كتاب عوارف المعارف
للشيخ، شهاب الدين، أبي حفص عمر بن
محمد بن عبد الله السهروردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم شأنه القوي سلطانه، الظاهر إحسانه الباهر حجته وبرهانه، المحتجب بالجلال والمنفرد بالكمال، والمتردي بالعظمة في الآباد والآزال، لا يصوره وهم وخيال، ولا يحصره حد ومثال، ذي العز الدائم السرمدي، والملك القائم الديمومي، والقدرة الممتنع إدراك كنهها، والسطوة المتسوعر طريق استيفاء وصفها، نطقت الكائنات بأنه الصانع المبدع، ولاح من صفات ذرات الوجود بأنه الخالق المخترع، وسم عقل الإنسان بالعجز والنقصان، وألزم فصيحات الألسن وصف الحصر في حلبة البيان، وأحرقت سبحات وجهه الكريم أجنحة طائر الفهم، وسدت تعززاً وجلالاً مسالك الوهم، وأطرق طامح البصيرة تعظيماً وإجلالاً، ولم يجد من فرط الهيبة في فضاء الجبروت مجالاً، فعاد البصر كليلاً والعقل غليلاً، ولم ينتهج إلى كنه الكبرياء سبيلاً؛ فسبحان من عزت معرفته لولا تعريفه، وتعذر على العقول تحديده وتكييفه؛ ثم ألبس قلوب الصفوة من عباده ملابس العرفان، وخصهم من بين عباده بخصائص الإحسان؛ فصارت ضمائرهم من مواهب الأنس مملوءة، ومرائي قلوبهم بنور القدس مجلوة؛ فتهيأت لقبول الأمداد القدسية، واستعدت لورود الأنوار العلوية، واتخذت من الأنفاس العطرية بالأذكار جلاساً، وأقامت على الظاهر والباطن من التقوى حراساً، وأشعلت في ظلم البشرية من اليقين نبراساً، واستحقرت فوائد الدنيا ولذاتها، وأنكرت مصائد الهوى وتبعاتها، وامتطت غوارب الرغبوت والرهبوت، واستفرشت بعلو همتها بساط الملكوت وامتدت إلى المعالي أعناقها، وطمحت إلى اللامع العلوي أحداقها، واتخذت من الملإ الأعلى مسامراً ومحاوراً، ومن النور الأعز الأقصى مزاوراً ومجاوراً، أجساد أرضية بقلوب سماوية، وأشباح فرشية بأرواح عرشية، نفوسهم في منازل الخدمة سيارة، وأرواحهم في قضاء القرب طيارة، مذاهبهم في العبودية مشهورة،(1/1)
وأعلامهم في أقطار الأرض منشورة، يقول الجاهل بهم: فقدوا، وما فقدوا، ولكن سمت أحوالهم فلم يدركوا، وعلا مقامهم فلم يملكوا، كائنين بالجثمان بائنين بقلوبهم عن أوطان الحدثان، لأرواحهم حول العرش تطواف، ولقلوبهم من خزائن البر إسعاف، يتنعمون بالخدمة في الدياجر، ويتلذذون من وهيج الطلب بظمأ الهواجر، تسلوا بالصلوات عن الشهوات. وتعوضوا بحلاوة التلاوة عن اللذات، يلوح من صفحات وجوههم بشر الوجدان، وينم على مكنون سرائرهم نضارة العرفان، لا يزال في كل عصر منهم علماء بالحق؛ داعون للخلق، منحوا بحسن المتابعة رتبة الدعوة، وجعلوا للمتقين قدوة؛ فلايزال تظهر في الخلق آثارهم، وتزهر في الآفاق أنوارهم، من اقتدى بهم اهتدى، ومن أنكرهم ضل واعتدى، فللَّه الحمد على ما هيأ للعباد من بركة خواص حضرته من أهل الوداد، والصلاة على نبيه ورسوله محمد وآله وأصحابه الأكرمين الأمجاد.
ثم إن إيثاري لهدي هؤلاء القوم ومحبتي لهم، علماً بشرف حالهم وصحة طريقتهم المبنية على الكتاب والسنة المتحقق بهما من الله الكريم الفضل والمنة، حداني أن أذهب عن هذه العصابة؛ بهذه الصبابة، وأؤلف أبواباً في الحقائق والآداب معربة عن وجه الصواب فيما اعتمدوه، مشعرة بشهادة صريح العلم لهم فيما اعتقدوه، حيث كثر المتشبهون واختلفت أحوالهم، وتستر بزيهم المتسترون وفسدت أعمالهم، وسبق إلى قلب من لا يعرف أصول سلفهم سوء ظن، وكاد لا يسلم من وقيعة فيهم وطعن، ظناً منه أن حاصلهم راجع إلى مجرد رسم، وتخصصهم عائد إلى مطلق اسم.
ومما حضرني فيه من النية: أن أكثر سواد القوم بالاعتزاء إلى طريقهم والإشارة إلى أحوالهم؛ وقد ورد "من كثر سواد قوم فهو منهم" وأرجو من الله الكريم صحة النية فيه وتخليصها من شوائب النفس، وكل ما فتح الله تعالى علي فيه منح من الله الكريم وعوارف، وأجل المنح عوارف المعارف.
والكتاب يشتمل على نيف وستين باباً والله المعين:
((1/2)
1) الباب الأول: في منشأ علوم الصوفية.
(2) الباب الثاني: في تخصيص الصوفية بحسن الاستماع.
(3) الباب الثالث: في بيان فضيلة علم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منها.
(4) الباب الرابع: في شرح حال الصوفية واختلاف طريقهم فيها.
(5) الباب الخامس: في ذكر ماهية التصوف.
(6) الباب السادس: في ذكر تسميتهم بهذا الاسم.
(7) الباب السابع: في ذكر المتصوف والمتشبه.
(8) الباب الثامن: في ذكر الملامتي وشرح حاله.
(9) الباب التاسع: في ذكر من انتمى إلى الصوفية وليس منهم.
(10) الباب العاشر: في شرح رتبة المشيخة.
(11) الباب الحادي عشر: في شرح حال الخادم ومن يتشبه به.
(12) الباب الثاني عشر: في شرح خرقة المشايخ.
(13) الباب الثالث عشر: في فضيلة سكان الربط.
(14) الباب الرابع عشر: في مشابهة أهل الربط بأهل الصفة.
(15) الباب الخامس عشر: في خصائص أهل الربط فيما يتعاهدونه بينهم.
(16) الباب السادس عشر: في اختلاف أحوال المشايخ بالسفر والمقام.
(17) الباب السابع عشر: فيما يحتاج المسافر إليه من الفرائض والنوافل والفضائل.
(18) الباب الثامن عشر: في القدوم من السفر ودخول الرباط والأدب فيه.
(19) الباب التاسع عشر: في حال الصوفي المتسبب.
(20) الباب العشرون: في حال من يأكل من الفتوح.
(21) الباب الحادي والعشرون: في شرح حال المتجرد من الصوفية والمتأهل.
(22) الباب الثاني والعشرون: في القول والسماع قبولاً وإيثاراً.
(23) الباب الثالث والعشرون: في القول في السماع رداً وإنكاراً.
(24) الباب الرابع والعشرون: في القول في السماع ترفعاً واستغناء.
(25) الباب الخامس والعشرون: في القول في السماع تأدباً واعتناء.
(26) الباب السادس والعشرون: في خاصية الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية.
(27) الباب السابع والعشرون: في ذكر فتوح الأربعينية.
(28) الباب الثامن والعشرون: في كيفية الدخول في الأربعينية.
((1/3)
29) الباب التاسع والعشرون: في ذكر أخلاق الصوفية وشرح الخلق.
(30) الباب الثلاثون: في ذكر تفاصيل الأخلاق.
(31) الباب الحادي والثلاثون: في الأدب ومكانه من التصوف.
(32) الباب الثاني والثلاثون: في آداب الحضرة لأهل القرب.
(33) الباب الثالث والثلاثون: في آداب الطهارة ومقدماتها.
(34) الباب الرابع والثلاثون: في آداب الوضوء وأسراره.
(35) الباب الخامس والثلاثون: في آداب أهل الخصوص والصوفية فيه.
(36) الباب السادس والثلاثون: في فضيلة الصلاة وكبر شأنها.
(37) الباب السابع والثلاثون: في وصف صلاة أهل القرب.
(38) الباب الثامن والثلاثون: في ذكر آداب الصلاة وأسرارها.
(39) الباب التاسع والثلاثون: في فضل الصوم وحسن أثره.
(40) الباب الأربعون: في أحوال الصوفية في الصوم والإفطار.
(41) الباب الحادي والأربعون: في آداب الصوم ومهامه.
(42) الباب الثاني والأربعون: في ذكر الطعام وما فيه من المصلحة والمفسدة.
(43) الباب الثالث والأربعون: في آداب الأكل.
(44) الباب الرابع والأربعون: في ذكر آدابهم في اللباس ونياتهم ومقاصدهم فيه.
(45) الباب الخامس والأربعون: في ذكر فضل قيام الليل.
(46) الباب السادس والأربعون: في الأسباب المعينة على قيام الليل.
(47) الباب السابع والأربعون: في آداب الانتباه من النوم والعمل بالليل.
(48) الباب الثامن والأربعون: في تقسيم قيام الليل.
(49) الباب التاسع والأربعون: في استقبال النهار والأدب فيه.
(50) الباب الخمسون: في ذكر العمل في جميع النهار وتوزيع الأوقات.
(51) الباب الحادي والخمسون: في آداب المريد مع الشيخ.
(52) الباب الثاني والخمسون: فيما يعتمده الشيخ مع الأصحاب والتلامذة.
(53) الباب الثالث والخمسون: في حقيقة الصحبة وما فيها من الخير والشر.
(54) الباب الرابع والخمسون: في أداء حقوق الصحبة والآخرة في الله تعالى.
(55) الباب الخامس والخمسون: في آداب الصحبة والأخوة.
((1/4)
56) الباب السادس والخمسون: في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية من ذلك.
(57) الباب السابع والخمسون: في معرفة الخواطر وتفصيلها وتمييزها.
(58) الباب الثامن والخمسون: في شرح الحال والمقام والفرق بينهما.
(59) الباب التاسع والخمسون: في الإشارة إلى المقامات على الاختصار والإيجاز.
(60) الباب الستون: في ذكر إشارات المشايخ في المقامات على الترتيب.
(61) الباب الحادي والستون: في ذكر الأحوال وشرحها.
(62) الباب الثاني والستون: في شرح كلمات من اصطلاح الصوفية مشيرة إلى الأحوال.
(63) الباب الثالث والستون: في ذكر شيء من البدايات والنهايات وصحتها.
فهذه الأبواب تحررت بعون الله تعالى مشتملة على بعض علوم الصوفية وأحوالهم ومقاماتهم وآدابهم، وأخلاقهم وغرائب مواجيدهم، وحقائق معرفتهم وتوحيدهم، ودقيق إشاراتهم ولطيف اصطلاحاتهم، فعلومهم كلها إنباء عن وجدان، واعتزاء إلى عرفان، وذوق تحقق بصدق الحال. ولم يف باستيفاء كنهه صريح المقال؛ لأنها مواهب ربانية، ومنائح حقانية، استنزلها صفاء السرائر، وخلوص الضمائر، فاستعصت بكنهها على الإشارة، وطفحت على العبارة، وتهادتها الأرواح بدلالة التشامّ والائتلاف، وكرعت حقائقها من بحر الألطاف، وقد اندرس كثير من دقيق علومهم كما انطمس كثير من حقائق رسومهم. وقد قال الجنيد رحمه الله: علمنا هذا قد طوي بساطه منذ كذا سنة، ونحن نتكلم في حواشيه بدا هذا القول منه في وقته مع قرب العهد بعلماء السلف وصالحي التابعين، فكيف بنا مع بعد العهد وقلة العلماء الزاهدين، والعارفين بحقائق علوم الدين، والله المأمول أن يقابل جهد المقل بحسن القبول، والحمد لله رب العالمين.
{الباب الأول}: في ذكر منشأ علوم الصوفية(1/5)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد السهروردي إملاء من لفظه في شوال سنة ستين وخمسمائة. وقال: أنبأنا الشريف نور الهدى أبو طالب الحسين بن محمد الزينبي. قال: أخبرتنا كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية المجاورة بمكة حرسها الله تعالى. قالت: أخبرنا أبو الهيثم محمد بن مكي الكشميهني. قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري. قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. قال: حدثنا أبو كريب. قال: حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله قال: "إِنَّما مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْماً فَقَالَ: يَا قَوْمِي، إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنِي، وَإِنِّي أنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ؛ فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ". معنى اجتاحهم: استأصلهم، ومن ذلك الجائحة التي تفسد الثمار، وقال: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْها طَيِّبَةً قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ. وَكَانَتْ مِنْها طَائِفَةٌ أَخَّاذَاتٌ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ الله تَعَالَى بِها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.(1/6)
وَكَانَتْ مِنْها طَائِفَةٌ أُخْرَى قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
قال الشيخ: أعدّ الله تعالى لقبول ما جاء به رسول الله أصفى القلوب وأزكى النفوس، فظهر تفاوت الصفاء واختلاف التزكية في تفاوت الفائدة والنفع؛ فمن القلوب ما هو بمثابة الأرض الطيبة التي أنبتت الكلأ والعشب والكثير، وهذا مثل من انتفع بالعلم في نفسه واهتدى، ونفعه علمه وهداه إلى الطريق القويم من متابعة رسول الله. ومن القلوب ما هو بمثابة الأخاذات ـ أي الغدران: جمع أخاذة، وهو المصنع والغدير الذي يجتمع فيه الماء ـ فنفوس العلماء الزاهدين من الصوفية والشيوخ تزكت وقلوبهم صفت، فاختصت بمزيد الفائدة فصاروا أخاذات. قال مسروق: صحبت أصحاب رسول الله فوجدتهم كأخاذات؛ لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم.
أخبرنا الشيخ الإمام رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة، قال: أنبأنا أبو سعيد محمد الخليلي وقال: أنبأنا القاضي أبو سعيد محمد الفرخزاذي، قال أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعالبي، قال أنبأنا ابن فنجويه، قال حدثنا ابن حبان، قال حدثنا إسحاق بن محمد، قال حدثنا أبي، قال حدثنا إبراهيم بن عيسى، قال حدثنا علي بن علي، قال حدثنا أبو حمزة الثمالي، قال: حدثني عبد الله بن الحسن، قال: حين نزلت هذه الآية {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ}"سَأَلْتُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ". قال علي: فما نسيت شيئاً بعد، وما كان لي أن أنسى. قال أبو بكر الواسطي: آذان وعت عن الله تعالى أسراره.(1/7)
وقال أيضاً: واعية في معادنها ليس فيها غير ما شهدته شيء، فهي الخالية عما سواه، فما اضطراب الطبائع إلا ضرب من الجهل؛ فقلوب الصوفية واعية؛ لأنهم زهدوا في الدنيا بعد أن أحكموا أساس التقوى، فبالتقوى زكت نفوسهم، وبالزهد صفت قلوبهم؛ فلما عدموا شواغل الدنيا بتحقيق الزهد: انفتحت مسام بواطنهم وسعت آذان قلوبهم، وأعانهم على ذلك زهدهم في الدنيا، فعلماء التفسير وأئمة الحديث وفقهاء الإسلام أحاطوا علماً بالكتاب والسنة واستنبطوا منهما الأحكام، وردوا الحوادث المتجددة إلى أصول من النصوص، وحمى الله بهم الدين، وعرف علماء التفسير وجه التفسير وعلم التأويل، ومذاهب العرب في اللغة وغرائب النحو والتصريف وأصول القصص، واختلاف وجوه القراءة وصنفوا في ذلك الكتب، فاتسع بطريقتهم علوم القرآن على الأمة، وأئمة الحديث ميَّزوا بين الصحاح والحسان، وتفردوا بمعرفة الرواة وأسامي الرجال، وحكموا بالجرح والتعديل ليتبين الصحيح من السقيم ويتميز المعوج من المستقيم، فيتحفظ بطريقهم طريق الرواية والسند حفظاً للسنة، وانتدب الفقهاء لاستنباط الأحكام والتفريع في المسائل، ومعرفة التعليل ورد الفروع إلى الأصول بالعلل الجوامع، واستيعاب الحوادث بحكم النصوص وتفرع من علم الفقه والأحكام علم أصول الفقه وعلم الخلاف، وتفرع من علم الخلاف علم الجدل، وأحوج علم أصول الفقه إلى شيء من علم أصول الدين، وكان من علمهم علم الفرائض، ولزم منه علم الحساب والجبر والمقابلة، إلى غير ذلك، فتمهدت الشريعة وتأيدت، واستقام الدين الحنيفي وتفرع، وتأصل الهدى النبوي المصطفوي فأنبتت أراضي قلوب العلماء الكلأ والعشب بما قبلت من مياه الحياة من الهدى والعلم. قال الله تعالى: {أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الماء: العلم، والأودية: القلوب.(1/8)
قال أبو بكر الواسطي رضي الله عنه: خلق الله تعالى ذرة صافية فلاحظها بعين الجلال، فذابت حياء منه فسالت، فقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}، فصفاء القلوب من وصول ذلك الماء إليها، وقال ابن عطاء: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}.
هذا مثل ضربه الله تعالى للعبد، وذلك إذا سال السيل في الأودية لا يبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها وذهب بها كذلك إذا سال النور الذي قسمه الله تعالى للعبد في نفسه لا تبقى فيه غفلة ولا ظلمة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني قسمة النور {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} يعني في القلوب الأنوار على ما قسم الله تعالى لها في الأزل {فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} فتصير القلوب منورة لا تبقى فيها جفوة {وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ}{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. أنواع الكرامات، فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه، فسالت أودية قلوب علماء التفسير والحديث والفقه بقدرها، وسالت أودية قلوب الصوفية من العلماء الزاهدين في الدنيا المتمسكين بحقائق التقوى بقدرها، فمن كان في باطنه لوث محبة الدنيا من فضول المال والجاه وطلب المناصب والرفعة سال وادي قلبه بقدره، فأخذ من العلم طرفاً صالحاً ولم يحظ بحقائق العلوم ومن زهد في الدنيا اتسع وادي قلبه فسالت فيه مياه العلوم واجتمعت وصارت أخاذات.(1/9)
قيل للحسن البصري: هكذا قال الفقهاء فقال: وهل رأيت فقيهاً قط، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، فالصوفية أخذوا حظّاً من علم الدراسة فأفادهم علم الدراسة العمل بالعلم، فلما عملوا بما علموا أفادهم العمل علم الوراثة؛ فهم مع سائر العلماء في علومهم وتميزوا عنهم بعلوم زائدة هي علوم الوراثة؛ وعلم الوراثة هو الفقه في الدين. قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إليْهِمْ}{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً والّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}"مَا عُبِدَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ، ولَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ. وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هذَا الدِّينِ الفِقْهُ".
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب إملاء، قال حدثنا أبو طالب الزيني، قال أخبرتنا كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، قالت أخبرنا أبو الهيثم، قال أخبرنا الفربري، قال أخبرنا البخاري، قال حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، قال: سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت رسول الله يقول: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّما أَنَا قَاسِمٌ وَالله يُعْطِي" قال الشيخ: إذا وصل العلم إلى القلب انفتح بصر القلب فأبصر الحق والباطل وتبين له الرشد من الغي، ولما قرأ رسول الله على الأعرابي {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} "فَقِهَ الرَّجُلِ".(1/10)
وروى عبد الله بن عباس: أفضل العبادة الفقه في الدين. والحق سبحانه وتعالى جعل الفقه صفة القلب. فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا}"مَثَلُ الَّذِي بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ" أخبر أنه وجد القلب النبوي العلم وكان هادياً مهدياً، وعلمه صلوات الله عليه منهما وراثة معجونة فيه من آدم أبي البشر حيث علم الأسماء كلها، والأسماء سمة الأشياء؛ فكرمه الله تعالى بالعلم. وقال تعالى: {عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}{ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} نطق من الأرض وأجاب موضع الكعبة، ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أصل طينة رسول الله من سرة الأرض بمكة، فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض ذرة المصطفى محمد، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض، فصار رسول الله هو الأصل في التكوين، والكائنات تبع له. وإلى هذا إشارة بقوله: "كُنْتُ نَبيّاً وَآدَمُ بيْنِ المَاءِ وَالطِّينِ" وفي رواية: "بيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ" وقيل لذلك سمي أمياً، لأن مكة أم القرى وذرته أم الخليقة، وتربة الشخص مدفنه، فكان يقتضي أن يكون مدفنه بمكة حيث كانت تربته منها، ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي، فوقعت جوهرة النبي إلى ما يحاذي تربته بالمدينة، وكان رسول الله مكياً مدنياً حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة، والإشارة فيما ذكرناه من ذرة رسول الله: هو ما قال الله تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}"إِنَّ الله تَعَالَى مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ وَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ". استخرج الذر من مسام شعر آدم، فخرج الذر كخروج العرق، وقيل: كان المسح من بعض الملائكة فأضاف الفعل إلى المسبب.(1/11)
وقيل: معنى القول بأنه مسح أي أحصى الأرض بالمساحة، وكان ذلك ببطن نعمان واد بجنب عرفة بين مكة والطائف، فلما خاطب الذر أجابوا ببلى كتب العهد في رق أبيض وأشهد عليه الملائكة وألقم الحجر الأسود؛ فكانت ذرة رسول الله هي المجيبة من الأرض، والعلم والهدى فيه معجونان، فبعث بالعلم والهدى موروثاً وموهوباً.
وقيل: لما بعث الله جبرائيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فأبت، حتى بعث الله عزرائيل فقبض قبضة من الأرض، وكان إبليس قد وطىء الأرض بقدميه فصار بعض الأرض بين قدميه وبعض الأرض بين موضع أقدامه، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس فصارت مأوى الشر وبعضها لم يصل إليه قدم إبليس، فمن تلك التربة أصل الأنبياء والأولياء، وكانت ذرة رسول الله موضع نظر الله تعالى من قبضه عزرائيل لم يمسها قدم إبليس، فلم يصبه حظ الجهل، بل صار منزوع الجهل موفراً حظه من العلم، فبعثه الله تعالى بالهدى والعلم، وانتقل من قلبه إلى القلوب، ومن نفسه إلى النفوس، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة، ووقع التأليف بالتعارف الأول؟ فكل من كان أقرب مناسبة بنسبة طهارة الطينة كان أوفر حظاً من قبول ما جاء به، فكانت قلوب الصوفية أقرب مناسبة فأخذت من العلم حظاً وافراً وصارت بواطنهم أخاذات، فعلموا وعلموا "كالأخاذ الذي يسقى منه ويزرع منه، وجمعوا بين فائدة علم الدراسة وعلم الوراثة بإحكام أساس التقوى، ولما تزكت النفوس انجلت مرايا قلوبهم بما صقلها من التقوى، فانجلى فيها صور الأشياء على هيئتها وماهيتها، فبانت الدنيا بقبحها فرفضوا، وظهرت الآخرة بحسنها فطلبوها، فلما زهدوا في الدنيا انصبت إلى بواطنهم أقسام العلوم انصباباً، وانضاف إلى علم الدراسة علم الوراثة.(1/12)
واعلم أن كل حال شريف نعزوه إلى الصوفية في هذا الكتاب هو حال المقرب، والصوفي هو المقرب، وليس في القرآن اسم الصوفي، واسم الصوفي ترك ووضع للمقرب على ما سنشرح ذلك في بابه. ولا يعرف في طرفي بلاد الإسلام شرقاً وغرباً هذا الاسم لأهل القرب، وإنما يعرف للمترسمين، وكم من الرجال المقربين في بلاد المغرب وبلاد تركستان وما وراء النهر ولا يسمون صوفية، لأنهم لا يتزيون بزي الصوفية، ولا مشاحة في الألفاظ فيعلم أنا نعني بالصوفية المقربين، فمشايخ الصوفية الذين أسماؤهم في الطبقات وغير ذلك من الكتب كلهم كانوا في طريق المقربين وعلومهم علوم أحوال المقربين، ومن تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار فهو متصور ما لم يتحقق حالهم، فإذا تحقق بحالهم صار صوفياً، ومن عداهما ممن تميز بزي ونسب إليهم فهو متشبه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْمٍ عَليم}.
{الباب الثاني}: في تخصيص الصوفية بحسن الاستماع(1/13)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي إملاء، قال: أخبرنا أبو منصور المقري، قال: أخبرنا الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمرو الهاشمي، قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، قال: أخبرنا أبو داود السجستاني، قال: حدثنا مسدد، قال حدثنا يحيى عن شعبة، قال حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله يقول: "نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ". أساس كل خير حسن الاستماع، قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} ورأوا كلام رسول الله ـ الذي لا ينطق به عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ـ من عند الله تعالى يتعين الاستماع إليه؛ فكان من أهم ما عندهم الاستعداد للاستماع، ورأوا أن حسن الاستماع قرع باب الملكوت واستنزال بركة الرغبوت والرهبوت ورأوا أن الوسواس أدخنة ثائرة من نار النفس الأمارة بالسوء، وقتام يتراكم من نفث الشيطان، وأن الحظوظ العاجلة والأقسام الدنيوية التي هي مناط الهوى ومثار الردى بمثابة الحطب الذي تزداد النار به تأججاً ويزداد القلب به تحرجاً، فرفضوا الدنيا وزهدوا فيها، فلما انقطعت عن نار النفس أحطابها وفترت نيرانها وقل دخانها، شهدت بواطنهم وقلوبهم مصادر العلوم، فهيؤوا مواردها بصفاء الفهوم، فلما شهدوا سمعوا. قال الله تعالى: {إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيدٌ}.
أنعى إليك قلوباً طالما هطلت سحائبُ الوحي فيها أبحر الحِكَمِ.(1/14)
وقال ابن عطاء: قلب لاحظ الحق بعين التعظيم، فذاب له وانقطع إليه عما سواه. قال الواسطي: أي لذكرى لقوم مخصوصين لا لسائر الناس، لمن كان له قلب: أي في الأزل وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأحْييْنَاهُ} وقال ابن سمعون: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} يعرف آداب الخدمة وآداب القلب، وهي ثلاثة أشياء، فالقلب إذا ذاق طعم العبادة عتق من رق الشهوة، فمن وقف على شهوته وجد ثلث الأدب، ومن افتقر إلى ما لم يجد من الأدب بعد الاشتغال بما وجد فقد وجد ثلثي الأدب، والثالث: امتلاء القلب، فالذي بدأ بالفضل عند الوفاء تفضلاً فقد وجد كل الأدب.
قال محمد بن علي الباقر: موت القلب من شهوات النفس، فكلما رفض شهوات نال من الحياة بقسطها، فالسماع للأحياء لا للأموات. قال الله تعالى: {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} قال سهل بن عبد الله: القلب رقيق تؤثر فيه الخطرات المذمومة، وأثر القليل عليه كثير، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قرينٌ}"لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات".
وقال الحسين: بصائر المبصرين، ومعارف العارفين، ونور العلماء الربانيين، وطرق السابقين الناجحين، والأزل والأبد وما بينهما من الحدث لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
وقال ابن عطاء: هو القلب الذي يلاحظ الحق ويشاهده ولا يغيب عنه خطرة ولا فترة، فيسمع به بل يسمع منه، ويشهد به بل يشهده، فإذا لاحظ القلب الحق بعين الجلال فزع وارتعد، وإذا طالعه بعين الجمال هدأ واستقر.(1/15)
وقال بعضهم: لمن كان له قلب بصير يقوى على التجريد مع الله تعالى والتفريد له حتى يخرج من الدنيا والخلق والنفس، فلا يشتغل بغيره ولا يركن إلى سواه، فقلب الصوفي مجرد عن الأكوان ألقى سمعه وشهد بصره، فسمع المسموعات وأبصر المبصرات وشاهد المشهودات، لتخلصه إلى الله تعالى واجتماعه بين يدي الله والأشياء كلها عند الله وهو عنده، فسمع وشاهد فأبصر وسمع جملها ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها، لأن الجمل تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود، والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل.
وقد مثل بعض الحكماء تفاوت الناس في الاستماع وقال: إن الباذر خرج ببذره فملأ منه كفه فوقع منه شيء على ظهر الطريق، فلم يلبث أن انحط عليه الطير فاختطفه، ووقع منه شيء على الصفوان ـ وهو الحجر الأملس ـ عليه تراب يسير وندى قليل فنبت، حتى إذا وصلت عروقه، إلى الصفا لم تجد مساغاً تنفد فيه، فيبس ووقع منه شيء في أرض طيبة فيها شوك نابت فنبت، فلما ارتفع خنقه الشوك فأفسده واختلط به، ووقع منه شيء على أرض طيبة ليست على ظهر الطريق ولا على الصفوان ولا فيها شوك فنبت ونما وصلح، فمثل الباذر مثل الحكيم، ومثل البذر كمثل صواب الكلام، ومثل ما وقع على ظهر الطريق مثل الرجل يسمع الكلام وهو لا يريد أن يسمعه فما يلبث الشيطان أن يختطفه من قلبه فينساه، ومثل الذي وقع على الصفوان مثل الرجل يستمع الكلام فيستحسنه ثم تفضي الكلمة إلى قلب ليس فيه عزم على العمل فينسخ من قلبه، ومثل الذي وقع في أرض طيبة فيها شوك مثل الرجل يسمع الكلام وهو ينوي أن يعمل به فإذا اعترضت له الشهوات قيدته عن النهوض بالعلم فيترك ما نوى عمله لغلبة الشهوة كالزرع يختنق بالشوك.(1/16)
ومثل الذي وقع في أرض طيبة مثل المستمع الذي ينوي عمله فيفهمه ويعمل به ويجانب هواه، وهذا الذي جانب الهوى وانتهج سبيل الهدى هو الصوفي، لأن للهوى حلاوة، والنفس إذا تشربت حلاوة الهوى فهي تركن إليه وتستلذه، واستلذاذ الهوى هو الذي يخنق النبت كالشوك، وقلب الصوفي نازله حلاوة الحب الصافي، والحب الصافي تعلق الروح بالحضرة الإلهية. ومن قوة انجذاب الروح إلى الحضرة الإلهية بداعية الحب تستتبع القلب والنفس، وحلاوة الحب للحضرة الإلهية تغلب حلاوة الهوى لأن حلاوة الهوى كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار لكونها لا ترتقي عن حد النفس، وحلاوة الحب كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء لأنها متأصلة في الروح فرعها عند الله تعالى وعروقها ضاربة في أرض النفس، فإذا سمع الكلمة من القرآن أو من كلام رسول الله يتشربها بالروح والقلب والنفس ويفديها بكليته ويقول:
أشمُّ منكَ نَسيماً لست أعرفه >< أظن لمياء جرت فيك أردانا
فتعمه الكلمة وتشمله وتصير كل شعرة منه سمعاً وكل ذرّة منه بصراً، فيسمع الكل بالكل، ويبصر الكل بالكل ويقول:
إن تأملتكم فكلي عيونُ >< أو تذكرتكم فكلي قلوبُ.(1/17)
قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُولَئِكَ هُمْ أولُو الألْبَابِ} قال بعضهم: اللب والعقل مائة جزء. تسعة وتسعون في النبي، وجزء في سائر المؤمنين، والجزء الذي في سائر المؤمنين أحد وعشرون سهماً، فسهم يتساوى المؤمنون كلهم فيه وهو: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعشرون جزءاً يتفاضلون فيها على مقادير حقائق إيمانهم. قيل: في هذه الآية إظهار فضيلة رسول الله، أي: الأحسن ما يأتي به، لأنه لما وقعت له صحبة التمكين ومقارنة الاستقرار قبل خلق الكون ظهرت عليه الأنوار في الأحوال كلها، وكان معه أحسن الخطاب، وله السبق في جميع المقامات، ألا تراه يقول: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ" يعني الآخرون وجوداً السابقون في الخطاب الأول في الفضل في محل القدس. وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِ وللرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ} وقال الواسطي رحمه الله تعالى: حياتها تصفيتها عن كل معلول لفظاً وفعلاً.
وقال بعضهم: استجيبوا لله بسرائركم، وللرسول بظواهركم، فحياة النفوس بمتابعة الرسول، وحياة القلوب بمشاهدة العيوب، وهو الحياء من الله تعالى برؤية التقصير.
وقال ابن عطاء: في هذه الآية الاستجابة على أربعة أوجه:
أولها: إجابة التوحيد،
والثاني: إجابة التحقيق،
والثالث: إجابة التسليم.
والرابع: إجابة التقريب، فالاستجابة على قدر السماع، والسماع من حيث الفهم، والفهم على قدر المعرفة بقدر الكلام، والمعرفة بالكلام على قدر المعرفة والعلم بالمتكلم، ووجوه الفهم لا تنحصر، لأن وجوه الكلام لا تنحصر. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبي}.(1/18)
حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أنبأ الرئيس أبو علي بن نبهان، قال: أخبرنا الحسن بن شاذان قال: أخبرنا دعلج بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد العزيز البغوي، قال: أخبرنا أبو عبيد بن القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن يرفعه إلى النبي: قال: "مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ آيَةٌ وإِلاَّ لَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدَ مَطْلَعٌ" قال فقلت يا أبا سعيد، ما المطلع؟ قال: يطلع قوم يعملون به.
قال أبو عبيد: احسب أن قول الحسن هذا إنما ذهب إلى قول عبد الله بن مسعود، قال أبو عبيد: حدثني حجاج عن شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: ما من حرف أو آية إلا وقد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها، فالمطلع: المصعد يصعد عليه من معرفة علمه، فيكون المطلع: الفهم بفتح الله تعالى عن كل قلب بما يرزق من النور. واختلف الناس في معنى الظهر والبطن. قال قوم: الظهر لفظ القرآن، والبطن تأويله. وقيل الظهر: صورة القصة مما أخبر الله تعالى عن غضبه على قوم وعقابه إياهم، فظاهر ذلك إخبار عنهم وباطنه عظة وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الأمة. وقيل ظاهره: تنزيله الذي يجب الإيمان به وباطنه وجوب العمل به. وقيل ظهره: تلاوته كما أنزل. قال تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتيلاً}{كِتَابٌ أنْزَلنَاهُ إليْكَ مُبَارَكٌ ليدَّبَّروا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أولُو الألْبابِ} ولقد نقل عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون، فيكون لكل آية مطلع من هذا الوجه؛ فالحد: حد الكلام، والمطلع: الترقي عن الكلام إلى شهود المتكلم.(1/19)
وقد نقل عن جعفر الصادق أيضاً أنه خر مغشياً عليه وهو في الصلاة، فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها؛ فالصوفي لما لاح له نور ناصية التوحيد، وألقى سمعه عند سماع الوعد والوعيد، وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى صار بين يدي الله حاضراً شهيداً، يرى لسانه أو لسان غيره في التلاوة، كشجرة موسى عليه السلام حيث أسمعه الله منها خطابه إياه بإني أنا الله؛ فإذا كان سماعه من الله تعالى واستماعه إلى الله، صار سمعه بصره وبصره سمعه وعلمه عمله وعمله علمه، وعاد آخره أوله وأوله آخره. ومعنى ذلك: أن الله تعالى خاطب الذر بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}{الَّذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدينَ}{ألست بربكم} كشفاً وعياناً، وتوحيده وعرفانه تبياناً وبرهاناً، وتندرج له ظلم الأطوار في لوامع الأنوار.
قال بعضهم: أنا أذكر خطاب: {ألست بربكم} إشارة منه إلى هذا الحال، فإذا تحقق الصوفي بهذا الوصف صار وقته سرمداً وشهوده مؤبداً وسماعه متوالياً متجدداً، يسمع كلام الله تعالى وكلام رسوله حق السماع.
قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وقال بعضهم: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام.
وقيل: من حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجوانب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي. قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إليْكَ وحْيُهُ}{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وعِلْماً}{إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ}.
{الباب الثالث}: في بيان فضيلة علوم الصوفية، والإشارة إلى أنموذج منها(1/20)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله، قال: أنبأنا أبو عبد الرحمن الصوفي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أخبرنا أبو عمران السمرقندي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا بقية عن الأحوص بن حكيم عن أبيه قال: سأل رجل النبي عليه السلام عن الشر فقال: "لاَ تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّرِّ وَسَلُونِي عَنِ الخَيْرِ" يقولها ثلاثاً، ثم قال: "إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ شِرَارِ العُلَمَاءِ، وَإِنَّ خَيْرَ الخَيْرِ خِيَارُ العُلَمَاءِ" فالعلماء أدلاء الأمة، وعمد الدين، وسرج ظلمات الجهالات الجبلية، ونقباء ديوان الإسلام، ومعادن حكم الكتاب والسنة، وأمناء الله تعالى في خلقه، وأطباء العباد، وجهابذة الملة الحنيفية، وحملة عظيم الأمانة، فهم أحق الخلق بحقائق التقوى، وأحوج العباد إلى الزهد في الدنيا، لأنهم يحتاجون إليها لنفسهم ولغيرهم، ففسادهم فساد متعد، وصلاحهم صلاح متعد".(1/21)
قال سفيان بن عيينة: أجهل الناس من ترك العمل بما يعلم. وأعلم الناس من عمل بما يعلم. وأفضل الناس أخشعهم لله تعالى، وهذا قول صحيح يحكم بأن العالم إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم، فلا يغرك تشدقه واستطالته وحذاقته وقوته في المناظرة والمجادلة، فإنه جاهل وليس بعالم، إلا أن يتوب الله عليه ببركة العلم، فإن العلم في الإسلام لا يضيع أهله ويرجي عود العالم ببركة العلم، والعلم فريضة وفضيلة، فالفريضة: ما لا بد للإنسان من معرفته ليقوم بواجب حق الدين. والفضيلة ما زاد على قدر حاجته مما يكسبه فضيلة في النفس موافقة للكتاب والسنة، وكل علم لا يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهما أو معين على فهمهما أو مستند إليهما كائناً ما كان، فهو رذيلة وليس بفضيلة، يزداد الإنسان به هواناً ورذيلة في الدنيا والآخرة، فالعلم الذي هو فريضة لا يسع الإنسان جهله على ما حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب قال:
أخبرنا الحافظ أبو القاسم المستملي، قال: أخبرنا الشيخ العالم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، قال: أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، قال: حدثنا جعفر بن عامر العسكري، قال: حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا أبو عاتكة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: "اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ فِي الصِّينِ، فِإِنَّ طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ". واختلف العلماء في العلم الذي هو فريضة.
قال بعضهم: هو طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفوس وما يفسد الأعمال، لأن الإخلاص مأمور به كما أن العمل مأمور به. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصينَ} وقال بعضهم: معرفة الخواطر وتفصيلها فريضة، لأن الخواطر هي أصل الفعل ومبدؤه، ومنشؤه، بذلك يعلم الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، فلا يصح الفعل إلا بصحتها، فصار علم ذلك فرضاً حتى يصح الفعل من العبد لله.(1/22)
وقال بعضهم: هو طلب علم الوقت. وقال سهل بن عبد الله: هو طلب علم الحال يعني حكم حاله الذي بينه وبين الله تعالى في دنياه وآخرته. وقيل: هو طلب علم الباطن وهو ما يزداد به العبد يقيناً، وهذا العلم هو الذي يكتسب بالصحبة ومجالسة الصالحين من العلماء الموقنين والزهاد المقربين الذين جعلهم الله تعالى من جنوده يسوق الطالبين إليهم ويقويهم بطريقهم ويرشدهم بهم، فهم وراث علم النبي عليه السلام ومنهم من يتعلم علم اليقين.
وقال بعضهم: هو علم البيع والشراء والنكاح والطلاق، إذا أراد الدخول في شيء من ذلك يجب عليه طلب علمه.
وقال بعضهم: هو أن يكون العبد يريد عملاً يجهل ما لله عليه في ذلك، فلا يجوز له أن يعمل برأيه، إذ هو جاهل فيما له وعليه في ذلك، فيراجع عالماً يسأله عنه ليجيبه على بصيرة ولا يعمل برأيه، وهذا علم يجب طلبه حيث جهل.
وقال بعضهم: طلب علم التوحيد فرض، فمن قائل يقول: إن طريقه النظر والاستدلال، ومن قائل يقول: إن طريقه النقل.
وقال بعضهم: إذا كان العبد على سلامة الباطن وحسن الاستسلام والانقياد في الإسلام ولا يحيك في صدره شيء فهو سالم، فإن حاك في صدره شيء أو توسوس بشيء يقدح في العقيدة أو ابتلي بشبهة لا تؤمن غائلتها أن تجره إلى بدعة أو ضلالة، فيجب عليه أن يستكشف عن الاشتباه ويراجع أهل العلم ومن يفهمه طريق الصواب.(1/23)
وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله: هو علم الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام، لأنها افترضت على المسلمين. وإذا كان عملها فرضاً صار علم العلم بها فرضاً، وذكر أن علم التوحيد داخل في ذلك، لأن أولها الشهادتان والإخلاص داخل في ذلك، لأن ذلك من ضرورة الإسلام، وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام، وحيث أخبر رسول الله أنه فريضة على كل مسلم يقتضي أن لا يسع مسلماً جهله، وكل ما تقدم من الأقاويل أكثرها ما يسع المسلم جهله، لأنه قد لا يعلم علم الخواطر وعلم الحال وعلم الحلال بجميع وجوهه وعلم اليقين المستفاد من علماء الآخرة كما ترى، وأكثر المسلمين على الجهل بهذه الأشياء، ولو كانت هذه الأشياء فرضت عليهم لعجز عنها أكثر الخلق إلا ما شاء الله، وميلي في هذه الأقاويل إلى قول الشيخ أبي طالب أكثر، وإلى قول من قال: يجب عليه علم البيع والشراء والنكاح والطلاق إذا أراد الدخول فيه. وهذا لعمري فرض على المسلم علمه، وهذا الذي قاله الشيخ أبو طالب عندي في ذلك حد جامع لطلب العلم المفترض، والله أعلم.
فأقول: العلم الذي طلبه فريضة على كل مسلم علم الأمر والنهي، والمأمور: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمنهي: ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه، والمأمورات والمنهيات منها ما هو مستمر لازم للعبد بحكم الإسلام، ومنها ما يتوجه الأمر فيه والنهي عنه عند وجود الحادثة، فما هو لازم مستمر لزومه متوجه بحكم الإسلام علمه به واجب من ضرورة الإسلام، وما يتجدد بالحوادث ويتوجه الأمر والنهي فيه فعلمه عند تجدده فرض لا يسع مسلماً على الإطلاق أن يجهله، وهذا الحد أعم من الوجوه التي سبقت والله أعلم.(1/24)
ثم إن المشايخ من الصوفية وعلماء الآخرة الزاهدين في الدنيا شمروا عن ساق الجد في طلب العلم المفترض حتى عرفوه وأقاموا الأمر والنهي وخرجوا من عهدة ذلك بحسن توفيق الله تعالى. فلما استقاموا في ذلك متابعين لرسول الله حيث أمره الله تعالى بالاستقامة فقال تعالى: {فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}{وَلَوْلاَ أنْ ثَبَّتْنَاكَ}{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ولولا هذه المقامات ما أطاق الاستقامة التي أمر بها قيل لأبي حفص: أي الأعمال أفضل؟ قال: الاستقامة؛ لأن النبي يقول: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا". وقال جعفر الصادق في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي افتقر إلى الله بصحة العزم.
ورأى بعض الصالحين رسول الله في المنام، قال: "قلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت: شيبتني سورة هود وأخواتها فقال: نَعَمْ" قال فقلت له: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال: "لا، ولكن قوله: {فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}" فكما أن النبي بعد مقدمات المشاهدات خوطب بهذا الخطاب وطولب بحقائق الاستقامة فكذلك علماء الآخرة الزاهدون ومشايخ الصوفية المقربون، منحهم الله تعالى من ذلك بقسط ونصيب ثم ألهمهم طلب النهوض بواجب حق الاستقامة ورأوا الاستقامة أفضل مطلوب وأشرف مأمور.(1/25)
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة، وهذا الذي ذكره أصل كبير في الباب وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلب. وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا بسير الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبداً نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ويحبون أن يرزقوا شيئاً من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله حيث لم يكشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر فيه فيعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يفتح على بعض المجتهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى؛ وقد يكون بعض عباده يكاشف بصرف اليقين ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصرف اليقين استغنى بذلك عن رؤية خوارق العادات لأن المراد منها كان حصول اليقين وقد حصل اليقين؛ فلو كوشف هذا المرزوق صرف اليقين بشيء من ذلك ما ازداد يقيناً فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع لاستغنائه، وتقتضي الحكمة كشف ذلك للآخر لموضع حاجته فكان هذا الثاني يكون أتم استعداداً وأهلية من الأول حيث رزق حاصل ذلك وهو صرف اليقين بغير واسطة من رؤية قدره فإن فيه آفة وهو العجب فأغني عن رؤية شيء من ذلك. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كل الكرامة.(1/26)
ثم إذا وقع في طريقه شيء من ذلك جاز وحسن، وإن لم يقع فلا يبالي ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة فليعلم هذا لأنه أصل كبير للطالبين. فالعلماء الزاهدون ومشايخ الصوفية والمقربون حيث أكرموا بالقيام بواجب حق الاستقامة رزقوا سائر العلوم التي أشار إليها المتقدمون كما ذكرنا وزعموا أنها فرض. فمن ذلك علم الحال وعلم القيام وعلم الخواطر. وسنشرح علم الخواطر وتفصيلها في باب إن شاء الله تعالى. وعلم اليقين وعلم الإخلاص وعلم النفس ومعرفتها ومعرفة أخلاقها، وعلم النفس ومعرفتها من أعز علوم القوم.(1/27)
وأقوم الناس بطريق المقربين والصوفية أقومهم بمعرفة النفس، وعلم معرفة أقسام الدنيا ووجود دقائق الهوى وخفايا شهوات النفس وشرهها وشرها، وعلم الضرورة ومطالبة النفس بالوقوف على الضرورة ـ قولاً وفعلاً ولبساً وخلعاً وأكلاً ونوماً ـ ومعرفة حقائق التوبة، وعلم خفي الذنوب ومعرفة سيئات هي حسنات الأبرار ومطالبة النفس بترك ما لا يعني، ومطالبة الباطن بحصر خواطر المعصية ثم بحصر خواطر الفضول، ثم علم المراقبة، وعلم ما يقدح في المراقبة، وعلم المحاسبة والرعاية، وعلم حقائق التوكل وذنوب المتوكل في توكله وما يقدح في التوكل وما لا يقدح، والفرق بين التوكل الواجب بحكم الإيمان وبين التوكل الخاص المختص بأهل العرفان، وعلم الرضا وذنوب مقام الرضا، وعلم الزهد وتحديده بما يلزم من ضرورته، وما لا يقدح في حقيقته ومعرفة الزهد في الزهد ومعرفة زهد ثالث بعد الزهد في الزهد، وعلم الإنابة والالتجاء ومعرفة أوقات الدعاء ومعرفة وقت السكوت عن الدعاء، وعلم المحبة والفرق بين المحبة العامة المفسرة بامتثال الأمر والمحبة الخالصة؛ وقد أنكر طائفة من علماء الدنيا دعوى علماء الآخرة المحبة الخالصة كما أنكروا الرضا وقالوا: ليس إلا الصبر، وانقسام المحبة الخاصة إلى محبة الذات وإلى محبة الصفات والفرق بين محبة القلب ومحبة الروح ومحبة العقل ومحبة النفس، والفرق بين مقام المحب والمحبوب، والمريد والمراد، ثم علوم المشاهدات كعلم الهيئة والأنس والقبض والبسط، والفرق بين القبض والهمم والبسط والنشاط، وعلم الفناء والبقاء وتفاوت أحوال الفناء والاستتار والتجلي والجمع والفرق واللوامع والطوالع والبوادي والصحو والسكر إلى غير ذلك ـ لو اتسع الوقت ذكرناها وشرحناها في مجلدات، ولكن العمر قصير، والوقت عزيز، ولولا سهم الغفلة لضاق الوقت عن هذا القدر أيضاً، وهذا المختصر المؤلف يحتوي من علوم القوم على طرف صالح نرجو من الله الكريم أن ينفع به ويجعله حجة لنا لا(1/28)
حجة علينا ـ
وهذه كلها علوم من ورائها علوم عمل بمقتضاها وظفر بها علماء الآخرة الزاهدون، وحرم ذلك علماء الدنيا الراغبون وهي علوم ذوقية لا يكاد النظر يصل إليها بذوق ووجدان، كالعلم بكيفية حلاوة السكر لا يحصل بالوصف فمن ذاقه عرفه. وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء أن العلوم كلها لا يتعذر تحصيلها مع محبة الدنيا والإخلال بحقائق التقوى؛ وربما كان محبة الدنيا عوناً على اكتسابها لأن الاشتغال بها شاق على النفوس فجبلت النفوس على محبة الجاه والرفعة حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمل الكلف وسهر الليل والصبر على الغربة والأسفار وتعذر الملاذ والشهوات.
وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى قال الله تعالى: {واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}.
قال بعض الفقهاء: إذا أوصى رجل بماله لأعقل الناس يصرف إلى الزهاد لأنهم أعقل الخلق. قال سهل بن عبد الله التستري: للعقل ألف اسم ولكل اسم منه ألف اسم وأول كل اسم منه ترك الدنيا.(1/29)
حدثنا الشيخ الصالح أبو الفتوح محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أحمد قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد قال: حدثنا العباس بن أحمد الشاشي قال: حدثنا أبو عقيل الوصافي قال: أخبرنا عبد الله الخواص وكان من أصحاب حاتم قال: دخلت مع أبي عبد الرحمن حاتم الأصم الري ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلاً يريدون الحج وعليهم الصوف والزرمانقات ليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا الري على رجل من التجار متنسك يحب المتقشفين فاضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة؟ فإني أريد أن أعود فقيهاً لنا هو عليل. فقال حاتم: إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة فأنا أيضاً أجيء معك ـ وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري ـ فقال: سر بنا يا أبا عبد الرحمن فجاؤوا إلى الباب، فإذا باب مشرف حسن فبقي حاتم متفكراً يقول باب عالم على هذا الحال، ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار قوراء وإذا بزة ومنعة وستور وجمع، فبقي حاتم متفكراً، ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه فإذا بفرش وطيئة وإذا هو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبة فقعد الرازي يسائله وحاتم قائم؛ فأومأ إليه ابن مقاتل أن اقعد فقال: لا أقعد، فقال له ابن مقاتل: لعل لك حاجة؟ قال: نعم، قال وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها. قال: سلني.(1/30)
قال: فقم فاستو جالساً حتى أسألكها، فأمر غلمانه فأسندوه، قال له حاتم: علمك هذا من أني جئت به؟ قال: الثقات حدثوني به، قال: عمن؟ قال عن أصحاب رسول الله، قال وأصحاب رسول الله عمن؟ قال: عن رسول الله، قال ورسول الله من أين جاء به؟ قال عن جبرائيل؟ قال حاتم: ففيما أداه جبرائيل عن الله وأداه رسول الله إلى أصحابه وأداه أصحابه إلى الثقات وأداه الثقات إليك هل سمعت في العلم من في داره أمير أو منعته أكثر كانت له المنزلة عند الله أكثر؟ قال: لا، قال: فكيف سمعت؟ قال من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته، كان له عند الله المنزلة أكثر، قال حاتم: فأنت بمن اقتديت بالنبي وأصحابه والصالحين أم بفرعون ونمرود أول من بنى بالجص والآجر؟ يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل الطالب للدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة لا أكون أنا شراً منه، وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضاً.(1/31)
فبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن، بقزوين عالم أكبر شأناً من هذا. وأشاروا به إلى الطنافسي ـ قال فسار إليه متعمداً فدخل عليه قال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة؟ قال نعم وكرامة يا غلام هات إناء فيه ماء؛ فأتي بإناء فيه ماء فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا فتوضاً. فقعد فتوضأ حاتم ثلاثاً ثلاثاً حتى إذا بلغ غسل الذراعين غسل أربعاً فقال له الطنافسي يا هذا أسرفت، فقال له حاتم فيماذا؟ قال: غسلت ذراعيك أربعاً، قال حاتم: يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت وأنت في هذا الجمع كله لم تسرف، فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك ولم يرد منه التعلم، فدخل البيت ولم يخرج إلى الناس أربعين يوماً، وكتب تجار الري وقزوين ما جرى بينه وبين ابن مقاتل والطنافسي؛ فلما دخل بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ألكن أعجمي ليس يكلمك أحد إلا وقطعته، قال: معي ثلاث خصال بهن أظهر على خصمي، قالوا: أي شيء هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصيم، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه، فبلغ ذلك أحمد بن حنبل فجاء إليه وقال: سبحان الله ما أعقله؟ فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا؟ قال حاتم: يا أبا عبد الله، لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال. قال: أي شيء هي يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيساً؛ فإذا كان هذا سلمت، ثم سار إلى المدينة.
قال الله تعالى: {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}"إنما" فينتفي العلم عمن لا يخشى الله، كما إذا قال: إنما يدخل الدار بغدادي، ينتفي دخول غير البغدادي الدار. فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدود إلى أنصبة المعارف ومقامات القرب إلا بالزهد والتقوى.(1/32)
قال أبو يزيد رحمه الله لأصحابه: بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول لا إله إلا الله ما قدرت عليه. قيل: ولم ذلك؟ قال: ذكرت كلمة قلتها في صباي، فجاءتني وحشة تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك، وأعجب ممن يذكر الله تعالى وهو متصف بشيء من صفاته؛ فبصفاء التقوى وكمال الزهادة يصير العبد راسخاً في العلم، قال الواسطي: الراسخون في العلم هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات فانكشف لهم من مدخور الخزائن ما تحت كل حرف من الكلام من الفهم وعجائب الخطاب فنطقوا بالحكم. وقال بعضهم: الراسخ من اطلع على محل المراد من الخطاب. وقال الخراز: هم الذين كملوا في جميع العلوم وعرفوها، واطلعوا على همم الخلائق كلهم أجمعين، وهذا القول من أبي سعيد لا يعني به أن الراسخ في العلم ينبغي أن يقف على جزئيات العلوم ويكمل فيها، فإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من الراسخين في العلم ووقف في معنى قوله تعالى: {وفَاكِهَةً وأبّاً} أوحى الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: "يا بني إسرائيل، لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يعبر فيأتي به.
العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا إليَّ بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم أو يغمركم". فالتأدب بآداب الروحانيين: حصر النفوس عن تقاضي جبلاتها، وقمعها بصريح العلم في كل قول وفعل، ولا يصح ذلك إلا لمن علم وقرب وتطرق إلى الحضور بين يدي الله تعالى، فيحتفظ بالحق للحق.(1/33)
أخبرنا شيخنا أبو النجيب عبد القاهر السهروردي إجازة، قال: أخبرنا أبو منصور بن خبرون إجازة، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن صاعد قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا الأوزاعي عن حسان بن عطية: بلغني أن شداد بن أوس رضي الله عنه نزل منزلاً فقال: ائتونا بالسفرة نعبث بها، فأنكر منه ذلك، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها ثم أزمها غير هذه فلا تحفظوها عليَّ فمثل هذا يكون التأدب بآداب الروحانيين.
مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما قد علمتم وقد ورد في خبر عن رسول الله: "إِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا يُسَوِّفُكُمْ بِالعِلْمِ". قلنا: يا رسول الله، كيف يسوفنا بالعلم؟ قال: "يَقُولُ اطْلُبْ العِلْمَ وَلاَ تَعْمَلْ حَتَّى تَعْلَمَ، فَلاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي العِلْمِ قَائِلاً وَلِلْعَمَلِ مُسَوِّفاً حَتَّى يَمُوتَ وَمَا عَمِلَ". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية. وقال الحسن: إن الله تعالى لا يعبأ بذي علم ورواية، إنما يعبأ بذي فهو ودراية، فعلوم الوراثة مستخرجة من علم الدراسة، ومثال علوم الدراسة كاللبن الخالص السائغ للشاربين.(1/34)
ومثال علوم الوراثة كالزبد المستخرج منه، فلو لم يكن لبن لم يكن زبد، ولكن الزبد هو الدهنية المطلوبة من اللبن، والمائية في اللبن جسم قام به روح الدهنية، والمائية بها القوام. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شيءٍ حيَ}{أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأحْييْنَاهُ}"فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أُمَّتِي" والإشارة في هذا العلم ليس إلى علم البيع والشراء والطلاق والعتاق، وإنما الإشارة إلى العلم بالله تعالى وقوة اليقين، وقد يكون العبد عالماً بالله تعالى ذا يقين كامل وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان أصحاب رسول الله أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة، وقد كان علماء التابعين فيهم من هو أقوم بعلم الفتوى والأحكام من بعضهم. روي أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن شيء يقول: سلوا سعيد بن المسيب. وكان عبد الله بن عباس يقول: سلوا جابر بن عبد الله لو نزل أهل البصرة على فتياه لوسعهم.
وكان أنس بن مالك يقول: سلوا مولانا الحسن، فإنه قد حفظ ونسينا، فكانوا يردون الناس إليهم في علم الفتوى والأحكام، ويعلمونهم حقائق اليقين ودقائق المعرفة، وذلك لأنهم كانوا أقوم بذلك من التابعين، صادفتهم طراوة الوحي المنزل وغمرهم غزير العلم المجمل والمفصل، فتلقى منهم طائفة مجمله ومفصله، وطائفة مفصله دون مجمله، والمجمل أصل العلم، ومفصله المكتسب بطهارة القلوب وقوة الغريزة وكمال الاستعداد، وهو خاص بالخواص.
قال الله تعالى لنبيه: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بالتي هيَ أحْسَنُ}{قُلْ هَذِه سَبيلي أدْعُوا إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال عمر رضي الله عنه: رحم الله تعالى صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه. يعني لو كتب له كتاب الأمان من النار حمله صرف المعرفة بعظيم أمر الله على القيام بواجب حق العبودية، أداء لما عرف من حق العظمة.(1/35)
فإجابة الصوفية إلى الدعوة إجابة المحب للمحبوب على اللذاذة وذهاب العسر، وإجابة غيرهم على المكابدة والمجاهدة، وهذه الإجابة يظهر مع الساعات أثرها في القيام بحقائق الاستقامة والعبودية.
قال الله تعالى: {فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى وَصَدَّقَ بالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى}{أعطى} بالمواظبة على الأعمال. {واتقى} الوساوس والواجس، {وصدق بالحسنى} لازم الباطن بتصفية موارد الشهود عن مزاحمة لوث الوجود {فسنيسره لليسرى} نفتح عليه باب السهولة في العمل والعيش والأنس؛ {وأمَّا مَنْ بَخِلَ} بالأعمال، {واسْتَغْنَى} امتلأ بالأحوال، {وكَذَّبَ بالحُسْنَى} لم يكن في الملكوت بنفوذ بصيرته بالجوال {فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى} جاء رجل إلى معاذ قال: أخبرني عن رجلين أحدهما مجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشك. قال معاذ: ليحبطن شكه عمله، قال: فأخبرني عن رجل قليل العلم إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب، فسكت معاذ، فقال الرجل: والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره، ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها. قال: فأخذ معاذ بيده وقال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا.
وفي وصية لقمان لابنه: يا بني، لا يستطاع العلم إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا يقصر عامل حتى يقصر يقينه، فكان اليقين أفضل العلم لأنه أدعى إلى العمل، وما كان أدعى إلى العمل كان أدعى إلى العبودية، وما كان أدعى إلى العبودية كان أدعى إلى القيام بحق الربوبية. وكمال الحظ من اليقين والعلم بالله للصوفية والعلماء الزاهدين، فبان بذلك فضلهم وفضل علمهم.(1/36)
ثم إني أصور مسألة يستبين بها المعتبر فضل العالم الزاهد العارف بصفات نفسه على غيره: عالم دخل مجلساً وقعد وميز لنفسه مجلساً يجلس فيه كما في نفسه من اعتقاده في نفسه لمحله وعلمه، فدخل داخل من أبناء جنسه وقعد فوقه، فانعصر العالم وأظلمت عليه الدنيا ولو أمكنه لبطش بالداخل، فهذا عارض عرض له ومرض اعتراه، وهو لا يفطن أن هذه علة غامضة ومرض يحتاج إلى المداواة، ولا يتفكر في منشأ هذا المرض، ولو علم أن هذه نفس ثارت وظهرت بجهلها، وجهلها لوجود كبرها، وكبرها برؤية نفسها خيراً من غيرها، فعلم الإنسان أنه أكبر من غيره كبر، وإظهاره ذلك إلى الفعل تكبر، فحيث العصر صار فعلاً به تكبر. فالزاهد لا يميز نفسه بشيء دون المسلمين، ولا يرى نفسه في مقام تمييز يميزها بمجلس، فالصوفي العالم مخصوص مميز. ولو قدر له أن يبتلي بمثل هذه الواقعة وينعصر من تقدم غيره عليه وترفعه يرى النفس وظهورها، ويرى أن هذا داء وأنه إن استرسل فيه بالإصغاء إلى النفس وانعصارها صار ذلك ذنب حاله، فيرفع في الحال داءه إلى الله تعالى، ويشكو إليه ظهور نفسه ويحسن الإنابة، ويقطع دابر ظهور النفس ويرفع القلب إلى الله تعالى مستغيثاً من النفس، فيشغله اشتغاله برؤية داء النفس في طلب دوائها من الفكر فيمن قعد فوقه، وربما أقبل على من قعد فوقه بمزيد التواضع والانكسار، تكفيراً للذنب الموجود، وتداوياً لدائه الحاصل. فتبين بهذا الفرق بين الرجلين.
فإذا اعتبر المعتبر وتفقد حال نفسه في هذا المقام يرى نفسه كنفوس عوام الخلق وطالبي المناصب الدنيوية، فأي فرق بينه وبين غيره ممن لا علم له.
ولو أكثرنا تصوير المسائل لنبرهن على فضيلة الزاهدين ونقصان الراغبين، لأورث الملال، وهذه من أوائل علوم الصوفية؛ فما ظنك بنفائس علومهم وشرائف أحوالهم، والله الموفق للصواب.
{الباب الرابع}: في شرح حال الصوفية واختلاف طريقهم(1/37)
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي قال: أخبرنا أبو نصر عبد العزيز بن محمد الترياقي. قال: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، قال: حدثنا مسلمة بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال لي رسول الله: "يَا بُنَيَّ إِنْ قَدِرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ" ثم قال: "يَا بُنَيَّ وَذلِكَ مِنْ سُنَّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ".(1/38)
وهذا أتم شرف وأكمل فضل أخبر به الرسول في حق من أحيا سنته، فالصوفية هم الذين أحيوا هذه السنة، وطهارة الصدور من الغل والغش عماد أمرهم، وبذلك طهر جوهرهم وبان فضلهم؛ وإنما قدروا على إحياء هذه السنة ونهضوا بواجب حقها لزهدهم في الدنيا وتركها لأربابها وطلابها؛ لأن مثار الغل والغش محبة الدنيا ومحبة الرفعة والمنزلة عند الناس، والصوفية زهدوا في ذلك كله، كما قال بعضهم: طريقنا هذا لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل، فلما سقط عن قلوبهم محبة الدنيا وحب الرفعة أصبحوا وأمسوا وليس في قلوبهم غش لأحد، فقول القائل: كنست بأرواحهم المزابل، إشارة منه إلى غاية التواضع، وأن لا يرى نفسه تتميز عن أحد من المسلمين، لحقارته عند نفسه، وعند هذا ينسد باب الغش والغل، وجرت هذه الحكاية فقال بعض الفقراء من أصحابنا: وقع لي أن معنى كنست بأرواحهم المزابل: أن الإشارة بالمزابل إلى النفوس، لأنها مأوى كل رجس ونجس كالمزبلة، وكنسها: بنور الروح الواصل إليها، لأن الصوفية أرواحهم في محال القرب ونورها يسري إلى النفوس، وبوصول نور الروح إلى النفس تطهر النفس ويذهب عنها المذموم من الغل والغش والحقد والحسد، فكأنها تكنس بنور الروح، وهذا المعنى صحيح وإن لم يرد القائل بقوله ذلك.
قال الله تعالى في وصف أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَ إخْواناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ}{قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحبُّونَ اللَّهَ فاتَّبعُوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا}"لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طُرْفَةَ عَيْنٍ، اكْلأْنِي كَلأَةَ الوَلِيدِ".(1/39)
ومن أشرف ما ظفر به الصوفي في متابعة رسول الله هذا الوصف؛ وهو دوام الافتقار ودوام الالتجاء، ولا يتحقق بهذا الوصف من صدق الافتقار إلا عبد كوشف باطنه بصفاء المعرفة، وأشرق صدره بنور اليقين، وخلص قلبه إلى بساط القرب، وخلا سره بلذاذة المسامرة، فبقيت نفسه بين هذه الأشياء كلها أسيرة مأمورة، ومع ذلك كله يراها مأوى كل شر، وهي بمثابة النار لو بقيت منها شرارة أحرقت عالماً، وهي وشيكة الرجوع سريعة الانفلات والانقلاب؛ فالله تعالى بكمال لطفه عرفها إلى الصوفي وكشفها له على شيء من معنى ما كشفه لرسول الله ؛ فهو دائم الاستغاثة إلى مولاه من شرها، وكأنها جعلت سوطاً للعبد تسوقه لمعرفته بشرها مع اللحظات، إلى جناب الالتجاء وصدق الافتقار والدعاء، فلا يخلو الصوفي عن مطالعتها أدنى ساعة، كما لا يخلو عن ربه أدنى ساعة، وربط معرفة الله تعالى فيما ورد: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ" كربط معرفة الليل بمعرفة النهار ومن الذي يقوم بإحياء هذه السنة من سنن رسول الله غير الصوفي العالم بالله الزاهد في الدنيا المتمسك من التقوى بأوثق العرى؛ ومن الذي يهتدي إلى فائدة هذه الحال غير الصوفي، فدوام افتقاره إلى ربه تمسك بجناب الحق ولياذ به، وفي هذا اللياذ استغراق الروح واستتباع القلب إلى محل الدعاء، وفي انجذاب القلب إلى محل الدعاء بلسان الحال والكون فيه: نبو النفس عن مستقرها من الأقسام العاجلة ونزولها إليها في مدارج العلم محفوفة بحراسة الله تعالى ورعايته، والنفس المدبرة بهذا التدبير من حسن تدبير الله تعالى مأمونة الغائلة من الغل والغش والحقد والحسد وسائر المذمومات، فهذا حال الصوفي.(1/40)
ويجمع جمل حال الصوفية شيئان: هما وصف الصوفية، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهدي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البيِّنَاتِ}{آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ} أخبرنا أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل إجازة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف إجازة، قال: أخبرنا عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت منصوراً يقول: سمعت أبا موسى الزقاق يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: أهل الخالصة الذين هم المرادون اجتباهم مولاهم وأكمل لهم النعمة وهيأ لهم الكرامة، فأسقط عنهم حركات الطلب، فصارت حركاتهم في العمل والخدمة على الألفة والذكر والتنعم بمناجاته والانفراد بقربه، وبهذا الإسناد إلى أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت علي بن سعيد يقول: سمعت أحمد بن الحسن الحمصي يقول: سمعت فاطمة المعروفة بجويرية تلميذة أبي سعيد تقول: سمعت الخراز يقول: المراد: محمول في حاله معان على حركاته وسعيه في الخدمة، مكفي مصون عن الشواهد والنواظر، وهذا الذي قاله الشيخ أبو سعيد هو الذي اشتبه حقيقته على طائفة من الصوفية ولم يقولوا بالإكثار من النوافل، وقد رأوا جمعاً من المشايخ قلَّت نوافلهم فظنوا أن ذلك حال مستمر على الإطلاق، ولم يعلموا أن الذين تركوا النوافل واقتصروا على الفرائض كانت بداياتهم بدايات المريدين؛ فلما وصلوا إلى روح الحال وأدركتهم الكشوف بعد الاجتهاد امتلأوا بالحال فطرحوا نوافل الأعمال.
فأما المرادون فتبقى عليهم الأعمال والنوافل وفيها قرة أعينهم، وهذا أتم وأكمل من الأول؛ فهذا الذي أوضحناه أحد طريقي الصوفية، فأما الطريق الآخر طريق المريدين وهم الذين شرطوا لهم الإنابة، فقال الله تعالى: {ويهدي إلَيْهِ مَنْ يُنيبُ} قال الله تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.(1/41)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن موسى، قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد رحمة الله عليه يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.
وقال محمد بن خفيف: الإرادة سمو القلب لطلب المراد وحقيقة الإرادة استدامة الجد وترك الراحة.
وقال أبو عثمان: المريد الذي مات قلبه عن كل شيء دون الله تعالى، فيريد الله وحده ويريد قربه ويشتاق إليه، حتى تذهب شهوات الدنيا عن قلبه لشدة شوقه إلى ربه. وقال أيضاً: عقوبة قلب المريدين أن يحجبوا عن حقيقة المعاملات والمقامات إلى أضدادها؛ فهذان الطريقان يجمعان أحوال الصوفية ودونهما طريقان آخران ليسا من طرق التحقق بالتصوف:
أحدهما: مجذوب أبقى على جذبته ما رد إلى الاجتهاد بعد الكشف.
والثاني: مجتهد متعبد ما خلص إلى الكشف بعد الاجتهاد وللصوفية في طريقهما باب مزيدهم وصحة طريقهم بحسن المتابعة. ومن ظن أن يبلغ غرضاً أو يظفر بمراد لا من طريق المتابعة فهو مخذول مغرور.
أخبرنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا عصام الدين عمر بن أحمد الصفار، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت نصر بن أبي نصر يقول: سمعت قسيماً غلام الزقاق يقول: سمعت أبا سعيد السكري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل، وكان الجنيد رحمه الله يقول: علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله. وقال بعضهم: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة.(1/42)
حكي أن أبا يزيد البسطامي رحمه الله قال ذات يوم لبعض أصحابه: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ وكان الرجل في ناحيته مقصوداً ومشهوراً بالزهد والعبادة ـ فمضينا إليه؛ فلما خرج من بيته يقصد المسجد رمى بزاقة نحو القبلة، فقال أبو يزيد: انصرفوا، فانصرف ولم يسلم عليه وقال: هذا رجل ليس بمأمون على أدب من آداب رسول الله، فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه من مقامات الأولياء والصديقين.
وسئل خادم الشبلي رحمه الله: ماذا رأيت منه عند موته؟ فقال: لما أمسك لسانه وعرق جبينه أشار إلي أن وضئني للصلاة، فوضأته فنسيت تخليل لحيته، فقبض على يدي وأدخل أصابعي في لحيته يخللها.
وقال سهل بن عبد الله: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل. هذا حال الصوفية وطريقهم، وكل من يدعي حالاً على غير هذا الوجه فمدعٍ مفتون كذاب.
{الباب الخامس}: في ماهية التصوف
أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل في كتابه قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي إجازة، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد البغدادي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا عمر بن أسد عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ الجَنَّةِ حُبُّ المَسَاكِينِ وَالفُقَرَاءِ وَالصَّبْرُ، هُمْ جُلَسَاءُ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ" فالفقر كائن في ماهية التصوف وهو أساسه وبه قوامه.
قال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
وقال الجنيد ـ وقد سئل عن التصوف فقال ـ: أن تكون مع الله بلا علاقة.
وقال معروف الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق، فمن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بالتصوف.(1/43)
وسئل الشبلي عن حقيقة الفقر فقال: أن لا يستغني بشيء دون الحق.
