاء قبل الوليد يوسعون المسجد من الجهات الآخرى، ويتركون الجهه الشرقية؛ تفاديًا لدخول الحجرة النبوية .(5/250)
فلم يكن تفضيل المسجد النبوي من أجل القبر، بل لأنه أحد مساجد الأنبياء التي تشد الرحال للصلاة فيها، وفضيلته ثابتة قبل إدخال الحجرة فيه، والذين أدخلوا الحجرة فيه إنما قصدوا التوسعة، وحصل دخولها تبعًا لا قصدًا .
2- استدل على مشروعية زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } .
وبالحكاية المروية عن العتبي أن أعرابيًا جاء إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال : السلام عليك يا رسول الله ! سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ } الآية . . . إلخ القصة .
والجواب أن نقول :
أما الآية؛ فلا يصح الاستدلال بها على مشروعية زيارة القبر؛ لأن المقصود بها المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته، وذلك لأمور :
1 ) أنه سبحانه قال : { جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك . ومعلوم أنه لو قال شخص لآخر : ائتني لأعطيك كذا، أو لأعمل لك كذا؛ لم يفهم المخاطب أن المراد المجيء إلى قبر القائل بعد موته، وإنما يفهم أن المراد المجيء إليه في حياته خاصة .
2 ) أنه سبحانه قال : { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } ، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حياته لا بعد موته؛ لأن الميت لا يتأتى منه الاستغفار لأحد؛ لأنه عمل، والميت قد انقطع عمله؛ كما في الحديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله . . . ) .(5/251)
3 ) أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا هذا الفهم، فلم يكونوا يأتون إلى قبره عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه أن يستغفر لهم، بل إنهم لما قحطوا؛ لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، وإنما ذهبوا إلى عمه العباس، وطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، والقصة مشهورة، فعدلوا عن الفاضل إلى المفضل؛ لعلمهم أنه لا يشرع طلب الدعاء من الميت .
وأما قصة العتبي وما فعله الأعرابي؛ فلا تصلح دليلًا؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالقصص والحكايات والمنامات، وإنما تثبت بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وفعل هذا الأعرابي مخالف لمدلول الآية التي ذكرها كما قلنا؛ لأن الله قال :
{ جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك، ومخالف أيضًا لهدي الصحابة والتابعين لهم باحسان، فلم يكن أحدًا منه يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة؛ كما فعل هذا الأعرابي، فلوا كان الصحابة يفهمون من الآية أنها تطالبهم بهذا؛ لتبادروا إليه .
3- تناقض الدكتور في حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة يقول : " وقد أجمع العلماء في كافة الأزمان والعصور على وجوب زيارة قبره الشريف " .
وقال : " ومهما يكن من أمر؛ استنبط الأئمة من الآية الكريمة ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب زيارته " .
وتارة يقول : " وهنا يتجلى سؤال هام : هل هذه الزيارة واجبة ؟ " .
ثم ساق أقوال العلماء في ذلك . وهذا تناقض واضح أتركه بدون تعليق .
مع أننا لا نشك في مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية وفضيلتها، لكن بدون غلو، وبدون سفر، بل كما كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يفعل، فقد كان ابن عمر إذا قدم من سفر يقول :
" السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت " ، ثم ينصرف .(5/252)
ولم يكن يفعل هذا دائمًا، بل يفعله إذا قدم من سفر، ولم يكن هو ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويترددون عليه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيدًا بالتردد عليه .
4- ثم قال الدكتور :
" وقد وردت أحاديث كثيرة تنص على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ منها : ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ) ، و ( ومن زار قبري وجبت له شفاعتي ) ، و ( من حج ولم يزرني؛ فقد جفاني ) ، وهذه الأحاديث وإن طعن في أسانيدها؛ إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد كما يقول رجال الحديث " انتهى كلام .
والجواب عنه أن نقول :
أولًا : لم يبين الدكتور نوعية الطعن في أسانيد هذه الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينكشف أمرها للقراء؛ لأنها قد طعن فيها الحفاظ بالضعف المتناهي في بعضها، وبعضها الآخر، قالوا : أنه موضوع .
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي :
" وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم أنها بضعة عشر حديثًا ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة وهي، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع " .
وقال أيضًا :
" فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفه أو موضوعه لا أصل لها " انتهى من " الصارم المنكي "
( ص30 و244 ) .
ومن جملة هذه الأحاديث ما ذكره الدكتور في هذه المقالة .
ثانيًا : قوله : " إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد " .
نقول : كثرتها لا تفيدها شيء مادامت كلها واهية أو موضوعة .
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي :
" وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الباب (1) . ، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها " .
وقال أيضًا :(5/253)
" وعلى كل تقدير؛ فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت؛ وجدت رواتها أما كذاب وأما ضعيف سيء الحفظ " انتهى .
وقد بين رحمه الله طرق هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، وأجرى عليها دراسة دقيقة في هذا الكتاب القيم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهو كتاب مطبوع ومتداول، ينبغي لطالب الحق الاطلاع عليه .
5- ثم قال الدكتور :
" وإذا دخل المسجد النبوي الشريف؛ فعل ما يفعله في سائر المساجد . . . " .
إلى أن قال :
ثم يصلي عند منبره ركعتين، ويقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الايمن، وهو موقفه عليه الصلاة والسلام وهو بين القبر الشريف والمنبر، ثم يسجد لله شكرا على ما وفقه " انتهى كلامه .
ولنا عليه ملاحظات :
الأولى : تحديده مكان الصلاة عند المنبر، وأن يجعل عموده بحذاء منكبه الايمن تحديد لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما بيين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) .
فكل ما بين بيته صلى الله عليه وسلم ومنبره فاضل، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام ) .
فجعل المسجد النبوي كله مكان لفضيلته .
فلما تحجرت واسعًا أيها الدكتور، وحصرت الفضيلة في مكان ضيق، من غير دليل ؟ !
ثم لماذا قلت : " بين القبر الشريف والمنبر " ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما بين بيتي ومنبري ) ، ولم يصح أنه قال : " ما بين قبري ومنبري " ؟ ! وإنما هذه رواية؛ قالوا : أنها رواية بالمعنى .(5/254)
والملاحظة الثانية على قوله : " ثم يسجد لله شكرًا " ، فما دليله على مشروعية سجود الشكر في هذا الموضوع ؟ ! فإن العبادات لا تثبت إلا بالدليل، وقد كان الصحابة وسائر المسلمين يدخلون المسجد النبوي، وما ذكر أنهم يسجدون سجود الشكر .
الملاحظة الثالثة : ما الذي يدريه أن هذا المكان بالذات هو موقف الرسول ؟ ثم لو كان؛ فما الدليل على أنه يشرع الصلاة فيه خاصة ؟
6- ثم قال الدكتور : " ويقف ( يعني : عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ) كما يقف في الصلاة " .
وأقول : هذا من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يقف عند السلام على الرسول؛ كما يقف في الصلاة إمام الرب سبحانه .
7- ثم بعد ما ذكر الدكتور صفة السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر .
قال : " ثم يدعو لنفسه ووالديه ولمن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين " .
وهذا الذي قاله الدكتور لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يتحرون الدعاء عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعوا لنفسه؛ استقبل القبلة، ودعا في مسجده، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة " .
وقال أيضًا :
" لم يقل أحد من العلماء : أن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره، والمشروع عند زيارة القبر السلام والدعاء للميت فقط " .
8- ثم قال الدكتور :
" ويستحب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس، ويقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص " .
ونحن نسأل الدكتور : بأي دليل خصصت يوم الخميس لزيارة الشهداء ؟ ! وما دليلك على مشروعية قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص عند زيارة قبورهم ؟ !
والذي قرره العلماء أن القراءة على القبور بدعة، والمشروع عند زيارتها السلام على أموات المسلمين، والدعاء لهم، والاعتبار والاتعاظ .(5/255)
هذا هو الثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
9- ثم ختم الدكتور مقالته بقوله :
" وإذا أراد الرجوع إلى بلده؛ استحب له أن يودع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحب " .
وهذا كالذي قبله يفتقر إلى دليل؛ لأن العبادات توقيفية .
والله أعلم .
وختامًا :
نحن لا نعترض على مدح النبي صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا إطراء ما دام لم يخصص في وقت معين، وكذا لا نعترض على دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم على مدار السنة كلها؛ لأجل أخذ القدوة منها، وإنما نعترض على تخصيص وقت معين هو أول ربيع الأول فقط .
ونسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
توضيح حول الاحتفال بالمولد النبوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .
و بعد :
فقد اطلعت في " جريدة المدينة المنورة " ( العدد 5427، بتاريخ 1/4/1402هـ ) على ما كتبه الأخ الأستاذ أسعد أبو الجدايل حول تعقيبي على الاحتفال بالمولد النبوي، وقد طلب مني سعادته توضيح الأمور التالية :
1 – يقول : " إذا سمينا الاحتفال بالمولد جدلًا عبادة، باعتباره ذكرًا، والذكر من العبادات، فما الذي يمنع من أن نعتبره نوعًا من التنظيم لبعض أحوال هذه العبادة ينجر عليه ما انجر على عبادة التراويح التي نظمها الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب . . . " .
2 – " ما المانع أن يكون الاجتماع لتذكر وتدارس سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم بدعة حسنة، خاصة وقد استحسن ذلك الكثير من المسلمين في شتى أصقاع الدنيا منذ مئات السنين، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد مرفوعًا إلى الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا، فهو عند الله قبيح " ؟ . . . " .(5/256)
3 – " إذا كان من فضل يوم الجمعة أنه ولد فيه أبو البشر آدم عليه السلام، فشرف به الزمان – أعني : الزمن المتجدد بيوم الجمعة – فما الذي يحول دون أن يشرف يوم الاثنين الذي ولد فيه أكرم خلق الله على الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحتفل المسلمون بذكر مولده فيه، سواء فيه أو بعده، خاصة وقد أشاد به صلى الله عليه وسلم – عندما سئل عن صومه فيه – بقوله : ( ذلك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إلي ) " .
4 – " ثم إن البدعة يجب أن تعرض على أدلة الشرع، فإن كان فيها مصلحة، فهي واجبة، وإن اشتملت على محرم فهي محرمة . . . " الخ الأحكام الخمسة .
5 – " علاوة على أنه ليس كل بدعة محرمة وإلا لحرم جمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم القرآن وكتبه في المصاحف بأوسع مما كتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . . . " .
ثم راح يمثل بأمور استجدت، مثل ما استجد من أدوات القتال، والأذان على المنائر، واتخاذ الربط والمستشفيات والمدارس . . .
6 – " استحدث أمور كثيرة لم تكن على عهد السلف، منها جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لإقامة صلاة التهجد بعد صلاة التراويح، وقراءة دعاء ختم القرآن .
و كما يقال مما يشبه الخطبة من الإمام بالحرمين الشريفين ليلة سبع وعشرين في صلاة التهجد وكنداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله .
فكل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، فهل يكون فعلنا له بدعة ؟ ! " .
هذا حأصل ما وجهه إلي الأستاذ أنور من إشكالات، أو ما يعده مسوغات للاحتفال بالمولد النبوي .
- وجوابي عن ذلك :
إنني أولًا : أشكر الأخ الأستاذ أنور على حرصه على معرفة الحق للعمل به، وهذا شأن المؤمن، وأسال الله لنا وله ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح الخاص لوجهه، وأقول :(5/257)
1 – إذا كان الاحتفال بالمولد عبادة، وهو عبادة لا شك، فالأصل في العبادات التوقيف، فلا يثبت منها شيء إلا بدليل ولا دليل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي حتى يثبت له أصل ينجر عليه التنظيم الذي ذكرت، مع أن العبادة توقيفية في أصلها وفي صفتها التي تؤدى عليها وفي توقيت آدائها .
أما ما ذكرت من أن عمر رضي الله عنه نظم عبادة التراويح، فالواقع أن عمر لم يحدث في التراويح أي زيادة عما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما احياها كما كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث جمع الناس على إمام واحد فيها .
2 – وأما الاجتماع لتدارس سيرته صلى الله عليه وسلم إذا لم يقيد بوقت خاص كيوم مولده، فهو شيء طيب، وليس هو من البدعة لأن الله تعالى يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ودراسة سيرته العطرة وسيلة للاقتداء به، ولكن لا يخصص ذلك بوقت معين، لأنه لا دليل على التخصيص .
وأما ما ذكرتم من استحسان الكثير من أناس لهذا، فلا يصلح دليلًا على جواز الاحتفال ما دام أن ذلك حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة .
وأما الأثر الذي ذكرتموه عن عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا . . . " الخ، فهو يعني ما أجمع عليه المسلمون . وهل الاحتفال بالمولد النبوي كذلك قد أجمع عليه المسلمون ؟ ! لا .
ثم قولكم عن هذا الأثر : " رواه الإمام أحمد مرفوعًا إلى الصحابي " ، لا أدري كيف غاب عنكم أن المرفوع هو ما كان ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما كان إلى الصحابي فيسمى موقوفًا . . .
3 – قولكم عن يوم الجمعة : " إنه ولد فيه آدم " ، مع أن آدم عليه السلام لم يولد، وإنما خلق، فلعل هذا سبق قلم، ومقصودكم – حفظكم الله – أن يعظم يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم كما عظم يوم الجمعة، لوقوع خلق آدم فيه .(5/258)
والجواب عن ذلك أن يوم الجمعة فضل لمزايا كثيرة تزيد عن أربعين مزية ذكرها ابن القيم في " زاد المعاد " ، وألف في خصائص يوم الجمعة مؤلفات .
ثم إن تعظيم يوم الاثنين الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه صلى الله عليه وسلم من صيام هذا اليوم، فلا يحدث فيه عبادة لم يشرعها، مع أن مزية يوم الاثنين لا تقتصر على حصول ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، بل له مزايا أخرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .
4 – قولكم : " أن البدعة يجب أن تعرض على أدلة الشرع، فإن كان فيها مصلحة، فهي واجبة . . . " الخ .
نقول : أولًا : الوجوب حكم شرعي، ولابد له من دليل شرعي، وهذا التقسيم الذي ذكرته لا دليل عليه، بل الدليل يدل على أن كل البدع حرام .
ثانيًا : مجرد وجود المصلحة في الشيء لا يكفي حتى ينظر : هل هي راجحة على المفسدة أو بالعكس ؟
والاحتفال بالمولد، إن قدر أن فيه مصلحة فمضرته أرجح لأنه بدعة ومفاسد البدع كثيرة، وليس بالإمكان حصرها، وأكتفي لبيانها بالإحالة على كتاب " السنن والمبتدعات " لعبد السلام خضر، وكتاب " البدع والنهي عنها " لابن وضاح، ومثله للطرطوشي، وكتاب " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ على محفوظ، وكتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب " المدخل " لابن الحاج، ورسالة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، والتحذير من البدع لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرها .
والواقع يؤيد ما ذكر في تلك الكتب من مفاسد الموالد .
5 – وأما قولكم : " علاوة على أنه ليس كل بدعة محرمة " واستشهادكم بجمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم للقرآن وكتبه في المصاحف بأوسع مما كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلكم بالأمور التي استجدت، أقول عنه :(5/259)
أ – قولكم : " ليس كل بدعة محرمة " قول مخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وشر الأمور محدثاتها ) .
والمراد ب- ( المحدثات ) المذكورة في الحديثين : المحدثات في الدين وأمور العبادة، لا المحدثات في أمور العادات .
فمقتضى الحديثين أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، وأنت تقول : ليس كل بدعة محرمة ! فعليك إعادة النظر فيما تقول، وفقنا الله وإياك للصواب .
ب – استشهادكم بجمع الخلفاء الراشدين للمصحف لا دليل لكم فيه من ناحيتين :
أولًا : إن أصل كتابة القرآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عمل الخلفاء رضي الله عنهم تكميلًا لذلك، وهو من وسائل حفظ القرآن، وقد قال الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
ثانيًا : إن هذا من عمل الخلفاء الراشددين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشددين . . . ) الحديث .
والاحتفال بالمولد ليس له أصل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا هو من عمل الخلفاء الراشدين .
ج – وأما ما ذكرتم من الأمور التي استجدت، فهي ليست بدعًا، بل هي أمور بعضها عبادة لها أصل في الشرع، وليس هو مما استجد، فأدوات القتال يقول الله فيها : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } .
وكلمة { قُوَّةٍ } نكرة في سياق الأمر تعم كل ما يسمى قوة في كل زمان بحسبه . والأذان على شيء مرتفع كان موجودًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، والأذان على المنائر من ذلك .
واتخاذ الربط والمستشفيات والمدارس هو من العادات المباحة أو الوسائل التي تعين على طلب العلم المشروع .(5/260)
6 – أما الأمور التي ذكرتم أنها استحدثت ولم تكن على عهد السلف، وذكرتم منها جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لإقامة صلاة التهجد بعد صلاة التراويح، فالجواب : أن صلاة التهجد في آخر الليل في العشر الأواخر من رمضان ليست أمر مستجدًا، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان يجمع الناس على إمام واحد، فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، ويستوي في ذلك ما كان أول الليل أو آخره، كل ذلك يدخل في صلاة التراويح المشروع آداؤها جماعة، غاية ما يقال : أنها قسمت على فترتين، طلبًا لزيادة الأجر، وكلا الفترتين تراويح . أما تسمية العوام للفترة الأولى بالتراويح والفترة الثانية بالقيام، فهي تسمية ليس فيها حجة .
وأما دعاء ختم القرآن الذي يدعى به عند الانتهاء من قراءة القرآن، فهو من فعل السلف :
كان أنس رضي الله عنه إذا ختم، جمع أهله وعياله ودعا . واستحبه الإمام أحمد وغيره، ونقله عن عثمان وغيره . وللطبراني عن العرباض مرفوعًا : " من ختم القرآن فله دعوة مستجابة " . وقال مجاهد : " وكانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون : عنده تنزل الرحمة " . راجع كتاب " التبيان " للنووي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وروي عن طائفة من السلف : عند كل ختمة دعوة مجابة . فإذا دعا الرجل عقيب الختمة لنفسه ولوالديه ولمشايخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات، كان هذا من الجنس المشروع، كذلك دعاؤه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الأجابة " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 24/322 ) .
أما ما ذكرته مما يفعل في الحرمين ليلة سبع وعشرين مما يشبه الخطبة من الإمام في صلاة التهجد ونداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله، فهذا مما لا أعرف له أصلا، ولعل رئاسة الحرمين تنظر في هذا الموضوع، مع أن عمل بعض الناس لا يصلح حجة، لأنه عرضة للخطأ .(5/261)
وأقول : أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة على المؤمن، بحيث يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يكون مؤمنًا إلا إذا كان كذلك، كما أن ذكره صلى الله عليه وسلم يتردد في المناسبات المشروعة في اليوم والليلة بأعلى صوت في الأذان والإقامة خمس مرات، ويتردد ذكره صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والأخير من الصلاة المفروضة، وفي التشهد من صلاة النافلة، بل عند جمع من العلماء لا تصح صلاة فريضة أو نافلة حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير منها .
وقد أمرنا الله تعالى في محكم كتابه بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
فقد رفع الله له ذكره، ومن شروط الخطبتين في الجمع والأعياد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشهادة له بالرسالة، بل يستحب الابتداء بذلك بعد حمد الله والشهادتين في مطلع كل حديث له أهمية .
وكما أشرنا في ابتداء هذه المقالة : أنه ينبغي مطالعة وقراءة سيرته العطرة، وقراءتها على المسلمين، وتقريرها في المدارس والجامعات، لاقتباس القدوة الحسنة منها .
هذا هو المشروع في حقه صلى الله عليه وسلم، مع إجلاله واحترامه وتوقيره وتعظيم كلامه وأحاديثه وامتثال أوامره واجتناب مناهيه، فكل طاعة يفعلها المسلم، فإنه يتذكر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجدد محبته له، لأنه هو الذي دله عليها، وأرشده إليها، وله صلى الله عليه وسلم من الأجر مثل أجر من عملها، من غير أن ينقص من أجره شيئًا .
إذا فعل المسلمون ذلك، لم تزل ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم معهم ليلًا ونهارًا، في كل يوم وفي كل شهر، لا في يوم مولده خاصة .(5/262)
بل إن المسلم حين يقرأ القرآن الكريم تتردد عليه ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الآيات التي فيها مخاطبته، والآيات التي فيها الثناء عليه، والآيات التي فيها أمر الأمة بطاعته واتباعه، وغير ذلك .
ثم ليعلم أن عمل المولد مع كونه بدعة، فهو تشبه بالنصارى الذين يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد نهينا عن التشبه بهم في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم وصفاتهم .
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) .
وعمل المولد في الإسلام إنما حدث بعد القرون المفضلة في القرن السادس، ولم يكن الذي أحدثه من علماء المسلمين، ولم يكن بفتوى من علماء المسلمين، بل أحدثه ملك من الملوك قلد به من حوله من دول النصارى، وقيل : أن أول من أحدثه الفاطميون . وعلى كل حال، فالحق إتباع السنة واجتناب المخالفة أيًا كان مصدرها .
ونحن لم نر شيئًا من المحاسن والمزايا التي يزعمها المؤيدون لإقامة المولد، لم نر شيئًا من ذلك ظهر عليهم من التأسي، فالغالب عليهم الكسل عن الطاعات، والزهد في السنن .
وهذا شأن كل من يشتغل بالبدع، فإنها تصرفه عن السنن والعمل، ولا يكون العمل صالحًا مقبولًا عند الله إلا إذا توفر فيه شرطان :
الأول : أن يكون صوابًا على شرع الله .
الثاني : أن يكون خالصًا لوجه الله عز وجل .
قال الله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
فقوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ } : فيه وجوب الإخلاص . وقوله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } : فيه وجوب المتابعة والتحذير من البدع .(5/263)
هذا وملاحظة أخيرة، هي أن الأستاذ أنور أورد الأثر الذي رواه البخاري في قصة جمع عمر بن الخطاب للناس على إمام واحد في صلاة التراويح بعد أن كانوا يصلونها أوزاعًا متفرقين، ولم يورد الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أصل مشروعية الجماعة خلف إمام واحد، وها أنا أورده لتتكامل الصورة أمام القارئ الكريم، ويعرف أن عمل عمر رضي الله عنه لم يكن إحداث شيء جديد في هذه العبادة :
فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى، أقبل على الناس فتشهد، ثم قال : " أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما .
فعلم من ذلك أن دور عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح إنما هو إحياء ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي الثلاث المذكورة في الحديث، ولم يحدث شيئًا جديدًا منها، وأن معنى قول عمر رضي الله عنه : " نعمت البدعة هذه " هو البدعة اللغوية لا البدعة الشرعية، لأن التراويح ليست بدعة، واجتماع الناس فيها على إمام واحد ليس بدعة .
هذا وأسال الله لي وللاخ أنور ولجميع المسلمين التوفيق لمعرفة الحق والعمل به .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج بدعة يجب إنكارها(5/264)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة الدعوة " ( العدد 940 – الصادر في يوم الاثنين 29 رجب 1404هـ ) على مقال للسيد حسن قرون يحاول فيه أن يسوغ الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، ويلتمس من كلام ابن القيم ما يؤيد رأيه، حيث يقول في معرض كلامه ما نصه :
" وأعود إلى الأشهر الحرم، وأقف وقفة مناسبة من شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم كما قررنا، فنجده خص بحدثين عني بهما المؤرخ والمتعبد :
أما الحدث الأول، فقد حرره المتأخرون من المؤرخين مثل صاحب السيرة الحلبية، فقد عين ليلة الإسراء والمعراج بأنها وقعت في ليلة السابع والعشرين من رجب، ويحتفل المسلمون في ديار الإسلام بتلك الليلة، وابن قيم الجوزية في كتابه " زاد المعاد " يدير بحثًا طويلًا في الأيام المفضلة، ويجعل منها ليلة الإسراء والمعراج، ويضع موازنة بينها وبين ليلة القدر، قائلًا في ختامها :
وقد قال بعض الناس : أن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الاسراء . فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له " .
ثم يقول الكاتب :
" وأنا وإن كنت لا أحب البحث في التفضيل، إلا أن ما ذكره يدل على عنايته بليلة الإسراء " انتهى كلامه .
وأقول : أولًا : قول الكاتب : " ويحتفل المسلمون في ديار الإسلام بتلك الليلة " قول باطل، حيث ادعى أن المسلمين جميعهم يحتفلون بتلك الليلة، والحق أن المسلمين المتمسكين بالسنة لا يحتفلون بتلك الليلة، ويعدونها كسائر الليالي، حيث لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ومن جاء بعدهم من القرون المفضلة الاحتفال بتلك الليلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) .(5/265)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وإنما يحتفل بتلك الليلة المبتدعة من المسلمين ومن يقلدهم من الجهال، وهؤلاء لا يمثلون المسلمين في هذا العمل المبتدع .
وأقول ثانيًا : ما نقله عن ابن القيم لم ينقله بأمانة، لأنه حذف أول الكلام الذي فيه رد عليه في تعيين ليلة الإسراء والمعراج، وفي حكم الاحتفال بها وتخصيصها بعبادة دون غيرها . . .
وإليك كلام ابن القيم من أوله بنصه، حيث يقول رحمه الله :
" فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل، فأيهما المصيب ؟
فأجاب : الحمد لله : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل من ليلة القدر، فهذا باطل، لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام، هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر، فإنه قد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) .
وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنه أنزل فيها القرآن .(5/266)
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام وعبادة، فهذا صحيح، وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة، هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها .
والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم، ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لاسيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا، فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية، بل غار حراء الذي ابتدء فيه بنزول الوحي , وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا واحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي ولا الزمان بشيء .
ومن خص الأمكنة والأزمنة من عندة بعبادات لأجل هذا وأمثاله؛ كان من جنس أهل الكتاب , الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات؛ كيوم الميلاد , ويوم التعميد , وغير ذلك من أحواله .
وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكانًا يصلون فيه , فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله عليه وسلم . فقال : أتريدون أن تتخذوا أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؛ إنما هلك من كان قبلكم بهذا , فمن أدركته الصلاة فيه , فليصل , وإلا؛ فليمض . . .
وقد قال بعض الناس : أن ليلة الإسراء " إلخ(5/267)
ومن هنا يبدأ نقل كاتب المقال , وإنما نقل ما يظن أنه يؤيد رأيه مفصولًا عن سابقه , وهذا من الخيانة والتلبيس في النقل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وادعى أن ابن القيم بكلامة هذا يعتني بليلة الإسراء، ولا أدري من أين فهم هذا الفهم، وابن القيم يورد كلام شيخه ابن تيمية مقرًا له ومحتجًا به على أنه لا يجوز تخصيص تلك اليلة بشيء من العبادات ولا غيرها، ومن ذلك الاحتفال، وأن هذة الليلة لم يتعين وقتها من الزمان، ولو كان يشرع تخصيصها بشيء؛ لبينت لنا وحددت ؟ هذا؛ وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه . . . . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
بدعة الاحتفال بذكرى المولد النبوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد :
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله والنهي عن الابتداع في الدين، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وقال تعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أنزل إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } ، وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) (1)، وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول وهم في هذا الاحتفال على أنواع :(5/268)
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر .
ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت .
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملًا على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك، وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعه محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة، فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما .
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره .
قال الحافظ ابن كثير في " البداية " ( 13 - 137 ) في ترجمة أبي سعيد كوكبوري : وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالًا هائلًا . . إلى أن قال : قال السبط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد، كان يمد في ذل السماط خمسة آلاف رأس مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى . . . إلى أن قال ويعمل للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، اهـ .
وقال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " ( 3 - 274 ) : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات ( طبقات القباب ) حتى رتبوا فيها جوقًا .(5/269)
وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم . . . إلى أن قال : فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان . . إلى أن قال : فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، اهـ .
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخرًا ومقترنًا باللهو والإسراف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها سلطان .
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماته البدع، وأن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه .
هذا وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1 – دعواهم أن في ذلك تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع وبالخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل مذموم، لأنه معصية، وأشد الناس تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما قال عروة ابن مسعود لقريش : " يا قوم ! والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم، والله ما يمدون النظر إليه تعظيمًا له، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيدًا واحتفالًا، ولو كان ذلك مشروعًا ما تركوه .
2 – الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان .(5/270)
والجواب عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عمومًا، وهذا منها وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة، وأن كثروا : { وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حاجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق .
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " ، والإمام الشاطبي في " الاعتصام " ، وابن الحاج في " المدخل " ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي، ألّف في إنكاره كتابًا مستقلًا والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان " والسيد محمد رشيد رضا، ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3 – يقولون : أن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم
والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة فيه وقرأة سنته واتباع ما جاء به، وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائمًا، لا في السنة مرة .
4 – قد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله .
والجواب عن ذلك أن نقول : البدعة لا تقبل من أي أحد كان، وحسن القصد لا يبرر العمل السيئ، وكونه عالمًا لا يقتضي عصمته .
5 – قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة، لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم .(5/271)
والجواب عن ذلك أن نقول : ليس في البدع شيء حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ويقال أيضًا لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم إلى آخر القرن السادس، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكرًا لله عز وجل، حاشا وكلا .
6 – قد يقولون : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي ينبئ عن محبته فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع .
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والناس أجمعين، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئًا لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه، لأن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل :
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع -، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فإن الدين مبنيي على أصلين : الإخلاص والمتاعبة، قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة .(5/272)
وخلاصة القول : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلًا، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والإقتداء به، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس، إنما يقتدى بمن صار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلًا، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق .
قال صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) فبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة .
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في سنة الخلفاء الراشدين، إذًا فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .(5/273)
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ؟ فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله تعالى منه ومن غيره من البدع، فهذا شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه .
هذا؛ ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
( 4 ) فقهيات
ظاهرة الإعلان عن الكسوف قبل حدوثه وما يترتب على ذلك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين :
وبعد :
فقد تكررت في بعض الصحف ظاهرة الإعلان عن الكسوف قبل حدوثه، اعتمادًا على قول بعض أهل الحساب، ونظرًا لما يترتب على هذا العمل من الآثار السيئة؛ أحببت أن أكتب هذا التنبيه، لعل هذه الصحف تمتنع عن نشر مثل هذا الإعلان؛ لأنه لا يترتب عليه مصلحة دينية ولا دنيوية، وإنما هو من باب الفضول والتنطع المنهي عنه، ويترتب عليه بلبله الأفكار والتشويش في الناس وذهاب روعة هذا الحدث وعدم الخوف والخشية عند حصوله، لأن كثيرًا من العوام إذا قرأ هذا الإعلان أو سمع به؛ عد الكسوف أمرًا عاديًا، لا تأثير فيه على نفسه، لأن بعض أئمة المساجد قد يعتمدون على هذا الخبر، ويبدؤون في صلاة الكسوف قبل حدوثه وقبل ابتداء وقت الصلاة، وخبر الحاسب قد يصيب وقد يخطئ .
ولم يكن أهل الحساب فيما سبق يخبرون الناس عن الكسوف قبل حصوله، مع أنهم يدركون هذا بالحساب، ويعرفون متى يحصل ,
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله :(5/274)
" وأما الذين يعلنون بقولهم : الشمس يكسف بها أو القمر؛ فهم مخطئون في إعلانهم وجزمهم بذلك في الوقت الذي عينوه، وإن كان ذلك يدرك بالحساب، لأن له أسباب معلومة عند علماء الهيئة؛ إلا أن الحساب يخطئ ويصيب، وفرق بين من يعلن ذلك ويجزم به وبين من يخبر عن أهل الحساب أنهم يقولون ذلك، ولا سيما إذا لم يخبر به العوام، وإنما يخبر به الخواص .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول أهل الحساب : الشمس سيكسف بها في وقت كذا ؟ فأفتى أن حكم ذلك حكم أخبار بني إسرائيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أخبركم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم :
" والعلة في النهي عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم هي احتمال أن يكون ما ذكروه حقًا، فيكون من كذبهم مكذبًا بحق، واحتمال أن يكون ما أخبروا به كذبًا، فيكون من صدقهم مصدقًا بالكذب .
فهكذا أخبار المخبرين عن الكسوف والخسوف، قد يكونون مصيبين في حسابهم، فيكون مكذبهم مكذبا بصدق، وقد يكونون مخطئين، فيكون مصدقهم مصدقا بالباطل والكذب .
وأما إنكار الجزم بوقت الكسوف والتحدث بذلك؛ فهذا صنيع المشايخ مع من صدر منه ذلك، ينكرون عليه جزمه بذلك وإفشاءه .
بل كان من المستفيض أن رجلًا حاسبًا في بلد الدرعية وقت أبناء الشيخ محمد قدس الله روحه وأرواحهم جميعًا - أظنه يقال له : ابن جاسر – كان ساكنًا في أعالي الدرعية، فتوضأ في نخله، وركب حماره، ونزل إلى مسجد البجيري أو غيره من المساجد الكبار في الدرعية، وكان يخبر من لقيه في الطريق أنه إنما نزل إلى المسجد لكون الشمس سيكسف بها في وقت كذا وكذا من ذلك اليوم، فلما بلغ المشايخ من أولاد الشيخ محمد رحمهم الله وغيرهم؛ أنكروا عليه جزمه بذلك، وتوضؤه وركوبه وسيره إلى المسجد لذلك " انتهى . من " مجمع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله " ( 1/168 – 170 ) .(5/275)
وعلى هذا؛ فإن الإعلان عن الكسوف في الصحف قبل حصوله والجزم بذلك أمر لا يجوز، لأنه لم يكن من عمل السلف، ولا يترتب عليه فائدة، بل يترتب عليه مفاسد كما ذكرنا من ذهاب الخوف من قلوب بعض العوام عند حدوث هذه الآية، وعد ذلك أمرًا عاديًا .