وقال أبو الحسين النووي: نعت الفقير السكون عند العدم، والبذل والإيثار عند الوجود.
وقال بعضهم: إن الفقير الصادق ليحترز من الغني حذر أن يدخل عليه الغني فيفسد فقره، كما أن الغني يحترز من الفقر حذر أن يدخل عليه الفقر فيفسد عليه غناه.
وبالإسناد الذي سبق إلى أبي عبد الرحمن قال: سمعت أبا عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت مظفراً القرميسيني يقول: الفقير الذي لا يكون له إلى الله حاجة. قال: وسمعته يقول: سألت أبا بكر المصري عن الفقير فقال: الذي لا يملك ولا يملك. قوله: "لا يكون له إلى الله حاجة" معناه أنه مشغول بوظائف عبوديته تام الثقة بربه، عالم بحسن كلاءته به لا يحوجه إلى رفع الحاجة لعلمه بعلم الله بحاله، فيرى السؤال في البين زيادة، وأقوال المشايخ تتنوع معانيها؛ لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات، وتحتاج في تفضيل بعضها عن البعض إلى الضوابط، فقد تذكر أشياء في معنى التصوف ذكر مثلها في معنى الفقر وتذكر أشياء في معنى الفقر ذكر مثلها في معنى التصوف، وحيث وقع الاشتباه فلا بد من بيان فاصل؛ فقد تشتبه الإشارات في الفقر بمعاني الزهد تارة وبمعاني التصوف تارة، ولا يتبين للمسترشد بعضها من البعض؛ فنقول: التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد؛ فالتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفياً وإن كان زاهداً وفقيراً.
قال أبو حفص: التصوف كله آداب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول. وقال أيضاً: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن؛ لأن النبي قال: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ".(1/44)
أخبرنا الشيخ رضي الدين أحمد بن إسماعيل إجازة قال: أخبرنا الشيخ أبو المظفر عبد المنعم، قال: أخبرني والدي أبو القاسم القشيري، قال: سمعت محمد بن أحمد بن يحيى الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سئل أبو محمد الجريري عن التصوف فقال: الدخول في كل خلق سني، والخروج عن كل خلق دني؛ فإذا عرف هذا المعنى في التصوف من حصول الأخلاق وتبديلها واعتبر حقيقته، يعلم أن التصوف فوق الزهد وفوق الفقر. وقيل: نهاية الفقر مع شرفه هو بداية التصوف، وأهل الشام لا يفرقون بين التصوف والفقر، يقولون: قال الله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ اللَّهِ}"يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ: وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ" فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني وعانق الفقر والقلة وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض وهذا عين الاعتلال في طريق الصوفية، لأنه تطلع إلى الأعواض وترك لأجلها.(1/45)
والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته. وأيضاً ترك الفقير الحظ العاجل واغتنامه الفقر اختيار منه وإرادة، والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي، لأنّ الصوفي صار قائماً في الأشياء بإرادة الله تعالى لا بإرادة نفسه، فلا يرى فضيلة في صورة فقر ولا في صورة غنى، وإنما يرى الفضيلة فيما يوقفه الحق فيه ويدخله عليه ويعلم الإذن من الله تعالى في الدخول في الشيء، وقد يدخل في صورة سعة مباينة للفقر بإذن من الله تعالى، ويرى الفضيلة حينئذٍ في السعة لمكان الإذن من الله فيه، ولا يفسح في السعة والدخول فيها للصادقين إلا بعد إحكامهم علم الإذن، وفي هذا مزلة للأقدام وباب دعوى للمدعين، وما من حال يتحقق به صاحب الحال إلا وقد يحكيه راكب المحال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بيِّنَةٍ} قال الجنيد رحمة الله عليه: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به، وهذا المعنى هو الذي ذكرناه من كونه قائماً في الأشياء بالله لا بنفسه، والفقير والزاهد مكونان في الأشياء بنفسهما واقفان مع إرادتهما مجتهدان مبلغ علمهما، والصوفي متهم لنفسه مستقل لعلمه، غير راكن إلى معلومه، قائم بمراد ربه لا بمراد نفسه.
قال ذي النون المصري رحمة الله عليه: الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب. وقال أيضاً: الصوفية آثروا الله تعالى على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء، فكان من إيثارهم أن آثروا علم الله على علم نفوسهم، وإرادة الله على إرادة نفوسهم.
قيل لبعضهم: من أصحب من الطوائف؟ قال: الصوفية، فإن للقبيح عندهم وجهاً من المعاذير، وليس للكبير من العمل عندهم وقع، يرفعونك به فتعجبك نفسك، وهذا علم لا يوجد عند الفقير والزاهد، لأن الزاهد يستعظم الترك ويستقبح الأخذ وهكذا الفقير، وذلك لضيق وعائهم ووقوفهم على حد علمهم.(1/46)
وقال بعضهم: الصوفي من إذا استقبله حالان حسنان أو خلقان حسنان يكون مع الأحسن، والفقير والزاهد لا يميزان كل التمييز بين الخلقين الحسنين، بل يختاران من الأخلاق أيضاً ما هو أدعى إلى الترك والخروج عن شواغل الدنيا، حاكمان في ذلك بعلمهما، والصوفي: هو المستبين الأحسن من عند الله بصدق التجائه وحسن إنابته وحظ قربه ولطيف ولوجه وخروجه إلى الله تعالى، لعلمه بربه وحظه من محادثته ومكالمته.
قال رويم: التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.
وقال عمرو بن عثمان المكي: التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولاً بما هو أولى في الوقت.
وقال بعضهم: التصوف أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة من الله تعالى.
وقيل: التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع. وقيل: التصوف ترك التكلف وبذل الروح.
قال سهل بن عبد الله: الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر.
وسئل بعضهم عن التصوف فقال: تصفية القلب عن موافقة البرية. ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة.
قال ذو النون المصري: رأيت ببعض سواحل الشام امرأة، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع. فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فقلت: صفيهم لي، فأنشدت:
قَوْمٌ هُمومهم بالله قَدْ عَلِقَتْ >< فما لهم هِمَمٌ تسمو إلى أحَدِ
فمطلب القومِ مولاهم وسيدهم >< يا حُسْنَ مطلبهم للواحد الصّمدِ
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف >< من المطاعم واللَّذات والولدِ
ولا للبس ثياب فائق أنقٍ >< ولا لروح سرور حل في بلدِ
إلا مسارعة في إثر منزلة >< قد قارب الخطو فيها باعد الأبدِ
فهم رهائن غدران وأودية(1/47)
وفي الشوامخ تلقاهم مع العددِ وقال الجنيد: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح. وقال أيضاً: هو كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالقطر يسقي كل شيء.
وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول، ويطول نقلها، ونذكر ضابطاً يجمع جمل معانيها، فإن الألفاظ وإن اختلفت متقاربة المعاني. فنقول: الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس، ويعينه على كل هذه التصفية دوام افتقاره إلا مولاه، فبدوام الافتقار ينقى من الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه، فبدوام تصفيته جمعيته، وبحركة نفسه تفرقتة وكدره؛ فهو قائم بربه على قلبه، وقائم بقلبه على نفسه. قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ}
{الباب السادس}: في ذكر تسميتهم بهذا الاسم
أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر، قال أخبرني والدي، قال أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة حرسها الله تعالى، قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم، قال أخبرنا أبو عبد الله المخزومي، قال: حدثنا سفيان عن مسلم عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف. فمن هذا الوجه ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة، لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام.
روي عن رسول الله أنه قال: "مَرَّ بَالصَّخْرَةِ مِنَ الرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبيّاً حُفَاةً عَلَيْهِمُ العَبَاءُ يَؤُمُّونَ البيْتَ الحَرَامَ".
وقيل: إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر، ويأكل من الشجر، ويبيت حيث أمسى.(1/48)
وقال الحسن البصري رضي الله عنه: لقد أدركت سبعين بدرياً كان لباسهم الصوف، ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا: كانوا يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسهم الصوف حتى أن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث. وقال بعضهم: إنه ليؤذيني ريح هؤلاء، أما يؤذيك ريحهم يخاطب رسول الله بذلك، فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة، فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحاتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصراف همهم إلى أمر الآخرة، وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق، لأنه يقال: "تصوف" إذا لبس الصوف، كما يقال: "تقمص" إذا لبس القميص.(1/49)
ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه، لا يقيدهم وصف ولا يحبسهم نعت، وأبواب المزيد علماً وحالاً عليهم مفتوحة، وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم، فلما تعذر تقيدهم بحال تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم، نسبوا إلى ظاهر اللبسة. وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم، وأدعى إلى حصر وصفهم؛ لأن لبس الصوف كان غالباً على المتقدمين من سلفهم؛ وأيضاً لأن حالهم حال المقربين كما سبق ذكره.(1/50)
ولما كان الاعتزاء إلى القرب ـ وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه ـ وقعت الإشارة إلى زيهم ستراً لحالهم وغيرة على عزيز مقامهم أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة، فكان هذا أقرب إلى الأدب، والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية، وفيه معنى آخر: وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبىء عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم، حتى إن المبتدىء المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل، ويعلم أن المأكول أيضاً من جنس الملبوس فيدخل في طريقهم على بصيرة، وهذا أمر مفهوم معلوم عند المبتدىء، والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بهذا أنفع وأولى، وأيضاً غير هذا المعنى مما يقال إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى، وكل ما كان أبعد من الدعوى كان أليق بحالهم، وأيضاً لأن لبس الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم، ونسبتهم من أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن، والحكم بالظاهر أوفق وأولى؛ فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع، ويقرب أن يقال: لما آثروا الذبول والخمول والتواضع والانكسار والتخفي والتواري، كانوا كالخرقة الملقاة والصوفة المرمية التي لا يرغب فيها ولا يلتفت إليها؛ فيقال "صوفي" نسبة إلى الصوفة، كما يقال: "كوفي" نسبة إلى الكوفة، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم، والمعنى المقصود به قريب يلائم الاشتقاق، ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد.(1/51)
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه، قال: أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد، قال: حدثنا أبو علي بن إسماعيل بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن عرفة، قال حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وسراويل صوف وكساء صوف وكمه من صوف ونعلاه من جلد حمار غير مذكى.
وقيل: سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه. وقيل: كان هذا الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك وجعل صوفياً. وقيل سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسول الله، الذين قال الله تعالى فيهم: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً في الأرْضِ}{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}{واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَداةِ والعَشيِّ}{عَبَسَ وَتولَّى أنْ جَاءَهُ الأعمَى}"مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ هذَا التَّمُرَ هُوَ طَعَامُ أَهْلِ المَدِينَةِ وَقَدْ وَاسَوْنا بِهِ وَوَاسَيْنَاكُمْ مِمَّا وَاسَوْنا بِه، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ إِنَّهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ لَمْ يَرتَفِعْ مِنْ بيْتِ رَسُولِ الله دُخَانٌ لِلْخُبْزِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ الأَسْوَدَانِ المَاءُ وَالتَّمْرُ".(1/52)
أخبرنا الشيخ أبو الفتوح محمد بن عبد الباقي في كتابه، قال: أخبرنا الشيخ أبو بكر بن زكريا الطريثيثي، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا محمد بن محمد بن سعيد الأنماطي، قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن سلام، قال: حدثنا محمد بن علي الترمذي، قال: حدثني سعيد بن حاتم البلخي، قال: حدثنا سهل بن أسلم، عن خلاد بن محمد، عن أبي عبد الرحمن السكري، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: وقف رسول الله يوماً على أهل الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: "أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ اليَوْمَ رَاضِياً بِمَا هُوَ فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ".
وقيل: كان منهم طائفة بخراسان يأوون إلى الكهوف والمغارات ولا يسكنون القرى والمدن، ويسمونهم في خراسان شكفتية؛ لأن "شكفت" اسم الغار، ينسبونهم إلى المأوى والمستقر، وأهل الشام يسمونهم جوعية، والله تعالى ذكر في القرآن طوائف الخير والصلاح فسمى قوماً أبراراً وآخرين مقربين. ومنهم الصابرون والصادقون، والذاكرون، والمحبون، واسم الصوفي مشتمل على جميع المتفرق في هذه الأسماء المذكورة، وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله. وقيل كان في زمن التابعين. ونقل عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذ، وقال: معي أربع دوانيق يكفيني ما معي.(1/53)
ويشيد هذا ما روي عن سفيان أنه قال: لولا أبو هشام الصوفي ما عرفت دقيق الرياء. وهذا يدل على أن هذا الاسم كان يعرف قديماً، وقيل: لم يعرف هذا الاسم إلى المائتين من الهجرة العربية؛ لأن في زمن رسول الله كان أصحاب رسول الله يسمون الرجل صحابياً لشرف صحبة رسول الله وكون الإشارة إليها أولى من كل إشارة، وبعد انقراض عهد رسول الله من أخذ منهم العلم سمي تابعياً، ثم لما تقادم زمان الرسالة، وبعد عهد النبوة انقطع الوحي السماوي، وتوارى النور المصطفوي، واختلفت الآراء وتنوعت الأنحاء، وتفرد كل ذي رأي برأيه وكدر شرب العلوم شوب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكثف حجابها، وكثرت العادات وتملكت أربابها، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها وتفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية وصدق في العزيمة وقوة في الدين، وزهدوا في الدنيا ومحبتها، واغتنموا العزلة والوحدة، واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب، متبتلين إلى رب الأرباب؛ فأثمر لهم صالح الأعمال سني الأحوال، وتهيأ لهم صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان، وبعد الإيمان إيمان، كما قال حارثة: أصبحت مؤمناً حقاً، حيث كوشف برتبة في الإيمان غير ما يتعاهدها، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معان يعرفونها وتعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف، حتى صار ذلك رسماً مستمراً وخبراً مستقراً في كل عصر وزمان؛ فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به وسموا به؛ فالاسم سمتهم، والعلم بالله صفتهم، والعبادة حليتهم، والتقوى شعارهم، وحقائق الحقيقة أسرارهم، نزاع القبائل وأصحاب الفصائل، سكان قباب الغيرة وقطان ديار الحيرة، لهم مع الساعات من إمداد فضل الله مزيد، ولهيب شوقهم يتأجج ويقول هل من مزيد.(1/54)
اللهم احشرنا في زمرتهم وارزقنا حالاتهم، والله أعلم.
{الباب السابع}: في ذكر المتصوف والمتشبه به
أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي إجازة، قال: أخبرنا الشيخ أبو منصور بن خيرون، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري إجازة، قال: أخبرنا محمد بن العباس بن زكريا، قال: أخبرنا أبو محمد بن يحيى بن محمد بن صاعد الأصفهاني، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا المعتمر بن سليمان، قال: أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟ فقام رسول الله إلى الصلاة، فلما قضى الصلاة قال: "أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟" فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ـ أو قال ما أعددت لها كبير عمل ـ إلا أني أحب الله ورسوله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ أَوْ أَنْتَ مَعَ مَنْ أحْبَبْتَ" قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا، فالمتشبه بالصوفية ما اختار التشبه بهم دون غيرهم من الطوائف إلا لمحبته إياهم، وهو مع تقصيره عن القيام بما هم فيه يكون معهم لموضع إرادته ومحبته، وقد ورد بلفظ آخر أوضح من الخبر الذي رويناه في المعنى.(1/55)
روى عبادة بن الصامت عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم قال: "أَنْتَ يَا أَبَا ذَرَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قال: قلت فإني أحب الله ورسوله، قال: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله. فمحبة المتشبه إياهم لا تكون إلا لتنبه روحه لما تنبهت له أرواح الصوفية؛ لأن محبة أمر الله وما يقرب منه ومن يقرب منه، تكون بجاذب الروح، غير أن المتشبه تعوق بظلمة النفس، والصوفي تخلص من ذلك، والمتصوف متطلع إلى حال الصوفي، وهو مشارك ببقاء شيء من صفات نفسه عليه للمتشبه، وطريق الصوفية أوله إيمان ثم علم ثم ذوق؛ فالمتشبه صاحب إيمان. والإيمان بطريق الصوفية أصل كبير.
قال الجنيد رحمة الله عليه: الإيمان بطريقنا هذا ولاية، ووجه ذلك أن الصوفية تميزوا بأحوال عزيزة وآثار مستغربة عند أكثر الخلق؛ لأنهم مكاشفون بالقدر وغرائب العلوم وإشاراتهم إلى عظيم أمر الله والقرب منه، والإيمان بذلك إيمان بالقدرة. وقد أنكر قوم من أهل الملة كرامات الأولياء والإيمان بذلك إيمان بالقدرة، ولهم علوم من هذا القبيل فلا يؤمن بطريقهم إلا من خصه الله تعالى بمزيد عنايته، فالمتشبه صاحب إيمان والمتصوف صاحب علم، لأنه بعد الإيمان اكتسب مزيد علم بطريقهم وصار له من ذلك مواجيد يستدل بها على سائرها، والصوفي صاحب ذوق، فللمتصوف الصادق نصيب من حال الصوفي، وللمتشبه نصيب من حال المتصوف، وهكذا سنة الله تعالى جارية أن كل صاحب حال له ذوق فيه لا بد أن يكشف له علم بحال أعلى مما هو فيه، فيكون في الحال الأول صاحب ذوق، وفي الحال الذي كوشف به صاحب علم، وبحال فوق ذلك صاحب إيمان، حتى لا يزال طريق الطلب مسلوكاً، فيكون في حال الذوق صاحب قدم، وفي حال العلم صاحب نظر، وفي حال فوق ذلك صاحب إيمان.(1/56)
قال الله تعالى: {إنَّ الأبْرَارَ لفي نعيم عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ}{ومِزَاجُهُ مِنْ تَسْنيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ}"سِيرُوا، سَبَقَ المُفْرَدُونَ" قيل: من المفردون يا رسول الله؟ قال: "المُسْتَتِرُونَ بِذِكْرِ الله وَضَعَ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ فَوَرَدُوا القِيَامَةَ خِفَافاً" فالصوفي في مقام المفردين، والمتصوف في مقام السائرين واصل في سيره إلى مقرِّ القلب من ذكر الله عز وجل ومراقبته بقلبه وتلذذه بنظره إلى نظر الله إليه؛ فالصوفي في مقار الروح صاحب مشاهدة، والمتصوف في مقار القلب صاحب مراقبة، والمتشبه في مقاومة النفس صاحب مجاهدة وصاحب محاسبة؛ فتلوين الصوفي بوجود قلبه. وتلوين المتصوف بوجود نفسه، والمتشبه لا تلوين له لأن التلوين لأرباب الأحوال، والمتشبه مجتهد سالك لم يصل بعد إلى الأحوال، والكل تجمعهم دائرة الاصطفاء.
قال الله تعالى: {ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخَيْرَاتِ} وقال بعضهم: الظالم الذي يجزع من البلاء، والمقتصد الذي يصبر عند البلاء، والسابق الذي يتلذذ بالبلاء. وقال بعضهم: الظالم يعبد على الغفلة والعادة، والمقتصد يعبد على الرغبة والرهبة، والسابق يعبد على الهيبة والمنة. وقال بعضهم: الظالم يذكر الله بلسانه، والمقتصد بقلبه، والسابق لا ينسى ربه. وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله: الظالم: صاحب الأقوال، والمقتصد: صاحب الأفعال، والسابق: صاحب الأحوال. وكل هذه الأقوال قريبة التناسب من حال الصوفي والمتصوف والمتشبه، وكلهم من أهل الفلاح والنجاح، تجمعهم دائرة الاصطفاء، وتؤلف بينهم نسبة التخصص بالمنح والعطاء.(1/57)
أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة، قال: أخبرنا أبو سعد محمد بن أبي العباس، قال: أخبرنا القاضي محمد بن سعيد، قال: أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم، قال: أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن رزمة، قال: حدثنا يوسف بن عاصم الرازي، قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن داود، قال: حدثنا حصين بن نمير، عن أبي ليلى، عن أخيه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي أنه قال في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ} "كُلُّهُمْ فِي الجَنَّةِ".
قال ابن عطاء: الظالم: الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق، هو الذي أسقط مراده بمراد الله فيه، وهذا هو حال الصوفي؛ فالمتشبه تعرض لشيء من أمر القوم، ويوجب له ذلك القرب منهم، والقرب منهم مقدمة كل خير.
سمعت شيخنا يقول: جاء بعض أبناء الدنيا إلى الشيخ أحمد الغزالي ونحن بأصبهان يريد منه الخرقة، فقال له الشيخ: اذهب إلى فلان يشير إليَّ حتى يكلمك في معنى الخرقة، ثم احضر حتى ألبسك الخرقة، قال: فجاء إليَّ فذكرت له حقوق الخرقة وما يجب من رعاية حقها وآداب من يلبسها ومن يؤهل للبسها، فاستعظم الرجل حقوق الخرقة وجبن أن يلبسها، فأخبر الشيخ بما تجدد عند الطالب من قولي له، فاستحضرني وعاتبني على قولي له ذلك وقال بعثته إليك حتى تكلمه بما يزيد رغبته في الخرقة، فكلمته بما فترت عزيمته ثم الذي ذكرته كله صحيح، وهو الذي يجب من حقوق الخرقة، ولكن إذا ألزمنا المبتدىء بذلك نفر وعجز عن القيام به، فنحن نلبسه الخرقة حتى يتشبه بالقوم ويتزيى بزيهم فيقربه ذلك من مجالسهم ومحافلهم، وببركة مخالطته معهم ونظره إلى أحوال القوم وسيرهم يحب أن يسلك مسلكهم ويصل بذلك إلى شيء من أحوالهم.(1/58)
ويوافق هذا القول من الشيخ أحمد الغزالي ما أخبرنا شيخنا رحمه الله قال: أخبرنا عصام الدين عمر بن أحمد الصفار، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف، قال: أخبرنا الشيخ عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول: إذا لقيت الفقير فلا تبدأه بالعلم وابدأه بالرفق، فإن العلم يوحشه والرفق يؤنسه، وبرفق الصوفية بالمتشبهين بهم ينتفع المبتدىء الطالب، وكل من كان منهم أكمل حالاً وأوفر علماً كان أكثر رفقاً بالمبتدىء الطالب.
حكي عن بعضهم أنه صحبه طالب فكان يأخذ نفسه بكثرة المعاملات والمجاهدات ولم يقصد بذلك إلا نظر المبتدىء إليه والتأدب بأدبه والاقتداء به في عمله وهذا هو الرفق الذي ما دخل في شيء إلا زانه، فالمتشبه الحقيقي له إيمان بطريق القوم وعمل بمقتضاه وسلوك واجتهاد، على ما ذكرناه أنه صاحب مجاهدة ومحاسبة، ثم يصير متصوفاً صاحب مراقبة ثم يصير صوفياً صاحب مشاهدة، فأما من لم يتطلع إلى حال المتصوف والصوفي بالتشبه ولا يقصد أوائل مقاصدهم بل هو مجرد تشبه ظاهر من ظاهر اللبسة والمشاركة في الزي والصورة دون السيرة والصفة، فليس بمتشبه بالصوفية، لأنه غير محاك لهم بالدخول في بداياتهم، فإذن هو متشبه بالمتشبه يعتزي إلى القوم بمجرد لبسه ومع ذلك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقد ورد: "من تشبَّه بقوم فهو منهم".(1/59)
أخبرنا الشيخ أبو الفتح محمد بن سليمان، قال: أخبرنا أبو الفضل حميد قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا عمر بن أحمد بن أبي عاصم، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: حدثنا علي بن أحمد، قال: حدثنا علي بن علي المقدسي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عامر، قال: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "إِنَّ لله مَلائِكَةً فَضْلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ وَيَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا رَأَوْا قَوْماً يَذْكُرُونَ الله تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَاتِكُمْ، فَيُحِفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ الله وَهُوَ أَعْلَمُ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَحْمِدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالُوا: لَوْ رَأَوْكَ كَانوا أَشَدَّ تَسْبيحاً وَتَحْمِيداً وَتَمْجِيداً، فَيَقُولُ: مَا يَسْأَلُونَنِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْها؟ قَالُوا: لا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْها؟ قَالُوا: لَوْ رَأَوْها كَانُوا أَشَدَّ طَلَباً وَعَلَيْها أَكْثَرَ حِرْصاً، قَالُوا: وَيَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْها؟ قَالُوا: لا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْها؟ قَالُوا: كَانُوا أَشَدَّ مِنْها تَعَوُّذاً وَأَشَدَّ فِرَاراً، فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ المَلَكُ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ" فلا يشقى جليس الصوفية والمتشبه بهم والمحب(1/60)
لهم.
{الباب الثامن}: في ذكر الملامتي وشرح حاله
وقال بعضهم الملامتي هو الذي لا يظهر خيراً، ولا يضمر شراً، وشرح هذا هو أن الملامتي تشربت عروقه طعم الإخلاص، وتحقق بالصدق، فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله.
أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل المقدسي إجازة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي إجازة، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت علي بن سعيد وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سمعت علي بن إبراهيم وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سمعت محمد بن جعفر الخصاف وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشروطي عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسان عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن علي الجهمي عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص ما هو؟ قال سألت رسول الله عن الإخلاص ما هو؟ قال: "سَأَلْتُ جِبْرَائِيلَ عَنِ الإِخْلاَصِ ما هُوَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ رَبَّ العِزَّةِ عَنِ الإِخْلاَصِ ما هُوَ؟ قَالَ: هُوَ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي".
فالملامتية لهم مزيد اختصاص بالتمسك بالإخلاص، يرون كتم الأحوال والأعمال ويتلذذون بكتمها، حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد استوحشوا من ذلك كما يستوحش العاصي من ظهور معصيته، فالملامتي عظم وقع الإخلاص وموضعه وتمسك به معتداً به، والصوفي غاب في إخلاصه عن إخلاصه. قال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء الذم والمدح من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، وترك اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.(1/61)
أخبرنا أبو زرعة إجازة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف إجازة قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: الإخلاص ما لا يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام، وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها اعتداد، فذلك إخلاص الخواص، وهذا الذي فصله الشيخ أبو عثمان المغربي يفرق بين الصوفي والملامتي، لأن الملامتي أخرج الخلق عن عمله وحاله، ولكن أثبت نفسه فهو مخلص، والصوفي أخرج نفسه عن عمله وحاله كما أخرج غيره فهو مخلص، وشتان ما بين المخلص الخالص والمخلص.
قال أبو بكر الزقاق: نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه، فإذا أراد الله أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مخلصاً لا مخلصاً. قال أبو سعيد الخراز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين: ومعنى قوله: إن إخلاص المريدين معلوم برؤية الإخلاص، والعارف منزه عن الرياء الذي يبطل العمل، ولكن لعله يظهر شيئاً من حاله وعمله بعلم كامل عنده فيه لجذب مريد أو معاناة خلق من أخلاق النفس في إظهار الحال والعمل، وللعارفين في ذلك علم دقيق لا يعرفه غيرهم، فيرى ذلك ناقص العلم صورة رياء وليس برياء، وإنما هو صريح العلم لله بالله من غير حضور نفس ووجود آفة فيه.
قال رويم: الإخلاص أن لا يرضى صاحبه عليه عوضاً في الدارين، ولا حظّاً من الملكين.
وقال بعضهم: صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق، والملامتي يرى الخلق فيخفي عمله وحاله.
وكل ما ذكرناه من قبل وصف إخلاص الصوفي، ولهذا قال الزقاق: لا بد لكل مخلص من رؤية إخلاصه، وهو نقصان عن كمال الإخلاص، والإخلاص هو الذي يتولى الله حفظ صاحبه حتى يأتي به على التمام.(1/62)
قال جعفر الخلدي: سألت أبا القاسم الجنيد رحمه الله، قلت: أبين الإخلاص والصدق فرق؟ قال: نعم، الصدق أصل وهو الأول، والإخلاص فرع وهو تابع، وقال بينهما فرق لأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل ثم قال إنما هو إخلاص، ومخالصة الإخلاص، ومخالصة كائنة في المخالصة، فعلى هذا الإخلاص حال الملامتي، ومخالصة الإخلاص حال الصوفي، والخالصة الكائنة من المخالصة ثمرة مخالصة الإخلاص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه، بل غيبه عن رؤية قيامه وهو الاستغراق في العين عن الآثار والتخلص عن لوث الاستتار وهو فقد حال الصوفي. والملامتي مقيم في أوطان إخلاصه غير متطلع إلى حقيقة خلاصه، وهذا فرق واضح بين الملامتي والصوفي ولم يزل في خراسان منهم طائفة ولهم مشايخ يمهدون أساسهم ويعرفونهم شروط حالهم. قد رأينا في العراق من يسلك هذا المسلك ولكن لم يشتهر بهذا الاسم، وقلما يتداول ألسنة أهل العراق هذا الاسم.
حكي أن بعض الملامتية استدعي إلى سماع فامتنع، فقيل له في ذلك. فقال: لأني إن حضرت يظهر علي وجد، ولا أوثر أنه يعلم أحد حالي.
وقيل إن أحمد بن أبي الحواري قال لأبي سليمان الداراني: إني إذا كنت في الخلوة أجد لمعاملتي لذة لا أجدها بين الناس، فقال له: إنك إذاً لضعيف، فالملامتي وإن كان متمسكاً بعروة الإخلاص مستفرشاً بساط الصدق، ولكن بقي عليه بقية رؤية الخلق، وما أحسنها من بقية تحقق الإخلاص والصدق، والصوفي صفا من هذه البقية في طرفي العمل والترك للخلق وعزلهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصية التوحيد، وعاين سر قوله: {كُلُّ شيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ}.(1/63)
وقيل: إن من أصول الملامتية أن الذكر على أربعة أقسام: ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وذكر بالسر، وذكر بالروح. فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر، وذلك ذكر المشاهدة. وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر، وذلك ذكر الهيبة. وإذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر، وذلك ذكر الآلاء والنعماء. وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر وذلك ذكر العادة، ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم آفة، فآفة ذكر الروح اطلاع السر عليه، وآفة ذكر السر اطلاع القلب عليه، وآفة ذكر القلب اطلاع النفس عليه، وآفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه، أو طلب ثوابه، أو ظن أنه يصل إلى شيء من المقامات وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك، وسر هذا الأصل الذي بنوا عليه أن ذكر الروح ذكر الذات، وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم، وذكر القلب من الآلاء والنعماء ذكر أثر الصفات، وذكر النفس متعرض للعلات؛ فمعنى قولهم: "اطلاع السر على الروح" يشيرون إلى التحقق بالفناء عند ذكر الذات وذكر الهيبة في ذلك الوقت ذكر الصفات مشعر بنصيب الهيبة، وهو وجود الهيبة، ووجود الهيبة يستدعي وجوداً وبقية، وذلك يناقض حال الفناء، وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر الصفات مشعر بنصيب القرب، وذكر القلب الذي هو ذكر الآلاء والنعماء مشعر ببعد ما، لأنه اشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم. والاشتغال برؤية العطاء عن رؤية المعطي ضرب من بعد المنزلة واطلاع النفس نظر إلى الأعواض واعتداد بوجود العمل، وذلك عين الاعتدال حقيقة، هذه أقسام هذه الطائفة، وبعضها أعلم من بعض، والله أعلم.
{الباب التاسع}: في ذكر من انتمى إلى الصوفية وليس منهم
فمن أولئك قوم يسمون نفوسهم قلندرية تارة وملامتية أخرى؛ وقد ذكرنا حال الملامتي، وأنه حال شريف ومقام عزيز، وتمسك بالسنن والآثار، وتحقق بالإخلاص والصدق، وليس مما يزعم المفتونون بشيء.(1/64)
فأما القلندرية: فهو إشارة إلى أقوام ملكهم سكر طيبة قلوبهم حتى خربوا العادات، وطرحوا التقييد بآداب المجالسات والمخالطات، وساحوا في ميادين طيبة قلوبهم؛ فقلَّت أعمالهم من الصوم والصلاة إلا الفرائض، ولم يبالوا بتناول شيء من لذات الدنيا من كل ما كان مباحاً برخصة الشرع، وربما اقتصروا على رعاية الرخصة ولم يطلبوا حقائق العزيمة، ومع ذلك هم متمسكون بترك الادخار، وترك الجمع والاستكثار، ولا يترسمون بمراسم المتقشفين والمتزهدين والمتعبدين، وقنعوا بطيبة قلوبهم مع الله تعالى، واقتصروا على ذلك وليس عندهم تطلع إلى طلع مزيد سوى ما هم عليه من طيبة القلوب، والفرق بين الملامتي والقلندري: أن الملامتي يعمل في كتم العبادات، والقلندري يعمل في تخريب العادات، والملامتي يتمسك بكل أبواب البر والخير ويرى الفضل فيه، ولكن يخفي الأعمال والأحوال ويوقف نفسه موقف العوام في هيئته وملبوسه وحركاته وأموره ستراً للحال لئلا يفطن له، وهو مع ذلك متطلع إلى طلب المزيد باذل مجهوده، في كل ما يتقرب به العبيد.(1/65)
والقلندري لا يتقيد بهيئة ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف، ولا ينعطف إلا على طيبة القلوب وهو رأس ماله، والصوفي يضع الأشياء مواضعها ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامه ويقيم أمر الحق مقامهم، ويستر ما ينبغي أن يستر ويظهر ما ينبغي أن يظهر، ويأتي بالأمور في موضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص، فقوم من المفتونين سموا أنفسهم ملامتية ولبسوا لبسة الصوفية لينتسبوا بها إلى الصوفية وما هم من الصوفية بشيء، بل هم في غرور وغلط، يتسترون بلبسة الصوفية توقيتاً تارة ودعوى أخرى، وينتهجون مناهج أهل الإباحة، ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى، ويقولون: هذا هو الظفر بالمراد، والارتسام بمراسم الشريعة رتبة العوام والقاصرين الأفهام المنحصرين في مضيق الاقتداء تقليداً، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد، فكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وجهل هؤلاء المغرورون أن الشريعة حق العبودية، والحقيقة هي حقيقة العبودية، ومن صار من أهل الحقيقة تقيد بحقوق العبودية وصار مطالباً بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف ويخامر باطنه الزيغ والتحريف.(1/66)
أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو محمد الخطيب، حدثنا أبو بكر بن محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عنبسة قال: حدثنا يونس بن يزيد، قال: قال محمد يعني الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عتبة بن مسعود حدثه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله تعالى يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوى ذلك لم نأمنه وإن قال سريرتي حسنة، وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: من عرض نفسه للتهم فلا يلومنّ من أساء به الظن؛ فإذا رأينا متهاوناً بحدود الشرع مهملاً للصلوات المفروضات لا يعتد بحلاوة التلاوة والصوم والصلاة ويدخل في المداخل المكروهة المحرمة، نرده ولا نقبله ولا نقبل دعواه أن له سريرة صالحة.(1/67)
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إجازة، عن عمر بن أحمد، عن ابن خلف، عن السلمي؛ قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة، فقال الرجل: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله تعالى. فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه يرجعون فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة؛ إلا أن يحال بي دونها؛ وإنها لآكد في معرفتي وأقوى لحالي. ومن جملة أولئك قوم يقولون بالحلول ويزعمون أن الله تعالى يحل فيهم ويحل في أجسام يصطفيها، ويسبق لأفهامهم معنى من قول النصارى في اللاهوت والناسوت. ومنهم من يستبيح النظر إلى المستحسنات إشارة إلى هذا الوهم، ويتخايل له أن من قال كلمات في بعض غلباته كان مضمراً لشيء مما زعموه، مثل قول الحلاج: أنا الحق، وما يحكى عن أبي يزيد من قوله: سبحاني، حاشا أن نعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى، وهكذا ينبغي أن يعتقد في قول الحلاج ذلك، ولو علمنا أنه ذكر ذلك القول مضمراً لشيء من الحلول رددناه كما نردهم، وقد أتانا رسول الله بشريعة بيضاء نقية يستقيم بها كل معوج، وقد دلتنا عقولنا على ما يجوز وصف الله تعالى به وما لا يجوز، والله تعالى منزه أن يحل به شيء أو يحل بشيء، حتى لعل بعض المفتونين يكون عنده ذكاء وفطنة غريزية.(1/68)
ويكون قد سمع كلمات تعلقت بباطنه فيتألف له في فكره كلمات ينسبها إلى الله تعالى وأنها مكالمة الله إياه، مثل أن يقول: قال لي وقلت له، وهذا رجل إما جاهل بنفسه وحديثها جاهل بربه وبكيفية المكالمة والمحادثة وإما عالم ببطلان ما يقول، يحمله هواه على الدعوى بذلك ليوهم أنه ظفر بشيء، وكل هذا ضلال، ويكون سبب تجرئه على هذا ما سمع من كلام بعض المحققين مخاطبات وردت عليهم بعد طول معاملات لهم ظاهرة وباطنة، وتمسكهم بأصول القوم من صدق التقوى وكمال الزهد في الدنيا، فلما صفت أسرارهم تشكلت في سرائرهم مخاطبات موافقة للكتاب والسنة، فنزلت بهم تلك المخاطبات عند استغراق السرائر، ولا يكون ذلك كلاماً يسمعونه بل كحديث في النفس يجدونه برؤية موافقاً للكتاب والسنة، مفهوماً عند أهله موافقاً للعلم، ويكون ذلك مناجاة لسرائرهم، ومناجاة سرائرهم إياهم، فيثبتون لنفوسهم مقام العبودية ولمولاهم الربوبية، فيضيفون ما يجدونه إلى نفوسهم وإلى مولاهم، وهم مع ذلك عالمون بأن ذلك ليس كلام الله إنما هو علم حادث أحدثه الله في بواطنهم، فطريق الأصحاء في ذلك الفرار إلى الله تعالى من كل ما تحدث نفوسهم به حتى إذا برئت ساحتهم من الهوى ألهموا في بواطنهم شيئاً ينسبونه إلى الله تعالى نسبة الحادث إلى المحدث لا نسبة الكلام إلى المتكلم، لينصانوا عن الزيغ والتحريف، ومن أولئك قوم يزعمون أنهم يغرقون في بحار التوحيد ولا يثبتون؟ ويسقطون لنفوسهم حركة وفعلاً يزعمون أنهم مجبورون على الأشياء وأن لا فعل لهم مع فعل الله، ويسترسلون في المعاصي وكل ما تدعو النفس إليه، ويركنون إلى البطالة ودوام الغفلة والاغترار بالله والخروج من الملة وترك الحدود والأحكام والحلال والحرام.(1/69)
وقد سئل سهل عن رجل يقول: أنا كالباب لا أتحرك إلا إذا حركت، قال: هذا لا يقوله إلا أحد رجلين: إما صديق أو زنديق، لأن الصديق يقول هذا القول إشارة إلى أن قوام الأشياء بالله مع إحكام الأصول ورعاية حدود العبودية، والزنديق يقول ذلك إحالة للأشياء على الله وإسقاطاً للأئمة عن نفسه وانخلاعاً عن الدين ورسمه، فأما من كان معتقداً للحلال والحرام والحدود والأحكام، معترفاً بالمعصية إذا صدرت منه معتقداً وجوب التوبة منها فهو سليم صحيح، وإن كان تحت القصور بما يركن إليه من البطالة ويتروح بهوى النفس إلى الأسفار والتردد في البلاد، متوصلاً إلى تناول اللذائذ والشهوات، غير متمسك بشيخ يؤدبه ويهذبه ويبصره بعيب ما هو فيه، والله الموفق.
{الباب العاشر}: في شرح رتبة المشيخة
ورد في الخبر عن رسول الله: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَئِنْ شِئْتُمْ لأُقْسِمَنَّ لَكُمْ، أَنَّ أَحَبَّ عَبَادِ الله تَعَالَى إِلَى الله الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ الله إِلَى عَبَادِهِ، وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ الله إِلَى الله، وَيَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ" وهذا الذي ذكره رسول الله هو رتبة المشيخة والدعوة إلى الله تعالى، لأن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله، ورتبة المشيخة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله. فأما وجه كون الشيخ يحبب الله إلى عباده، فلأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله.(1/70)
ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله تعالى قال الله تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو الفضل عبد الواحد بن علي بهمذان، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن أحمد الطوسي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أبو عتبة، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، قال: حدثني الأزهر بن عبد الله، قال: قد سمعت عبد الله بن بشر صاحب رسول الله قال: كان يقال إذا اجتمع عشرون رجلاً أو أكثر، فإن لم يكن فيهم من يهاب الله عز وجل، فقد خطر الأمر، فعلى المشايخ وقار الله وبهم يتأدب المريدون ظاهراً وباطناً، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدهْ}"إِذَا كَانَ الغَالِبُ عَلَى عَبْدِي الاشْتِغَالُ بي جَعَلْتُ هِمَّتَهُ وَلَذَّتَهُ فِي ذِكْرِي، فَإِذَا جَعَلْتُ هِمَّتَهُ وَلَذَّتَهُ فِي ذِكْرِي عَشِقَنِي وَعَشِقْتُهُ وَرَفَعْتُ الحِجَابَ فِيما بيْنِي وَبيْنَهُ، لاَ يَسْهُو إِذَا سَهَا النَّاسُ، أُولئِكَ كَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الأَنْبيَاءِ، أُولئِكَ الأَبْطَالُ حَقّاً، أُولئِكَ الَّذِينَ إِذَا أَرَدْتُ بِأَهْلِ الأَرْضِ عُقُوبَةً أَوْ عَذَاباً ذَكَرْتُهُمْ فِيها فَصَرَفْتُهُ بِهِمْ عَنْهُمْ".(1/71)
والسر في وصول السالك إلى رتبة المشيخة أن السالك مأمور بسياسة النفس مبتلى بصفاتها، لا يزال يسلك بصدق المعاملة حتى تطمئن نفسه وبطمأنيتها ينتزع عنها البرودة واليبوسة التي استصحبتها من أصل خلقتها وبها تستعصي على الطاعة والانقياد للعبودية، فإذا زالت اليبوسة عنها ولانت بحرارة الروح الواصلة إليها وهذا اللين هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ}{لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَميعاً ما ألَّفْتَ بيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بيْنَهُمْ} "ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً" وبما هيأ الله تعالى من حسن التأليف بين الصاحب والمصحوب يصير المريد جزء الشيخ، كما أن الولد جزء الوالد في الولادة الطبيعية، وتصير هذه الولادة آنفاً ولادة معنوية، كما ورد عن عيسى صلوات الله عليه "لَنْ يَلِجَ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ مَنْ لَمْ يُولَدْ مَرَّتَيْنِ".(1/72)
فبالولادة الأولى يصير له ارتباط بعالم الملك، وبهذه الولادة يصير له ارتباط بالملكوت. قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ نُري إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموات والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنينَ}{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}{إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن الماليني قال: أخبرنا أبو الحسن الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد الحموي، قال: أخبرنا أبو عمران السمرقندي قال: أخبرنا أبو محمد الدارمي قال: أخبرنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن عاصم، عن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني أتيتك من المدينة مدينة رسول الله لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله. قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: سمعت رسول الله يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ بِهِ عَلْماً سَلَكَ الله بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العالمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبيَاءِ.(1/73)
إِنَّ الأَنْبيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا أُوْرَثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّهِ أَوْ بِحَظَ وَافِرٍ"، فأول ما أودعت الحكمة والعلم عند آدم أبي البشر عليه السلام، ثم انتقل منه كما انتقل منه النسيان والعصيان وما تدعو إليه النفس والشيطان، كما ورد: "إِنَّ الله تَعَالَى أَمَرَ جِبْرَائِيلَ حَتَّى أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَجْزَاءِ الأَرْضِ، وَالله تَعَالَى نَظَرَ إِلَى الأَجْزَاءِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي كَوَّنَها مِنَ الجَوْهَرَةِ الَّتِي خَلَقَها أَوَّلاً فَصَارَ مِنْ مَوَاقِعِ نَظَرِ الله إِلَيْهَا فِيها خَاصِّيَّةَ السَّمَاعِ مِنَ الله تَعَالَى" والجواب، حيث خاطب السموات والأرضين بقوله: {ائْتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}{فإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي}{اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ}.(1/74)
وقد ورد في الخبر: أن إبليس سأل السبيل إلى القلب؛ فقيل له: يحرم عليك ولكن السبيل لك في مجاري العروق المشتبكة بالنفس إلى حد القلب، فإذا دخلت العروق عرقت فيها من ضيق مجاريها، وامتزج عرقك بماء الرحمة المترشح من جانب القلب في مجرى واحد، ويصل بذلك سلطانك إلى القلب، ومن جعلته نبياً أو ولياً قلعت تلك العروق من باطن قلبه فيصير القلب سليماً، فإذا دخلت العروق لم تصل إلى المشتبكة بالقلب فلا يصل إلى القلب سلطانك؛ فالمحبوب المراد الذي هو أهل للمشيخة سلم قلبه وانشرح صدره ولان جلده، فصار قلبه بطبع الروح ونفسه بطبع القلب، ولانت النفس بعد أن كانت أمارة بالسوء مستعصية ولان الجلد للين النفس ورد إلى صورة الأعمال بعد وجدان الحال، ولا يزال روحه ينجذب إلى الحضرة الإلهية فيستتبع الروح القلب وتستتبع القلب النفس ويستتبع النفس القالب؛ فامتزجت الأعمال القلبية والقالبية؛ وانخرق الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر، والقدرة إلى الحكمة والحكمة إلى القدرة، والدنيا إلى الآخرة والآخرة إلى الدنيا؛ ويصح له أن يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، فعند ذلك يطلق من وثاق الحال ويكون مسيطراً على الحال لا الحال مسيطراً عليه، ويصير حراً من كل وجه، والشيخ الأول الذي أخذ في طريق المحبين حر من رق النفس، ولكن ربما كان باقياً في رق القلب؛ وهذا الشيخ في طريق المحبوبين حر من رق القلب كما هو حر من رق النفس، وذلك أن النفس حجاب ظلماني أرضي أعتق منه الأول، والقلب حجاب نوراني سماوي أعتق منه الآخر، فصار لربه لا لقلبه، ولموقته لا لوقته، فعبد الله حقاً وآمن به صدقاً، ويسجد لله سواده وخياله، ويؤمن به فؤاده، ويقر به لسانه، كما قال رسول الله في بعض سجوده، ولا يتخلف عن العبودية منه شعرة، وتصير عبادته مشاكلة لعبادة الملائكة {وللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمواتِ والأرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً وظِلاَلُهُمْ بالغُدُوِّ والآصَالِ}.(1/75)
فالقوالب هي الظلال الساجدة، ظلال الأرواح المقربة في عالم الشهادة: الأصل كثيف والظل لطيف، وفي عالم الغيب: الأصل لطيف والظل كثيف، فيسجد لطيف العبد وكثيفه، وليس هذا لمن أخذ في طريق المحبين لأنه يستتبع صور الأعمال ويمتلىء بما أنيل من وجدان الحال، وذلك قصور في العلم وقلة في الحظ، ولو كثر العلم رأى ارتباط الأعمال بالأحوال كارتباط الروح بالجسد، رأى أن لا غنى عن الأعمال كما لا غنى في عالم الشهادة عن القوالب، فما دامت القوالب باقية فالعمل باق، ومن صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق؛ نظره دواء وكلامه شفاء، بالله ينطق وبالله يسكت، كما ورد: "وَلاَ يَزَالُ الَعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعاً وَبَصَراً وَيَداً وَمُؤَيِّداً، بي يَنْطِقُ وَبي يُبْصِرُ" الحديث؛ فالشيخ يعطي بالله ويمنع بالله؛ فلا رغبة له في عطاء ومنع لعينه، بل هو مع مراد الحق والحق يعرفه مراده؛ فيكون في الأشياء بمراد الله تعالى لا بمراد نفسه، فإن علم أن الله تعالى يريد منه الدخول في صورة محمودة دخل فيها لمراد الله تعالى لا لكون الصورة محمودة، بخلاف الخادم القائم بواجب خدمة عباد الله تعالى.
{الباب الحادي عشر}: في شرح حال الخادم ومن يتشبه به(1/76)
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام وقال: يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، الخادم يدخل في الخدمة راغباً في الثواب وفيما أعد الله تعالى للعباد، ويتصدى لإيصال الراحة ويفرغ خاطر المقبلين على الله تعالى عن مهام معاشهم ويفعل ما يفعله لله تعالى بنية صالحة، فالشيخ واقف مع مراد الله تعالى، والخادم واقف مع نيته، فالخادم يفعل الشيء لله تعالى، والشيخ يفعل الشيء لله فالشيخ في مقام المقربين، والخادم في مقام الأبرار، فيختار الخادم للبذل والإيثار والارتفاق من الأغيار للأغيار، ووظيفة وقته تصديه لخدمة عباد الله، وفيه يعرف الفضل ويرجحه على نوافله وأعماله، وقد يقيم من لا يعرف الخادم من الشيخ الخادم مقام الشيخ، وربما جهل الخادم أيضاً حال نفسه فيحسب نفسه شيخاً لقلة العلم واندراس علوم القوم في هذا الزمان، وقناعة كثير من الفقراء من المشايخ باللقمة دون العلم والحال، فكل من كان أكثر إطعاماً هو عندهم أحق بالمشيخة ولا يعلمون أنه خادم وليس بشيخ، والخادم في مقام حسن وحظ صالح من الله تعالى.(1/77)
وقد ورد ما يدل على فضل الخادم فيما أخبرنا الشيخ أبو زرعة ابن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله المقري، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، قال: حدثنا أبو حامد الحافظ، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري وأبو الأزهر، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا سفيان، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن النبي أتي بطعام وهو بمر الظهران فقال لأبي بكر وعمر: كُلاَ، فقالا: إنا صائمان، فقال: ارحلا لصاحبيكما اعملا لصاحبيكما ادنوا فكلا يعني أنكما ضعفتما بالصوم عن الخدمة فاحتجتما إلى من يخدمكما فكلا وأخدما أنفسكما، فالخادم يحرص على حيازة الفضل، فيتوصل بالكسب تارة، وبالاسترقاق والدروزة تارة أخرى، وباستجلاب الوقف إلى نفسه تارة، لعلمه أنه قيم بذلك، صالح لإيصاله إلى الموقوف عليهم، ولا يبالي أن يدخل في كل مدخل لا يذمه الشرع لحيازة الفضل بالخدمة، ويرى الشيخ بنفوذ البصيرة وقوة العلم أن الإنفاق يحتاج إلى علم تام ومعاناة تخليص النية عن شوائب النفس والشهوة الخفية؛ ولو خلصت عليه نيته ما رغب في ذلك، لوجود مراده فيه، وحاله ترك المراد وإقامة مراد الحق.
أخبرنا أبو زرعة إجازة، قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف إجازة، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت محمد بن الحسين بن الخشاب يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: أعرف طريقاً مختصراً قصد إلى الجنة؛ فقلت له: ما هو؟ قال: لا تسأل من أحد شيئاً ولا تأخذ من أحد شيئاً ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً شيئاً، والخادم يرى أن من طريق الجنة الخدمة والبذل والإيثار فيقدم الخدمة على النوافل ويرى فضلها، وللخدمة فضل على النافلة التي يأتي بها العبد طالباً بها الثواب، غير النافلة التي يتوخى بها صحة حاله مع الله تعالى لوجود نقد قبل وعد.(1/78)
ومما يدل على فضل الخدمة على النافلة ما أخبرنا أبو زرعة قال: أخبرني والدي الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد السمسار بأصفهان، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي قال: حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا عاصم عن مورق عن أنس قال: كنا مع رسول الله، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ شديد الحر، فمنا من يتقي الشمس بيده، وأكثرنا ظلاً صاحب الكساء يستظل به، فنام الصائمون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب؛ فقال رسول الله: "ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ".(1/79)
وهذا حديث يدل على فضل الخدمة على النافلة، والخادم له مقام عزيز يرغب فيه؛ فأما من لم يعرف تخليص النية من شوائب النفس ويتشبه بالخادم ويتصدى لخدمة الفقراء ويدخل في مداخل الخدام بحسن الإرادة بطلب التأسي بالخدام، فتكون خدمته مشوبة، منها ما يصيب فيها لموضع إيمانه وحسن إرادته في خدمة القوم، ومنها ما لا يصيب فيها لما فيه من مزج الهوى فيضع الشيء في غير موضعه، وقد يخدم بهواه في بعض تصاريفه، ويخدم من لا يستحق الخدمة في بعض أوقاته، ويحب المحمدة والثناء من الخلق مع ما يحب من الثواب ورضا الله تعالى، وربما خدم للثناء، وربما امتنع من الخدمة لوجود هوى يخامره في حق من يلقاه بمكروه، ولا يراعي واجب الخدمة في طرفي الرضا والغضب لانحراف مزاج قلبه بوجود الهوى، والخادم لا يتبع الهوى في الخدمة في الرضا والغضب، ولا يأخذه في الله لومة لائم ويضع الشيء موضعه؛ فإذن الشخص الذي وصفناه آنفاً متخادم وليس بخادم ولا يميز بين الخادم والمتخادم إلا من له علم بصحة النيات وتخليصها من شوائب الهوى، والمتخادم النجيب يبلغ ثواب الخادم في كثير من تصاريفه ولا يبلغ رتبته لتخلفه عن حاله بوجود مزج هواه؛ وأما من أقيم لخدمة الفقراء بتسليم وقف إليه أو توفير رفق عليه وهو يخدم لمنال يصيبه أو حظ عاجل يدركه، فهو في الخدمة لنفسه لا لغيره؛ فلو انقطع رفقه ما خدم، وربما استخدم من يخدم؛ فهو مع حظ نفسه يخدم من يخدمه، ويحتاج إليه في المحافل يتكثر به ويقيم به جاه نفسه بكثرة الأتباع والأشياع، فهو خادم هواه وطالب دنياه، يحرص نهاره وليله في تحصيل ما يقيم به جاهه ورضى نفسه وأهله وولده، فيتسع في الدنيا ويتزيا بغير زي الخدام والفقراء وتنتشر نفسه بطلب الحظوظ، ويستولي عليه حب الرئاسة، وكلما كثر رفقه كثرت مواد هواه واستطال على الفقراء، ويحوج الفقراء إلى التملق المفرط له تطلباً لرضاه وتوقياً لضيمه وميله عليهم بقطع ما ينوبهم من الوقف فهذا أحسن حاله(1/80)
أن يسمى مستخدماً، فليس بخادم ولا متخادم، ومع ذلك كله ربما نال بركتهم باختياره خدمتهم على خدمة غيرهم وبانتمائه إليهم وقد أوردنا الخبر المسند الذي في سياقه: "هُمُ القَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ"، والله الموفق والمعين.
{الباب الثاني عشر}: في شرح خرقة المشايخ الصوفية
لبس الخرقة ارتباط بين الشيخ وبين المريد، وتحكيم من المريد للشيخ في نفسه، والتحكيم سائغ في الشرع لمصالح دنيوية فماذا ينكر المنكر للبس الخرقة على طالب صادق في طلبه يتقصد شيخاً بحسن ظن وعقيدة يحكمه في نفسه لمصالح دينه يرشده ويهديه ويعرفه طريق المواجيد ويبصره بآفات النفوس وفساد الأعمال ومداخل العدو، فيسلم نفسه إليه ويستسلم لرأيه واستصوابه في جميع تصاريفه، فيلبسه الخرقة إظهاراً للتصرف فيه؛ فيكون لبس الخرقة علامة التفويض والتسليم ودخوله في حكم الشيخ دخوله في حكم الله وحكم رسوله وإحياء سنة المبايعة مع رسول الله.
أخبرنا أبو زرعة قال: أخبرني والدي الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزار، قال: أخبرنا أحمد بن محمد أخي ميمي، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا عمرو بن علي بن حفظة، قال: سمعت عبد الوهاب الثقفي يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أخبرني أبي عن أبيه قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم ففي الخرقة معنى المبايعة، والخرقة عتبة الدخول في الصحبة، والمقصود الكلي هو الصحبة؛ وبالصحبة يرجى للمريد كل خير.
وروي عن أبي يزيد أنه قال: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان.(1/81)
وحكى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن شيخه أبي علي الدقاق أنه قال: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تورق ولا تثمر، وهو كما قال. ويجوز أنها تثمر كالأشجار التي في الأودية والجبال، ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين. والغرس إذا نقل من موضع إلى موضع آخر يكون أحسن حالاً وأكثر ثمرة لدخول التصرف فيه؛ وقد اعتبر الشرع وجود التعليم في الكلب المعلم، وأكل ما يقتله بخلاف غير المعلم.
وسمعت كثيراً من المشايخ يقولون: من لم ير مفلحاً لا يفلح، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وأصحاب رسول الله تلقوا العلوم والآداب من رسول الله، كما روي عن بعض الصحابة: علمنا رسول الله كل شيء حتى الخراءة، فالمريد الصادق إذا دخل تحت حكم الشيخ وصحبه وتأدب بآدابه، يسري من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد كسراج يقتبس من سراج، وكلام الشيخ يلقح باطن المريد ويكون مقال الشيخ مستودع نفائس الحال، وينتقل الحال من الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبة وسماع المقال، ولا يكون هذا إلا لمريد حصر نفسه مع الشيخ وانسلخ من إرادة نفسه وفني في الشيخ بترك اختيار نفسه، فبالتآلف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاج وارتباط بالنسبة الروحية والطهارة الفطرية، ثم لا يزال المريد مع الشيخ كذلك متأدباً بترك الاختيار، حتى يرتقي من ترك الاختيار مع الشيخ إلى ترك الاختيار مع الله تعالى، ويفهم من الله كما كان يفهم من الشيخ، ومبدأ هذا الخير كله الصحبة والملازمة للشيوخ، والخرقة مقدمة ذلك.(1/82)
ووجه لبس الخرقة من السنة ما أخبرنا الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ أبي الفضل المقدسي، قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الأديب النيسابوري، قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله المصري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا إسحاق بن سعيد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثتني أم خالد بنت خالدة قالت: أتي النبي عليه السلام بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: "مَنْ تَرَوْنَ أَكْسُو هذِهِ؟" فسكت القوم، فقال رسول الله: "ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ"، قالت: فأتي بي فألبسنيها بيده فقال: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي" يقولها مرتين، وجعل ينظر إلى علم في الخميصة أصفر وأحمر ويقول: "يَا أُمَّ خَالِدٍ هذَا سَنَاه" ـ والسناه هو الحسن بلسان الحبشة ـ ولا خفاء أن لبس الخرقة على الهيئة التي تعتمدها الشيوخ في هذا الزمان لم يكن في زمن رسول الله، وهذه الهيئة والاجتماع لها. والاعتداد بها من استحسان الشيوخ، وأصله من الحديث ما رويناه، والشاهد لذلك أيضاً التحكيم الذي ذكرناه، وأي اقتداء برسول الله أتم وآكد من الاقتداء به في دعاء الخلق إلى الحق. وقد ذكر الله تعالى في كلامه القديم تحكيم الأمة رسول الله وتحكيم المريد شيخه إحياء سنة ذلك التحكيم.(1/83)
قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْليماً}"أن الزبير بن العوام رضي الله عنه اختصم هو وآخر إلى رسول الله في شراج من الحرة ـ والشراج مسيل الماء ـ كانا يسقيان به النخل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للزبير: "اسْقِ يَا زُبيرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إِلَى جَارِكَ"، فغضب الرجل وقال: قضى رسول الله لابن عمته. فأنزل الله تعالى هذه الآية يعلم فيها الأدب مع رسول الله، وشرط عليهم في الآية التسليم وهو الانقياد ظاهراً ونفي الحرج وهو الانقياد باطناً، وهذا شرط المريد مع الشيخ بعد التحكيم، فلبس الخرقة يزيل اتهام الشيخ عن باطنه في جميع تصاريفه ويحذر الاعتراض على الشيوخ فإنه السم القاتل للمريدين، وقل أن يكون المريد يعترض على الشيخ بباطنه فيفلح، ويذكر المريد في كل ما أشكل عليه من تصاريف الشيخ قصة موسى مع الخضر عليه السلام كيف كان يصدر من الخضر تصاريف ينكرها موسى، ثم لما كشف له عن معناها بان لموسى وجه الصواب في ذلك، فهكذا ينبغي للمريد أن يعلم أن كل تصرف أشكل عليه صحته من الشيخ عند الشيخ فيه بيان وبرهان للصحة، ويد الشيخ في لبس الخرقة تنوب عن يد رسول الله، وتسليم المريد له تسليم لله ورسوله. قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّما يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنَّما يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْياً أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}.(1/84)
واعلم أن للمريدين مع الشيوخ أوان ارتضاع وأوان فطام، وقد سبق شرح الولادة المعنوية، فأوان الارتضاع أوان لزوم الصحبة والشيخ يعلم وقت ذلك، فلا ينبغي للمريد أن يفارق الشيخ إلا بإذنه. قال الله تعالى تأديباً للأمة: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإذَا كَانُوا مَعَهُ على أمْرٍ جَامِعٍ لمْ يَذْهَبُوا حتَّى يَسْتَأذِنُوهُ، إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَرَسُولِهِ، فإذا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} واعلم أن الخرقة خرقتان: خرقة الإرادة، وخرقة التبرك.(1/85)
والأصل الذي قصده المشايخ للمريدين خرقة الإرادة وخرقة التبرك تشبه بخرقة الإرادة، فخرقة الإرادة للمريد الحقيقي، وخرقة التبرك للمتشبه، ومن تشبه بقوم فهو منهم وسر الخرقة أن الطالب الصادق إذا دخل في صحبة الشيخ وسلم نفسه وصار كالولد الصغير مع الوالد يربيه الشيخ بعلمه المستمد من الله تعالى بصدق الافتقار وحسن الاستقامة، ويكون للشيخ بنفوذ بصيرته الإشراف على البواطن، فقد يكون المريد يلبس الخشن كثياب المتقشفين المتزهدين وله في تلك الهيئة من الملبوس هوى كامن في نفسه ليرى بعين الزهادة، فأشدّ ما عليه لبس الناعم وللنفس هوى واختيار في هيئة مخصوصة من الملبوس في قصر الكم والذيل وطوله وخشونته ونعومته على قدر حسبانها وهواها، فليلبس الشيخ مثل هذا الراكن لتلك الهيئة ثوباً يكسر بذلك على نفسه هواها وغرضها، وقد يكون على المريد ملبوس ناعم أو هيئة في الملبوس تشرئب النفس إلى تلك الهيئة بالعادة، فيلبسه الشيخ ما يخرج النفس من عادتها وهواها، فتصرف الشيخ في الملبوس كتصرفه في المطعوم، وكتصرفه في صوم المريد وإفطاره، وكتصرفه في أمر دينه، إلى ما يرى له من المصلحة من دوام الذكر ودوام التنفل في الصلاة ودوام التلاوة ودوام الخدمة، وكتصرفه فيه برده إلى الكسب أو الفتوح أو غير ذلك، فللشيخ إشراف على البواطن وتنوع الاستعدادات، فيأمر كل مريد من أمر معاشه ومعاده بما يصلح له، ولتنوع الاستعدادات تنوعت مراتب الدعوة.(1/86)
قال الله تعالى: {ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بالتي هي أحْسَنُ} وقد نقل أن إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار جرد من ثيابه وقذف في النار عرياناً، فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم عليه السلام، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات ورثه يعقوب، فجعل يعقوب عليه السلام ذلك القميص في تعويذ، وجعله في عنق يوسف فكان لا يفارقه، ولما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبريل وكان عليه التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه.(1/87)
أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة، قال: أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي العباس، قال: أخبرنا القاضي محمد بن سعيد، قال: أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد، قال: أخبرني ابن فنجويه الحسين بن محمد، قال: حدثنا مخلد بن جعفر، قال: حدثنا الحسن بن علويه، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن السدي عن أبيه عن مجاهد قال: كان يوسف عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن لا يعلم أن قميصه لا يرد على يعقوب بصره، ولكن ذاك كان قميص إبراهيم، وذكر ما ذكرناه، قال: فأمره جبرائيل أن أرسل بقميصك فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى أو سقيم إلا صح وعوفي، فتكون الخرقة عند المريد الصادق متحملة إليه عرف الجنة، لما عنده من الاعتداد بالصحبة لله، ويرى لبس الخرقة من عناية الله به وفضل من الله، فأما خرقة التبرك فيطلبها من مقصوده التبرك بزي القوم ومثل هذا لا يطالب بشرائط الصحة بل يوصى بلزوم حدود الشرع ومخالطة هذه الطائفة لتعود عليه بركتهم ويتأدب بآدابهم، فسوف يرقيه ذلك إلى الأهلية لخرقة الإرادة فعلى هذا خرقة التبرك مبذولة لكل طالب وخرقة الإرادة ممنوعة إلا من الصادق الراغب ولبس الأزرق من استحسان الشيوخ في الخرقة فإن رأى شيخ أن يلبس مريداً غير الأزرق فليس لأحد أن يعترض عليه لأن المشايخ آراؤهم فيما يفعلون بحكم الوقت وكان شيخنا يقول: كان الفقير يلبس قصير الأكمام ليكون أعون على الخدمة. ويجوز للشيخ أن يلبس المريد خرقاً في دفعات على قدر ما يتلمح من المصلحة للمريد في ذلك على ما أسلفناه من تداوي هواه في الملبوس والملون فيختار الأزرق لأنه أرفق للفقير لكونه يحمل الوسخ ولا يحوج إلى زيادة الغسل لهذا المعنى فحسب، وما عدا هذا من الوجوه التي يذكرها بعض المتصوفة في ذلك كلام إقناعي من كلام المتصنعين ليس من الدين والحقيقة بشيء.(1/88)
سمعت الشيخ سديد الدين أبا الفخر الهمداني رحمه الله قال: كنت ببغداد عند أبي بكر الشروطي، فخرج إلينا فقير من زاويته عليه ثوب وسخ، فقال له بعض الفقراء: لم لا تغسل ثوبك؛ فقال: يا أخي ما أتفرغ. فقال الشيخ أبو الفخر: لا أزال أتذكر حلاوة قول الفقير: ما أتفرغ؛ لأنه كان صادقاً في ذلك، فأجد لذة لقوله وبركة بتذكاري ذلك؛ فاختاروا الملون لهذا المعنى؛ لأنهم من رعاية وقتهم في شغل شاغل. وإلا فأي ثوب ألبس الشيخ المريد من أبيض وغير ذلك فللشيخ ولاية بذلك بحسن مقصده ووفور علمه. وقد رأينا من المشايخ من لا يلبس الخرقة، ويسلك بأقوام من غير لبس الخرقة، ويؤخذ منه العلوم والآداب، وقد كان طبقة من السلف الصالحين لا يعرفون الخرقة ولا يلبسونها المريدين، فمن يلبسها فله مقصد صحيح وأصل من السنة وشاهد من الشرع، ومن لا يلبسها فله رأيه وله في ذلك مقصد صحيح، وكل تصاريف المشايخ محمولة على السداد والصواب ولا تخلو عن نية صالحة فيه، والله تعالى ينفع بهم وبآثارهم إن شاء الله تعالى.
{الباب الثالث عشر}: في فضيلة سكان الرباط
قال الله تعالى: {في بيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغُدُوِّ والآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَّلَبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ} وقال الحسن: بقاع الأرض كلها جعلت مسجداً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا الاعتبار بالرجال الذاكرين لا بصور البقاع، وأي بقعة حوت رجالاً بهذا الوصف هي البيوت التي أذن الله أن ترفع.(1/89)
روى أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضاً، هل مرَّ بك اليوم أحد صلى عليك أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة نعم، ومن قائلة لا، فإذا قالت نعم علمت أن لها عليها بذلك فضلاً، وما من عبد ذكر الله تعالى على بقعة من الأرض أو صلى لله عليها إلا شهدت له بذلك عند ربه وبكت عليه يوم يموت، وقيل في قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ} وروى عمران بن الحصين قال: قال رسول الله ؛ "مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الله كَفَاهُ الله مُؤْنَتَهُ وَرِزْقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الدُّنْيا وَكَلَهُ الله إِلَيْها" وأصل الرباط: ما يربط فيه الخيول ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم: رباط؟ فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع به وبدعائه البلاء عن العباد والبلاد.
أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة قال: أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي العباس الخليلي قال: أخبرنا القاضي محمد بن سعيد الفرخزاذي قال: أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد قال: أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبو حميد الحمصي قال: حدثني يحيى بن سعيد القطار قال: حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "إِنَّ الله تَعَالَى لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيرَانِهِ البَلاءَ".
وروي عنه أنه قال: "لَوْلاَ عِبَادٌ رُكَّعٌ وَصِبيَةٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ العَذَابُ صَبّاً ثُمَّ يَرُضُّ رَضّاً".(1/90)
وروى جابر بن عبد الله قال: قال النبي: "إِنَّ الله تَعَالَى لَيُصْلِحُ بِصَلاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، وَلاَ يَزَالُونَ فِي حِفْظِ الله مَا دَامَ فِيهِمْ".
وروى داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا}{وجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}"رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ". وقيل: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب علي مردود، فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته اختلت أمور المسلمين وغلب الكفار؛ فلا بد من الغزو والجهاد؛ فكتب إليه: يا أخي، لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم على سجاداتهم: الله أكبر، انهدم سور قسطنطينية. وقال بعض الحكماء: ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات؛ في اجتماع أهل الروابط أصح على الوجه الموضوع له الربط، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات وتوقي ما يفسد الأعمال واعتماد ما يصحح الأحوال عادت البركة على البلاد والعباد.(1/91)
وقال سري السقطي في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} اصبروا عن الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا أهواء النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب لكم الندامة لعلكم تفلحون غداً على بساط الكرامة. وقيل: اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا في دار أعدائي واتقوا محبة من سوائي، لعلكم تفلحون غداً بلقائي. وهذه شرائط ساكن الرباط قطع المعاملة مع الخلق، وفتح المعاملة مع الحق، وترك الاكتساب اكتفاء بكفالة مسبب الأسباب، وحبس النفس عن المخالطات واجتناب التبعات، وعانق ليله ونهاره العبادة متعوضاً بها عن كل عادة، شغله حفظ الأوقات وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات واجتناب الغفلات، ليكون بذلك مرابطاً مجاهداً.
حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا ابن نبهان محمد الكاتب، قال: أخبرنا الحسن بن شاذان، قال: أخبرنا دعلج، قال: أخبرنا البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا صفوان عن الحارث عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "إِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكَارِهِ، وَإِعْمَالُ الأَقْدَامِ إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ: يَغْسِلُ الخَطَايا غَسْلاً". وفي رواية: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو الله بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟" قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: "إِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطا إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ".
{الباب الرابع عشر}: في مشابهة أهل الرباط بأهل الصفة(1/92)
قال الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يومٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ، فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرينَ} وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك على ما أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أحمد بن محمد البزازي، قال: أخبرنا عيسى بن علي الوزير، قال: حدثنا عبد الله البغوي، قال حدثنا وهبان بن بقية، قال: حدثنا خالد بن عبد الله عن داود بن أبي هند، عن أبي الحارث حرب بن أبي الأسود، عن طلحة رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا قدم المدينة. وكان له بها عريف ينزل على عريفه، فإن لم يكن له بها عريف نزل الصفة وكنت فيمن نزل الصفة، فالقوم في الرباط مرابطون متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة، ووضع الربط لهذا المعنى أن يكون سكانها بوصف ما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَ إخْواناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلين}.
روى وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أنهم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال: "لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ عَلَى طَعَامِكُمْ، اجْتَمِعُوا وَاذْكُرُوا الله تَعَالَى يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ"، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أكل رسول الله على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق، فقيل: فعلى أي شيء كانوا يأكلون؟ قال: على السفر.
فالعباد والزهاد طلبوا الانفراد لدخول الآفات عليهم بالاجتماع، وكون نفوسهم تشتاق للأهوية والخوض فيما لا يعني فرأوا السلامة في الوحدة، والصوفية لقوة عملهم وصحة حالهم نزع عنهم ذلك فرأوا الاجتماع في بيوت الجماعة على السجادة، فسجادة كل واحد زاويته، وهم كل واحد مهمه، ولعل الواحد منهم لا يتخطى همه سجادته، ولهم في اتخاذ السجادة وجه من السنة.(1/93)
وروى أبو سلمة ابن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل لرسول الله حصيراً من الليف يصلي عليه من الليل. وروت ميمونة زوجة رسول الله قالت: كان رسول الله تبسط له الخمرة في المسجد حتى يصلي عليها. والرباط يحتوي على شبان وشيوخ وأصحاب خدمة وأرباب خلوة، فالمشايخ بالزوايا أليق نظراً إلى ما تدعو إليه النفس من النوم والراحة والاستبداد بالحركات والسكنات، فللنفس شوق إلى التفرد والاسترسال في وجوه الرفق، والشاب يضيق عليه مجال النفس بالقعود في بيت الجماعة والانكشاف لنظر الأغيار لتكثر العيون عليه فيتقيد ويتأدب، ولا يكون هذا إلا إذا كان جمع الرباط في بيت الجماعة مهتمين بحفظ الأوقات وضبط الأنفاس وحراسة الحواس كما كان أصحاب رسول الله: {لِكُلِّ امْرىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنيهِ}"المُؤْمِنُونِ إِخْوَةٌ يَطْلُبُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الحَوَائِجَ فَيَقْضِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الحَوَائِجَ يَقْضِي الله لَهُمْ حَاجَاتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ" فيتحفظ بالخدمة عن البطالة التي تميت القلب، والخدمة عند القوم من جملة العمل الصالح، وهي طريق من طرق المواجيد تكسبهم الأوصاف الجميلة والأحوال الحسنة، ولا يرون استخدام من ليس من جنسهم ولا متطلعاً إلى الاهتداء بهديهم.(1/94)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح قال: أخبرنا أبو الفضل حميد بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شريك، عن أبي هلال الطائي، عن وثيق بن الرومي قال: كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان يقول لي: أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أماناتهم بمن ليس منهم، قال فأبيت، فقال عمر: {لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ} أخبرنا الثقة أبو الفتح محمد بن سليمان، قال: أخبرنا أبو الفضل حميد بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال حدثنا أبو بكر بن خلاد، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما انصرف رسول الله من تبوك قال حين دنا من المدينة: "إِنَّ بِالمَدِينَةَ أَقْوَاماً مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ قالوا: وهم في المدينة؟ قال: نَعَمْ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ".
فالقائم بخدمة القوم تعوق عن بلوغ درجتهم بعذر القصور وعمد الأهلية، فحام حول الحمى باذلاً مجهوده في الخدمة يتعلل بالأثر حيث منع النظر، فجزاه الله على ذلك أحسن الجزاء وأناله من جزيل العطاء، وهكذا كان أهل الصفة يتعاونون على البر والتقوى ويجتمعون على المصالح الدينية ومواساة الإخوان بالمال والبدن.
{الباب الخامس عشر}: في خصائص أهل الربط والصوفية فيما يتعاهدونه ويختصون به(1/95)
اعلم أن تأسيس هذه الربط من زينة هذه الملة الهادية المهدية، ولسكان الربط أحوال تميزوا بها عن غيرهم من الطوائف، وهم على هدى من ربهم، قال الله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}{تَحْسَبُهُمْ جَميعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وروى النعمان ابن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: "إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ كَجَسَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ اشْتَكَى جَسَدُهُ أَجْمَعُ، وَإِذَا اشْتَكَى مُؤْمِنٌ اشْتَكَى المُؤْمِنُونَ".
فالصوفية وظيفتهم اللازمة من حفظ اجتماع البواطن، وإزالة التفرقة بإزالة شعث البواطن، لأنهم بنسبة الأرواح اجتمعوا، وبرابطة التأليف الإلهي اتفقوا، وبمشاهدة القلوب تواطؤوا، ولتهذيب النفوس وتصفية القلوب في الرباط رابطوا، فلا بد لهم من التألف والتودد والنصح. روى أبو هريرة عن رسول الله قال: "المُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ".(1/96)
وأخبرنا أبو زرعة طاهر ابن الحافظ أبي الفضل المقدسي عن أبيه، قال: حدثنا أبو القاسم الفضل بن أبي حرب، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري، قال: أخبرنا أبو سهل بن زيادة القطان، قال: حدثنا الحسين بن مكرم، قال: حدثنا يزيد بن هارون الواسطي، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ" فهم باجتماعهم تجتمع بواطنهم وتتقيد نفوسهم، لأن بعضهم عين على البعض، على ما ورد "المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ" فأي وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة نافروه؛ لأن التفرقة تظهر بظهور النفس، وظهور النفس من تضييع حق الوقت، فأي وقت ظهرت نفس الفقير علموا منه خروجه عن دائرة الجمعية وحكموا عليه بتضييع حكم الوقت وإهمال السياسة وحسن الرعاية فيقاد بالمنافرة إلى دائرة الجمعية.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردي إجازة، قال: أخبرنا الشيخ العالم عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفار، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت رويماً يقول: لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا؛ فإذا اصطلحوا هلكوا، وهذه إشارة من رويم إلى حسن تفقد بعضهم أحوال بعض إشفاقاً من ظهور النفوس، يقول: إذا اصطلحوا أو رفعوا المنافرة من بينهم يخاف أن تخامر البواطن المساهلة والمراءاة ومسامحة البعض البعض في إهمال دقيق آدابهم، وبذلك تظهر النفوس وتستولي.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.(1/97)
وأخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الهروي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، قال: أخبرنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب: أن محمد بن نعمان أخبر بأن عمر قال في مجلس فيه المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين قال: فسكتنا. قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين؟ قال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح؛ فقال عمر: أنتم إذن أنتم.
وإذا ظهرت نفس الصوفي بغضب وخصومة مع بعض الإخوان فشرط أخيه أن يقابل نفسه بالقلب؛ فإن النفس إذا قوبلت بالقلب انحسمت مادة الشر، وإذا قوبلت النفس بالنفس ثارت الفتنة وذهبت العصمة. قال الله تعالى: {ادْفَعْ بالَّتي هيَ أَحْسَنُ. فإذا الَّذي بيْنَكَ وبيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ وَمَا يَلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} ثم الشيخ أو الخادم إذا شكا إليه فقير من أخيه فله أن يعاتب أيهما شاء، فيقول للمتعدي: لم تعديت؟ وللمتعدَّى عليه: ما الذي أذنبت حتى تعدى عليك وسلط عليك؟ وهلا قابلت نفسه بالقلب رفقاً بأخيك، وإعطاء للفتوة والصحبة حقها فكل منهما جان وخارج عن دائرة الجمعة فيرد إلى الدائرة بالنقار، فيعود إلى الاستغفار ولا يسلك طريق الإصرار.
روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا وَإِذَا أَسَاؤُوا اسْتَغْفَرُوا" فيكون الاستغفار ظاهراً مع الإخوان، وباطناً مع الله تعالى، ويرون الله في استغفارهم؛ فلهذا المعنى يقفون في صف النعال على أقدامهم تواضعاً وانكساراً.(1/98)
وسمعت شيخنا يقول للفقير إذا جرى بينه وبين بعض إخوانه وحشة: قم واستغفر؛ فيقول الفقير: ما أرى باطني صافياً، ولا أوثر القيام للاستغفار ظاهراً من غير صفاء الباطن؛ فيقول: أنت قم فببركة سعيك وقيامك ترزق الصفاء، فكان يجد ذلك ويرى أثره عند الفقير وترق القلوب وترتفع الوحشة.
وهذا من خاصية هذه الطائفة لا يبيتون والبواطن منطوية على وحشة، ولا يجتمعون للطعام والبواطن تضمر وحشة، ولا يرون الاجتماع ظاهراً في شيء من أمورهم إلا بعد الاجتماع بالبواطن وذهاب التفرقة والشعث، فإذا قام الفقير للاستغفار لا يجوز رد استغفاره بحال.
روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكم".
وللصوفية في تقبيل يد الشيخ بعد الاستغفار أصل من السنة.(1/99)
روى عبد الله بن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله، فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف روى عبد الله بن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله، فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فتبنا فيها ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: "مَنِ القَوْمُ؟" قلنا: نحن الفرارون. قال: "لاَ، بَلْ أَنْتُمُ العَكَّارُونَ، أَنَا فِئَتُكُمْ، أَنَا فِئَةُ المُسْلِمِينَ" يقال: عكر الرجل، إذا تولى ثم كر راجعاً. والعكار: العطاف والرجاع. قال: فأتيناه حتى قبلنا يده". وروي أن أبا عبيدة بن الجراح قبَّل يد عمر عند قدومه. وروي عن أبي مرثد الغنوي أنه قال: أتينا رسول الله فنزلت إليه وقبلت يده. فهذا رخصة في جواز تقبيل اليد، ولكن أدب الصوفي أنه متى رأى نفسه تتعزز بذلك أو تظهر بوصفها أن يمتنع من ذلك، فإن سلم من ذلك فلا بأس بتقبيل اليد ومعانقتهم للإخوان عقيب الاستغفار، لرجوعهم إلى الألفة بعد الوحشة، وقدومهم من سفر الهجرة بالتفرقة إلى أوطان الجمعية، فبظهور النفس تغربوا وبعدوا، وبغيبة النفس والاستغفار قدموا ورجعوا، ومن استغفر إلى أخيه ولم يقبله فقد أخطأ، فقد ورد عن رسول الله في ذلك وعيد: روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَخُوهُ مَعْذِرَةً فَلَمْ يَقْبَلْها كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ المُكُوسِ". وروى جابر أيضاً عن رسول الله: "مَنْ تُنِصَّلَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الحَوْضَ".(1/100)
ومن السنة أن يقدم للإخوان شيئاً من الاستغفار، روي أن كعب بن مالك قال للنبي: إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله وأهجر دار قومي التي فيها أتيت الذنب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "يُجْزِيكَ مِنْ ذلِكَ الثُّلُثَ" فصارت سنة الصوفية المطالبة بالغرامة بعد الاستغفار والمنافرة، وكل قصدهم رعاية التألف حتى تكون بواطنهم على الاجتماع كما أن ظواهرهم على الاجتماع، وهذا أمر تفردوا به من بين طوائف الإسلام.
ثم شرط الفقير الصادق إذا سكن الرباط وأراد أن يأكل من وقفه أو مما يطلب لسكانه بالدروزة: أن يكون عنده من الشغل بالله ما لا يسعه الكسب؛ وإلا ـ إذا كان للبطالة والخوض فيما لا يعني عنده مجال ولا يقوم بشروط أهل الإرادة من الجد والاجتهاد ـ فلا ينبغي له أن يأكل من مال الرباط بل يكتسب ويأكل من كسبه؛ لأن طعام الرباط لأقوام كمل شغلهم بالله، فخدمتهم الدنيا لشغلهم بخدمة مولاهم؛ إلا أن يكون تحت سياسة شيخ عالم بالطريق ينتفع بصحبته ويهتدي بهديه، فيرى الشيخ أن يطعمه من مال الرباط، فلا يكون تصرف الشيخ إلا بصحة بصيرة. ومن جملة ما يكون للشيخ في ذلك من النية: أن يشغله بخدمة الفقراء؛ فيكون ما يأكله في مقابلة خدمته.
روي عن أبي عمرو الزجاجي قال: أقمت عند الجنيد مدة، فما رآني قط إلا وأنا مشتغل بنوع من العبادة، فما كلمني حتى كان يوم من الأيام خلا الموضع من الجماعة؛ فقمت ونزعت ثيابي وكنست الموضع ونظفته ورششته وغسلت موضع الطهارة، فرجع الشيخ ورأى عليَّ أثر الغبار، فدعا لي ورحب بي وقال: أحسنت عليك بها ثلاث مرات.
ولا يزال مشايخ الصوفية يندبون الشباب إلى الخدمة حفظاً لهم عن البطالة، وكل واحد يكون له حظ من المعاملة، وحظ من الخدمة.(1/101)
روى أبو محذورة قال: جعل رسول الله لنا الأذان، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار. وبهذا يقتدي مشايخ الصوفية في تفريق الخدم على الفقراء، ولا يعذر في ترك نوع من الخدمة إلا كامل الشغل بوقته، ولا نعني بكامل الشغل شغل الجوارح، ولكن نعني به دوام الرعاية والمحاسبة، والشغل بالقلب والقالب وقتاً وبالقلب دون القالب وقتاً، وتفقد الزيادة من النقصان؛ فإن قيام الفقير بحقوق الوقت شغل تام، وبذلك يؤدي شكر نعمة الفراغ ونعمة الكفاية. وفي البطالة كفران نعمة الفراغ والكفاية.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر إجازة، قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن منصور، قال: أخبرنا أحمد بن خلف، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين، قال: سمعت أبا الفضل بن حمدون يقول: سمعت علي بن عبد الحميد الفضائري يقول: سمعت السري يقول: من لا يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم. وقد يعذر الشيخ العاجز عن الكسب في تناول طعام الرباط ولا يعذر الشاب. هذا في شرط طريق القوم على الإطلاق، فأما من حيث فتوى الشرع: فإن كان شرط الوقف على المتصوفة وعلى من تزيا بزي المتصوفة ولبس خرقتهم فيجوز أكل ذلك لهم على الإطلاق فتوى، وفي ذلك القناعة بالرخصة دون العزيمة التي هي شغل أهل الإرادة. وإن كان شرط الوقف على من يسلك طريق الصوفية عملاً وحالاً فلا يجوز أكله لأهل البطالات والراكنين إلى تضييع الأوقات، وطرق أهل الإرادة عند مشايخ الصوفية مشهورة.(1/102)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح، قال: أخبرنا أبو الفضل حميد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا جعفر الفريابي، قال: حدثنا محمد بن الحسين البلخي بسمرقند، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب الخزاعي. قال: حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي سليمان الليثي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي أنه قال: "مثل المؤمن كمثل الفرس في آخيته يجول ويرجع إلى آخيته، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان؛ فأطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين".
{الباب السادس عشر}: في ذكر اختلاف أحوال مشايخهم في السفر والمقام
اختلف أحوال مشايخ الصوفية؛ فمنهم من سافر في بدايته وأقام في نهايته؛ ومنهم من أقام في بدايته وسافر في نهايته؛ ومنهم من أقام ولم يسافر؛ ومنهم من استدام السفر ولم يؤثر الإقامة.(1/103)
ونشرح حال كل واحد منهم ومقصده فيما رام: فأما الذي سافر في بدايته وأقام في نهايته فقصده بالسفر لمعان: منها: تعلم شيء من العلم. قال رسول الله: "اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ" وقال بعضهم: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدل على هدى ما كان سفره ضائعاً، ونقل أن جابر بن عبد الله رحل من المدينة إلى مصر في شهر لحديث بلغه أن أنساً يحدث به عن رسول الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ خَرَجَ مِنْ بيْتِهِ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبيلِ الله حَتَّى يَرْجِعَ" وقيل في تفسير قوله تعالى: {السَّائِحُونَ} حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء، قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن أبي هارون، قال: كنا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحباً بوصية رسول الله، إن النبي عليه السلام قال: "إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ الرِّجَالَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً"، وقال عليه السلام: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"، وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: "إِنَّ الله تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكاً فِي طَلَبِ العِلْمِ سَهَّلْتُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ".
ومن جملة مقاصدهم في البداية لقاء المشايخ والإخوان للمصادقين؛ فللمريد بلقاء كل صادق مزيد، وقد ينفعه لحظ الرجال كما ينفعه لفظ الرجال. وقد قيل: من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه. وهذا القول فيه وجهان:(1/104)
أحدهما: أن الرجل الصديق يكلم الصادقين بلسان فعله أكثر ما يكلمهم بلسان قوله؛ فإذا نظر الصادق إلى تصاريفه في مورده ومصدره وخلوته وجلوته وكلامه وسكوته ينتفع بالنظر إليه؛ فهو نفع اللحظ. ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضاً لا ينفع لأنه يتكلم بهواه، ونورانية القول على قدر نورانية القلب، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها.
والوجه الثاني: أن نظر العلماء الراسخين في العلم والرجال البالغين ترياق نافع، ينظر أحدهم إلى الرجل الصادق فيستكشف بنور بصيرته حسن استعداد الصادق واستئهاله لمواهب الله تعالى الخاصة: فيقع في قلبه محبة الصادق من المريدين وينظر إليه نظر محبة عن بصيرة، وهم من جنود الله تعالى فيكسبون بنظرهم أحوالاً سنية ويهبون آثاراً مرضية، وماذا ينكر المنكر من قدرة الله؟ إن الله سبحانه وتعالى كما جعل في بعض الأفاعي من الخاصية أنه إذا نظر إلى إنسان يهلكه بنظره، أن يجعل في نظر بعض خواص عباده أنه إذا نظر إلى طالب صادق يكسبه حالاً وحياة وقد كان شيخنا رحمه الله يطوف في مسجد الخيف بمنى ويتصفح وجوه الناس، فقيل له في ذلك فقال: لله عباد إذا نظروا إلى شخص أكسبوه سعادة، فأنا أتطلب ذلك.
ومن جملة المقاصد في السفر ابتداء قطع المألوفات، والانسلاخ من ركون النفس إلى معهود ومعلوم، والتحامل على النفس بتجرع مرارة فرقة الإلاف والخلاف والأهل والأوطان، فمن صبر على تلك المألوفات محتسباً عند الله أجراً فقد حاز فضلاً عظيماً.(1/105)
أخبرنا أبو زرعة بن أبي الفضل الحافظ المقدسي، عن أبيه قال: أخبرنا القاضي أبو منصور محمد بن أحمد الفقيه الأصفهاني، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد قوله، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مات رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلى عليه رسول الله ثم قال: "لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ" قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ مِنَ الجَنَّةِ".
ومن جملة المقاصد في السفر: استكشاف دقائق النفوس واستخراج رعوناتها ودعاويها، لأنها لا تكاد تتبين حقائق ذلك بغير السفر. وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن الأخلاق، وإذا وقف على دائه يتشمر لدوائه، وقد يكون أثر السفر في نفس المبتدىء كأثر النوافل من الصلاة والصوم والتهجد وغير ذلك، وذلك أن المتنفل سائح سائر إلى الله تعالى من أوطان الغفلات إلى محل القربات، والمسافر يقطع المسافات ويتقلب في المفاوز والفلوات بحسن النية لله تعالى، سائر إلى الله تعالى بمراغمة الهوى ومهاجرة ملاذ الدنيا.
أخبرنا شيخنا إجازة، قال: أخبرنا عمر بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عبد الواحد ابن بكر يقول: سمعت علي بن عبد الرحيم يقول: سمعت النووي يقول: التصوف ترك كل حظ النفس، فإذا سافر المبتدىء تاركاً حظ النفس تطمئن النفس وتلين كما تلين بدوام النافلة، ويكون لها بالسفر دباغ يذهب عنها الخشونة واليبوسة الجبلية والعفونة الطبيعية، كالجلد يعود من هيئة الجلود إلى هيئة الثياب، فتعود النفس من طبيعة الطغيان إلى طبيعة الإيمان.(1/106)
ومن جملة المقاصد في السفر: رؤية الآثار والعبر، وتسريح النظر في مسارح الفكر، ومطالعة أجزاء الأرض والجبال ومواطىء أقدام الرجال، واستماع التسبيح من ذرات الجمادات، والفهم من لسان حال القطع المتجاورات، فقد تتجدد اليقظة بتجدد مستودع العبر والآيات، وتتوفر بمطالعة المشاهد والمواقف الشواهد والدلالات. قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنَا في الآفَاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} ومن جملة المقاصد بالسفر: إيثار الخمول واطراح حظ القبول، فصدق الصادق يتم على أحسن الحال، ويرزق من الخلق حسن الإقبال، وقلما يكون صادق متمسك بعروة الإخلاص ذو قلب عامر إلا ويرزق إقبال الخلق، حتى سمعت بعض المشايخ يحكي عن بعضهم أنه قال: أريد إقبال الخلق علي لا أني أبلغ نفسي حظها من الهوى، فإني لا أبالي أقبلوا أو أدبروا، ولكن لكون إقبال الخلق علامة تدل على صحة الحال، فإذا ابتلي المريد بذلك لا يأمن نفسه أن تدخل عليه بطريق الركون إلى الخلق، وربما يفتح عليه باب من الرفق وتدخل النفس عليه من طريق السير والدخول في الأسباب المحمودة، وتريه فيه وجه المصلحة والفضيلة في خدمة عباد الله وبذل الموجود، ولا تزال النفس به والشيطان حتى يجراه إلى السكون إلى الأسباب واستجلاء قبول الخلق، وربما قويا عليه فجراه إلى التصنع والتعمل ويتسع الخرق على الراقع.
وسمعت أن بعض الصالحين قال لمريد له: أنت الآن وصلت إلى مقام لا يدخل عليك الشيطان من طريق الشر، ولكن يدخل عليك من طريق الخير، وهذا مزلة عظيمة للأقدام، فالله تعالى يدرك الصادق إذا ابتلي بشيء من ذلك ويزعجه بالعناية السابقة والمعونة اللاحقة إلى السفر، فيفارق المعارف والموضع الذي فتح عليه هذا الباب فيه ويتجرد لله تعالى بالخروج إلى السفر، وهذا من أحسن المقاصد في الأسفار للصادقين، فهذه جمل المقاصد المطلوبة للمشايخ في بداياتهم ما عدا الحج والغزو وزيارة بيت المقدس.(1/107)
وقد نقل أن ابن عمر خرج من المدينة قاصداً إلى بيت المقدس وصلى فيه الصلوات الخمس ثم أسرع راجعاً إلى المدينة من الغد. ثم إذا منّ الله على الصادق بإحكام أمور بدايته، قلبه في الأسفار، ومنحه الحظ من الاعتبار، وأخذ نصيبه من العلم قدر حاجته، واستفاد من مجاورة الصالحين، وانتقش في قلبه فوائد النظر إلى حال المتقين، وتعطر باطنه باستنشاق عرف معارف المقربين، وتحصن بحماية نظر أهل الله وخاصته وسبر أحوال النفس، وأسفر السفر عن دفائن أخلاقها وشهواتها الخفية، وسقط عن باطنه نظر الخلق، وصار يغلب ولا يغلب، كما قال الله تعالى إخباراً عن موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبي حُكْماً وَجَعَلني مِنَ المُرْسَلِينَ}.
وأما الذي أقام في بدايته وسافر في نهايته: يكون ذلك شخصاً يسر الله له في بداية أمره صحبة صحيحة وقيض له شيخاً عالماً يسلك به الطريق، ويدرجه إلى منازل التحقيق، فيلازم موضع إرادته ويلتزم بصحبة من يرده عن عادته وقد كان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة غير الله فحرام عليك أن تحضرني، فمن رزق مثل هذه الصحبة يحرم عليه السفر، فالصحبة خير له من كل سفر وفضيلة يقصدها.(1/108)
أخبرنا رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة قال: أخبرنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري عن والده الأستاذ أبي القاسم قال: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت عياش بن أبي الصخر يقول: سمعت أبا بكر الزقاق يقول: لا يكون المريد مريداً حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئاً عشرين سنة فمن رزق صحبة من يندبه إلى مثل هذه الأحوال السنية، والعزائم القوية يحرم عليه المفارقة واختيار السفر، ثم إذا أحكم أمره في الابتداء بلزوم الصحبة وحسن الاقتداء. وارتوى من الأحوال، وبلغ مبلغ الرجال، وانبجس من قلبه عيون ماء الحياة، وصارت نفسه مكسبة للسعادات يستنشق نفس الرحمن من صدور الصادقين من الإخوان في أقطار الأرض وشاسع البلدان، يشرئب إلى التلاق وينبعث إلى الطواف في الآفاق، يسيره الله تعالى في البلاد لفائدة العباد، ويستخرج بمغناطيس حاله خبء أهل الصدق والمتطلعين إلى من يخبر عن الحق، ويبذر في أراضي القلوب بذر الفلاح، ويكثر ببركة نفسه وصحبته أهل الصلاح. وهذا مثل هذه الأمة الهادية في الإنجيل: {كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أخبرنا شيخنا، قال: أخبرنا الإمام عبد الجبار البيهقي في كتابه، قال: أخبرنا أبو بكر البيهقي، قال: أخبرنا أبو علي الروذباري، قال: حدثنا أبو بكر بن داسته، قال: حدثنا أبو داود، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ لاَ ينْقصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ لاَ ينْقصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً".(1/109)
فأما من أقام ولم يسافر يكون ذلك شخصاً رباه الحق سبحانه وتعالى وتولاه وفتح عليه أبواب الخير وجذبه بعنايته. وقد ورد جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين. ثم لما علم منه الصدق ورأى حاجته إلى من ينتفع به ساق إليه بعض الصديقين. حتى أيده بلطفه ولفظه، وتداركه بلحظه، ولقحه بقوة حاله، وكفاه يسير الصحبة لكمال الأهلية في الصاحب والمصحوب، وإجراء سنة الله تعالى في إعطاء الأسباب حقها الإقامة، ورسم الحكمة يحوج إلى يسير الصحبة، فيتنبه بالقليل للكثير، ويغنيه اليسير من الصحبة عن اللحظ الكثير، ويكتفي بوافر حظ الاستبصار عن الأسفار، ويتعوض بأشعة الأنوار عن مطالعة الغير والآثار، كمال قال بعضهم: الناس يقولون افتحوا أعينكم وأبصروا، وأنا أقول: غمضوا أعينكم وأبصروا. وسمعت بعض الصالحين يقول: لله عباد طور سيناهم ركبهم تكون رؤوسهم على ركبهم وهم في محال القرب، فمن نبع له معين الحياة في ظلمة خلوته فماذا يصنع بدخول الظلمات؟ ومن اندرجت له أطباق السموات في طي شهوده، ماذا يصنع بتقلب طرفه في السموات؟ ومن جمعت أحداق بصيرته متفرقات الكائنات، ماذا يستفيد من طي الفلوات؟ ومن خلص بخاصية فطرته إلى مجمع الأرواح، ماذا تفيده زيارة الأشباح؟.
قيل: أرسل ذو النون المصري إلى أبي يزيد رجلاً وقال: قل له إلى متى هذا النوم والراحة وقد سارت القافلة؟ فقال للرسول: قل لأخي: الرجل من ينام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة، فقال ذو النون: هنيئاً له، هذا كلام لا تبلغه أحوالنا.(1/110)
وكان بشر يقول: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا، فإن الماء إذا كثر مكثه في موضع تغير، وقيل قال بعضهم عند هذا الكلام صر بحراً حتى لا تتغير، فإذا أدام المريد سير الباطن بقطع مسافة النفس الأمارة بالسوء، حتى قطع منازل آفاتها وبدل أخلاقها المذمومة بالمحمودة، وعانق الإقبال على الله تعالى بالصدق والإخلاص، اجتمع له المتفرقات، واستفاد في حضره أكثر من سفره، لكون السفر لا يخلو من متاعب وكلف ومشوشات وطوارق ونوازل يتجدد الضعف عن سياستها بالعلم للضعفاء، ولايقدر على تسليط العلم على متجددات السفر وطوارقه إلا الأقوياء. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للذي زكى عنده رجلاً: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: ما أراك تعرفه فإذا حفظ الله عبده في بداية أمره من تشويش السفر، ومتعه بجمع الهم وحسن الإقبال في الحضر وساق إليه من الرجال من اكتسب به صلاح الحال، فقد أحسن إليه.
قيل في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وحكي عنه أنه قال: مكثت في البادية أحد عشر يوماً لم آكل وتطلعت نفسي أن آكل من حشيش البر، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لم هربت منه؟ قال: تشوفت نفسي أن يغيثني، فهؤلاء الفرارون بدينهم.(1/111)
أخبرنا أبو زرعة طاهر ابن الحافظ أبي الفضل المقدسي عن أبيه قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن يوسف بن نامويه قال: حدثنا أبو محمد الزهري القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أسباط قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا محمود ـ يعني ابن مسلم ـ عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن سليمان بن هرمز، عن عبد الله، عن رسول الله قال: "أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الله الغُرَبَاءُ، قِيلَ: وَمَنِ الغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ يَجْتَمِعُونَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ" وهذه كلها أحوال اختلفت واتبع أربابها الصحة وحسن النية مع الله.
وحسن النية يقتضي الصدق، والصدق لعينه محمود كيف تقلبت الأحوال، فمن سافر ينبغي أن يتفقد حاله، ويصحح نيته. ولا يقدر على تخليص النية من شوائب النفس إلا كثير العلم تام التقوى، وافر الحظ من الزهد في الدنيا، ومن انطوى على هوى كامن ولم يستقص في الزهد لا يقدر على تصحيح النية. فقد يدعوه إلى السفر نشاط جبلي نفساني وهو يظن أن ذلك داعية الحق ولا يميز بين داعية الحق وداعية النفس ويحتاح الشخص في علم صحة النية إلى العلم بمعرفة الخواطر، وشرح الخواطر وعلمها يحتاج إلى باب مفرد لنفسه، ونومىء الآن إلى ذلك برمز يدركه من نازله شيء من ذلك، فأكثر الفقراء من علم ذلك ومعرفته على بعد.(1/112)
اعلم أن ما ذكرناه من نشاط النفس واقع للفقير في كثير من الأمور، فقد يجد الفقير الروح بالخروج إلى بعض الصحارى والبساتين، ويكون ذلك الروح مضراً به في ثاني الحال وإن كان يتراءى له طيبة القلب في الوقت وسبب طيبة قلبه في الوقت أن النفس تنفسح وتتسع ببلوغ غرضها وتيسير يسير هواها بالخروج إلى الصحراء والتنزه، وإذا اتسعت بعدت عن القلب وتنحت عنه متشوفة إلى متعلق هواها، فيتروح القلب لا بالصحراء بل ببعد النفس منه، كشخص تباعد عنه قرين يستثقله. ثم إذا عاد الفقير إلى زاويته واستفتح ديوان معاملته وميز دستور حاله، يجد النفس مقارنة للقلب بمزيد ثقل موجب لتبرمه بها، وكلما ازداد ثقلها تكدر القلب. وسبب زيادة ثقلها استرسالها في تبادل هواها، فيصير الخروج إلى الصحراء عين الداء، ويظن الفقير أنه ترويح ودواء، فلو صبر على الوحدة والخلوة، ازدادت النفس ذوباناً وخفت ولطفت وصارت قريناً صالحاً للقلب لا يستثقلها.(1/113)
وعلى هذا يقاس التروّح بالأسفار، فللنفس وثبات إلى توهم التروحات، فمن فطن لهذه الدقيقة لا يغتر بالتروحات المستعارة التي لا تحمد عاقبتها ولا تؤمن غائلتها، ويتثبت عند ظهور خاطر السفر، ولا يكترث بالخاطر بل يطرحه بعدم الالتفات مسيئاً ظنه بالنفس وتسويلاتها. ومن هذا القبيل ـ والله أعلم ـ قول رسول الله: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ بيْنِ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ" فيكون للنفس عند طلوع الشمس وثبات تستند تلك الوثبات والنهضات من النفس إلى المزاج والطبائع، ويطول شرح ذلك ويعمق. ومن ذلك القبيل خفة مرض المريض غدوة، بخلاف العشيات فيتشكل اهتزاز النفس بنهضات القلب، ويدخل على الفقير من هذا القبيل آفات كثيرة: يدخل في مداخل باهتزاز نفسه ظناً منه أن ذلك حكم نهوض قلبه، وربما يتراءى له أنه بالله يصول وبالله يقول وبالله يتحرك، فقد ابتلي بنهضة النفس ووثوبها. ولا يقع هذا الاشتباه إلا لأرباب القلوب وأرباب الأحوال، وغير أرباب القلب والحال عن هذا بمعزل، وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص دون العوام، فاعلم ذلك فإنه عزيز علمه.(1/114)
وأقل مراتب الفقراء في مبادىء الحركة للسفر لتصحيح وجه الحركة أن يقدموا صلاة الاستخارة، وصلاة الاستخارة لا تهمل وإن تبين للفقير صحة خاطره أو تبين له وجه المصلحة في السفر ببيان أوضح من الخاطر، فللقوم مراتب في التبيان من العلم بصحة الخاطر وبما فوق ذلك، ففي ذلك كله لا تهمل صلاة الاستخارة اتباعاً للسنة، ففي ذلك البركة، وهو من تعليم رسول الله على ما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء قال: أخبرنا أبو القاسم بن عبد الرحمن في كتابه، أن أبا سعيد الكنجرودي أخبرهم قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، قال: حدثنا أحمد بن الحسين الصوفي، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن قال: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بَالأَمْرِ ـ أَوْ أَرَادَ الأَمْرَ ـ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذَا الأَمْرَ ـ ويسميه بعينه ـ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَمَعَادِي وَعَاقِبَةُ أَمْرِي، ـ أو قال عاجل أمري وآجله ـ فَاقْدُرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ شَرّاً لِي ـ مثل ذلك ـ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ".
{الباب السابع عشر}: فيما يحتاج إليه الصوفي في سفره من الفرائض والفضائل(1/115)
فأما من الفقه ـ وإن كان هذا يذكر في كتب الفقه وهذا الكتاب غير موضوع لذلك، ولكن نقول على سبيل الإيجاز تيمناً بذكر الأحكام الشرعية التي هي الأساس الذي يُبنى عليه ـ لا بد للصوفي المسافر من علم التيمم والمسح على الخفين والقصر والجمع في الصلاة، أما التيمم فجائز للمريض والمسافر في الجنابة والحدث عند عدم الماء أو الخوف من استعماله تلفاً في النفس أو المال أو زيادة في المرض على القول الصحيح من المذهب، أو عند حاجته إلى الماء الموجود لعطشه أو عطش دابته أو رفيقه، ففي هذه الأحوال كلها يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه.
والخائف من البرد يصلي بالتيمم ويعيد الصلاة على الأصح. ولا يجوز التيمم إلا بشرط الطلب للماء في مواضع الطلب. ومواضع الطلب مواضع تردد المسافر في منزله للاحتطاب والاحتشاش، ويكون الطلب بعد دخول الوقت، والسفر القصير في ذلك كالطويل. وإن صلى بالتيمم مع تيقن الماء في آخر الوقت جاز على الأصح. ولا يعيد مهما صلى بالتيمم وإن كان الوقت باقياً. ومهما توهم وجود الماء بطل تيممه، كما إذا طلع ركب أو غير ذلك. وإن رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل صلاته ولا تلزمه الإعادة، ويستحب له الخروج منها واستئنافها بالوضوء على الأصح. ولا يتيمم للفرض قبل دخول الوقت ويتيمم لكل فريضة. ويصلي مهما شاء من نوافل بتيمم واحد. ولا يجوز أداء الفرض بتيمم النافلة. ومن لم يجد ماء ولا تراباً يصلي ويعيد عند وجود أحدهما. ولكن إذا كان محدثاً لا يمس المصحف.(1/116)
وإن كان جنباً لا يقرأ القرآن في الصلاة بل يذكر الله تعالى عوض القراءة. ولا يتيمم إلا بتراب طاهر غير مخالط للرمل والحصى، ويجوز بالغبار على ظهر الحيوان والثوب. ويسمي الله تعالى عند التيمم، وينوي استباحة الصلاة قبل ضرب اليد على التراب، ويضم أصابعه لضربة الوجه ويمسح جميع الوجه، فلو بقي شيء من محل الفرض غير ممسوح لا يصح التيمم ويضرب ضربة لليدين مبسوط الأصابع ويعم بالتراب محل الفرض، وإن لم يقدر إلا ضربتين فصاعداً كيف أمكنه لا بد أن يعم التراب محل الفرض. ويمسح إذا فرغ إحدى الراحتين بالأخرى حتى تصيرا ممسوحتين، ويمر اليد على ما نزل من اللحية من غير إيصال التراب إلى المنابت.
وأما المسح: فيمسح على الخف ثلاثة أيام ولياليهن في السفر. والمقيم يوماً وليلة وابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخف، لا من حين لبس الخف. ولا حاجة إلى النية عند لبس الخف، بل يحتاج إلى كمال الطهارة، حتى لو لبس أحد الخفين قبل غسل الرجل الأخرى لا يصح أن يمسح على الخف. ويشترط في الخف إمكان متابعة المشي عليه وستر محل الفرض، ويكفي مسح يسير من أعلى الخف، والأولى مسح أعلاه وأسفله من غير تكرار، ومتى ارتفع حكم المسح ـ بانقضاء المدة أو ظهور شيء من محل الفرض وإن كان عليه لفافة وهو على الطهارة ـ يغسل القدمين دون استئناف الوضوء على الأصح. والماسح في السفر إذا قام يمسح كالمقيم، وهكذا المقيم إذا سافر يمسح كالمسافر. واللبد إذا ركب جورباً ونعل يجوز المسح عليه، ويجوز على المشرج إذا ستر محل الفرض، ولا يجوز على المنسوج وجهه الذي يستر بعض القدم به والباقي باللفافة.(1/117)
فأما القصر والجمع فيجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما. ويتيمم لكل واحدة ولا يفصل بينهما بكلام وغيره. وهكذا الجمع بين المغرب والعشاء. ولا قصر في المغرب والصبح بل يصليهما كهيئتهما من غير قصر وجمع، والسنن الرواتب يصليها بالجمع بين السنتين قبل الفريضتين للظهر والعصر، وبعد الفراغ من الفريضتين يصلي ما يصلي بعد الفريضة من الظهر ركعتين أو أربعاً، وبعد الفراغ من المغرب والعشاء يؤدي السنن الراتبة لهما ويوتر بعدهما. ولا يجوز أداء الفرض على الدابة بحال إلا عند التحام القتال للغازي. ويجوز ذلك في السنن الرواتب والنوافل، وتكفيه الصلاة على ظهر الدابة، وفي الركوع والسجود الإيماء، ويكون إيماء السجود أخفض من الركوع، إلا أن يكون قادراً على التمكن مثل أن يكون في محاورة وغير ذلك، ويقوم توجهه إلى الطريق مقام استقبال القبلة، ولا يوجهها إلى غير الطريق إلا للقبلة حتى لو حرف دابته عن الصوب المتوجه إليه لا إلى نحو القبلة بطلت صلاته. والماشي يتنفل في السفر ويقنعه استقبال القبلة عند الإحرام، ولا يجزئه في الإحرام إلا الاستقبال، ويقنعه الإيماء للركوع والسجود، وراكب الدابة لا يحتاج إلى استقبال القبلة للإحرام أيضاً. وإذا أصبح المسافر مقيماً ثم سافر فعليه إتمام ذلك اليوم في الصوم، وهكذا إن أصبح مسافراً ثم أقام، والصوم في السفر أفضل من الفطر، وفي الصلاة القصر أفضل من الإتمام، فهذا القدر كاف للصوفي أن يعلمه من حكم الشرع في مهام سفره.(1/118)
فأما المندوب والمستحب، فينبغي أن يطلب لنفسه رفيقاً في الطريق يعينه على أمر الدين، وقد قيل: الرفيق ثم الطريق، ونهى رسول الله أن يسافر الرجل وحده، إلا أن يكون صوفياً عالماً بآفة نفسه يختار الوحدة على بصيرة من أمره فلا بأس بالوحدة، وإذا كانوا جماعة ينبغي أن يكون فيهم متقدم أمير، قال رسول الله: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فِي سَفَرٍ فَأَمِّرُوا أَحَدَكُمْ" والذي يسميه الصوفية "بيشر" وهو الأمير وينبغي أن يكون الأمير أزهد الجماعة في الدنيا، وأوفرهم حظاً من التقوى، وأتمهم مروءة وسخاوة، وأكثرهم شفقة.
روى عبد الله بن عمر عن رسول الله قال: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ الله خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ". نقل عن عبد الله المروزي: أن أبا علي الرباطي صحبه فقال: علي أن أكون أنا الأمير أو أنت؟ فقال: بل أنت؛ فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره، وأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد الله طول الليل على رأس رفيقه يغطيه بكسائه من المطر، وكلما قال لا تفعل يقول ألست الأمير وعليك الانقياد والطاعة. فأما إن كان الأمير يصحب الفقراء لمحبة الاستتباع وطلب الرئاسة والتعزز ليتسلط على الخدام في الربط ويبلغ نفسه هواها؛ فهذا طريق أرباب الهوى الجهال المباينين لطريق الصوفية، وهو سبيل من يريد جمع الدنيا، فليتخذ لنفسه رفقاء مائلين إلى الدنيا يجتمعون لتحصيل أغراض النفس والدخول على أبناء الدنيا والظلمة للتوصل إلى تحصيل مأرب النفس، ولا يخلو اجتماعهم هذا عن الخوض في الغيبة والدخول في المداخل المكروهة والنقل في الربط والاستمتاع والنزهة، وكلما كثر المعلوم في الرباط أطالوا المقام وإن تعذرت أسباب الدين، وكلما قل المعلوم رحلوا وإن تيسرت أسباب الدين، وليس هذا طريق الصوفية.(1/119)
ومن المستحب أن يودِّع إخوانه إذا أراد السفر، ويدعو لهم بدعاء رسول الله. قال بعضهم: صحبت عبد الله بن عمر من مكة إلى المدينة، فلما أردت مفارقته شيعني وقال: سمعت رسول الله يقول: "قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الله تَعَالَى إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئاً حَفِظَهُ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ".
وروى زيد بن أرقم عن رسول الله أنه قال: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ سَفَراً فَلْيُوَدِّعْ إِخْوَانَهُ، فَإِنَّ الله تَعَالَى جَاعِلٌ لَهُ فِي دُعَائِهِمُ البَرَكَةَ".
وروي عنه عليه السلام أيضاً أنه كان إذا ودع رجلاً قال: "زَوَّدَكَ الله التَّقوَى، وَوَجَّهَكَ لِلْخَيْرِ حَيْثُما تَوَجَّهْتَ" وينبغي أن يعتقد إخوانه إذا دعا لهم واستودعهم الله أن الله يستجيب دعاءه. فقد روي أن عمر رضي الله عنه كان يعطي الناس عطاياهم، إذ جاء رجل معه ابن له فقال له عمر: ما رأيت أحداً أشبه بأحد من هذا بك؟ فقال الرجل: أحدثك عنه يا أمير المؤمنين، إني أردت أن أخرج إلى سفر وأمه حامل به فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة؟ فقلت: أستودع الله ما في بطنك، فخرجت ثم قدمت فإذا هي قد ماتت؛ فجلسنا نتحدث فإذا نار تلوح على قبرها، فقلت للقوم: ما هذه النار؟ فقالوا: هذه من قبر فلانة نراها كل ليلة، فقلت: والله إنها كانت صوامة قوامة، فأخذت المعول حتى انتهينا إلى القبر فحفرنا وإذا سراج وإذا هذا الغلام يدب، فقيل: إن هذا وديعتك ولو كنت استودعتنا أمه لوجدتها، فقال عمر: لهو أشبه بك من الغراب بالغراب، وينبغي أن يودع كل منزل يرحل عنه بركعتين ويقول: اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنوبي ووجهني للخير أينما توجهت.(1/120)
وروى أنس بن مالك قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام لا ينزل منزلاً إلا ودعه بركعتين، فينبغي أن يودع كل منزل ورباط يرحل عنه بركعتين، وإذا ركب الدابة فليقل: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، بسم الله والله أكبر توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم أنت الحامل على الظهر وأنت المستعان على الأمور. والسنَّة أن يرحل من المنازل بكرة ويبتدىء بيوم الخميس.
روى كعب بن مالك قال: قلما كان رسول الله يخرج إلى السفر إلا يوم الخميس، وكان إذا أراد أن يبعث سرية بعثها أول النهار ويستحب كلما أشرف على منزل أن يقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمواتِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَالأَرَضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينَ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، وَرَبَّ البِحَارِ وَمَا جَرَيْنَ: أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذَا المَنْزِلِ وَخَيْرَ أَهْلِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذَا المَنْزِلِ وَشَرِّ أَهْلِهِ". وإذا نزل فليصل ركعتين، ومما ينبغي للمسافر أن يصحبه آلة الطهارة قيل: كان إبراهيم الخواص لا يفارقة أربعة أشياء في الحضر والسفر: الركّوة، والحبل، والإبرة وخيوطها، والمقراض، وروت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة، والمكحلة، والمدرى، والسواك، والمشط. وفي رواية: المقراض، والصوفية لا تفارقهم العصى، وهي أيضاً من السنة.
روى معاذ بن جبل قال: قال رسول الله: "إِنِ اتَّخَذَ مِنْبَراً فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنِ اتَّخَذَ العَصَا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى"، وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، كان لرسول الله عصا يتوكأ عليها ويأمر بالتوكؤ على العصا؛ وأخذ الركوة أيضاً من السنة.(1/121)
وروى جابر عن عبد الله قال: بينا رسول الله يتوضأ من ركوة إذ جهش الناس نحوه أي أسرعوا نحوه، والأصل فيه البكاء، كالصبي يتلازم بالأم ويسرع إليها عند البكاء، قال فقال رسول الله "مَا لَكُمْ؟" قالوا: يا رسول الله ما نجد ماء نشرب ولا نتوضأ به إلا ما بين يديك؛ فوضع يده في الركوة، فنظرت وهو يفور من بين أصابعه مثل العيون؟ قال: فتوضأ القوم منه. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة في غزوة الحديبية.
ومن سنَّة الصوفية شد الوسط وهو من السنة: روى أبو سعيد قال: حج رسول الله وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة وقال: "ارْبِطُوا عَلَى أَوْسَاطِكُمْ بِأُزرِكُمْ" فربطنا ومشينا خلفه الهرولة.(1/122)
ومن ظاهر آداب الصوفية عند خروجهم من الربط أن يصلي ركعتين في أول النهار يوم السفر بكرة كما ذكرنا، يودع البقعة بالركعتين، ويقدم الخف وينفضه، ويشمر الكم اليمنى ثم اليسرى، ثم يأخذ الميانيد الذي يشد به وسطه ويأخذ خريطة المداس وينفضها، ويأتي الموضع الذي يريد أن يلبس الخف فيفرش السجادة طاقين ويحك نعل أحد المداسين بالآخر، ويأخذ المداس باليسار والخريطة باليمين، ويضع المداس في الخريطة أعقابه إلى أسفل ويشد رأس الخريطة، ويدخل المداس بيده اليسرى من كمه الأيسر ويضعه خلف ظهره، ثم يقعد على السجادة ويقدم الخف بيساره وينفضه، ويبتدىء باليمنى فيلبس، ولا يدع شيئاً من الران أو المنطقة يقع على الأرض، ثم يغسل يديه ويجعل وجهه إلى الموضع الذي يخرج منه ويودع الحاضرين، فإن أخذ بعض الإخوان راويته إلى خارج الرباط لا يمنعه، وهكذا العصا والإبريق، ويودع من شيعه، ثم يشد الراوية برفع يده اليمنى ويخرج اليسرى من تحت إبطه الأيمن ويشد الراوية على الجانب الأيسر، ويكون كتفه الأيمن خالياً وعقدة الراوية عن الجانب الأيمن؛ فإذا وصل في طريقه إلى موضع شريف أو استقبله جمع من الإخوان أو شيخ من الطائفة يحل الراوية ويحطها ويستقبلهم ويسلم عليهم، ثم إذا جاوزوه يشد الراوية، وإذا دنا من منزل ـ رباطاً كان أو غيره ـ يحل الراوية ويحملها تحت إبطه الأيسر، وهكذا العصا والإبريق يمسكه بيساره، وهذه الرسوم استحسنها فقراء خراسان والجبل، ولا يتعهدها أكثر فقراء العراق والشام والمغرب، ويجري بين الفقراء مشاحنة في رعايتها؛ فمن لا يتعهدها يقول: هذه رسوم لا تلزم، والالتزام بها وقوف مع الصور وغفلة عن الحقائق. ومن يتعهدها يقول: هذه آداب وضعها المتقدمون، وإذا رأوا من يخل بها أو بشيء منها ينظرون إليه نظر الازدراء والحقارة ويقال: هذا ليس بصوفي، وكلا الطائفتين في الإنكار يتعدون الواجب.(1/123)
والصحيح في ذلك أن من يتعاهدها لا ينكر عليه، فليس بمنكر في الشرع وهو أدب حسن. ومن لم يلتزم بذلك فلا ينكر عليه فليس بواجب في الشرع ولا مندوب إليه. وكثير من فقراء خراسان والجبل يبالغ في رعاية هذه الرسوم إلى حد يخرج إلى الإفراط، وكثيراً ما يخل بها فقراء العراق والشام والمغاربة إلى حد يخرج إلى التفريط. والأليق أن ما ينكره الشرع ينكر وما لا ينكره لا ينكر، ويجعل لتصاريف الإخوان أعذاراً ما لم يكن فيها منكر أو إخلال بمندوب إليه، والله الموفق.
{الباب الثامن عشر}: في القدوم من السفر ودخول الرباط والأدب فيه
ينبغي للفقير إذا رجع من السفر أن يستعيذ بالله تعالى من آفات المقام كما يستعيذ به من وعثاء السفر. ومن الدعاء المأثور: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المُنْقَلَبِ، وَسُوءِ المَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ"، وإذا أشرف على بلد يريد المقام بها، يشير بالسلام على من بها من الأحياء والأموات ويقرأ من القرآن ما تيسر ويجعله هدية للأحياء والأموات ويكبر، فقد روي أن رسول الله كان إذا قفل من غزو أو حجَ يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث مرات ويقول: "لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنا حَامِدُونَ. صَدَقَ الله وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ".
ويقول إذا رأى البلد: اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً، ولو اغتسل كان حسناً اقتداء برسول الله حيث اغتسل لدخول مكة، وروي أن رسول الله لما رجع من طلب الأحزاب ونزل المدينة نزع لأمته واغتسل، واستحم وإلا فليجدد الوضوء ويتنظف ويتطيب ويستعد للقاء الإخوان بذلك؛ وينوي التبرك بمن هنالك من الأحياء والأموات ويزورهم.(1/124)
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "خَرَجَ رَجُلٌ يَزُورُ أَخاً لَهُ فِي الله فَأَرْصَدَ الله بِمَدْرَجَتِهِ مَلَكاً وَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَزُورُ فُلاناً، قَالَ: لِقَرَابَةٍ؟ قَالَ: لا، قَالَ: لِنِعْمَةٍ لَهُ عِنْدَكَ تَشْكُرُها؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِمَ تَزُورُهُ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهُ فِي الله، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكَ بِأَنَّهُ يُحِبُّكَ بِحُبِّكَ إِيَّاهُ".
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ فِي الله قَالَ الله لَهُ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَيَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلاً" وروي أن رسول الله قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوها فَإِنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ"، فيحصل للفقير فائدة الأحياء والأموات بذلك.(1/125)
فإذا دخل البلد يبتدىء بمسجد من المساجد يصلي فيه ركعتين، فإن قصد الجامع كان أكمل وأفضل. وقد كان رسول الله إذا قدم دخل المسجد أولاً وصلى ركعتين ثم دخل البيت، والرباط للفقير بمنزلة البيت، ثم يقصد الرباط فقصده الرباط من السنة، على ما رويناه عن طلحة رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا قدم المدينة وكان له بها عريف ينزل على عريفه، وإن كان لم يكن له بها عريف نزل الصفة، فكنت ممن أنزل الصفة.(1/126)
فإذا دخل الرباط يمضي إلى الموضع الذي يريد نزع الخف فيه، فيحل وسطه وهو قائم، ثم يخرج الخريطة بيساره من كمه اليسار ويحل رأس الخريطة باليمين ويخرج المداس باليسار، ثم يضع المداس على الأرض ويأخذ الميانيد ويلقيها في وسط الخريطة، ثم ينزع خفه اليسار، فإن كان على الوضوء يغسل قدميه بعد نزع الخف من تراب الطريق والعرق، وإذا قدم على السجادة يطوي السجادة من جانب اليسار، ويمسح قدميه بما انطوى ثم يستقبل القبلة ويصلي ركعتين، ثم يسلم ويحفظ القدم أن يطأ بها موضع السجود من السجادة، وهذه الرسوم الظاهرة التي استحسنها بعض الصوفية لا تنكر على من يتقيد بها لأنه من استحسان الشيوخ، ونيتهم الظاهرة في ذلك: تقييد المريد في كل شيء بهيئة مخصوصة، ليكون أبداً متفقداً لحركاته غير قادم على حركة بغير قصد وعزيمة وأدب، ومن أخل من الفقراء بشيء من ذلك لا ينكر عليه ما لم يخل بواجب أو مندوب؛ لأن أصحاب رسول الله ما تقيدوا بكثير من رسوم المتصوفة، وكون الشبان يطالبون الوارد عليهم بهذه الرسوم من غير نظر لهم إلى النية في الأشياء غلط، فلعل الفقير يدخل الرباط غير مشمر أكمامه، وقد كان في السفر لم يشمر الأكمام فينبه أن لا يتعاطى ذلك لنظر الخلق حيث لم يخل بمندوب إليه شرعاً، وكون الآخر يشمر الأكمام يقيس ذلك على شد الوسط وشد الوسط من السنة كما ذكرنا من شد أصحاب رسول الله أوساطهم في سفرهم بين المدينة ومكة، فتشمير الأكمام في معناه من الخفة والارتفاق به في المشي، فمن كان مشدود الوسط مشمراً يدخل الرباط كذلك، ومن لم يكن في السفر مشدود الوسط أو كان راكباً لم يشد وسطه، فمن الصدق أن يدخل كذلك، ولا يتعمد شد الوسط وتشمير الأكمام لنظر الخلق فإنه تكلف ونظر إلى الخلق، ومبنى التصوف على الصدق وسقوط نظر الخلق، ومما ينكر على المتصوفة أنهم إذا دخلوا الرباط لا يبتدئون بالسلام ويقول المنكر: هذا خلاف المندوب، ولا ينبغي للمنكر أن يبادر إلى الإنكار(1/127)
دون أن يعلم مقاصدهم فيما اعتمدوه وتركهم السلام يحتمل وجوهاً، أحدها: أن السلام اسم من أسماء الله تعالى وقد روى عبد الله بن عمر قال: مر رجل على النبي وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل أن يتوارى، فضرب يده على الحائط ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: "إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلاَمَ إِلاَّ أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ"، وروي أنه لم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه وقال: "إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ الله تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ".
وقد يكون جمع من الفقراء مصطحبين في السفر وقد يتفق لأحدهم حدث، فلو سلم المتوضىء وأمسك المحدث طهر حاله، فيترك السلام حتى يتوضأ من يتوضأ ويغسل قدمه من يغسل ستراً للحال على من أحدث، حتى يكون سلامهم على الطهارة اقتداء برسول الله وقد يكون بعض المقيمين أيضاً على غير طهارة فيستعد لجواب السلام أيضاً بالطهارة؛ لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى؛ وهذا من أحسن ما يذكر من الوجوه في ذلك.
ومنها أنه إذا قدم يعانقه الإخوان وقد يكون معه من آثار السفر والطريق ما يكره فيستعد بالوضوء والنظافة ثم يسلم ويعانقهم.
ومنها أن جميع الرباط أرباب مراقبة وأحوال؛ فلو هجم عليهم بالسلام قد ينزعج منه مراقب ويتشوش محافظ، والسلام يتقدمه استئناس بدخوله واشتغاله بغسل القدم والوضوء وصلاة ركعتين، فيتأهب الجمع له كما يتأهب لهم بعد مسابقة الاستئناس. وقال الله تعالى: {حتَّى تَسْتَأنِسُوا} وللقوم آداب ورد بها الشرع، ومنها آداب استحسنها شيوخهم، فمما ورد به الشرع: ما ذكرنا من شد الوسط والعصا والركوة والابتداء باليمين في لبس الخف وفي نزعه باليسار.(1/128)
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "إِذَا انْتَعَلْتُمْ فَابْدَؤُوا بِاليَمِينِ، وَإِذَا خَلَعْتُمْ فَابْدَؤُوا بِاليَسَار أَو اخْلَعْهُما جَمِيعاً أَوِ انْعَلْهُما جَمِيعاً". روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله كان يخلع اليسرى قبل اليمنى ويلبس اليمنى قبل اليسرى.
وبسط السجادة وردت به السنة وقد ذكرناه. وكون أحدهم لا يقعد على سجادة الآخر مشروع ومسنون، وقد ورد في حديث طويل: "لاَ يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلاَ فِي أَهْلِهِ وَلاَ يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ".
وإذا سلم على الإخوان يعانقهم ويعانقونه، فقد روى جابر بن عبد الله قال: "لما قدم جعفر من أرض الحبشة عانقه النبي " وإن قبلهم فلا بأس بذلك. روي أن رسول الله لما قدم جعفر قبل بين عينيه وقال: "مَا أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَسَرُّ مِنِّي بِقُدُومِ جَعْفَرٍ" ويصافح إخوانه فقد قال عليه السلام: "قُبْلَةُ المُسْلِمِ أَخَاهُ المُصَافَحَةُ". وروى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، الرجل يلقى صديقه وأخاه ينحني له؟ قال: لا. قيل يلزمه ويقبله؟ قال لا. قيل فيصحافحه؟ قال: نعم.
ويستحب للفقراء المقيمين في الرباط أن يتلقوا الفقراء بالترحيب. روى عكرمة قال: قال رسول الله يوم جئته: "مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ المُهَاجِرِ" مرتين. وإن قاموا إليه فلا بأس وهو مسنون. روي عنه عليه السلام أنه قام لجعفر يوم قدومه.
ويستحب للخادم أن يقدم له الطعام. روى لقيط بن صبرة قال: وفدنا على رسول الله فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة رضي الله عنها، فأمرت لنا بالحريرة فصنعت لنا، وأتينا بقناع فيه تمر ـ والقناع الطبق ـ فأكلنا، ثم جاء رسول الله فقال: "أَصَبْتُمْ شَيْئاً؟" قلنا نعم يا رسول الله.(1/129)
ويستحب للقادم أن يقدم للفقراء شيئاً لحق القدوم ورد أن رسول الله لما قدم المدينة نحر جزوراً. وكراهيتهم لقدوم القادم بعد العصر وجهه من السنة منع النبي عن طروق الليل.
والصوفية بعد العصر يستعدون لاستقبال الليل بالطهارة والانكباب على الأذكار والاستغفار روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: "إِذَا قَدِمَ أَحَدُكُمْ مِنْ سَفَرٍ فَلاَ يَطْرُقَنَّ أَهْلَهُ لَيْلاً" وروى كعب بن مالك أن رسول الله كان لا يقدم من السفر إلا نهاراً في الضحى؛ فيستحبون القدوم في أول النهار، فإن فات من أول النهار فقد يتفق تعويق من ضعف بعضهم في المشي أو غير ذلك، فيعذر الفقير بقية النهار إلى العصر لاحتمال التعويق، فإذا صار العصر ينسب إلى تقصيره في الاهتمام بالسنة وقدوم أول النهار فإنهم يكرهون الدخول بعد العصر والله أعلم، فإذا صار العصر يؤخر القدوم إلى الغد ليكون عاملاً بالسنة للقدوم ضحوة، وأيضاً فيه معنى آخر وهو أن الصلاة بعد العصر مكروهة.
ومن الأدب أن يصلي القادم ركعتين؛ فلذلك يكرهون القدوم بعد صلاة العصر، وقد يكون من الفقراء القادمين من يكون قليل الدراية بدخول الرباط ويناله دهشة: فمن السنة التقرب إليه والتودد وطلاقة الوجه حتى ينبسط وتذهب عنه الدهشة، ففي ذلك فضل كثير.
روى أبو رفاعة قال: أتيت رسول الله وهو يخطب فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل النبي وترك خطبته، ثم أتي بكرسي قوائمه من حديد فقعد رسول الله ثم جعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته وأتم آخرها.(1/130)
فأحسن أخلاق الفقراء الرفق بالمسلمين، واحتمال المكروه من المسموع والمرئي، وقد يدخل فقير بعض الربط ويخل بشيء من مراسم المتصوفة فينهر ويخرج، وهذا خطأ كبير؛ فقد يكون خلق من الصالحين والأولياء لا يعرفون هذا الترسم الظاهر ويقصدون الرباط بنية صالحة، فإذا استقبلوا بالمكروه يخشى أن تتشوش بواطنهم من الأذى ويدخل على المنكر عليه ضرر في دينه ودنياه؛ فليحذر ذلك وينظر إلى أخلاق النبي وما كان يعتمده مع الخلق من المداراة والرفق.
وقد صح: أن أعرابياً دخل المسجد وبال؛ فأمر النبي عليه السلام حتى أتي بذنّوب فصب على ذلك. ولم ينهر الأعرابي، بل رفق به وعرّفه الواجب بالرفق واللين. والفظاظة والتغليظ والتسلط على المسلمين بالقول والفعل من النفوس الخبيثة وهو ضد حال المتصوفة، ومن دخل الرباط ممن لا يصلح للمقام به رأساً يصرف من الموضع على ألطف وجه بعد أن يقدم له طعام ويحسن له الكلام، فهذا الذي يليق بسكان الرباط، وما يعتمده الفقراء من تغميز القادم فخلق حسن ومعاملة صالحة وردت به السنة، روى عمر رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله وغلام له حبشي يغمز ظهره فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ فقال: "إِنَّ النَّاقَةَ اقْتَحَمَتْ بي" فقد يحسن الرضا بذلك ممن يغمز في وقت تعبه وقدومه من السفر؛ فأما من يتخذ ذلك عادة ويحب التغميز ويستجلب به النوم ويساكنه حتى لا يفوته فلا يليق بحال الفقراء ـ وإن كان في الشرع جائزاً ـ وكان بعض الفقراء إذا استرسل في الغمز واستلذه واستدعاه يحتلم؛ فيرى ذلك الاحتلام عقوبة استرساله في التغميز، ولأرباب العزائم أمور لا يسعهم فيها الركون إلى الرخص.(1/131)
ومن آداب الفقير، إذا استقر وقعد بعد قدومه أن لا يبتدىء بالكلام دون أن يسأل، ويستحب أن يمكث ثلاثة أيام لا يقصد زيارة أو مشهداً أو غير ذلك مما هو مقصوده من المدينة حتى يذهب عنه وعثاء السفر ويعود باطنه إلى هيئته؛ فقد يكون بالسفر وعوارضه تغير باطنه وتكدر حتى تجتمع في الثلاثة أيام همته وينصلح باطنه ويستعد للقاء المشايخ والزيارات بتنوير الباطن؛ فإن باطنه إذا كان منوراً يستوفي حظه من الخير من كل شيخ وأخ يزوره، وقد كنت أسمع شيخنا يوصي الأصحاب ويقول: لا تكلموا أهل هذا الطريق إلا في أصفى أوقاتكم، وهذا فيه فائدة كبيرة، فإن نور الكلام على قدر نور القلب، ونور السمع على قدر نور القلب، فإذا دخل على شيخ أو أخ وزاره ينبغي أن يستأذنه إذا أراد الانصراف؛ فقد روى عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "إِذَا زَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَجَلَسَ عِنْدَهُ فَلاَ يَقُومَنَّ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ" وإن نوى أن يقيم أياماً وفي وقته سعة ولنفسه إلى البطالة وترك العمل تشوف أن يطلب خدمة يقوم بها، وإن كان دائم العمل لربه فكفى بالعبادة شغلاً لأن الخدمة لأهل العبادة تقوم مقام العبادة، ولا يخرج من الرباط إلا بإذن المقدم فيه، ولا يفعل شيئاً دون أن يأخذ رأيه فيه.
فهذه جمل أعمال يعتمدها الصوفية وأرباب الربط، والله تعالى بفضله يزيدهم توفيقاً وتأديباً.
{الباب التاسع عشر}: في حال الصوفي المتسبب(1/132)
اختلف أحوال الصوفية في الوقوف مع الأسباب والإعراض عن الأسباب؛ فمنهم من كان على الفتوح لا يركن إلى معلوم ولا يتسبب بكسب ولا سؤال؛ ومنهم من كان يكتسب، ومنهم من كان يسأل في وقت فاقته، ولهم في كل ذلك أدب وحد يراعونه ولا يتعدونه، وإذا كان الفقير يسوس نفسه بالعلم يأتيه الفهم من الله تعالى في الذي يدخل فيه من سبب أو ترك سبب، فلا ينبغي للفقير أن يسأل مهما أمكن؛ فقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على ترك السؤال بالترغيب والترهيب، فأما الترغيب فما روى ثوبان قال: قال رسول الله: "مَنْ يَضْمَنُ لِي وَاحِدَةً أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالجَنَّةِ". قال ثوبان: قلت أنا. قال: "لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئاً"، فكان ثوبان تسقط علاقة سوطه فلا يأمر أحداً يناوله وينزل هو ويأخذها.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ، فَإِنَّ اليَدَ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".(1/133)
أخبرنا الشيخ الصالح أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرني والدي، قال: أخبرنا أبو محمد الصيرفي ببغداد قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: حدثنا شعبة عن أبي حمزة، قال: سمعت هلال بن حصين قال: "أتيت المدينة فنزلت دار أبي سعيد فضمني وإياه المجلس فحدث أنه أصبح ذات يوم وليس عندهم طعام فأصبح وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع، فقالت لي امرأتي: ائت رسول الله فقد أتاه فلان فأعطاه وأتاه فلان فأعطاه قال: فأتيته وقلت ألتمس شيئاً فذهبت أطلب فانتهيت إلى رسول الله وهو يخطب ويقول: "مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ الله وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ سَأَلَنَا شَيْئاً فَوَجَدْنَاهُ أَعْطَيْنَاهُ وَوَاسَيْنَاهُ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ عَنْهُ وَاسْتَغْنَى فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلَنَا"، قال: فرجعت وما سألته فرزقني الله تعالى" حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منه.(1/134)
وأما من حيث الترهيب والتحذير: فقد روي عن رسول الله أنه قال: "لاَ تَزَالُ المَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمُ حَتَّى يَلْقَى الله، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مَزْعَةُ لَحْمٍ" وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ وَلاَ يُفْطَنُ بِمَكِانِهِ فَيُعْطَى" هذا هو حال الفقير الصادق، والمتصوف المحقق لا يسأل الناس شيئاً، ومنهم من يلزم الأدب حتى يؤديه إلى حال يستحي من الله تعالى أن يسأله شيئاً من أمر الدنيا حتى إذا همت النفس بالسؤال ترده الهيبة ويرى الإقدام على السؤال جرأة فيعطيه الله تعالى عند ذلك من غير سؤال؛ كما نقل عن إبراهيم الخليل عليه السلام: أنه جاءه جبريل وهو في الهواء، قبل أن يصل إلى النار فقال هل لك من حاجة؟ فقال: "أما إليك فلا، فقال له: فسل ربك، فقال حسبي من سؤالي علمه بحالي" وقد يضعف عن مثل هذا فيسأل الله عبودية ولا يرى سؤال المخلوقين، فيسوق الله تعالى إليه القسم من غير سؤال مخلوق.(1/135)
بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يقول: إذا وجد الفقير نفسه مطالبة بشيء لا تخلو تلك المطالبة إما أن تكون لرزق يريد الله أن يسوقه إليه، فتنبه النفس له، فقد تتطلع نفوس بعض الفقراء إلى ما سوف يحدث وكأنها تخبر بما يكون، وإما أن يكون ذلك عقوبة لذنب وجد منه، فإذا وجد الفقير ذلك، وألحت النفس بالمطالبة فليقم ويسبغ الوضوء ويصل ركعتين ويقول: يا رب إن كانت هذه المطالبة عقوبة ذنب فأستغفرك وأتوب إليك، وإن كانت لرزق قدرته لي فعجل وصوله إلي، فإن الله تعالى يسوقه إليه إن كان رزقه وإلا فتذهب المطالبة عن باطنه، فشأن الفقير أن ينزل حوائجه بالحق، فإما أن يرزقه الشيء أو الصبر أو يذهب ذلك عن قلبه، فللَّه سبحانه وتعالى أبواب من طريق الحكمة وأبواب من طريق القدرة، فإن فتح باباً من طريق الحكمة وإلا فيفتح باباً من طريق القدرة ويأتيه الشيء بخرق العادة، كما كان يأتي مريم عليها السلام: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أنَّى لكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} حكي عن بعض الفقراء قال: جعت ذات يوم وكان حالي أن لا أسأل، فدخلت بعض المحال ببغداد مجتازاً متعرضاً لعل الله تعالى يفتح لي على يد بعض عباده شيئاً فلم يقدّر، فنمت جائعاً فأتى آت في منامي فقال لي: اذهب إلى موضع كذا ـ وعين الموضع ـ فثم خرقة زرقاء فيها قطيعات أخرجها في مصالحك، فمن تجرد عن المخلوقين وتفرد بالله فقد تفرد بغنى قادر لا يعجزه شيء يفتح عليه من أبواب الحكمة والقدرة كيف شاء، وأولى من سأل نفسه يسألها الصبر الجميل فإن الصادق تجيبه نفسه.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ولده جاء إليه ذات يوم وقال له: أريد حبة، قال: فقلت له: ما تفعل بالحبة؟ فذكر شهوة يشتريها بالحبة، ثم قال: عن إذنك أذهب وأستقرض الحبة، قال: قلت نعم استقرضها من نفسك فهي أولى من أقرض. وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:(1/136)
إذا شئت أن تستقرضَ المالَ مُنْفقاً < على شهواتِ النَّفْسِ في زَمَنِ العُسرِ
فَسلْ نفسك الإنفاقَ من كنز صبرها < عليك وإرفاقاً إلى زمن اليُسْرِ
فإن فعلت كنت الغنيَّ وإن أبت < فكل منوع بعدها واسع العُذرِ
فإذا استنفد الفقير الجهد من نفسه وأشرف على الضعف وتحققت الضرورة وسأل مولاه ولم يقدر له بشيء ووقته يضيق عن الكسب من شغله بحاله، فعند ذلك يقرع باب السبب ويسأل؛ فقد كان الصالحون يفعلون ذلك عند فاقتهم.
نقل عن أبي سعيد الخراز أنه كان يمد يده عند الفاقة ويقول: ثمّ شيء لله.
ونقل عن أبي جعفر الحداد وكان أستاذاً للجنيد أنه كان يخرج بين العشاءين ويسأل من باب أو بابين، ويكون ذلك معلومه على قدر الحاجة بعد يوم أو يومين.
ونقل عن إبراهيم بن أدهم أنه كان معتكفاً بجامع البصرة مدة وكان يفطر في كل ثلاث ليال ليلة، وليلة إفطاره يطلب من الأبواب.