بل أن بعضهم يقول : ما دام أن هذه الشيء معروف فلماذا نصلي ؟ !
وبعضهم الآخر يحدث عندهم تشويش وتكذيب لهذا الخبر الذي قد يكون صادقًا .
وبعض أئمة المساجد يستعجل ويبدأ صلاة الكسوف قبل حدوثه؛ اعتمادًا على ما حدد في الخبر من بداية الكسوف ونهايته، وقد لا يحصل كسوف أصلًا، فيكون قد صلى صلاة غير مشروعة .
فالمطلوب من أهل الحساب ومن الصحفيين ألا ينشروا هذا الخبر على العوام، وأن يحتفظوا به ولا يتحدثوا عنه إلا مع المختصين .
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد .
كما يطلب من أئمة المساجد التثبت وعدم التسرع في هذا الأمر .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
تعقيب على اعتراض
اطلعت على " جريدة المدينة " ( الصادرة يوم الاثنين 21/ 9/1407 هـ - العدد ( 7330 ) على تعقيب لفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد محمد جمال على ما أجبت به عن حكم تناول البخاخ عن طريق الحلق أثناء الصيام للمصاب بمرض الربو، حيث قلت : " أن مثل هذا إذا كان لا يستطيع الصيام إلا إذا تعاطى البخاخ عن طريق الفم ليصل إلى حلقه وينفذ إلى ما وراء ذلك، فإن هذا يعد مريضًا يباح له تناول هذا البخاخ، ويقضي اليوم الذي تناوله فيه؛ لأن الأصل أن الصائم ممنوع من إدخال شيء إلى حلقه سواء كان طعامًا وشرابًا أم غيرهما؛ لأن الصيام معناه الإمساك عن ذلك وعن غيره من المفطرات، والأصل أيضًا أن المريض الذي يحتاج لتناول الدواء يفطر ويقضي " .(5/276)
ولكن الأستاذ تحامل علي، ووصف هذا الجواب بالتشدد، مع أنه اعترف أن جمهور فقهاء السلف يرون أن الصائم يفطر بوصول أي شيء إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف أو الأذن، لنهي الصائم عن المبالغة في الاستنشاق؛ لئلا يصل الماء إلى حلقه .
ومثله البخاخ، فهو شيء أدخل إلى الجوف عن طريق الفم .
والأستاذ أحمد معترف أيضًا أن البخاخ فيه مادة يفرزها في الحلق، وتنفذ إلى الداخل حيث قال :
" إن المادة التي تفرزها البخاخة لا تتجاوز منطقة الرئتين " .
فإذا كان البخاخ يفرز مادة في الحلق تتجاوزه؛ فهو ضمن الأشياء الممنوع تعاطيها للصائم .
وأما قوله " أن هذه المادة لا تتجاوز منطقة الرئتين " فنقول عنه :
أولًا : الفقهاء لم يفرقوا فيما يدخل إلى الحلق ويتجاوزه إلى الداخل، وإنما أعطوه حكمًا واحدًا هو المنع .
ثانيًا : أن قول الأستاذ أحمد : " إن هذه المادة لا تتجاوز منطقة الرئتين " هو مجرد دعوى منه .
ثالثًا : لا نسلم له هذا الحصر، وهو عدم تجاوز مادة البخاخ منطقة الرئتين، بل نقول : وإن كان مفعول المادة مختصًا بالرئتين، وأن هذا هو المقصود من تعاطيه؛ فإن ذلك لا يمنع من تمددها وانتشارها في غير هذه المنطقة من الجوف والجسم، ومثل هذا يُخِّل بالصيام .
, أما قول الأستاذ أحمد عني : أنه فاتني أن نوبات الربو ملازمة للمريض طوال حياته، وبذلك لا يستطيع القضاء؛ فنقول عنه : بل أنت الذي فاتك أن مثل هذا المريض يعد من ذوي الأمراض المزمنة الذين لا يكلفون بالصيام، وإنما يكفيهم تقديم الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، أخذًا من قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } .(5/277)
وعلى هذا؛ فيكون المتشدد في الحقيقة هو الذي طالبهم بالصيام مع تناول البخاخ، لا الذي أفتاهم بالقضاء إذا كانوا يطيقونه، أو تقديم الفدية إذا كانوا لا يطيقون الصيام أداء ولا قضاء إلا مع تناول البخاخ، لأن هذا من التكلف الذي لم يأمر به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يُعهد في الشرع أن مريضًا يكلف بالصيام وهو مضطر لتناول الدواء عن طريق الحلق أثناء النهار .
ومن العجيب أيضًا كون الأستاذ أحمد وفقه الله ينعي على المتشددين في الفتوى، وهو ينحو هذا المنحى كما سبق بيانه، وينعي أيضًا على المتساهلين فيها، وهو يتساهل، وذلك حين يقول : " إذ ليس من المعقول أن يكون ما يصل من قطرات الدواء عن طريق الأنف والفم أو الأذن أكلًا أو شربًا يفطر به الصائم "
ويعتمد في قوله هذا على ظاهرية ابن حزم الذي ذكر عنه قبل ذلك أنه يقصر المفطرات على الأكل والشرب والجماع .
فأي تساهل في الفتوى أعظم من هذا التساهل ؟ ! أي تناقض أعظم من هذا التناقض ؟ !(5/278)
وأخيرًا، أشكر للأستاذ أحمد إتاحة هذه الفرصة للمناقشة، وأرحب منه بكل نقد هادف، لكن لا أسمح له أن يصفني بالتشدد ما دمت لم أخرج عن مقتضى قول جمهور فقهاء السلف باعترافه، وما دمت أمشي على الأصل، وهو أن الصائم مأمور بالإمساك عن سائر المفطرات، ومنها الأكل والشرب وما في حكمها مما يصل إلى الحلق لغرض التداوي وغيره، لا سيما وهو لم يعتمد في فتواه إلا على قول ابن حزم وفتوى الشيخ صالح بن سعد اللحيدان، ومع احترامي للجميع؛ إلا أن قول مثل هؤلاء لا يقوى على مقابلة : الأصل، وقول الجمهور، والحفاظ على الصيام، مع دلالة الحديث – وهو النهي عن المبالغة في الاستنشاق خشية وصول الماء إلى الحلق _ والمصابون بالربو إذا اضطروا إلى استعمال البخاخ أثناء الصيام؛ فإنهم مرضى يفتون بما تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوب القضاء عليهم إذا كانوا يطيقونه، أو على الإطعام إذا كانوا لا يطيقون القضاء، وهذا هو اليسر الذي قال الله عنه : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ آخر يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
وقد حاول الأستاذ أحمد دفع دلالة حديث نهي الصائم عن المبالغة في الاستنشاق على إفطار الصائم بما يصل إلى حلقه من الماء وما في حكمه – كالبخاخ – إذا كان معتمدًا، حاول دفع دلالة الحديث على ذلك بقوله : " أما حديث الرسول الذي ينهى الصائم عن المبالغة في الاستنشاق لئلا يصل الماء شيء منه إلى جوفه؛ فمفهومه طلب استكمال آداب الصوم، والحذر من وصول الماء إلى الجوف " .
يعني : ولا يفطر بذلك .
هكذا قال ! وهذا صرف للحديث عن مدلوله من غير دليل، ومقتضاه أن الصائم لا يفطر بما يصل إلى جوفه ولو كان ماء، وهذا تصرف غريب وتساهل عجيب نرجوا من الأستاذ أحمد أن يعيد النظر فيه . ونسأل الله لنا وله التوفيق لقول الحق والعمل به . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(5/279)
تنبيه حول الأناشيد
قرأت في ( مجله الدعوة ) ( العدد 1406 - الاثنين 17 شوال 1406 هـ - ص 29 ) رسالة ممن سمت نفسها تغريد العبد العزيز، وجهتها إلى مديري المراكز الصيفية والمدارس الأخرى؛ نرجوا منهم بذل المزيد من الجهود في إخراج الأناشيد الإسلامية، وتقول أنها تلهب الحماس، وتوقد في النفس جذوة الإيمان؛ كما تزعم كذلك أنها تغني الفرد عن سماع الأشرطة التافهة، والأغاني الماجنة، وعن ترديد الكلمات الهابطة، وتقول : أن بعض الفتيات اهتدين إلى الطريق المستقيم بسبب هذه الأشرطة الطيبة .
هذا ما تضمنته رسالة الأخت المذكورة
- وأقول : يا أخت ! كان الأجدر بك أن توصي هذه الجهات بدراسة كتاب الله وسنة رسوله، والعناية بدراستها العقدية الصحيحة والأحكام الشرعية؛ كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم : أمته بذلك في قوله : ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )
- وقال صلى الله عليه وسلم :
( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله، وسنتي ) .
- فهذا هو الذي يقوي الإيمان في النفوس وهو الذي يهدي إلى الطريق المستقيم كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وإذا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } .
وأخبر سبحانه أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وأنه يهدي للحق، وإلى طريق مستقيم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم : يهدي إلى ذلك .
وأما الأناشيد؛ فإنها لا تفقه في دين الله، ولا تبصر بالعقيدة الصحيحة، ولا تقوي الإيمان في النفوس، وإنما يطرب لسماعها ويتلذذ بنغمها وترانيمها السذج .(5/280)
هذا إذا كانت خالية من الأهداف السيئة، كإثارة الفتنة، والتحريش بين الناس، والإغراء بشهوات النفس وغير ذلك من المقاصد السيئة لمروجيها . وتسمية هذه الأناشيد بأنها إسلامية يعطيها شيئًا من المشروعية، وأنها من الدين، وهذا شيء لم يقل به إلا ضلال الصوفيه ومبتدعيهم، الذين يجعلون الأناشيد من الذكر والعبادة؛ تشبهًا بالنصارى الذين يجعلون الأهازيج والترانيم جزءًا من صلواتهم، فتسمية هذه الأناشيد بأنها إسلامية هو من باب التزييف، والترويج لها، والمجاراة لمذاهب الصوفية .
والصواب أنها تسمى أناشيد عربية، ولا تجعل لها صبغة الديانة، ولا تجعل ضمن البرامج الدينية، بل ضمن البرامج العربية التي يقصد بها تقوية لغة الأولاد، وتعليمهم الحكم العربية؛ كما كان المسلمون في مختلف العصور يحفظون أولادهم الجيد من الشعر العربي؛ ليستفيدوا منه في لغتهم، وتنمية مداركهم، وكما هو موجود في محفوظات المدارس .
وكان المسلمون ينشدون الشعر لأجل روايته وحفظه، أو لإزاله السأم والفتور عند مزاولة بعض الأعمال، أو لحداء الإبل في السفر، وقد حصل شيء من هذا بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فدل على إباحته في تلك الأحوال . وعلى هذا النمط فغاية ما يقال : أنه يباح؛ ما كان من هذا النوع، ولا يسمى نشيدًا إسلاميًا، ولا يجعل ضمن البرامج الدينية ويسجل في الأشرطة؛ كما يسجل القرآن أو العلوم الدينية؛ لأجل تداوله، والتوسع في نشره، لأن هذا يكسبه الصبغة الشرعية، وحينئذ يروج دين الصوفية والمبتدعة، فهذا يجب التنبيه له، والتنبيه عليه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
وقولها عن هذه الأناشيد التي طالبت بإخراجها : " أنها تغني الفرد عن سماع الأشرطة التافهة والأغاني الماجنة وعن ترديد الكلمات الهابطة " .(5/281)
نقول : أن هذه الأشياء لا يجوز سماعها والاشتغال بها، لكن ليس البديل منها أناشيد أخرى قد يكون سماعها أشد إثمًا إذا عددناها دينية، وسميناها إسلامية؛ لأن هذا يعد ابتداعًا وتشريعًا لم يأذن الله به .
والبديل الصحيح هو تسجيل القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمحاضرات المفيدة في الفقه والعقيدة والمواعظ النافعة .
هذا هو البديل الصحيح، لا أناشيد الصوفية وأشباههم .
والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تعقيب حول ما نشر في " مجلة الدعوة السعودية " حول الأناشيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد : كنت قد عقبت على ما كتبته الأخت تغريد العبد العزيز في ( مجلة الدعوة ) من الثناء على ما سمته الأناشيد الإسلامية، ومطالبتها المراكز الصيفية بالإكثار من إنتاجها، فبينت لها أن هذا الثناء في غير محله، وأن هذا الطلب غير وجيه وأن الأولى بها أن تطالب بالعناية بالكتاب والسنة، وتعليم العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية، فانبرى بعض الإخوان – وهو الأخ أحمد بن عبد العزيز الحلبي سامحه الله – ينتصر لهذه الأناشيد، ويدعي أنها شيء طيب، وعمل جميل، ويستدل لإثبات دعواه بأمور هي :
أولًا : إن هذه الأناشيد تلحق بالحداء الذي رخص فيه الشارع، وكذلك تلحق بالارتجاز الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند مزاولة الأعمال الشاقة .
ثانيًا : أن العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي، وابن حجر الهيتمي؛ نصوا على جواز الحداء، والارتجاز، وسماع الشعر الذي فيه ثناء على الله ورسوله ودينه وكتابه والرد على أعداء الله وهجائهم . والنشيد الإسلامي –كما يسميه - لا يخرج عن هذه المعاني، فهو شعر ملتزم بالأدب الإسلامي، يرفع بصوت حسن .(5/282)
ثالثًا : تسمية الأناشيد الإسلامية لا تعني المشروعية والابتداع في الدين، وإنما هي وصف وتوضيح وتمييز عن غيرها من الأناشيد والأهازيج المحرمة، وهو من المصطلحات الحديثة؛ مثل : الحضارة الإسلامية، والعمارة الإسلامية .
رابعًا : فرق الكاتب بين هذه الأناشيد التي سماها إسلامية وبين الصوفية التي تعد من البدع في الدين من وجهتين :
الأول : أنهم أضفوا على أناشيدهم صفة القربة والطاعة .
ثانيًا : أن سماعهم لا يخلوا من الآله التي تقرن بتلحين الغناء .
هذا حاصل ما كتبه أخونا أحمد في تسيغه ما سماه بالأناشيد الإسلامية .
وجوابنا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن هناك فروقًا واضحة بين ما يسمونه الأناشيد الإسلامية وبين ما رخص فيه الشارع من الحداء في السفر، والارتجاز عند مزاولة الأعمال الشاقة، وإنشاد الأشعار التي فيها مدح الإسلام، وذم الكفر، وهجاء المشركين، ومع وجود هذه الفروق لا يصح لكم إلحاق هذه الأناشيد بتلك الأشياء .
والفروق كما يلي :
1 – أن الحداء في السفر، والارتجاز عن الضجر، وإنشاد الشعر المشتمل على مدح الإسلام وذم الكفر وهجاء الكفار لا يسمى نشيدًا إسلاميًا - كما تسمون نشيدكم بذلك -، وإنما يسمى نشيدًا عربيًا .
إذًا؛ فبينهما فرق من جهة التسمية الحقيقة .
2 – أن الحداء إنما يباح في السفر لأجل الحاجة إليه في السير في الليل؛ لطرد النعاس، واهتداء الإبل إلى الطريق بصوت الحادي، وكذا الارتجاز عند مزاولة الأعمال الشاقة كالبناء ونحوه، وأبيح للحاجة إليه بصفة مؤقتة، وبأصوات فردية لا أصوات جماعية .
وما تسمونه بالأناشيد الإسلامية يختلف عن ذلك تمامًا، فهو يفعل في غير الأحوال التي يفعل فيها النوع الأول، وبنظام خاص وأصوات جماعية منغمة، وربما تكون أصواتًا فاتنة، كأصوات المردان وحدثاء الأسنان من البنين والبنات، والأصل في الغناء التحريم؛ إلا ما وردت الرخصة فيه .(5/283)
3 – أن الحداء والارتجاز وإنشاد الشعر الذي جاء الدليل عليه بالترخيص فيه بقدر معين وحالة معينة لا يأخذ كثيرًا من وقت المسلم، ولا يشغله عن ذكر الله، ولا يزاحم ما هو أهم .
أما ما تسمونه بالأناشيد الإسلامية؛ فقد أعطى أكثر مما يستحق من الوقت والجهد والتنظيم، حتى أصبح فنًا من الفنون يحتل مكانًا من المناهج الدراسية والنشاط المدرسي، ويقوم أصحاب التسجيل بتسجيل كميات هائلة منه للبيع والتوزيع، حتى ملأ غالب البيوت، وأقبل على استماعه كثير من الشباب والشابات، حتى شغل كثيرًا من وقتهم، وأصبح استمتاعه يزاحم استماع تسجيلات القرآن الكريم والسنة النبوية والمحاضرات والدروس العلمية المفيدة .
فأين هذا من ذاك ؟
ومعلوم أن ما شغل عن الخير فهو محرم وشر .
الوجه الثاني : أن محاولة تسويغ تسمية هذه الأناشيد بالأناشيد الإسلامية محاولة فاشلة، لأن تسميتها بذلك يعطيها صبغة الشرعية وحينئذ نضيف إلى الإسلام ما ليس منه .