ونقل عن سفيان الثوري أنه كان يسافر من الحجاز إلى صنعاء اليمن ويسأل في الطريق وقال: كنت أذكر لهم حديثاً في الضيافة فيقدم لي الطعام فأتناول حاجتي وأترك ما يبقى، وقد ورد: "من جاع ولم يسأل فمات دخل النار" ومن عنده علم وله مع الله حال لا يبالي بمثل هذا بل يسأل بالعلم ويمسك عن السؤال بالعلم.(1/137)
وحكى بعض مشايخنا عن شخص كان مصراً على المعاصي، ثم انتبه وتاب، وحسنت توبته وصار له حال مع الله تعالى قال: عزمت أن أحج مع القافلة ونويت أن لا أسأل أحداً شيئاً وأكتفي بعلم الله بحالي، قال: فبقيت أياماً في الطريق، ففتح الله عليَّ بالماء والزاد في وقت الحاجة، ثم وقف الأمر ولم يفتح الله علي بشيء، فجعت وعطشت حتى لم يبق لي طاقة، فضعفت عن المشي وبقيت أتأخر عن القافلة قليلاً قليلاً حتى مرت القافلة، فقلت في نفسي: هذا الآن مني إلقاء النفس إلى التهلكة، وقد منع الله من ذلك، وهذه مسألة الاضطرار أسأل، فلما هممت بالسؤال انبعث من باطني إنكار لهذه الحال وقلت: عزيمة عقدتها مع الله لا أنقضها وهان عليَّ الموت دون نقض عزيمتي، فقصدت شجرة وقعدت في ظلها وطرحت رأسي استطراحاً للموت وذهبت القافلة، فبينا أنا كذلك إذ جاءني شاب متقلد بسيف وحركني، فقمت وفي يده إداوة فيها ماء فقال لي: اشرب؛ فشربت ثم قدم لي طعاماً وقال: كل، فأكلت، ثم قال لي: أتريد القافلة؛ فقلت: من لي بالقافلة وقد عبرت فقال لي: قم، وأخذ بيدي ومشى معي خطوات ثم قال لي: اجلس فالقافلة إليك تجيء، فجلست ساعة فإذا أنا بالقافلة ورائي متوجهة إليَّ. هذا شأن من يعامل مولاه بالصدق.(1/138)
وذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله: أن بعض الصوفية أول قول رسول الله: "أَحَلُّ مَا أَكَلَ المُؤْمِنُ مِنْ مكَسْبِ يَدِهِ" بأنه المسألة عند الفاقة، وأنكر الشيخ أبو طالب هذا التأويل من هذا الصوفي، وذكر أن جعفر الخلدي كان يحكي هذا التأويل عن شيخ من شيوخ الصوفية، ووقع لي والله أعلم أن الشيخ الصوفي لم يرد بكسب اليد ما أنكر الشيخ أبو طالب منه، وإنما أراد بكسب اليد رفعها إلى الله تعالى عند الحاجة، فهو من أحل ما يأكله إذا أجاب الله سؤاله وساق إليه رزقه. وقال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إنِّي لِمَا أنْزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ}{إني لما أنزلت إلي من خير فقير} لم يسأل الكليم الخلق وإنما كان سؤاله من الحق، ولم يسأل غذاء النفس إنما أراد سكون القلب.
وقال أبو سعيد الخراز: الخلق مترددون بين ما لهم وبين ما إليهم، من نظر إلى ماله تكلم بلسان الفقر، ومن شاهد ما إليه تكلم بلسان الخيلاء والفخر، ألا ترى حال الكليم عليه السلام لما شاهد خواص ما خاطبه به الحق كيف قال: أرني أنظر أليك؟ ولما نظر إلى نفسه كيف أظهر الفقر وقال: إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير؟ وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية فخشع وخضع، وتكلم بلسان الافتقار بما ورد على سره من الأنوار، افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله، لا افتقار سؤال وطلب. وقال الحسين: فقير لما خصصتني من علم اليقين أن ترقيني إلى عين اليقين وحقه، ووقع والله أعلم في قوله: {لِمَا أنْزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيرٍ فَقيرٌ} أن الإنزال مشعر ببعد رتبته عن حقيقة القرب فيكون الإنزال عين الفقر فما قنع بالمنزل وأراد قرب المنزل، ومن صح فقره ففقره في أمر آخرته كفقره في أمر دنياه، ورجوعه إليه في الدارين وإياه يسأل حوائج المنزلين، وتتساوى عنده الحاجتان فما له مع غير الله شغل في الدارين.
{الباب العشرون}: في ذكر من يأكل من الفتوح(1/139)
إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه بحكم الوقت عليه يترك التسبب وينكشف له صريح التوحيد وصحة الكفالة من الله الكريم، فيزول عن باطنه الاهتمام بالأقسام ويكون مقدمة هذا أن يفتح الله له باباً من التعريف بطريق المقابلة على كل فعل يصدر منه حتى لو جرى عليه يسير من ذنب بحسب حاله أو الذنب مطلقاً مما هو منهيّ عنه في الشرع يجد غب ذلك في وقته أو يومه، كان يقول بعضهم: إني لأعرف ذنبي في سوء خلق غلامي، وقيل: إن بعض الصوفية قرض الفار خفه فلما رآه تألم وقال:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي < بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا(1/140)
إشارة منه إلى أن الداخل عليه مقابلة له على شيء استوجب به ذلك، فلا تزال به المقابلات متضمنة للتعريفات الإلهية حتى يتحصن بصدق المحاسبة وصفاء المراقبة عن تضييع حقوق العبودية ومخالفة حكم الوقت، ويتجرد له حكم فعل الله وتنمحي عنده أفعال غير الله فيرى المعطي والمانع هو الله سبحانه ذوقاً وحالاً لا علماً وإيماناً، ثم يتداركه الحق تعالى بالمعونة ويوقفه على صريح التوحيد وتجريد فعل الله تعالى، كما حكي عن بعضهم أنه خطر له خاطر الاهتمام بالرزق فخرج إلى بعض الصحارى فرأى قنبرة عمياء عرجاء ضعيفة فوقف متعجباً منها متفكراً فيما تأكل مع عجزها عن الطيران والمشي والرؤية، فبينما هو كذلك إذ انشقت الأرض وخرجت سكرجتان في إحداهما سمسم نقي وفي الأخرى ماء صافٍ فأكلت من السمسم وشربت من الماء ثم انشقت الأرض وغابت السكرجتان، قال: فلما رأيت ذلك سقط عن قلبي الاهتمام بالرزق فإذا أوقف الحق عبده في هذا المقام يزيل عن باطنه الاهتمام بالأقسام ويرى الدخول في التسبب والتكسب بالسؤال وغيره رتبة العوام ويصير مسلوب الاختيار غير متطلع إلى الأغيار ناظراً إلى فعل الله تعالى منتظراً لأمر الله فتساق إليه الأقسام ويفتح عليه باب الإنعام، ويكون بدوام ملاحظته لفعل الله وترصده ما يحدث من أمر الله تعالى مكاشفاً له تجليات من الله تعالى بطريق الأفعال، والتجلي بطريق الأفعال رتبة من القرب ومنه يترقى إلى التجلي بطريق الصفات، ومن ذلك يترقى إلى تجلي الذات والإشارة في هذه التجليات إلى رتب في اليقين ومقامات في التوحيد شيء فوق شيء وشيء أصفى من شيء، فالتجلي بطريق الأفعال يحدث صفو الرضا والتسليم، والتجلي بطريق الصفات يكسب الهيبة والأنس، والتجلي بالذات يكسب الفناء والبقاء، وقد يسمى ترك الاختيار والوقوف مع فعل الله فناء يعنون به فناء الإرادة، والهوى والإرادة ألطف أقسام الهوى، وهذا الفناء هو الفناء الظاهر، فأما الفناء الباطن وهو محو آثار(1/141)
الوجود عند لمعان نور الشهود يكون في تجلي الذات وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا، فأما تجلي حكم الذات فلا يكون إلا في الآخرة وهو المقام الذي حظي به رسول الله ليلة المعراج ومنع عنه موسى بلن تراني، فليعلم أن قولنا في التجلي إشارة إلى رتب الحظ من اليقين ورؤية البصيرة، فإذا وصل العبد إلى مبادىء أقسام التجلي وهو مطالعة الفعل الإلهي مجرداً عن فعل سواه يكون تناوله الأقسام من الفتوح.
روي عن رسول الله أنه قال: "مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هذَا الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافٍ فَلْيَأْخُذْهُ وَلْيُوَسِّعْ بِهِ فِي رِزْقِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ غِنًى فَلْيَدْفَعْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ" وفي هذا دلالة ظاهرة على أن العبد يجوز أن يأخذ زيادة على حاجته بنية صرفه إلى غيره، وكيف لا يأخذ وهو يرى فعل الله تعالى؟ ثم إذا أخذ فمنهم من يخرجه إلى المحتاج، ومنهم من يقف في الإخراج أيضاً حتى يرد عليه من الله علم خاص ليكون أخذه بالحق وإخراجه بالحق.(1/142)
أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر قال: أخبرنا والدي الحافظ أبو الفضل المقدسي قال: أخبرنا أبو إسحاق بن سعيد الحبال قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن سعيد قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن عمرو قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزى، عن عبيد الله السعدي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول له أعطه يا رسول الله من هو أفقر مني فقال رسول الله: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُتَشَرِّفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَالاً فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ" قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً شيئاً ولا يرد شيئاً أعطيه. درج رسول الله الأصحاب بأوامره إلى رؤية فعل الله تعالى والخروج من تدبير النفس إلى حسن تدبير الله تعالى.
سئل سهل بن عبد الله التستري عن علم الحال قال: هو ترك التدبير ولو كان هذا في واحد لكان من أوتاد الأرض.
وروى زيد بن خالد قال: قال رسول الله: "مَنْ جَاءَهُ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافٍ فَلْيَقْبَلْهُ فَإِنَّما هُوَ شَيْءٌ مِنْ رِزْقِ الله تَعَالَى سَاقَهُ الله إِلَيْهِ".(1/143)
وهذا العبد الواقف مع الله تعالى في قبول ما ساق الحق آمن ما يخشى عليه، إنما يخشى على من يرد، لأن من رد لا يأمن من دخول النفس عليه أن يرى بعين الزهد، ففي أخذه إسقاط نظر الخلق تحققاً بالصدق والإخلاص، وفي إخراجه إلى الغير إثبات حقيقته، فلا يزال في كلا الحالين زاهداً يراه الغير بعين الرغبة لقلة العلم بحاله، وفي هذا المقام يتحقق الزهد في الزهد. ومن أهل الفتوح من يعلم دخول الفتوح عليه، ومنهم من لا يعلم دخول الفتوح عليه، فمنهم من لا يتناول من الفتوح إلا إذا تقدمه علم بتعريف من الله إياه. ومنهم من يأخذ غير متطلع إلى تقدم العلم حيث تجرد له الفعل، ومن لا ينتظر تقدمة العلم فوق من ينتظر تقدمة العلم لتمام صحبته مع الله وانسلاخه من إرادته وعلم حاله في ترك الاختيار ومنهم من يدخل الفتوح عليه لا بتقدمة العلم ولا رؤية تجرد الفعل من الله، ولكن يرزق شرباً من المحبة بطريق رؤية النعمة، وقد يتكدر شرب هذا بتغير معهود النعمة، وهذا حال ضعيف بالإضافة إلى الحالين الأولين لأنه علة في المحبة ووليجة في الصدق عند الصديقين. وقد ينتظر صاحب الفتوح العلم في الإخراج أيضاً كما ينتظر في الأخذ لأن النفس تظهر في الإخراج كما تظهر في الأخذ. وأتم من هذا من يكون في إخراجه مختاراً وفي أخذه مختاراً بعد تحققه بصحة التصرف فإن انتظار العلم إنما كان لموضع اتهام النفس وهو بقية هوى موجود فإذا زال الاتهام بوجود صريح العلم يأخذ غير محتاج إلى علم متجدد ويخرج كذلك، وهذه حال من تحقق بقول رسول الله حاكياً عن ربه "فَإِذَا أَحبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعاً وَبَصَراً، فَبي يَسْمَعُ وَبي يُبْصِرُ، وَبي يَنْطِقُ" الحديث فلما صح تعرفه صح تصرفه، وهذا أعز في الأحوال في الكبريت الأحمر.(1/144)
وكان شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي رحمه الله يحكي عن الشيخ حماد الدباس أنه كان يقول: أنا لا آكل إلا من طعام الفضل فكان يرى الشخص في المنام أن يحمل إليه شيئاً وقد كان يعين للرائي في المنام أن أحمل إلى حماد كذا وكذا. وقيل إنه بقي زماناً يرى هو في واقعته أو منامه إنك أحلت على فلان بكذا وكذا.
وحكي عنه أنه كان يقول: كل جسم تربَّى بطعام الفضل لا يتسلط عليه البلاء. ويعني بطعام الفضل ما شهد له صحة الحال من فتوح الحق ومن كانت هذه حالته فهو غني بالله.(1/145)
قال الواسطي: الافتقار إلى الله أعلى درجة المريدين والاستغناء بالله أعلى درجة الصديقين. وقال أبو سعيد الخراز: العارف تدبيره فني في تدبير الحق فالواقف مع الفتوح واقف مع الله ناظر إلى الله، وأحسن ما حكي في هذا: أن بعضهم رأى النوري يمد يده ويسأل الناس؛ قال: فاستعظمت ذلك منه واستقبحته له فأتيت الجنيد وأخبرته فقال لي: لا يعظم هذا عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم سؤلهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضره، وقول الجنيد ليعطيهم كقول بعضهم اليد العليا يد الآخذ لأنه يعطي الثواب، قال: ثم قال الجنيد هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال احملها إليه فقلت في نفسي إنما يزن ليعرف مقدارها فكيف خلط المجهول بالموزون وهو رجل حكيم واستحييت أن أسأله فذهبت بالصرة إلى النوري فقال: هات الميزان فوزن مائة درهم وقال: ردها وقل له أنا لا أقبل منك شيئاً وأخذ ما زاد على المائة قال: فزاد تعجبي فسألته عن ذلك، فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلباً للثواب وطرح عليها قبضة بلا وزن لله فأخذت ما كان لله ورددت ما جعله لنفسه، قال: فرددتها على الجنيد فبكى وقال: أخذ ما له ورد ما لنا، ومن لطائف ما سمعت من أصحاب شيخنا أنه قال ذات يوم لأصحابه: نحن محتاجون إلى شيء من المعلوم فارجعوا إلى خلواتكم واسألوا الله تعالى وما يفتح الله تعالى لكم ائتوني به ففعلوا ثم جاءه من بينهم شخص يعرف بإسماعيل البطائحي ومعه كاغد عليه ثلاثون دائرة وقال هذا الذي فتح الله لي في واقعتي فأخذ الشيخ الكاغد فلم يكن إلا ساعة فإذا بشخص دخل ومعه ذهب فقدمه بين يدي الشيخ ففتح القرطاس وإذا هو ثلاثون صحيحة فترك كل صحيح على دائرة وقال: هذا فتوح الشيخ إسماعيل أو كلاماً هذا معناه.(1/146)
وسمعت أن الشيخ عبد القادر رحمه الله بعث إلي شخص وقال: لفلان طعام وذهب ائتني من ذلك بكذا ذهباً وكذا طعاماً، فقال الرجل: كيف أتصرف في وديعة عندي ولو استفتيتك ما أفتيتني بالتصرف؟ فألزمه الشيخ بذلك فأحسن الظن بالشيخ وجاء إليه بالذي طلب، فلما وقع التصرف منه جاءه مكتوب من صاحب الوديعة وهو غائب في بعض نواحي العراق أن أحمل إلى الشيخ عبد القادر كذا وكذا وهو القدر الذي عينه الشيخ عبد القادر، فعاتبه الشيخ بعد ذلك على توقفه وقال ظننت بالفقراء أن إشاراتهم تكون على غير صحة وعلم فالعبد إذا صح مع الله تعالى وأفنى هواه متطلباً رضا الله تعالى يرفع الله عن باطنه هموم الدنيا ويجعل الغنى في قلبه ويفتح عليه أبواب الرفق، وكل الهموم المتسلطة على بعض الفقراء لكون قلوبهم ما استكملت الشغل بالله والاهتمام برعاية حقائق العبودية، فعلى قدر ما خلت من الهم بالله ابتليت بهم الدنيا ولو امتلأت من هم الله ما عذبت بهموم الدنيا وقنعت وارتقت. روي أن عوف بن عبد الله المسعودي كان له ثلاثمائة وستون صديقاً وكان يكون عند كل واحد يوماً، وآخر كان له ثلاثون صديقاً يكون عند كل واحد يوماً، وآخر كان له سبعة إخوان يكون كل يوم من الأسبوع عند واحد؛ فكان إخوانهم معلومهم والمعلوم إذا أقامه الحق للناظر إلى الله الكامل توحيده يكون نعمة هنيئة.
جاء رجل إلى الشيخ أبي السعود رحمه الله ـ وكان من أرباب الأحوال السنية والواقفين في الأشياء مع فعل الله تعالى متمكناً من حاله تاركاً لاختياره؛ ولعله سبق كثيراً من المتقدمين في تحقيق ترك الاختيار، رأينا منه وشاهدنا أحوالاً صحيحة عن قوة وتمكين ـ فقال له الرجل: أريد أن أعين لك شيئاً كل يوم من الخبز أحمله إليك ولكني قلت الصوفية يقولون المعلوم شؤم. قال الشيخ: نحن ما نقول المعلوم شؤم فإن الحق يصفى لنا وفعله نرى فكل ما يقسم لنا نراه مباركاً ولا نراه شؤماً.(1/147)
أخبرنا أبو زرعة إجازة، قال: أنبأنا أبو بكر بن أحمد بن خلف الشيرازي إجازة، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا بكر بن شاذان قال: سمعت أبا بكر الكتاني قال: كنت أنا وعمرو المكي وعياش بن المهدي نصطحب ثلاثين سنة نصلي الغداة على طهر العصر، وكنا قعوداً بمكة على التجريد ما لنا على الأرض ما يساوي فلساً؛ وربما كان يصحبنا الجوع يوماً ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة ولا نسأل أحداً، فإن ظهر لنا شيء وعرفنا وجهه من غير سؤال ولا تعريض قبلناه وأكلناه وإلا طوينا؛ فإذا اشتد بنا الأمر وخفنا على أنفسنا النقصان في الفرائض قصدنا أبا سعيد الخراز فيتخذ لنا ألواناً من الطعام ولا نقصد غيره ولا نتبسط إلا إليه لما نعرف من تقواه وورعه، وقيل لأبي يزيد: ما نراك تشتغل بكسب فمن أين معاشك؟ فقال: مولاي يرزق الكلب والخنزير تراه لا يرزق أبا يزيد؟ قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت مظفراً القرميسني يقول: الفقير الذي لا يكون له إلى الله حاجة، وقيل لبعضهم: ما الفقر؟ قال: وقوف الحاجة على القلب ومحوها من كل أحد سوى الرب.(1/148)
وقال بعضهم: أخذ الفقير الصدقة ممن يعطيه لا ممن تصل إليه على يده. ومن قبل من الوسائط فهو المترسم بالفقر مع دناءة همته، أنبأنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي قال: أخبرنا عصام الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن منصور الصفار، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت أن أبا سليمان الداراني كان يقول: آخر أقدام الزاهدين أول أقدام المتوكلين، روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال: لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني رزقي فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد أن يتلف فقال: يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك فألهمه الله تعالى في قلبه وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس؛ فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك فسمع هاتفاً أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا، أما علمت أن يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بأيدي القدرة فالواقف مع الفتوح استوى عنده أيدي الآدميين وأيدي الملائكة، واستوى عنده القدرة والحكمة وطلب القفار والتوصل إلى قطع الأسباب من الارتهان برؤية الأسباب وإذا صح التوحيد تلاشت الأسباب في عين الإنسان.(1/149)
أخبرنا شيخنا، قال: أخبرنا أبو حفص عمر قال: أخبرنا أحمد بن خلف قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن حمدان العكبري، قال: سمعت أحمد بن محمود بن اليسري يقول: سمعت محمداً الإسكاف يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من استفتح باب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وكل إلى المخلوقين، قال بعض المنقطعين كنت ذا صنعة جليلة فأريد مني تركها فحاك في صدري من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف لا أراه تنقطع إلي وتتهمني في رزقك على أن أخدمك ولياً من أوليائي أو أسخر لك منافقاً من أعدائي، فلما صح حال الصوفي وانقطعت أطماعه وسكنت عن كل تشوف وتطلع خدمته الدنيا، وصلحت له الدنيا خادمة وما رضيها مخدومة، فصاحب الفتوح يرى حركة النفس بالتشوف جناية وذنباً.(1/150)
روي أن أحمد ابن حنبل خرج ذات يوم إلى شارع باب الشام فاشترى دقيقاً ولم يكن في ذلك الموضع من يحمله فوافى أيوب الحمال فحمله ودفع إليه أحمد أجرته، فلما دخل الدار بعد إذنه له اتفق أن أهل الدار قد خبزوا ما كان عندهم من الدقيق وتركوا الخبز على السرير ينشف فرآه أيوب وكان يصوم الدهر، فقال أحمد لابنه صالح ادفع إلى أيوب من الخبز فدفع له رغيفين فردهما، قال أحمد: ضعهما ثم صبر قليلاً ثم قال خذهما فالحقه بهما فلحقه فأخذهما فرجع صالح متعجباً فقال له أحمد: عجبت من رده وأخذه؟ قال نعم، قال هذا رجل صالح فرأى الخبز فاستشرفت نفسه إليه فلما أعطيناه مع الاستشراف رده ثم أيس فرددناه إليه بعد الإياس فقبل. هذا حال أرباب الصدق إن سألوا سألوا بعلم وإن أمسكوا عن السؤال أمسكوا بحال، وإن قبلوا قبلوا بعلم فمن لم يرزق حال الفتوح فله حال السؤال والكسب بشرط العلم فأما السائل مستكثراً فوق الحاجة لا في وقت الضرورة فليس من الصوفية بشيء. سمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل فقال لمن عنده ألم أقل لك عشِّ السائل؟ فقال: قد عشيته؛ فنظر عمر فإذا تحت إبطه مخلاة مملوءة خبزاً؛ فقال عمر: ألك عيال؟ فقال: لا، فقال عمر: لست بسائل ولكنك تاجر، ثم نثر مخلاته بين يدي أهل الصدقة وضربه بالدرة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن لله تعالى في خلقه مثوبات فقر وعقوبات فقر، فمن علامة الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن خلقه ويطيع ربه ولا يشكو حاله ويشكر الله تعالى على فقره، ومن علامة الفقر إذا كان عقوبة أن يسوء خلقه ويعصي ربه ويكثر الشكاية ويتسخط للقضاء فحال الصوفية حسن الأدب في السؤال، والفتوح والصدق مع الله على كل حال كيف تقلب.
{الباب الحادي والعشرون}: في شرح حال المتجرد والمتأهل من الصوفية وصحة مقاصدهم(1/151)
الصوفي يتزوج لله كما يتجرد لله، فلتجرده مقصد وأوان، ولتأهله مقصد وأوان، والصادق يعلم أوان التجرد والتأهل لأن الطبع الجموح للصوفي ملجم بلجام العلم. مهما يصلح له التجرد لا يستعجله الطبع إلى التزوج ولا يقدم على التزوج إلا إذا انصلحت النفس واستحقت إدخال الرفق عليها؛ وذلك إذا صارت منقادة مطواعة مجيبة إلى ما يراد منها بمثابة الطفل الذي يتعاهد بما يروق له ويمنع عما يضره. فإذا صارت النفس محكومة مطواعة فقد فاءت إلى أمر الله وتنصلت عن مشاحّة القلب فيصلح بينهما بالعدل وينظر في أمرهما بالقسط. ومن صبر من الصوفية على العزوبة هذا الصبر إلى حين بلوغ الكتاب أجله ينتخب له الزوجة انتخاباً، ويهيىء الله له أعواناً وأسباباً، وينعم برفيق يدخل عليه ورزق يساق إليه ومتى استعجل المريد واستفزه الطبع وخامره الجهل بثوران دخان الشهوة المطفئة لشعاع العلم وانحط من أوج العزيمة الذي هو قضية حاله وموجب إرادته وشريطة صدق طلبه إلى حضيض الرخصة التي هي رحمة من الله تعالى لعامة خلقه يحكم عليه بالنقصان ويشهد له بالخسران ومثل هذا الاستعجال هو حضيض الرجال. قال سهل بن عبد الله التستري: إذا كان للمريد مال يتوقع به زيادة فدخل عليه الابتلاء فرجوعه في الابتلاء إلى حال دون ذلك نقصان وحدث. وسمعت بعض الفقراء، وقد قيل له: لم لا تتزوج؟ فقال: المرأة لا تصلح إلا للرجال وأنا ما بلغت مبلغ الرجال فكيف أتزوج؟ فالصادقون لهم أوان بلوغ عنده يتزوجون.(1/152)
وقد تعارضت الأخبار وتماثلت الآثار في فضيلة التجريد والتزويج وتنوع كلام رسول الله في ذلك لتنوع الأحوال، فمنهم من فضيلته في التجريد، ومنهم من فضيلته في التأهل، وكل هذا التعارض في حق من نار توقانه برد وسلام لكمال تقواه وقهره هواه، وإلا ففي غير هذا الرجل الذي يجب عليه الفتنة يجب النكاح في حال التوقان المفرط ويكون الخلاف بين الأئمة في غير التائق، فالصوفي إذا صار متأهلاً يتعين على الإخوان معاونته بالإيثار ومسامحته في الاستكثار إذا رئي ضعيف الحال قاصراً عن رتبة الرجال كما وصفنا من صبر حتى ظفر لما بلغ الكتاب أجله.(1/153)
أخبرنا أبو زرعة عن والده أبي الفضل المقدسي الحافظ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الخطيب قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبيد الله ابن أخي ميمي قال: أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن هارون قال: أنبأنا أبو المغيرة، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن عوف بن مالك قال: كان رسول الله إذا جاءه فيء قسمه في يومه فأعطى المتأهل حظين والعزب حظاً واحد؛ فدعينا وكنت أدعى قبل عمار بن ياسر فأعطاني حظين، وأعطاه حظاً واحداً فسخط حتى عرف ذلك رسول الله في وجهه ومن حضره، فبقيت معه سلسلة من ذهب فجعل رسول الله يرفعها بطرف عصاه وتسقط وهو يقول: "كَيْفَ أَنْتُمْ يَوْمَ يُكْثَرُ لَكُمْ مِنْ هذَا؟" فلم يجبه أحد، فقال عمار: وددنا يا رسول الله لو قد أكثر لنا من هذا؛ فالتجرد عن الأزواج والأولاد أعون على الوقت للفقير وأجمع لهمه وألذ لعيشه ويصلح للفقير في ابتداء أمره قطع العلائق ومحو العوائق والتنقل في الأسفار وركوب الأخطار والتجرد عن الأسباب والخروج عن كل ما يكون حجاباً، والتزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص ورجوع من التروح إلى النغص وتقيد بالأولاد والأزواج ودوران حول مظان الاعوجاج والتفات إلى الدنيا بعد الزهادة وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة، قال أبو سليمان الداراني: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا، من طلب معاشاً أو تزوج امرأة أو كتب الحديث، وقال: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته.(1/154)
أخبرنا الشيخ طاهر، قال: أخبرنا والدي أبو الفضل، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل المقري، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن، قال: أخبرنا حاجب الطوسي، قال: حدثنا عبد الرحيم، قال: حدثنا الفزاري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله: "مَا تَرَكْتُه بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ".
وروى رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل. قال: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وإن أخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن بالذهب ولبسن ربط الشام وعصب اليمن وأتعبن الغني وكلفن الفقير ما لا يجد" وقال بعض الحكماء: معالجة العزوبة خير من معالجة النساء، وسئل سهل بن عبد الله عن النساء فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار. وقيل في تفسير قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعيفاً}{رَبَّنَا لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فإن قدر الفقير على مقاومة النفس ورزق العلم الوافر بحسن المعاملة في معالجة النفس وصبر عنهن فقد حاز الفضل واستعمل العقل، واهتدى إلى الأمر السهل، قال رسول الله: "خَيْرُكُمْ بَعْدَ المِائَتَيْنِ رَجُلٌ خَفِيفٌ الحَاذِ، قيل: يا رسول الله وما خفيف الحاذ؟ قال: الَّذِي لاَ أَهْلَ لَه وَلاَ وَلَدَ" وقال بعض الفقراء ـ لما قيل له تزوج ـ أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج، وقيل لبشر بن الحارث: إن الناس يتكلمون فيك فقال: ما يقولون؟ قيل: يقولون إنه تارك للسنة ـ يعني النكاح ـ فقال: قولوا لهم أنا مشغول بالفرض عن السنة. وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة خفت أن أكون جلاداً على الجسر.(1/155)
والصوفي مبتلى بالنفس ومطالبها وهو في شغل شاغل عن نفسه، فإذا انضاف إلى مطالبات نفسه مطالبات زوجته يضعف طلبه وتكل إرادته وتفتر عزيمته. والنفس إذا أطمعت طمعت، وإذا أقنعت قنعت، فيستعين الشاب الطالب على حسم مواد خاطر النكاح بإدامة الصوم، فإن للصوم أثراً ظاهراً في قمع النفس وقهرها، وقد ورد أن رسول الله مرَّ بجماعة من الشبان وهم يرفعون الحجارة فقال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ" أصل الوجاء رضّ الخصيتين، كانت العرب تجأ الفحل من الغنم لتذهب فحولته ويسمن، ومنه الحديث: ضحى رسول الله بكبشين أملحين موجوءين، وقد قيل هي النفس إن لم تشغلها شغلتك، فإذا أدام الشاب المريد العلم وأذاب نفسه في العبادة تقل عليه خواطر النفس، وأيضاً شغله بالعبادة يثمر له حلاوة المعاملة، ومحبة الإكثار منه، ويفتح عليه باب السهولة والعيش في العمل فيغار على حاله ووقته أن يتكدر بهم الزوجة.(1/156)
ومن حسن أدب المريد في عزوبته أن لا يمكن خواطر النساء من باطنه، وكلما خطر له خاطر النساء والشهوة يفرّ إلى الله تعالى بحسن الإنابة فيتداركه الله تعالى حينئذٍ بقوة العزيمة ويؤيده بمراغمة النفس؛ بل ينعكس على نفسه نور قلبه ثواباً لحسن إنابته فتسكن النفس عن المطالبة، ثم يعرض على نفسه ما يدخل عليه بالنكاح من الدخول في المداخل المذمومة المؤدية إلى الذل والهوان، وأخذ الشيء من غير وجهه، وما يتوقع من القواطع بسبب التفات الخاطر إلى ضبط المرأة وحراستها والكلف التي لا تنحصر. وقد سئل عبد الله بن عمر عن جهد البلاء فقال: كثرة العيال وقلة المال وقد قيل كثرة العيال أحد الفقرين، وقلة العيال أحد اليسارين. وكان إبراهيم بن أدهم يقول: من تعود أفخاذ النساء لا يفلح، ولا شك أن المرأة تدعو إلى الرفاهية والدعة، وتمنع عن كثرة الاشتغال بالله وقيام الليل وصيام النهار ويتسلط على الباطن خوف الفقر ومحبة الادخار، وكل هذا بعيد عن المتجرد، وقد ورد: "إِذَا كَانَ بَعْدَ المِائَتَيْنِ أُبيحَتِ العُزُوبَةُ لأُمَّتِي" فإن توالت على الفقير خواطر النكاح، وزاحمت باطنه سيما في الصلاة والأذكار والتلاوة فليستعن بالله أولاً ثم بالمشايخ والإخوان، ويشرح الحال لهم ويسألهم مسألة الله له في حسن الاختيار، ويطوف على الأحياء والأموات والمساجد والمشاهد ويستعظم الأمر ولا يدخل فيه بقلة الاكتراث فإنه باب فتنة كبيرة وخطر عظيم، وقد قال الله تعالى: {إنَّ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ} وسمعنا أن الشيخ عبد القادر الجيلي قال له بعض الصالحين: لم تزوجت؟ فقال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله: "تَزَوَّجْ" ؛ فقال له ذلك الرجل: الرسول يأمر بالرخص وطريق القوم التلزم بالعزيمة.(1/157)
فلا أعلم ما قال الشيخ في جوابه ولكني أقول رسول الله يأمر بالرخصة وأمره على لسان الشرع، فأما من التجأ إلى الله تعالى وافتقر إليه واستخاره فيكاشفه الله بتنبيهه إياه في منامه، وأمره هذا لا يكون أمر رخصة بل هو أمر يتبعه أرباب العزيمة لأنه من علم الحال لا من علم الحكم، ويدل على صحة ما وقع لي ـ ما نقل عنه ـ أنه قال: كنت أريد الزوجة مدة من الزمان ولا أجترىء على التزوج خوفاً من تكدير الوقت فلما صبرت إلى أن بلغ الكتاب أجله ساق الله لي أربع زوجات ما فيهن إلا من تنفق على إرادة ورغبة، فهذه ثمرة الصبر الجميل الكامل فإذا صبر الفقير وطلب الفرج من الله يأتيه الفرج والمخرج: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} يقول بعضهم: إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أدبرت روحت بالإرفاق، وإذا أقبلت ردت إلى الميثاق فتبقى قلوبهم دائمة الإقبال إلا اليسير. ولا يدوم إقبالها إلا لطمأنينة النفوس وكفها عن المنازعة، وترك التشبث في القلوب فإذا اطمأنت النفوس واستقرت عن طيشها ونفورها وشراستها توفرت عليها حقوقها، وربها يصير من حقوقها حظوظها. لأن في أداء الحق إقناعاً، وفي أخذ الحظ اتساعاً. وهذا من دقيق علم الصوفية، فإنهم يتسعون بالنكاح المباح إيصالاً إلى النفس حظوظها لأنها ما زالت تخالف هواها حتى صار داؤها دواءها، وصارت الشهوات المباحة واللذات المشروعة لا تضرها ولا تفتر عليها عزائمها. بل كلما وصلت النفوس الزكية إلى حظوظها ازداد القلب انشراحاً وانفساحاً، ويصير بين القلب والنفس موافقة يعطف أحدهما على الآخر ويزداد كل واحد منهما بما يدخل على الآخر من الحظ، كلما أخذ القلب حظه من الله خلع على النفس خلع الطمأنينة فيكون مزيد السكينة للقلب مزيد الطمأنينة للنفس وينشد:
إنّ السماءَ إذا اكتست كَسَتِ الثّرى < حللاً يدبجها الغمام الراهمُ(1/158)
وكلما أخذت النفس حظها تروح القلب تروح الجار المشفق براحة الجار.
سمعت بعض الفقراء يقول: النفس تقول للقلب كن معي في الطعام أكن معك في الصلاة، وهذا من الأحوال العزيزة لا تصلح إلا لعالم رباني، وكم من مدّع يهلك بتوهمه هذا في نفسه، ومثل هذا العبد يزداد بالنكاح ولا ينقص، والعبد إذا كمل علمه يأخذ من الأشياء ولا تأخذ الأشياء منه، وقد كان الجنيد يقول: أنا أحتاج إلى الزوجة كما أحتاج إلى الطعام.
وسمع بعض العلماء بعض الناس يطعن في الصوفية فقال: يا هذا ما الذي ينقصهم عندك؟ فقال: يأكلون كثيراً، فقال: وأنت أيضاً لو جعت كما يجوعون أكلت كما يأكلون. ثم قال: ويتزوجون كثيراً، قال: وأنت أيضاً لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوجت كما يتزوجون، قال: وأي شيء أيضاً؟ قال: يسمعون القول، قال: وأنت أيضاً لو نظرت كما ينظرون سمعت كما يسمعون.(1/159)
وكان سفيان بن عيينة يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: خير هذه الأمة أكثرها نساء. وقد ذكر في أخبار الأنبياء أن عابداً تبتل للعبادة حتى فاق أهل زمانه فذكر للنبي ذلك الزمان فقال: نعم الرجل لولا أنه تارك لشيء من السنة؛ فنمى ذلك إلى العابد فأهمه فقال: ما تنفعني عبادتي وأنا تارك السنّة؛ فجاء إلى النبي عليه السلام فسأله فقال: "نَعَمْ إِنَّكَ تَارِكٌ التَّزَوُّجَ" ؛ فقال: ما تركته لأني أحرمه وما منعني منه إلا أني فقير لا شيء لي وأنا عيال على الناس يطعمني هذا مرة وهذا مرة فأكره أن أتزوج بامرأة أعضلها أو أرهقها جهداً، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "وَمَا يَمْنَعُكَ إِلاَّ هذَا؟" قال: نعم فقال: "أَنَا أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي" فزوجه النبي عليه السلام ابنته وكان عبد الله بن مسعود يقول لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أحببت أن أتزوج ولا ألقى الله عزباً وما ذكر الله تعالى في القرآن من الأنبياء إلا المتأهلين. وقيل إن يحيى بن زكريا عليهما السلام تزوج لأجل السنة ولم يكن يقربها، وقيل: إن عيسى عليه السلام سينكح إذا نزل إلى الأرض ويولد له. وقيل: إن ركعة من متأهل خير من سبعين ركعة من عزب.(1/160)
أخبرنا الشيخ طاهر بن أبي الفضل، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقومي القزويني، قال: أخبرنا أبو طلحة القاسم بن أبي البدر الخطيب، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان، قال: حدثنا أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجه قال: حدثنا أحمد بن الأزهر، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: "النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي فَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكَحْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ".
ومما ينبغي للمتأهل أن يحذر من الإفراط في المخالطة والمعاشرة مع الزوجة إلى حد ينقطع عن أوراده وسياسة أوقاته، فإن الإفراط في ذلك يقوي النفس وجنودها ويفتر ناهض الهمة، وللمتأهل بسبب الزوجة فتنتان فتنة لعموم حاله وفتنة لخصوص حاله ففتنة عموم حاله الإفراط في الاهتمام بأسباب المعيشة، كان الحسن يقول: والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا أكبه الله على وجهه في النار. وفي الخبر: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ هَلاَكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ زَوْجَتِهِ وَأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ يُعَيِّرُونَهُ بِالفَقْرِ وَيُكَلِّفُونَهُ مَا لاَ يُطِيقُ فَيَدْخُلُ فِي المَدَاخِلِ الَّتِي يَذْهَبُ فِيها دِينُهُ فَيَهْلِكُ".(1/161)
وروي أن قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت، فعجبوا من ذلك وهابوه أن يسألوه فقال: لا تعجبوا من هذا فإني سألت الله فقلت يا رب ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: إن عقوبتك بنت فلان تزوج بها فتزوجت بها، وأنا صابر على ما ترون، فإذا أفرط الفقير في المداراة ربما تعدّى حد الاعتدال في وجوه المعيشة متطلباً رضا الزوجة فهذا فتنة عموم حاله. وفتنة خصوص حاله الإفراط في المجالسة والمخالطة فتنطلق النفس عن قيد الاعتدال وتسترق الغرض بطول الاسترسال فيستولي على القلب بسبب ذلك السهو والغفلة، ويستجلس مقار المهلة فيقل الوارد لقلة الأوراد ويتكدر الحال لإهمال شروط الأعمال، وألطف من هذين الفتنتين فتنة أخرى تختص بأهل القرب والحضور وذلك أن للنفوس امتزاجاً وبرابطة الامتزاج تعتضد وتشتد وتتطرى طبيعتها الجامدة وتلتهب نارها الخامدة، فدواء هذه الفتنة أن يكون للمتأهل عند المجالسة عينان باطنان ينظر بهما إلى مولاه وعينان ظاهران يستعملهما في طريق هواه، وقد قالت رابعة في معنى هذا نظماً:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي < وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس < وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي(1/162)
وألطف من هذا فتنة أخرى يخشاها المتأهل، وهو أن يصير للروح استرواح إلى لطف الجمال، ويكون ذلك الاسترواح موقوفاً على الروح، ويصير ذلك وليجة في حب الروح المخصوص بالتعلق بالحضرة الإلهية، فتتبلد الروح وينسد باب المزيد من الفتوح، وهذه البلادة في الروح يعز الشعور بها فلتحذر. ومن هذا القبيل: دخلت الفتنة على طائفة قالوا بالمشاهدة، وإذا كان في باب الحلال وليجة في الحب يتولد منها بلادة الروح في القيام بوظائف حب الحضرة الإلهية، فما ظنك فيمن يدعي ذلك في باب غير مشروع يغره سكون النفس فيظن أنه لو كان من قبيل الهوى ما سكنت النفس؟ والنفس لا تسكن في ذلك دائماً بل تسلب من الروح ذلك الوصف وتأخذه إليها، على أني استبحثت عما يبتلي به المفتونون بالمشاهدة، فوجدت المحمي من ذلك من صورة الفسق عنده رغوة شراب الشهوة، إذ لو ذهب علة الشراب ما بقيت الرغوة، فليحذر ذلك جداً ولا يسمع ممن يدعي فيها حالاً وصحة فإنه كذاب مدع، ولهذا المعنى قال الأطباء: الجماع يسكن هيجان العشق ـ وإن كان من غير المعشوق ـ فليعلم أن مستنده الشهوة، ويكذب من يدعي فيه حالاً، وهذه فتن المتأهل.
وفتنة العزب مرور النساء بخاطره وتصورهن في متخيله، ومن أعطي الطهارة في باطنه لا يدنس باطنه بخواطر الشهوة، وإذا سنح الخاطر يمحوه بحسن الإنابة واللياذ بالهرب، ومتى سامر الفكر كثف الخاطر وخرج من القلب إلى الصدر، وعند ذلك يحذر حساس العضو بالخاطر فيصير ذلك عملاً خفياً، وما أقبح مثل هذا بالصادق المتطلع إلى الحضور واليقظة، فيكون ذلك فاحشة الحال. وقد قيل: مرور الفاحشة بقلب العارفين كفعل الفاعلين لها، والله أعلم.
{الباب الثاني والعشرون}: في القول في السماع قبولاً وإيثارا(1/163)
قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأَولئِكَ هُمْ أُولُو الألبَابِ}{وإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ}{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} روي أن عمر رضي الله عنه كان ربما مرَّ بآية في ورده فتخنقه العبرة ويسقط، ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يُعاد ويحسب مريضاً، فالسماع يستجلب الرحمة من الله الكريم.
روى زيد بن أسلم قال: قرأ أبيّ بن كعب عند رسول الله فرقوا، فقال رسول الله: "اغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ الرِّقَّةِ فَإِنَّها رَحْمَةٌ مِنَ الله تَعَالَى"، وروت أم كلثوم قالت: قال رسول الله: "إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ العَبْدِ مِنْ خشْيَةِ الله تَحَاتَّتْ عَنْهُ الذُّنُوبُ كَمَا تَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا" وورد أيضاً: "إِذَا اقْشَعَرَّ الجِلْدُ مِنْ خشْيَةِ الله حَرَّمَهُ الله تَعَالَى عَلَى النَّارِ".
وهذه جملة لا تنكر ولا اختلاف فيها، إنما الاختلاف في استماع الأشعار بالألحان، وقد كثرت الأقوال في ذلك وتباينت الأحوال فمن منكر يلحقه بالفسق، ومن مولع به يشهد بأنه واضح الحق ويتجاذبان في طرفي الإفراط والتفريط. قيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني؟ فقد كان جعفر الطيار يسمع، وإنما المنكر اللهو واللعب في السماع وهذا قول صحيح.(1/164)
أخبرنا الشيخ طاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن الخوافي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا أبو بكر بن وثاب، وقال حدثنا عمرو بن الحارث، قال: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: "أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول الله عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكرفإنها أيام عيد"، وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا أسأم. وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله ما يدل على تجويزه، ونقل عن كثير من السلف صحابي وتابعي وغيرهم. وقول الشيخ أبي الطالب المكي يعتبر لوفور علمه وكمال حاله وعلمه بأحوال السلف ومكان ورعه وتقواه وتحريه الأصوب والأولى، وقال: في السماع حرام وحلال وشبهة؛ فمن سمعه بنفس مشاهدة شهوة وهوى فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معاني تدله على الدليل ويشده طرفات الجليل فهو مباح، وهذا قول الشيخ أبي طالب المكي وهو الصحيح. فإذن لا يطلق القول بمنعه وتحريمه والإنكار على من يسمع كفعل القراء المتزهدين المبالغين في الإنكار، ولا يفسح فيه على الإطلاق كفعل بعض المشتهرين به المهملين شروطه وآدابه المقيمين على الإصرار.
ونفصل الأمر فيه تفصيلاً، ونوضح الماهية فيه تحريماً وتحليلاً. فأما الدف والشبابة وإن كان فيهما في مذهب الشافعي فسحة؛ فالأولى تركهما والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف.(1/165)
وأما غير ذلك فإن كان من القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات فلا سبيل إلى الإنكار، ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج؛ مما يثير كامن العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج.
وأما ما كان من ذكر القدود والخدود ووصف النساء فلا يليق بأهل الديانات الاجتماع لمثل ذلك.
وأما ما كان من ذكر الهجر والوصل والقطيعة والصد مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه وتعالى من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين؛ فمن سمع ذلك وحدث عنده ندم على ما فات أو تجدد عنده عزم لما هو آت فكيف يكون سماعه؟ وقد قيل: إن بعض الواجدين يقتات بالسماع ويتقوى به على الطي والوصال، ويثير عنده من الشوق ما يذهب عنه لهب الجوع؛ فإذا استمع العبد إلى بيت من الشعر وقلبه حاضر فيه كأن يسمع الحادي يقول مثلاً:
أتوب إليك يا رحمن إني < أسأت وقد تضاعفت الذنوبُ
فأما من هوى ليلى وحبي < زيارتها فإني لا أتوبُ
فطاب قلبه لما يجده من قوة عزمه على الثبات في أمر الحق إلى الممات. يكون في سماعه هذا ذكر الله تعالى.
قال بعض أصحابنا: كنا نعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء: عند المسائل، وعند الغضب، وعند السماع. وقال الجنيد: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الأكل لأنهم يأكلون عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقاً.
وسئل رويم عن وجد الصوفية عند السماع فقال: ينتبهون للمعاني التي تعزب عن غيرهم فيشير إليهم إليّ إليّ فيتنعمون بذلك من الفرح، ويقع الحجاب للوقت فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يمزق ثيابه، ومنهم من يبكي، ومنهم من يصيح.(1/166)
أخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف إجازة عن السلمي قال: سمعت أبا سهل محمد بن سليمان يقول: المستمع بين استتار وتجلّ، فالاستتار يورث التلهب، والتجلي يورث المزيد، فالاستتار يتولد منه حركات المريدين وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه السكون للواصلين وهو محل الاستقامة والتمكين. وكذلك محل الحضرة ليس فيه إلا الذبول تحت موارد الهيبة. قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي يقول: المستمع ينبغي أن يستمع بقلب ونفس ميتة، ومن كان قلبه ميتاً ونفسه حية لا يحل له السماع.(1/167)
وقيل في قوله تعالى: {يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ}"لله أشد أذناً بالرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب قينة إلى قينته" نقل عن الجنيد قال: رأيت إبليس في النوم فقلت له: هل تظفر من أصحابنا بشيء أو تنال منهم شيئاً؟ فقال: إنه يعسر علي شأنهم ويعظم علي أن أصيب منهم شيئاً إلا في وقتين، قلت: أي وقت؟ قال: وقت السماع وعند النظر فإني أسترقي منهم فيه وأدخل عليهم به، قال: فحكيت رؤياي لبعض المشايخ فقال لو رأيته قلت له يا أحمق من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر أتربح أنت عليه شيئاً أو تظفر بشيء منه؟ فقلت: صدقت، وروت عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت عندي جارية تسمعني فدخل رسول الله وهي على حالها، ثم دخل عمر ففرَّت؛ فضحك رسول الله فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فحدثه حديث الجارية فقال: لا أبرح حتى أسمع ما سمع رسول الله؛ فأمرها رسول الله فأسمعته" وذكر الشيخ أبو طالب المكي قال: كان لعطاء جاريتان تلحنان وكان إخوانه يجتمعون إليهما، وقال: أدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين أعدهن للصوفية، وهذا القول نقلته من قول الشيخ أبي طالب فقال: وعندي اجتناب ذلك هو الصواب، وهو لا يسلم إلا بشرط طهارة القلب وغض البصر والوفاء بشرط قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفي الصُّدُورُ} وفي الحديث: في مدح داود عليه السلام أنه كان حسن الصوت بالنياحة على نفسه وبتلاوة الزبور حتى كان يجتمع الإنس والجن والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه آلاف من الجنائز، وقال عليه السلام في مدح أبي موسى الأشعري: "لَقَدْ أُعْطِيَ مِزْماراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً"، ودخل رجل على رسول الله وعنده قوم يقرؤون القرآن وقوم ينشدون الشعر فقال: يا رسول الله قرآن وشعر؟ فقال: "مِنْ هذَا مَرَّةً وَمِنْ هذَا مَرَّةً".(1/168)
وأنشد النابغة عند رسول الله أبياته التي فيها:
ولا خيرَ في حلم إذا لم يكن له < بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في أمر إذا لم يكن له < حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال له رسول الله: "أَحْسَنْتَ يَا أَبَا لَيْلَى لاَ يَفْضُضِ الله فَاكَ" فعاش أكثر من مائة سنة وكان أحسن الناس ثغراً.
وكان رسول الله يضع لحسان منبراً في المسجد؛ فيقوم على المنبر قائماً يهجو الذين كانوا يهجون رسول الله، ويقول النبي: "إِنَّ رُوحَ القُدْسِ مَعَ حَسَّانَ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ الله ". ورأى بعض الصالحين أبا العباس الخضر قال: فقلت له: ما تقول في السماع الذي يختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفا الزلال لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء. ونقل عن ممشاد الدينوري قال: رأيت رسول الله في المنام فقلت يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: ما أنكره ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختمون بعده بالقرآن، فقلت يا رسول الله إنهم يؤذوني وينبسطون، فقال: احتملهم يا أبا علي هم أصحابك. فكان ممشاد يفتخر ويقول كناني رسول الله.
وأما وجه الإنكار فيه فهو أن يرى جماعة من المريدين دخلوا في مبادىء الإرادة ونفوسهم ما تمرنت على صدق المجاهدة حتى يحدث عندهم علم بظهور صفات النفس وأحوال القلب حتى تنضبط حركاتهم بقانون العلم ويعلمون ما لهم وعليهم مشتغلين به.
حكي أن ذا النون لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوّال؛ فاستأذنوه أن يقول شيئاً فأذن له فأنشد القوال:
صغير هواك عذبني < فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي < هوًى قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئبٍ < إذا ضحك الخليُّ بكى ف(1/169)
طاب قلبه، وقام وتواجد وسقط على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض. ثم قام واحد منهم فنظر إليه ذو النون فقال: اتق الذي يراك حين تقوم؛ فجلس الرجل، وكان جلوسه لموضع صدقه وعلمه أنه غير كامل الحال غير صالح للقيام متواجداً، فيقوم أحدهم من غير تدبر وعلم في قيامه وذلك إذا سمع إيقاعاً موزوناً بسمع يؤدي ما سمعه إلى طبع موزون، فيتحرك بالطبع الموزون للصوت الموزون والإيقاع الموزون، وينسبل حجاب نفسه المنبسط بانبساط الطبع على وجه القلب، ويستفزه النشاط المنبعث من الطبع فيقوم يرقص موزوناً ممزوجاً بتصنع وهو محرّم عند أهل الحق، ويحسب ذلك طيبة للقلب، وما رأى وجه القلب وطيبته لله تعالى.(1/170)
ولعمري هو طيبة القلب ولكن قلب ملون بلون النفس ميال إلى الهوى موافق للردى لا يهتدي إلى حسن النية في الحركات ولا يعرف شروط صحة الإرادات، ولمثل هذا الراقص قيل: الرقص نقص؛ لأنه رقص مصدره الطبع غير مقترن بنية صالحة لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شوب حركاته بصريح النفاق بالتودد والتقرب إلى بعض الحاضرين من غير نية، بل بدلالة نشاط النفس من المعانقة وتقبيل اليد والقدم، وغير ذلك من الحركات التي لا يعتمدها من المتصوفة إلا من ليس له من التصوف إلا مجرد زي وصورة، أو يكون القوال أمرد تنجذب النفوس إلى النظر إليه وتستلذ ذلك وتضمر خواطر السوء، أو يكون للنساء إشراف على الجمع وتتراسل البواطن المملوءة من الهوى بسفارة الحركات والرقص وإظهار التواجد فيكون ذلك عين الفسق المجمع على تحريمه فأهل المواخير حينئذٍ أرجى حالاً ممن يكون هذا ضميره وحركاته، لأنهم يرون فسقهم وهذا لا يراه ويريه عبادة لمن لا يعلم ذلك، أفترى أحداً من أهل الديانات، يرضى بهذا ولا ينكره؟ فمن هذا الوجه توجه للمنكر الإنكار، وكان حقيقاً بالاعتذار، فكم من حركات موجبة للمقت، وكم من نهضات تذهب رونق الوقت، فيكون إنكار المنكر على المريد الطالب يمنعه عن مثل هذه الحركات، ويحذره من مثل هذه المجالس، وهذا إنكار صحيح. وقد يرقص بعض الصادقين إيقاع ووزن من غير إظهار وجد وحال، ووجه نيته في ذلك أنه ربما يوافق بعض الفقراء في الحركة فيتحرك بحركة موزونة غير مدع بها حالاً ووجداً، يجعل حركته في طرف الباطل، لأنها وإن لم تكن محرمة في حكم الشرع ولكنها غير محللة بحكم الحال لما فيها من اللهو، فتصير حركاته ورقصه من قبيل المباحات التي تجري عليه من الضحك والمداعبة وملاعبة الأهل والولد ويدخل ذلك في باب الترويح للقلب. وربما صار ذلك عبادة بحسن النية إذا نوى به استجمام النفس. كما نقل عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم نفسي بشيء من الباطل ليكون ذلك عوناً إليَّ على الحق.(1/171)
ولموضع الترويح كرهت الصلاة في أوقات ليستريح عمال الله وترتفق النفوس ببعض مآربها من ترك العمل وتستطيب أوطان المهل. والآدمي بتركيبه المختلف وترتيب خلقه المتنوّع بتنوع أصول خلقته ـ وقد سبق شرحه في غير هذا الباب ـ لا تفي قواه بالصبر على الحق الصرف، فيكون التفسح في أمثال ما ذكرناه من المباح الذي ينزع إلى لهو ما باطلاً يستعان به على الحق، فإن المباح وإن لم يكن باطلاً في حقيقة الشرع؛ لأن حد المباح ما استوى طرفاه واعتدل جانباه، ولكنه باطل بالنسبة إلى الأحوال. ورأيت في بعض كلام سهل بن عبد الله يقول في وصفه للصادق: الصادق يكون جهله مزيداً لعلمه، وباطله مزيداً لحقه، ودنياه مزيداً لآخرته، ولهذا المعنى حبب إلى رسول الله النساء ليكون ذلك حظ نفسه الشريفة الموهوب لها حظوظها، الموفر عليها حقوقها لموضع طهارتها وقدسها، فيكون ما هو نصيب الباطل الصرف في حق الغير من المباحات المقبولة برخصة الشرع المردودة بعزيمة الحال في حقه متسماً بسمة العبادات. وقد ورد في فضيلة النكاح ما يدل على أنه عبادة، ومن ذلك من طريق القياس اشتماله على المصالح الدينية والدنيوية على ما أطنب في شرحه الفقهاء في مسألة التخلي لنوافل العبادات؛ فإذاً يخرج هذا الراقص بهذه النية المتبرىء من دعوى الحال في ذلك من إنكار المنكر فيكون رقصه لا عليه ولا له، وربما كان بحسن النية في الترويح يصير عبادة سيما إن أضمر في نفسه فرحاً بربه ونظر إلى شمول رحمته وعطفه، ولكن لا يليق الرقص بالشيوخ، ومن يقتدي به لما فيه من مشابهة اللهو، واللهو لا يليق بمنصبهم ويباين حال التمكن مثل ذلك.
وأما وجه منع الإنكار في السماع فهو أن المنكر للسماع على الإطلاق من غير تفصيل لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما جاهل بالسنن والآثار، وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يقابل بما سوف يقبل.(1/172)
أما الجاهل بالسنن والآثار فيعرف بما أسلفناه من حديث عائشة رضي الله عنها وبالأخبار والآثار الواردة في ذلك، وفي حركة بعض المتحركين تعرف رخصة رسول الله للحبشة في الرقص ونظر عائشة رضي الله عنها إليهم مع رسول الله، هذا إذا سلمت الحركة من المكاره التي ذكرناها. وقد روي أن رسول الله قال لعلي رضي الله عنه: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ" فخجل، وقال لجعفر: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي" فخجل، وقال لزيد: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا" فخجل، وكان خجل جعفر في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها علي وجعفر وزيد.
وأما المنكر المغرور بما أتيح له من أعمال الأخيار فيقال: تقربك إلى الله بالعبادة لشغل جوارحك بها، ولولا نية قلبك ما كان لعمل جوارحك قدر، فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى، والنية لنظرك إلى ربك خوفاً أو رجاء، فالسامع من الشعر بيتاً يأخذ منه معنى يذكر ربه إما فرحاً أو حزناً أو انكساراً أو افتقاراً كيف يقلب قلبه في أنواع ذلك ذاكراً لربه، ولو سمع صوت طائر طاب له ذلك الصوت وتفكر في قدرة الله تعالى وتسويته حنجرة الطائر وتسخيره خلقه ومنشأ الصوت وتأديته إلى الأسماع كان في جميع ذلك الفكر مسبحاً مقدساً، فإذا سمع صوت آدمي وحضره مثل ذلك الفكر وامتلأ باطنه ذكراً وفكراً كيف ينكر ذلك.(1/173)
حكى بعض الصالحين قال: كنت معتكفاً في جامع جدة على البحر فرأيت يوماً طائفة يقولون في جانب منه شيئاً، فأنكرت ذلك بقلبي وقلت: في بيت من بيوت الله تعالى يقولون الشعر، فرأيت رسول الله في المنام تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية وإلى جنبه أبو بكر، وإذا أبو بكر يقول شيئاً من القول والنبي يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك، فقلت في نفسي: ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يسمعون وهذا رسول الله يسمع وأبو بكر إلى جنبه يقول، فالتفت رسول الله وهو يقول هذا حق بحق أو حق من حق، بلى إذا كان ذلك الصوت من أمرد يخشى بالنظر إليه الفتنة، أو من امرأة غير محرم، وإن وجد من الأذكار والأفكار ما ذكرنا: يحرم سماعه لخوف الفتنة لا لمجرد الصوت، ولكن يجعل سمع الصوت حريم الفتنة، ولكل حرام حريم ينسحب عليه حكم المنع لوجه المصلحة كالقبلة للشاب الصائم؛ حيث جعلت حريم حرام الوقاع، وكالخلوة بالأجنبية وغير ذلك. فعلى هذا قد تقتضي المصلحة المنع من السماع إذا علم حال السامع وما يؤديه إليه سماعه فيجعل المنع حريم الحرام هكذا، وقد ينكر السماع جامد الطبع عديم الذوق فيقال له: العنين لا يعلم لذة الوقاع، والمكفوف ليس له بالجمال البارع استمتاع، وغير المصاب لا يتكلم بالاسترجاع، فماذا ينكره من محب تربّى باطنه بالشوق والمحبة؟ ويرى انحباس روحه الطيارة في مضيق قفص النفس الأمارة يمر بروحه نسيم أنس الأوطان وتلوح له طوالع جنود العرفان، وهو بوجود النفس في دار الغربة يتجرع كأس الهجران، يئن تحت أعباء المجاهدة ولا تحمل عنه سوانح المشاهدة، وكلما قطع منازل النفس بكثرة الأعمال لا يقرب من كعبة الوصول ولا يكشف له المسبل من الحجاب، فيتروح بنفس الصعداء ويرتاح باللائح من شدة البرحاء، ويقول مخاطباً للنفس والشيطان وهما المانعان:
أيا جبلي نعمان بالله خليا < نسيم الصبا يخلص إليَّ نسيمها(1/174)
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت < على قلب محزون تجلت همومها
أجد بردها أو تشف مني حرارة < على كبد لم يبق إلا صميمها
ألا إن أدوائي بليلى قديمة < وأقتل داء العاشقين قديمها
ولعل المنكر يقول هل المحبة إلا امتثال الأمر؟ وهل يعرف غير هذا وهل هناك إلا الخوف من الله؟ وينكر المحبة الخاصة التي تختص بالعلماء الراسخين والأبدال المقربين. ولما تقرر في فهمه القاصر أن المحبة تستدعي مثالاً وخيالاً وأجناساً وأشكالاً أنكر محبة القوم ولم يعلم أن القوم بلغوا في رتب الإيمان إلى أتم من المحسوس وجادوا من فرط الكشف والعيان بالأرواح والنفوس.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله: "أنه ذكر غلاماً كان في بني إسرائيل على جبل فقال لأمه: من خلق السماء؟ قالت: الله، قال: من خلق الأرض؟ قالت: الله، قال: من خلق الجبال؟ قالت: الله، قال: من خلق الغيم؟ قالت: الله، فقال: إني أسمع لله شأناً ورمى بنفسه من الجبل فتقطع" فالجمال الأزلي الإلهي منكشف للأرواح غير مكيف للعقل ولا مفسر للفهم، لأن العقل موكل بعالم الشهادة لا يهتدي من الله سبحانه إلا إلى مجرد الوجود ولا يتطرق إلى حريم الشهود المتجلي في طيّ الغيب المنكشف للأرواح بلا ريب، وهذه رتبة من مطالعة الجمال رتبة خاصة، وأعم منها من رتب المحبة الخاصة دون العامة مطالعة جمال الكمال من الكبرياء والحلال والاستقلال بالمنح والنوال والصفات المنقسمة إلى ما ظهر منها في الآباد ولازم الذات في الآزال؛ فللكمال جمال لا يدرك بالحواس ولا يستنبط بالقياس. وفي مطالعة ذلك الجمال أخذ طائفة من المحبين خصوا بتجلي الصفات ولهم بحسب ذلك ذوق وشوق ووجد وسماع. والأولون منحوا قسطاً من تجلي الذات فكان وجدهم على قدر الوجود وسماعم على حدّ الشهود.(1/175)
وحكى بعض المشايخ قال: رأينا جماعة ممن يمشي على الماء والهواء يسمعون السماع ويجدون به ويتولهون عنده. قال بعضهم: كنا على الساحل فسمع بعض إخواننا فجعل يتقلب على الماء يمرّ ويجيء حتى رجع إلى مكانه.
ونقل أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع ولا يحس بها. ونقل أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع فأخذ شمعة فجعلها في عينه، قال النافل: قربت من عينه، أنظر؛ فرأيت ناراً أو نوراً يخرج من عينه يرد نار الشمعة. وحكي عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع من الأرض في الهواء أذرعاً يمر ويجيء فيه.
وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه: إن أنكرنا السماع مجملاً مطلقاً غير مقيد مفصل يكون إنكاراً على سبعين صديقاً، وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين، إلا أنّا لا نفعل ذلك لأنّا نعلم ما لا يعلمون، وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا يسمعون. وهذا قول الشيخ عن علمه الوافر بالسنن والآثار مع اجتهاده وتحريه الصواب. ولكن نبسط لأهل الإنكار لسان الاعتذار، ونوضح لهم الفرق بين سماع يؤثر وبين سماع ينكر وسمع الشبلي قائلاً يقول:
أسائل عن سلمى فهل من مُخبرٍ < يكون له علم بها أين تنزلُ
فزعق الشبلي وقال: لا والله ما في الدارين عنه مخبر.(1/176)
وقيل: الوجد سر صفات الباطن كما أن الطاعة سر صفات الظاهر، وصفات الظاهر الحركة والسكون وصفات الباطن الأحوال والأخلاق. وقال أبو نصر السراج أهل السماع على ثلاث طبقات: فقوم يرجعون في سماعهم إلى مخاطبات الحق لهم فيما يسمعون، وقوم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبات أحوالهم ومقامهم وأوقاتهم فهم مرتبطون بالعلم ومطالبون بالصدق فيما يشيرون لله من ذلك، وقوم هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والجمع والمنع فهم يسمعون لطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع فهم أقرب الناس إلى السلامة وأسلمهم من الفتنة. وكل قلب ملوث بحب الدنيا فسماعه سماع طبع وتكلف.
وسئل بعضهم عن التكلف في السماع فقال: هو على ضربين؛ تكلف في المستمع لطلب جاه أو منفعة دنيوية وذلك تلبيس وخيانة، وتكلف فيه لطلب الحقيقة كمن يطلب الوجد بالتواجد وهو بمنزلة التباكي المندوب إليه. وقول القائل: إن هذه الهيئة من الاجتماع بدعة يقال له: إنما البدعة المحذورة الممنوع منها؛ بدعة تزاحم سنة مأموراً بها وما لم يكن هكذا فلا بأس به. وهذا كالقيام للداخل؛ لم يكن، فكان في عادة العرب ترك ذلك، حتى نقل: أن رسول الله كان يدخل ولا يقام له، وفي البلاد التي فيها هذا القيام لهم عادة إذا اعتمد ذلك لتطييب القلوب والمداراة لا بأس به؛ لأن تركه يوحش القلوب ويوغر الصدور؛ فيكون ذلك من قبيل العشرة وحسن الصحبة، ويكون بدعة لا بأس بها لأنها لم تزاحم سنة مأثورة.
{الباب الثالث والعشرون}: في القول في السماع رداً وإنكارا(1/177)
قد ذكرنا وجه صحة السماع وما يليق منه بأهل الصدق وحيث كثرت الفتنة بطريقه وزالت العصمة فيه، وتصدى للحرص عليه أقوام قلت أعمالهم، وفسدت أحوالهم وأكثروا الاجتماع للسماع، وربما يتخذ للاجتماع طعام تطلب النفوس الاجتماع لذلك لا رغبة للقلوب في السماع كما كان من سير الصادقين، فيصير السماع معلولاً تركن إليه النفوس للشهوات واستحلاء لمواطن اللهو والغفلات، ويقطع ذلك على المريد طلب المزيد. ويكون بطريقه تضييع الأوقات وقلة الحظ من العبادات، وتكون الرغبة في الاجتماع طلباً لتناول الشهوة واسترواحاً لأولي الطرب واللهو والعشرة ولا يخفى أن هذا الاجتماع مردود عند أهل الصدق. وكان يقال لا يصح السماع إلا لعارف مكين، ولا يباح لمريد مبتدىء.
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: إذا رأيت المريد يطلب السماع فاعلم أن فيه بقية البطالة، وقيل: إن الجنيد ترك السماع فقيل له: كنت تستمع؟ فقال: مع من؟ قيل له: تسمع لنفسك؟ فقال: ممن؟ لأنهم كانوا لا يسمعون إلا من أهل مع أهل فلما فقد الإخوان ترك. فما اختاروا السماع حيث اختاروه إلا بشروط وقيود وآداب؛ يذكرون به الآخرة، ويرغبون في الجنة، ويحذرون من النار، ويزداد به طلبهم، وتحسن به أحوالهم، ويتفق لهم ذلك اتفاقاً في بعض الأحايين لا أن يجعلوه دأباً وديدناً حتى يتركوا لأجله الأوراد.(1/178)
وقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كتاب القضاء: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل، وقال: من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. واتفق أصحاب الشافعي أن المرأة غير المحرم لا يجوز الاستماع إليها سواء كانت حرة أو مملوكة أو مكشوفة الوجه أو من وراء حجاب. ونقل عن الشافعي رضي الله عنه؛ أنه كان يكره الطقطقة بالقضيب ويقول: وضعه الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن، وقال: لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت بها بأي وجه كان. وعند مالك رضي الله عنه: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بهذا العيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، وهكذا مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.(1/179)
وسماع الغناء من الذنوب وما أباحه إلا نفر قليل من الفقهاء. ومن أباحه من الفقهاء أيضاً لم ير إعلانه في المساجد والبقاع الشريفة. وقيل في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتري لَهْوَ الحَديثِ}{وأَنْتُمْ سَامِدُونَ}{واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} وروي عن رسول الله أنه قال: "كَانَ إِبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ نَاحَ وَأَوَّلَ مَنْ تَغَنَّى". وروى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن النبي قال: "إِنَّما نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَينِ: صَوْتٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ".(1/180)
وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما غنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، وروي أن ابن عمر رضي الله عنه مرَّ على قوم وهم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم، وروي أن إنساناً سأل القاسم بن محمد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا ابن أخي إذا ميز الله الحق والباطل في أيهما يجعل الغناء؟ وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنى، وعن الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب، وقال بعضهم: إياكم والغناء فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، وهذا الذي ذكره هذا القائل صحيح لأن الطبع الموزون يفيق بالغناء والأوزان، ويستحسن صاحب الطبع عند السماع ما لم يكن يستحسنه من الفرقعة بالأصابع والتصفيق والرقص وتصدر منه أفعال تدل على سخافة العقل، وروي عن الحسن أنه قال: ليس الدف من سنة المسلمين، والذي نقل عن رسول الله: أنه سمع الشعر، وهذا لا يدل على إباحة الغناء فإن الشعر كلام منظوم وغيره كلام منثور فحسنه حسن وقبيحه قبيح، وإنما يصير غناء بالألحان وإن أنصف المنصف وتفكر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغني بدفه والمشبب بشبابته وتصور في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس وكالهيئة بحضرة رسول الله، وهل استحضروا قوالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه لا شك بأنه ينكر ذلك من حال رسول الله وأصحابه؟ ولو كان في ذلك فضيلة تطلب ما أهملوها فمن يشير بأنه فضيلة تطلب ويجتمع لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله وأصحابه والتابعين، واستروح إلى استحسان بعض المتأخرين ذلك. وكثيراً ما يغلط الناس في هذا، وكلما احتج عليهم بالسلف الماضين يحتجون بالمتأخرين.(1/181)
وكان السلف أقرب إلى عهد رسول الله، وهديهم أشبه بهدي رسول الله، وكثير من الفقراء يتسمح عند قراء القرآن بأشياء من غير غلبة. قال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟
قالت: كانوا كما وصفهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال: قلت إنّ ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرَّ أحدهم مغشياً عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرَّ برجل من أهل العراق يتساقط قال: ما لهذا؟ قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنا لنخشى الله وما نسقط إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما هكذا كان يصنع أصحاب رسول الله. وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرىء القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد واحد منهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق. وليس هذا القول منهم إنكاراً على الإطلاق إذ يتفق ذلك لبعض الصادقين، ولكن للتصنع المتوهم في حق الأكثرين، فقد يكون ذلك من البعض تصنعاً ورياء، ويكون من البعض لقصور علم ومخامرة جهل ممزوج بهوى يلمّ بأحدهم يسير من الوجد فيتبعه بزيادات يجهل أن ذلك يضر بدينه، وقد لا يجهل أن ذلك من النفس ولكن النفس تسترق السمع استراقاً خفياً تخرج الوجد عن الحد الذي ينبغي أن يقف عليه وهذا يباين الصدق.
نقل أن موسى عليه السلام وعظ قومه فشق رجل منهم قميصه، فقيل لموسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ويشرح قلبه.(1/182)
وأما إذا انضاف إلى السماع أن يسمع من أمرد فقد توجهت الفتنة وتعين على أهل الديانات إنكار ذلك. قال بقية بن الوليد: كانوا يكرهون النظر إلى الغلام الأمرد الجميل، وقال عطاء: كل نظرة يهواها القلب فلا خير فيها، وقال بعض التابعين: ما أنا أخوف على الشاب التائب من السبع الضاري خوفي عليه من الغلام الأمرد يقعد إليه، وقال بعض التابعين أيضاً: اللوطية على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل. فقد تعين على طائفة الصوفية اجتناب مثل هذه الجماعات واتقاء مواضع التهم فإن التصوف صدق كله وجد كله. يقول بعضهم: التصوف كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل، فهذه الآثار دلت على اجتناب السماع وأخذ الحذر منه.