وقول أخينا أحمد : " إن هذه التسمية لأجل التميز بينها وبين الأناشيد والأهازيج المحرمة قول غير صحيح، لأنه يمكن التمييز بينهما بأن يقال : الأناشيد المباحة بدلًا من الأناشيد الإسلامية، كغيرها من الأشياء التي يقال فيها : هذا مباح وهذا محرم، ولا يقال هذا إسلامي، وهذا غير إسلامي، ولأن تسميتها بالأناشيد الإسلامية تسمية تلتبس على الجهال، حتى يظنوها من الدين، وأن في استماعها أجر وقربه .
وقول الأخ أحمد : " أن هذه التسمية من المصطلحات الحديثة؛ مثل الحضارة الإسلامية والعمارة الإسلامية " .(5/284)
نقول له : النسبة إلى الإسلام ليست من الأمور الاصطلاحية، وإنما هي من الأمور التوقيفية، التي تعتمد على النص من الشارع، ولم يأت نص من الشارع بتسمية شيء من هذه الأمور إسلامي، فيجب إبقاء الشعر على اسمه الأصلي، فيقال " الشعر العربي والأناشيد العربية، أما تسمية العمارة والحضارة بالإسلامية فهي تسمية الجهال، فلا عبرة بها ولا دليل فيها .
الوجه الثالث : أن تفريق الأخ أحمد بين ما يسمية بالأناشيد الإسلامية وبين أناشيد الصوفية تفريق لا وجه له؛ لأن بإمكان الصوفية أن يدعوا في أناشيدهم ما تدعونه في أناشيدكم من الفائدة والترغيب في الخير والتنشيط على العبادة والذكر فكما أنكم تدعون أن في أناشيدكم الحث على الجهاد، وأنها كلام طيب بصوت حسن، وفيها مدح الإسلام وذم الكفر . . . إلى غير ذلك؛ فيمكنهم أن يقولوا مثل ذلك في أناشيدهم .
وقولكم : " أن أناشيد الصوفية لا تخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء " .
هذا فارق مؤقت، فربما يأتي تطوير جديد لأناشيدكم يدخل فيه استعمال الآلة فيها وتسمى موسيقى إسلامية، أو دف إسلامي، ويزول الفارق عند ذلك؛ كما ورد أنه في آخر الزمان تغير أسماء بعد المحرمات، وتستباح، كاسم الخمر، واسم الربا . . . وغير ذلك (2).
فالواجب على المسلمين سد هذه الأبواب، والتنبية للمفاسد الراجحة والوسائل التي تفضي إلى الحرام، والتنبية كذلك لدسائس الأعداء في الأناشيد وغيرها .
ونحن لا نحتكر إباحة إنشاد الشعر النزيه وحفظه، ولكن الذي ننكره ما يلي :
1 – ننكر تسمية نشيدًا إسلاميًا .
2 – ننكر التوسع فيه حتى يصل إلى مزاحمة ما هو أنفع منه .
3 – ننكر أن يجعل ضمن البرامج الدينية، أو يكون بأصوات جماعية، أو أصوات فاتنة .
4 – ننكر القيام بتسجيله وعرضه للبيع؛ لأن هذا وسيله لشغل الناس به، ووسيلة لدخول بدع الصوفية على المسلمين من طريقه، أو وسيلة لترويج الشعارات القومية والوطنية والحزبية عن طريقه أيضًا .(5/285)
وأخيرًا نسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين لما هو أصلح وانفع لدينهم ودنياهم، ونقول ما قاله الإمام مالك بن أنس رحمه الله :
" لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح أولها " .
وذلك باتباع الكتاب والسنة، والاعتصام بهما، لا بالأناشيد والأهازيج والترانيم .
والله ولي التوفيق .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تعقيب ثالث وأخير حول الأناشيد
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
فقد قرأت في ( مجلة الدعوة ) ( العدد 1060 - تاريخ 3/2/1407 هـ ) تعقيب فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز الحليبي على ردنا عليه فيما كتبه في عدد سابق من هذه المجلة في تسويغه لما سماه بالأناشيد الإسلامية التي شغلت بال كثير من شباب المسلمين اليوم وافتتنوا بها .
ويعلم الله أن قصدنا تخليصهم من هذه الفتنة التي أوقعتهم فيها هذه التسمية الظالمة : ( الأناشيد الإسلامية ) .
والحقيقة أنني لم أجد في تعقيبه المذكور سوى ترديد لما ذكره في الأول من التماس المسوغات فهذه الأناشيد بما نقله من الترخيص بالحداء لرعاة الإبل، والارتجاز في حالة مزاولة الأعمال الشاقة، وإنشاد حسان لبعض أشعاره عند النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد بينت أن بين هذه الأنواع التي ذكرها وبين الأناشيد التي هي محل بحثنا فروقًا تجلعها منها مناط الثريا، ولا داعي لتكرار ذلك، فليراجعه من شاء في مقالنا السابق .
وأقتصر هنا على مناقشة الشيخ أحمد في بعض النقاط الزائدة المهمة في تعقيبه فأقول :
يا فضيلة الشيخ أحمد :
1 – قولك عن النشيد الذي سميته إسلاميًا :
" إنك لم تقف على ما سماه بالنشيد العربي، ووقفت على من ألحقه بالحداء " .
ثم ذكرت كلام ابن حجر في الحداء، وأنه يلحق به غناء الحجيج المشتمل على التشويق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد .
- وأقول لك :(5/286)
: أولًا : كلام ابن حجر به نظر من ناحية جواز الغناء للحجيج، هل ورد ما يدل عليه من الكتاب والسنة ؟ !
إن الذي ورد أن الحجيج في عبادة يناسبهم الاشتغال بذكر الله والتلبية لا الغناء، ولا سيما في حالة الإحرام؛ قال تعالى :
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } .
وهل كان الحجيج يغنون وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرهم على ذلك حتى يكون دليلًا ؟ !
ثانيًا : ابن حجر لا ينطبق كلامه على الأناشيد التي نحن بصدد الكلام عنها؛ لأنه يتكلم عن إنشاد بعض الحجاج، ويلتمس دليلًا على جوازه بإلحاقه بالحداء، وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال له؛ إن قلت : نحن نقيس على ذلك . قلنا : هذا قياس مع الفارق؛ لأن الأناشيد التي يعنيها ابن حجر ليست بأصوات جماعية، يصطف لها طوابير يؤدونها، ثم تسجل بآلاف الأشرطة للتوزيع والبيع والحفظ في المكتبات الصوتية؛ كما تعلمونه في أناشيدكم .
وكذلك الإنشاد الذي ورد ذكره في الأحاديث على صفة حداء أو ارتجاز أو إلقاء من حسان أو غيره هل كان ذلك جماعيًا كما هو الحال في أناشيدكم : !
لا بل هو كما يقول الرواة مثلًا : أنشد حسان، أو أنشد ابن رواحة، أو أنشد بلال، أو أنشد عامر بن الأكوع، كل شخص ينشد بمفرده .
ثم هل كانوا يسمون هذه المنشدات : أناشيد إسلامية، كما تسمون أناشيدكم بذلك ؟ !
وهل كانوا يملئون بها بيوتهم، ويشغلون بها شبابهم؛ كما تفعلوه ؟ !
ثالثًا : قولك عن أناشيدكم هذه : " لم أقف على ما سماها بالنشيد العربي " .
نقول لفضيلتك : إذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يصح لك أن تستدل على جوازها بإنشاد النشيد العربي الذي وردت بجوازه الأحاديث وأقوال أهل العلم وهي لا تسمى نشيدًا عربيًا على حد قولك ؟ !
وكيف جاز لك أن تسميه نشيدًا إسلاميًا، ونحن وأنت لا نجد في دواوين الإسلام ما يسمى بهذا الاسم، اللهم إلا ما عند الصوفية مما يقارب هذه التسمية مما هو من جملة شطحاتهم ؟ !(5/287)
2 – قولكم : " فهذه الأدلة تدل على أن سماع النشيد كان كثيرًا، وبأصوات فردية وجماعية " .
- نسأل فضيلتكم أين وجهة الدلالة منها على أن ذلك كان بأصوات جماعية حتى نسلم لكم هذه الدعوى ؟ وأين وجه الدلالة على هذه الكثرة التي ادعيتها ؟
3 – قول فضيلتكم : " ولا مانع عندي من سماعه ( أي : النشيد ) في المجالس والنوادي المدرسية , للنصوص السابقة " .
- أقول : هذه هو بيت القصيد لديكم . ولكن؛ ما وجه الدلالة من النصوص السابقة على جوازه في هذه الأمكنة ؟ هل كان السلف يعلمونه أولادهم في المدارس والكتاتيب والحلقات العلمية والربط المدرسية التي هي بمثابة الجامعات الحالية ؟
هل كانوا يجعلون الأناشيد الجماعية من ضمن دروسهم وأعمالهم العلمية التي يتلقونها في هذه الدور العلمية ؟
عليك أن تثبت لنا ذلك، وأين ؟ ومتى ؟
4 - قول فضيلتكم : إنك لم تقف على ما يدل على منع سماع الأصوات الفاتنة من المردان ونحوهم .
- أقول لفضيلتكم : نحن وجدنا هذا في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا }
قال ابن كثير رحمه الله في ( تفسيره ) ( 5/415 – طبعة دار الاندلس ) ما نصه :
" قال السدي وغيره : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال . . . " إلى أن قال :
" ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم . . . " انتهى .
فدل هذا على أن الصوت قد يكون فيه فتنة أشد من فتنة النظر إذا كان من امرأة ومثل ذلك صوت الشاب الأمرد .
قال الشاعر :
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ** والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
وقال العلامة ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) ( 1/248 ) :
" وأما سماعه ( يعني : الغناء ) من المرأة الأجنبية أوالأمرد؛ فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادًا للدين . . . " انتهى .
فهذا ابن القيم يعد صوت الأمرد مثل صوت المرأة في الفتنة به .(5/288)
5 – قول فضيلتكم : " إن القاعدة الأصولية أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم " .
- وتريدون بهذا القول أن الأصل في الغناء الاباحة، إلا ما حرمه الدليل .
ونقول لفضيلتكم :
أولًا : هذه القاعدة مختلف فيها، فهناك من يرى العكس، وهو الأصل في الأشياء التحريم إلا ما دل الدليل على إباحته، فهي ليست قاعدة مسلمة .
ثانيًا : وعلى القول بأن الأصل في الأشياء الإباحة، فالغناء دل الدليل على تحريمه، فالأصل فيه التحريم إلا ما دل دليل على إباحته منه .
والدليل على أن الأصل في الغناء التحريم قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
ولهو الحديث المذكور في الآية هو الغناء بجميع أنواعه، فيحرم كله، إلا ما دل الدليل على إباحته منه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ( إغاثة اللهفان ) ( 1/257 ) :
" قال الواحدي وغيره : المراد به { لَهْوَ الْحَدِيثِ } : الغناء . قاله ابن عباس وقاله ابن مسعود . . . " .
إلى أن قال : " أكثر ما جاء في التفسير أن { لَهْوَ الْحَدِيثِ } ها هنا هو الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى . . . " . إلى أن قال :
" وقد جاء في تفسير لهو الحديث الغناء مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر الأحاديث الواردة في ذلك ثم قال : " إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه . . . " انتهى .(5/289)
وإذا كان الأصل في الغناء التحريم؛ فإنه لا يحل منه إلا ما دل الدليل على جوازه، من حداء الإبل، والارتجاز عند مزاولة العمل المتعب، وما شابه ذلك مما وردت به الأدلة الصحيحة فيقتصر فيه على ما ورد قدرًا وكيفية؛ كما مر بيانه، لأن الرخصة تقتصر على ما رخص فيه، ولا يسمى ما رخص به نشيدًا إسلاميًا وإنما يسمى نشيدًا عربيًا، ولاينشر في المدارس والبيوت ويباع في محلات التسجيل، لأن هذا تجاوز للرخصة .
6 - ثم إننا نسألكم يا فضيلة الشيخ أحمد : ما هدفكم من هذه الأناشيد ؟
هل هو لأجل ترويح النفوس بها والتلذذ بإنشادها ؟ فيكون الهدف منها غير ديني، ولا يقتصد بها التقرب إلى الله، وإنما هو هدف ترويحي فقط، فهذا إنما يباح منه ما رخص به، وفي مثل الأحوال التي وردت فيه الرخصة، لا على الشكل الذي عليه الأناشيد لديكم، فقد أخذت أناشيدكم طابعًا غير الطابع المرخص فيه كما بيناه .
وإن كان هدفكم منها هدفًا دينيًا – كما توحي به تسميتكم لها بالإسلامية -؛ فهذا لا يخلو من أحد أمرين :
أما أن تكون من جنس أناشيد الصوفية التي يعدونها من دينهم ومن الأمور التي تقربهم إلى الله عز وجل، فتأخذ حكمها في الابتداع والحرمة .
وأما أن تكون من الأمور المبتدعة التي عددتموهما من وسائل الدعوة واجتذاب الشباب إلى الخير كما يصرح بعضكم، ووسائل الدعوة لا تكون بالأغاني والأهازيج، وإنما تكون بالكتاب والسنة ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سار عليه في دعوته للناس .(5/290)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : في ( مجموع الفتاوى ) ( 11/ 620 – 635 ) لما سئل عمن أراد أن يجتذب العصاة، فأقام لهم سماعًا ( يعني : نشيدًا ) يجتمعون فيه، ويكون ذلك النشيد بشعر مباح بغير ( شبابة ) كما يقول السائل، فلما فعل هذا : تاب جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات، قال السائل : فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟ !
فأجب رحمه الله بقوله : " الحمد لله رب العالمين . أصل جواب هذه المسألة وما أشابهها أن يعلم أن الله بعث محمد بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا " . . .
ومضى رحمه الله في بيان أن الله أكمل الدين وأمر الخلق برد ما تنازعوا فيه إلى ما بعث الله به رسوله وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث . . . إلى أن قال :
" إذا عرف هذا؛ فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين، ويتوب به على العاصين؛ لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي ذلك؛ لكان دين الرسول ناقصًا محتاجًا تتمة .
وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله لها أمر إيجاب واستحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها، والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم، فإذا غلبت المصلحة على مفسدته، شرعة، وإن غلبت مفسدتة على مصلحته؛ لم يشرعه، بل نهى عنه كما قال تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أن تُحِبُّواْ شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى :(5/291)
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } .
ولهذا حرمهما الله بعد ذلك .
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله ولم يشرعه الله ولا رسوله؛ فإنه لابد أن يكون ضرره أكبر من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره؛ لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا؛ فنقول للسائل : أن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين عن الكبائر، فلم يمكنه إلا بما ذكر من الطريق البدعي، وهذا يدل على أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها يتوب العصاة، أو عاجز عنها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هم شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يقال : أنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالضرورة والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصية إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع، بل السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان – وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة – تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية، وأمصار المسلمين وقرأها قديمًا وحديثًا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه، بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .(5/292)
فلا يمكن أن يقال : أن العصاة لا يمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال : إن من الشيوخ من يكون جاهلًا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، وأما مع حسن القصد إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترؤس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل : كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أن كثيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } .
فلا يعدل عن الطرق الشرعية إلى البدعة؛ إلا لجهل أو عجز أو غرض فاسد، وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .
قال تعالى في النبيين : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدم وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } .
وقال تعالى في أهل المعرفة : { وإذا سَمِعُواْ مَا أنزل إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ }
وقال تعالى في حق أهل العلم : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
وقال في المؤمنين :(5/293)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " إذا عرف هذا؛ فحقيقة السؤال : هل للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله، يدعو بها إلى الله ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين ؟
ومن المعلوم أن الدين له أصلان، فلا دين إلا ما شرعه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرم الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله .
ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين هل يباح له ذلك ؟ قال نعم ؟ فإذا قيل : إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة؛ قال : أن فعله على هذا الوجه حرام منكر؛ يستتاب فاعله؛ فإن تاب، وإلا قتل " ؟
وذكر رحمه الله أمثله من هذا النوع . . . ثم قال :
" والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب، ولهذا من حضر السماع للهو واللعب لا يعده من صالح عمله فلا يرجوا به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى؛ فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهي عنه كان كمن نهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين أن اتخاذها دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى؛ فهو ضال مفتر مخالف لإجماع المسلمين " انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله .
وقال الشاطبي رحمه الله في كتاب ( الاعتصام ) ( 1/270 – 273 ) في رده على بعض المبتدعة ما ملخصه :(5/294)
" وأما ما ذكره من الإنشادات الشعرية؛ فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه، ولا يذكر بمعصية، وأن يسمعه من غيره إذا أنشد على الحدّ الذي كان ينشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء، وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد؛ منها : المنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام وأهله، ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود، حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، ويقول صلى الله عليه وسلم : (اهجهم، وجبريل معك )
وهذا من باب الجهاد في سبيل الله .
ومنها أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم، ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم كما فعل ابن زهير رضي الله عنه، وأخت النضر بن الحارث، مثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء، هذا ما لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز . . . " .
إلى أن قال : " ومنها أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطًا لكلال النفوس، وتنبيها للرواحل أن تنهض في أثقالها، وهذا حسن .
لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقًا من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم، بل كانوا يرققون الصوت ويمطونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا الموسيقى، فلم يكن فيه إلذاذ ولا طرب يلهي، وإنما كان لهم شيء من النشاط، كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة من نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر " .
ثم ذكر الشاطبي عن القرافي أنه قال :(5/295)
" في الماضيين من الصدر الأول حجة على من بعدهم، ولم يكونوا يلحنون الأشطار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودًا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون " انتهى .
وقد تبين لنا من كلام هذين الإمامين الجليلين أن من اتخذ هذه الأناشيد وسيله من وسائل التعبد والدعوة إلى الله وقال : إنه لا يمكنه جمع الشباب واستقطابهم إلا بهذه الأناشيد، فهو ضال مبتدع، كما ذكره الشيخ تقي الدين في أمثاله ممن زعم أنه يستجلب توبة العصاة بما يقيم لهم من السماع الذي هو النشيد وقد أنكر الشيخ فعله هذا وعده من البدع المنكرة لأن طريق الدعوة هو ما شرعه الله ورسوله، لا ما نهى الله عنه ورسوله، والله ورسوله لم يشرعا الغناء والأناشيد طريقًا للدعوة .
فالواجب على من يفعل ذلك أن يتوب إلى الله، ويرجع إلى الصواب والحق، فإن الرجوع للحق فضيلة، ولا يغتر بمن يفعل ذلك، فإنهم إما جهال أو أصحاب أهداف مغرضة وشعارات مضللة .
7 – وقولكم يا شيخ أحمد : " إن تسمية الأناشيد بالإسلامية لا تعني الابتداع والمشروعية، لا غضاضة في إطلاقها على المباح، لأن المباح من الشرع . . . . " .
- نقول " أولًا : لا نسلم أن أناشيدكم من المباح .
وثانيًا : هذا فيه إجمال وخلط، لأنه إذا كان القصد اتخاذ الأناشيد أسلوبًا من أساليب الدعوة وتتويب العصاة، فهذا بدعة وضلال، كما بينه شيخ الإسلام فيما نقلنا عنه وحينئذ لا يجوز أن يقال عن هذه الأناشيد : أنها إسلامية بل يقال أناشيد بدعية .
وإن كان القصد من اتخاذ الأناشيد الترويح عن النفوس، فهذا إنما يباح منه ما وافق المرخص فيه الغناء، كما سبق، وحينئذ لا يسمى إسلاميًا أيضًا لأن المباح لا يقال له إسلامي، وإنما يقال : مباح فقط، فلا يقال الطعام والشراب الإسلامي ولا السيارة الإسلامية واللحم الإسلامي ولا غير ذلك من سائر المباحات .(5/296)
وابن قدامة المقدسي الذي نقلت عنه قوله " أن المباح من الشرع " لم يسم المباح إسلاميًا حتى يتم لك الاستشهاد بقوله ومعنى قوله " وهو من الشرع " يوضحه في أول كلامه في حد المباح بأن ما أذن الله في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله ولا مدحه، إذ ليس معنى كونه من الشرع أن الشرع أمر به أمر إيجاب أو استحباب وإنما معناه أن الشارع أذن فيه والمأذون به من غير أمر بفعله لا يسمى إسلاميًا وإنما يسمى بذلك المأمور به أمر إيجاب أو استحباب .
ثم إنهم يعنون بهذه العبارة قسمًا من المباح يرى المعتزلة أن إباحته ثبتت بالفعل فأرادوا الرد عليهم بذلك، ولا يعنون أن المباح مشروع شرعية إيجاب أو استحباب، أو إنه إسلامي .
وقولك : فيصح التسمية بالأناشيد المباحة أو الشرعية أو الإسلامية " .
هذا الكلام فيه تسوية بين أمور مختلفة، وهو أخطر مما قبله لأنك أجزت أن يقول : الأناشيد الشرعية، والشرعية تعني : الواجب والمستحب فعلى هذا تكون الأناشيد واجبة ومستحبة، وهذا شرع دين جديد من جنس دين الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالأناشيد أو من جنس عمل الذي يجعل الأناشيد من طرق الدعوة إلى الله وقد رد عليه شيخ الإسلام فيما نقلنا عنه ولا يكون مشروعًا إلا ما أمر الله به رسوله فما هذه المغالطة المكشوفة يا شيخ أحمد هداك الله ؟ .
ثم إنك تناقضت مع نفسك فقد قلت فيما سبق : " إن التسمية الإسلامية بالإسلامية لا تعني الشرعية " ثم تقول " تجوز تسميتها شرعيه " .
8– قولكم : " إن النساء يباح لهن استخدام الدف مع الأناشيد "
– هل ترون يا فضيلة الشيخ أحمد أن النساء يباح لهن ذلك مطلقًا كما هو ظاهر عبارتكم إن رأيتم ذلك فقد أخطأتم خطأ كبيرًا لأن النساء لا يجوز لهن ذلك إلا في مناسبات محدودة بينها الشارع كإعلان النكاح وبشرط خلوهن من الرجال مع عدم رفع أصواتهن بحيث يسمعن الرجال نص على ذلك الفقهاء وأظنك غير بعيد عن العهد بالفقه، ولا يخفى عليك ذلك إن شاء الله .(5/297)
قال في ( الزاد ) وشرحه ( 3/124 ) بحاشيه النقري :
" ( ويُسن الدف ) أي : الضرب به إذا كان لا حلق به ولا صنوج فيه، أي في النكاح للنساء وكذا ختان قدوم غائب وولادة، وإملاك . . . "
هذا وأسال الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، فإن هذا هو المهم .
كما أسأله أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح . . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله صحبه .
تكملة :
قد اطلعت على مقال للأستاذ محمد العيسى في كتابه " حوار مع الأفكار " ، يدافع فيها عما يسمى بالأناشيد الإسلامية، وهذه المقالة لا تزيد عما قاله الأستاذ أحمد الحليبي؛ إلا أنها تمتاز عنه بالغموض وركاكة الأسلوب والإغراب في الاستدلال، حيث استدل على إباحة هذه الأناشيد بأنها نوع من الشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم ردد الشعر وأعجب به، وإن من الأناشيد ما يفقه في الدين، ومثّل لذلك ب- " المنظومة الرحبية في الفرائض " ، و " نونية ابن القيم " ، و " الألفية في النحو " .
والجواب عن ذلك :
أولًا : كون الأناشيد نوعًا من الشعر لا يكفي في إباحتها؛ إلا إن كان يكفي الاستدلال لحل الخمر بكون أصلها من التمر أو الزبيب .
وثانيًا : لا أعلم أحدًا صار فقيهًا بسبب الأناشيد، بل الأقرب أنه يصير مطربًا . ولا أعلم أحدًا من الأمة سمّى الرحبية أو النونية أو الألفية أناشيد إسلامية، فلم يقولوا الأنشودة الرحبية أو الأنشودة النونية، وإنما يقولون " المنظومة الرحبية " ، و " القصيدة النونية " ، ولم يكونوا ينشدونها إنشادًا جماعيًا بقصد التطريب، بل كانوا يحفظونها ويقرؤونها في حلقات التدريس . ثمّ إن الأستاذ عليًا في ختام مقاله الطويل طول الليل الدامس قال :
" لا يطالب مؤيد وجودها - أي : الأناشيد - بأدلة شرعية " .
وكأنه قال ذلك حينما أحس بعجزه عن إقامة الدليل، وكفى بهذا اعترافًا منه بعدم جوازها . والله أعلم
حكم حلق اللحية(5/298)
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه . . . . .
وبعد :
فقد اطلعت على مقال نشر في " مجلة المجتمع الكويتية " ( العدد51 – تاريخ 18 محرم 1391 هـ ) في موضوع حلق اللحية , قد حاول فيه كاتبه التقليل من شأن حلق اللحية , والتماس المسوغات لذلك بشبه أوردها يظنها تدل لما ذهب إليه .
فأردت بمقالي هذا الإجابة عن هذا الشبه؛ لئلا يغتر بها بعض من يطلع عليها . والحق ضالة المؤمن , والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
فأقول :
1 – استنكر الكاتب على من قال من أهل العلم بأن حلق اللحية حرام .
- ونحن نقول للكاتب : إن القول بتحريم حلق اللحية ليس قولًا لأفراد , بل قد حكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض , واستدل بحديث ابن عمر : ( خالفوا المشركين؛ أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى ) .
وغيره من الأحاديث
أنظر ( ص 157 ) من " مراتب الإجماع "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يحرم حلق اللحية "
انظر : " الاختيارات " ( ص10 ) .
وقال القرطبي : " لايجوز حلقها ولا قصها ولا نتفها " .
وقال ابن مفلح في " الفروع " ( 1/61 ) لما ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك؛ قال : " وهذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم " .
والكاتب نفسه قد اعترف أن كثيرًا من الفقهاء قد أطلق الحرمة على حلق اللحية في أثناء مقاله .
2 – ثم إن الكاتب قد افتتح مقاله وختمه بقوله :
" إن المسلمين مهددون من عدوهم , فلا ينبغي لهم الانشغال بالفروع عن دفاع عدوهم " .
ومثل لذلك بالذي يسأل عن زجاج قد انكسر وبيته مهدد بالنسف بالبارود . . . .
إلي آخر ما قال .(5/299)
- والجواب أن نقول له : إن دفاع العدو لا يتم إلا بعد إصلاح الحصون , أما إذا تركت الحصون مهدمة؛ تمكن العدو من الهجوم على المساكن وغيرها , فيجب تطهير المجاهدين أنفسهم من المعاصي والمخالفات , والتزامهم لطاعة الله ورسوله , حتي يتم لهم النصر على عدوهم؛ قال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أن اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . أما إذا قابلوا عدوهم متلبسون بالمعاصي , ومتساهلون بمخالفة الأوامر؛ كان ذلك سلاحًا لعدوهم عليهم .
3 – ثم قال الكاتب : " فالحرام ما نهى عنه الشارع بنص قطعي الورود , قطعي الدلالة , يُفهم منه أن الشرع يراه قبيحًا لذاته . . . "
- والجواب عن ذلك أنه يلزم على هذا القول أن لا يبقى محرمًا – لا حلق اللحية ولا غيره -؛ لأنه يلزم عليه بطلان مدلول الظاهر ومدلول الأحاد ومدلول العموم؛ لأنها لا تصلح للاستدلال؛ لأنها ليست قطعية , وأيضًا الوسائل المفضية إلى محرم لا تكون محرمة؛ لأن الشرع لا يراها قبيحة لذاتها , كل هذه الأشياء في نظر الكاتب لا تفيد التحريم إذا أخذنا بلازم قوله .
4 - ثم قال الكاتب : " والذي ورد في اللحية هو الأمر بإعفائها؛ مخالفة للمجوس , وأنا أرى أن ذلك لا يفيد حرمة الحلق " .
ثم علل لذلك بثلاثة أمور :
أحدها : إن الأمر بالشيء على المختار عند الحنفية لا يستلزم حرمة ضد المأمور به .
الثاني : أن الأمر بالشيء إذا اقترن بعلة معقولة المعنى؛ أي : أن الشارع لم يطلبه لذاته , بل لأمر آخر مقترن به عند صدور الأمر إذا انفك هذا المقصد عنه؛ لم يفد الأمر الوجوب , والأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس كما قال ابن حجر في " فتح الباري " .(5/300)
الثالث : أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم , لا مطلقًا , والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الألبسة التي يلبسها الكفار , وترد من بلادهم , وليس من شعائر دينهم . راجع : " زاد المعاد " . وفي " سبل السلام " ( 2/ 156 ) أن التعليل بكون الوصال من فعل النصارى لا يقتضي التحريم . . . . . .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
أ – قوله : " إن الأمر بالشيء لا يقتضي حرمة ضد المأمور به على المختار عند الحنفية " :
جوابه أن نقول :
أولًا : الأمر بالشيء يقتضي وجوب المأمور به فالأمر بإعفاء اللحى يقتضي وجوب إعفائها , وهذا هو المطلوب .
ثانيًا : كون الأمر يقتضي حرمة ضد المأمور به أو لا يقتضي , هذا ينبني على الخلاف بين الأصوليين : هل الأمر بالشيء نهي عن ضده أو لا ؟ وفي المسألة ثلاثة أقوال : أصحها أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب؛ لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده؛ لاستحالة اجتماع الضدين .
ب – وأما قوله : أن الأمر إذا اقترن بعلة معقولة المعنى . . . . . . إلخ " .
فالجواب عنه أن نقول :
أولًا : لا نسلم أن الأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس فقط , بل المقصود مخالفة المجوس وكون ذلك من خصال الفطرة التي فطر الله عليه رسوله وسائر الأنبياء , ففي صحيح مسلم عن عائشة :
" عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية . . . . " الحديث . قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 1/147 – 148 ) :
" وأما الفطرة؛ فقد اختلف في المراد بها هنا , فقال أبو سليمان الخطابي : ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة , وكذلك ذكره جماعة غير الخطابي؛ قالوا : ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم , وقيل : هي من الدين " ا . هـ .(5/301)
ثانيًا : لو سلمنا جدلًا أن المقصود من المراد بها مخالفة المجوس فقط؛ فهذا المقصد باقٍ , لم ينفك عن الأمر؛ لأن مخالفة المجوس مطلوبة دائمًا , فيلزمه وجوب إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب , وهذا هو المطلوب .
ج – قوله : " والأوامر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس؛ كما قال ابن حجر في " فتح الباري " . . . . . " .
نقول : عبارة ابن حجر في " فتح الباري " ( 10/349 ) هذا نصها : " قوله : ( خالفوا المشركين ) ؛ في حديث أبي هريرة عند مسلم : ( خالفوا المجوس ) , وهو المراد من حديث ابن عمر؛ فإنهم كانوا يقصون لحاهم , ومنهم من كان يحلقها " ا . هـ . فتبين أن ابن حجر يقصد تفسير لفظة المشركين الواردة في حديث ابن عمر أن المراد بهم المجوس؛ كما في حديث أبي هريرة، ولم يرد بيان العلة وحصرها في المخالفة .
د – قوله : " ومخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقًا . . . . إلخ "
جوابه : أن الأمر بمخالفة المشركين والنهي عن التشبه بهم كل منهما عام فيما هو من شعائر دينهم وغيره مما انفردوا به من عاداتهم , ومن ادعى التخصيص؛ فعليه الدليل .
راجع : " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ( ص 177 - 180 ) .
وقد راجعت " زاد المعاد " لابن القيم حيث أحال الكاتب عليه , فلم أجد فيه مستندًا له فيما ذكره . انظر ( 1/34 – 37 ) في ذكر ملابسه - صلى الله عليه وسلم - : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى ابن عمر عن لباس الكفار .
هـ - وأما ما أشار إليه في " سبل السلام " من أن كون الوصال من فعل النصارى لا يقتضى التحريم؛ فقد ذكره صاحب " السبيل " من ضمن أجوبة الذين لا يرون تحريم الوصال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصل , وهو جواب فيه نظر , وخاص في هذه المسألة؛ لتعارض الأدلة فيها , وليس هذا مما نحن فيه .(5/302)
5 – ثم إن الكاتب جعل مدلول حديث : ( اعفوا اللحى وخالفوا المجوس ) مثل مدلول حديث : ( صلوا بالنعال وخالفوا اليهود ) ؛ لأن الحديثين متماثلان في الصحة والورود والتعليل , وحديث الصلاة بالنعال لم يفهم أحد منه الوجوب , وحديث : ( اعفوا اللحى ) مثله , وأيضًا حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم ) وقد فهم منه الصحابة الندب . ومقصود الكاتب من هذا كله أن يحمل مدلول حديث ( اعفوا اللحى ) على الندب كهذين الحديثين :
- ونجيب عن ذلك بجوابين :
الأول : أنا قد بينا أن المقصود بالإعفاء كونه من خصال الفطرة ومخالفة الكفار .
والجواب الثاني : أن نقول : حديث الأمر بإعفاء اللحى لم يصرفه صارف عن الوجوب إلى الندب؛ بخلاف الحديثين المذكورين معه .
وإليك ما قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 2/135 ) على حديث الصلاة بالنعال بعد أن ذكر الأحاديث التي بينها وبينه شبه تعارض؛ قال " ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفًا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب؛ لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب " اهـ . وقال أيضًا على حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) بعد ذكر ما يعرضه ( 1/132 ) في " نيل الأوطار " :
" قال الطبري : الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة , وليس فيها تناقض , بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة , والنهي لمن له شمط فقط " .
قال : " واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع , ولذا لم ينكر بعضهم على بعض " اهـ . وانظر : " فتح الباري " ( 10/355 ) .
ثم قال الكاتب " وقد يرد على هذا الاحتجاج بأنه يرد أن أحدًا من الصحابة حلق لحيته ليفهم منه الندب " .(5/303)
قال : " والجواب : أن إعفاء اللحى عادة العرب كلهم قبل الإسلام وبعده , فيحتمل أنهم أعفوها لهذا لا للوجوب , ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال؛ بطل به الاستدلال " .