والباب الأول بما فيه دل على جوازه بشروطه وتنزيهه عن المكاره التي ذكرناها وقد فصلنا القول وفرقنا بين القصائد والغناء وغير ذلك، وكان جماعة من الصالحين لا يسمعون ومع ذلك لا ينكرون على من يسمع بنية حسنة ويراعي الأدب فيه.
{الباب الرابع والعشرون}: في القول في السماع ترفعاً واستغناء
اعلم أن الوجد يشعر بسابقة فقد، فمن لم يفقد لم يجد، إنما كان الفقد لمزاحمة وجود العبد بوجود صفاته وبقاياه فلو تمحض عبداً لتمحض حراً ومن تمحض حراً أفلت من شرك الوجد فشرك الوجد يصطاد البقايا ووجود البقايا لتخلف شيء من العطايا.(1/183)
قال الحصري رحمه الله: ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه؛ فالوجد بالسماع في حق المحق كالوجد بالسماع في حق المبطل: من حيث النظر إلى انزعاجه، وتأثير الباطن به، وظهور أثره على الظاهر، وتغييره للعبد من حال إلى حال. وإنما يختلف الحال بين المحق والمبطل: أن المبطل يجد لوجود هوى النفس، والمحق يجد لوجود إرادة القلب؛ ولهذا قيل: السماع لا يحدث في القلب شيئاً، وإنما يحرك ما في القلب، فمن يتعلق باطنه بغير الله يحركه السماع فيجد بالهوى، ومن يتعلق باطنه بمحبة الله يجد بالإرادة إرادة القلب؛ فالمبطل محجوب بحجاب النفس، والمحق محجوب بحجاب القلب، وحجاب النفس حجاب أرضي ظلماني، وحجاب القلب حجاب سماوي نوراني، ومن لم يفقد بدوام التحقق بالشهود ولا يتعثر بأذيال الوجود فلا يسمع ولا يجد، ومن هذه المطالعة قال بعضهم: الوجد نار دم كلي لا ينفذ في قول.(1/184)
ومر ممشاد الدينوري رحمه الله بقوم فيهم قوال؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فوالله لو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي، فالوجد صراخ الروح المبتلى بالنفس تارة في حق المبطل وبالقلب تارة في حق المحق، فمثار الوجد الروح الروحاني في حق المحق والمبطل، ويكون الوجد تارة من فهم المعاني يظهر، وتارة من مجرد النغمات والألحان، فما كان من قبيل المعاني تشارك النفس الروح في السماع في حق المبطل ويشارك القلب في حق المحق. وما كان من قبيل مجرد النغمات تتجرد الروح للسماع، ولكن في حق المبطل تسترق النفس السمع، وفي حق المحق يسترق القلب السمع.(1/185)
ووجه استلذاذ الروح النغمات: أن العالم الروحاني مجمع الحسن والجمال، ووجود التناسب في الأكوان مستحسن قولاً وفعلاً، ووجود التناسب في الهياكل والصور ميراث الروحانية فمتى سمع الروح النغمات اللذيذة والألحان المتناسبة تأثر به لوجود الجنسية، ثم يتقيد ذلك بالشرع بمصالح عالم الحكمة، ورعاية الحدود للعبد عين المصلحة عاجلاً وآجلاً، ووجه آخر: إنما يستلذ الروح النغمات، لأن النغمات بها نطق النفس مع الروح بالإيمان الخفي إشارة ورمزاً بين المتعاشقين، وبين النفوس والأرواح تعاشق أصلي ينزع ذلك إلى أنوثة النفس وذكورة الروح، والميل والتعاشق بين الذكر والأنثى بالطبيعة واقع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لَيَسْكُنَ إلَيْها}{منها} إشعار بتلازم وتلاصق موجب للائتلاف والتعاشق، والنغمات يستلذها الروح لأنها مناغاة بين المتعاشقين، وكما أن في عالم الحكمة كونت حوّاء من آدم ففي عالم القدرة كونت النفس من الروح الروحاني، فهذا التآلف من هذا الأصل: وذلك أن النفس روح حيواني تجنس بالقرب من الروح الروحاني وتجنسها بأن امتازت من أرواح جنس الحيوان بشرف القرب من الروح الروحاني فصارت نفساً، فإذاً تكوّن النفس من الروح الروحاني في عالم القدرة، كتكوّن حواء من آدم في عالم الحكمة، فهذا التآلف والتعاشق ونسبة الأنوثة والذكورة من ههنا ظهر، وبهذا الطريق استطابت الروح النغمات، لأنها مراسلات بين المتعاشقين ومكالمة بينهما، وقد قال القائل:
تكلم منا في الوجود عيوننا
فنحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ فإذا استلذ الروح النغمة وجدت النفس المعلولة بالهوى وتحركت بما فيها لحدوث العارض، ووجد القلب المعلول بالإرادة وتحرك بما فيه لوجود العارض في الروح:
شربنا وأهرقنا على الأرض جرعة(1/186)
وللأرض من كاس الكرام نصيبُ فنفس المبطل أرض لسماء قلبه، وقلب المحق أرض لسماء روحه، فالبالغ مبلغ الرجال والمتجوهر المتجرد من أعراض الأحوال خلع نعلي النفس والقلب بالوادي المقدس، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر استقر وعرس، وأحرق بنور العيان أجرام الألحان ولم تصغ روحه إلى مناغاة عاشقه لشغله بمطالعة آثار محبوبه، فالهائم المشتاق لا يسعه كشف ظلامة العشاق، ومن هذا حاله لا يحركه السماع رأساً، وإذا كانت الألحان لا تلحق هذا الروح مع لطافة مناجاتها وخفي لطف مناغاتها، كيف يلحقه السماع بطريق فهم المعاني وهو أكثف، ومن يضعف عن حمل لطيف الإشارات كيف يتحمل ثقل أعباء العبارات، وأقرب من هذا عبارة تقرب إلى الأفهام: الوجد وارد يرد من الحق سبحانه وتعالى، ومن يريد الله لا يقنع بما من عند الله، ومن صار في محل القرب متحققاً به لا يلهيه ولا يحركه ما ورد من عند الله؛ فالوارد من عند الله مشعر ببعد، والقريب واجد فما يصنع بالوارد، والوجد نار والقلب للواجد ربه نور، والنور ألطف من النار، والكثيف غير مسيطر على اللطيف، فما دام الرجل البالغ مستمراً على جادة استقامته غير منحرف عن وجه معهوده بنوازع وجوده لا يدركه الوجد بالسماع، فإن دخل عليه فتور أو عاقه قصور بدخول الابتلاء عليه من المبتلى المحسن يتألف المحن من تفاريق صور الابتلاء: أي يدخل عليه وجود يدركه الواجد لعود العبد عند الابتلاء إلى حجاب القلب، فمن هو مع الحق إذا زل وقع على القلب. ومن هو مع القلب إذا زل وقع على النفس.
سمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعضهم أنه وجد من السماع، فقيل له: أين حالك من هذا؟ فقال: دخل علي داخل أوردني هذا المورد.(1/187)
قال بعض أصحاب سهل: صحبت سهلاً سنين ما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن؛ فلما كان في آخر عمره قرىء عنده: {فالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} {المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ للرَّحْمنِ} "قست" أي تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما استغربته حتى تغير والواجد كالمستغرب. ولهذا قال بعضهم: حالي قبل الصلاة كحالي في الصلاة إشارة منه إلى استمرار حال الشهود، فهكذا في السماع كقبل السماع. وقد قال الجنيد: لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم، وفضل العلم أتم من فضل الوجد، وبلغنا عن الشيخ حماد رحمه الله كان يقول: البكاء من بقية الوجود. وكل هذا يقرب البعض من البعض في المعنى لمن عرف الإشارة فيه، وفهم وهو عزيز الفهم، عزيز الوجود، واعلم أن للباكين عند السماع مواجيد مختلفة فمنهم من يبكي خوفاً، ومنهم من يبكي شوقاً، ومنهم من يبكي فرحاً؛ كما قال القائل:
طفح السرور عليَّ حتى أنني < من عظم ما قد سرّني أبكاني
قال الشيخ أبو بكر الكتاني رحمه الله: سماع العوام على متابعة الطبع، وسماع المريدين رغبة ورهبة، وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعماء، وسماع العارفين على المشاهدة، وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان؛ ولكل واحد من هؤلاء مصدر ومقام. وقال أيضاً: الموارد ترد فتصادف شكلاً أوموافقاً فأي وارد صادف شكلاً مازجه؟ وأي وارد صادف موافقاً ساكنه؟ وهذه كلها مواجيد أهل السماع. وما ذكرناه حال من ارتفع عن السماع. وهذا الاختلاف منزل على اختلاف أقسام البكاء التي ذكرناها من الخوف والشوق والفرح، وأعلاها بكاء الفرح بمثابة قادم يقدم على أهله بعد طول غربته فعند رؤية الأهل يبكي من قوة الفرح وكثرته.(1/188)
وفي البكاء رتبة أخرى أعز من هذه يعز ذكرها ويكبر نشرها لقصور الأفهام عن إدراكها؛ فربما يقابل ذكرها بالإنكار ويخفى بالاستكبار، ولكن يعرفها من وجدها قدماً ووصولاً أو فهمها نظراً كثيراً ومثولاً، وهو بكاء الوجدان غير بكاء الفرح، وحدوث ذلك في بعض مواطن حق اليقين، ومن حق اليقين في الدنيا إلمامات يسيرة فيوجد البكاء في بعض مواطنه لوجود تغاير وتباين بين المحدث والقديم، فيكون البكاء رشحاً هو من وصف الحدثان لوهج سطوة عظمة الرحمن.
ويقرب من ذلك مثلاً في الشاهد قطر الغمام بتلاقي مختلف الأجرام، وهذا وإن عز مشعر ببقية تقدح في صرف الفناء. نعم قد يتحقق العبد في الفناء متجرداً عن الآثار منغمساً في الأنوار، ثم يرتقي منه إلى مقام البقاء، ويرد إليه الوجود مطهراً، فتعود إليه أقسام البكاء خوفاً وشوقاً وفرحاً ووجداناً بمشاكلة صورها ومباينة حقائقها بفرق لطيف يدركه أربابه، وعند ذلك يعود عليه من السماع أيضاً قسم، وذلك القسم مقدور له مقهور معه يأخذه إذا أراد ويرده إذا أراد، ويكون هذا السماع من المتمكن بنفس اطمأنت واستنارت وباينت طبيعتها واكتسبت طمأنينتها، وأكسبها الروح معنى فيه فيكون سماعه نوع ممتع للنفس كتمتعها بمباحات اللذات والشهوات لأن يأخذ السماع منه أو يزيد به أو يظهر عليه منه أثر، فتكون النفس في ذلك بمثابة الطفل في حجر الوالد يفرحه في بعض الأوقات ببعض مآربه.(1/189)
ومن هذا القبيل ما نقل أن أبا محمد الراشي كان يشغل أصحابه بالسماع وينعزل عنهم ناحية يصلي؛ فقد تطرق هذه النغمات مثل هذا المصلي فتتدلى إليها النفس متنعمة بذلك؛ فيزداد مورد الروح من الأنس صفاء عند ذلك لبعد النفس عن الروح في تمتعها، فإنها مع طمأنينتها توصف من الأجنبية بوضعها وجبلتها، وفي بعدها توفر أقسام الروح من الفتوح، ويكون طروق الألحان سمعه في الصلاة غير محيل بينه وبين حقيقة المناجاة، وفهم تنزيل الكلمات، وتصل الأقسام إلى محالها غير مزاحمة ولا مزاحمة وذلك كله لسعة شرح الصدر بالإيمان والله المحسن المنان، ولهذا قيل: السماع لقوم كالدواء، ولقوم كالغذاء، ولقوم كالمروحة. ومن عود أقسام البكاء ما روي أن رسول الله قال لأبيّ: "اقْرَأْ، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فافتتح سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤلاء شَهيداً} فإذا عيناه تهملان".
وروي أن رسول الله استقبل الحجر واستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلاً يبكي، وقال: يا عمر ههنا تسكب العبرات. والمتمكن تعود إليه أقسام البكاء، وفي ذلك فضيلة سألها النبي فقال: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عَيْنَيْنِ هَطَّالَتَيْنِ" ويكون البكاء في الله، فيكون لله ويكون بالله هو الأتم لعوده إليه بوجود مستأنف موهوب له من الكريم المنان في مقام البقاء.
{الباب الخامس والعشرون}: في القول في السماع تأدباً واعتناء
ويتضمن هذا الباب آداب السماع، وحكم التخريق وإشارات المشايخ في ذلك، وما في ذلك من المأثور والمحذور.(1/190)
مبنى التصوف على الصدق في سائر الأحوال وهو جد كله، لا ينبغي لصادق أن يتعمد الحضور في مجمع يكون فيه سماع إلا بعد أن يخلص النية لله تعالى ويتوقع به مزيداً في إرادته وطلبه، ويحذر من ميل النفس لشيء من هواها، ثم يقدم الاستخارة للحضور ويسأل الله تعالى إذا عزم البركة فيه. وإذا حضر يلزم الصدق والوقار بسكون الأطراف، قال أبو بكر الكتاني رحمه الله: المستمع يجب أن يكون في سماعه غير مستروح إليه يهيج منه السماع وجداً أو شوقاً أو غلبة أو وارداً والوارد عليه يفنيه عن كل حركة وسكون، فيتقي الصادق استدعاء الوجد ويجتنب الحركة فيه مهما أمكن سيما بحضرة الشيوخ.
حكي أن شاباً كان يصحب الجنيد رحمه الله وكلما سمع شيئاً زعق وتغير، فقال له يوماً: إن ظهر منك شيء بعد هذا فلا تصحبني، فكان بعد ذلك يضبط نفسه، وربما كان من كل شعرة منه تقطر قطرة عرق، فلما كان يوماً من الأيام زعق زعقة فخرج روحه. فليس من الصدق إظهار الوجد من غير وجد نازل، أو ادعاء الحال من غير حال حاصل، وذلك عين النفاق.
قيل كان النصرآباذي رحمه الله كثير الولع بالسماع فعوتب في ذلك فقال: نعم هو خير من أن نقعد ونغتاب، فقال له أبو عمرو بن بجيد وغيره من إخوانه: هيهات يا أبا القاسم زلة في السماع شر من كذا وكذا سنة نغتاب الناس، وذلك أن زلة السماع إشارة إلى الله تعالى وترويح للحال بصريح المحال. وفي ذلك ذنوب متعددة: منها: أنه يكذب على الله تعالى أنه وهب له شيئاً وما وهب له. والكذب على الله من أقبح الزلات.
ومنها: أن يغر بعض الحاضرين فيحسن به الظن والإغرار خيانة، قال عليه السلام: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا".(1/191)
ومنها: أنه إذا كان مبطلاً ويرى بعين الصلاح فسوف يظهر منه بعد ذلك ما يفسد عقيدة المعتقد فيه فيفسد عقيدته في غيره ممن يظن به الخير من أمثاله، فيكون سبباً إلى فساد العقيدة في أهل الصلاح، ويدخل بذلك ضرر على الرجل الحسن الظن مع فساد عقيدته؛ فينقطع عنه مدد الصالحين، ويتشعب من هذا آفات كثيرة يعثر عليها من يبحث عنها.
ومنها: أنه يحوج الحاضرين إلى موافقته في قيامه وقعوده فيكون متكلفاً مكلفاً للناس بباطله، ويكون في الجمع من يرى بنور الفراسة أنه مبطل ويحمل على نفسه الموافقة للجمع مدارياً ويكثر شرح الذنوب في ذلك فليتق الله في ربه ولا يتحرك إلا إذا صارت حركته حركة المرتعش الذي لا يجد سبيلاً إلى الإمساك، وكالعاطس الذي لا يقدر أن يرد العطسة، وتكون حركته بمثابة النفس الذي يدعوه إليه داعية الطبع قهراً.
قال السري: شرط الواجد في زعقته أن يبلغ إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لا يشعر فيه بوجع، وقد يقع هذا لبعض الواجدين نادراً، وقد لا يبلغ الواجد هذه الرتبة من الغيبة، ولكن زعقته تخرج كالتنفس بنوع إرادة ممزوجة بالاضطرار. فهذا الضبط من رعاية الحركات ورد الزعقات وهو في تمزيق الثياب آكد، فإن ذلك يكون إتلاف المال وإنفاق المحال، وهكذا رمي الخرقة إلى الحادي لا ينبغي أن يفعل إلا إذا حضرته نية يجتنب فيها التكلف والمراءاة، وإذا حسنت النية فلا بأس بإلقاء الخرقة إلى الحادي، فقد روي عن كعب بن زهير أنه دخل على رسول الله المسجد وأنشده أبياته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
حتى انتهى إلى قوله فيها:
إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُسْتضاءُ به < مُهنَّدٌ من سُيوفِ اللَّه مَسْلولُ(1/192)
فقال له رسول الله: "مَنْ أَنْتَ؟" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أنا كعب بن زهير؛ فرمى رسول الله إليه بردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية بعث إلى كعب بن زهير: بعنا بردة رسول الله بعشرة آلاف، فوجه إليه ما كنت لأؤثر بثوب رسول الله أحداً. فلما مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألفاً وأخذ البردة، وهي البردة الباقية عند الإمام الناصر لدين الله اليوم عادت بركتها على أيامه الزاهرة.
وللمتصوفة آداب يتعاهدونها، ورعايتها حسن الأدب في الصحبة والمعاشرة، وكثير من السلف لم يكونوا يعتمدون ذلك؛ ولكن كل شيء استحسنوه وتواطؤوا عليه ولا ينكره الشرع لا وجه للإنكار فيه. فمن ذلك أن أحدهم إذا تحرك في السماع فوقعت منه خرقة أو نازله وجد ورمى عمامته إلى الحادي، فالمستحسن عندهم موافقة الحاضرين له في كشف الرأس إذا كان ذلك من متقدم وشيخ، وإن كان ذلك من الشبان في حضرة الشيوخ فليس على الشيوخ موافقة الشبان في ذلك، وينسحب حكم الشيوخ على بقية الحاضرين في ترك الموافقة للشبان، فإذا سكتوا عن السماع يرد الواجد إلى خرقته ويوافقه الحاضرون برفع العمائم ثم ردها على الرؤوس في الحال للموافقة، والخرقة إذا رميت إلى الحادي هي للحادي إذا قصد إعطاءه إياها، وإن لم يقصد إعطاءها للحادي، فقيل هي للحادي لأن المحرك هو ومنه صدر الموجب لرمي الخرقة. وقال بعضهم: هي للجمع والحادي واحد منهم لأن المحرك قول الحادي مع بركة الجمع في إحداث الوجد، وإحداث الوجد لا يتقاصر عن قول القائل فيكون الحادي واحداً منهما في ذلك.(1/193)
روي أن رسول الله قال يوم بدر: "مَنْ وَقَفَ بِمَكَانِ كَذَا فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ قُتِلَ فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ أُسِرَ فَلَهُ كَذَا" فتسارع الشبان وأقام الشيوخ والوجوه عند الرايات، فلما فتح الله على المسلمين طلب الشبان أن يجعل ذلك لهم، فقال الشيوخ: كنا ظهراً لكم وردءاً فلا تذهبوا بالغنائم دوننا، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ للَّهِ والرَّسُولِ} وقيل: إذا كان القوال من القوم يجعل كواحد منهم، وإذا لم يكن من القوم فما كان له قيمة يؤثر به، وما كان من خرق الفقراء يقسم بينهم.
وقيل إذا كان القوال أجيراً فليس له منها شيء، وإن كان متبرعاً يؤثر بذلك، وكل هذا إذا لم يكن هناك شيخ يحكم، فأما إذا كان هناك شيخ يهاب ويمتثل أمره فالشيخ يحكم في ذلك بما يرى، فقد تختلف الأحوال في ذلك وللشيخ اجتهاد فيفعل ما يرى فلا اعتراض لأحد عليه، وإن فداها بعض المحبين أو بعض الحاضرين فرضي القوال والقوم بما رضوا به وعاد كل واحد منهم إلى خرقته فلا بأس بذلك، وإذا أصر واحد على الإيثار بما خرج منه لنية له في ذلك يؤثر بخرقته الحادي، وأما تمزيق الخرقة المجروحة التي مزقها واجد صادق عن غلبة سلبت اختياره كغلبة النفس، فمن يتعمد إمساكه فنيتهم في تفرقتها وتمزيقها التبرك بالخرقة لأن الوجد أثر من آثار فضل الحق وتمزيق الخرقة أثر من آثار الوجد، فصارت الخرقة متأثرة بأثر رباني من حقها أن تفدى بالنفوس وتترك على الرؤوس إكراماً وإعزازاً:
تضوع أرواح نجد من ثيابهم يومَ القدوم لقرب العهد بالدارِ(1/194)
كان رسول الله يستقبل الغيث ويتبرك به ويقول: "حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ" فالخرقة الممزقة حديثة العهد، فحكم المجروحة أن تفرق على الحاضرين، وحكم ما يتبعها من الخرق الصحاح أن يحكم فيها الشيخ، إن خصص بشيء منها بعض الفقراء فله ذلك، وإن خرقها خرقاً فله ذلك، ولا يقال هذا تفريط وسرف فإن الخرقة الصغيرة ينتفع بها في موضعها عند الحاجات كالكبيرة.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أهدي لرسول الله حلة حرير فأرسل بها إليَّ فخرجت فيها فقال لي: "مَا كُنْتُ لأَكْرَهُ لِنَفْسِي شَيْئاً أَرْضَاهُ لَكَ فَشَقِّقْها بيْنَ النِّسَاءِ خمْراً". وفي رواية أتيته فقلت: ما أصنع بها ألبسها؟ قال: لا، ولكن اجعلها خمراً بين الفواطم، أراد فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت حمزة، وفي هذه الرواية أن الهدية كانت حلة مكفوفة بحرير، وهذا وجه في السنة لتمزيق الثوب وجعله خرقاً.
حكي أن الفقهاء والصوفية بنيسابور اجتمعوا في دعوة فوقعت الخرقة، وكان شيخ الفقهاء الشيخ أبا محمد الجويني، وشيخ الصوفية الشيخ أبا القاسم القشيري؛ فقسمت الخرقة على عادتهم؛ فالتفت الشيخ أبو محمد إلى بعض الفقهاء وقال سرّاً: هذا سرف وإضاعة للمال، فسمع أبو القاسم القشيري ولم يقل شيئاً حتى فرغت القسمة، ثم استدعى الخادم وقال: انظر في الجمع من معه سجادة خرق ائتني بها، فجاءه بسجادة ثم أحضر رجلاً من أهل الخبرة، فقال: هذه السجادة بكم تشترى في المزاد؟ قال: بدينار، قال: ولو كانت قطعة واحدة كم تساوي؟ قال: نصف دينار ثم التفت إلى الشيخ أبي محمد وقال: هذا لا يسمى إضاعة للمال. والخرقة الممزقة تقسم على جميع الحاضرين من كان من الجنس أو من غير الجنس إذا كان حسن الظن بالقوم معتقداً للتبرك بالخرقة.(1/195)
روى طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند، وأمدهم أهل الكوفة وعلى أهل الكوفة عمار بن ياسر، فظهروا وأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة من الغنيمة شيئاً، فقال رجل من بني تميم لعمار: أيها الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة، وذهب بعضهم إلى أن المجروح من الخرق يقسم على الجمع وما كان من ذلك صحيحاً يعطى للقوال، واستدل بما روي عن أبي قتادة قال: لما وضعت الحرب أوزارها يوم حنين وفرغنا من القوم قال رسول الله: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلْبُهُ" وهذا له وجه في الخرقة الصحيحة، فأما المجروحة فحكمها إسهام الحاضرين والقسمة لهم، ولو دخل على الجمع وقت القسمة من لم يكن حاضراً قسم له.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: لما قدمنا على رسول الله بعد خيبر بثلاث، فأسهم لنا ولم يسهم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا، ويكره للقوم حضور غير الجنس عندهم في السماع كمتزهد لا ذوق له في ذلك فينكر ما لا ينكر، أو صاحب دنيا يحوج إلى المداراة والتكلف، أو متكلف للوجد يشوش الوقت على الحاضرين بتواجده.
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن والده أبي الفضل الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري بسرخس، قال: أخبرنا أبو علي الفضل بن منصور بن نصر الكاغدي السمرقندي إجازة، قال: حدثنا الهيثم بن كليب، قال: أخبرنا أبو بكر عمار بن إسحاق قال: حدثنا سعيد عن عامر، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: كنا عند رسول الله إذ نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام؛ ففرح رسول الله فقال: "هَلْ فِيكُمْ مَنْ يُنْشِدُنَا؟" فقال بدوي: نعم يا رسول الله، فقال: "هَاتِ" فأنشأ الأعرابي:
قد لسعت حية الهوى كبدي < فلا طبيبٌ لها ولا راقي(1/196)
إلا الحبيب الذي شغفت به < فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فلما فرغوا أوى كل واحد منهم إلى مكانه، قال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول الله، فقال: "مَهْ يَا مُعَاوِيَةُ لَيْسَ بِكَرِيمٍ مَنْ لَمْ يَهْتَزَّ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِ الحَبيبِ" ثم قسم رداءه أي رسول الله على من حاضرهم بأربعمائة قطعة. فهذا الحديث أوردناه مسنداً كما سمعناه ووجدناه، وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث. وما وجدنا شيئاً نقل عن رسول الله يشاكل وجد أهل الزمان وسماعهم واجتماعهم وهيئتهم إلا هذا، وما أحسنه من حجة للصوفية وأهل الزمان في سماعهم وتمزيقهم الخرق وقسمتها أن لو صح والله أعلم.
ويخالج سري أنه غير صحيح، ولم أجد فيه ذوق اجتماع النبي مع أصحابه وما كانوا يعتمدونه على ما بلغنا في هذا الحديث ويأبى القلب قبوله، والله أعلم بذلك.
{الباب السادس والعشرون}: في خاصية الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية
ليس مطلوب القوم من "الأربعين" شيئاً مخصوصاً لا يطلبونه في غيرها؟ ولكن لما طرقتهم مخالفات حكم الأوقات أحبوا تقييد الوقت بالأربعين رجاء أن ينسحب حكم الأربعين على جميع زمانهم، فيكونوا في جميع أوقاتهم كهيئتهم في الأربعين. على أن الأربعين خصت بالذكر في قول رسول الله: "مَنْ أَخْلَصَ لله أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"، وقد خص الله تعالى الأربعين بالذكر في قصة موسى عليه السلام وأمره بتخصيص الأربعين بمزيد تبتل، قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً}.(1/197)
والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله تعالى ضرب من المكالمة: ومن انقطع إلى الله أربعين يوماً مخلصاً متعاهداً نفسه بخفة المعدة يفتح الله عليه العلوم اللدنية، كما أخبر رسول الله بذلك. غير أن تعيين الأربعين من المدة في قول رسول الله وفي أمر الله تعالى موسى عليه السلام بذلك، والتحديد والتقييد بالأربعين لحكمة فيه. ولا يطلع أحد على حقيقة ذلك إلا الأنبياء إذا عرفهم الحق ذلك أو من يخصه الله تعالى بتعريف ذلك من غير الأنبياء. ويلوح في سر ذلك معنى، والله أعلم.
وذلك أن الله تعالى لما أراد بتكوين آدم من تراب قدر التخمير بهذا القدر من العدد. كما ورد: "خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً" فكان آدم لما كان مستصلحاً لعمارة الدارين وأراد الله تعالى منه عمارة الدنيا كما أراد منه عمارة الجنة كونه من التراب تركيباً يناسب عالم الحكمة والشهادة، وهذه الدار الدنيا. وما كانت عمارة الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضية سفلية بحسب قانون الحكمة. فمن التراب كونه، وأربعين صباحاً خمر طينته؛ ليبعد بالتخمير أربعين صباحاً بأربعين حجاباً من الحضرة الإلهية كل حجاب هو معنى مودع فيه يصلح به لعمارة الدنيا ويتعوق به عن الحضرة الإلهية ومواطن القرب؛ إذ لو لم يتعوق بهذا الحجاب ما عمرت الدنيا. فتأصل العبد عن مقام القرب فيه لعمارة عالم الحكمة وخلافة الله تعالى في الأرض. فالتبتل لطاعة الله تعالى والإقبال عليه والانتزاع عن التوجه إلى أمر المعاش بكل يوم يخرج عن حجاب هو معنى فيه مودع. وعلى قدر زوال كل حجاب ينجذب ويتخذ منزلاً في القرب من الحضرة الإلهية التي هي مجمع العلوم ومصدرها. فإذا تمت الأربعون زالت الحجب وانصبت إليه العلوم والمعارف انصباباً.(1/198)
ثم العلوم والمعارف هي أعيان انقلبت أنواراً باتصال إكسير نور العظمة الإلهية بها، فانقلبت أعيان حديث النفس علوماً إلهامية، وتصدت أجرام حديث النفس لقبول أنوار العظمة، فلولا وجود النفس وحديثها ما ظهرت العلوم الإلهية؛ لأن حديث النفس وعاء وجودي لقبول الأنوار وما للقلب في ذاته لقبول العلم شيء، وقول رسول الله: "ظَهَرَتْ يَنَابيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ". أشار إلى القلب باعتبار أن للقلب وجهاً إلى النفس باعتبار توجهه إلى عالم الشهادة، وله وجه إلى الروح باعتبار توجهه إلى عالم الغيب، فيستمد القلب العلوم المكنونة في النفس ويخرجها إلى اللسان الذي هو ترجمانه، فظهور العلوم من القلب لأنها متأصلة فيه، فللقلب والروح مراتب من قرب الملهم سبحانه وتعالى فوق رتب الإلهام، فالعبد بانقطاعه إلى الله تعالى واعتزال الناس يقطع مسافات وجوده ويستنبط من معدن نفسه جواهر العلوم.(1/199)
وقد ورد في الخبر: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقهُوا" ففي كل يوم بإخلاصه في العمل لله يكشف طبقة من الطباق الترابية الجبلية المبعدة عن الله تعالى إلى أن يكشف باستكمال الأربعين أربعين طبقة، في كل يوم طبقة من أطباق حجابه، وآية صحة هذا العبد وعلامة تأثره بالأربعين ووفائه بشروط الإخلاص أن يزهد بعد الأربعين في الدنيا ويتجافى عن دار الغرور، وينيب إلى دار الخلود، لأن الزهد في الدنيا من ضرورة ظهور الحكمة، ومن لم يزهد في الدنيا ما ظفر بالحكمة، ومن لم يظفر بالحكمة بعد الأربعين تبين أنه قد أخل بالشروط ولم يخلص لله تعالى، ومن لم يخلص لله تعالى ما عبد الله، لأن الله تعالى أمرنا بالإخلاص كما أمرنا بالعمل فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أخبرنا الشيخ طاهر بن أبي الفضل إجازة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف إجازة، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا أبو منصور الضبعي، قال: حدثنا محمد بن أشرس، قال: حدثنا حفص بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عاصم، عن زر، عن صفوان بن عسال رضي الله عنه، عن النبي قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَجِيءُ الإِخْلاَصُ وَالشِّرْكُ يَجْثُوَانِ بيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ لِلإِخْلاَصِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلَكَ إِلَى الجَنَّةِ. وَيَقُولُ لِلشِّرْكِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلَكَ إِلَى النَّارِ".(1/200)
وبهذا الإسناد قال السلمي: سمعت علي بن سعيد وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سمعت إبراهيم الشقيقي وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سمعت محمد بن جعفر الخصاف وسألته عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشروطي عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسان عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت أحمد بن علي الهجيمي عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص ما هو؟ قال: سأت حذيفة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت النبي عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: هو سر من سري أودعته قلب من أحببت من عبادي.
فمن الناس من يدخل الخلوة على مراغمة النفس، إذ النفس بطبعها كارهة للخلوة ميالة إلى مخالطة الخلق، فإذا أزعجها عن مقارِّ عادتها وحبسها على طاعة الله تعالى يعقب كل مرارة تدخل عليها حلاوة في القلب.
قال ذون النون رحمه الله: لم أر شيئاً أبعث على الإخلاص من الخلوة، ومن أحب الخلوة، فقد استمسك بعمود الإخلاص وظفر بركن من أركان الصدق، وقال الشبلي رحمه الله لرجل استوصاه: الزم الوحدة وامح اسمك عن القوم واستقبل الجدار حتى تموت، وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: الوحدة منية الصديقين.(1/201)
ومن الناس من ينبعث من باطنه داعية الخلوة وتنجذب النفس إلى ذلك وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد، وقد روي من حال رسول الله ما يدل على ذلك فيما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إملاء قال: أخبرنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد المقري، قال: أخبرنا جعفر بن الحكاك المكي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الصنعاني، قال: أخبرنا أبو عبد الله البغوي، قال: أخبرنا إسحاق الديري قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر قال: أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدىء به رسول الله من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال رسول الله: مَا أَنَا بِقَارِىءٍ؟ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
وحدث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فَبيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيَ بيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْباً فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي؟ فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.(1/202)
وقد نقل أن رسول الله ذهب مراراً كي يردي نفسه من شواهق الجبال، فكلما وافى ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه؛ وإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك فيتبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك، فهذه الأخبار المنبئة عن بدء أمر رسول الله هي الأصل في إيثار المشايخ الخلوة للمريدين والطالبين؛ فإنهم إذا أخلصوا لله تعالى في خلواتهم يفتح الله عليهم ما يؤنسهم في خلوتهم تعويضاً من الله إياهم عما تركوا لأجله، ثم خلوة القوم مستمرة، وإنما الأربعون واستكمالها لها أثر ظاهر في ظهور مبادىء بشائر الحق سبحانه وتعالى وسنوح مواهبه السنية.
{الباب السابع والعشرون}: في ذكر فتوح الأربعينية
وقد غلط في طريق الخلوة والأربعينية قوم وحرفوا الكلم عن مواضعه ودخل عليهم الشيطان وفتح عليهم باباً من الغرور ودخلوا الخلوة على غير أصل مستقيم من تأدية حق الخلوة بالإخلاص، وسمعوا أن المشايخ والصوفية كانت لهم خلوات وظهرت لهم وقائع وكوشفوا بغرائب وعجائب فدخلوا الخلوة لطلب ذلك، وهذا عين الاعتلال ومحض الضلال، وإنما القوم اختاروا الخلوة والوحدة لسلامة الدين وتفقد أحوال النفس وإخلاص العمل لله تعالى.
ونقل عن أبي عمرو الأنماطي أنه قال: لن يصفو للعاقل فهم الأخير إلا بإحكامه ما يجب عليه من إصلاح الحال الأول، والمواطن التي ينبغي أن يعرف منها أمزداد هو أم منتقص؟ فعليه أن يطلب مواضع الخلوة لكي لا يعارضه شاغل فيفسد عليه ما يريده.
أنبأنا طاهر بن أبي الفضل إجازة عن أبي بكر بن خلف إجازة قال: أنبأنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت أبا تميم المغربي يقول: من اختار الخلوة على الصحبة فينبغي أن يكون خالياً من جميع الأفكار إلا ذكر ربه عز وجل، وخالياً من جميع المرادات إلا مراد ربه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب فإن لم يكن بهذه الصفة فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية.(1/203)
أخبرنا أبو زرعة إجازة قال: أخبرنا أبو بكر إجازة، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت منصوراً يقول: سمع محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الوراق وقال له: أوصني، فقال: وجدت الدنيا والآخرة في الخلوة والقلة ووجدت شرهما في الكثرة والاختلاط.
فمن دخل الخلوة معتلاً في دخوله دخل عليه الشيطان وسوّل له أنواع الطغيان، وامتلأ من الغرور والمحال فظن أنه على حسن الحال، فقد دخلت الفتنة على قوم دخلوا الخلوة بغير شروطها وأقبلوا على ذكر من الأذكار واستجموا نفوسهم بالعزلة عن الخلوة، ومنعوا الشواغل من الحواس كفعل الرهابين والبراهمة والفلاسفة، والوحدة في جمع الهم لها تأثير في صفاء الباطن مطلقاً، فما كان من ذلك بحسن سياسة الشرع وصدق المتابعة لرسول الله أنتج تنوير القلب والزهد في الدنيا وحلاوة الذكر، والمعاملة لله بالإخلاص من الصلاة والتلاوة وغير ذلك، وما كان من ذلك من غير سياسة الشرع ومتابعة رسول الله ينتج صفاء في النفس يستعان به على اكتساب علوم الرياضة مما يعتني به الفلاسفة والدهريون ـ خذلهم الله تعالى ـ وكلما أكثر من ذلك بعد عن الله.(1/204)
ولا يزال المقبل على ذلك يستغويه الشيطان بما يكتسب من العلوم الرباطية أو بما قد يتراءى به من صدق الخاطر وغير ذلك حتى يركن إليه الركون التام ويظن أنه فاز بالمقصود، ولا يعلم أن هذا الفن من الفائدة غير ممنوع من النصارى والبراهمة، وليس هو المقصود من الخلوة بقول بعضهم: إن الحق يريد منك الاستقامة وأنت تطلب الكرامة، وقد يفتح على الصادقين شيء من خوارق العادات، وصدق الفراسة، ويتبين ما سيحدث في المستقبل، وقد لا يفتح عليهم ذلك، ولا يقدح في حالهم عدم ذلك، وإنما يقدح في حالهم الانحراف عن حد الاستقامة، فما يفتح من ذلك على الصادقين يصير سبباً لمزيد إبقائهم والداعي لهم إلى صدق المجاهدة والمعاملة والزهد في الدنيا والتخلق بالأخلاق الحميدة وما يفتح من ذلك على من ليس تحت سياسة الشرع يصير سبباً لمزيد بعده وغروره وحماقته واستطالته على الناس وازدرائه بالخلق، ولا يزال به حتى يخلع ربقة الإسلام عن عنقه وينكر الحدود والأحكام والحلال والحرام، ويظن أن المقصود من العبادات ذكر الله تعالى ويترك متابعة الرسول ؛ ثم يتدرج من ذلك إلى تلحد وتزندق نعوذ بالله من الضلال، وقد يلوح لأقوام خيالات يظنونها وقائع ويشبهونها بوقائع المشايخ من غير علم بحقيقة ذلك، فمن أراد تحقيق ذلك فليعلم أن العبد إذا أخلص لله وأحسن نيته وقعد في الخلوة أربعين يوماً أو أكثر؛ فمنهم من يباشر باطنه صفو اليقين ويرفع الحجاب عن قلبه ويصير كما قال قائلهم: رأى قلبي ربي، وقد يصل إلى هذا المقام تارة بإحياء الأوقات بالصالحات وكف الجوارح وتوزيع الأوراد من الصلاة والتلاوة والذكر على الأوقات، وتارة يبادئه الحق لموضع صدقه وقوة استعداده مبادأة من غير عمل وجد منه، وتنارة يجد ذلك بملازمة ذكر واحد من الأذكار لأنه لا يزال يردد ذلك الذكر ويقوله، وتكون عبادته الصلوات الخمس بسننها الراتبة فحسب، وسائر أوقاته مشغولة بالذكر الواحد لا يتخللها فتور، ولا يوجد منه(1/205)
قصور، ولا يزال يردد ذلك الذكر ملتزماً به حتى في طريق الوضوء وساعة الأكل لا يفتر عنه.
واختار جماعة من المشايخ من الذكر كلمة: "لا إله إلا الله" وهذه الكلمة لها خاصية في تنوير الباطن وجمع الهم إذا داوم عليها صادق مخلص، وهي من مواهب الحق لهذه الأمة، وفيها خاصية لهذه الأمة، فيما حدثنا شيخنا ضياء الدين إملاء قال: أخبرنا أبو القاسم الدمشقي الحافظ قال: أخبرنا عبد الكريم بن الحسين قال: أخبرنا عبد الوهاب الدمشقي قال: أخبرنا محمد بن خريم قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه: أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة محمد عليه الصلاة والسلام علماء أخفياء أتقياء حلماء أصفياء حكماء كأنهم يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى هم أكثر سكان الجنة لأنها لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت رقابهم".(1/206)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "إن هذه الآية مكتوبة في التوراة؛ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للمؤمنين وكنزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى تقام به الملة المعوجة بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتحوا أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً". فلا يزال العبد في خلوته يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير الكلمة متأصلة في القلب مزيلة لحديث النفس ينوب معناها في القلب عن حديث النفس؛ فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان يتشربها القلب، فلو سكت اللسان لم يسكت القلب، ثم تتجوهر في القلب وبتجوهرها يستكن نور اليقين في القلب، حتى إذا ذهبت صورة الكلمة من اللسان والقلب لا يزال نورها متجوهراً ويتخذ الذكر مع رؤية عظمة المذكور سبحانه وتعالى، ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة ـ أعني ذكر الذات بتجوهر نور الذكر ـ(1/207)
وهذا هو المقصد الأقصى من الخلوة. وقد يحصل هذا من الخلوة لا بذكر الكلمة بل بتلاوة القرآن إذا أكثر من التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان، حتى تجري التلاوة على اللسان، ويقوم معنى الكلام مقام حديث النفس، فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة ويتنوّر الباطن بتلك السهولة في التلاوة والصلاة ويتجوهر نور الكلام في القلب ويكون منه أيضاً ذكر الذات ويجتمع نور الكلام في القلب مع مطالعة عظمة المتكلم سبحانه وتعالى، ودون هذه الموهبة ما يفتح على العبد من العلوم الإلهامية اللدنية، وإلى حين بلوغ العبد هذا المبلغ من حقيقة الذكر والتلاوة إذا صفا باطنه قد يغيب في الذكر من كمال أنسه وحلاوة ذكره حتى يلتحق في غيبته في الذكر بالنائم، وقد تتجلى له الحقائق في لبسة الخيال أولاً كما تنكشف الحقائق للنائم في لبسة الخيال، كمن رأى في المنام أنه قتل حية فيقول له المعبر: تظفر بالعدو، فظفره بالعدوّ هو كشف كاشفه الحق تعالى به، وهذا الظفر روح مجرد صاغ مثل الرؤيا له جسداً لهذا الروح من خيال الحية، فالروح الذي هو كشف الظفر إخبار الحق، ولبسة الخيال الذي هو بمثابة الجسد مثال انبعث من نفس الرائي في المنام من استصحاب القوة الوهمية والخيالية من اليقظة فيتألف روح كشف الظفر مع جسد مثال الحية فافتقر إلى التعبير، إذ لو كشف بالحقيقة التي هي روح الظفر من غير هذا المثال الذي هو بمثابة الجسد ما احتاج إلى التعبير، فكان يرى الظفر ويصح الظفر وقد يتجرد الخيال باستصحاب الخيال والوهم من اليقظة في المنام من غير حقيقة فيكون المنام أضغاث أحلام لا يعبر،(1/208)
وقد يتجرد لصاحب الخلوة الخيال المنبعث من ذاته من غير أن يكون وعاء لحقيقة فلا يبني على ذلك ولا يلتفت إليه، فليس ذلك واقعة وإنما هو خيال، فأما إذا غاب الصادق فيه ذكر الله تعالى حتى يغيب عن المحسوس بحيث لو دخل عليه داخل من الناس لا يعلم به لغيبته في الذكر، فعند ذلك قد ينبعث في الابتداء من نفسه مثال وخيال ينفخ فيه روح الكشف فإذا عاد من غيبته فإما يأتيه تفسيره من باطنه موهبة من الله تعالى وإما يفسره له شيخه، كما يعبر المعبر المنام ويكون ذلك واقعة لأنه كشف حقيقة في لبسة مثال، مثال وشرط صحة الواقعة الإخلاص في الذكر أولاً، ثم الاستغراق في الذكر ثانياً وعلامة ذلك الزهد في الدنيا وملازمة التقوى لأن الله جعله بما يكاشف به في واقعه مورد الحكمة، والحكمة تحكم بالزهد والتقوى، وقد يتجرد للذاكر الحقائق من غير لبسة المثال فيكون ذلك كشفاً وإخباراً من الله تعالى إياه، ويكون ذلك تارة بالرؤية وتارة بالسماع، وقد يسمع من باطنه وقد يطرق ذلك من الهواء لا من باطنه كالهواتف يعلم بذلك أمراً يريد الله إحداثه له أو لغيره فيكون إخبار الله إياه بذلك مزيداً ليقينه، أو يرى في المنام حقيقة الشيء.
نقل عن بعضهم أنه أتي بشراب في قدح فوضعه من يده وقال: قد حدث في العالم حدث، ولا أشرب هذا دون أن أعلم ما هو؛ فانكشف له أن قوماً دخلوا مكة وقتلوا فيها.
وحكي عن أبي سليمان الخواص قال: كنت راكباً حماراً لي يوماً، وكان يؤذيه الذباب فيطأطىء رأسه؛ فكنت أضرب رأسه بخشبة كانت في يدي؛ فرفع الحمار رأسه إليَّ وقال: اضرب فإنك على رأسك تضرب، قيل له: يا أبا سليمان وقع لك ذلك أو سمعته؟ فقال: سمعته يقول كما سمعتني.
وحكي عن أحمد بن عطاء الروذباري قال: كان لي مذهب في أمر الطهارة؛ فكنت ليلة من الليالي أستنجي إلى أن مضى ثلث الليل ولم يطب قلبي فتضجرت، فبكيت وقلت: يا رب العفو: فسمعت صوتاً ولم أر أحداً يقول: يا أبا عبد الله العلو في العلم.(1/209)
وقد يكاشف الله تعالى عبده بآيات وكرامات تربية للعبد وتقوبة ليقينه وإيمانه. قيل: كان عند جعفر الخلدي رحمه الله فص له قيمة، وكان يوماً من الأيام راكباً في السمارية في دجلة، فهم أن يعطي الملاح قطعة وحل الخرقة فوقع الفص في الدجلة، وكان عنده دعاء للضالة مجرب، وكان يدعو به فوجد الفص في وسط أوراق كان يتصفحها والدعاء هو أن يقول: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع علي ضالتي.
وسمعت شيخنا بهمذان حكى له شخص أنه كوشف في بعض خلواته بولد له في جيحون كاد يسقط في الماء من السفينة قال: فزجرته فلم يسقط. وكان هذا الشخص بنواحي همذان وولده بجيحون؛ فلما قدم الولد أخبر أنه كاد يسقط في الماء فسمع صوت والده فلم يسقط.
وقال عمر رضي الله عنه: يا سارية الجبل ـ على المنبر بالمدينة وسارية بنهاوند ـ فأخذ سارية نحو الجبل وظفر بالعدو؛ فقيل لسارية كيف علمت ذلك؟ فقال: سمعت صوت عمر وهو يقول: يا سارية الجبل.
سئل ابن سالم وكان قد قال: للإيمان أربعة أركان: ركن منه الإيمان بالقدرة، وركن منه الإيمان بالحكمة، وركن منه التبري من الحول والقوة، وركن منه الاستعانة بالله عز وجل في جميع الأشياء قيل له: ما معنى قولك الإيمان بالقدرة؟ فقال: هو أن تؤمن ولا تنكر أن يكون لله عبد بالمشرق ـ قائماً على يمينه ـ ويكون من كرامة الله له أن يعطيه من القوة ما ينقلب من يمينه على يساره، فيكون بالمغرب نؤمن بجواز ذلك وكونه.(1/210)
وحكى لي فقير أنه كان بمكة وأرجف على شخص ببغداد أنه قد مات؛ فكاشفه الله بالرجل وهو راكب يمشي في سوق بغداد فأخبر إخوانه أن الشخص لم يمت. وكان كذلك حتى ذكر لي هذا الشخص أنه في تلك الحالة التي كوشف بالشخص راكباً قال: رأيته في السوق وأنا أسمع بأذني صوت المطرقة من الحداد في سوق بغداد وكل هذه مواهب الله تعالى وقد يكاشف بها قوم وتعطى، وقد يكون فوق هؤلاء من لا يكون له شيء من هذا لأن هذه كلها تقوية اليقين. ومن منح صرف اليقين لا حاجة له إلى شيء من هذا. فكل هذه الكرامات دون ما ذكرناه من تجوهر الذكر في القلب ووجوده ذكر الذات، فإن تلك الحكمة فيها تقوية للمريدين وتربية للسالكين ليزدادوا بها يقيناً يجذبون به إلى مراغمة النفوس والسلو عن ملاذ الدنيا ويستنهض منهم بذلك ساكن عزمهم لعمارتهم الأوقات بالقربات؛ فيتروحون بذلك ويروقون لطريقة من كوشف بصرف اليقين من ذلك لمكان أن نفسه أسرع إجابة وأسهل انقياداً وأتم استعداداً. والأولون استلين بذلك منهم ما استوعر واستكشف منهم ما استتر.
وقد لا يمنع صور ذلك الرهابين والبراهمة ممن هو غير منتهج سبل الهدى وراكب طريق الردى ليكون ذلك في حقهم مكراً واستدراجاً؛ ليستحسنوا حالهم ويستقروا في مقار الطرد والبعد إبقاء لهم فيما أراد الله منهم من العمى والضلال والردى والوبال؛ حتى لا يغتر السالك بيسير شيء يفتح له، ويعلم أنه لو مشي على الماء والهواء لا ينفعه ذلك حتى يؤدي حق التقوى والزهد، فأما من تعوّق بخيال أو قنع بمحال ولم يحكم أساس خلوته بالإخلاص يدخل الخلوة بالزور ويخرج بالغرور، فيرفض العبادات ويستحقرها ويسلبه الله تعالى لذة المعاملة وتذهب عن قلبه هيبة الشريعة ويفتضح في الدنيا والآخرة.(1/211)
فليعلم الصادق أن المقصود من الخلوة التقرب إلى الله تعالى بعمارة الأوقات وكف الجوارح عن المكروهات، فيصلح لقوم من أرباب الخلوة إدامة الأوراد وتوزيعها على الأوقات، ويصلح لقوم ملازمة ذكر واحد ويصلح لقوم دوام المراقبة، ويصلح لقوم الانتقال من الذكر إلى الأوراد، ولقوم الانتقال من الأوراد إلى الذكر، ومعرفة مقادير ذلك يعلمه المصحوب للشيخ المطلع على اختلاف الأوضاع وتنوعها مع نصحه للأمة وشفقته على الكافة، يريد المريد لله لا لنفسه، غير مبتلى بهوى نفسه، محباً للاستتباع، ومن كان محباً للاستتباع فما يفسده مثل هذا أكثر مما يصلحه.
{الباب الثامن والعشرون}: في كيفية الدخول في الأربعينية
روي أن داود عليه السلام لما ابتلي بالخطيئة خر لله ساجداً أربعين يوماً وليلة حتى أتاه الغفران من ربه.
وقد تقرر أن الوحدة والعزلة ملاك الأمر ومتمسك أرباب الصدق، فمن استمرت أوقاته على ذلك فجميع عمره خلوة وهو الأسلم لدينه، فإن لم يتيسر له ذلك وكان مبتلى بنفسه أولاً ثم بالأهل والأولاد ثانياً فليجعل لنفسه من ذلك نصيباً.(1/212)
نقل عن سفيان الثوري فيما روى أحمد بن حرب عن خالد بن زيد عنه أنه قال: كان يقال ما أخلص عبد لله أربعين صباحاً إلا أنبت الله سبحانه الحكمة في قلبه، وزهده الله في الدنيا، ورغبه في الآخرة، وبصره داء الدنيا ودواءها، فيتعاهد للعبد نفسه في كل سنة مرة، وأما المريد الطالب إذا أراد أن يدخل الخلوة فأكمل الأمر في ذلك أن يتجرد من الدنيا ويخرج كل ما يملكه ويغتسل غسلاً كاملاً ـ بعد الاحتياط للثوب والمصلى بالنظافة والطهارة ـ ويصلي ركعتين ويتوب إلى الله تعالى من ذنوبه ببكاء وتضرع واستكانة وتخشع، ويسوي بين السريرة والعلانية ولا ينطوي على غل وغش وحقد وحسد وخيانة، ثم يقعد في موضع خلوته ولا يخرج إلا لصلاة الجمعة وصلاة الجماعة، فترك المحافظة على صلاة الجماعة غلط وخطأ، فإن وجد تفرقة في خروجه يكون له شخص يصلي معه جماعة في خلوته، ولا ينبغي أن يرضى بالصلاة منفرداً البتة فبترك الجماعة يخشى عليه آفات، وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته ولعل ذلك بشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة، غير أنه ينبغي أن يخرج من خلوته لصلاة الجماعة وهو ذاكر لا يفتر عن الذكر، ولا يكثر إرسال الطرف إلى ما يرى، ولا يصغي إلى ما يسمع لأن القوة الحافظة والمتخيلة كلوح ينتقش بكل مرئي ومسموع، فيكثر بذلك الوسواس وحديث النفس والخيال، ويجتهد أن يحضر الجماعة بحيث يدرك مع الإمام تكبيرة الإحرام، فإذا سلم الإمام وانصرف ينصرف إلى خلوته، ويتقي في خروجه استجلاء نظر الخلق إليه وعلمهم بجلوسه في خلوته، فقد قيل: لا تطمع في المنزلة عند الله وأنت تريد المنزلة عند الناس، وهذا أصل ينفسد به كثير من الأعمال إذا أهمل وينصلح به كثير من الأحوال إذا اعتبر، ويكون في خلوته جاعلاً وقته شيئاً واحداً موهوباً لله بإدامة فعل الرضا إما تلاوة أو ذكراً أو صلاة أو مراقبة، وأي وقت فتر عن هذه الأقسام ينام.(1/213)
فإن أراد تعيين أعداد من الركعات ومن التلاوة والذكر أتى بذلك شيئاً فشيئاً، وإن أراد أن يكون بحكم الوقت يعتمد أخف ما على قلبه من هذه الأقسام، فإذا فتر عن ذلك ينام، وإن أراد أن يبقى في سجود واحد أو ركوع واحد أو ركعة واحدة أو ركعتين ساعة أو ساعتين فعل، ويلازم في خلوته إدامة الوضوء ولا ينام إلا عن غلبة بعد أن يدفع النوم عن نفسه مرات. فيكون هذا شغله ليله ونهاره وإذا كان ذاكراً لكلمة: لا إله إلا الله. وسئمت النفس الذكر باللسان يقولها بقلبه من غير حركة اللسان. وقد قال سهل بن عبد الله إذا قلت: لا إله إلا الله. مد الكلمة وانظر إلى قدم الحق فأثبته وأبطل ما سواه، وليعلم أن الأمر كالسلسلة يتداعى حلقة حلقة فليكن دائم التلزم بفعل الرضا.
وأما قوت من في الأربعينية والخلوة، فالأولى أن يقتنع بالخبز والملح ويتناول كل ليلة رطلاً واحداً ـ بالبغدادي ـ يتناوله بعد العشاء الآخرة، وإن قسمه نصفين يأكل أول الليل نصف رطل وآخر الليل نصف رطل فيكون ذلك أخف للمعدة وأعون على قيام الليل وإحيائه بالذكر والصلاة، وإن أراد تأخير فطوره إلى السحر فليفعل، وإن لم يصبر على ترك الإدام يتناول الإدام، وإن كان الإدام شيئاً يقوم مقام الخبز ينقص من الخبز بقدر ذلك، وإن أراد التقلل من هذا القدر أيضاً ينقص كل ليلة دون اللقمة بحيث ينتهي تقلله في العشر الأخير من الأربعين إلى نصف رطل وإن قوي قنع النفس بنصف رطل من أول الأربعين ونقص يسيراً كل ليلة بالتدريج حتى يعود فطوره إلى ربع رطل في العشر الأخير.(1/214)
وقد اتفق مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء: قلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام والاعتزال عن الناس، وقد جعل للجوع وقتان: أحدهما: آخر الأربع والعشرين ساعة فيكون من الرطل لكل ساعتين أوقية بأكلة واحدة يجعلها بعد العشاء الآخرة أو يقسمها أكلتين كما ذكرنا، والوقت الآخر: على رأس اثنتين وسبعين ساعة؛ فيكون الطي ليلتين والإفطار في الليلة الثالثة، ويكون لكل يوم وليلة ثلث رطل، وبين هذين الوقتين وقت وهو أن يفطر من كل ليلتين ليلة، ويكون لكل يوم وليلة نصف رطل، وهذا ينبغي أن يفعله إذا لم ينتج عليه سآمة وضجراً وقلة انشراح في الذكر والمعاملة، فإذا وجد شيئاً من ذلك فليفطر كل ليلة ويأكل الرطل في الوقتين أو الوقت الواحد، فالنفس إذا أخذت بالإفطار من كل ليلتين ليلة، ثم ردت إلى الإفطار كل ليلة تقنع، وإن سومحت بالإفطار كل ليلة لا تقنع بالرطل وتطلب الإدام والشهوات، وقس على هذا، فهي إن أطمعت طمعت، وإن أقنعت قنعت، وقد كان بعضهم ينقص كل ليلة حتى يرد النفس إلى أقل قوتها، ومن الصالحين من كان يعير القوت بنوى التمر وينقص كل ليلة نواة، ومنهم من كان يعير بعود رطب وينقص كل ليلة بقدر نشاف العود، ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفني الرغيف في شهر، ومنهم من كان يؤخر الأكل ولا يعمل في تقليل القوت ولكن يعمل في تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة، وقد فعل ذلك طائفة حتى انتهى طيهم إلى سبعة أيام وعشرة أيام وخمسة عشر يوماً إلى الأربعين.(1/215)
وقد قيل لسهل ابن عبد الله: هذا الذي يأكل في كل أربعين وأكثر أكلة أين يذهب لهب الجوع عنه؟ قال: يطفئه النور، وقد سألت بعض الصالحين عن ذلك فذكر لي كلاماً بعبارة دلت على أنه يجد فرحاً بربه ينطفىء معه لهب الجوع، وهذا في الخلق واقع أن الشخص يطرقه فرح وقد كان جائعاً فيذهب عنه الجوع، وهكذا في طرق الخوف يقع ذلك، ومن فعل ذلك ودرج نفسه في شيء من هذه الأقسام التي ذكرناها لا يؤثر ذلك في نقصان عقله واضطراب جسمه إذا كان في حماية الصدق والإخلاص؛ وإنما يخشى في ذلك وفي دوام الذكر على من لا يخلص لله تعالى.
وقد قيل: حد الجوع أن لا يميز بين الخبز وغيره مما يؤكل، ومتى عيبت النفس الخبز فليس بجائع، وهذا المعنى قد يوجد في آخر الحدين بعد ثلاثة أيام، وهذا جوع الصديقين، وطلب الغذاء عند ذلك يكون ضرورة لقوام الجسد والقيام بفرائض العبودية. ويكون هذا حدّ الضرورة لمن لا يجتهد في التقليل بالتدريج فأما من درج نفسه في ذلك فقد يصبر على أكثر من ذلك إلى الأربعين ـ كما ذكرنا ـ وقد قال بعضهم: حدّ الجوع أن يبزق؛ فإذا لم يقع الذباب على بزاقه يدل هذا على خلو المعدة من الدسومة، وصفاء البزاق كالماء الذي لا يقصده الذباب.(1/216)
روي أن سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم رضي الله عنهما كانا يطويان ثلاثاً ثلاثاً، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستاً. وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يطوي سبعة أيام. واشتهر حال جدنا محمد بن عبد الله ـ المعروف بعمويه رحمه الله، وكان صاحب أحمد الأسود الدينوري ـ أنه كان يطوي أربعين يوماً، وأقصى ما بلغ في هذا المعنى من الطي: رجل أدركنا زمانه وما رأيته ـ كان في أبهر يقال له الزاهد خليفة كان يأكل في كل شهر لوزة، ولم نسمع أنه بلغ في هذه الأمة أحد بالطي والتدريج إلى هذا الحد، وكان في أول أمره على ما حكي ينقص القوت بنشاف العود ثم طوى حتى انتهى إلى اللوزة في الأربعين، ثم إنه قد يسلك هذا الطريق جمع من الصادقين وقد يسلك غير الصادق هذا لوجود هوى مستكن في باطنه يهون عليه ترك الأكل إذا كان له استحلاء لنظر الخلق وهذا عين النفاق نعوذ بالله من ذلك، والصادق ربما يقدر على الطي إذا لم يعلم بحاله أحد؛ وربما تضعف عزيمته في ذلك إذا علم بأنه يطوى؛ فإن صدقه في الطي ونظره إلى من يطوى لأجله يهون عليه الطي؛ فإذا علم به أحد تضعف عزيمته في ذلك، وهذا علامة الصادق فمهما أحس في نفسه أنه يحب أن يرى بعين التقلل فليتهم نفسه فإن فيه شائبة النفاق، ومن يطوي لله يعوضه الله تعالى فرحاً في باطنه ينسيه الطعام، وقد لا ينسى الطعام ولكن امتلاء قلبه بالأنوار يقوي جاذب الروح الروحاني فيجذبه إلى مركزه ومستقره من العالم الروحاني وينفر بذلك عن أرض الشهوة النفسانية، وأما أثر جاذب الروح إذا تخلف عنه جاذب النفس عند كمال طمأنينتها وانعكاس أنوار الروح عليها بواسطة القلب المستنير فأجل من جذب المغناطيس للحديد؛ إذ المغناطيس يجذب الحديد لروح في الحديد مشاكل للمغناطيس فيجذبه بنسبة الجنسية الخاصة، فإذا تجنست النفس بعكس نور الروح الواصل إليها بواسطة القلب يصير في النفس روح استمدها القلب من الروح وأداها إلى النفس فتجذب الروح(1/217)
النفس بجنسية الروح الحادثة فيها فتزدري الأطعمة الدنيوية والشهوات الحيوانية. ويتحقق عنده قول رسول الله "أَبيْتُ عِنْدَ رَبي يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِي" ولا يقدر على ما وصفناه إلا عبد تصير أعماله وأقواله وسائر أحواله ضرورة فيتناول من الطعام أيضاً ضرورة، ولو تكلم مثلاً بكلمة من غير ضرورة التهب فيه نار الجوع التهاب الحلفاء بالنار، لأن النفس الراقدة تستيقظ بكل ما يوقظها وإذا استيقظت نزعت إلى هواها، فالعبد المراد بهذا إذا فطن لسياسة النفس ورزق العلم سهل عليه الطي وتداركته المعونة من الله تعالى؛ لا سيما إن كوشف بشيء من المنح الإلهية.
وقد حكى لي فقير أنه اشتد به الجوع وكان لا يطلب ولا يتسبب قال: فلما انتهى جوعي إلى الغاية بعد أيام فتح الله عليَّ بتفاحة قال: فتناولت التفاحة وقصدت أكلها فلما كسرتها كوشفت بحوراء نظرت إليها عقيب كسرها، فحدث عندي من الفرح بذلك ما استغنيت عن الطعام أياماً، وذكر لي أن الحوراء خرجت من وسط التفاحة، والإيمان بالقدرة ركن من أركان الإيمان فسلم ولا تنكر.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: من طوى أربعين يوماً ظهرت له القدرة من الملكوت وكان يقال: لا يزهد العبد حقيقة الزهد الذي لا مشوبة فيه إلا بمشاهدة قدرة من الملكوت، وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله: عرفنا من طوى أربعين يوماً برياضة النفس في تأخير القوت، وكان يؤخر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل، حتى يطوي ليلة في نصف شهر، فيطوي الأربعين في سنة أو أربعة أشهر، فتندرج الأيام والليالي حتى يكون الأربعين بمنزلة يوم واحد، وذكر لي أن الذي فعل ذلك ظهرت له آيات من الملكوت وكوشف بمعاني قدرة من الجبروت تجلى الله بها له كيف شاء.(1/218)
واعلم أن هذا المعنى من الطي والتقلل لو أنه عين الفضيلة ما فات أحداً من الأنبياء، ولكان رسول الله يبلغ من ذلك إلى أقصى غاياته، ولا شك أن لذلك فضيلة لا تنكر، ولكن لا تنحصر مواهب الحق تعالى في ذلك، فقد يكون من يأكل كل يوم أفضل ممن يطوي أربعين يوماً، وقد يكون من لا يكاشف بشيء من معاني القدرة أفضل ممن يكاشف بها إذا كاشفه الله بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر. وعن أهل القرب القادر لا يستغرب ولا يستنكر شيئاً من القدرة، ويرى القدرة تتجلى له من سجف أجزاء علم الحكمة، فإذا أخلص العبد لله تعالى أربعين يوماً واجتهد في ضبط أحواله بشيء من الأنواع التي ذكرنا من العمل والذكر والقوت وغير ذلك، تعود بركة تلك الأربعين على جميع أوقاته وساعاته، وهو طريق حسن اعتمده طائفة من الصالحين.
وكان جماعة من الصالحين يختارون للأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وهي أربعون موسى عليه السلام.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إجازة، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون إجازة، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا أبو معاوية الضرير، قال: حدثنا الحجاج عن مكحول قال: قال رسول الله: "مَنْ أَخْلَصَ لله تَعَالَى العِبَادَةَ أَرْبَعِينَ يَوْماً ظَهَرَتْ يَنَابيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ".
{الباب التاسع والعشرون}: في أخلاق الصوفية وشرح الخلق(1/219)
الصوفية أوفر الناس حظّاً في الاقتداء برسول الله وأحقهم بإحياء سنته والتخلق بأخلاق رسول الله من حسن الاقتداء وإحياء سنته؛ على ما أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين شيخ الإسلام أبو أحمد عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر عبد العزيز بن أحمد الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، قال: حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري البصري، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال لي رسول الله: "يَا بُنَيَّ إِنْ قَدِرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ" ثم قال: "يَا بُنَيَّ وَذلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ" فالصوفية أحيوا سنة رسول الله لأنهم وقفوا في بداياتهم لرعاية أقواله، وفي وسط حالهم اقتدوا بأعماله فأثمر لهم ذلك أن تحققوا في نهاياتهم بأخلاقه، وتحسين الأخلاق لا يأتي إلا بعد تزكية النفس، وطريق التزكية بالإذعان لسياسة الشرع، وقد قال الله تعالى لنبيه محمد: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ}{عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي على دين عظيم، والدين مجموع الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة.(1/220)
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله قالت: كان خلقه القرآن. قال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى وينتهي عما نهى الله عنه، وفي قول عائشة: كان خلقه القرآن، سر كبير وعلم غامض. ما نطقت بذلك إلا بما خصها الله تعالى به من بركة الوحي السماوي وصحبة رسول الله وتخصيصه إياها بكلمة: "خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ مِنْ هذِهِ الحُمَيْرَاءِ" وذلك أن النفوس مجبولة على غرائز وطبائع هي من لوازمها وضرورتها، خلقت من تراب ولها بحسب ذلك طبع، وخلقت من ماء ولها بحسب ذلك طبع، وهكذا من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبحسب تلك الأصول التي هي مبادىء تكونها استفادت صفات من البهيمية والسبعية والشيطانية، وإلى صفة الشيطنة في الإنسان إشارة بقوله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}{وَخَلَقَ الجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} فبعد أن طهر الله رسوله من نصيب الشيطان بقيت النفس الزكية النبوية على حد نفوس البشر، لها ظهور بصفات وأخلاق مبقاة على رسول الله رحمة للخلق لوجود أمهات تلك الصفات في نفوس الأمة بمزيد من الظلمة لتفاوت حال رسول الله وحال الأمة، فاستمدت تلك الصفات المبقاة بظهورها في رسول الله بتنزيل الآيات المحكمات بإزائها لقمعها، تأديباً من الله لنبيه رحمة خاصة له وعامة للأمة، موزعة بنزول الآيات على الآناء والأوقات عند ظهور الصفات،(1/221)
قال الله تعالى: {وقال الذين كفروا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتيلاً}"كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شيءٌ}"إِنَّما أَنْسَى لأَسُنَّ" فظهور صفات نفسه الشريفة وقت استنزال الآيات لتأديب نفوس الأمة وتهذيبها رحمة في حقهم حتى تتزكى نفوسهم وتشرف أخلاقهم. قال رسول الله: "الأَخْلاَقُ مَخْزُونَةٌ عِنْدَ الله تَعَالَى فَإِذَا أَرَادَ الله تَعَالَى بِعَبْدٍ خَيْراً مَنَحَهُ مِنْها خُلُقاً" وقال: "إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ". وروي عنه: "إِنَّ لله تَعَالَى مِائَةً وَبِضْعَةَ عَشَرَ خُلُقاً مَنْ آتَاهُ وَاحِداً مِنْها دَخَلَ الجَنَّةَ" فتقديرها وتحديدها لا يكون إلا بوحي سماوي لمرسل ونبي، والله تعالى أبرز إلى الخلق أسماءه منبئة عن صفاته سبحانه وتعالى وما أظهرها لهم إلا ليدعوهم إليها، ولولا أن الله تعالى أودع في القوى البشرية التخلق بهذه الأخلاق ما أبرزها لهم دعوة لهم إليها يختص برحمته من يشاء.(1/222)
ولا يبعد ـ والله أعلم ـ أن قول عائشة رضي الله عنها، كان خلقه القرآن، فيه رمز غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول: متخلقاً بأخلاق الله تعالى، فعبرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن استحياء من سبحات الجلال وستراً للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وكمال أدبها وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ المَثَانيَ والقُرْآنَ العَظِيمَ}{وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ} قال الجنيد رحمه الله: كان خلقه عظيماً لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى، وقال الواسطي رحمه الله: لأنه جاد بالكونين عوضاً عن الحق، وقيل: لأنه عليه السلام عاشر الخلق بخلقه وباينهم بقلبه؛ وهذا ما قاله بعضهم في معنى التصوف: التصوف الخلق مع الخلق والصدق مع الحق. وقيل: عظم خلقه حيث صغرت الأكوان في عينه بمشاهدة مكونها. وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.
وقد ندب رسول الله أمته إلى حسن الخلق في حديث، أخبرنا به الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أخبرنا الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الحافظ الترمذي، قال: حدثنا أحمد بن الحسين بن خراش، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، قال: حدثني عبد الله بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ المُتَشَدِّقُونَ المُتَفَيْهِقُونَ" قالوا: يا رسول الله علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: "المُتَكَبِّرُونَ" والثرثار هو المكثار من الحديث، والمتشدق المتطاول على الناس في الكلام.(1/223)
قال الواسطي رحمه الله: الخلق العظيم أن لا يُخَاصِم ولا يُخَاصَم، وقال أيضاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لوجدانك حلاوة المطالعة على سرك. وقال أيضاً: لأنك قبلت فنون ما أسديت من نعمي أحسن مما قبله غيرك من الأنبياء والرسل وقال الحسين: لأنه لم يؤثر فيك جفاء الخلق مع مطالعة الحق. وقيل: الخلق العظيم لباس التقوى والتخلق بأخلاق الله تعالى إذ لم يبق للأعواض عنده خطر.