والجواب أن نقول : ما تخوفته لازم لك؛ فإن كون الصحابة - رضي الله عنهم - أعفوا لحاهم؛ لأنهم فهموا الوجوب من أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما يدل على حمل الحديث على الوجوب وعدم وجود الصارف له عن ذلك .
والجواب الذي ذكرته يلزم منه أن الصحابة ما أعفوا لحاهم امتثالًا لأمر الرسول وإنما أعفوها اقتداءً بعادة العرب , وهذا اتهام ينزه عنه الصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم , وهو تشكيك وليس احتمالًا , فلا يسقط به الاستدلال .
6 – ثم قال الكاتب : " وإذا ذكرت أفعال متعددة , وأعطيت حكمًا واحدًا؛ سرى هذا الحكم على جميعها , وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : ( عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية واستنشاق الماء , وقص الأظافر . . . . ) إلى آخر الحديث . وقال ابن دقيق العيد في " العدة شرح العمدة " ( 1/357 ) : الفطرة لفظ واحد استعملت في الكل , فلو أفادت مرة الوجوب ومرة الندب؛ لاستعمل اللفظ الواحد في معنيين . وقال محشيه الأمير الصنعاني ( 1/353 ) : كلها سواء في الحكم , والقول بأن بعضها غير واجب تحكم " .
يريد الكاتب من هذا أن إعفاء اللحية ليس بواجب .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الأول : أنه لم يذكر كلام ابن دقيق العيد بلفظه , وإنما نقله بمعناه بعبارة من عنده وهذا فيه خيانة في النقل , وغلط في اسم الشرح , فسماه باسم الحاشية , واسم الشرح " إحام الأحكام " وأما كلام الأمير الصنعاني صاحب الحاشية؛ فقد تصرف فيه وزاد ونقص , والواقع أن الصنعاني يتكلم في تقدير أحد أدلة القائلين بأن الختان سنة , وهذا نص كلامه , قال :(5/304)
" والثاني : أن قرائنه التي ضم إليها وشاركه في الحكم غير واجبة , فيكون غير واجب , وإلا لكان الحكم بأن بعضها واجب وبعضها غير واجب تحكمًا , وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " اهـ .
فقارن أيها القارئ بين عبارة الصنعاني والعبارة التي ذكرها الكاتب ونسبها للصنعاني؛ لترى :
أولًا : أن الكاتب جعل هذا رأيًا للصنعاني وهو رأي لغيره حكاه عنه .
وثانيًا : أن الكاتب زاد لفظه : " وكلها سواء في الحكم " من عنده , وأضافها للصنعاني !
وثالثًا : أن الكاتب بتر آخر العبارة , وهو يقول الصنعاني : " وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " ؛ يعني : قرائن الختان؛ لأنه لا يناسبه .
وليس هذا لائقًا بأهل العلم والأمانة .
الوجه الثاني : أن نقول : إن الأشياء المذكورة مع إعفاء اللحية في الحديث لم يُتفق على أنها سنن , ففي بعضها خلاف قوي؛ كالمضمضة والختان والاستنشاق .
قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 3/148 ) :
" ولا يمتنع قرن الواجب بغيره؛ كما قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأنعام : 141 ] , والإيتاء واجب , والأكل ليس بواجب .
الوجه الثالث : أن وجوب إعفاء اللحية مستفاد من غير هذا الحديث؛ من أحاديث الأمر بالإعفاء وما بمعناه .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) : " قد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات : اعفوا , وأوفوا , وأرخوا , وأرجوا , ووفروا؛ ومعناها كلها تركها على حالها " .
7 – ثم قال الكاتب :
" وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله على وسلم - كان يأخذ من لحيته من طولها ومن عرضها " .
يشير إلى حديث ورد بذلك .
- والجواب : أن الحديث في ذلك لم يثبت كما زعم , وقد كفانا الشيخ حمود التويجري – وفقه الله – ببيان درجة هذا الحديث في رده على مفتي " مجلة العربي " ؛ قال في ( ص 11 ) من الرد المذكور :(5/305)
" والحديث المروي في ذلك ضعيف جدًا , وألحقه بعض العلماء بالموضوعات , وهو ما رواه الترمذي من طريق عمر بن هارون البلخي عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها .
قال الترمذي : هذا حديث غريب .
قلت (1) : وكذبه أيضًا صالح بن محمد الحافظ المعروف بجزرة , وقال ابن حبان : يروي عن الثقات المعضلات . ثم أورد له هذا الخبر , وقال ابن الجوزي حديث لا يثبت , والمتهم به عمر بن هارون . قال العقيلي : لا يعرف إلا به . وذكر الترمذي عن البخاري أنه قال : لا أعرف لعمر بن هارون حديثًا ليس له أصل – أو قال : يتفرد به – إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا من حديث عمرو بن هارون .
وأما أسامة بن زيد الليثي؛ فقد ضعفه القطان , وقال أحمد : ليس بشيء . وقال النسائي : ليس بالقوي " اهـ .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) بعد ذكر كلام الحفاظ في عمر بن هارون هذا : " فعلى هذا لا تقوم بالحديث حجة " .
فانظر أيها القارئ ما قاله الحفاظ في درجة هذا الحديث الذي عده الكاتب ثابتًا , وكان في أول كتابته لا يجيز الاستدلال إلا بقطعي الورود قطعي الدلالة . . . . . إلخ لتري التناقض العجيب .
8 – ثم قال الكاتب :
" والذي أقوله : إن حلق اللحية ليس حرامًا حرمة صريحة , فضلًا عن أن يكون كبيرة من الكبائر , وليس مباحًا جائزًا , ولكنه مكروه " .
ومثل هذا ما ذكر في مطلع كتابه .
- والجواب عن ذلك أن الأحاديث الصحيحة تدل على حرمة حلق اللحية , ولم يقدم الكاتب دليلًا على رأيه , فلا يلتفت إليه وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره :
" يحرم حلق اللحية " .
انظر " الاختيارات " ( ص 26 )(5/306)
9 – ثم ختم الكاتب بقوله : أنه ذهب إلى أوروبا للتداوي , ورأى أن إعفاء اللحية صار شعار الطائفة الهيبيين الفاسدين , وأنها حلية المنحرفين .
فكأنه بقوله هذا يري أن إعفاء اللحية صار مهزلة وشعار فساد وموضة انحراف , فلم يثبت على رأيه أن حلق اللحية مكروه " , فما هذا التناقض ؟ !
- وهذا مصداق ما جاء في الخبر من عود المعروف منكرًا , والمنكر معروفًا , والسنة بدعة , والبدعة سنة فلا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا , وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان , واجعلنا من الراشدين .
وقد سبق إلى هذه الشبهة مفتي " مجلة العربي " حيث قال : " ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة؛ لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى؛ لأنه شأن الرهبان ورجال الكهنوت في سائر الأمم التي تخالفنا في الدين " .
فكان من رد الشيخ حمود التويجري عليه باختصار :
1 – أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي كان عليها الأنبياء المرسلون وأتباعهم , فموافقة الرهبان ورجال الكهنوت في إعفاء اللحى لا تضر المسلمين شيئًا , وليس ذلك من المشابهة المذمومة؛ لأن المسلمين لم يقصدوا مشابهة الرهبان وتقليدهم في إعفاء اللحى , وإنما أعفوها امتثالًا لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
2 – أن يقال : الرهبان ورجال الكهنوت هم المتشبهون بالمسلمين في إعفاء اللحى؛ إما قصدًا , وإما اتفاقًا , ومن تشبه بالمسلمين؛ فهو أحسن حالًا ممن خالفهم .
3 – مرجع الأحكام إلى الكتاب والسنة , لا إلى الرأي والنظر فما وافق الكتاب؛ والسنة فهو حق , وما خالفهما؛ فهو باطل مردود .
هذا , ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينصر دينه ويعلي كلمته , وأن يثبتنا على الإسلام . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
وجهة نظر حول التقارض بين الجماعة من الموظفين(5/307)
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
فقد جرت عادة بعض الموظفين أن يدفع كل واحد منهم مبلغًا محددًا من المال , ثم مجموع المبالغ يأخذه واحد منهم بالدور على شكل قرض , وبعضهم يشترط أن من مات بعد أخذ هذه المبالغ؛ فإنها تسقط عنه , ولا يطالب ورثته بشيء منها .
وهذه المعاملة يجتمع فيها عدة محاذير , كل واحد منها يقتضي تحريمها , وهي :
1 – أن كل واحد يدفع ما يدفع بصفة قرض مشروط فيه قرض من الطرف الآخر فهو قرض جر نفعًا .
2 – أنه شرط عقد , فهو بيعتان في بيعة المنهي عنه في الحديث .
3 – أن في ذلك مخاطرة , بحيث لو مات المدين لزملائه , أو نقل من العمل في الجهة التي تعامل مع زملائه فيها تلك المعاملة إلى العمل في جهة أخرى , أو فُصل من الوظيفة , أو تقاعد؛ لضاع على زملائه حقهم الذي لديه , أو صعبت مطالبته به . وننقل بعض أقوال العلماء حكم نظير هذه المعاملة :
1 – قال في " المغني " ( 4/355 )
" وإن شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئًا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى؛ لم يجز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وسلف , لأنه شرط عقد في عقد؛ فلم يجز؛ كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره " انتهى .
" ومثله في الشرح الكبير " ( 2 /483 )
2 – سُئل سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله : ما حكم الإقراض على أن يرد ذلك المبلغ خلال مدة معينة؛ ومن ثم يقرضك مثل هذا المبلغ لنفس المدة الأولى ؟ وهل يدخل هذا تحت حديث : ( كل قرض جر نفعًا؛ فهو ربا ) ؟ علمًا بأني لم أرد زيادة .
فأجاب : " هذا قرض لا يجوز؛ لكونه قرضًا قد شُرط فيه نفع , وهذا القرض الآخر , وقد أفتى جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على ذلك .(5/308)
أما الحديث المذكور، وهو : ( كل قرض جر نفعًا فهو ربًا ) , فهو ضعيف , ولكن العمدة على فتوى الصحابة في ذلك , وعلى إجماع أهل العلم على منعه , والله أعلم " انتهى من جزء الفتاوى الذي نشرته مؤسس الدعوة الإسلامية الصحفية عام ( 1408 هـ ) .
3 – وقال في " الإقناع وشرحه " ( 3/260 ) : وإن شرط المقترض؛ لم يجز؛ لإفضائه إلى فوات المماثلة , أو شرط أحدهما على الآخر أن يبيع أو يؤجره أو يقرضه؛ أو قرضه؛ لم يجز ذلك؛ لأنه كبيعتين في بيعة المنهي عنه " اهـ المقصود منه .
4 – وقال ابن هبيرة في " الإفصاح " ( 1/361 – 162 )
" واختلفوا فيما إذا اقترض رجل من آخر قرضًا؛ فهل يجوز له أن ينتفع من جانبه بمنفعة لم تجر بها عادة، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا يجوز , وهو حرام . وقال الشافعي : إذا لم يشترط؛ جاز . واتفقوا على تحريم ذلك مع اشتراطه , وأنه لا يحل ولا يسوغ بوجه ما " اهـ .
5 – وقال المرداوي في " الإنصاف " ( 5/131 ) :
" أما شرط ما يجر نفعًا أو أن يقضيه خيرًا منه؛ فلا خلاف في أنه لا يجوز " اهـ .
6 – وقال في متن " الزاد " :
" ويحرم كل شرط جر نفعًا " .
7 – وقال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - :
" فاشتراط القرض في عقد المساقات يفسدها؛ لدخوله في الحديث : ( كل قرض جر نفعًا فهو ربًا ) , وعلة المنع ظاهرة؛ لأنه لولا هذا القرض ابتداء من صفحة ( 123 ) إلى صفحة ( 160 ) من الجزء بالخامس من " مجموع الفتاوى " , ونقل كلام أهل العلم من مختلف المذاهب , وأقوال شُراح الحدث والمفسرين في هذه المسألة .
8 – قال العلامة ابن القيم في بيان الغرر المنهي عنه؛ قال .(5/309)
" لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم , فنهى عن بيعه؛ لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر , والله حرم ذلك؛ لما فيه من أكل المال بالباطل وذلك من الظلم الذي - حرمه الله تعالى - وهذا إنما يكون قمارًا إذا كان أحد المتعارضين يجعل له مال الآخرة قد يحصل له وقد لا يحصل , فهذا هو الذي لا يجوز " اهـ . من " زاد المعاد " ( 4/268 ) .
وهذا ينطبق على ما لو تعذر الاستيفاء في مسألتنا من أحد المتقارضين؛ لموت , أو انتقال من الوظيفة؛ كما ذكرنا .
وبناء على ما سبق؛ فإن هذه المعاملة محرمة لا يجوز فعلها .
والله الموفق .
وأما الشبهة التي احتج بها من أجاز هذه المعاملة ووهي أن المنفعة مشتركة بين الأطراف المتقارضين , والمنفعة إنما تحرم إذا كانت مختصة بالمقرض .
- فالجواب عنها من وجوه :
الوجه الأول : أن الحديث والقاعدة المجمع عليها في أن " كل قرض جر نفعًا؛ فهو ربًا " لم يخصصا التحريم بما إذا كان النفع من طرف واحد .
الوجه الثاني : أن الذين خصصوا هذا التخصيص إنما ذكروه في مسألة السفتجة , والسفتجة ليس فيها تقارض من الطرفين , وإنما فيها قرض من طرف واحد , وذلك بأن يُقرضه دراهم , على أن يرد عليه بدلها من بلد آخر؛ ليسلم من خطر الطريق , هذا ينتفع بالدراهم , وهذا ينتفع بالأمن من خطر الطريق , والقرض من طرف واحد .
وقولهم : " إن هذا من باب التسديد وليس من باب التقارض " .
- نقول : هذا إنما يُتصور لو كان هذا العمل ينتهي عندما يتكامل عدد الجماعة , لكنه يبدأ مرة ثانية من جديد , فيكون تقارضًا .
والله أعلم .
حكم الجهاد وقتل المرتد في الإسلام
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد .(5/310)
فقد نشر الدكتور معروف الدواليبي في " مجلة الشرق الأوسط " ( العدد 4051 ) يوم الأحد 3 جمادى الآخرة 1410 هـ ) مقالًا بعنوان : ( الإسلام والتيارات القومية والعلمية ) . وقد اشتمل هذا المقال على مغالطات كثيرة؛ من أعظمها : زعمه أن الجهاد إنما شُرع في الإسلام من أجل الدفاع فقط .
وقوله : إن المسلم إذا ارتد لا يقتل , وأنه ليس هناك حديث في موضوع قتل المرتد إلا حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وهو ليس نصًا في ردة المسلم عن دينه , وإنما هو عام في كل رجل بدل دينه؛ كما لو بدل يهودي دينه إلى النصرانية مثلًا .
ثم إنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه فهم من حديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) , وذكر في الثالثة أنه هو المارق من الدين المفارق للجماعة , وزعم أن ابن تيمية قال فيه : إنه أراد المحارب لا المرتد؛ قال : " وهكذا ينبغي أن نفهم حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ؛ بأنه يريد فيه المحارب لا المرتد " .
وحيال هذه المغالطات نقول :
أولًا : الجهاد شرع في الإسلام دفاعًا وطلبًا , يكون دفاعًا فقط في حال ضعف المسلمين , ويكون طلبًا في حال قوة المسلمين؛ لأجل إعلاء كلمة الله , ونشر دينه؛ كما قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اغزوا في سبيل الله , وقاتلوا في سبيل الله ) وقد مر الجهاد في الإسلام بأربع مراحل :
المرحلة الأولى : كان فيها محرمًا , وذلك لما كان المسلمون بمكة قبل الهجرة .
الثانية : كان فيها مأذونًا به إذنًا لا أمرًا , وذلك بعد الهجرة مباشرة؛ كما في قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] .
الثالثة : كان فيها مأمورًا به من قاتل المسلمين فقط , وذلك في قوله تعالى :(5/311)
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] .
الرابعة : كان مأمورًا به أمرًا مطلقًا في حق الكفار والمشركين , حتى يكون الدين لله وحده؛ كما في قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
ذكر معنى هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في " زاد المعاد " .
ثانيًا : لم يكن الدليل على وجوب قتل المرتد هو حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) فقط مع أنه كاف في ذلك , بل هناك نصوص كثيرة تدل على وجوب قتل المرتد ذكرها العلماء في كتب الحديث والفقه , فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب " بلوغ المرام " وهو أقرب مرجع ثلاثة أحاديث في السنن والصحاح .
وقول الدكتور الدواليبي : " إن حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ليس نصًا في ردة المسلم , وإنما هو عام في كل رجل بدل دينه؛ كما لو بدل يهودي دينه إلى النصرانية " .(5/312)
نقول : كونه عامًا لا يمنع الاستدلال به على قتل المرتد المسلم , لأن عموم النص حجة مُسلمة إذا لم يأت ما يخصصها , وغالب الأدلة من الكتاب والسنة كذلك . وما زعمه الدكتور الدواليبي أن قتل المرتد لا يتناسب مع ما أعلنه القرآن الكريم من القول المحكم : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ البقرة : 256 ] . زعم في غيره محله , فليس المراد من قتل المرتد إكراهه على الدين , وإنما رد عدوانه على الدين بدخوله فيه مختارًا , ثم رفضه إياه , فقتله من باب حماية العقيدة من العبث , وحماية العقيدة هو أول الضروريات الخمس التي تجب حمايتها وفي قتله أيضًا ردع لغيره أن يفعل مثل فعله؛ كما قال بعض اليهود : { آمنوا بِالَّذِيَ أنزل عَلَى الَّذِينَ آمنوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] .
ثالثًا : وما نسبه الدكتور إلى الشيخ ابن تيمية أنه حمل حديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) وذكر في الثالثة أنه هو التارك لدينه المفارق للجماعة , وأن الشيخ حمل ذلك أن المراد به المحارب .
نقول : ما نسبه إلى الشيخ لم نجده في كتبه التي بين أيدينا، فإن كان الدكتور وجده في كتاب له لم نطلع عليه؛ فهو لا يقتضي أن الشيخ يرى تخصيص الحكم بالمحارب , وأن غيره من المرتدين لا يقتل , وإليك ملخص كلام شيخ الإسلام في حكم المرتد وأنواع الردة من كتاب الاختيارات الفقهية ( ص527 - وما بعدها ) في باب : حكم المرتد , قال : " والمرتد من أشرك بالله تعالى , أو كان مبغضًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به , أو ترك إنكار منكر بقلبه , أو توهم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار , أو أجاز ذلك , أو أنكر مجمعًا عليه إجماعًا قطعيًا , أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم . . . " .
إلى أن قال :
" وإذا أسلم المرتد , عصم دمه بعد ردته " انتهى .(5/313)
ومعنى هذا أنه إذا لم يسلم بعد ردته , أنه يقتل .
وفي " مجموع الفتاوى " ( 34/213 ) لما تكلم عن تحريم الحشيش؛ قال : " ومن استحل ذلك؛ فهو كافر يُستتاب , فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا . لا يغسل , ولا يصلى عليه , ولا يدفن بين المسلمين , وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني " .
وقال أيضًا ( 20/102 ) في بيان الحكمة في قتل المرتد :
" فإنه لو لم يقتل؛ لكان الداخل في الدين يخرج منه , فقتله حفظ لأهل الدين وللدين " .
وقال أيضًا ( 34/413 - 414 ) :
" وطائفة كانت مسلمة , فارتدت عن الإسلام , وانقلبت على عقبها من العرب والفرس والروم وغيرهم , وهؤلاء أعظم جرمًا عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة؛ فإن هؤلاء يجب قتلهم حتمًا ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه , لا يجوز أن يعقد لهم ذمة ولا هدنة ولا أمان , ولا يطلق أسيرهم , ولا يُفادى بمال ولا رجال , ولا تؤكل ذبائحهم , ولا تُنكح نساؤهم , ولا يُسترقون مع بقائهم على الردة بالاتفاق , ويقتل من قاتل منهم ومن لم يقاتل؛ كالشيخ الهرم والأعمى والزمن باتفاق العلماء , وكذا نساؤهم عند الجمهور " انتهى .
هذا رأي الشيخ ابن تيمية في المرتدين , لا كما نسبه إليه الدكتور الدواليبي من أنه يخص القتل بالمرتد المحارب .
ثم إن قول الدكتور : " لم يثبت قط عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عاقب على الردة بالقتل " .
نقول عنه : هذه الدعوى فيها نظر , ولو قدر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المرتد؛ فإن ذلك يُحمل على أنه كان هناك مانع من قتله؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما طلب قتل بعض المنافقين لأداه؛ قال : ( لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ) .
ونقول أيضًا : سنة النبي القولية بالأمر بقتل المرتد كافية في وجوب قتله , وفعل الصحابة بقتل المرتدين حجة قاطعة .
والحمد لله على وضوح الحق وبيان الحجة .(5/314)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
حكم الذبيحة التي تذبح عن الهدي الأضحية ثم يكتشف فيها مرض بعد ذبحها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :
فلما كان الهدي والأضحية عبادتين عظيمتين، يجب على المسلم أن يهتم بهما وأن يؤديهما على الوجه المشروع كسائر العبادات؛ فقد استعنت بالله سبحانه، ونقلت ما تيسر من كلام أهل العلم في حكم الذبيحة التي تذبح عن الهدي أو الأضحية ونحوهما، ثم يكتشف بعد ذبحها أن بها مرضًا يوجب إتلافها؛ حذرًا من ضررها، وذلك ليكون المسلم على بينة من أمره عند تأديتة هاتين العبادتين العظيمتين .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - في كتابه ( إرشاد ذوي البصائر والألباب ) ( ص 89 – 90 ) :
( ولا شك أن النحر لله تعالى من أجل العبادات وأشرفها، ولذلك قرنه الله تعالى بالصلاة في قوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وفي قوله : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] .
وهذه عبادة شرعت في كل شريعة؛ لمحبة الله لها، ولكثرة نفعها، ولكونها من شعائر دينية، ولذلك اقترن الهدي والأضاحي بعيد النحر؛ ليحصل الجمع بين الصلاة والنحر، والإخلاص للمعبود، والإحسان إلى الخلق .
وشرع الهدي أن يهدى لخير البقاع في أشرف الأزمان في أجل العبادات، وأكمل من ذلك أن تساق قبل ذلك، ويجعل لها شعار تعرف به؛ من التقليد والإشعار؛ تعظيمًا لحرمات الله وشرائعه وشعائر دينه .
وفيه من الحكمة الاقتداء بالخليل - صلى الله عليه وسلم - حيث فدى ابنه بذبح عظيم، وأمر الله هذه الأمة بالاقتداء به؛ خصوصًا في أحوال البيت الحرام، إذ قد تكفل الله بأرزاقهم برهم وفاجرهم؛ كما تكفل بأرزاق جميع خلقه؛ كما في دعوة الخليل - صلى الله عليه وسلم - .(5/315)
ومن الحكمة فيها أنها شكر لنعمة الله تعالى بالتوفيق لحج بيته الحرام، ولهذا وجبت في المتعة والقرآن، وشملت توسعته فيها للأغنياء والفقراء لمن ذبحها وغيرهم؛ قال تعالى :
{ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُواالْبَائِسَ الْفَقِير } [ الحج : 27 ] .
ثم إن هذه العبادة لم تختص بحجاج البيت الحرام، بل شملت مشروعيتها جميع المسلمين في هذه الأيام، فشرع لهم الأضاحي؛ تحصلًا لفوائد هذه العبادة الفاضلة ) . انتهى .
فالأضحية والهدى عبادتان عظيمتان في مناسبتين كريمتين مما يوجب الاهتمام بهما .
ولا يجزئ في الهدي والأضاحي إلا ما توفرت فيه الشروط الشرعية التي منها السلامة من المرض؛ كما قال * :
( أربع لا تجوز في الضحايا : العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكبيرة التي لا تنقى ) .
رواة أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان .
والهدي مثل الأضحية في ذلك .
لكن؛ ما نوع المرض الذي يمنع الإجزاء في الهدي والأضحية ؟
سأنقل ما تيسر لي من عبارات الفقهاء، ولعله من خلالها يتضح المقصود – إن شاء الله – بالمرض البين الذي يمنع الإجزاء :
4- قال الدردير في ( الشرح الكبير ) من كتب المالكية ( 2/107 – بحاشية الدسوقي ) :
( كبين مرض ) ؛ أي : مرض بين، فلا تجزئ، وهو ما لا تتصرف معه تصرف السليمة؛ بخلاف الخفيف ) انتهى .
ومقتضاه أن المرض الذي لا يمنع البهيمة من المشي والأكل ونحوهما لا يمنع الإجزاء .
2 - قال النووي في ( المجموع شرح المهذب ) ( 8/199 و304 ) :
( لا تجزئ التضحية بما فيه عيب ينقص اللحم؛ كالمريضة، فإن كان مرضها يسيرًا؛ لم يمنع الإجزاء، وإن كان بينًا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم؛ لم يجزه، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور ) .
وقال أيضًا :
( فعيب الأضحية المانع من إجزائها ما نقص اللحم ) انتهى .
ومعناه : أن ما لا ينقص اللحم لا يمنع الإجزاء .
4- وقال الموفق في ( المغني ) ( 8/624 ) :(5/316)
( وأما المريضة التي لا يرجى برؤها؛ فهي التي بها مرض قد يئس من زواله؛ لأن ذلك ينقص لحمها وقيمتها نقصًا كبيرًا . والذي في الحديث : ( المريضة البين مرضها ) ، وهي التي يبين أثره عليها، لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده، وهو أصح ) انتهى .
ومعناه أن المرض العارض لا يمنع الإجزاء .
4 - وقال ابن مفلح في ( المبدع ) ( 3/279 ) .
و ( المريضة البين مرضها ) ؛ لأن ذلك يفسد اللحم وينقصه، فدل على أنه إذا لم يكن بينًا؛ أنها تجزئ لأنها قريبة من الصحة ) انتهى .
5 - قال ابن هبيرة في ( الإفصاح ) :
( واتفقوا على أنه لا يجزئ فيها ذبح معيب ينقص عيبه لحمه؛ كالعمياء، والعوراء، والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها ) .
6 - وقال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) ( 5/124 – 125 ) :
( قوله : ( أربع لا تجوز . . . إلخ ) فيه دليل على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها؛ إلا ما كان ذلك يسيرًا غير بين ) .
ثم نقل عن النووي أنه قال :
( وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء، وهي : المرض، والعجف، والعور، والعرج البينات؛ لا تجزئ التضحية بها ) انتهى .
7 - وقال الشيخ عبيد الله المباركفوري في ( شرح المشكاة ) ( 2/360 ) :
( و ( المريضة البين مرضها ) : هي التي لا تعتلف؛ قاله القارئ ) .
ثم نقل كلام الموفق السابق، ثم قال بعده :
( والحديث يدل على أن العيب الخفي في الضحايا معفو عنه؛ قاله ابن الملك ) .
8 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في ( شرح أصول الأحكام ) ( 2/528 ) :
( والمريضة البين مرضها ) ؛ أي : الذي بأن أثره عليها، وهو المفسد للحمها بقروح وجرب وغيره ) . انتهى .
9 - وفي ( الموسوعة الفقهية الكويتية ) ( 5/84 ) :
( المريضة البين مرضها ) ؛ أي : التي يظهر مرضها لمن يراها ) .
انتهى . لكنه أم ينسب هذا التفسير إلى أحد .(5/317)
ومن خلال ما سبق من النقولات في تفسير المرض الذي يمنع الإجزاء في الأضحية والهدي يتبين :
1- أن الأكثر على أنه المرض الذي يؤثر في اللحم؛ فعليه : إذا ذبحها؛ فوجد فيها عيبًا يؤثر في اللحم بحيث يجب إتلافه حذرًا من ضرره ولا يمكن اكتشافه إلا بعد الذبح؛ فهذه الذبيحة لا تجزئ؛ لفقدان شرط سلامة اللحم، فإذا كان لحمها فاسدًا بسبب المرض؛ لم تجزئ لعدم نفعها .
وأما على رأي من فسر المرض بأنه المرض الظاهر الذي يمنع الحيوان من أن يتصرف تصرف السليم؛ كما قاله صاحب ( الشرح الكبير ) المالكي , أو يمنعها من أكل العلف , كما قاله شارح ( المشكاة ) ؛ فعلى هذين القولين إذا كان المرض خفيًا لا يعلم إلا بعد الذبح؛ فإنه لا يمنع الإجزاء , خصوصًا وأن صاحبه قد اجتهد وأدى العبادة حسب ما يستطيع , ولهذا نظائر؛ كمن اجتهد في تحري القبلة وصلى , ثم تبين له الخطأ . . . وغير ذلك من المسائل .
وقد وجدت كلامًا حول هذا الموضوع لأبي محمد ابن حزم - رحمه الله - أحببت أن أنقله بكامله؛ قال - رحمه الله - في ( المحلى ) ( 8/ 61 - 62 ) :
( مسألة : من وجد في الأضحية عيبًا بعد أن ضحى بها ولم يكن اشترط السلامة؛ فله الرجوع بما بين قيمتها حية صحيحة وبين قيمتها معيبة، وذلك لأنه كان له الرد أو الإمساك، فلما بطل الرد بخروجها بالتضحية إلى الله تعالى؛ لم يجز للبائع أكل مال أخيه بالخديعة والباطل؛ فعلية رد ما استزاد على حقها الذي يساويه؛ لأنه أخذه بغير حق؛ إلا أن يحل له ذلك المبتاع، فله ذلك؛ لأنه حقه تركه لله تعالى، وهذا مقتضى في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى . قال الله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، وقال تعالى : { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 9 ] ، فالخديعة أكل المال بالباطل ) .
ثم قال :(5/318)
( مسألة : فإن كان اشترط السلامة؛ فهي ميتة، ويضمن مثلها للبائع، ويسترد الثمن، ولا تؤكل؛ لأن السليمة – بيقين لا شك فيه – هي غير المعيبة، فمن اشترى سالمة وأعطي معيبة؛ فإنما أعطي غير ما اشترى وإذا أعطي غير ما اشترى؛ فقد أخذ ما ليس له، ومن أخذ ما ليس له فهو حرام عليه؛ قال تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ النساء : 29 ] ، والتراضي لا يكون إلا بالمعروف بقدر ما يتراضيان به، لا بالجهل به، فمن لم يعرف العيب؛ فلم يرض به، والرضا لا يكون إلا في عقد الصفقة لا بعده، ومن ذبح مال غيره بغير إذن مالكه؛ فقد تعدى، والتعدي معصية لله وظلم وقد أمر الله تعالى بالذكاة، فهي طاعة له تعالى، ولا شك في أن طاعة الله تعالى غير معصيته، فالذبح الذي هو طاعة وذكاة غير الذبح الذي هو معصية وعدوان لا يحل أكل شيء من الحيوان إلا بالذكاة التي أمر الله تعالى بها، لا مما نهى عنه من العدوان، فليست ذكية، فهي ميتة، ومن تعدى بإتلاف مال أخيه؛ فهو ضامن، والصفة فاسدة، فالثمن مردود ) انتهى المقصود .
وحاصله أن العيب الخفي الذي لا يظهر إلا بعد الذبح لا يمنع الإجزاء إذا كان الذبح لم يشترط السلامة؛ لأنها ملكه، وإذا اشترط السلامة؛ لم تجز؛ لأنها ليست ملكًا له . والله أعلم .
3 - ومن أصحاب هذه الأقوال المنقولة من يفصل بين المرض العارض الذي يرجى زواله، فلا يمنع من الإجزاء؛ لأنه لا ينقص اللحم، وبين المرض المزمن الذي لا يرجى زواله، فيمنع من الإجزاء؛ لأنه ينقص اللحم؛ كما قاله الموفق في ( المغني ) .
وهذا ما تيسر جمعه، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
حكم ذبح الأضحية عن الميت(5/319)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فقد اطلعت على الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر حول الاستفتاء المقدم إليه من محمد الأحمد الرشيد، عن حكم تنفيذ ما أوصى به والده بأن يضحي عنه وعن والديه كل سنة، حيث إن المستفتي نفذ هذه الوصية من سنين طويلة كل سنة يضحي عنه وعن والديه، فأجابه فضيلة الشيخ عبد الله بأنه مأجور على ما فعله في الماضي عن حسن ظن، ولكن الحق أحق أن يتبع وأن الوصية بالأضحية عن الوالدين لا صحة لها ولا يؤجر عليها ولا يؤجر صاحبها على تنفيذها، لكونه لا أضحية لميت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عنه وعن جميع أمته ولا يؤجر الموصى إليه في تنفيذ هذه الوصية، لكونه لا أضحية لميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي، والوصية بالأضحية عن الميت إنما توقعت خطأ من بعض علماء الحنابلة حيث قالوا : وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي . وقد تراجع علماء نجد عن تنفيذ مثل هذه الوصية لكونه لا أضحية لميت فصرف هذه الوصية إلى الفقراء والمضطرين أفضل لكونها بدأت خطأ من أحد الفقهاء والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل قال ويأجرك الله يعني المستفتي على ما أسلفت وقدمت من الأضاحي حيث لم تعرف طريق الحلال والحرام فيها لكونها شرعت في حق الحي ولم تشرع عن الميت { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } ثم قال وإنني أتحفك برسالة من مؤلفاتنا للنظر فيها وقد انتهى علماء نجد عن الأضحية عن الميت بعد نشر هذه الرسالة هذا حاصل ما في الفتوى المذكورة والملاحظ على هذه الفتوى من عدة وجوه الوجه الأول إنكاره لصحة الأضحية عن الميت وحصره مشروعيتها في حق الحي وهذا لا دليل عليه وإنما الأدلة تدل على خلافه وهو شرعيتها عن الميت والحي ومن هذه الأدلة ما ذكره هو في فتواه من أن النبي - صلى الله عليه(5/320)
وسلم - ضحى عنه وعن أمته فإن هذا يدخل فيه الأحياء والأموات في أمته - صلى الله عليه وسلم - ثم هو قد تناقض مع نفسه حيث قال في فتواه فصرف هذه الوصية إلى الفقهاء والمضطرين أفضل فمعنى هذا أن تنفيذها جائز ولكن الصدقة بثمنها أفضل عند شدة الحاجة ووجود الضروة .