وقال بعضهم قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاويلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ}{وَإِنَّكَ} أحضره وإذا أحضره أغفله وحجبه، وقوله: {لأَخَذْنَا} أتم لأن فيه فناء. في قول هذا القائل نظر؛ فهلا قال: إن كان في ذلك فناء ففي قوله: {وَإِنَّكَ} بقاء وهو بقاء بعد فناء، والبقاء أتم من الفناء، وهذا أليق بمنصب الرسالة لأن الفناء إنما عز لمزاحمة وجود مذموم، فإذا نزع المذموم من الوجود وتبدلت النعوت فأي عزة تبقى في الفناء؟ فيكون حضوره بالله لا بنفسه فأي حجبة تبقى هنالك؟
وقيل: من أوتي الخلق فقد أوتي أعظم المقامات لأن للمقامات ارتباطاً عاماً والخلق ارتباط بالنعوت والصفات.(1/224)
وقال الجنيد: اجتمع فيه أربعة أشياء السخاء والألفة والنصيحة والشفقة. وقال ابن عطاء: الخلق العظيم أن لا يكون له اختيار ويكون تحت الحكم مع فناء النفس وفناء المألوف، وقال أبو سعيد القرشي العظيم هو الله ومن أخلاقه الجود والكرم والصفح والعفو والإحسان ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "إن لله مائة وبضعة عشر خلقاً من أتى بواحد منها دخل الجنة" فلما تخلق بأخلاق الله تعالى وجد الثناء عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقيل: عظم خلقك لأنك لم ترض بالأخلاق وسرت ولم تسكن إلى النعوت حتى وصلت إلى الذات، وقيل: لما بعث محمد عليه الصلاة والسلام إلى الحجاز حجزه بها عن اللذات والشهوات وألقاه في الغربة والجفوة فلما صفا بذلك عن دنس الأخلاق قال له: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ} وأخبرنا الشيخ الصالح أبو زرعة ابن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه قال: أخبرنا أبو عمر المليحي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي قال: حدثنا جعفر بن الحجاج الرقي قال: أخبرنا أيوب بن محمد الوزان، قال: حدثني الوليد قال: حدثني ثابت، عن يزيد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان نبي الله يقول: "مَكَارِمُ الأَخْلاَقِ عَشَرَةٌ تَكُونُ فِي الرَّجُلِ وَلاَ تَكُونُ فِي ابْنِهِ، وَتَكُونُ فِي الابْنِ وَلاَ تَكُونُ فِي أَبيهِ، وَتَكُونُ فِي العَبْدِ ولا تَكُونُ فِي سَيِّدِهِ يَقْسِمُها الله تَعَالَى لِمَنْ أَرَادَ بِهِ السَّعَادَةَ: صِدْقُ الحَدِيثِ وَصِدْقُ البَأْسِ وَأَنْ لا يَشْبَعَ وَجَارُهُ وَصَاحِبُهُ جَائِعَانِ وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ وَالمُكَافَأَةُ بِالصَّنَائِعِ وَحِفْظُ الأَمَانَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالتَّذَمُّمُ لِلصَّاحِبِ وَإِقْرَاءُ الضَّيْفِ وَرَأْسُهُنَّ الحَيَاءُ".(1/225)
وسئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: "تَقْوَى الله وَحُسْنُ الخُلُقِ". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الغَمُّ وَالفَرَحُ" يكون هذا الغم غم فوات الحظوظ العاجلة، لأن ذلك يتضمن التسخط والتضجر، وفيه الاعتراض على الله تعالى وعدم الرضا بالقضاء، ويكون الفرح المشار إليه الفرح بالحظوظ العاجلة الممنوع منه بقوله تعالى: {لِكَيْلاَ تأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بمَا آتَاكُمْ} {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ} {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فالصوفية راضوا نفوسهم بالمكابدات والمجاهدات حتى أجابت إلى تحسين الأخلاق وكم من نفس تجيب إلى الأعمال ولا تجيب إلى الأخلاق. فنفوس العباد أجابت إلى الأعمال وجمحت عن الأخلاق، ونفوس الزهاد أجابت إلى بعض الأخلاق دون البعض، ونفوس الصوفية أجابت إلى الأخلاق الكريمة كلها.(1/226)
أخبرنا الشيخ أبو زرعة إجازة عن أبي بكر بن خلف إجازة عن السلمي قال: سمعت حسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت أبا بكر الكتاني يقول: التصوف خلق فمن زاد عليك بالخلق زاد عليك بالتصوف. فالعباد أجابت نفوسهم إلى الأعمال لأنهم يسلكون بنور الإسلام، والزهاد أجابت نفوسهم إلى بعض الأخلاق لكونهم سلكوا بنور الإيمان، والصوفية أهل القرب سلكوا بنور الإحسان، فلما باشر بواطن أهل القرب والصوفية نور اليقين وتأصل في بواطنهم ذلك انصلح القلب بكل أرجائه وجوانبه، لأن القلب يبيض بعضه بنور الإسلام، وبعضه بنور الإيمان، وكله بنور الإحسان والإيقان. فإذا ابيض القلب وتنور انعكس نوره على النفس، وللقلب وجه إلى النفس ووجه إلى الروح، وللنفس وجه إلى القلب، ووجه إلى الطبع والغريزة. والقلب إذا لم يبيض كله لم يتوجه إلى الروح بكله، ويكون ذا وجهين، وجه إلى الروح، ووجه إلى النفس، فإذا ابيض كله توجه إلى الروح بكله، فيتداركه مدد الروح، ويزداد إشراقاً وتنوراً وكلما انجذب القلب إلى الروح انجذبت النفس إلى القلب، وكلما انجذبت توجهت إلى القلب بوجهها الذي يليه، وتنور النفس لتوجهها إلى القلب بوجهها الذي يلي القلب. وعلامة تنوّرها طمأنينتها قال الله تعالى: {يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيةً مَرْضِيَّةً}"لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن".(1/227)
فإذا اكتحل القلب بنور ذكر الذات وصار بحراً مواجاً من نسمات القرب جرى في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى. حكي عن الشيخ أبي علي الفارمزي أنه حكى عن شيخه أبي القاسم الكركاني أنه قال: إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد السالك وهو بعد في السلوك غير واصل، ويكون الشيخ عني بهذا أن العبد يأخذ من كل اسم وصفاً يلائم ضعف حال البشر وقصوره، مثل أن يأخذ من اسم الله تعالى "الرحيم" معنى من الرحمة على قدر قصور البشر، وكل إشارات المشايخ في الأسماء والصفات التي هي أعز علومهم على هذا المعنى والتفسير. وكل من توهم بذلك شيئاً من الحلول تزندق وألحد.
وقد أوصى رسول الله معاذاً بوصية جامعة لمحاسن الأخلاق فقال له: "يَا مَعاذُ أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، وَصِدْقِ الحَدِيثِ، وَالوَفَاءِ بَالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الخِيَانَةِ، وَحِفْظِ الجِوَارِ، وَرَحْمَةِ اليَتِيمِ، وَلِينِ الكَلاَمِ، وَبَذْلِ السَّلاَمِ، وَحُسْنِ العَمَلِ، وَقِصَرِ الأَمَلِ، وَلُزُومِ الإِيمَانِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي القُرْآنِ، وَحُبِّ الآخِرَةِ، وَالجَزَعِ مِنَ الحِسَابِ، وَخَفْضِ الجَنَاحِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسُبَّ حَلِيماً، أَوْ تُكَذِّبَ صَادِقاً، أَوْ تُطْمِعَ آثِماً، أَوْ تَعْصِيَ إِمَاماً عَادِلاً، أَوْ تُفْسِدَ أَرْضاً. أُوصِيكَ بِاتِّقَاءِ الله عِنْدَ كُلِّ حَجَرَ وَشَجَرٍ وَمَدَرٍ، وَأَنْ تُحْدِثَ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالعَلاَنِيَةُ بِالعَلاَنِيَةِ، بِذلِكَ أَدَّبَ الله عِبَادَهُ وَدَعَاهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَمَحَاسِنِ الآدَابِ".
وروى معاذ أيضاً عن رسول الله قال: "حُفَّ الإِسْلاَمُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَمَحَاسِنِ الآدَابِ".(1/228)
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي بإسناده المتقدم إلى الترمذي رحمه الله قال: أخبرنا أبو كريب قال: حدثنا قبيصة بن الليث، عن مطرف، عن عطاء عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلَ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْن الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِب الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ". وقد كان من أخلاق رسول الله أنه كان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل ولم يجد من يعطيه ويأتيه الليل لا يأوي إلى منزله حتى يبرأ منه، ولا ينال من الدنيا، وأكثر قوت عامه من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع ما عدا ذلك في سبيل الله، لا يسأل شيئاً إلا يعطي ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام، وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياء وأكثرهم تواضعاً فصلوات الرحمن عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{الباب الثلاثون}: في تفاصيل أخلاق الصوفية
من أحسن أخلاق الصوفية التواضع،
ولا يلبس العبد لبسة أفضل من التواضع، ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة يقيم نفسه عند كل أحد مقداراً يعلم أنه يقيمه، ويقيم كل أحد على ما عنده من نفسه؛ ومن رزق هذا فقد استراح وأراح {وَمَا يَعْقِلُها إلاَّ العَالِمُونَ}(سورة العنكبوت: الآية 43).
أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا عثمان بن عبد الله، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا النضر بن عبد الجبار، قال: أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الله تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلاَ يَبْغِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ".(1/229)
وقال عليه السلام في قوله تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُوني}(سورة آل عمران: الآية 31) قال: "عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَالرَّهْبَةِ وَذِلَّةِ النَّفْسِ".
وكان من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب ويكافىء عليها ويأكلها ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.
وأخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف إجازة عن السلمي، قال: أخبرنا أحمد بن علي المقري، قال: أخبرنا محمد بن المنهال، قال: حدثني أبي عن محمد بن جابر اليماني، عن سليمان بن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: "إِنَّ مِنْ رَأْسِ التَّوَاضُعِ أَنْ تَبْدَأَ بِالسَّلاَمِ عَلَى مَنْ لَقِيتَ، وَتَرُدَّ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ. وَأَنْ تَرْضَى بِالدُّونِ مِنَ المَجْلِسِ، وَأَنْ لاَ تُحِبَّ المِدْحَةَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالبِرَّ".
وورد أيضاً عنه عليه السلام: "طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ".
سئل الجنيد عن التواضع؟ فقال: خفض الجناح ولين الجانب. وسئل الفضيل عن التواضع؟ فقال: تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله وتسمع منه، وقال أيضاً: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
وقال وهب بن منبه: مكتوب في كتب الله: إني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلباً أشد تواضعاً إلي من قلب موسى عليه السلام، فلذلك اصطفيته وكلمته.
وقيل: من عرف كوامن نفسه لم يطمع في العلو والشرف ويسلك سبيل التواضع؛ فلا يخاصم من يذمه، ويشكر الله لمن يحمده.
وقال أبو حفص: من أحب أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين وليلتزم بحرمتهم؛ فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبر.
وقال لقمان عليه السلام: لكل شيء مطية، ومطية العمل التواضع.(1/230)
وقال النوري: خمسة أنفس أعز الخلق في الدنيا: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر وشريف سني.
وقال الجلاء: لولا شرف التواضع كنا إذا مشينا نخطر، وقال يوسف بن أسباط ـ وقد سئل ـ: ما غاية التواضع؟ قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحداً إلا رأيته خيراً منك.
ورأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب ـ وكنت معه في سفره إلى الشام وقد بعث بعض أبناء الدنيا له طعاماً على رؤوس الأسارى من الأفرنج وهم في قيودهم ـ فلما مدت السفرة والأسارى ينتظرون الأواني حتى تفرغ قال للخادم: أحضر الأسارى حتى يقعدوا على السفرة مع الفقراء، فجاء بهم وأقعدهم على السفرة صفاً واحداً، وقام الشيخ من سجادته ومشى إليهم وقعد بينهم كالواحد منهم، فأكل وأكلوا، وظهر لنا على وجهه ما نازل باطنه من التواضع لله والانكسار في نفسه وانسلاخه من التكبر عليهم بإيمانه وعلمه وعمله.
أخبرنا أبو زرعة، إجازة عن أبي بكر بن خلف، إجازة عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: صح عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال: خمسة في الظاهر، وخمسة في الباطن؛ فأما اللواتي في الظاهر: فصدق في اللسان، وسخاوة في الملك، وتواضع في الأبدان، وكف الأذى، واحتماله بلا إباء. وأما اللواتي في الباطن: فحب وجود سيده، وخوف الفراق من سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع في الخلق حسن، ولكن في الأغنياء أحسن. والتكبر سمج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج.
وقال ذو النون: ثلاثة من علامات التواضع: تصغير النفس معرفة بالعيب، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل واحد.
وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه حقاً ما ولا حالاً من علمه بشرها وازدرائها ولا يرى أن في الخلق شراً منه.
قال بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل، أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء.(1/231)
وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم، أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر.
والكشف عن حقيقة التواضع: أن التواضع رعاية الاعتدال بين الكبر والضعة؛ فالكبر رفع الإنسان نفسه فوق قدره، والضعة وضع الإنسان نفسه مكاناً يزري به ويفضي إلى تضييع حقه. وقد انفهم من كثير من إشارات المشايخ في شرح التواضع أشياء إلى حد أقاموا التواضع فيه مقام الضعة، ويلوح فيه الهوى من أوج الإفراط إلى حضيض التفريط، ويوهم انحرافاً عن حد الاعتدال، ويكون قصدهم في ذلك المبالغة في قمع نفوس المريدين خوفاً عليهم من العجب والكبر؛ فقلّ أن ينفك مريد في مبادىء ظهور سلطان الحال من العجب، حتى لقد نقل عن جمع من الكبار كلمات مؤّذنة بالإعجاب "وكل ما نقل من ذلك القبيل من المشايخ لبقايا السكر عندهم وانحصارهم في مضيق سكر الحال وعدم الخروج إلى فضاء الصحو في ابتداء أمرهم، وذلك إذا حدق صاحب البصيرة نظره يعلم أنه من استراق النفس السمع عند نزول الوارد على القلب، والنفس إذا استرقت السمع عند ظهور الوارد على القلب ظهرت بصفتها على وجه لا يجفو على الوقت وصلافة الحال فيكون من ذلك كلمات مؤذنة بالعجب، كقول بعضهم: من تحت خضراء السماء مثلي؟ وقول بعضهم: قدمي على رقبة جميع الأولياء، وكقول بعضهم: أسرجت وألجمت وطفت في أقطار الأرض وقلت هل من مبارز فلم يخرج إليَّ أحد، إشارة منه في ذلك إلى تفرده في وقته.(1/232)
ومن أشكل عليه ذلك ولم يعلم أنه من استراق النفس السمع فليزن ذلك بميزان أصحاب رسول الله وتواضعهم واجتنابهم أمثال هذه الكلمات واستبعادهم أن يجوز للعبد التظاهر بشيء من ذلك، ولكن يجعل لكلام الصادقين وجه في الصحة، ويقال: إن ذلك طفح عليهم في سكر الحال وكلام السكارى يحمل؛ فالمشايخ أرباب التمكين لما علموا في النفوس هذا الداء الدفين بالغوا في شرح التواضع إلى حد ألحقوه بالضعة تداوياً للمريدين، والاعتدال في التواضع: أن يرضى الإنسان بمنزلة دوين ما يستحقه، ولو أمن الشخص جموح النفس لأوقفها على حدّ يستحقه من غير زيادة ولا نقصان، ولكن لما كان الجموح في جبلة النفس ـ لكونها مخلوقة من صلصال كالفخار فيها نسبة النارية وطلب الاستعلاء بطبعها إلى مركز النار ـ احتاجت للتداوي بالتواضع وإيقافها دوين ما تستحقه لئلا يتطرق إليها الكبر، فالكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره والتكبر إظهاره ذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين يكون كاذباً، والكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل الانسلاخ من الإنسانية حقيقة، وقد عظم الله تعالى شأن الكبر بقوله تعالى: {إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ}{ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً للمُتَكَبِّرينَ}"يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قصمته". وفي رواية: "قذفته في نار جهنم" وقال عز وجل رداً للإنسان في طغيانه إلى حده: {وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً}{فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}{قُتِلَ الإنْسَانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}
كيف يزهو من رجيعه(1/233)
أبد الدهر ضجيعه وإذا ارتحل التواضع من القلب وسكن الكبر انتشر أثره في بعض الجوارح وترشح الإناء بما فيه؛ فتارة يظهر أثره في العنق بالتمايل، وتارة في الخد بالتصعير. قال الله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ}{لَوَّوْا رُؤوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} وكما أن الكبر له انقسام على الجوارح والأعضاء تتشعب منه شعب، فكذلك بعضها أكثف من البعض: كالتيه والزهو والعزة وغير ذلك، إلا أن العزة تشتبه بالكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة. قال الله تعالى: {وللَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ وللمُؤْمِنينَ}{تَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ} وقال الترمذي: التواضع على ضربين: الأول أن يتواضع العبد لأمر الله ونهيه، فإن النفس لطلب الراحة تتلهى عن أمره، والشهوة التي فيها تهوى في نهيه، فإذا وضع نفسه لأمره ونهيه فهو تواضع. والثاني: أن يضع نفسه لعظمة الله فإن اشتهت نفسه شيئاً مما أطلق له من كل نوع من الأنواع منعها ذلك. وجملة ذلك. أن يترك مشيئته لمشيئة الله تعالى.
واعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه؛ فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتطيع للحق والخلق لمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها، وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا عليه السلام في أوطان القرب،(1/234)
كما روي عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل قالت: فقدت رسول الله ذات ليلة فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة ظنّاً مني أنه عند بعض أزواجه، فطلبته في حجر نسائه فلم أجده، فوجدته في المسجد ساجداً كالثوب الخلق وهو يقول في سجوده "سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَالِي، وَآمَنَ بِكَ فُؤَادِي وَأَقَرَّ بِكَ لِسَانِي، وَهَا أَنَا ذَا بيْنَ يَدَيْكَ، يَا عَظِيمُ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ العَظِيمِ" وقوله عليه السلام "سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَالِي" استقصاء في التواضع بمحو آثار الوجود حيث لم تتخلف ذرة منه عن السجود ظاهراً وباطناً، ومتى لم يكن للصوفي حظ من التواضع الخاص على بساط القرب لا يتوفر حظه في التواضع للخلق، وهذه سعادات إن أقبلت جاءت بكليتها. والتواضع من أشرف أخلاق الصوفية.
ومن أخلاق الصوفية: المداراة واحتمال الأذى من الخلق،
وبلغ من مداراة رسول الله: أنه وجد قتيلاً من أصحابه بين اليهود، فلم يحف عليهم ولم يزد على مر الحق، بل وداه بمائة ناقة من قبله وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به.
وكان من حسن مداراته أن لا يذم طعاماً ولا ينهر خادماً. أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الكرخي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله من أحسن الناس خلقاً وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله.(1/235)
فالمداراة مع كل أحد من الأهل والأولاد والجيران والأصحاب والخلق كافة من أخلاق الصوفية وباحتمال الأذى يظهر جوهر النفس. وقد قيل لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل وجوهر العقل الصبر.
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا أبو محمد الصريفيني، قال: أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن حبابة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا علي بن الجعد. قال: أخبرنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله، قلت: من هو؟ قال: ابن عمر، عن النبي أنه قال: "المُؤْمِنُ الَّذِي يُعَاشِرُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" وفي الخبر: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبي ضَمْضَم؟" قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قال: "كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ اليَوْمَ بِعِرْضِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، فَمَنْ ضَرَبَنِي لاَ أَضْرِبُهُ، وَمَنْ شَتَمَنِي لاَ أَشْتِمُهُ، وَمَنْ ظَلَمَنِي لاَ أَظْلِمُهُ".
وأخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب قال أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: حدثنا الترياقي، قال: أخبرنا الجراحي؛ قال: أخبرنا المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله وأنا عنده فقال: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة، ثم أذن له فألان له القول؛ فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت له ما قلت ثم ألنت له القول قال: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُهُ النَّاسُ أَوْ يَدَعُهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".(1/236)
وروى أبو ذر عن رسول الله أنه قال: "اتَّقِ الله حَيْثُما كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" فما شيء يستدل به على قوة عقل الشخص ووفور علمه وحلمه كحسن المداراة، والنفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها؛ ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمداراة قطع حمة النفس ورد طيشها ونفورها. وقد ورد "من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء".
وروى جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ النَّارَ؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ".
وروى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: أُتِيَ النبي عليه السلام برجل فكلمه فأرعد فقال: "هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّما أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيدِ".
وعن بعضهم في معنى لين جانب الصوفية:
هينون لينون أيسار بنو يسر >< سوّاس مكرمة أبناء أيسارِ
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا >< ولا يمارون إن ماروا بإكثارِ
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم >< مثل النجوم التي يسري بها الساري
وروى أبو الدرداء عن النبي قال: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ".(1/237)
حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إملاء، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن أبي طلحة الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله الحموي السرخسي، قال: أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي، قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي خلف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن رجل من العرب قال: زحمت رسول الله يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله، فنفحني نفحة بسوط في يده وقال: "بِسْمِ الله أَوْجَعْتَنِي" قال: "فبت لنفسي لائماً أقول: أوجعت رسول الله، قال: فبت بليلة كما يعلم الله؛ فلما أصبحنا إذا رجل يقول: أين فلان؟ قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي: "إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ فَهذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْها بِها".
ومن أخلاق الصوفية: الإيثار والمواساة ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعاً، وقوة اليقين شرعاً؛ يؤثرون بالموجود ويصبرون على المفقود.
قال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجاً فقال لي: يا أبا يزيد. ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ؛ فقلت له: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وقال ذو النون: من علامة الزاهد المشروح صدره ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار بالقوت.(1/238)
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله يوم النضير للأنصار: "إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَدِيَارِكُمْ وَتُشَارِكُونَهُمْ فِي هذِهِ الغَنِيمَةِ، وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَتْ لَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَلَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ شَيْئاً مِنَ الغَنِيمَةِ" فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها؛ فأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله وقد أصابه جهد فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث النبي إلى أزواجه: "هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟". فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق نبياً ما عندنا إلا الماء؛ فقال رسول الله: "مَا عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُكَ هذِهِ اللَّيْلَةَ" ثم قال: "مَنْ يُضِيفُ هذَا هذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ الله؟" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله؛ فأتى به منزله فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله فأكرميه ولا تدخري عنه شيئاً؛ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية؛ فقال: فقومي علليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعمون شيئاً ثم اسرجي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله حتى يشبع ضيف رسول الله، فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئاً، ثم قامت فأثردت وأسرجت؛ فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله، وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف وباتا طاويين؛ فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله ؛ فلما نظر إليهما تبسم رسول الله ثم قال: "لَقَدْ عَجِبَ الله مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ هذِهِ اللَّيْلَةَ" وأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.(1/239)
وقال أنس رضي الله عنه: أهدي لبعض أصحابه رأس شاة مشوي ـ وكان مجهوداً ـ فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس ثم عاد إلى الأول؛ فأنزلت الآية لذلك.
وروي أن أبا الحسن الأنطاكي اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية بقرى الري وله أرغفة معدودة لم تشبع خمسة منهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رفعوا الطعام فإذا هو بحاله لم يأكل أحد منهم إيثاراً منه على نفسه.
وحكي عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك، فأشار إليّ أن نعم؛ فإذا رجل يقول: آه، فقال ابن عمي: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فسمع هشام آخر يقول: آه، فقال، انطلق به إليه، فجئت إليه فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو أيضاً قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو أيضاً قد مات.
وسئل أبو الحسين البوشنجي عن الفتوة؟ قال: الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الأنصار في قوله: {والَّذِينَ تَبَوءُوا الدَّار والإيمَانَ}{يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جوداً وكرماً {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. يعني جوعاً وفقراً.
قال أبو حفص: الإيثار هو أن يقدم. حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة.
وقال يوسف بن الحسين: من رأى لنفسه ملكاً لا يصح منها الإيثار، لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق؛ فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.(1/240)
وقال بعضهم: حقيقه الإيثار أن تؤثر بحظ آخرتك على إخوانك، فإن الدنيا أقل خطراً من أن يكون لإيثارها محل أو ذكر. ومن هذا المعنى ما نقل أن بعضهم رأى أخاً له فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فأنكر أخوه ذلك منه، فقال: يا أخي سمعت أن رسول الله قال: "إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ تِسْعُونَ لأَكْثَرِهِمَا بِشْراً، وَعَشَرَةٌ لأَقَلِّهِمَا بِشْراً" فأردت أن أكون أقل بشراً منك ليكون لك الأكثر.
أخبرنا الشيخ ضياء الدين أبو النجم إجازة، قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن الصفار النيسابوري، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أبا القاسم الرازي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من صحب الصوفية فليصحبهم بلا نفس ولا قلب ولا ملك، فمن نظر إلى شيء من أسبابه قطعه ذلك عن بلوغ مقصده.
وقال سهل بن عبد الله: الصوفي من يرى دمه هدراً وملكه مباحاً.
وقال رويم: التصوف مبني على ثلاثة خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار وترك التعرض والاختيار.
وقيل: لما سعي بالصوفية وتميز الجنيد بالفقه وقبض على الشحام والرقام والنوري وبسط النطع لضرب رقابهم، تقدم النوري فقيل له: إلى ماذا تبادر؟ فقال: أوثر إخواني بفضل حياة ساعة.
وقيل: دخل الروذباري دار بعض أصحابه فوجده غائباً وباب بيته مغلق، فقال: صوفي وله باب مغلق، اكسروا الباب فكسروه وأمر بجميع ما وجدوا في البيت أن يباع، فأنفذوه إلى السوق واتخذوا من رفقائه الثمن وقعدوا في الدار، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئاً، ودخلت امرأته وعليها كساء، فدخلت بيتاً فرمت بالكساء وقالت: هذا أيضاً من بقية المتاع فبيعوه، فقال الزوج لها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ قالت: اسكت مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علينا ويبقى لنا شيء ندخره عنه.(1/241)
وقيل: مرض قيس بن سعد فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون بما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال لهو منه في حل، فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة عواده.
وقيل: أتى رجل صديقاً له ودق عليه الباب، فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمائة درهم دين عليَّ، فدخل الدار ووزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه ودخل الدار باكياً؛ فقالت امرأته: هلا تعللت حين شق عليك الإجابة، فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاتحني.
وأخبرنا الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا محمد بن محمد إمام جامع أصفهان، قال: حدثنا أبو عبد الله الجرجاني، قال: حدثنا أبو طاهر بن الحسن المحمد أباذي، قال: حدثنا أبو البحتري، قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا زيد بن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله: "إِنَّ الأَشْعَرِيينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوا فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".
وحدث جابر عن رسول الله أنه إذا أراد أن يغزو قال: "يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْماً لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلاَ عُدَّةٌ، فَلْيَضُمَّ أحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، فَمَا لأَحَدِكُمْ مِنْ ظَهْرِ جَمَلِهِ إِلاَّ عَقَبَةٌ كَعَقَبَةِ أَحَدِهِمْ" قال: فضممت إليَّ اثنين أو ثلاثة مالي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جمله.
وروى أنس قال: لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع فقال له: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.(1/242)
فما حول الصوفي على الإيثار إلا طهارة نفسه وشرف غريزته، وما جعله الله تعالى صوفياً إلا بعد أن سوى غريزته لذلك، وكل من كانت غريزته السخاء والسخي يوشك أن يصير صوفياً، لأن السخاء صفة الغريزة، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}{ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} إلى قوله: {أُولئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}"ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ... وَثَلاَثٌ مُنْجِيَاتٌ" فجعل إحدى المهلكات شحاً مطاعاً، ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكاً بل يكون مهلكاً إذا كان مطاعاً، فأما كونه موجوداً في النفس غير مطاع فإنه لا ينكر ذلك، لأنه من لوازم النفس مستمداً من أصل جبلتها التراب، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي وهو جبلى فيه: وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، وهو لنفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار والسخاء أتم وأكمل من الجود ففي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذا كان من ضرورة الغريزة، وكل سخي جواد، وليس كل جواد سخياً، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالسخاء، لأن السخاء من نتيجة الغرائز والله تعالى منزه عن الغريزة، والجود يتطرق إليه الرياء ويأتي به الإنسان متطلعاً إلى عوض من الخلق أو الحق بمقابل ما من الثناء وغيره من الخلق والثواب من الله تعالى. والسخاء لا يتطرق إليه الرياء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة، لأن طلب العوض مشعر بالبخل لكونه معلولاً بطلب العوض، فما تمحض سخاء، فالسخاء لأهل الصفاء،(1/243)
والإيثار لأهل الأنوار ويجوز أن يكون قوله تعالى: {إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً}{لا نريد} بعد قوله {لوجه الله} فما كان لله لا يشعر بطلب العوض، بل الغريزة لطهارتها تنجذب إلى مراد الحق لا العوض، وذلك أكمل السخاء من أطهر الغرائز.
روت أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت يا رسول الله، ليس لي من شيء إلا ما أدخل علي الزبير فأعطي؟ قال: "نَعَمْ، لاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ".
ومن أخلاق الصوفية. التجاوز والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة.
قال سفيان: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنقد السوق خذ شيئاً وهات شيئاً وقال الحسن. الإحسان أن تعم ولا تخص كالشمس والريح والغيث.
وروى أنس، قال: قال رسول الله: "رَأَيْتُ قُصُوراً مُشْرِفَةً عَلَى الجَنَّةِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ لِمَنْ هذِهِ؟ قَالَ: لِلْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ".
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع النبي في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي عليه السلام يتبسم، ثم ردَّ أبو بكر عليه بعض الذي قال، فغضب النبي وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تتبسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت؛ فقال: "إِنَّكِ حَيْثُ كُنْتَ سَاكِتاً كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَكَلَّمْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ فِي مَقْعَدٍ فِيهِ الشَّيْطَانُ، يَا أَبَا بَكْرِ، ثَلاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: لَيْسَ عَبْدٌ يُظْلَمُ بِمَظْلَمَةٍ فَيَعْفُوَ عَنْهَا إِلاَّ أَعَزَّ الله نَصْرَهُ، وَلَيْسَ عَبْدٌ يَفْتَحُ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِها كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله قِلَّةً، وَلَيْسَ عَبْدٌ يَفْتَحُ بَابَ عَطِيَّةٍ أَوْ صِلَةٍ يَبْتَغِي بِها وَجْهَ الله إِلاَّ زَادَهُ الله بِها كَثْرَةً".(1/244)
أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا الكرخي، قال: أخبرنا الترياقي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا أبو هشام الرقاعي، قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل عن حذيفة قال: قال رسول الله: "لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا".
وقال بعض الصحابة: يا رسول الله الرجل أمرّ به فلا يقريني ولا يضيفني، فيمر بي أفأجزيه؟ قال: "لا، أقره".
وقال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان. وقال رسول الله: "لَيْسَ الوَاصِلُ المُكَافِىءَ وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها". وروي عن رسول الله: "مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ".
ومن أخلاق الصوفية: البشر وطلاقة الوجه،(1/245)
الصوفي بكاؤه في خلوته وبشره وطلاقه وجهه مع الناس، فالبشر على وجهه من آثار أنوار قلبه، وقد تنازل باطن الصوفي منازلات إلهية ومواهب قدسية يرتوي منها القلب، ويمتلىء فرحاً وسروراً: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مضيئة مشرقة {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}{تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}{سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَر السُّجُودِ}{وظِلاَلُهُمْ بالغدوِّ والآصالِ} أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن عليّ، قال: أخبرنا الكرخي، قال: أخبرنا الترياقي، قال: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ المَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ".
وقال سعد بن عبد الرحمن الزبيدي: يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك؛ فأما من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس كأنه يمن عليك، فلا أكثر الله في القراء مثله.
ومن أخلاق الصوفية: السهولة ولين الجانب والنزول مع الناس إلى أخلاقهم وطباعهم وترك التعسف والتكلف،(1/246)
وقد روي في ذلك عن رسول الله أخبار. وأخلاق الصوفية تحاكي أخلاق رسول الله وكان يقول عليه الصلاة والسلام: "أَمَا إِنِّي أَمْزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقّاً". روي أن رجلاً يقال له زاهر بن حرام، وكان بدوياً، وكان لا يأتي إلى رسول الله إلا جاء بطرفة يهديها إلى رسول الله فجاء يوماً من الأيام فوجده رسول الله في سوق المدينة يبيع سلعة له ولم يكن أتاه ذلك اليوم، فاحتضنه النبي عليه السلام من ورائه بكفيه، فالتفت فأبصر النبي عليه السلام فقبل كفيه، فقال النبي عليه السلام: "مَنْ يَشْتَرِي العَبْدَ؟" فقال: إذن تجدني كاسداً يا رسول الله، فقال: "وَلكِنْ عِنْدَ الله رَبيحٌ" ثم قال عليه السلام: "لِكُلِّ أَهْلِ حَضَرٍ بَادِيَةٌ وَبَادِيَةُ آلِ مُحَمَّدٍ زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ".
وأخبرنا أبو زرعة طاهر بن الحافظ المقدسي عن أبيه، قال: أخبرنا المطهر بن محمد الفقيه، قال: أخبرنا أبو الحسن قال: أخبرنا أبو عمرو بن حكيم، قال: أخبرنا أبو أمية، قال: حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، قال: حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، احملني على جمل، فقال: "أَحْمِلُكَ عَلَى ابْنِ النَّاقَةِ" قال: أقول لك احملني على جمل وتقول أحملك على ابن الناقة؟ ققال عليه السلام: "فَالجَمَلُ ابْنُ النَّاقَةِ".
وروى صهيب فقال: أتينا رسول الله وبين يديه تمر يأكل، فقال: "أَصِبْ مِنْ هذَا الطَّعَامِ" فجعلت آكل من التمر، فقال: "أَتَأْكُلُ وَأَنْتَ رَمِدٌ؟" فقلت: إذن أمضغ من الجانب الآخر، فضحك رسول الله.
وروى أنس: أن رسول الله قال له ذات يوم: "يَا ذَا الأُذُنَيْنِ".
وسئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله إذا خلا في البيت؟ قالت: كان ألين الناس بساماً ضحاكاً. وروت أيضاً: أن رسول الله سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: "هذِهِ بِتِلْكَ".(1/247)
وأخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الحافظ الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن الوضاح الكوفي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن شعبة عن أبي التياح عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن كان رسول الله ليخاطبنا حتى إنه كان يقول لأخ لي صغير: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" والنغير: عصفور صغير.
وروي أن عمر سابق زبيراً رضي الله عنهما فسبقه الزبير، فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم سابقه مرة أخرى فسبقه عمر؛ فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة. وروى عبد الله بن عباس قال: قال لي عمر: تعالَ أنافسك في الماء أينا أطول نفساً، ونحن محرمون.
وروى بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ؛ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. يقال: بدح يبدح: إذا رمى، أي يترامون بالبطيخ.(1/248)
وأخبرنا أبو زرعة عن أبيه قال: أخبرنا الحسن بن أحمد الكرخي، قال: حدثنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم؛ قال: حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله، حدثني إسحاق الحربي، قال: حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا حماد بن خالد، قال: أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة، قال: حدثنا أبو الحسن بن محيصن الليثي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: إن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي بحريرة طبختها له وقلت لسودة والنبي بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلن أو لألطخن بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الحريرة فلطخت بها وجهي، فضحك النبي، فوضع فخذه وقال لسودة: الطخي وجهها، فلطخت بها وجهي، فضحك النبي ؛ فمر عمر رضي الله عنه على الباب فنادى: يا عبد الله يا عبد الله، فظن النبي أنه سيدخل، فقال: قوما فاغسلا وجهيكما، فقالت عائشة رضي الله عنها: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله إياه.
ووصف بعضهم ابن طاوس فقال: كان مع الصبي صبياً ومع الكهل كهلاً وكان فيه مزاحة إذا خلا.(1/249)
وروى معاوية بن عبد الكريم قال: كنا نتذاكر الشعر عند محمد بن سيرين، وكان يقول ونمزح عنده ويمازحنا وكنا نخرج من عنده ونحن نضحك، وكنا إذا دخلنا على الحسن نخرج من عنده ونحن نكاد نبكي؛ فهذه الأخبار والآثار دالة على حسن لين الجانب وصحة حال الصوفية وحسن أخلاقهم فيما يعتمدونه من المداعبة في الربط وينزلون مع الناس على حسب طباعهم لنظرهم إلى سعة رحمة الله؛ فإذا خلوا وقفوا موقف الرجال واكتسوا ملابس الأعمال والأحوال، ولا يقف في هذا المعنى على حدّ الاعتدال إلا صوفي قاهر للنفس عالم بأخلاقها وطباعها سائس لها بوفور العلم، حتى يقف في ذلك على صراط الاعتدال بين الإفراط والتفريط، ولا يصلح الإكثار من ذلك للمريدين المبتدئين لقلة علمهم ومعرفتهم بالنفس وتعديهم حدّ الاعتدال؛ فللنفس في هذه المواطن نهضات ووثبات تجر إلى الفساد وتجنح إلى العناد، فالنزول إلى طباع الناس يحسن بمن صعد عنهم وترقى لعلو حاله ومقامه، فينزل إليهم وإلى طباعهم حين ينزل بالعلم؛ فأما من لم يصعد بصفاء حاله عنهم وفيه بقية مزج من طباعهم ونفوسهم الجامحة الأمارة بالسوء، إذا دخلت في هذه المداخل أخذت النفس حظها واغتنمت مآربها واستروحت إلى الرخصة، والنزول إلى الرخصة يحسن لمن يركب العزيمة غالب أوقاته، وليس ذلك شأن المبتدىء؛ فللصوفية العلماء فيما ذكرناه ترويح يعلمون حاجة القلب إلى ذلك، والشي إذا وضع للحاجة يتقدر بقدر الحاجة، ومعيار مقدار الحاجة في ذلك علم غامض لا يسلم لكل أحد.(1/250)
قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فالإفراط فيه يذهب بالبهاء ويجرىء عليك السفهاء وتركه يغيظ المؤانسين ويوحش المخالطين. قال بعضهم: المزاح مسلبة للبهاء مقطعة للإخاء، وكما يصعب معرفة الاعتدال في ذلك يصعب معرفة الاعتدال في الضحك، والضحك من خصائص الإنسان ويميزه عن جنس الحيوان، ولا يكون الضحك إلا عن سابقة تعجب، والتعجب يستدعي الفكر، والفكر شرف الإنسان وخاصيته، ومعرفة الاعتدال فيه أيضاً شأن من ترسخ قدمه في العلم، ولهذا قيل: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب، وقيل: كثرة الضحك من الرعونة.
وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال: "إن الله تعالى يبغض الضحك من غير عجب، المشاء في غير أرب" وذكر فرق بين المداعبة والمزاح، فقيل: المداعبة ما لا يغضب جده، والمزاح ما يغضب جده، وقد جعل أبو حنيفة رحمه الله القهقهة في الصلاة من الذنب، وحكم ببطلان الوضوء بها، وقال: يقوم الإثم مقام خروج الخارج؛ فالاعتدال في المزاح والضحك لا يتأتى إلا إذا خلص وخرج من مضيق الخوف والقبض والهيبة، فإنه يتقوم بكل مضيق من هذه المضايق بعض التقويم، فيعتدل الحال فيه ويستقيم؛ فالبسط والرجاء ينشئان المزاح والضحك، والخوف والقبض يحكمان فيه بالعدل.
ومن أخلاق الصوفية: ترك التكلف، و(1/251)
ذلك أن التكلف تصنع وتعمل وتمايل على النفس لأجل الناس، وذلك يباين حال الصوفية، وفي بعضه خفي منازعة للأقدار، وعدم الرضا بما قسم الجبار. ويقال: التصوف ترك التكلف، ويقال: التكلف تخلف وهو تخلف عن شأو الصادقين. روى أنس بن مالك قال: شهدت وليمة لرسول الله ما فيها خبز ولا لحم. وروي عن جابر: أنه أتاه ناس من أصحابه فأتاهم بخبز وخل وقال: كلوا فإني سمعت رسول الله يقول: "نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ". وعن سفيان بن سلمة قال: دخلت على سلمان الفارسي فأخرج إليَّ خبزاً وملحاً وقال كُلْ، لولا أن رسول الله نهانا أن يتكلف أحد لأحد لتكلفت لكم. والتكلف مذموم في جميع الأشياء كالتكلف بالملبوس للناس من غير نية فيه، والتكلف في الكلام وزيادة التملق الذي صار دأب أهل الزمان؛ فما يكاد يسلم من ذلك إلا آحاد وأفراد. وكم من متملق لا يعرف أنه تملق ولا يفطن له؛ فقد يتملق الشخص إلى حد يخرجه إلى صريح النفاق وهو مباين لحال الصوفي.
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن مطرف عن حسان بن عطية عن أبي أمامة عن النبي قال: "الحَيَاءُ وَالعَيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ وَالبَذَاءُ وَالبيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ" البذاء: الفحش، وأراد بالبيان ههنا: كثرة الكلام والتكلف للناس بزيادة تملق وثناء عليهم وإظهار التفصح، وذلك ليس من شأن أهل الصدق.(1/252)
وحكي عن أبي وائل قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان؛ فقدّم إلينا خبز شعير وملحاً جريشاً؛ فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح سعتر كان أطيب، فخرج سلمان ورهن مطهرته وأخذ سعتراً، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا؛ فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة. وفي هذا من سلمان ترك التكلف قولاً وفعلاً.
وفي حديث يونس النبي عليه السلام: أنه زاره إخوانه فقدم إليهم كسراً من خبز شعير وجزَّ لهم بقلاً كان يزرعه ثم قال: لولا أن الله لعن المتكلفين لتكلفت لكم.
قال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدّم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبق ولا تذر.
وروى الزبير بن العوّام قال: نادى منادي رسول الله يوماً: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلَّذِينَ يَدْعُونَ لأَمْوَاتِ أُمَّتِي وَلاَ يَتَكَلَّفُونَ، أَلاَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ وَصَالِحُو أُمَّتِي".(1/253)
وروي أن عمر رضي الله عنه قرأ قوله تعالى: {فأنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وعِنَباً وقَضباً وزيْتُوناً ونَخْلاً وحَدَائِقَ غُلْباً وفَاكِهَةً وأبّاً} ومن أخلاق الصوفية: الإنفاق من غير إقتار، وترك الادخار؛ وذلك أن الصوفي يرى خزائن فضل الحق، فهو بمثابة من هو مقيم على شاطىء بحر، والمقيم على شاطىء البحر لا يدخر الماء في قربته وراويته. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ إِلاَّ لَهُ مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً". وروى أنس قال: كان رسول الله لا يدخر شيئاً لغد وروي أنه أهدي لرسول الله ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طيراً، فلما كان الغد أتاه به فقال رسول الله: "أَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ تَخْبَأَ شَيْئاً لِغَدٍ، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَأْتِي بِرِزْقِ كُلِّ غَدٍ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على بلال وعنده صبرة من تمر، فقال: ""مَا هذَا يَا بِلاَلُ؟" فقال: أدخر يا رسول الله قال: "أَمَا تَخْشَى، أَنْفِقْ بِلالاً وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالاَ".
وروي أن عيسى ابن مريم كان يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسى، ولم يكن له ولد يموت، ولا بيت يخرب، ولا يخبىء شيئاً لغد.
فالصوفي كل خباياه في خزائن الله لصدق توكله وثقته بربه، فالدنيا للصوفي كدار الغربة ليس له فيها ادخار ولا له منها استكثار. قال عليه السلام: "لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً".(1/254)
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله السرخسي، قال: أخبرنا أبو عمران السمرقندي، قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن يوسف عن سفيان عن ابن المنكدر عن جابر قال: ما سئل النبي شيئاً قط فقال لا. قال ابن عيينة إذا لم يكن عنده وعد.
وبالإسناد عن الدارمي قال أخبرنا يعقوب بن حميد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن ابن أخي الزهري، قال إن جبريل عليه السلام قال ما في الأرض أهل عشيرة من أبيات إلا قلبتهم، فما وجدت أحداً أشدْ إنفاقاً لهذا المال من رسول الله.
ومن أخلاق الصوفية القناعة باليسير من الدنيا
قال ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه. وقال بشر بن الحارث: لو لم يكن في القناعة إلا التمتع بالعز لكفى صاحبه. وقال بنان الجمال:
الحر عبد ما طمعْ >< والعبد حر ما قنعْ
وقال بعضهم: انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص.
وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف، ودبر أمر الآخرة بالحرص والتعجيل.
وقال يحيى بن معاذ: من قنع بالرزق فقد ذهب بالآخرة وطاب عيشه.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: القناعة سيف لا ينبو.(1/255)
أخبرنا أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن الخلال ببغداد، قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عباد، قال: حدثنا أبو سعيد عن صدقة بن الربيع عن عمارة بن عزبة عم عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: سمعت رسول الله وهو على الأعواد يقول: "مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى". وروي عن رسول الله أنه قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً ثُمَّ صَبَرَ عَلَيْهِ".
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله دعا وقال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً".
وروى جابر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "القَنَاعَةُ مَالٌ لاَ يَنْفَدُ".
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كونوا أوعية الكتاب وينابيع الحكمة، وعدوا أنفسكم في الموتى، واسألوا الله تعالى الرزق يوماً بيوم، ولا يضركم أن لا يكثر لكم.
وأخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبي الفضل والده، قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله الشاوي، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا عمرو بن مالك البصري، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي سلمة الأنصاري، قال: أخبرني سلمة بن عبد الله بن محصن عن أبيه قال: قال: رسول الله: "مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" وقيل في تفسير قوله تعالى: {فَلْنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فالصوفي قوام على نفسه بالقسط، عالم بطبائع النفس وجدوى القناعة والتوصل إلى استخراج ذلك من النفس لعلمه بدائها ودوائها.
وقال أبو سليمان الداراني: القناعة من الرضا كما أن الورع من الزهد.
ومن أخلاق الصوفية: ترك المراء والمجادلة والغضب إلا بحق، واعتماد الرفق والحلم؛(1/256)
وذلك أن النفوس تثب وتظهر في الممارين. والصوفي كلما رأى نفس صاحبه ظاهرة قابلها بالقلب، وإذا قوبلت النفس بالقلب ذهبت الوحشة وانطفأت الفتنة. قال الله تعالى تعليماً لعباده: {ادْفَعْ بالَّتي هيَ أحْسَنُ فإذَا الَّذِي بيْنَكَ وبيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ}{وَنَزَعْنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَ} والناس رجلان: رجل طالب ما عند الله تعالى ويدعو إلى ما عند الله نفسه وغيره؛ فما للمحق الصوفي مع هذا منافسة ومراء وغل، فإن هذا معه في طريق واحدة ووجهة واحدة، وأخوه ومعينه، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ورجل مفتتن بشيء من محبة الجاه والمال والرياسة ونظر الخلق، فما للصوفي مع هذا منافسة لأنه زهد فيما فيه رغب، فمن شأن الصوفي أن ينظر إلى مثل هذا نظر رحمة وشفقة حيث يراه محجوباً مفتتناً فلا ينطوي له على غل ولا يماريه في الظاهر على شيء، لعلمه بظهور نفسه الأمارة بالسوء في المراء والمجادلة.
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا زياد بن أيوب، قال: حدثنا المحاربي عن ليث عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: "لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ".
وفي الخبر: "مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بيْتٌ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِها، وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلاَها".(1/257)
وأخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السهروردي محمد بن أبي عبد الله الماليني، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي، قال: أخبرنا أبو عمران عيسى السمرقندي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: حدثنا يحيى بن بسطام عن يحيى بن حمزة قال: حدثنا النعمان بن مكحول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُبَاهِي بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُقْبِلَ بِوُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ الله تَعَالَى جَهَنَّمَ" انظر كيف جعل رسول الله المماراة مع السفهاء سبباً لدخول النار، وذلك بظهور نفوسهم في طلب القهر والغلبة، والقهر والغلبة من صفات الشيطنة في الآدمي.
قال بعضهم: المجادل المماري يضع في نفسه عند الخوض في الجدال أن لا يقنع بشيء، ومن لا يقنع إلا أن لا يقنع فما إلى إقناعه سبيل، فنفس الصوفي تبدلت صفاتها وذهب عنه صفة الشيطنة والسبعية، وتبدل باللين والرفق والسهولة والطمأنينة.
روي عن رسول الله أنه قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لاَ يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلاَ يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" انظر كيف جعل النبي من شرط الإسلام سلامة القلب واللسان.
وروي عنه عليه السلام أنه مر بقوم وهم يحدون حجراً. قال: "مَا هذا؟" قالوا: هذا حجر الأشداء. قال: "أَلاَّ أُخْبِرُكُمْ بِأَشَدَّ مِنْ هذا؟ رَجُلٌ كَانَ بيْنَهُ وَبيْنَ أَخِيهِ غَضَبٌ فَأَتَاهُ فَغَلَبَ شَيْطَانَهُ وَشَيْطَانَ أَخِيهِ فَكَلَّمَهُ".(1/258)
وروي أنه جاء غلام لأبي ذر وقد كسر رجل شاة فقال أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ فقال: أنا قال: ولم فعلت ذلك؟ قال: عمداً فعلت. قال: ولم؟ قال: أغيظك فتضربني فتأثم؛ فقال أبو ذر: لأغيظن من حضك على غيظي، فأعتقه.
وروى الأصمعي عن أعرابي قال: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما إلى هواك، فإن أكثر ما يكون الخطأ متابعة الهوى.
أخبرنا أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل قال أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي قال أخبرنا خورشيد، قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن سليم قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سعيد بن سعد عن أخيه عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "ثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ وَثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا المُنْجِيَاتُ فَخِشْيَةُ الله فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَالحُكْمُ بِالحَقِّ عِنْدَ الغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالاقْتِصَادُ عِنْدَ الفَقْرِ وَالغِنَى. وَأَمَّا المُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ" فالحكم بالحق عند الغضب والرضا لا يصح إلا من عالم رباني أمير على نفسه يصرفها بعقل حاضر وقلب يقظان ونظر إلى الله بحسن الاحتساب.
نقل أنهم كانوا يتوضؤون عن إيذاء المسلم، يقول بعضهم لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب.(1/259)
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الحدث حدثان: حدث من فرجك، وحدث من فيك، فلا يحل حبوة الوقار والحلم إلا الغضب ويخرج عن حد العدل إلى العدوان بتجاوز الحد، فبالغضب يثور دم القلب، فإن كان الغضب على من فوقه مما يعجز عن إنفاذ الغضب فيه ذهب الدم من ظاهر الجلد واجتمع في القلب ويصير منه الهم والحزن والانكماد، ولا ينطوي الصوفي على مثل هذا؛ لأنه يرى الحوادث والأعراض من الله تعالى فلا ينكمد ولا يغتم. والصوفي صاحب الرضا صاحب الروح والراحة، والنبي عليه السلام أخبر أن الهم والحزن في الشك والسخط.
سئل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن الغم والغضب؟ قال: مخرجهما واحد واللفظ يختلف، فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضباً، ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزناً. والحرد: غضب أيضاً ولكن يستعمل إذا قصد المغضوب عليه، وإن كان الغضب على من يشاكله ويماثله ممن يتردد في الانتقام منه يتردد القلب بين الانقباض والانبساط فيتولد منه الغل والحقد ولا يأوي مثل هذا إلى قلب الصوفي. قال الله تعالى: {وَنَزْعَنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غلَ} قيل لبعضهم: من أقهر الناس لنفسه؟ قال: أرضاهم بالمقدور. وقال بعضهم: أصبحت ومالي سرور إلا مواقع القضاء.
وإذا اتهم الصوفي النفس عند الغضب تداركه العلم، وإذا لاح علم العلم قوي القلب وسكنت النفس وعاد دم القلب إلى موضعه ومقره واعتدل الحال وغاضت حمرة الخد وبانت فضيلة العلم. قال عليه السلام: "السَّمْتُ الحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ".
وروى حارثة بن قدامة قال: قلت يا رسول الله أوصني وأقلل لعلي أعيه، قال: "لا تَغْضَبْ" فأعاد عليه، كل ذلك يقول: "لا تَغْضَبْ" قال عليه السلام: "إِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ النَّارِ" ألم تنظروا حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، من وجد ذلك منكم فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع".(1/260)
أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال أخبرنا أبو نصر الترياقي قال أخبرنا الجراحي، قال أخبرنا المحبوبي، قال أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال حدثنا محمد بن عبد الله، قال حدثنا بشر بن المفضل عن قرة بن خالد عن أبي حمزة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال لأشج عبد القيس: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله تَعَالَى: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ".
ومن أخلاق الصوفية: التودد والتآلف، والموافقة مع الإخوان وترك المخالفة.
قال الله تعالى في وصف أصحاب رسول الله: {أشِدّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بيْنَهُمْ}{لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جميعاً ما ألَّفْتَ بيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بيْنَهُمْ}"فما تعارف منها ائتلف قال الله تعالى: {فأصْبَحْتُمْ بِنعْمَتِهِ إخْواناً}{واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}"المُؤْمِنُ آلِفٌ مَأْلُوفٌ، لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ".
وقال عليه السلام: "مَثَلُ المُؤْمِنَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا مَثَلُ اليَدَيْنِ تَغْسِلُ إِحْدَاهُما الأُخْرَى، وَمَا الْتَقَى مُؤْمِنَانِ إِلاَّ اسْتَفَادَ أَحَدُهُما مِنْ صَاحِبِهِ خَيْراً" وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ: إني أحبك في الله، فقال: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله يقول: "يُنْصَبُ لِطَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَرَاسِيُّ حَوْلَ العَرْشِ يَوْمَ القِيَامَةِ وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ يَفْزَعُ النَّاسُ وَهُمْ لاَ يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَهُمْ لاَ يَخَافُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" قيل: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: "المتحابون في الله".
وقيل: لو تحاب الناس وتعاطوا أسباب المحبة لاستغنوا بها عن العدالة.(1/261)
وقيل: العدالة خليفة المحبة تستعمل حيث لا توجد المحبة. وقيل طاعة المحبة أفضل من طاعة الرهبة؛ فإن طاعة المحبة من داخل وطاعة الرهبة من خارج؛ ولهذا المعنى كانت صحبة الصوفية مؤثرة من البعض في البعض، لأنهم لما تحابوا في الله تواصوا بمحاسن الأخلاق ووقع القبول بينهم لوجود المحبة، فانتفع لذلك المريد بالشيخ، والأخ بالأخ؛ ولهذا المعنى أمر الله تعالى باجتماع الناس في كل يوم خمس مرات في المساجد أهل كل درب وكل محلة، وفي الجامع في الأسبوع مرة أهل كل بلد، وانضمام أهل السواد إلى البلدان في الأعياد في جميع السنة مرتين، وأهل الأقطار من البلدان المتفرقة في العمر مرة للحج: كل ذلك لحكم بالغة، منها تأكيد الألفة والمودة بين المؤمنين. وقال عليه السلام: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً".
أخبرنا أبو زرعة قال: أخبرنا والدي أبو الفضل، قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن سلمان العدل، قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، فقال: أخبرنا أبو العباس عبد الله بن يعقوب الكرماني، قال: حدثنا يحيى الكرماني، قال: حدثنا حماد بن زيد عن مجالد بن سعد عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: "أَلاَّ إِنَّ مَثَلَ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَحَابِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بَالسَّهَرِ وَالحُمَّى".(1/262)
والتآلف والتودد يؤكدان أسباب الصحبة، والصحبة مع الأخيار مؤثرة جداً. وقد قيل: لقاء الإخوان لقاح، ولا شك أن البواطن تتلقح ويتقوى البعض بالبعض، بل مجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحاً، والنظر في الصور يؤثر أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه، كدوام النظر إلى المحزون يحزن، ودوام النظر إلى المسرور يسر. وقد قيل: من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه، والجمل الشرود يصير ذلولاً بمقارنة الجمل الذلول؛ فالمقارنة لها تأثير في الحيوان والنبات والجماد، والماء والهواء يفسدان بمقارنة الجيف، والزروع تنقى عن أنواع العروق في الأرض والنبات لموضع الإفساد بالمقارنة، وإذا كانت المقارنة مؤثرة في هذه الأشياء؛ ففي النفوس الشريفة البشرية أكثر تأثيراً؛ وسمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس بما يراه من خير وشر، والتآلف والتودد مستجلب للمزيد، وإنما العزلة والوحدة تحمد بالنسبة إلى أراذل الناس وأهل الشر؛ فأما أهل العلم والصفاء والوفاء والأخلاق الحميدة فيغتنم مقارنتهم، والاستئناس بهم استئناس بالله تعالى، كما أن محبتهم محبة لله، والجامع معهم رابطة الحق ومع غيرهم رابطة الطبع؛ فالصوفي مع غير الجنس كائن بائن، ومع الجنس كائن مغابن، والمؤمن مرآة المؤمن، إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء أقواله وأعماله وأحواله تجليات إلهية، وتعريفات وتلويحات من الله الكريم خفية؛ غابت عن الأغيار، وأدركها أهل الأنوار.
ومن أخلاق الصوفية: شكر المحسن على الإحسان والدعاء له،(1/263)
وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم وصفاء توحيدهم وقطعهم النظر إلى الأغيار ورؤيتهم النعم من المنعم الجبار، ولكن يفعلون ذلك اقتداء برسول الله، على ما ورد أن رسول الله خطب فقال: "مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبي قحافةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خِلِيلاً" وقال: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ كَمَالِ أَبي بَكْرٍ" فالخلق حجبوا عن الله بالخلق في المنع والعطاء.
فالصوفي في الابتداء يفني عن الخلق، ويرى الأشياء من الله حيث طالع ناصيته التوحيد وخرق الحجاب الذي منع الخلق عن صرف التوحيد، فلا يثبت للخلق منعاً ولا عطاء، ويحجبه الحق عن الخلق؛ فإذا ارتقى إلى ذروة التوحيد يشكر الخلق بعد شكر الحق، ويثبت لهم وجوداً في المنع والعطاء، بعد أن يرى المسبب أولاً، ولذلك لسعة علمه وقوة معرفته يثبت الوسائط، فلا يحجبه الخلق عن الحق كعامة المسلمين، ولا يحجبه الحق عن الخلق كأرباب الإرادة والمبتدئين؛ فيكون شكره للحق لأنه المنعم والمعطي والمسبب، ويشكر الخلق لأنهم واسطة وسبب. قال رسول الله: "أَوَّلُ مَا يُدْعَى إِلَى الجَنَّةِ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ الله تَعَالَى فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ" وقال عليه السلام: "مَنْ عَطَسَ أَوْ تَجَشَّأَ فَقَالَ: الحَمْدُ لله عَلَى كُلِّ حَالٍ دَفَعَ الله بِها عَنْهُ سَبْعِينَ دَاءً أَهْوَنُها الجُذَامُ".
وروى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُنْعَمُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَيَحْمَدُ الله إِلاَّ كَانَ الحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْهَا"، فقوله عليه السلام: "كَانَ الحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْهَا" يحتمل أن يرضى الحق بها شكراً، ويحتمل أن الحمد أفضل منها نعمة فتكون نعمة الحمد أفضل من النعمة التي حمد عليها؛ فإذا شكروا المنعم الأول يشكرون الواسطة المنعم من الناس ويدعون له.(1/264)
وروى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أفطر عند قوم قال: "أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ وَنَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ".
أخبرنا أبو زرعة عن أبيه، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد البزار، قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، قال: أخبرنا عمرو بن زرارة، قال: حدثنا عيينة بن يونس عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "مَنْ قَالَ لأَخِيهِ جَزَاكَ الله خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ".
ومن أخلاق الصوفية: بذل الجاه للإخوان والمسلمين كافة،
فإذا كان الرجل وافر العلم بصيراً بعيوب النفس وآفاتها وشهواتها فليتوصل إلى قضاء حوائج المسلمين ببذل الجاه والمعاونة في إصلاح ذات البين، وفي هذا المعنى يحتاج إلى مزيد علم، لأنها أمور تتعلق بالخلق ومخالطتهم ومعاشرتهم، ولا يصلح ذلك إلا لصوفي تام الحال عالم رباني.
روي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان نبي من الأنبياء يأخذ بركاب الملك يتألفه بذلك لقضاء حوائج الناس.(1/265)
وقال عطاء: لأن يراني الرجل سنين فيكتسب جاهاً يعيش فيه مؤمن، أتم لم من أن يخلص العمل لنجاة نفسه. وهذا باب غامض لا يؤمن أن يفتتن به خلق من الجهال المدّعين، ولا يصلح هذا إلا لعبد اطلع على باطنه فعلم منه أن لا رغبة له في شيء من الجاه والمال، ولو أن ملوك الأرض وقفوا في خدمته ما طغى ولا استطال، ولو دخل إلى أتون يوقد ما ظهرت نفسه بصريح الإنكار لهذا الحال، وهذا لا يصلح إلا لآحاد من الخلق وأفراد من الصادقين ينسلخون عن إرادتهم واختيارهم ويكاشفهم الله تعالى بمراده منهم، فيدخلون في الأشياء بمراد الله تعالى؛ فإذا علموا أن الحق يريد منهم المخالطة وبذل الجاه يدخلون في ذلك بغيبة صفات النفس، وهذا لأقوام ماتوا ثم حشروا وأحكموا مقام الفناء ثم رقوا إلى مقام البقاء، فيكون لهم في كل مدخل ومخرج برهان وبيان وإذن من الله تعالى، فهم على بصيرة من ربهم، وهذا ليس فيه ارتياب لصاحب قلب مكاشف بصريح المراد في خفي الخطاب؛ فيأخذ وقته أبداً من الأشياء ولم تأخذ الأشياء من وقته، ولا يكون في قطر من الأقطار إلا واحد متحقق بهذا الحال.
قال أبو عثمان الحيري: لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء: المنع والعطاء والعز والذل، ولمثل هذا الرجل يصلح بذل الجاه والدخول فيما ذكرناه.
قال سهل بن عبد الله: لا يستحق إنسان الرياسة حتى تجتمع فيه ثلاث خصال: يصرف جهله عن الناس ويحتمل جهل الناس، ويترك ما في أيديهم، ويبذل ما في يده لهم. وهذه الرياسة ليست عين الرياسة التي زهد فيها وتعين الزهد فيها لضرورة صدقه وسلوكه، وإنما هذه رياسة أقامها الحق لصلاح خلقه، فهو فيها بالله يقوم بواجب حقها وشكر نعمتها لله تعالى.
{الباب الحادي والثلاثون}: في ذكر الأدب ومكانه من التصوف(1/266)
روي عن رسول الله أنه قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فالأدب: تهذيب الظاهر والباطن فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفياً أديباً، وإنما سميت المأدبة مأدبة لاجتماعها على أشياء، ولا يتكامل الأدب في العبد إلا بتكامل مكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق مجموعها من تحسين الخلق؛ فالخلق صورة الإنسان والخلق معناه، قال بعضهم: الخلق لا سبيل إلى تغييره كالخلق، وقد ورد "فرغ ربكم من الخلق والخلق والرزق والأجل" وقد قال تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}"حَسِّنُوا أَخْلاقَكُمْ"، وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان وهيأه لقبول الصلاح والفساد وجعله أهلاً للأدب ومكارم الأخلاق، ووجود الأهلية فيه كوجود النار في الزناد ووجود النخل في النوى؛ ثم إن الله تعالى بقدرته ألهم الإنسان ومكنه من إصلاحه بالتربية إلى أن يصير النوى نخلاً، والزناد بالعلاج حتى تخرج منه نار، وكما جعل في نفس الإنسان صلاحية الخير جعل فيها صلاحية الشر حال الإصلاح والإفساد، فقال سبحانه وتعالى: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاها فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا}{قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}"أَدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي" وفي بعض الناس من يحتاج إلى طول الممارسة لنقصان قوى أصولها في الغريزة، فلهذا احتاج المريدون إلى صحبة المشايخ لتكون الصحبة والتعلم عوناً على استخراج ما في الطبيعة إلى الفعل، قال الله تعالى: {قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً}"أَدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي ثُمَّ أَمَرَنِي بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ فَقَالَ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}.
قال يوسف بن الحسين: بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يقام الزهد، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا يرغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال الرتبة عند الله تعالى.(1/267)
قيل: لما ورد أبو حفص العراق جاء إليه الجنيد فرأى أصحاب أبي حفص وقوفاً على رأسه يأتمرون لأمره لا يخطىء أحد منهم، فقال: يا أبا حفص أدبت أصحابك أدب الملوك، فقال: لا يا أبا القاسم، ولكن حسن الأدب في الظاهر عنوان الأدب في الباطن.
قال أبو الحسين النوري: ليس لله في عبده مقام ولا حال ولا معرفة تسقط معها آداب الشريعة؛ وآداب الشريعة حلية الظاهر، والله تعالى لا يبيح تعطيل الجوارح من التحلي بمحاسن الآداب.
قال عبد الله بن المبارك: أدب الخدمة أعز من الخدمة.
حكي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: دخلت مكة فكنت ربما أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمدّ رجلي؛ فجاءتني عائشة المكية فقالت لي: يا أبا عبيد يقال إنك من أهل العلم، اقبل مني كلمة، لا تجالسه إلا بأدب وإلا فيمحى اسمك من ديوان القرب، قال أبو عبيد: وكانت من العارفات.
وقال ابن عطاء: النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، والنفس تجري بطباعها في ميدان المخالفة والعبد يردها بجهده إلى حسن المطالبة؛ فمن أعرض عن الجهد فقد أطلق عنان النفس وغفل عن الرعاية، ومهما أعانها فهو شريكها.
وقال الجنيد: من أعان نفسه على هواها فقد أشرك في قتل نفسه، لأن العبودة ملازمة الأدب، والطغيان سوء الأدب.
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو النصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا يحيى بن يعلى عن ناصح عن سماك عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله: "لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ".(1/268)
وروي أيضاً أنه قال عليه السلام: "مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً مِنْ نِحْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ". وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله قال: "حَقُّ الوَالِدِ عَلَى الوَلَدِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَيُحْسِنَ مَوْضِعَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ".
وقال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعته إلى الجنة، وبأدبه في طاعته إلى الله تعالى. قال أبو القاسم القشيري رحمه الله: كان الأستاذ أبو علي لا يستند إلى شيء، فكان يوماً في مجمع، فأردت أن أضع وسادة خلف ظهره لأني رأيته غير مستند، فتنحى عن الوسادة قليلاً، فتوهمت أنه توقى الوسادة لأنه لم يكن عليها خرقة أو سجادة، فقال: لا أريد الاستناد، فتأملت بعد ذلك فعلمت أنه لا يستند إلى شيء أبداً.
وقال الجلال البصري؛ التوحيد يوجب الإيمان، فمن لا إيمان له لا توحيد له، والإيمان يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له، والشريعة توجب الأدب فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له.
وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب ظاهراً إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
قال بعضهم ـ هو غلام الدقاق ـ نظرت إلى غلام أمرد فنظر إلي الدقاق وأنا أنظر إليه، فقال: لتجدن غبها ولو بعد سنين، قال: فوجدت غبها بعد عشرين سنة أن أنسيت القرآن.
وقال سري: صليت وردي ليلة من الليالي ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سري هكذا تجالس الملوك؟ فضممت رجلي ثم قلت: وعزتك لا مددت رجلي أبداً. وقال الجنيد: فبقي ستين سنة ما مد رجله ليلاً ولا نهاراً.
وقال عبد الله بن المبارك: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن. ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.(1/269)
وسئل السري عن مسألة في الصبر فجعل يتكلم فيها، فدب على رجله عقرب فجعلت تضربه بإبرتها، فقيل له: ألا تدفعها عن نفسك؟ قال: أستحي من الله أن أتكلم في حال ثم أخالف ما أعلم فيه.
وقيل: من أدب رسول الله أنه قال: "زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ فَأُرِيْتُ مَشَارِقَها وَمَغَارِبَها" ولم يقل رأيت.
وقال أنس بن مالك: الأدب في العمل علامة قبول العمل.
وقال ابن عطاء: الأدب الوقوف مع المستحسنات. قيل: ما معناه؟ قال: أن تعامل الله سراً وعلناً بالأدب، فإذا كنت كذلك كنت أديباً وإن كنت أعجمياً. ثم أنشد:
إذا نطقت جاءت بكل مليحة >< وإن سكتت جاءت بكل مليح
وقال الجريري: منذ عشرين سنة ما مددت رجلي في الخلوة، فإنّ حسن الأدب مع الله أحسن وأولى.
وقال أبو علي: ترك الأدب موجب للطرد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.
{الباب الثاني والثلاثون}: في آداب الحضرة الإلهية لأهل القرب(1/270)
كل الآداب تتلقى من رسول الله: فإنه عليه السلام مجمع الآداب ظاهراً وباطناً، وأخبر الله تعالى عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى: {ما زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}{لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُم}{ما زاغ البصر} إخبار عن حال النبي عليه السلام بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم فكان: {ما زاغ البصر} حاله في طرف الإعراض وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام قاب قوسين بالروح والقلب؛ ثم فرّ من الله تعالى حياء منه وهيبة وإجلالاً، وطوى نفسه بفراره في مطاوي انكساره وافتقاره، لكيلا تنبسط النفس فتطغى؛ فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس. قال الله تعالى: {كَلاَّ إنَّ الإنْسَانَ ليَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنَى}{ما زاغ البصر} وما التفت إلى ما فاته {وما طغى} متأسفاً لحسن أدبه، ولكن امتلأ من المنح، واسترقت النفس السمع وتطلعت إلى القسط والحظ؛ فلما حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها، وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال: {أرِني أنْظُرْ إليْكَ}{ما زاغ البصر وما طغى} قال لم يره بطغيان يميل، بل رآه على شرط اعتدال القوى.
وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهداً بكليته لربه: يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل؛ وهذا الكلام لمن اعتبر موافق لما شرحناه برمز في ذلك عن سهل بن عبد الله.(1/271)
ويؤيد ذلك أيضاً ما أخبرنا به شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إجازة، قال: أخبرنا الشيخ العالم عصام الدين أبو حفص عمر بن محمد بن منصور الصفار النيسابوري، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أبا نصر بن عبد الله بن علي السراج، قال: أخبرنا أبو الطيب المكي عن أبي محمد الجريري، قال: التسرع إلى استدراك علم الانقطاع وسيلة، والوقوف على حد الانحسار نجاة، واللياذ بالهرب من علم الدنو وصلة، واستقباح ترك الجواب ذخيرة، والاعتصام من قبول دواعي استماع الخطاب تكلف، وخوف فوت علم ما انطوى من فصاحة الفهم في حيز الإقبال مساءة، والإصغاء إلى تلقي ما ينفصل عن معدنه بعد، والاستسلام عند التلاقي جراءة، والانبساط في محل الأنس غرة، وهذه الكلمات كلها عن آداب الحضرة لأربابها.(1/272)
وفي قوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} وجه آخر ألطف مما سبق {ما زاغ البصر} حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر {وما طغى} لم يسبق البصر البصيرة فيتجاوز حده ويتعدى مقامه، بل استقام البصر مع البصيرة، والظاهر مع الباطن، والقلب مع القالب، والنظر مع القدم، ففي تقدم النظر على القدم طغيان، والمعنى بالنظر علم، وبالقدم حال القالب، فلم يتقدم النظر على القدم فيكون طغياناً، ولم يتخلف القدم عن النظر فيكون تقصيراً، فلما اعتدلت الأحوال وصار قلبه كقالبه وقالبه كقلبه، وظاهره كباطنه وباطنه كظاهره، وبصره كبصيرته وبصيرته كبصره، فحيث انتهى نظره وعلمه قارنه قدمه وحاله، ولهذا المعنى انعكس حكم معناه ونوره على ظاهره، وأتى البراق ينتهي خطوه حيث ينتهي نظره لا يتخلف قدم البراق عن موضع نظره كما جاء في حديث المعراج، فكان البراق بقالبه مشاكلاً لمعناه، ومتصفاً بصفته لقوة حاله ومعناه، وأشار في حديث المعراج إلى مقامات الأنبياء ورأى في كل سماء بعض الأنبياء إشارة إلى تعويقهم وتخلفهم عن شأوه ودرجته، ورأى موسى في بعض السموات فمن هو في بعض السموات يكون قوله: {أرني أنظر إليك} تجاوزاً للنظر عن حدّ القدم وتخلفاً للقدم عن النظر، وهذا هو الإخلال بأحد الوصفين من قوله: {ما زاغ البصر وما طغى} فرسول الله حمل مقترناً قدمه ونظره في حجال الحياء والتواضع، ناظراً إلى قدمه، قادماً على نظره، ولو خرج عن حجال الحياء والتواضع وتطاول بالنظر متعدياً حدّ القدم تعوق في بعض السموات كتعوق غيره من الأنبياء، فلم يزل متجلس حجاله في خفارة أدب حاله، حتى خرق حجب السموات، فانصبت إليه أقسام القرب انصباباً، وانقشعت عنه سحائب الحجب حجاباً حجاباً، حتى استقام على صراط {ما زاغ البصر وما طغى} فمر كالبرق الخاطف إلى مخدع الوصل واللطائف، وهذا غاية في الأدب ونهاية في الأرب.(1/273)
قال أبو محمد بن رويم حين سئل عن أدب المسافر فقال: لا يجاوز همه قدمه، فحيث وقف قلبه يكون مقره.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إجازة، قال: أخبرنا عمر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا القاضي أبو محمد يحيى بن منصور، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي، قال: حدثنا محمد بن رزام الأيلي، قال: حدثنا محمد بن عطاء الهجيمي، قال: حدثنا محمد بن نصير عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: "تلا رسول الله هذه الآية: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال: قال يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم".