الوجه الثاني : قوله والوصية بالأضحية عن الميت إنما وقعت خطأ من بعض علماء الحنابلة وهذا إما جهل منه بأقوال غير الحنابلة في الموضوع فكان الواجب عليه أن يبحث ويراجع ليرى أن علماء الحنابلة لم ينفردوا بالقول بمشروعية الأضحية عن الميت بل قال بها علماء كثيرون من الحنفية والشافعية والحنابلة كما هو مصرح به في كتبهم وأما أنه قال هذا مع علمه بأقوال غير الحنابلة في الموضوع فيكون هذا من التغرير والكتمان وكلا الأمرين لا يليق بأمثاله ممن يرجع إليهم في الفتوى والأمور الشرعية .
الوجه الثالث :(5/321)
قوله قد تراجع علماء نجد عن تنفيذ مثل هذه الوصية بعد نشر رسالته التي استنكر فيها الأضحية عن الميت وزعم أنها غير مشروعة وهذا القول خلاف الواقع والحقيقة فإن علماء نجد لم يتراجعوا عن القول بصحة الأضحية عن الميت وصحة الوصية بها عن الميت ووجوب تنفيذ هذه الوصية لكونها وصية شرعية وقد ردوا على الرسالة المذكورة في رسائل ومقالات نشرت في الصحف والمجلات منها رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد - رحمه الله - وهي بعنوان غاية المقصود في التنبيه على أوهام ابن محمود وقد جاء في مقدمتها ما نصه وبعد فقد اطلعت على كتاب ألفه فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس محاكم قطر سماه الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية، حاد فيه عن الطريق وسلك فيه غير مسلك أولي التحقيق حيث زعم أن الأضحية عن الميت عمل غير مشروع وأنه يعد خطأ في التصرف تضحية الإنسان عن أبويه الميتين وأن الأضحية عن الميت بدعة وفي الكتاب المذكور من التناقض والعبارات البشعة في حق أفاضل العلماء ما لا ينبغي ذكره انتهى ومنها رسالة للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد - رحمه الله - وقد نشرت في بعض الصحف أثبت فيها صحة الأضحية عن الميت ورد على هذه الرسالة برد وافٍ مفصل ومنها كتاب بعنوان ( كتاب الحجج القوية والأدلة القطعية والرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية ) للشيخ علي بن حواس جاء فيه وبعد فقد اطلعت على رسالة ألفها بعض المشائخ وسماها الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية وهل الأضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية ولما قرأتها وتأملتها وحققتها وجدت الكثير منها محتويًا على الأخطاء والأغلاط المخالفة لنص السنة والكتاب ومنها رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حمد الجطيلي - رحمه الله - وهي بعنوان الدلائل الواضحات على مشروعية الأضحية عن الأموات هذا ولا يزال العمل مستمرًا(5/322)
في نجد على ذبح الأضاحي عن الأموات تبرعًا من الأحياء أو تنفيذ الوصايا من الأموات بذلك من غير نكير فلا حقيقة لقول الشيخ بن محمود أن علماء نجد تراجعوا عن تنفيذ الوصية بالأضحية عن الميت وانتهوا عن ذلك بعد صدور ونشر رسالته فهذا تقول على العلماء وتغرير بالجهال وتزيد في القول يتنزه عنه المسلم فضلًا عن العالم الذي يتصدى للفتوى ويرجع إليه في معرفة الأحكام الشرعية الوجه الرابع أنه تجازف في بعض العبارت كقوله الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقوله : للسائل ويأجرك الله على ما أسلفت وقدمت من الأضاحي حيث لم تعرف طريق الحرام والحلال واستشهاده بالآية الكريمة { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } [ البقرة : 275 ] . فاعتبر الأضحية عن الميت في هذه الكلمات من الباطل ومن الحرام ومما يجب الانتهاء عنه في المستقبل ويعفي عما سلف منه ويتوعد من استمر عليه كالربا الذي نزلت فيه الآية التي استشهد بها وهذا إنما يقال فيما أجمع على تحريمه أو دلت عليه أدلة صحيحة صريحة أما مسائل الخلاف والاجتهاد فلا يقال فيها مثل هذه العبارات القاسية هذا ونسأل الله أن يرينا وإياه الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله صحبه . تكملة : قد اطلعت على مقال للأستاذ محمد العيسى في كتابه " حوار مع الأفكار " ، يدافع فيها عما يسمى بالأناشيد الإسلامية، وهذه المقالة لا تزيد عما قاله الأستاذ أحمد الحليبي؛ إلا أنها تمتاز عنه بالغموض وركاكة الأسلوب والإغراب في الاستدلال، حيث استدل على إباحة هذه الأناشيد بأنها نوع من الشعر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ردد الشعر وأعجب به، وأن من الأناشيد ما يفقه في الدين، ومثّل لذلك ب- " المنظومة الرحبية في الفرائض " ، و " نونية ابن القيم " ، و " الألفية في النحو " . والجواب عن ذلك :(5/323)
أولًا : كون الأناشيد نوعًا من الشعر لا يكفي في إباحتها؛ إلا إن كان يكفي الاستدلال لحل الخمر بكون أصلها من التمر أو الزبيب .
وثانيًا : لا أعلم أحدًا صار فقيهًا بسبب الأناشيد، بل الأقرب أنه يصير مطربًا . ولا أعلم أحدًا من الأمة سمّى الرحبية أو النونية أو الألفية أناشيد إسلامية، فلم يقولوا الأنشودة الرحبية أوالأنشودة النونية، وإنما يقولون " المنظومة الرحبية " ، و " القصيدة النونية " ، ولم يكونوا ينشدونها إنشادًا جماعيًا بقصد التطريب، بل كانوا يحفظونها ويقرؤونها في حلقات التدريس . ثمّ إن الأستاذ عليًا في ختام مقاله الطويل طول الليل الدامس قال : " لا يطالب مؤيد وجودها - أي : الأناشيد - بأدلة شرعية " . وكأنه قال ذلك حينما أحس بعجزه عن إقامة الدليل، وكفى بهذا اعترافًا منه بعدم جوازها . والله أعلم
زكاة الفطر . . العاطفة لا تكون على حساب الدين(5/324)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فقد قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد وأن بعض الناس في هذا الزمان يحاولون تغيير العبادات عن وضعها الشرعي ولذلك أمثلة كثيرة فمثلًا صدقة الفطر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها من الطعام في البلد الذي يوجد فيه المسلم عند نهاية شهر رمضان بأن يخرجها في مساكين ذلك البلد من المسلمين وقد وجد من يفتي بإخراج القيمة بدلًا من الطعام ومن يفتي بدفع دراهم يشتري بها طعام في بلد آخر بعيد عن بلد الصائم وتوزع هناك وهذا تغيير للعبادة عن وضعها الشرعي فصدقة الفطر لها وقت تخرج فيه وهي ليلة العيد أو قبله بيومين فقط ولها مكان تخرج فيه وهو البلد الذي يوافي تمام الشهر والمسلم فيه ولها أهل تصرف فيهم وهم مساكين ذلك البلد من المسلمين ولها نوع تخرج منه والطعام فلابد من التقيد بهذه الاعتبارات الشرعية وإلا فإنها لا تكون عبادة صحيحة ولا مبرئة للذمة وقد اتفق الأئمة الأربعة على وجوب إخراج صدقة الفطر في البلد الذي فيه الصائم ما دام فيه مستحقون لها وصدر بذلك قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة فالواجب التقيد بذلك وعدم الالتفات إلى من ينادون بخلافه لأن المسلم يحرص على براءة ذمته والاحتياط لدينه وهكذا كل العبادات لابد من أدائها على مقتضى الاعتبارات الشرعية نوعًا ووقتًا ومصرفًا فلا يغير نوع العبادة الذي شرعه الله إلى نوع آخر فمثلًا فدية الصيام بالنسبة للكبير الهرم والمريض المزمن اللذين لا يستطيعان الصيام قد أوجب الله عليهما الإطعام عن كل يوم بدلًا من الصيام قال تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] وكذلك الإطعام في الكفارات كفارة الظهار(5/325)
وكفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة اليمين وكذلك إخراج الطعام في صدقة الفطر كل هذه العبادات لابد من إخراج الطعام فيها ولا يجزئ عنه إخراج القيمة من النقود لأنه تغيير للعبادة عن نوعها الذي وجبت منه لأن الله نص فيها على الإطعام فلابد من التقيد به ومن لم يتقيد به فقد غير العبادة عن نوعها الذي أوجبه الله وكذلك الهدي والأضاحي والعقيقة عن المولود لابد في هذه العبادات أن يذبح فيها من بهيمة الأنعام النوع الذي يجزئ منها ولا يجزئ عنها إخراج القيمة أو التصدق بثمنها لأن الذبح عبادة قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] . والأكل من هذه الذبائح والتصدق من لحومها عبادة قال تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ الحج : 27 ] . فلا يجوز ولا يجزئ إخراج القيمة أو التصدق بالدراهم بدلًا من الذبح لأن هذا تغيير للعبادة عن نوعها الذي شرعه الله ولابد أيضًا أن تذبح هذه الذبائح في المكان الذي شرع الله ذبحها فيه فالهدي يذبح في الحرم قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] . وقال تعالى في المحرمين الذين ساقوا معهم الهدي { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] والأضحية والعقيقة يذبحهما المسلم في بلده وفي بيته ويأكل ويتصدق منهما ولا يبعث بقيمتهما ليشتري بها ذبيحة تذبح وتوزع في بلد آخر كما ينادي به اليوم بعض الطلبة المبتدئين أو بعض العوام بحجة أن بعض البلاد فيها فقراء ومحتاجون ونحن نقول : إن مساعدة المحتاجين من المسلمين مطلوبة في أي مكان لكن العبادة التي شرع الله فعلها في مكان معين لا يجوز نقلها منه إلى مكان آخر لأن هذا تصرف وتغيير للعبادة عن الصبغة التي شرعها الله(5/326)
بها وهؤلاء شوشوا على الناس حتى كثر تساؤلهم عن هذه المسألة ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها وهو مقيم بالمدينة ويذبح الأضحية والعقيقة في بيته بالمدينة ولا يبعث بهما إلى مكة مع أنها أفضل من المدينة وفيها فقراء قد يكونون أكثر حاجة من فقراء المدينة ومع هذا تقيد بالمكان الذي شرع الله أداء العبادة فيه فلم يذبح الهدي بالمدينة ولم يبعث بالأضحية والعقيقة إلى مكة بل ذبح كل نوع في مكانه المشروع ذبح فيه وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة الذبح لابد أن يكون في المكان المخصص له شرعًا ومن أراد نفع المحتاجين من إخواننا المسلمين في البلاد الأخرى فليساعدهم بالأموال والأطعمة وكل ما فيه نفع لهم أما العبادات فإنها لا تغير عن وقتها ومكانها بدعوى مساعدة المحتاجين في مكان آخر والعاطفة لا تكون على حساب الدين وتغيير العبادة .
مهلًا يا دعاة التجديد(5/327)
صرنا نسمع في الآونة الأخيرة دعوات للتجديد من هنا وهناك ومن أناس ليسوا أهل اختصاص بمعرفة دواعي التجديد ومقوماته ومجالاته أعني التجديد للدين لا التجديد في الدين فإن التجديد للدين مطلوب من أهل الاختصاص بأن يعيدوا للدين جدته وإشراقه يميطوا عنه الحجب التي اصطنعها الجهال والمغرضون أو الضلال الملحدون وقد بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها أما التجديد في الدين فمعناه الابتداع وإحداث في الدين ما ليس منه وهذا تجديد مرفوض ومردود على صاحبه بنص الحديث والأول تجديد مطلوب ولا يقوم به إلا العلماء العاملون والمجاهدون والصابرون فمن أي النوعين يا ترى ما ينادي به دعاة التجديد اليوم ممن هم ليسوا من ذوي الاختصاص الشرعي إنما كانت تخصصاتهم في علوم الكمياء والفيزياء أو علوم الطب والهندسة أما التجديد الذي ينادون به هو التجديد في الدين بإحداث فقه جديد معاصر كما يسمونه لأن الفقه القديم بزعمهم لا يناسب هذا العصر بشكله ومضمونه ويدعون إلى الاعتياض عنه بما يسمونه فقه الواقع وسمعنا بعضهم يقول في محاضرة له وينادي فيها إلى التجديد في الفقه والفكر يقول إن الدين شريعة وفقه فالشريعة هي الكتاب والسنة وهما لا يقبلا ن التجديد وأما الفقه فهو يقبل التجديد ويا سبحان الله فمن أين جاء الفقه إليه وهو مستنبط من الكتاب والسنة بل هو تفسير للكتاب والسنة وهل الفقه مخالف للكتاب والسنة ؟ نعم قد يكون في بعضه مخالفة لهما وهذا النوع يجب أن يستبعد لكن هو في جملته موافق للكتاب والسنة قد قام باستنباطه ذوو الرواية والدراية من علماء الأمة ومن هو الذي سيخلفهم ويأتي بفقه جديد أهو خريج كلية الهندسة أوالصيدلة أو التربية أو عالم الفيزياء أو الكيمياء كلا ولو أن واحدًا من علماء الشريعة تكلم في الطب أو الفيزياء أو غيرهما مما ليس من تخصصه لأقمتم الدنيا وأقعتموها بالإنكار عليه ولكم(5/328)
الحق في ذلك فكيف سمحتم لأنفسكم أن تتدخلوا فيما هو ليس من اختصاصكم إذا كان الذي حمل هؤلاء على المنادة بالتجديد هو ما يرونه من تأخر المسلمين وهذا أمر واقع فظنوا أن سببه هو البقاء على الفقه وهذا منهم وايم الله جهل بتشخيص الداء ومعرفة الدواء لأن سبب تأخر المسلمين هو عدم أخذهم بهذا الفقه وتطبيقهم له واستبدال الكثير منهم به أنظمة البشر وقوانين البشر فالسبب هو تركهم له لا أخذهم به لكن كما قيل :
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانا(5/329)
نحن لا ننكر وجود قضايا مستجدة تحتاج إلى دراسة ومعالجة لكن ليس علاجها بأن نحدث فقهًا جديدًا أو نرفض الفقه القديم وإنما علاجها بأن نعرضها على الفقه القديم بقواعده ومرونته وشموله وهو قادر بإذن الله على إعطاء الحل الناجح لهذه القضايا المشكلة إذا تولى ذلك أهل الاختصاص من علماء الشريعة ولا أقول ذلك تنقص لغيرهم لكن رحمة بهم وبالأمة أن يدخلوا أنفسهم فيما ليس من اختصاصهم نعم من حقهم أن يقولوا إن واقع بعض المسلمين يحتاج إلى علاج وأن يطلبوا من العلماء النظر فيما يجد من مشكلات لكن ليس من حقهم أن يطالبوا بإحداث فقه جديد وترك الفقه القديم لأن هذا معناه فصل حاضر الأمة عن ماضيها والتنكر لموروثاتها ورصيدها العلمي العظيم وفتح مجال للمتطفلين على العلم والمعرفة أن يغيروا ويبدلوا وأنا ما أردت بهذه الكلمة إلا النصح { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] . وأنا أعلم أن غالب من تبنى هذه الفكرة فكرة التجديد يريدون الخير للمسلمين وانتشالهم من واقعهم المرير ولكن ليس العلاج ما ذكروه بل العلاج إسناد الأمور إلى أهلها قال تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} قال العلامة الشيخ بن سعدي في تفسيره وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ انتهى وأقول : إن فتح المجال لغير ذوي الاختصاص مصدر لأن يتلاعب بدين الله أنصاف المتعلمين والمتعالمون الذين ملؤوا الدنيا بالاجتهادات الخاطئة مما يسمونه الفقه الجديد وهذا مصداق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من أنه إذا فقد العلماء اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ومن أنه في آخر الزمان(5/330)
يكثر القراء ويقل الفقهاء فقراء الكتب اليوم كثيرون لكن الفقهاء منهم قليلون والعبرة بالفقه لا بكثرة القراءة والاطلاع لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يفتخر بأنه لم يتخرج من جامعة إسلامية ولم يقرأ على عالم وإنما كون نفسه بنفسه وتتلمذ على كتبه وعندما يسمع هؤلاء هذه الدعوة إلى التجديد وأن المجال مفتوح لكل أحد فسيصدر عنهم العجائب وقد صدر كما قيل:
لقد هزلت حتى بدت من هزالها ** كلاها وحتى سامها كل مفلس
فليس بين أحدهم وبين أن يكون عالمًا إلا أن يكون عنده مكتبة ويقرأ كتابًا أو كتابين ثم يتصدر للفتوى والتدريس والتأليف فمهلًا يا دعاة التجديد ورفقًا بأمتكم ورحم الله امرًا عرف قدر نفسه والسلام عليكم
تم نسخ الكتاب من موقع فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان
شبكة مشكاة الإسلامية
www.almeshkat.com(5/331)