ومن آداب الحضرة ما قال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وهذا يختص ببعض الأحوال والأشياء دون البعض، ليس هو على الإطلاق، لأن الله تعالى أمر بالدعاء، وإنما الإمساك عن القول كما أمسك موسى عن الانبساط في طلب المآرب والحاجات الدنيوية، حتى رفعه الحق مقاماً في القرب وأذن له في الانبساط وقال: اطلب مني ولو ملحاً لعجينك، فلما بسط انبسط وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب، لأن معروفه مؤدب قلبه.
وقال بعضهم: يقول الحق سبحانه وتعالى: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشف له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب. فاختر أيهما شئت: الأدب أو العطب. وقول القائل هذا، يشير إلى أن الأسماء والصفات تستقل بوجوب محتاج إلى الأدب لبقاء رسوم البشرية وحظوظ النفس مع لمعان نور عظمة الذات تتلاشى الآثار بالأنوار. ويكون معنى العطب: التحقق بالفناء، وفي ذلك العطب نهاية الأرب.(1/274)
وقال أبو علي الدقاق في قوله تعالى: {وأيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}{إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}.
وقال أبو نصر السراج: أدب أهل الخصوصية من أهل الدين في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر والعوارض والبوادي والعوائق، واستواء السر والعلانية، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب وأوقات الحضور. والأدب أدبان: أدب قول، وأدب فعل؛ فمن تقرب إلى الله تعالى بأدب فعل منحه محبة القلوب.
قال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم. وقال أيضاً: الأدب للعارف بمنزلة التوبة للمستأنف.
وقال النوري: من لم يتأدب للوقت فوقته مقت.
وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن حد استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء.
وقال ابن المبارك أيضاً: قد أكثر الناس في الأدب ونحن نقول: هو معرفة النفس. وهذه إشارة منه إلى أن النفس هي منبع الجهالات، وترك الأدب من مخامرة الجهل؛ فإذا عرف النفس صادف نور العرفان، على ما ورد "من عرف نفسه فقد عرف ربه" ولهذا النور لا تظهر النفس بجهالة إلا ويقمعها بصريح العلم وحينئذ يتأدب، ومن قام بآداب الحضرة فهو بغيره أقوم وعليها أقدر.
{الباب الثالث والثلاثون}: في آداب الطهارة ومقدماتها
قال الله تعالى في وصف أصحاب الصفة: {فيه رجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهرِينَ} "إن الله تعالى قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟" قالوا: إنّا نستنجي بالماء، وكان قبل ذلك قال لهم رسول الله: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الخَلاَءَ فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ" وهكذا كان الاستنجاء في الابتداء حتى نزلت الآية في أهل قباء.(1/275)
قيل لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال سلمان: أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع أو عظم.
حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إملاء، قال: أخبرنا أبو منصور الحريمي، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمرو الهاشمي، قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، قال: أخبرنا أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا ابن المبارك عن ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول: "إِنَّما أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرُها وَلاَ يَسْتَطِبْ بيَمِينِهِ" وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة، والفرض في الاستنجاء شيئان: إزالة الخبث وطهارة المزيل: وهو أن لا يكون رجيعاً وهو الروث، ولا مستعملاً مرة أخرى، ولا رمة وهي عظم الميتة. ووتر الاستنجاء سنة فإما ثلاثة أحجار أو خمس أو سبع، واستعمال الماء بعد الحجر سنة، وقد قيل في الآية: {يحبون أن يتطهروا} ولما سئلوا عن ذلك قالوا: كنا نتبع الماء الحجر، والاستنجاء بالشمال سنة، ومسح اليد بالتراب بعد الاستنجاء سنة، وهكذا يكون في الصحراء إذا كانت أرضاً طاهرة وتراباً طاهراً. وكيفية الاستنجاء أن يأخذ الحجر بيساره ويضعه على مقدم المخرج قبل ملاقاة النجاسة ويمره بالمسح ويدير الحجر في مره حتى لا ينقل النجاسة من موضع إلى موضع، ويفعل ذلك إلى أن ينتهي إلى مؤخر المخرج، ويأخذ الثاني وبضعه على المؤخر كذلك، ويمسح إلى المقدمة، ويأخذ الثالث ويديره حول المسربة. وإن استجمر بحجر ذي ثلاث شعب جاز.(1/276)
وأما الاستبراء إذا انقطع البول فيمد ذكره من أصله ثلاثاً إلى الحشفة بالرفق لئلا يندفق بقية البول، ثم ينتره ثلاثاً، ويحتاط في الاستبراء بالاستنقاء: وهو أن يتنحنح ثلاثاً؛ لأن العروق ممتدة من الحلق إلى الذكر، وبالتنحنح تتحرك وتقذف ما في مجرى البول؛ فإذا مشى خطوات وزاد في التنحنح فلا بأس، ولكن يراعي حد العلم ولا يجعل للشيطان عليه سبيلاً بالوسوسة فيضيع الوقت، ثم يمسح الذكر ثلاث مسحات أو أكثر إلى أن لا يرى الرطوبة. وشبه بعضهم الذكر بالضرع وقال: لا يزال تظهر منه الرطوبة ما دام يمدّ فيراعى الحدّ في ذلك، ويراعى الوتر في ذلك أيضاً، والمسحات تكون على الأرض الطاهرة أو حجر طاهر، وإن احتاج إلى أخذ الحجر لصغره فليأخذ الحجر باليمين والذكر باليسار ويمسح على الحجر، وتكون الحركة باليسار لا باليمين لئلا يكون مستنجياً باليمين، وإذا أراد استعمال الماء انتقل إلى موضع آخر ويقنع بالحجر ما لم ينتشر البول على الحشفة، وفي ترك الاستنقاء في الاستبراء وعيد ورد فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله على قبرين فقال: "إِنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبيرٍ، أَمَّا هذَا فَكَانَ لا يَسْتَبْرِىءُ أَوْ لا يَسْتَنْزِهُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا هذا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَا لَمُ ييْبَسَا" والعسيب: الجريد، وإذا كان في الصحراء يبعد عن العيون.
روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد وروى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله في سفر، فأتى النبي عليه السلام حاجته فأبعد في المذهب وروي: أن النبي عليه السلام كان يتبوّأ لحاجته كما يتبوّأ الرجل المنزل، وكان يستتر بحائط أو نشز من الأرض أو كوم من الحجارة.(1/277)
ويجوز أن يستتر الرجل براحلته في الصحراء أو بذيله إذا حفظ الثوب من الرشاش. ويستحب البول في أرض دمثة أو على تراب مهيل. قال أبو موسى: كنت مع رسول الله، فأراد أن يبول، فأتى دمثاً في أصل جدار فبال ثم قال: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ".
وينبغي أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستقبل الشمس والقمر، ولا يكره استقبال القبلة في البنيان، والأولى اجتنابه لذهاب بعض الفقهاء إلى كراهية ذلك في البنيان أيضاً، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ويتجنب مهاب الريح احترازاً من الرشاش: قال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه: لا أحسبك تحسن الخراءة؛ فقال: بلى وأبيك إني بها لحاذق. قال: فصفها لي، فقال: أبعد البشر وأعدّ المدر، وأستقبل الشيح وأستدبر الريح وأقعي إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام يعني أستقبل أصول النبات من الشيح وغيره وأستدبر الريح احترازاً من الرشاش. والإقعاء ههنا: أن يستوفز على صدور قدميه. والإجفال: أن يرفع عجزه.
ويقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وطهر قلبي من الرياء، وحصن فرجي من الفواحش.
ويكره أن يبول الرجل في المغتسل: روى عبد الله بن مغفل أن النبي عليه السلام، نهى أن يبول الرجل في مستحمه وقال: "إن عامة الوسواس منه". وقال ابن المبارك: يوسع في البول في المستحم إذا جرى فيه الماء وإذا كان في البنيان يقدم رجله اليسرى لدخول الخلاء ويقول قبل الدخول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث.(1/278)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا أبو منصور المقري، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا أبو عمرو الهاشمي، قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، قال: أخبرنا أبو داود، قال: حدثنا عمر وهو ابن مرزوق البصري، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم، عن النبي أنه قال: "إِنَّ هذِهِ الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الخَلاءَ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الخَبَثِ وَالخَبَائِثِ" وأراد بالحشوش الكنف. وأصل الحش: جماعة النخل الكثيف كانوا يقضون حوائجهم إليها قبل أن تتخذ الكنف في البيوت. وقوله: "مُحْتَضَرَةٌ" أي يحضرها الشياطين.
وفي الجلوس للحاجة يعتمد على الرجل اليسرى ولا يتولع بيده، ولا يخط في الأرض والحائط وقت قعوده، ولا يكثر النظر إلى عورته إلا للحاجة إلى ذلك، ولا يتكلم، فقد ورد أن رسول الله قال: "لاَ يَخْرُجِ الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَوْرَاتِهِما يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَمْقُتُ عَلَى ذلِكَ".
ويقول عند خروجه: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني. ولا يستصحب معه شيئاً عليه اسم الله من ذهب وخاتم وغيره، ولا يدخل حاسر الرأس: روت عائشة رضي الله عنها عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: استحيوا من الله فإني لأدخل الكنيف فألزق ظهري وأغطي رأسي استحياء من ربي عز وجل.
{الباب الرابع والثلاثون}: في آداب الوضوء وأسراره(1/279)
إذا أراد الوضوء يبتدىء بالسواك. حدثنا شيخنا أبو النجيب، قال: أخبرنا أبو عبد الله الطائي، قال: أخبرنا الحافظ الفراء، قال: أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا حميد بن زنجويه، قال: حدثنا يعلى بن عبيد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ العِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيّلِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ مَكْتُوبَةٍ".
وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب".
وعن حذيفة قال: "كان رسول الله إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك". والشوص: الدلك.
ويستحب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء، وكلما تغير الفم من أزم وغيره. وأصل الأزم إمساك الأسنان بعضها على بعض. وقيل للسكوت: أزم، لأن الأسنان تنطبق وبذلك يتغير الفم. ويكره للصائم بعد الزوال، ويستحب له قبل الزوال، وأكثر استحبابه مع غسل الجمعة، وعند القيام من الليل، ويندي السواك اليابس بالماء، ويستاك عرضاً وطولاً؛ فإن اقتصر فعرضاً، فإذا فرغ من السواك يغسله ويجلس للوضوء، والأولى أن يكون مستقبل القبلة، ويبتدىء ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول: {رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ} ويقول عند الاستنثار: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك من روائح النار وسوء الدار. ويقول عند غسل الوجه: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبيِّض وجهي يوم تبيض وجوه أوليائك، ولا تسوِّد وجهي يوم تسود وجوه أعدائك. وعند غسل اليمين: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وآتني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً.(1/280)
وعند غسل الشمال: اللهمَّ إني أعوذ بك أن تؤتيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وغشني برحمتك وأنزل علي بركاتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلّ عرشك ويقول عند مسح الأذنين: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد واجعلني ممن يسمع القول فيتبع أحسنه، اللهمَّ اسمعني منادي الجنة مع الأبرار. ويقول في مسح العنق: اللهمَّ فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال. ويقول عند غسل قدمه اليمنى: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وثبِّت قدمي على الصراط مع أقدام المؤمنين. ويقول عند اليسرى: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين وإذا فرغ من الوضوء يرفع رأسه إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سبحانك اللهمَّ وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، واجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني صبوراً شكوراً، واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً.
وفرائض الوضوء: النية عند غسل الوجه. وغسل الوجه ـ وحد الوجه من مبتدأ تسطيح الوجه إلى منتهى الذقن وما ظهر من اللحية وما استرسل منها، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ويدخل في الغسل البياض الذي بين الأذنين واللحية وموضع الصلع وما انحسر عنه الشعر وهم النزعتان من الرأس، ويستحب غسلهما مع الوجه ويوصل الماء إلى شعر التحذيف وهو القدر الذي يزيله النساء من الوجه، ويوصل الماء إلى العنفقة والشارب والحاجب والعذار، وما عدا ذلك لا يجب، ثم اللحية إن كانت خفيفة يجب إيصال الماء إلى البشرة، وحد الخفيف أن ترى البشرة من تحته. وإن كانت كثيفة فلا يجب، وتجتهد في تنقية مجتمع الكحل من مقدم العين.(1/281)
الواجب الثالث؛ غسل اليدين إلى المرفقين ويجب إدخال المرفقين في الغسل ويستحب غسلهما إلى أنصاف العضدين، وإن طالت الأظافر حتى خرجت من رؤوس الأصابع يجب غسل ما تحتها على الأصح.
الواجب الرابع: مسح الرأس، ويكفي ما يطلق عليه اسم المسح، واستيعاب الرأس بالمسح سنة: وهو أن يلصق رأس أصابع اليمنى باليسرى ويضعهما على مقدم الرأس ويمدهما إلى القفا ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه، وينصف بلل الكفَّين مستقبلاً ومستدبراً.
والواجب الخامس: غسل القدمين، ويجب إدخال الكعبين في الغسل، ويستحب غسلهما إلى أنصاف الساقين ويقنع غسل القدمين من الكعبين، ويجب تخليل الأصابع الملتفة، فيخلل بخنصر يده اليسرى من باطن القدم ويبدأ بخنصر رجله اليمنى ويختم بخنصر اليسرى، وإن كان في الرجل شقوق يجب إيصال الماء إلى باطنها، وإن ترك فيها عجيناً أو شحماً يجب إزالة عين ذلك الشيء.
الواجب السادس: الترتيب على النسق المذكور في كلام الله تعالى.
الواجب السابع: التتابع في القول القديم عند الشافعي رحمه الله تعالى، وحد التفريق الذي يقطع التتابع إنشاف العضو مع اعتدال الهواء.
وسنن الوضوء ثلاث عشرة: التسمية في أول الطهارة، وغسل اليدين إلى الكوعين، والمضمضة، والاستنشاق، والمبالغة فيهما، فيغرغر في المضمضة حتى يرد الماء إلى الغلصمة، ويستمد في الاستنشاق الماء بالنفس إلى الخياشيم، ويرفق في ذلك إن كان صائماً. وتخليل اللحية الكثة، وتخليل الأصابع المنفرجة، والبداءة بالميامن، وإطالة الغرة، واستيعاب الرأس بالمسح، ومسح الأذنين، والتثليث، وفي القول الجديد: التتابع، ويجتنب أن يزيد على الثلاث، ولا ينفض اليد، ولا يتكلم في أثناء الوضوء، ولا يلطم وجهه بالماء لطماً، وتجديد الوضوء مستحب بشرط أن يصلي بالوضوء ما تيسر، وإلا فمكروه.
{الباب الخامس والثلاثون}: في آداب أهل الخصوص والصوفية في الوضوء(1/282)
آداب الصوفية بعد القيام بمعرفة الأحكام؛ أدبهم في الوضوء حضور القلب في غسل الأعضاء، سمعت بعض الصالحين يقول: إذا حضر القلب في الوضوء يحضر في الصلاة، وإذا دخل السهو فيه دخلت الوسوسة في الصلاة. ومن آدابهم: استدامة الوضوء، والوضوء سلاح المؤمن، والجوارح إذا كانت في حماية الوضوء الذي هو أثر شرعي يقل طروق الشيطان عليها. قال عدي بن حاتم: ما أقيمت صلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء وقال أنس بن مالك؛ قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وأنا يومئذ ابن ثمان سنين، فقال لي: "يَا بُنَيَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَزَالَ عَلَى الطَّهَارَةِ فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ مَنْ أَتَاهُ المَوْتُ وَهُوَ عَلَى الوُضُوءِ أُعْطِيَ الشَّهَادَةَ" فشأن العاقل أن يكون أبداً مستعداً للموت، ومن الاستعداد لزوم الطهارة.
وحكي عن الحصري أنه قال: مهما أنتبه من الليل لا يحملني النوم إلا بعد ما أقوم وأجدد الوضوء لئلا يعود إليّ النوم وأنا على غير طهارة، وسمعت من صحب الشيخ علي بن الهيثمي أنه كان يقعد الليل جميعه، فإن غلبه النوم يكون قاعداً كذلك، وكلما انتبه يقول: لا أكون أسأت الأدب، فيقوم ويجدد الوضوء ويصلي ركعتين. وروى أبو هريرة: أن رسول الله قال لبلال عند صلاة الفجر "يَا بِلالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ". قال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي أني لم أتطهر طهراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت لربي عز وجل بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
ومن أدبهم في الطهارة: ترك الإسراف في الماء والوقوف على حد العلم.(1/283)
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا خارجة بن مصعب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن يحيى بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لِلْوُضُوءِ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ الوَلْهَانُ فَاتَّقُوا وَسَاوِسَ المَاءِ".
قال أبو عبد الله الروذباري: إن الشيطان يجتهد أن يأخذ نصيبه من جميع أعمال بني آدم، فلا يبالي أن يأخذ نصيبه بأن يزدادوا فيما أمروا به أو ينقصوا عنه.
وحكي عن ابن الكرنبي أنه أصابته جنابة ليلة من الليالي، وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة، فجاء إلى الدجلة وكان برد شديد، فحرنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد، فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ثم خرج من الماء وقال: عقدت أن لا أنزعها من بدني حتى تجف عليَّ، فمكثت عليه شهراً لثخانتها وغلظها. أدب بذلك نفسه لما حرنت عن الائتمار لأمر الله تعالى. وقيل: إن سهل بن عبد الله كان يحث أصحابه على كثرة شرب الماء وقلة صبه على الأرض، وكان يرى أن في الإكثار من شرب الماء ضعف النفس وإماتة الشهوات وكسر القوة.
ومن أفعال الصوفية الاحتياط في استبقاء الماء للوضوء. قيل: كان إبراهيم الخواص إذا دخل البادية لا يحمل معه إلا ركوة من الماء وربما كان لا يشرب منها إلا القليل: يحفظ الماء للوضوء، وقيل: إنه كان يخرج من مكة إلى الكوفة ولا يحتاج إلى التيمم يحفظ الماء للوضوء ويقنع بالقليل للشرب، وقيل: إذا رأيت الصوفي ليس معه ركوة أو كوز، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة شاء أم أبى.(1/284)
وحكي عن بعضهم أنه أدب نفسه في الطهارة إلى حد أنه أقام بين ظهراني جماعة من النساك وهم مجتمعون في دار فما رآه أحد منهم أنه دخل الخلاء لأنه كان يقضي حاجته إذا خلا الموضع في وقت يريد تأديب نفسه.
وقيل: مات الخواص في جامع الري في وسط الماء، وذاك أنه كان به علة البطن وكلما قام دخل الماء وغسل نفسه فدخله مرة ومات فيه، كل ذلك لحفاظه على الوضوء والطهارة، وقيل: كان إبراهيم بن أدهم به قيام، فقام في ليلة واحدة نيفاً وسبعين مرة، كل مرة يجدد الوضوء ويصلي ركعتين.
وقيل: إن بعضهم أدب نفسه حتى لا يخرج منه الريح إلا في وقت البراز يراعي الأدب في الخلوات.
واتخاذ المنديل بعد الوضوء كرهه قوم وقالوا: إن الوضوء يوزن، وأجازه بعضهم، ودليلهم ما أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر، قال: أخبرنا أبو محمد، قال: أخبرنا أبو العباس، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن وهب عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لرسول الله خرقة ينشف بها أعضاءه بعد الوضوء، وروى معاذ بن جبل قال: رأيت رسول الله إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.
واستقصاء الصوفية في تطهير البواطن من الصفات الرديئة والأخلاق المذمومة، لا الاستقصاء في طهارة الظاهر إلى حد يخرج عن حد العلم، وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية مع كون النصارى لا يحترزون عن الخمر، وأجرى الأمر على الظاهر وأصل الطهارة.(1/285)
وقد كان أصحاب رسول الله يصلون على الأرض من غير سجادة، ويمشون حفاة في الطرق، وقد كانوا لا يجعلون وقت النوم بينهم وبين التراب حائلاً، وقد كانوا يقتصرون على الحجر في الاستنجاء في بعض الأوقات، وكان أمرهم في الطهارة الظاهرة على التساهل، واستقصاؤهم في الطهارة الباطنة، وهكذا شغل الصوفية، وقد يكون في بعض الأشخاص تشدد في الطهارة ويكون مستند ذلك رعونة النفس، فلو اتسخ ثوبه تحرج، ولا يبالي بما في باطنه من الغل والحقد والكبر والعجب والرياء والنفاق، ولعله ينكر على الشخص لو داس الأرض حافياً مع وجود رخصة الشرع، ولا ينكر عليه أن يتكلم بكلمة غيبة يخرب بها دينه، وكل ذلك من قلة العلم وترك التأدب بصحبة الصادقين من العلماء الراسخين، وكانوا يكرهون كثرة الدلك في الاستبراء، لأنه ربما يسترخي العرق ولا يمسك البول ويتولد منه القطر المفرط.
ومن حكايات المتصوفة في الوضوء والطهارات: أن أبا عمرو الزجاجي جاور بمكة ثلاثين سنة وكان لا يتغوط في الحرم ويخرج إلى الحل، وأقل ذلك فرسخ.
وقيل: كان بعضهم على وجهه قرح لم يندمل اثنتي عشرة سنة لأن الماء كان يضره، وكان مع ذلك لا يدع تجديد الوضوء عند كل فريضة.
وبعضهم نزل في عينه الماء فحملوا إليه المداوي وبذلوا له مالاً كثيراً ليداويه، فقال المداوي: يحتاج إلى ترك الوضوء أياماً ويكون مستلقياً على قفاه فلم يفعل ذلك، واختار ذهاب بصره على ترك الوضوء.
{الباب السادس والثلاثون}: في فضيلة الصلاة وكبر شأنها
روي عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله: "لَمَّا خَلَقَ الله تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ وَخَلَقَ فِيها مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}.(1/286)
وشهد القرآن المجيد بالفلاح للمصلين، وقال رسول الله: "أَتَانِي جِبْرَائِيلُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ وَصَلَّى بيَ الظُّهْرَ".
واشتقاق الصلاة قيل من الصلى وهو النار، والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تعرض على النار ثم تقوم، وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمارة بالسوء، وسبحات وجه الله الكريم التي لو كشف حجابها لأحرقت من أدركته: يصيب بها المصلي من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربانية ما يزول به اعوجاجه، بل يتحقق به معراجه؛ فالمصلي كالمصطلي بالنار، ومن اصطلى بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يعرض على نار جهنم إلا تحله القسم.(1/287)
أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني إجازة، قال: أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي العباس بن محمد بن أبي العباس الخليلي، قال: أخبرنا أبو سعيد الفرخزاذي، قال: أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد، قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، قال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن الحافظ قال: أخبرنا أحمد بن نصير، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، عن ابن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ الله تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قَالَ الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قَالَ: هذا بيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قَالَ الله تَعَالَى: هذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".(1/288)
فالصلاة صلة بين الرب والعبد، وما كان صلة بينه وبين الله فحق العبد أن يكون خاشعاً لصولة الربوبية على العبودية. وقد ورد أن الله تعالى إذا تجلى لشيء خضع له؛ ومن يتحقق بالصلة في الصلاة تلمع له طوالع التجلي فيخشع؛ والفلاح الذين هم في صلاتهم خاشعون، وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح، وقال الله تعالى: {وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكَارَى حتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}{فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى} وقيل: كان أصحاب رسول الله يرفعون أبصارهم إلى السماء وينظرون يميناً وشمالاً؛ فلما نزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} جعلوا وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر إلا إلى الأرض، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَإِنَّهُ بيْنَ يَدَيِ الرَّحْمنِ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ الرَّبُّ: إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ؟ إِلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنِّي؟ ابْنُ آدَمَ، أَقْبِلْ إِلَيَّ فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ".
وأبصر رسول الله رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هذا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ". وقد قال رسول الله: "إِذَا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ".
فالمصلي سائر إلى الله تعالى بقلبه يودع هواه ودنياه وكل شيء سواه.(1/289)
والصلاة في اللغة هي الدعاء، فكأن المصلي يدعو الله تعالى بجميع جوارحه، فصارت أعضاؤه كلها ألسنة يدعو بها ظاهراً وباطناً ويشارك الظاهر الباطن بالتضرع والتقلب والهيئات في تملقات متضرع سائل محتاج، فإذا دعا بكليته أجابه مولاه لأنه وعده فقال: {ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ}{ادعوني أستجب لكم} أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ليس بينهما شرط، والاستجابة والإجابة: هي نفوذ دعاء العبد؛ فإن الداعي الصادق العالم بمن يدعوه بنور يقينه، فتخرق الحجب وتقف الدعوة بين يدي الله تعالى متقاضية للحاجة. وخص الله تعالى هذه الأمة بإنزال فاتحة الكتاب وفيها تقديم الثناء على الدعاء: ليكون أسرع إلى الإجابة، وهي تعليم الله تعالى عبادة كيفية الدعاء. وفاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم. قيل: سميت مثاني لأنها نزلت على رسول الله مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، وكان لرسول الله بكل مرة نزلت منها فهم آخر، بل كان لرسول الله بكل مرة يقرؤها على الترداد مع طول الزمان فهم آخر، وهكذا المصلون المحققون من أمته ينكشف لهم عجائب أسرارها، وتقذف لهم كل مرة درر بحارها. وقيل: سميت مثاني لأنها استثنيت من الرسل وهي سبع آيات.
وروت أم رومان قالت: رآني أبو بكر وأنا أتميل في الصلاة، فزجرني زجراً كدت أن أنصرف عن صلاتي، ثم قال: سمعت رسول الله يقول: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلْيُسَكِّنْ أَطْرَافَهُ لا يَتَمَيَّلْ تَمَيُّلَ اليَهُودِ، فَإِنَّ سُكُونَ الأَطْرَافِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ".
وقال رسول الله: "تَعَوَّذُوا بِالله مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ" قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: "خُشُوعُ البَدَنِ وَنِفَاقُ القَلْبِ".(1/290)
أما تميل اليهود، قيل: كان موسى يعامل بني إسرائيل على ظاهر الأمور لقلة ما في باطنهم. فكان يهيىء الأمور ويعظمها، ولهذا المعنى أوحى الله تعالى إليه أن يحلي التوراة بالذهب، ووقع لي والله أعلم أن موسى كان يرد عليه الوارد في صلاته ومحالّ مناجاته فيموج به باطنه كبحر ساكن تهب عليه الريح فتتلاطم الأمواج؛ فكان تمايل موسى عليه السلام تلاطم أمواج بحر القلب إذا هب عليه نسمات الفضل، وربما كانت الروح تتطلع إلى الحضرة الإلهية، فتهم بالاستعلاء، وللقلب بها تشبك وامتزاج، فيضطرب القالب ويتمايل، فرأى اليهود ظاهره فتمايلوا من غير حظ لبواطنهم من ذلك؛ ولهذا المعنى قال رسول الله إنكاراً على أهل الوسوسة: "هكَذَا خَرَجَتْ عَظَمَةُ الله مِنْ قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى شَهِدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَغَابَتْ قُلُوبُهُمْ، لاَ يَقْبَلُ الله صَلاةَ امْرِىءٍ لا يَشْهَدُ فِيها قَلْبُهُ كَمَا يَشْهَدُ بَدَنُهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ عَلَى صَلاتِهِ دَائِمٌ وَلا يُكْتَبُ لَهُ عُشْرُها إِذَا كَانَ قَلْبُهُ سَاهِياً لاهِياً".
واعلم أن الله تعالى أوجب الصلوات الخمس، وقد قال رسول الله: "الصَّلاةُ عِمَادُ الدِّينِ، فَمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَرَ" فبالصلاة تحقيق العبودية وأداء حق الربوبية، وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة.
قال سهل بن عبد الله: يحتاج العبد إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض. ويحتاج إلى النوافل لتكميل السنن، ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل.(1/291)
ومن الأدب: ترك الدنيا، والذي ذكره سهل هو معنى ما قال عمر على المنبر: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله فيها. وقد ورد في الأخبار إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه الكريم، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء يصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وإن المصلي لينشر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد: "لو علم المصلي من يناجي ما التفت" أو ما انفتل.
وقد جمع الله تعالى للمصلين في كل ركعة ما فرق على أهل السموات، فللَّه ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا في السجود والقيام والقعود، والعبد المتيقظ يتصف في ركوعه بصفة الراكعين منهم، وفي السجود بصفة الساجدين، وفي كل هيئة هكذا يكون كالواحد منهم وبينهم، وفي غير الفريضة ينبغي للمصلي أن يمكث في ركوعه متلذذاً بالركوع غير مهتم بالرفع منه، فإن طرقته سآمة بحكم الجبلة استغفر منها، ويستديم تلك الهيئة ويتطلع أن يذوق الخشوع اللائق بهذه الهيئة ليصير قلبه بلون الهيئة، وربما يتراءى للراكع المحق أنه إن سبق همه في حال الركوع أو السجود إلى الرفع منه ما وفى الهيئة حقها، فيكون همه الهيئة مستغرفاً فيها مشغولاً بها عن غيرها من الهيئات، فبذلك يتوفر حظه من بركة كل هيئة، فإنّ السرعة التي يتقاضى بها الطبع تسدّ باب الفتوح، ويقف في مهاب النفحات الإلهية حتى يتكامل حظ العبد، فتنمحي آثاره بحسن الاسترسال ويستقرّ في مقعد الوصال.(1/292)
وقيل: في الصلاة أربع هيئات وستة أذكار؛ فالهيئات الأربع: القيام والقعود والركوع والسجود. والأذكار الستة: التلاوة، والتسبيح، والحمد، والاستغفار، والدعاء، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام. فصارت عشرة كاملة تفرق هذه العشرة على عشرة صفوف من الملائكة: كل صف عشرة آلاف؛ فيجتمع في الركعتين ما يفرق على مائة ألف من الملائكة.
{الباب السابع والثلاثون}: في وصف صلاة أهل القرب
ونذكر في هذا الوصف كيفية الصلاة بهيئاتها وشروطها وآدابها الظاهرة والباطنة على الكمال بأقصى ما انتهى إليه فهمنا وعلمنا على الوجه، مع الإعراض عن نقل الأقوال في كل شيء من ذلك، إذ في ذلك كثرة ويخرج عن حدّ الاختصار والإيجاز المقصود، فنقول وبالله التوفيق:(1/293)
ينبغي للعبد أن يستعدّ للصلاة قبل دخول وقتها بالوضوء ولا يوقع الوضوء في وقت الصلاة؛ فذلك من المحافظة عليها، ويحتاج في معرفة الوقت إلى معرفة الزوال وتفاوت الأقدام لطول النهار وقصره، ويعتبر الزوال بأن الظل ما دام في الانتقاص فهو النصف الأول من النهار؛ فإذا أخذ الظل في الازدياد فهو النصف الآخر وقد زالت الشمس، وإذا عرف الزوال وأن الشمس على كم قدم تزول؟ يعرف أول الوقت وآخره ووقت العصر، ويحتاج إلى معرفة المنازل ليعلم طلوع الفجر ويعلم أوقات الليل، وشرح ذلك يطول ويحتاج أن يفرد له باب، فإذا دخل وقت الصلاة يقدم السنة الراتبة، ففي ذلك سر وحكمة، وذلك والله أعلم: أن العبد تشعث باطنه وتفرق همه لما بلي به من المخالطة من الناس وقيامه بمهام المعاش، أو سهو جرى بوضع الجبلة، أو صرف هم إلى أكل أو نوم بمقتضى العادة، فإذا قدم السنة ينجذب باطنه إلى الصلاة ويتهيأ للمناجاة، ويذهب بالسنة الراتبة أثر الغفلة والكدورة من الباطن فينصلح الباطن ويصير مستعداً للفريضة، فالسنة مقدمة صالحة يستنزل بها البركات وتطرق النفحات، ثم يجدد التوبة مع الله تعالى عند الفريضة عن كل ذنب عمله، ومن الذنوب عامة وخاصة، فالعامة: الكبائر والصغائر مما أومأ إليه الشرع ونطق به الكتاب والسنة، والخاصة: ذنوب حال الشخص، فكل عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلائم حاله ويعرفها صاحبها. وقيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ثم لا يصلي إلا جماعة.(1/294)
قال رسول الله: "تفضل صلاة الجماعة صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" ثم يستقبل القبلة بظاهره والحضرة الإلهية بباطنه ويقرأ {قُلْ أعُوذُ بِربِّ النَّاسِ}"أكبر" ورائه ألفاً، ويجزم "أكبر" ويجعل المدّ في "الله" ولا يبالغ في ضم الهاء من "الله" ولا يبتدىء بالتكبير إلا إذا استقرت اليدان حذو المنكبين، ويرسلهما مع التكبير من غير نفض؛ فالوقار إذا سكن القلب تشكلت به الجوارج وتأيدت بالأولى والأصوب، ويجمع بين نية الصلاة والتكبير بحيث لا يغيب عن قلبه حالة التكبير أنه يصلي الصلاة بعينها.
وحكي عن الجنيد أنه قال: لكل شيء صفوة، وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى. وإنما كانت التكبيرة صفوة لأنها موضع النية وأول الصلاة.
قال أبو نصر السراج: سمعت ابن سالم يقول: النية بالله ومن الله، والآفات التي تدخل في صلاة العبد بعد النية من العدو، ونصيب العدو وإن كثر لا يوازن بالنية التي هي لله بالله وإن قل.
وسئل أبو سعيد الخراز: كيف الدخول في الصلاة؟ فقال: هو أن تقبل على الله تعالى إقبالك عليه يوم القيامة ووقوفك بين يد الله ليس بينك وبينه ترجمان وهو مقبل عليك وأنت تناجيه وتعلم بين يدي من أنت واقف فإنه الملك العظيم.(1/295)
وقيل لبعض العارفين: كيف تكبر التكبيرة الأولى؟ فقال: ينبغي إذا قلت الله أكبر أن يكون مصحوبك في الله: التعظيم مع الألف، والهيبة مع اللام، والمراقبة والقرب مع الهاء. واعلم أن من الناس من إذا قال: "الله أكبر" غاب في مطالعة العظمة والكبرياء، وامتلأ باطنه نوراً، وصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلاة، ثم تلقى الخردلة، فما يخشى من الوسوسة وحديث النفس وما يتخايل في الباطن من الكون الذي صار بمثابة الخردلة فألقيت فكيف تزاحم الوسوسة وحديث النفس مثل هذا العبد؟ وقد تزاحم مطالعة العظمة والغيبوبة في ذلك كون النية، غير أنه لغاية لطف الحال يختص الروح بمطالعة العظمة والقلب يتميز بالنية، فتكون النية موجودة بألطف صفاتها مندرجة في نور العظمة اندراج الكواكب في ضوء الشمس، ثم يقبض بيده اليمنى يده اليسرى ويجعلهما بين السرة والصدر، واليمنى لكرامتها تجعل فوق اليسرى، ويمد المسبحة والوسطى على الساعد، ويقبض بالثلاثة البواقي اليسرى من الطرفين، وقد فسر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَر}{وانحر} أي استقبل القبلة بنحرك، وفي ذلك سر خفي يكاشف به من وراء أستار الغيب، وذلك أن الله تعالى بلطيف حكمته خلق الآدمي وشرفه وكرمه وجعله محل نظره ومورد وحيه ونخبة ما في أرضه وسمائه روحانياً وجسمانياً أرضياً وسماوياً، منتصب القامة مرتفع الهيئة، فنصفه الأعلى من حد الفؤاد مستودع أسرار السموات، ونصفه الأسفل مستودع أسرار الأرض، فمحل نفسه ومركزها النصف الأسفل، ومحل روحه الروحاني والقلب النصف الأعلى؛ فجواذب الروح مع جواذب النفس يتطاردان ويتحاربان، وباعتبار تطاردهما وتغالبهما تكون لمة الملك ولمة الشيطان، ووقت الصلاة يكثر التطارد لوجود التجاذب بين الإيمان والطبع، فيكاشف المصلي الذي صار قلبه سماوياً متردداً بين الفناء والبقاء لجواذب النفس متصاعدة من مركزها.(1/296)
وللجوارح وتصرفها وحركتها مع معاني الباطن ارتباط وموازنة؛ فبوضع اليمنى على الشمال حصر النفس ومنع من صعود جواذبها، وأثر ذلك يظهر بدفع الوسوسة وزوال حديث النفس في الصلاة، ثم إذا استولت جواذب الروح وتملكت من الفرق إلى القدم ـ عند كمال الأنس وتحقق قرة العين واستيلاء سلطان المشاهدة ـ تصير النفس مقهورة ذليلة، ويستنير مركزها بنور الروح، وتنقطع حينئذ جواذب النفس؛ وعلى قدر استنارة مركز النفس تزول كل العبادة، ويستغنى حينئذ عن مقاومة النفس ومنع جواذبها بوضع اليمين على الشمال فيسبل حينئذ، ولعل لذلك ـ والله أعلم ـ ما نقل عن رسول الله أنه صلى مسبلاً، وهو مذهب مالك رحمه الله، ثم يقرأ: {وجَّهْتُ وَجْهِي}"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" فحسن، وإن قالها في السكتة الألى فحسن.
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ذلك.
وإن كان منفرداً يقولها قبل القراءة، ويعلم العبد أن تلاوته نطق اللسان ومعناها نطق القلب؛ وكل مخاطب لشخص يتكلم بلسانه، ولسانه يعبر عما في قلبه، ولو أمكن المتكلم إفهام من يكلمه من غير لسان فعل، ولكن حيث تعذر الإفهام إلا بالكلام جعل اللسان ترجماناً؛ فإذا قال باللسان من غير مواطأة القلب فما اللسان ترجماناً ولا القارىء متكلماً قاصداً إسماع الله حاجته ولا مستمعاً إلى الله فاهماً عنه سبحانه ما يخاطبه وما عنده غير حركة اللسان بقلب غائب عن قصد ما يقول؛ فينبغي أن يكون متكلماً مناجياً، أو مستمعاً راعياً؛ فأقل مراتب أهل الخصوص في الصلاة الجمع بين القلب واللسان في التلاوة ووراء ذلك أحوال للخواص يطول شرحها.(1/297)
قال بعضهم: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها غير ما أقول. وقيل لعامر بن عبد الله: هل تجد في الصلاة شيئاً من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف عليَّ الألسنة أحب إليّ من أجد في الصلاة ما تجدون.
وقيل لبعضهم: هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء من أمور الدنيا؟ فقال: لا في الصلاة ولا في غيرها.
ومن الناس من إذا أقبل على الله في صلاته يتحقق بمعنى الإنابة لأن الله تعالى قدم الإنابة وقال: {مُنِيبينَ إلَيْهِ واتَّقُوه وأقِيمُوا الصَّلاَةَ} ثم إذا أراد الركوع يفصل بين القراءة والركوع، ثم يركع منطوي القامة والنصف الأسفل بحاله في القيام من غير انطواء الركبتين، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد عنقه مع ظهره، ويضع راحتيه على ركبتيه منشورة الأصابع.(1/298)
روى مصعب بن سعد قال صليت إلى جنب سعد بن مالك، فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما، فضرب بيدي وقال: اضرب بكفيك على ركبتيك وقال: يا بني إنا كنا نفعل ذلك فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب، وبقول: "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً وهو أدنى الكمال، والكمال أن يقول إحدى عشرة، وما يأتي به من العدد يكون بعد التمكن من الركوع، ومن غير أن يمزج آخر ذلك بالرفع، ويرفع يديه للركوع والرفع من الركوع، ويكون في ركوعه ناظراً نحو قدميه فهو أقرب إلى الخشوع من النظر إلى موضع السجود، وإنما ينظر إلى موضع سجوده في قيامه ويقول بعد التسبيح "اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري وعظمي ومخي وعصبي" ويكون قلبه في الركوع متصفاً بمعنى الركوع من التواضع والإخبات، ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده عالماً بقلبه ما يقول فإذا استوى قائماً يحمد ويقول: "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" ثم يقول: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فإن أطال في النافلة القيام بعد الرفع من الركوع فليقل "لربي الحمد" مكرراً ذلك مهما شاء. فإما في الفرض فلا يطول تطويلاً يزيد على الحد زيادة بينة، ويقنع في الرفع من الركوع بتمام الاعتدال بإقامة الصلب: ورد عن رسول الله أنه قال: "لا يَنْظُرُ الله إِلَى مَنْ لا يُقُيمُ صُلْبَهُ بيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ".(1/299)
ثم يهوي ساجداً ويكون في هويه مكبراً مستيقظاً حاضراً خاشعاً عالماً بما يهوي فيه وإليه وله، فمن الساجدين من يكاشف أنه يهوي إلى تخوم الأرضين متغيباً في أجزاء الملك لامتلاء قلبه من الحياء واستشعار روحه عظيم الكبرياء، كما ورد أن جبرائيل عليه السلام تستر بخافية من جناحه حياء من الله تعالى، ومن الساجدين من يكاشف أنه يطوي بسجوده بساط الكون والمكان ويسرح قلبه في فضاء الكشف والعيان، فتهوي دون هويه أطباق السموات وتنمحي لقوة شهوده تماثيل الكائنات ويسجد على طرف رداء العظمة وذاك أقصى ما ينتهي إليه طائر الهمة البشرية وكفى بالوصول إليه القوى الإنسانية، ويتفاوت الأنبياء والأولياء في مراتب العظمة واستشعار كنهها لكل منهم على قدره حظ من ذلك، وفوق كل ذي علم عليم.(1/300)
ومن الساجدين من يتسع وعاؤه، وينتشر ضياؤه، ويحظى بالصنفين ويبسط الجناحين، فيتواضع بقلبه إجلالاً، ويرفع بروحه إكراماً وإفضالاً، فيجتمع له الأنس والهيبة، والحضور والغيبة، والفرار والقرار، والإسرار والجهار؛ فيكون في سجوده، سابحاً في بحر شهوده، لم يتخلف منه عن السجود شعرة كما قال سيد البشر في سجوده: "سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَالِي" {وللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمواتِ والأرْضِ طَوْعاً وكُرْهَاً} ويقول في سجوده: "سُبْحَانَ رَبي الأَعْلَى" ثلاثاً إلى العشر الذي هو الكمال، ويكون في السجود مفتوح العينين لأنهما يسجدان، وفي الهوي يضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه، ويكون ناظراً نحو أرنبة أنفه في السجود، فهو أبلغ في الخشوع للساجد، ويباشر بكفيه المصلى، ولا يلفهما في الثوب، ويكون رأسه بين كفيه، ويداه حذو منكبيه غير متيامن ومتياسر بهما، ويقول بعد التسبيح: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ" وروى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أن رسول الله كان يقول في سجوده ذلك: "وَإِنْ قَالَ: سُبُّوح قُدُّوس رَبّ المَلائِكَةِ وَالرُّوحِ" فحسن.(1/301)
روت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله كان يقول في سجوده ذلك. ويجافي مرفقيه عن جنبيه ويوجه أصابعه في السجود نحو القبلة ويضم أصابع كفيه مع الإبهام، ولا يفرش ذراعيه على الأرض. ثم يرفع رأسه مكبراً، ويجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى موجهاً بالأصابع إلى القبلة، ويضع اليدين على الفخذين من غير تكلف ضمهما وتفريجهما، ويقول: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي وَاعْفُ عَنِّي" ولا يطيل هذه الجلسة في الفريضة؛ أما في النافلة فلا بأس مهما أطال، قائلاً "رب اغفر وارحم" مكرراً ذلك، ثم يسجد السجدة الثانية مكبراً، ويكره الإقعاء في القعود، وهو ههنا: يضع أليتيه على عقبيه.
ثم إذا أراد النهوض إلى الركعة الثانية يجلس جلسة خفيفة للاستراحة، ويفعل في بقية الركعات هكذا، ثم يتشهد. وفي الصلاة سر المعراج: وهو معراج القلوب، والتشهد مقر الوصول بعد قطع مسافات الهيئات على تدريج طبقات السموات. والتحيات سلام على رب البريات، فليذعن لما يقول، ويتأدب مع من يقول، ويدر كيف يقول، ويسلم على النبي، ويمثله بين عيني قلبه، ويسلم على عباد الله الصالحين؛ فلا يبقى عبد في السماء ولا في الأرض من عباد الله إلا ويسلم عليه بالنسبة الروحية والخاصية الفطر ية، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة، ويرفع المسبحة في الشهادة في "إلا الله" لا في كلمة النفي. ولا يرفعها منتصبة بل مائلة برأسها إلى الفخذ منطوية؛ فهذه هيئة خشوع المسبحة ودليل سراية خشوع القلب إليها.(1/302)
ويدعو في آخر صلاته لنفسه وللمؤمنين. وإن كان إماماً ينبغي أن لا ينفرد بالدعاء، بل يدعو لنفسه ولمن وراءه؛ فإن الإمام المتيقظ في الصلاة كحاجب دخل على سلطان ووراءه أصحاب الحوائج: يسأل لهم ويعرض حاجتهم، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وبهذا وصفهم الله تعالى في كلامه بقوله سبحانه: {كأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وفي وصف هذه الأمة في الكتب السالفة: صفهم في صلاتهم كصفهم في قتالهم.
وحدثنا بذلك شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن عيسى بن شعيب الماليني، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد المظفر الواعظ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا معن هو ابن عيسى: أنه سأل كعب الأحبار: كيف نجد نعت رسول الله في التوراة؟ قال: نجده: "محمد بن عبد الله، ويولد بمكة ويهاجر لطيبة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافىء بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون: يحمدون الله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء".(1/303)
فالإمام في الصلاة مقدمة الصف في محاربة الشيطان، فهو أولى المصلين بالخشوع والإتيان بوظائف الأدب ظاهراً وباطناً، والمصلون المتيقظون كلما اجتمعت ظواهرهم تجتمع بواطنهم وتتناصر وتتعاضد، وتسري من البعض إلى البعض أنوار وبركات، بل جميع المسلمين المصلين في أقطار الأرض بينهم تعاضد وتناصر بحسب القلوب ونسب الإسلام ورابطة الإيمان؛ بل يمدّهم الله تعالى بالملائكة الكرام كما أمّد رسول الله بالملائكة المسوّمين؛ فحاجاتهم إلى محاربة الشيطان أمس من حاجاتهم إلى محاربة الكفار، ولهذا كان يقول رسول الله: "رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ" فتتداركهم الأملاك، بل بأنفاسهم الصادقة تتماسك الأفلاك.
فإذا أراد الخروج من الصلاة يسلم على يمينه، وينوي مع التسليم الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة والحاضرين من المؤمنين ومؤمني الجن، ويجعل خده مبيناً لمن على يمينه بإلواء عنقه، ويفصل بين هذا السلام والسلام عن يساره، فقد ورد النهي عن المواصلة، والمواصلة خمس: اثنتان تخص بالإمام: هو أن لا يوصل القراءة بالتكبير، والركوع بالقراءة. واثنتان على المأموم: وهو أن لا يوصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام. ولا تسليمه بتسليمه. وواحدة على الإمام والمأمومين؛ وهو أن لا يوصل تسليم الفرض بتسليم النفل، ويجزم التسليم ولا يمد مداً، ثم يدعو بعد التسليم بما يشاء من أمر دينه ودنياه، ويدعو قبل التسليم أيضاً في صلب الصلاة فإنه يستجاب.(1/304)
ومن أقام الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة، وكل المقامات والأحوال زبدتها الصلوات الخمس في جماعة، وهي سر الدين، وكفارة المؤمن، وتمحيص للخطايا، على ما أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام ضياء الدين أبو النجيب السهروردي رحمه الله إجازة، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري إجازة، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن زكريا، قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا يحيى بن عبد الله. قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله: "الصَّلَواتُ الخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِلْخَطَايا"، واقرؤوا إن شئتم {إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى للذَّاكِرينَ}.
{الباب الثامن والثلاثون}: في ذكر آداب الصلاة وأسرارها
أحسن آداب المصلي: أن لا يكون مشغول القلب بشيء قل أو كثر؛ لأن الأكياس لم يرفضوا الدنيا إلا ليقيموا الصلاة كما أمروا؛ لأن الدنيا وأشغالها لما كانت شاغلة للقلب رفضوها غيرة على محل المناجاة، ورغبة في أوطان القربات، وإذعاناً بالباطن لرب البريات؛ لأن حضور الصلاة بالظاهر إذعان الظاهر: "وفراغ القلب في الصلاة عما سوى الله تعالى إذعان الباطن" فلم يروا حضور الظاهر وتخلف الباطن حتى لا يختل إذعانهم فتنخرم عبوديتهم؛ فيجتنب أن يكون باطنه مرتهناً بشيء ويدخل الصلاة.(1/305)
وقيل: من فقه الرجل أن يبدأ بقضاء حاجته قبل الصلاة، ولهذا ورد "إذا حضر العشاء والعشاء فقدموا العشاء على العشاء" ولا يصلي وهو حاقن يطالبه البول، ولا حازق يطالبه الغائط، والحزق أيضاً: ضيق الخف، ولا يصلي أيضاً وخفه ضيق يشغل قلبه؛ فقد قيل: لا رأي لحازق، قيل الذي يكون معه ضيق. وفي الجملة ليس من الأدب أن يصلي وعنده ما يغير مزاج باطنه عن الاعتدال كهذه الأشياء التي ذكرناها، والاهتمام المفرط، والغضب. وفي الخبر: "لا يدخل أحدكم في الصلاة وهو مقطب، ولا يصلين أحدكم وهو غضبان" فلا ينبغي للعبد أن يتلبس بالصلاة إلا وهو على أتم الهيئات.
وأحسن لبسة المصلي سكون الأطراف وعدم الالتفات والإطراق ووضع اليمين على الشمال؛ فما أحسنها من هيئة عبد ذليل واقف بين يدي ملك عزيز. وفي رخصة الشرع دون الثلاث حركات متواليات جائز؛ وأرباب العزيمة يتركون الحركة في الصلاة جملة: وقد حركت يدي في السلام وعندي شخص من الصالحين، فلما انصرفت من الصلاة أنكر علي وقال: عندنا إن العبد إذا وقف في الصلاة ينبغي أن يبقى جماداً مجمداً لا يتحرك منه شيء.
وقد جاء في الخبر: "سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف، والنعاس، والوسوسة، والتثاؤب، والحكاك، والالتفات، والعبث بالشيء من الشيطان أيضاً وقيل: السهو والشك".
وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الخشوع في الصلاة: أن لا يعرف المصلي من على يمينه وشماله.
ونقل عن سفيان أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته. وروي عن معاذ بن جبل أشد من ذلك قال: من عرف من عن يمينه وشماله في الصلاة متعمداً فلا صلاة له.
وقال بعض العلماء: من قرأ كلمة مكتوبة في حائط أو بساط في صلاته فصلاته باطلة قال بعضهم: لأن ذلك عدوه عملاً.(1/306)
وقيل في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال بعضهم: إذا كبرت التكبيرة الأولى فاعلم أن الله ناظر إلى شخصك عالم بما في ضميرك، ومثل في صلاتك الجنة عن يمينك والنار عن شمالك، وإنما ذكرنا أن تمثل الجنة والنار لأن القلب إذا شغل بذكر الآخرة ينقطع عنه الوسواس، فيكون هذا التمثيل تداوياً للقلب لدفع الوسوسة.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إجازة، قال: أخبرنا عمر بن أحمد الصفار، قال: أخبرنا أبو بكر بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: قال سهل: من خلا قلبه عن ذكر الآخرة تعرض لوساوس الشيطان؛ فأما من باشر باطنه صفو اليقين ونور المعرفة فيستغني بشاهده عن تمثيل مشاهده. قال أبو سعيد الخراز: إذا ركع فالأدب في ركوعه أن ينتصب ويدنو ويتدلى في ركوعه حتى لا يبقى منه مفصل إلا وهو منتصب نحو العرش العظيم، ثم يعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم من الله ويصغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء، وإذا رفع رأسه وحمد الله يعلم أنه سبحانه وتعالى يسمع ذلك. وقال أيضاً: ويكون معه من الخشية ما يكاد يذوب به.
قال السراج: إذا أخذ العبد في التلاوة فالأدب في ذلك أن يشاهد ويسمع قلبه كأنه يسمع من الله تعالى، أو كأنه يقرأ على الله تعالى. وقال السراج أيضاً: من أدبهم قبل الصلاة المراقبة ومراعاة القلب من الخواطر والعوارض ونفي كل شيء غير الله تعالى؛ فإذا قاموا إلى الصلاة بحضور القلب فكأنهم قاموا من الصلاة إلى الصلاة، فيبكون مع النفس والعقل اللذين دخلوا في الصلاة بهما، فإذا خرجوا من الصلاة رجعوا إلى حالهم من حضور القلب، فكأنهم أبداً في الصلاة؛ فهذا هو أدب الصلاة.
وقيل: كان بعضهم لا يتهيأ له حفظ العدد من كمال استغراقه، وكان يجلس واحد من أصحابه يعدد عليه كم ركعة صلى.(1/307)
وقيل: للصلاة أربع شعب: حضور القالب في المحراب، وشهود العقل عند الملك الوهاب، وخشوع القلب بلا ارتياب وخضوع الأركان بلا ارتقاب، لأن عند حضور القلب رفع الحجاب، وعند شهود العقل رفع العتاب، وعند حضور النفس فتح الأبواب، وعند خضوع الأركان وجود الثواب؛ فمن أتى الصلاة بلا حضور القلب فهو مصل لاه، ومن أتاها بلا شهود العقل فهو مصل ساه، ومن أتاها بلا خضوع النفس فهو مصل خاطىء، ومن أتاها بلا خشوع الأركان فهو مصل جاف، ومن أتاها كما وصف فهو مصل واف.
وقد ورد عن رسول الله: <إِذَا قَامَ العَبْدُ إِلَى الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ مُقْبِلاً عَلَى الله بِقَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَإِنَّ الله لَيَغْفِرُ بِغَسْلِ الوَجْهِ خَطِيئَةً أَصَابَها، وَبِغَسْلِ يَدَيْهِ خَطِيئَةً أَصَابَها، وَبِغَسْلِ رِجْلَيْهِ خَطِيئَةً أَصَابَها، حَتَّى يَدْخُلَ فِي صَلاتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ وِزْرٌ>.
وذكرت السرقة عند رسول الله فقال: "أَيُّ السَّرِقَةِ أَقْبَحُ؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم؛ فقال: "إِنَّ أَقْبَحَ السَّرِقَةِ أَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ صَلاتِهِ" قالوا: كيف يسرق الرجل من صلاته؟ قال: "لا يُتِمُّ رُكُوعَها وَلا سُجُودَها وَلا خُشُوعَها وَلا القِرَاءَةَ فِيها" وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قدم للإمامة فقال لا أصلح، فلما ألحوا عليه كبر فغشي عليه فقدموا إماماً آخر، فلما أفاق سئل فقال: لما قلت استووا هتف بي هاتف: هل استويت أنت مع الله قط.(1/308)
وقال عليه السلام: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَحْسَنَ الوُضُوءَ وَصَلَّى الصَّلاةَ لِوَقْتِها وَحَافَظَ عَلَى رُكُوعِها وَسُجُودِها وَمَوَاقِيتِها قَالَتْ: حَفِظَكَ الله كَمَا حَفِظْتَنِي ثُمَّ صَعدَتْ وَلَها نُورٌ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى السَّمَاءِ وَحَتَّى تَصِلَ إِلَى الله فَتَشْفَعَ لِصَاحِبِها، وَإِذَا أَضَاعَها قَالَتْ: ضَيَّعَكَ الله كَمَا ضَيَّعْتَنِي ثُمَّ صَعدَتْ وَلَهَا ظُلْمَةٌ تَنْتَهِي إِلَى أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتُغْلَقَ دُونَها، ثُمَّ تُلَفَّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلَقُ فَيُضْرَب بِهَا وَجْهُ صَاحِبِها".
وقال أبو سليمان الداراني: إذا وقف العبد في الصلاة يقول الله تعالى: ارفعوا الحجب فيما بيني وبين عبدي، فإذا التفت يقول الله: ارخوها فيما بيني وبينه وخلوا عبدي وما اختار لنفسه.
وقال أبو بكر الوراق: ربما أصلي ركعتين فأنصرف منهما وأنا أستحي من الله حياء رجل انصرف من الزنى قوله هذا: لعظيم الأدب عنده، ومعرفة كل إنسان بأدب الصلاة على قدر حظه من القرب.
وقيل لموسى بن جعفر: إن الناس أفسدوا عليك الصلاة بممرهم بين يديك، قال: إن الذي أصلي له أقرب إلي من الذي يمشي بين يدي. وقيل: كان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا أراد أن يخرج إلى الصلاة لا يعرف من تغير لونه، فيقال له في ذلك فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟
وروى عمار بن ياسر عن رسول الله أنه قال: "لا يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاتِهِ إِلاَّ مَا يَعْقِلُ". وقد ورد في لفظ آخر: "منكم من يصلي الصلاة كاملة، ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع والخمس حتى يبلغ العشر".(1/309)
قال الخواص: ينبغي للرجل أن ينوي نوافله لنقصان فرائضه، فإن لم ينوها لم يحسب له منها شيء، بلغنا أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، يقول الله تعالى: مثلكم كمثل العبد السوء بدأ بالهدية قبل قضاء الدين. وقال أيضاً: انقطع الخلق عن الله تعالى بخصلتين، إحداهما: أنهم طلبوا النوافل وضيعوا الفرائض. والثانية: أنهم عملوا أعمالاً بالظواهر ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها، وأبى الله تعالى أن يقبل من عامل عملاً إلا بالصدق وإصابة الحق، وفتح العين في الصلاة أولى من تغميض العين إلا أن يتشتت همه بتفريق النظر فيغمض العين للاستعانة على الخشوع، وإن تثاءب في الصلاة يضم شفتيه بقدر الإمكان ولا يلزق ذقنه بصدره ولا يزاحم في الصلاة غيره، قيل: ذهب المزحوم بصلاة المزاحم، وقيل: من ترك الصف الأول مخافة أن يضيق على أهله فقام في الثاني أعطاه الله مثل ثواب الصف الأول من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
وقيل: إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا قام إلى الصلاة يسمع خفقان قلبه من ميل.
وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يسمع من صدره أزيز كأزيز المرجل، حتى كان يسمع في بعض سكك المدينة.
وسئل الجنيد: ما فريضة الصلاة؟ قال: قطع العلائق، وجمع الهم، والحضور بين يدي الله وقال الحسن: ماذا يعز عليك من أمر دينك إذا هانت عليك صلاتك؟
وقيل: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء فقال: إذا دخلت الصلاة فهب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع ومن عينك الدموع، فإني قريب.(1/310)
وقال أبو الخير الأقطع: رأيت رسول الله في المنام فقلت: يا رسول الله أوصني، فقال: "يَا أَبَا الخَيْرِ عَلَيْكَ بِالصَّلاةِ فَإِنِّي اسْتَوْصَيْتُ رَبي، فَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَقَالَ لِي: إِنَّ أَقْرَبَ مَا أَكُونُ مِنْكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة. وقيل: إن محمد بن يوسف الفرغاني رأى حاتماً الأصم واقفاً يعظ الناس فقال له: يا حاتم، أراك تعظ الناس، أفتحسن أن تصلي؟ قال: نعم قال: كيف تصلي؟ قال: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية، وأدخل بالهيبة، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأقعد للتشهد بالتمام، وأسلم على السنة، وأسلمها إلى ربي، وأحفظها أيام حياتي، وأرجع باللوم على نفسي، وأخاف أن لا تقبل مني، وأرجو أن تقبل مني وأنا بين الخوف والرجاء، وأشكر من علمني، وأعلمها من سألني، وأحمد ربي إذ هداني، فقال محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يكون واعظاً، وقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأنْتُم سُكَارَى}"مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وقال أيضاً: "إِنَّ الصَّلاةَ تَمَسْكُنٌ وَتَوَاضُعٌ وَتَضَرُّعٌ وَتَنَادُمٌ وَتَرْفَعُ يَدَيْكَ وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ فَمَنْ لا يَفْعَلْ ذلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ" أي ناقصة.(1/311)
وقد ورد أن المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعد عنه الشيطان في أقطار الأرض خوفاً منه لأنه تأهب للدخول على الملك فإذا كبر حجب عنه إبليس، قيل: يضرب بينه وبينه سرادق لا ينظر إليه، وواجهه الجبار بوجهه، فإذا قال: "الله أَكْبَرُ" اطلع الملك في قلبه فإذا لم يكن في قلبه أكبر من الله تعالى يقول صدقت، الله في قلبك كما تقول، وتشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، ويكشف له بذلك النور ملكوت السموات والأرض، ويكتب له حشو ذلك النور حسنات، وإن الجاهل الغافل إذا قام إلى الصلاة احتوشته الشياطين كما يحتوش الذباب على نقطة العسل؛ فإذا كبر اطلع الله على قلبه، فإذا كان شيء في قلبه أكبر من الله تعالى عنده يقول له: كذبت، ليس الله تعالى أكبر في قلبك كما تقول؛ فيثور من قلبه دخان يلحق بعنان السماء، فيكون حجاباً لقلبه عن الملكوت؛ فيزداد ذلك الحجاب صلابة، ويلتقم الشيطان قلبه، فلا يزال ينفخ فيه وينفث ويوسوس إليه ويزين حتى ينصرف من صلاته ولا يعقل ما كان فيه.
وفي الخبر: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" والقلوب الصافية التي كمل أدبها لكمال أدب قوالبها تصير سماوية تدخل بالتكبير في السماء كما تدخل في الصلاة، والله تعالى حرس السماء من تصرف الشياطين فالقلب السماوي لا سبيل للشيطان إليه؛ فتبقى هواجس نفسانية عند ذلك لا تنقطع بالتحصن بالسماء كانقطاع تصرف الشيطان والقلوب المرادة بالقرب تدرج بالتقريب، وتعرج في طبقات السموات، وفي كل طبقة من أطباق السماء يتخلف شيء من ظلمة النفس؛ وبقدر ذلك يقل الهاجس إلى أن يتجاوز السموات ويقف أمام العرش؛ فعند ذلك يذهب بالكلية هاجس النفس بساطع نور العرش، وتندرج ظلمات النفس في نور القلب اندراج الليل في النهار، وتتأدى حينئذ حقوق الآداب على وجه الصواب.(1/312)
وما ذكرنا من أدب الصلاة يسير من كثير وشأن الصلاة أكبر من وصفنا وأكمل من ذكرنا؛ وقد غلط أقوام وظنوا أن المقصود من الصلاة ذكر الله تعالى؛ وإذا حصل الذكر فأي حاجة إلى الصلاة، وسلكوا طرقاً من الضلال، وركنوا إلى أباطيل الخيال؛ ومحوا الرسوم والأحكام، ورفضوا الحلال والحرام وقوم آخرون سلكوا في ذلك طريقاً أدّتهم إلى نقصان الحال، حيث سلموا من الضلال، لأنهم اعترفوا بالفرائض وأنكروا فضل النوافل، واغتروا بيسير روح الحال، وأهملوا فضل الأعمال، ولم يعلموا أن لله في كل هيئة من الهيئات وكل حركة من الحركات أسراراً وحكماً لا توجد في شيء من الأذكار؛ فالأحوال والأعمال روح وجسمان، وما دام العبد في دار الدنيا إعراضه عن الأعمال عين الطغيان فالأعمال تزكو بالأحوال، والأحوال تنمو بالأعمال.
{الباب التاسع والثلاث}: ونفي فضل الصوم وحسن أثره(1/313)
روي عن رسول الله أنه قال: "الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ" وقيل: ما في عمل ابن آدم شيء إلا ويذهب بردّ المظالم إلا الصوم فإنه لا يدخله قصاص ويقول الله تعالى يوم القيامة: هذا لي، فلا ينقص أحد منه شيئاً. وفي الخبر: "الصوم لي وأنا أجزي به" قيل: أضافه إلى نفسه؛ لأن فيه خلقاً من أخلاق الصمدية، وأيضاً لأنه من أعمال السر من قبيل التروك لا يطلع عليه أحد إلا الله. وقيل في تفسير قوله تعالى: {السَّائِحُونَ}{إنَّما يُوفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بغَيْرِ حِسَابٍ}{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال يحيى بن معاذ: إذا ابتلي المريد بكثرة الأكل بكت عليه الملائكة رحمة له ومن ابتلى بحرص الأكل فقد احرق بنار الشهوة، وفي نفس ابن آدم عضو من الشر كلها في كف الشيطان متعلق بها، فإذا جوع بطنه وأخذ حلقه وراض نفسه يبس كل عضو واحترق بنار الجوع وفر الشيطان من ظله، وإذا أشبع بطنه وترك حلقه في لذائذ الشهوات فقد رطب أعضاءه وأمكن الشيطان. والشبع نهر في النفس ترده الشياطين، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة، وينهزم الشيطان من جائع نائم، فكيف إذا كان قائماً، ويعانق الشيطان شبعاناً قائماً فكيف إذا كان نائماً، فقلب المريد الصادق يصرخ إلى الله تعالى من طلب النفس الطعام والشراب.(1/314)
دخل رجل إلى الطيالسي وهو يأكل خبزاً يابساً قد بلَّه بالماء مع ملح جريش، فقال له: كيف تشتهي هذا: قال: أدعه حتى أشتهيه، وقيل: من أسرف في مطعمه ومشربه يعجل الصغار والذل إليه في دنياه قبل آخرته، وقال بعضهم: الباب العظيم الذي يدخل منه إلى الله تعالى قطع الغذاء، وقال بشر: إن الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق، وقال ذو النون: ما أكلت حتى شبعت، ولا شربت حتى رويت إلا عصيت الله أو هممت بمعصية، وروى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ونصف شهر ما تدخل بيتنا نار لا لمصباح ولا لغيره، قال: قلت سبحان الله؛ فبأي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: بالتمر والماء وكان لنا جيران من الأنصار جزاهم الله خيراً كانت لهم منائح، فربما واسونا بشيء، وروي أن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قالت لأبيها: إن الله قد أوسع الرزق فلو أكلت طعاماً أكثر من طعامك ولبست ثياباً ألين من ثيابك فقال: إني أخاصمك إلى نفسك؛ ألم يكن من أمر رسول الله كذا؟ يقول مراراً؛ فبكت؛ فقال: قد أخبرتك والله لأشاركنه في عيشه الشديد لعلي أصيب عيشة الرخاء.
وقال بعضهم ما نخلت لعمر دقيقاً إلا وأنا له عاص.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله ثلاثة أيام من خبز بر حتى مضى لسبيله.
وقالت عائشة رضي الله عنها: أديموا قرب باب الملكوت يفتح لكم قالوا: كيف نديم؟ قالت: بالجوع والعطش والظمأ.
وقيل: ظهر إبليس ليحيى بن زكريا عليهما السلام وعليه معاليق، فقال: ما هذه؟ قال: الشهوات التي أصيب بها ابن آدم؛ قال: هل تجد لي فيها شهوة قال: لا، غير أنك شبعت ليلة فثقلناك عن الصلاة والذكر؛ فقال: لا جرم أني لا أشبع أبداً. قال إبليس: لا جرم أني لا أنصح أحداً أبداً.
وقال شقيق: العبادة حرفة وحانوتها الخلوة وآلاتها الجوع.
وقال لقمان لابنه: إذا ملئت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.(1/315)
وقال الحسن: لا تجمعوا بين الأدمين فإنه من طعام المنافقين. وقال بعضهم: أعوذ بالله من زاهد قد أفسدت معدته ألوان الأغذية.
فيكره للمريد أن يوالي في الأفطار أكثر من أربعة أيام فإن النفس عند ذلك تركن إلى العادة وتتسع بالشهوة.
وقيل: الدنيا بطنك فعلى قدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا.
وقال عليه السلام: "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ".
وقال فتح الموصلي. صحبت ثلاثين شيخاً كل يوصيني عند مفارقتي إياه بترك عشرة الأحداث وقلة الأكل.
{الباب الأربعون}: في اختلاف أحوال الصوفية بالصوم والإفطار
جمع من المشايخ الصوفية كانوا يديمون الصوم في السفر والحضر على الدوام حتى لحقوا بالله تعالى.
وكان أبو عبد الله بن جابر قد صام نيفاً وخمسين سنة لا يفطر في السفر والحضر، فجهد به أصحابه يوماً فأفطر، فاعتل من ذلك أياماً. فإذا رأى المريد صلاح قلبه في دوام الصوم فليصم دائماً ويدع للإفطار جانباً؛ فهو عون حسن له على ما يريد.
وروى أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهِنَّمُ هكَذا وَعَقَدَ تِسْعِينَ" أي لم يكن له فيها موضع.
وكره قوم صوم الدهر، وقد ورد في ذلك ما رواه أبو قتادة قال: سئل رسول الله: كيف بمن صام الدهر؟ قال: "لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ" وأول قوم أن صوم الدهر: هو أن لا يفطر العيدين وأيام التشريق فهو الذي يكره، وإذا أفطر هذه الأيام فليس هو الصوم الذي كرهه رسول الله.
ومنهم من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وقد ورد: "أفضل الصيام صوم أخي داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، واستحسن ذلك قوم من الصالحين ليكون بين حال الصبر وحال الشكر.
ومنهم من كان يصوم يومين ويفطر يوماً أو يصوم يوماً ويفطر يومين.(1/316)
ومنهم من كان يصوم يوم الاثنين والخميس والجمعة. وقيل: كان سهل بن عبد الله يأكل في كل خمسة عشر يوماً مرة وفي رمضان يأكل أكلة واحدة، وكان يفطر بالماء القراح للسنة.
وحكي عن الجنيد أنه كان يصوم على الدوام، فإذا دخل عليه إخوانه أفطر معهم ويقول: ليس فضل المساعدة مع الإخوان بأقل من فضل الصوم، غير أن هذا الإفطار يحتاج إلى علم، فقد يكون الداعي إلى ذلك شره النفس لا نية الموافقة، وتخليص النية لمحض الموافقة مع وجود شره النفس صعب. وسمعت شيخنا يقول: لي سنين ما أكلت شيئاً بشهوة نفس ابتداء واستدعاء، بل يقدّم إلي الشيء فأراه من فضل الله ونعمته وفعله فأوافق الحق في فعله، وذكر أنه في ذات يوم اشتهى الطعام ولم يحضر من عادته تقديم الطعام إليه. قال: ففتحت باب البيت الذي فيه الطعام وأخذت رمانة لآكلها. فدخلت السنور وأخذت دجاجة كانت هناك، فقلت: هذا عقوبة لي على تصرفي في أخذ الرمانة.
ورأيت الشيخ أبا السعود رحمه الله يتناول الطعام في اليوم مرات، أي وقت أحضر الطعام أكل منه. ويرى أن تناوله للطعام موافقة الحق؛ لأن حاله مع الله كان ترك الاختيار في مأكوله وملبوسه وجميع تصاريفه، وكان حاله الوقوف مع فعل الحق، وقد كان له في ذلك بداية يعز مثلها، حتى نقل أنه كان يبقى أياماً لا يأكل ولا يعلم أحد بحاله ولا يتصرف هو لنفسه ولا يتسبب إلى تناول شيى وينتظر فعل الحق لسياقه الرزق إليه، ولم يشعر أحد بحاله مدة من الزمان. ثم إن الله تعالى أظهر حاله وأقام له الأصحاب والتلامذة، وكانوا يتكلفون الأطعمة ويأتون بها إليه وهو يرى في ذلك فضل الحق والموافقة، سمعته يقول: أصبح كل يوم وأحب ما إليّ الصوم، وينقض الحق عليّ محبتي الصوم بفعله، فأوافق الحق في فعله.
وحكي عن بعض الصادقين من أهل واسط أنه صام سنين كثيرة، وكان يفطر كل يوم قبل غروب الشمس إلا في رمضان.(1/317)
وقال أبو نصر السراج: أنكر قوم هذه المخالفة وإن كان الصوم تطوعاً، واستحسنه آخرون لأن صاحبه كان يريد بذلك تأديب النفس بالجوع وأن لا يتمتع برؤية الصوم، ووقع لي أن هذا إن قصد أن لا يتمتع برؤية الصوم، فقد تمتع برؤية عدم التمتع برؤية الصوم، وهذا يتسلسل، والأليق بموافقة العلم إمضاء الصوم. قال الله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} وقيل: إذا كان جماعة متوافقين أشكالاً وفيهم مريد يحثونه على الصيام فإن لم يساعدوه يهتموا لإفطاره ويتكلفوا له رفقاً به ولا يحملوا حاله على حالهم، وإن كانوا جماعة مع شيخ يصومون لصومه ويفطرون لإفطاره إلا من يأمره الشيخ بغير ذلك.
وقيل: إن بعضهم صام سنين بسبب شاب كان يصحبه حتى ينظر الشاب إليه فيتأدب به ويصوم بصيامه.
وحكي عن أبي الحسن المكي أنه كان يصوم الدهر وكان مقيماً بالبصرة، وكان لا يأكل الخبز إلا ليلة الجمعة، وكان قوته في كل شهر أربع دوانيق يعمل بيده حبال الليف ويبيعها. وكان الشيخ أبو الحسن بن سالم يقول: لا أسلم عليه إلا أن يفطر ويأكل. وكان ابن سالم اتهمه بشهوة خفية له في ذلك لأنه كان مشهوراً بين الناس.
وقال بعضهم: ما أخلص لله عبد قط إلا أحب أن يكون في جب لا يعرف، ومن أكل فضلاً من الطعام أخرج فضلاً من الكلام.
وقيل: أقام أبو الحسن التنيسي بالحرم مع أصحابه سبعة أيام لم يأكلوا، فخرج بعض أصحابه ليتطهر فرأى قشر بطيخ، فأخذه وأكله، فرآه إنسان فاتبع أثره وجاء برفق فوضعه بين يدي القوم، فقال الشيخ: من جنى منكم هذه الجناية؟ فقال الرجل: أنا وجدت قشر بطيخ فأكلته، فقال: كن أنت مع جنايتك ورفقك، فقال: أنا تائب من جنايتي. فقال: لا كلام بعد التوبة، وكانوا يستحبون صيام أيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.(1/318)
وروي أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض اسود جسده من أثر المعصية، فلما تاب الله عليه أمره أن يصوم أيام البيض، فابيض ثلث جسمه بكل يوم صامه حتى ابيض جميع جسده بصيام أيام البيض.
ويستحبون صوم النصف الأول من شعبان وإفطار نصفه الأخير، وإن واصل بين شعبان ورمضان فلا بأس به، ولكن إن لم يكن صام فلا يستقبل رمضان بيوم أو بيومين.
وكان يكره بعضهم أن يصام رجب جميعه كراهة المضاهاة برمضان. ويستحب صوم العشر من ذي الحجة والعشر من المحرم، ويستحب الخميس والجمعة والسبت أن يصام من الأشهر الحرم، ورد في الخبر: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام: الخميس، والجمعة، والسبت بعد من النار سبعمائة عام.
{الباب الحادي والأربعون}: في آداب الصوم ومهامه آداب الصوفية في الصوم:
ضبط الظاهر والباطن وكف الجوارح عن الآثام، كمنع النفس عن الطعام، ثم كف النفس عن الاهتمام بالأقسام.
سمعت أن بعض الصالحين بالعراق كان طريقه وطريق أصحابه أنهم كانوا يصومون، وكلما فتح عليهم قبل وقت الإفطار يخرجونه، ولا يفطرون إلا على ما فتح لهم وقت الإفطار.
وليس من الأدب أن يمسك المريد عن المباح ويفطر بحرام الآثام.
قال أبو الدرداء: يا حبذا يوم الأكياس وفطرهم، كيف يعيبون قيام الحمقى وصيامهم ولذرة من ذي يقين وتقوى أفضل من أمثال الجبال من أعمال المغترين.(1/319)
ومن فضيلة الصوم وأدبه: أن يقلل الطعام عن الحد الذي كان يأكله وهو مفطر، وإلا فإذا جمع الأكلات بأكلة واحدة فقد أدرك بها ما فوت، ومقصود القوم من الصوم قهر النفس ومنعها عن الاتساع، وأخذهم من الطعام قدر الضرورة لعلمهم أن الاقتصار على الضرورة يجذب النفس من سائر الأفعال والأقوال إلى الضرورة، والنفس من طبعها أنها إذا قهرت لله تعالى في شيء واحد على الضرورة تأدى ذلك إلى سائر أحوالها، فيصير بالأكل النوم ضرورة، والقول والفعل ضرورة، وهذا باب كبير من أبواب الخير لأهل الله تعالى يجب رعايته وافتقاده ولا يخص بعلم الضرورة وفائدتها وطلبها، إلا عبداً يريد الله تعالى أن يقربه ويدنيه ويصطفيه ويربيه، ويمتنع في صومه من ملاعبة الأهل والملامسة، فإن ذلك أنزه للصوم.
ويتسحر استعمالاً للسنة، وهو أدعى إلى إمضاء الصوم لمعنيين، أحدهما: عود بركة السنة عليه، والثاني: التقوية بالطعام على الصيام: وروى أنس بن مالك عن رسول الله قال: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً".
ويعجل الفطر عملاً بالسنة، فإن لم يرد تناول الطعام إلا بعد العشاء ويريد إحياء ما بين العشاءين يفطر بالماء أو على أعداد من الزبيب أو التمر أو يأكل لقيمات إن كانت النفس تنازع، ليصفو له الوقت بين العشاءين، فإحياء ذلك له فضل كثير، وإلا فيقتصر على الماء لأجل السنة.(1/320)
أخبرنا الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله حكاية عن ربه: "قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْراً" وقال عليه السلام: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ" والإفطار قبل الصَّلاة سنة، كان رسول الله يفطر على جرعة من ماء أو مذقة من لبن أو تمرات، وفي الخبر: "كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"، قيل هو الذي يجوع بالنهار ويفطر على الحرام، وقيل: هو الذي يصوم عن الحلال من الطعام ويفطر على لحوم الناس بالغيبة، قال سفيان: من اغتاب فسد صومه.(1/321)
وعن مجاهد: خصلتان تفسدان الصوم: الغيبة والكذب. قال الشيخ أبو طالب المكي: قرن الله الاستماع إلى الباطل؛ والقول بالإثم بأكل الحرام فقال: {سَمَّاعُونَ للكَذِبِ أكَّالُونَ للسُّحْتِ} وورد في الخبر: "أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تهلكا؛ فبعثتا إلى رسول الله تستأذنانه في الإفطار؛ فأرسل إليهما قدحاً وقال: "قُولُوا لَهُمَا قِيئَا فِيهِ مَا أَكَلْتُمَا" فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً غريضاً، وقائت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك؛ فقال رسول الله: "هاتَانِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ الله لَهُمَا وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمَا" وقال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا كَانَ يَوْمَ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفَثْ وَلا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ" وفي الخبر "إِنَّ الصَّوْمَ أَمَانَةٌ فَلْيَحْفَظْ أَحَدُكُمْ أَمَانَتَهُ" والصوفي الذي لا يرجع إلى معلوم ولا يدري متى يساق إليه الرزق، فإذا ساق الله إليه الرزق تناوله بالأدب، وهو دائم المراقبة لوقته، وهو في إفطاره أفضل من الذي له معلوم معدّ فإن كان مع ذلك يصوم فقد أكمل الفضل.
حكي عن رويم قال: اجتزت في الهاجرة ببعض سكك بغداد، فعطشت فتقدمت إلى باب دار فاستسقيت، فإذا جارية قد خرجت ومعها كوز جديد ملآن من الماء المبرد، فلما أردت أن أتناول من يدها قالت: صوفي ويشرب بالنهار، وضربت بالكوز على الأرض وانصرفت. قال رويم: فاستحييت من ذلك ونذرت أن لا أفطر أبداً.
والجماعة الذين كرهوا دوام الصوم كرهوه لمكان أن النفس إذا ألفت الصوم وتعودته اشتد عليها الإفطار، وهكذا بتعودها الإفطار تكره الصوم، فيرون الفضل في أن لا تركن النفس إلى عادة، ورأوا أن إفطار يوم وصوم يوم أشدّ على النفس.(1/322)
ومن أدب الفقراء: أن الواحد إذا كان بين جمع وفي صحبة جماعة لا يصوم إلا بإذنهم، وإنما كان ذلك لأن قلوب الجمع متعلقة بفطوره وهم على غير معلوم، فإن صام بإذن الجمع وفتح عليهم بشيء لا يلزمهم إدخار للصائم، مع العلم بأن الجمع المفطرين يحتاجون إلى ذلك، فإن الله تعالى يأتي للصائم برزقه إلا أن يكون الصائم يحتاج إلى الرفق لضعف حاله أو ضعف بنيته لشيخوخته أو غير ذلك، وهكذا الصائم لا يليق أن يأخذ نصيبه فيدخره، لأن ذلك من ضعف الحال فإن كان ضعيفاً يعترف بحاله وضعفه فيدخره، والذي ذكرناه لأقوام هم على غير معلوم، فأما الصوفية المقيمون في رباط على معلوم فالأليق بحالهم الصيام، ولا يلزمهم موافقة الجمع في الإفطار، وهذا يظهر في جمع منهم لهم معلوم يقدم لهم بالنهار، فأما إذا كانوا على غير معلوم، فقد قيل: مساعدة الصوّام للمفطرين أحسن من استدعاء الموافقة من المفطرين للصوّام، وأمر القوم مبناه على الصدق ومن الصدق افتقاد النية وأحوال النفس، فكل ما صحت النية فيه من الصوم والإفطار والموافقة وترك الموافقة فهو الأفضل، فأما من حيث السنة فمن يوافق له وجه إذا كان صائماً وأفطر للموافقة، وإن صام ولم يوافق فله وجه.(1/323)
فأما وجه من يفطر ويوافق هو ما أخبرنا به أبو زرعة طاهر عن أبيه أبي الفضل الحافظ المقدسي، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدويه، قال: حدثنا عبد الله بن حماد، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني عطاء بن خالد عن حامد بن حميد عن محمد بن المنكدر، عن أبي سعيد الخدري قال: اصطنعت لرسول الله وأصحابه طعاماً، فلما قدم إليهم قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله: "دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ، أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْماً مكَانَهُ" وأما وجه من لا يوافق، فقد ورد أن رسول الله وأصحابه أكلوا وبلال صائم، فقال رسول الله: "نَأْكُلُ رِزْقَنَا وَرِزْقَ بِلالٍ فِي الجَنَّةِ" فإذا علم أن هنالك قلباً يتأذى أو فضلاً يرجى من موافقة من يغتنم موافقته يفطر بحسن النية لا بحكم الطبع وتقاضيه، فإن لم يجد هذا المعنى لا ينبغي أن يتلبس عليه الشره وداعية النفس بالنية فليتم صومه، وقد تكون الإجابة لداعية النفس لا لقضاء حق أخيه.
ومن أحسن آداب الفقير الطالب: أنه إذا أفطر وتناول الطعام ربما يجد باطنه متغيراً عن هيئته ونفسه متثبطة عن أداء وظائف العبادة، فيعالج مزاج القلب المتغير بإذهاب التغير عنه ويذيب الطعام بركعات يصليها أو بآيات يتلوها أو بأذكار واستغفار يأتي به، فقد ورد في الخبر: "أذيبوا طعامكم بالذكر" ومن مهام آداب الصوم كتمانه مهما أمكن إلا أن يكون متمكناً من الإخلاص فلا يبالي ظهر أم بطن.
{الباب الثاني والأربعون}: في ذكر الطعام وما فيه من المصلحة والمفسدة(1/324)
الصوفي بحسن نيته وصحة مقصده ووفور علمه وإتيانه بآدابه تصير عاداته عبادة، والصوفي موهوب وقته لله وحياته لله، كما قال الله تعالى لنبيه آمراً له: {قُلْ إنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومَحْيَايَ ومَماتي لَّلهِ رَبِّ العَالمينَ}"نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح" هذا مع كون النوم عين الغفلة، ولكن كل ما يستعان به على العبادة يكون عبادة، فتناول الطعام أصل كبير يحتاج إلى علوم كثيرة لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإجراء سنة الله تعالى بذلك، والقالب مركب القلب وبهما عمارة الدنيا والآخرة،(1/325)
وقد ورد "أرض الجنة قيعان نباتها التسبيح والتقديس، والقالب بمفرده على طبيعة الحيوانات يستعان به على عمارة الدنيا والروح والقلب على طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما صلحا لعمارة الدارين، والله تعالى ركب الآدمي بلطيف حكمته من أخص جواهر الجسمانيات والروحانيات، وجعله مستودع خلاصة الأرضين والسموات جعل عالم الشهادة وما فيها من النبات والحيوان لقوام بدن الآدمي. قال الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}{ذلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} روي عن وهب بن منبه قال: وجدت في التوراة صفة آدم عليه السلام: "إني خلقت آدم وركبت جسده من أربعة أشياء. من رطب، ويابس، وبارد، وسخن: وذلك لأني خلقته من التراب وهو يابس، ورطوبته من الماء وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، وخلقت في الجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هنّ ملاك الجسم بإذني وبهن قوامه، فلا يقوم الجسم إلا بهن ولا تقوم منهن واحدة إلا بأخرى، منهن المرة السوداء، والمرة الصفراء والدم والبلغم. ثم أسكنت بعض هذه الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه فكانت كل واحدة منهن ربعاً لا يزيد ولا ينقص: كملت صحته واعتدلت بنيته، فإن زادت منهن واحدة عليهن هزمتهن ومالت بهن ودخل عليه السقم من ناحيته بقدر غلبتها حتى يضعف عن طاقتهن ويعجز عن مقدارهن".
فأهم الأمور في الطعام أن يكون حلالاً، وكل ما لا يذمه الشرع حلال رخصة ورحمة من الله لعباده، ولولا رخصة الشرع كبر الأمر وأتعب طلب الحلال.(1/326)
ومن أدب الصوفية: رؤية المنعم على النعمة، وأن يبتدىء بغسل اليد قبل الطعام: قال رسول الله: "الوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الفَقْرَ" وإنما كان موجباً لنفي الفقر لأن غسل اليد قبل الطعام استقبال النعمة بالأدب، وذكر من شكر النعمة، والشكر يستوجب المزيد، فصار غسل اليد مستجلباً للنعمة مذهباً للفقر.
وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْثُرَ خَيْرُ بيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ ثُمَّ يُسَمِّي الله تَعَالَى" فقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا ممَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} واختلف الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله في وجوب ذلك. وفهم الصوفي من ذلك بعد القيام بظاهر التفسير: أن لا يأكل الطعام إلا مقروناً بالذكر؛ فقرنه فريضة وقته وأدبه، ويرى أن تناول الطعام والماء ينتج من إقامة النفس ومتابعة هواها، ويرى ذكر الله تعالى دواءه وترياقه.
روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين؛ فقال رسول الله: "أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ يُسَمِّي الله لَكَفَاكُمْ؛ فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَاماً فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله؛ فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ الله فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ".(1/327)
ويستحب أن يقول في أول لقمة: "بسم الله" وفي الثانية "بسم الله الرحمن" وفي الثالثة يتم، ويشرب الماء بثلاثة أنفاس، يقول في أول نفس: "الحمد لله" إذا شرب، وفي الثانية: "الحمد لله رب العالمين" وفي الثالثة: "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم" وكما أن للمعدة طباعاً تتقدر كما ذكرناه بموافقة طباع الطعام، فللقلب أيضاً مزاج وطباع لأرباب التفقد والرعاية واليقظة، ويعرف انحراف مزاج القلب من اللقمة المتناولة: تارة تحدث من اللقمة حرارة الطيش بالنهوض إلى الفضول، وتارة تحدث في القلب برودة الكسل بالتقاعد عن وظيفة الوقت، وتارة تحدث رطوبة السهو والغفلة وتارة يبوسة الهم والحزن بسبب الحظوظ العاجلة، فهذه كلها عوارض يتفطن لها المتيقظ، ويرى بتغير القالب بهذه العوارض تغير مزاج القلب عن الاعتدال، والاعتدال كما هو مهم طلبه للقالب فللقلب أهم وأولى. وتطرق الانحراف إلى القلب أسرع منه إلى القالب. ومن الانحراف ما يسقم به القلب فيموت لموت القالب، واسم الله تعالى دواء نافع مجرب ينفي الأسواء ويذهب الداء ويجلب الشفاء.
حكي أن الشيخ محمداً الغزالي لما رجع إلى طوس وصف له في بعض القرى عبد صالح، فقصده زائراً، فصادفه وهو في صحراء له يبذر الحنطة في الأرض، فلما رأى الشيخ محمداً جاء إليه وأقبل عليه، فجاء رجل من أصحابه وطلب منه البذر لينوب عن الشيخ في ذلك وقت اشتغاله بالغزالي، فامتنع ولم يعطه البذر، فسأله الغزالي عن سبب امتناعه. فقال: لأني أبذر هذا البذر بقلب حاضر ولسان ذاكر، أرجو البركة فيه لكل من يتناول منه شيئاً فلا أحب أن أسلمه إلى هذا فيبذره بلسان غير ذاكر وقلب غير حاضر.
وكان بعض الفقراء عند الأكل يشرع في تلاوة سورة من القرآن، يحضر الوقت بذلك حتى تنغمر أجزاء الطعام بأنوار الذكر ولا يعقب الطعام مكروه ويتغير مزاج القلب.(1/328)
وقد كان شيخنا أبو النجيب السهروردي يقول: أنا آكل وأنا أصلي، يشير إلى حضور القلب في الطعام، وربما كان يوقف من يمنع عنه الشواغل وقت أكله، لئلا يتفرق همه وقت الأكل، ويرى للذكر وحضور القلب في الأكل أثراً كبيراً لا يسعه الإهمال.
ومن الذكر عند الأكل الفكر فيما هيأ الله تعالى من الأسنان المعينة على الأكل فمنها الكاسرة ومنها القاطعة ومنها الطاحنة، وما جعل الله تعالى من الماء الحلو في الفم حتى لا يتغير الذوق، كما جعل ماء العين مالحاً لما كان شحماً حتى لا يفسد، وكيف جعل النداوة تنبع من أرجاء اللسان والفم ليعين ذلك على المضغ والسوغ، وكيف جعل القوة الهاضمة مسلطة على الطعام تفصله وتجزئه متعلقاً مددها بالكبد، والكبد بمثابة النار، والمعدة بمثابة القدر وعلى قدر فساد الكبد تعتل الهاضمة ويفسد الطعام ولا ينفصل ولا يصل إلى كل عضو نصيبه، وهكذا تأثير الأعضاء كلها من الكبد والطحال والكليتين ويطول شرح ذلك؛ فمن أراد الاعتبار فليطالع تشريح الأعضاء، ليرى العجب من قدرة الله تعالى: من تعاضد الأعضاء وتعاونها، وتعلق بعضها بالبعض في إصلاح الغذاء، واستجذاب القوة منه للأعضاء وانقسامه إلى الدم والثفل واللبن لتغذية المولود من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فالفكر في ذلك وقت الطعام وتعرّف لطيف الحكم والقدر فيه من الذكر.
ومما يذهب داء الطعام المغير لمزاج القلب: أن يدعو في أول الطعام ويسأل الله تعالى أن يجعله عوناً على الطاعة ويكون من دعائه: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. وما رزقتنا مما نحب اجعله عوناً لنا على ما تحب، وما زويت عنا مما نحب اجعله فراغاً لنا فيما نحب.
{الباب الثالث والأربعون}: في آداب الأكل(1/329)
فمن ذلك أن يبتدىء بالملح ويختم به: روي عن رسول الله أنه قال لعلي رضي الله عنه: "يَا عَلِيُّ، ابْدَأْ طَعَامَكَ بِالمِلْحِ وَاخْتِمْ بِالمِلْحِ؛ فَإِنَّ المِلْحَ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْها: الجُنُونُ؛ وَالجُذَامُ، وَالبَرَصُ، وَوَجَعُ البَطْنِ، وَوَجَعُ الأَضْرَاسِ".
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: لدغ رسول الله في إبهامه من رجله اليسرى لدغة، فقال: "عَلَيَّ بِذلِكَ الأَبيَضِ الَّذِي يَكُونُ فِي العَجِينِ" فجئنا بملح فوضعه في كفه ثم لعق منه ثلاث لعقات، ثم وضع بقيته على اللدغة فسكنت عنه.
ويستحب الاجتماع على الطعام، وهو سنة الصوفية في الربط وغيرها: روى جابر عن رسول الله أنه قال: "مِنْ أَحَبِّ الطَّعَامِ إِلَى الله تَعَالَى مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الأَيْدِي" وروي أنه قيل: يا رسول الله: إنا نأكل ولا نشبع قال: "لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ عَلَى طَعَامِكُمْ، اجْتَمِعُوا وَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ".
ومن عادة الصوفية: الأكل على السفر، وهو سنة رسول الله.
أخبرنا الشيخ أبو زرعة، عن المقومي بإسناده إلى ابن ماجه الحافظ القزويني، قال: أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبي، عن يونس بن الفرات عن قتادة عن أنس بن مالك قال: ما أكل رسول الله على خوان ولا في سكرجة. قال: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السفر.
ويصغر اللقمة ويجود الأكل بالمضغ، وينظر بين يديه ولا يطالع وجوه الآكلين، ويقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ويجلس جلسة التواضع غير متكىء ولا متعزز. نهى رسول الله أن يأكل الرجل متكئاً. وروي أنه أهدي لرسول الله شاة، فجثا رسول الله على ركبتيه يأكل فقال أعرابي: ما هذه الجلسة يا رسول الله؟ فقال رسول الله: "إِنَّ الله خَلَقَنِي عَبْداً وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً عَنِيداً".(1/330)
ولا يبتدىء بالطعام حتى يبدأ المقدم أو الشيخ. روى حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله طعاماً لم يضع أحدنا يده حتى يبدأ رسول الله ويأكل باليمين.
روى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال: "لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ بيَمِينِهِ، وَلْيَأْخُذْ بيَمِينِهِ وَلْيُعْطِ بيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ" .
وإن كان المأكول تمراً أو ماله عجم لا يجمع من ذلك ما يرمي ولا يأكل على الطبق ولا في كفه، بل يضع ذلك على ظهر كفه في فيه ويرميه.
ولا يأكل من ذروة الثريد: روى عبد الله ابن عباس عن النبي أنه قال: "إِذَا وُضِعَ الطَّعَامُ فَخُذُوا مِنْ حَاشِيَتِهِ وَذَرُوا وَسَطَهُ فَإِنَّ البَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهِ" .
ولا يعيب الطعام: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وإذا سقطت اللقمة يأكلها فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْها الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ" .
ويلعق أصابعه، فقد روى جابر عن النبي قال: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ الطَّعَامَ فَلْيَمْتَصَّ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ البَرَكَةُ" .
وهكذا أمر عليه السلام بإسلات القصعة: وهو مسحها من الطعام. قال أنس رضي الله عنه: أمر رسول الله بإسلات القصعة.
ولا ينفخ في الطعام، فقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: "النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ يُذْهَبُ بِالبَرَكَةِ" وروى عبد الله بن عباس أنه قال: لم يكن رسول الله ينفخ في طعام ولا في شراب ولا يتنفس في الإناء فليس من الأدب ذلك.(1/331)
والخل والبقل على السفرة من السنة. قيل: إن الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل. روت أم سعد رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله على عائشة رضي الله عنها وأنا عندها فقال: هل من غداء؟ فقالت: عندنا خبز وتمر وخل، فقال عليه السلام: "نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الخَلِّ فَإِنَّهُ كَانَ إِدَامَ الأَنْبيَاءِ قَبْلِي، وَلَمْ يَفْقَرْ بيْتٌ فِيهِ خَلٌّ" .
ولا يصمت على الطعام فهو من سيرة الأعاجم، ولا يقطع اللحم والخبز بالسكين ففيه نهي، ولا يكف يده عن الطعام حتى يفرغ الجمع، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: "إِذَا وُضِعَتِ المَائِدَةُ فَلا يَقُومُ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ المَائِدَةُ وَلا يَرْفَعُ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرَغَ القَوْمُ، وَلْيَتَعَلَّلْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ" .
وإذا وضع الخبز لا ينتظر غيره، فقد روى أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله : "أَكْرِمُوا الخُبْزَ، فَإِنَّ الله تَعَالَى سَخَّرَ لَكُمْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالحَدِيد وَالبَقَر وَابْن آدَمَ" .
ومن أحسن الأدب وأهمه أن لا يأكل إلا بعد الجوع ويمسك عن الطعام قبل الشبع، فقد روي عن رسول الله : "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ" .
ومن عادة الصوفية: أن يلقم الخادم إذا لم يجلس مع القوم وهو سنة. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم : "إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ" .(1/332)
وإذا فرغ من الطعام يحمد الله تعالى: روى أبو سعيد قال: كان رسول الله إذا أكل طعاماً قال: "الحَمْدُ لله الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ" وروي عن رسول الله أنه قال: "مَنْ أَكَلَ طَعَاماً فَقَالَ: الحَمْدُ لله الَّذِي أَطْعَمَنِي هذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" .
ويتخلل، فقد روي عن رسول الله : "تَخَلَّلُوا فَإِنَّهُ نَظَافَةٌ وَالنَّظَافَةُ تَدْعُو إِلَى الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الجَنَّةِ" .
ويغسل يديه، فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : "مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمْرٌ لَمْ يُغْسَلْ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ" .
ومن السنة غسل الأيدي في طست واحد: وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : "انْزَعُوا الطُّسُوسَ وَخَالِفُوا المَجُوسَ" .
ويستحب مسح العين ببلل اليد، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : "إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَأَشْرِبُوا أَعْيُنَكُمُ المَاءَ وَلا تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيَاطِينِ" قيل لأبي هريرة: في الوضوء وغيره؟ قال: نعم في الوضوء وغيره، وفي غسل اليد يأخذ الأشنان باليمين، وفي الخلاء لا يزدرد ما يخرج بالخلال من الأسنان، وأما ما يلوكه باللسان فلا بأس به، ويجتنب التصنع في أكل الطعام، ويكون أكله بين الجمع كأكله منفرداً، فإن الرياء يدخل على العبد في كل شيء.
وصف لبعض العلماء بعض العباد فلم يثن عليه، قيل له تعلم به بأساً؟ قال: نعم، رأيته يتصنع في الأكل، ومن تصنع في الأكل لا يؤمن عليه التصنع في العمل.(1/333)
وإن كان الطعام حلالاً فليقل: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، اللهم أطعمنا واستعملنا صالحاً، وإن كان شبهة يقول: الحمد لله على كل حال، اللهم صلِّ على محمد ولا تجعله عوناً على معصيتك، وليكثر الاستغفار والحزن، ويبكي على أكل الشبهة ولا يضحك، فليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك، ويقرأ بعد الطعام قل هو الله أحد ولإيلاف قريش.
ويجتنب الدخول على قوم في وقت أكلهم، فقد ورد: "مَنْ مَشَى إِلَى طَعَامٍ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهِ مَشَى فَاسِقاً وَأَكَلَ حَرَاماً" وسمعنا لفظاً آخر: "دَخَلَ سَارِقاً وَخَرَجَ مُغِيراً" إلا أن يتفق دخوله على قوم يعلم منهم فرحهم بموافقته.
ويستحب أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدار، ولا يخرج الضيف بغير إذن صاحب الدار، ويجتنب المضيف التكلف إلا أن يكون له نية فيه من كثرة الإنفاق، ولا يفعل ذلك حياء وتكلفاً.
وإذا أكل عند قوم طعاماً فليقل عند فراغه إن كان بعد المغرب: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة" وروى أيضاً "عليكم صلاة قوم أبرار ليسوا بآثمين ولا فجار يصلون بالليل ويصومون بالنهار" كان بعض الصحابة يقول ذلك.
ومن الأدب: أن لا يستحقر ما يقدم له من طعام، وكان بعض أصحاب رسول الله يقول: ما ندري أيهم أعظم وزراً، الذي يحتقر ما يقدم إليه، أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه.
ويكره أكل طعام المباهاة وما تكلف به للأعراس والتعازي، فما عمل للنوائح لا يؤكل، وما عمل لأهل العزاء لا بأس به وما يجري مجراه.(1/334)
وإذا علم الرجل من حال أخيه أنه يفرح بالانبساط إليه في التصرف في شيء من طعامه فلا حرج أن يأكل من طعامه بغير إذنه، قال الله تعالى: {أوْ صَدِيقِكُمْ} ومن دعي إلى طعام فالإجابة من السنة، وأوكد ذلك الوليمة، وقد يتخلف بعض الناس عن الدعوة تكبراً وذلك خطأ، وإن عمل ذلك تصنعاً ورياء فهو أقل من التكبر. روي أن الحسن بن علي مر بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على الطريق وقد نثروا كسراً على الأرض وهو على بغلته؛ فلما مر بهم سلم عليهم فردوا عليه السلام وقالوا: هلم الغذاء يا ابن رسول الله، فقال: نعم إن الله لا يحب المتكبرين، ثم ثنى وركه فنزل عن دابته وقعد معهم على الأرض وأقبل يأكل، ثم سلم عليهم وركب.
وكان يقال: الأكل مع الإخوان أفضل من الأكل مع العيال.
روي أن هارون الرشيد دعا أبا معاوية الضرير وأمر أن يقدم له طعام، فلما أكل صب الرشيد على يده في الطست فلما فرغ قال: يا أبا معاوية، تدري من صب على يدك؟ قال: لا. قال أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين، إنما أكرمت العلم وأجللته فأجلك الله تعالى وأكرمك كما أكرمت العلم.
{الباب الرابع والأربعون}: في ذكر أدبهم في اللباس ونياتهم ومقاصدهم فيه(1/335)
اللباس من حاجات النفس وضرورتها لدفع الحر والبرد، كما أن الطعام من حاجات النفس لدفع الجوع. وكما أن النفس غير قانعة بقدر الحاجة من الطعام بل تطلب الزيادات والشهوات، فهكذا في اللباس تتفنن فيه، ولها فيه أهوية متنوعة ومآرب مختلفة؛ فالصوفي يرد النفس في اللباس إلى متابعة صريح العلم قيل لبعض الصوفية: ثوبك ممزق، قال: ولكنه من وجه حلال، وقيل له وهو وسخ، قال: ولكنه طاهر؛ فنظر الصادق في ثوبه أن يكون من وجه حلال؛ لأنه ورد في الخبر عن رسول الله أنه قال: "مَنِ اشْتَرَى ثَوْباً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ مِنْ حَرَامٍ لا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلا عَدْلاً" أي لا فريضة ولا نافلة، ثم بعد ذلك نظر فيه أن يكون طاهراً: لأن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة، وما عدا هذين النظرين فنظره في كونه يدفع الحرّ والبرد لأن ذلك مصلحة النفس، وبعد ذلك ما تدعو النفس إليه فكله فضول وزيادة ونظر إلى الخلق، والصادق لا ينبغي أن يلبس الثوب إلا لله: وفي ستر العورة، أو لنفسه لدفع الحر والبرد.
وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه خرج ذات يوم وعليه ثوب قد لبسه مقلوباً؛ فقيل له ـ ولم يعلم بذلك ـ فهم أن يخلعه ويغيره، ثم تركه وقال: حيث لبسته نويت أني ألبسه لله، والآن فما أغيره إلا لنظر الخلق فلا أنقض النية الأولى بهذه.(1/336)
والصوفية خصوا بطهارة الأخلاق، وما رزقوا طهارة الأخلاق إلا بالصلاحية والأهلية والاستعداد الذي هيأه الله تعالى لنفوسهم، وفي طهارة الأخلاق وتعاضدها تناسب واقع لوجود تناسب هيئة النفس، وتناسب هيئة النفس هو المشار إليه بقوله تعالى: {فإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي} قال أبو سليمان الداراني: يلبس أحدهم عباءة بثلاثة دراهم، وشهوته في بطنه بخمسة دراهم أنكر ذلك لعدم التناسب؛ فمن خشن ثوبه ينبغي أن يكون مأكوله من جنسه، وإذا اختلف الثوب والمأكول دل على وجود انحراف لوجود هوى كامن في أحد الطرفين، إما في طرف الثوب لموضع نظر الخلق، وإما في طرف المأكول لفرط الشره؛ وكلا الوصفين مرض يحتاج إلى المداواة ليعود إلى حد الاعتدال.
لبس أبو سليمان الداراني ثوباً غسيلاً، فقال له أحمد: لو لبست ثوباً أجود من هذا؟ فقال: ليت قلبي في القلوب مثل قميص في الثياب فكان الفقراء يلبسون المرقع، وربما كانوا يأخذون الخرق من المزابل ويرقعون بها ثوبهم، وقد فعل ذلك طائفة من أهل الصلاح، وهؤلاء ما كان لهم معلوم يرجعون إليه؛ فكما كانت رقاعهم من المزابل، كانت لقمهم من الأبواب.
وكان أبو عبد الله الرفاعي مثابراً على الفقر والتوكل ثلاثين سنة، وكان إذا حضر للفقراء طعام لا يأكل معهم فيقال في ذلك؛ فيقول: أنتم تأكلون بحق التوكل. وأنا آكل بحق المسكنة، ثم يخرج بين العشاءين يطلب الكسر من الأبواب، وهذا شأن من لا يرجع إلى معلوم ولا يدخل تحت منة.
حكي أن جماعة من أصحاب المرقعات دخلوا على بشر بن الحارث فقال لهم: يا قوم، اتقوا الله ولا تظهروا هذا الزي فإنكم تعرفون به، وتكرمون له، فسكتوا كلهم، فقال له غلام منهم: الحمد لله الذي جعلنا ممن يعرف به ويكرم له، والله ليظهرن هذا الزي حتى يكون الدين كله لله، فقال له بشر: أحسنت يا غلام، مثلك من يلبس المرقعة، فكان أحدهم يبقى زمانه لا يطوي له ثوب ولا يملك غير ثوبه الذي عليه.(1/337)
وروي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه لبس قميصاً اشتراه بثلاثة دراهم ثم قطع كمه من رؤوس أصابعه، وروي عنه أنه قال لعمر بن الخطاب: إن أردت أن تلقى صاحبك فرقِّع قميصك واخصف نعلك وقصِّر أملك وكُلْ دون الشبع.
وحكي عن الجريري قال: كان في جامع بغداد رجل لا تكاد تجده إلا في ثوب واحد في الشتاء والصيف. فسئل عن ذلك؟ فقال: قد كنت ولعت بكثرة لبس الثياب، فرأيت ليلة فيما يرى النائم كأني دخلت الجنة، فرأيت جماعة من أصحابنا من الفقراء على مائدة، فرأيت أن أجلس معهم فإذا بجماعة من الملائكة أخذوا بيدي وأقاموني وقالوا لي هؤلاء أصحاب ثوب واحد وأنت لك قميصان فلا تجلس معهم، فانتبهت ونذرت أن لا ألبس إلا ثوباً واحداً إلى أن ألقى الله تعالى.
وقيل: مات أبو يزيد ولم يترك إلا قميصه الذي كان عليه وكان عارية، فردوه إلى صاحبه.
وحكي لنا عن الشيخ حماد شيخ شيخنا: أنه بقي زماناً لا يلبس الثوب إلا مستأجراً، حتى إنه لم يلبس على ملك نفسه شيئاً.
وقال أبو حفص الحداد: إذا رأيت وضاءة الفقير في ثوبه فلا ترجو خيره.
وقيل: مات ابن الكرنبي وكان أستاذ الجنيد وعليه مرقعته. قيل: كان وزن فرد كمٍ له وتخاريصه ثلاثة عشر رطلاً.
فقد يكون جمع من الصالحين على هذا الزي والتخشن، وقد يكون جمع من الصالحين يتكلفون لبس غير المرقع وزي الفقراء، ويكون نيتهم في ذلك ستر الحال أو خوف عدم النهوض بواجب حق المرقعة.(1/338)
وقيل: كان أبو حفص الحداد يلبس الناعم وله بيت فرش فيه الرمل لعله كان ينام عليه بلا وطاء ـ وقد كان قوم من أصحاب الصفة يكرهون أن يجعلوا بينهم وبين التراب حائلاً ـ ويكون لبس أبي حفص الناعم بعلم ونية يلقى الله تعالى بصحتها، وهكذا الصادقون إن لبسوا غير الخشن من الثوب لنية تكون لهم في ذلك، فلا يعترض عليهم، غير أن لبس الخشن والمرقع يصلح لسائر الفقراء بنية التقلل من الدنيا وزهرتها وبهجتها وقد ورد "من ترك ثوب جمال وهو قادر على لبسه ألبسه الله تعالى من حلل الجنة".
وأما لبس الناعم فلا يصلح إلا لعالم بحاله بصير بصفات نفسه متفقد خفي شهوات النفس يلقى الله تعالى بحسن النية في ذلك، فلحسن النية في ذلك وجوه متعددة يطول شرحها. ومن الناس من لا يقصد لبس ثوب بعينه لا لخشونته ولا لنعومته، بل يلبس ما يدخله الحق عليه فيكون بحكم الوقت، وهذا حسن. وأحسن من ذلك أن يتفقد نفسه فيه، فإن رأى للنفس شرهاً وشهوة خفية أو جلية في الثوب الذي أدخله الله عليه يخرجه، إلا أن يكون حاله مع الله ترك الاختيار فعند ذلك لا يسعه إلا أن يلبس الثوب الذي ساقه الله إليه. وقد كان شيخنا أبو النجيب السهروردي رحمه الله لا يتقيد بهيئة من الملبوس، بل كان يلبس ما يتفق من غير تعمد تكلف واختيار، وقد كان يلبس العمامة بعشرة دنانير ويلبس العمامة بدانق. وقد كان الشيخ عبد القادر رحمه الله يلبس هيئة مخصوصة ويتطيلس. وكان الشيخ علي بن الهيثمي يلبس لبس فقراء السواد: وكان أبو بكر الفراء بزنجان يلبس فرواً خشناً كآحاد العوام. ولكل في لبسه وهيئته نية صالحة. وشرح تفاوت الأقوام في ذلك يطول.(1/339)
وكان الشيخ أبو السعود رحمه الله حاله مع الله ترك الاختيار، وقد يساق إليه الثوب الناعم فيلبسه، وكان يقال له: ربما يسبق إلى بواطن بعض الناس الإنكار عليك في لبسك هذا الثوب فيقول: لا نلقى إلا أحد رجلين: رجل يطالبنا بظاهر حكم الشرع، فنقول له: هل ترى أن ثوبنا يكرهه الشرع أو يحرمه؟
فيقول: لا. ورجل يطالبنا بحقائق القوم من أرباب العزيمة، فنقول له: هل ترى لنا فيما لبسنا اختياراً أو ترى عندنا فيه شهوة؟ فيقول: لا.
وقد يكون من الناس من يقدر على لبس الناعم ولبس الخشن، ولكن يحب أن يختار الله له هيئة مخصوصة، فيكثر اللجأ إلى الله والافتقار إليه، ويسأله أن يريه أحب الزي إلى الله تعالى وأصلحه لدينه ودنياه لكونه غير صاحب غرض وهوى في زي بعينه؛ فالله تعالى يفتح عليه ويعرفه زياً مخصوصاً، فيلتزم بذلك الزي فيكون لبسه بالله ويكون هذا أتم وأكمل ممن يكون لبسه لله.
ومن الناس من يتوفر حظه من العلم وينبسط بما بسطه الله، فيلبس الثوب عن علم وإيقان ولا يبالي بما لبسه، ناعماً لبس أو خشناً، وربما لبس ناعماً ولنفسه فيه اختيار وحظ، وذلك الحظ فيه يكون مكفراً له مردوداً عليه موهوباً له يوافقه الله تعالى في إرادة نفسه، ويكون هذا الشخص تام التزكية تام الطهارة محبوباً مراداً يسارع الله تعالى إلى مراده ومحابه؛ غير أن ههنا مزلة قدم لكثير من المدعين.
حكي عن يحيى ابن معاذ الرازي أنه كان يلبس الصوف والخلقان في ابتداء أمره، ثم صار في آخر عمره يلبس الناعم؛ فقيل لأبي يزيد ذلك؛ فقال: مسكين يحيى لم يصبر على الدون فكيف يصبر على التحف.(1/340)
ومن الناس من يسبق إليه علم ما سوف يدخل عليه من الملبوس فيلبسه محموداً فيه. وكل أحوال الصادقين على اختلاف تنوعها مستحسنة {قُلْ كلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبكُمْ أعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهْدَى سَبيلاً} ولبس الخشن من الثياب هو الأحب والأولى والأسلم للعبد والأبعد من الآفات. قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فرأيت قميصه وسخاً فقلت لامرأته فاطمة: اغسلوا ثياب أمير المؤمنين؛ فقالت: نفعل إن شاء الله، قال: ثم عدته فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة، ألم آمركم أن تغسلوه؟ قالت: والله ما له قميص غير هذا.
وقال سالم: كان عمر بن عبد العزيز من ألين الناس لباساً من قبل أن يسلم عليه بالخلافة، فلما سلم عليه بالخلافة ضرب رأسه بين ركبتيه وبكى، ثم دعا بأطمار له رثة فلبسها.
وقيل: لما مات أبو الدرداء وجد في ثوبه أربعون رقعة وكان عطاؤه أربعة آلاف.
وقال زيد بن وهب: لبس علي بن أبي طالب قميصاً رازياً، وكان إذا مدّ كمه بلغ أطراف أصابعه، فعابه الخوارج بذلك، فقال: أتعيبوني على لباس هو أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم.
وقيل: كان عمر رضي الله عنه إذا رأى على رجل ثوبين رقيقين علاه بالدرة وقال: دعوا هذه البراقات للنساء.
وروي عن رسول الله أنه قال: "نَوِّرُوا قُلُوبَكُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ فَإِنَّهُ مَذَلَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَنُورٌ فِي الآخِرَةِ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُفْسِدُوا دِينَكُمْ بِحَمْدِ النَّاسِ وَثَنَائِهِمْ" .
وروي أن رسول الله احتذى نعلين، فلما نظر إليهما أعجبه حسنهما فسجد لله تعالى، فقيل له في ذلك فقال: "خَشِيتْ أَنْ يُعْرِضَ عَنِّي رَبي فَتَوَاضَعْتُ لَهُ، لا جَرَمَ لا يَبيتَانِ فِي مَنْزِلِي لِمَا تَخَوَّفْتُ المَقْتَ مِنَ الله تَعَالَى مِنْ أَجْلِهِمَا" . فأخرجهما فدفعهما إلى أول مسكين لقيه ثم أمر فاشتري له نعلان مخصوفتان.(1/341)
وروي أن رسول الله لبس الصوف واحتذى المخصوف وأكل مع العبيد.
وإذا كانت النفس محل الآفات فالوقوف على دسائسها وخفي شهواتها وكامن هواها عسر جداً، فالأليق والأجدر والأولى الأخذ بالأحوط وترك ما يريب إلى ما لا يريب، ولا يجوز للعبد الدخول في السعة إلا بعد إتقان علم السعة وكمال تزكية النفس، وذاك إذا غابت النفس بغيبة هواها المتبع وتخلصت النية وتسدد التصرف بعلم صريح واضح، وللعزيمة أقوام يركبونها ويراعونها لا يرون النزول إلى الرخص خوفاً من فوت فضيلة الزهد في الدنيا واللباس الناعم من الدنيا. وقد قيل: من رق ثوبه رق دينه. وقد يرخص في ذلك لمن لا يلتزم بالزهد ويقف على رخصة الشرع.
وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الكِبْرِ" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ" فتكون هذه الرخصة في حق من يلبسه لا بهوى نفسه في ذلك غير مفتخر به ومختال: فأما من لبس الثوب للتفاخر بالدنيا والتكابر بها فقد ورد فيه وعيد.(1/342)
وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: "إِزْرَةُ المُؤْمِنِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ لا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيما بيْنَهُ وَبيْنَ الكَعْبيْنِ وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً لَمْ يَنْظُرِ الله إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَبيْنَما رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَبَخْتَرُ فِي رِدَائِهِ إِذْ أَعْجَبَهُ رِدَاؤُهُ فَخَسَفَ الله بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيها إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" والأحوال تختلف، ومن صح حاله بصحة علمه صحت نيته في مأكوله وملبوسه وسائر تصاريفه، وفي كل الأحوال يستقيم ويتسدد باستقامة الباطن مع الله تعالى، وبقدر ذلك تستقيم تصاريف العبد كلها بحسن توفيق الله تعالى.
{الباب الخامس والأربعون}: في فضل قيام الليل
قال الله تعالى: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّركُمْ بِه ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}{وَيُثَبِّتَ بهِ الأقْدَام أذْ يُوحي رَبُّكَ إلى المَلاَئِكَة أنِّي مَعَكُمْ} ونقل عن علي بن بكار أنه قال: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر.
وقيل لبعضهم: كيف أنت والليل؟ قال: ما راعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته.
وقال أبو سليمان الداراني: أهل الليل في ليلهم أشد لذة من أهل اللهو في لهوهم.
وقال بعضهم: ليس في الدنيا شيء يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة فحلاوة المناجاة ثواب عاجل لأهل الليل.
وقال بعض العارفين: إن الله تعالى يطلع على قلوب المستيقظين في الأسحار فيملؤها نوراً، فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير، ثم تنتشر من قلوبهم الفوائد إلى قلوب الغافلين.(1/343)
وقد ورد أن الله تعالى أوحى في بعض ما أوحى إلى بعض أنبيائه: إن لي عباداً يحبوني وأحبهم، ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عن ذلك مقتك. قال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم وافترشوا لي وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بأنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوه وشاك، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبي، أول ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم.
والثاني: لو كانت السموات السبع والأرضون وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم.
والثالث: أقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه؟ فالصادق المريد إذا خلا في ليله بمناجاة ربه انتشرت أنوار ليله على جميع أجزاء نهاره ويصير نهاره في حماية ليله، وذلك لامتلاء قلبه بالأنوار، فتكون حركاته وتصاريفه بالنهار تصدر من منبع الأنوار المجتمعة من الليل، ويصير قالبه في قبة من قباب الحق مسدداً حركاته موفرة سكناته.
وقد ورد: "مَنْ صَلَّى بَاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ" ويجوز أن يكون لمعنيين:
أحدهما: أن المشكاة تستنير بالمصباح، فإذا صار سراج اليقين في القلب تزهر بكثرة زيت العمل بالليل، فيزداد المصباح إشراقاً وتكتسب مشكاة القالب نوراً وضياء.
كان يقول سهل بن عبد الله: "اليقين نار، والإقرار فتيلة، والعمل زيت.(1/344)
وقد قال الله تعالى: {سَيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُودِ}{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ} قال الله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ} والوجه الثاني: لقوله عليه السلام: "مَنْ صَلَّى بَاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ" معناه: أن وجوه أموره التي يتوجه إليها تحسن وتتداركه المعونة من الله الكريم في تصاريفه، ويكون معاناً في مصدره ومورده، فيحسن وجه مقاصده وأفعاله، وينتظم في سلك السداد مسدداً أقواله، لأن الأقوال تستقيم باستقامة القلب.
{الباب السادس والأربعون}: في ذكر الأسباب المعينة على قيام الليل وأدب النوم(1/345)
فمن ذلك أن العبد يستقبل الليل عند غروب الشمس بتجديد الوضوء، ويقعد مستقبل القبلة منتظراً مجيء الليل وصلاة المغرب، مقيماً في ذلك على أنواع الأذكار، ومن أولاها التسبيح والاستغفار. قال الله تعالى لنبيه: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعَشِيِّ والإبْكَارِ} وحكى لي بعض الفقراء عن شيخ له بخراسان أنه كان يغتسل في الليل ثلاث مرات: مرة بعد العشاء الآخرة، ومرة في أثناء الليل بعد الانتباه من النوم، ومرة قبل الصبح، فللوضوء والغسل بعد العشاء الآخرة أثر ظاهر في تيسير قيام الليل. ومن ذلك التعوّد على الذكر أو القيام بالصلاة حتى يغلب النوم، فإن التعود على ذلك يعين على سرعة الانتباه، إلا أن يكون واثقاً من نفسه وعادته فيتعمل للنوم ويستجلبه ليقوم في وقته المعهود، وإلا فالنوم عن الغلبة هو الذي يصلح للمريدين والطالبين، وبهذا وصف المحبون، قيل: نومهم نوم الغرقى، وأكلهم أكل المرضى، وكلامهم ضرورة؛ فمن نام عن غلبة بهم مجتمع متعلق بقيام الليل يوفق لقيام الليل، وإنما النفس إذا طمعت ووطنت على النوم استرسلت فيه، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ}{هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ تَرابٍ}{أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وقَائِماً} حتى قال: {قُلْ هَلْ يَسْتوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لاَ يَعْلمونَ} ومن ذلك: أن يغير العادة؛ فإن كان ذا وسادة يترك الوسادة، وإن كان ذا وطاء يترك الوطاء.(1/346)
وقد كان بعضهم يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إلي من أن أرى وسادة فإنها تدعوني إلى النوم؛ ولتغيير العادة في الوسادة والغطاء والوطاء تأثير في ذلك، ومن ترك شيئاً من ذلك والله عالم بنيته وعزيمته يثيبه على ذلك بتيسير ما رام، ومن ذاك خفة المعدة من الطعام، ثم تناول ما يأكل من الطعام إذا اقترن بذكر الله ويقظة الباطن أعان على قيام الليل؛ لأن بالذكر يذهب داؤه؛ فإن وجد للطعام ثقلاً على المعدة ينبغي أن يعلم أن ثقله على القلب أكثر، فلا ينام حتى يذيب الطعام بالذكر والتلاوة والاستغفار. قال بعضهم: لأن أنقص من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم ليلة.
والأحوط أن يتوتر قبل النوم فإنه لا يدري ماذا يحدث، ويعد طهوره وسواكه عنده، ولا يدخل النوم إلا وهو على الطهارة: قال رسول الله: "إِذَا نَامَ العَبْدُ وَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ عُرِجَ بِرُوحِهِ إِلَى العَرْشِ فَكَانَتْ رُؤْيَاهُ صَادِقَةً، وَإِنْ لَمْ يَنَمْ عَلَى الطَّهَارَةِ قَصَّرَتْ رُوحُهُ عَنِ البُلُوغِ، فَتَكُونُ المَنَامَاتُ أَضْغَاثَ أَحْلامٍ لا تَصْدُقُ" والمريد المتأهل إذا نام في الفراش مع الزوجة ينتقض وضوءه باللمس، ولا يفوته بذلك فائدة النوم على الطهارة ما لم يسترسل في التذاذ النفس باللمس ولا يعدم يقظة القلب؛ فأما إذا استرسل في الالتذاذ وغفل فتنحجب الروح أيضاً لمكان صلافته.(1/347)
ومن الطهارة التي تثمر صدق الرؤيا: طهارة الباطن عن خدش الهوى وكدورة محبة الدنيا، والتنزه عن أنجاس الغل والحقد والحسد، وقد ورد: "من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم، وإذا طهرت النفس عن الرذائل: انجلت مرآة القلب وقابل اللوح المحفوظ في النوم. وانتقشت فيه عجائب الغيب وغرائب الأنباء، ففي الصديقين من يكون له في منامه مكالمة ومحادثة؛ فيأمره الله تعالى وينهاه ويفهمه في المنام، ويعرفه، ويكون موضع ما يفتح له في نومه من الأمر والنهي كالأمر والنهي الظاهر: يعصى الله تعالى إن أخل بهما، بل تكون هذه الأوامر آكد وأعظم وقعاً، لأن المخالفات الظاهرة تمحوها التوبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ وهذه أوامر خاصة تتعلق بحاله فيما بينه وبين الله تعالى؛ فإذا أخل بها يخشى أن ينقطع عليه طريق الإرادة، ويكون في ذلك الرجوع عن الله واستيجاب مقام المقت، فإن ابتلي العبد في بعض الأحايين بكسل وفتور عزيمة يمنع من تجديد الطهارة عند النوم بعد الحدث: يمسح أعضاءه بالماء مسحاً حتى يخرج بهذا القدر عن زمرة الغافلين حيث تقاعد عن فعل المتيقظين، وهذا إذا كسل عن القيام عقيب الانتباه يجتهد أن يستاك ويمسح أعضاءه بالماء مسحاً، حتى يخرج في تقلباته وانتباهاته عن زمرة الغافلين؛ ففي ذلك فضل كثير لمن كثر نومه وقل قيامه: روي أن رسول الله كان يستاك في كل ليلة مراراً عند كل نوم وعند الانتباه منه.(1/348)
ويستقبل القبلة في نومه وهو على نوعين فإما على جنبه الأيمن كالملحود وإما على ظهره مستقبلاً للقبلة كالميت المسجى، ويقول: باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبة منك ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، الحمد لله الذي حكم فقهر، الحمد لله الذي بطن فحير، الحمد لله الذي ملك فقدر، الحمد لله الذي يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير اللهم إني أعوذ بك من غضبك وسوء عقابك وشر عبادك وشر الشيطان وشركه ويقرأ خمس آيات من البقرة: الأربع من الأول والآية الخامسة: {إنَّ في خَلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ} وآية الكرسي و{آمَنَ الرَّسُولُ} و{إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} و{قُلِ ادْعوا اللَّهَ} وأول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، وينفث بهن في يديه ويمسح بهما وجهه وجسده، وإن أضاف إلى ما قرأ عشراً من أول الكهف، وعشراً من آخرها فحسن، ويقول: اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك، واستعملني بأحب الأعمال إليك التي تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً، أسألك فتعطيني، وأستغفرك فتغفر لي، وأدعوك فتستجيب لي، اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تولني غيرك، ولا ترفع عني سترك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين، ورد أن من قال هذه الكلمات بعث الله تعالى إليه ثلاثة أملاك يوقظونه للصلاة؛ فإن صلى ودعا أمنوا على دعائه، وإن لم يقم تعبدت الأملاك في الهواء وكتب له ثواب عبادتهم، ويسبح ويحمد ويكبر كل واحد ثلاثاً وثلاثين، ويتمم المائة بلا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{الباب السابع والأربعون}: في أدب الانتباه من النوم والعمل بالليل(1/349)
إذا فرغ المؤذن من أذان المغرب يصلي ركعتين بين الأذان والإقامة، وكان العلماء يصلون هاتين الركعتين في البيت يعجلون بهما قبل الخروج إلى الجماعة كيلا يظن الناس أنهما سنة مرتبة فيقتدى بهم، ظناً منهم أنهما سنة مؤكدة، وإذا صلى المغرب يصل ركعتي السنة بعد المغرب يعجل بهما(1)، فإنهما يرفعان مع الفريضة، يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد؛ ثم يسلم على ملائكة الليل والكرام الكاتبين، فيقول: مرحباً بملائكة الليل. مرحباً بالملكين الكريمين الكاتبين، اكتبا في صحيفتي أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله وأشهد أن الجنة حق، والنار حق، والحوض حق، والشفاعة حق، والصراط والميزان حق، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، اللهم أودعك هذه الشهادة ليوم حاجتي إليها. اللهم احطط بها وزري واغفر بها ذنبي، وثقل بها ميزاني، وأوجب لي بها أماني، وتجاوز عني يا أرحم الراحمين.(1/350)
فإن واصل بين العشاءين في مسجد جماعته: يكون جامعاً بين الاعتكاف ومواصلة العشاءين، وإن رأى انصرافه إلى منزله وأن المواصلة بين العشاءين في بيته أسلم لدينه وأقرب إلى الإخلاص وأجمع للهم فليفعل وسئل رسول الله عن قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبهُمْ عَنِ المضَاجِع}"هِيَ الصَّلاةُ بيْنَ العِشَاءَيْنِ" وقال عليه السلام: "عَلَيْكُمْ بِالصَّلاةِ بيْنِ العِشَاءَيْنِ فَإِنَّها تَذْهَبُ بِمُلاغَاةِ النَّهَارِ وَتُهَذِّبُ آخِرَهُ" ويجعل من الصلاة بين العشاءين ركعتين بسورة البروج والطارق، ثم ركعتين بعد ركعتين: يقرأ في الأولى عشر آيات من أول سورة البقرة والآيتين: {وإلهكم إله واحد} إلى آخر الآيتين، وخمس عشرة مرة {قل هو الله أحد} وفي الثانية آية الكرسي و{آمن الرسول} وخمس عشرة مرة {قل هو الله أحد} ويقرأ في الركعتين الأخيرتين من سورة الزمر والواقعة، ويصلي بعد ذلك ما شاء؛ فإن أراد أن يقرأ شيئاً من حزبه في هذا الوقت في الصلاة أو غيرها، وإن شاء صلى عشرين ركعة خفيفة بسورة الإخلاص والفاتحة، ولو واصل بين العشاءين بركعتين يطيلهما فحسن، وفي هاتين الركعتين يطيل القيام تالياً للقرآن حزبه أو مكرراً آية فيها الدعاء والتلاوة، مثل أن يقرأ مكرراً: {رَبَّنَا عَلَيْكَ توكَّلْنَا وإليْكَ أنَبْنَا وإليْكَ المصيرُ} ففي ذلك جمع للهم وظفر بالفضل،(1/351)
ثم يصلي قبل العشاء أربعاً وبعدها ركعتين، ثم ينصرف إلى منزله أو موضع خلوته فيصلي أربعاً أخرى. وقد كان رسول الله يصلي في بيته أول ما يدخل قبل أن يجلس أربعاً، ويقرأ في هذه الأربع سورة لقمان ويس وحم الدخان وتبارك الملك، وإن أراد أن يخفف فيقرأ فيها آية الكرسي وآمن الرسول وأول سورة الحديد وآخر سورة الحشر، ويصلي بعد الأربع إحدى عشرة ركعة يقرأ فيها ثلاثمائة آية من القرآن من {والسماء والطارق} إلى آخر القرآن ثلاثمائة آية، هكذا ذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله، وإن أراد قرأ هذا القدر في أقل من هذا العدد من الركعات، وإن قرأ من سورة الملك إلى آخر القرآن وهو ألف آية فهو خير عظيم، وإن لم يحفظ القرآن يقرأ في كل ركعة خمس مرات {قل هو الله أحد} إلى عشر مرات إلى أكثر، ولا يؤخر الوتر إلى آخر التهجد إلا أن يكون واثقاً من نفسه في عادتها بالانتباه للتهجد؛ فيكون تأخير الوتر إلى آخر التهجد حينئذ أفضل. وقد كان بعض العلماء إذا أوتر قبل النوم ثم قام يتهجد يصلي ركعة يشفع بها وتره، ثم يتنفل ما شاء ويوتر في آخر ذلك، وإذا كان الوتر من أول الليل يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً يقرأ فيهما بإذا زلزلت وألهاكم، وقيل: فعل الركعتين قاعداً بمنزلة الركعة قائماً يشفع له الوتر، حتى إذا أراد التهجد يأتي به ويوتر في آخر تهجده، ونية هاتين الركعتين نية النفل لا غير ذلك، وكثيراً ما رأيت الناس يتفاوضون في كيفية نيتهما، وإن قرأ في كل ليلة المسبحات وأضاف إليها سورة الأعلى فتصير سبعاً، فقد كان العلماء يقرؤون هذه السورة ويترقبون بركتها.(1/352)
فإذا استيقظ من النوم فمن أحسن الأدب عند الانتباه أن يذهب بباطنه إلى الله ويصرف فكره إلى أمر الله قبل أن يجول الفكر في شيء سوى الله، ويشتغل اللسان بالذكر، فالصادق كالطفل الكلف بالشيء إذا نام ينام على محبة الشيء وإذا انتبه يطلب ذلك الشيء الذي كان كلفاً به، وعلى حسب هذا الكلف والشغل يكون الموت والقيام إلى الحشر، فلينظر وليعتبر عند انتباهه من النوم: ما همه؟ فإنه هكذا يكون عند القيام من القبر: إن كان همه الله فهو هو، وإلا فهمه غير الله. والعبد إذا انتبه من النوم فباطنه عائد إلى طهارة الفطرة، فلا يدع الباطن يتغير بغير ذكر الله تعالى حتى لا يذهب عنه نور الفطرة الذي انتبه عليه ويكون فارّاً إلى ربه بباطنه خوفاً من ذكر الأغيار، ومهما وفى الباطن بهذا المعيار فقد انتفى طريق الأنوار وطرق النفحات الإلهية، فجدير أن تنصب إليه أقسام الليل انصباباً، ويصير جناب القرب له موئلاً ومآباً، ويقول باللسان: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. ويقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، ثم يقصد الماء الطهور. قال الله تعالى: {وَيُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً ليُطَهِّرَكُمْ بهِ}{أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا}{إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ}{وَمَا يَعْقِلُها إلاَّ العَالِمُونَ} ولو اغتسل عند هذه المتجددات والعوارض والانتباه من النوم، لكان أزيد في تنوير قلبه، ولكان الأجدر أن العبد يغتسل لكل فريضة باذلاً مجهوده في الاستعداد لمناجاة الله، ويجدد غسل الباطن بصدق الإنابة وقد قال الله تعالى: {مُنِيبينَ إليْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلاَةَ} ثم يصلي ركعتين تحية الطهارة: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ}{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يَسْتَغْفِر اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
{(1/353)
الباب الثامن والأربعون}: في تقسيم قيام الليل
قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَبيتُونَ لِربِّهِمْ سُجَّداً وقِياماً}{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفي لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ} وقيل في تفسير قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} وفي الخبر: "عليكم بقيام الليل فإنه مرضاة لربكم وهو دأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم وملغاة للوزر ومذهب كيد الشيطان ومطردة للداء عن الجسد".
وقد كان جمع من الصالحين يقومون الليل كله، حتى نقل ذلك عن أربعين من التابعين كانوا يصلون الغداة بوضوء العشاء: منهم سعيد بن المسيب، وفضيل بن عياض، ووهيب بن الفرات، وأبو سليمان الداراني، وعلي بن بكار وحبيب العجمي، وكهمس بن المنهال، وأبو حازم، ومحمد بن المنكدر، وأبو حنيفة رحمه الله تعالى، وغيرهم عدّهم وسماهم بأنسابهم الشيخ أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب، فمن عجز عن ذلك يستحب له قيام ثلثيه أو ثلثه. وأقل الاستحباب سدس الليل، فإما أن ينام ثلث الليل الأول ويقوم نصفه وينام سدسه الآخر، أو ينام النصف الأول ويقوم ثلثه، أو ينام السدس.
روي عن داود عليه السلام قال: يا رب إني أحب أن أتعبد لك، فأي وقت أقوم؟ فأوحى الله تعالى إليه: "يا داود لا تقم أول الليل ولا آخره؛ فإنه من قام أوله نام آخره، ومن قام آخره نام أوله، ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إلي حوائجك".
ويكون القيام بين نومتين، وإلا فيغالب النفس من أول الليل ويتنفل، فإذا غلبه النوم ينام، فإذا انتبه يتوضأ فيكون له قومتان ونومتان، ويكون ذلك من أفضل ما يفعله، ولا يصلي وعنده نوم يشغله عن الصلاة والتلاوة حتى يعقل ما يقول، وقد ورد "لا تكابدوا الليل".(1/354)
وقيل لرسول الله: "إن فلانة تصلي من الليل، فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهى رسول الله عن ذلك وقال: "لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ مَا تَيَسَّرَ، فَإِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ فَلْيُنِمَّ" وقال عليه السلام: "لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه" ولا تبغضن إلى نفسك عبادة الله.
ولا يليق بالطالب ولا ينبغي له أن يطلع الفجر وهو نائم إلا أن يكون قد سبق له في الليل قيام طويل فيعذر في ذلك، على أنه إذا استيقظ قبل الفجر بساعة مع قيام الليل سبق في الليل يكون أفضل من قيام طويل، ثم النوم إلى بعد طلوع الفجر، فإذا استيقظ قبل الفجر يكثر الاستغفار والتسبيح ويغتنم تلك الساعة، وكلما يصلي بالليل يجلس قليلاً بعد كل ركعتين ويسبح ويستغفر ويصلي على رسول الله فإنه يجد بذلك ترويحاً وقوة على القيام. وقد كان بعض الصالحين يقول: هي أول نومة، فإن انتبهت ثم عدت إلى نومة أخرى فلا أنام الله عيني.
وحكى لي بعض الفقراء عن شيخ له أنه كان يأمر الأصحاب بنومة واحدة بالليل، وأكلة واحدة لليوم والليلة.
وقد جاء في الخبر: "قم من الليل ولو قدر حلب شاة". وقيل: يكون ذلك قدر أربع ركعات وقدر ركعتين. وقيل في تفسير قوله تعالى: {تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزعُ المُلْكَ ممَّنْ تَشَاءُ} قيل للحسن: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ قال: ذنوبك قيدتك، فليحذر العبد في نهاره ذنوباً تقيده في ليله.
وقال النويري رحمه الله: حرمت قيام الليل سبعة أشهر بذنب أذنبته، فقيل له: ما كان الذنب؟ قال: رأيت رجلاً بكاء؛ فقلت في نفسي: هذا مراء.
وقال بعضهم: دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقلت: ما بالك أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد. فقلت: وجع يؤلمك؟ قال: أشد. فقلت: وما ذاك؟ قال: بابي مغلق وستري مسبل ولم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته.(1/355)
وقال بعضهم: الاحتلام عقوبة، وهذه صحيح، لأن المراعي المتحفظ بحسن تحفظه وعلمه بحاله: يقدر ويتمكن من سدّ باب الاحتلام، ولا يتطرق الاحتلام إلا على جاهل بحاله أو مهمل حكم وقته وأدب حاله. ومن كمل تحفظه ورعايته وقيامه بأدب حاله قد يكون من ذنبه الموجب للاحتلام: وضع الرأس على الوسادة إذا كان ذا عزيمة في ترك الوسادة وقد يتمهد للنوم. ووضع الرأس على الوسادة بحسن النية ممن لا يكون ذلك ذنبه ولا فيه نية للعون على القيام، وقد يكون ذلك ذنباً بالنسبة إلى بعض الناس، فإذا كان هذا القدر يصلح أن يكون ذنباً جالباً للاحتلام فقس على هذا ذنوب الأحوال فإنها تختص بأربابها ويعرفها أصحابها، وقد يرتفق بأنواع الرفق من الفراش الوطيء والوسادة ولا يعاقب بالاحتلام وغيره على فعله إذا كان عالماً ذا نية يعرف مداخل الأمور ومخارجها، وكم من نائم يسبق القائم لوفور علمه وحسن نيته، وفي الخبر: "إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد، فإن قعد وذكر الله تعالى انحلت عقدة وإن توضأ انحلت عقدة أخرى، وإن صلى ركعتين انحلت العقد كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح كسلان خبيث النفس".
وفي خبر آخر: "إن من نام حتى يصبح بال الشيطان في أذنه" والذي يخل بقيام الليل: كثرة الاهتمام بأمور الدنيا، وكثرة أشغال الدنيا، وإتعاب الجوارح، والامتلاء من الطعام، وكثرة الحديث، واللغو واللغط، وإهمال القيلولة. والموفق من يغتنم وقته ويعرف داءه ودواءه ولا يهمل فيهمل.
{الباب التاسع والأربعون}: في استقبال النهار والأدب فيه والعمل(1/356)
قال الله تعالى: {وأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَي النَّهارِ} أجمع المفسرون على أن أحد الطرفين أراد به الفجر وأمر بصلاة الفجر. واختلفوا في الطرف الآخر، قال قوم: أراد به المغرب. وقال آخرون: صلاة العشاء. وقال قوم: صلاة الفجر والظهر طرف. وصلاة العصر والمغرب طرف {وَزُلفاً مِنَ اللَّيْلِ} صلاة العشاء، ثم إن الله تعالى أخبر عن عظيم بركة الصلاة وشرف فائدتها وثمرتها وقال: {إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السِّيئَاتِ}"أَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبي"، وحضرت صلاة العصر وصلى النبي عليه الصلاة والسلام العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أَيْنَ أَبُو اليُسْرِ؟" فقال: ها أنذا يا رسول الله. قال: "شهدت معنا هذه الصلاة؟" قال: نعم. قال: "اذْهَبْ فَإِنَّها كَفَّارَةٌ لِمَا عَمِلْتَ" فقال عمر: يا رسول الله هذا له خاصة أو لنا عامة؟ فقال: "بل للناس عامة" فيستعد العبد لصلاة الفجر باستكمال الطهارة قبل طلوع الفجر، ويستقبل الفجر بتجديد الشهادة كما ذكرنا في أول الليل، ثم يؤذن إن لم يكن أجاب المؤذن، ثم يصلي ركعتي الفجر: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية: {قل هو الله أحد} وإن أراد قرأ في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا باللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ...}{رَبَّنَا آمَنَّا بمَا أَنْزَلْتَ واتَّبعْنَا الرَّسُولَ...}.(1/357)
ولهذا الدعاء أثر كبير: وما رأيت أحداً حافظ عليه إلا وعنده خير ظاهر وبركة وهو من وصية الصادقين بعضهم بعضاً بحفظه والمحافظة عليه، منقول عن رسول الله أنه كان يقرؤه بين الفريضة والسنة من صلاة الفجر، ثم يقصد المسجد للصلاة في الجماعة ويقول عند خروجه من منزله: {وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْني مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}"من قال ذلك إذا خرج إلى الصلاة وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله تعالى بوجهه الكريم حتى يقضي صلاته".(1/358)
وإذا دخل المسجد أو أدخل سجادته للصلاة يقول: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، ويقدم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج من المسجد أو السجادة، فسجادة الصوفي بمنزلة البيت والمسجد، ثم يصلي صلاة الصبح في جماعة؛ فإذا سلم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ويقرأ: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم التسعة والتسعين اسماً إلى آخرها، فإذا فرغ منها يقول: اللهم صلِّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد صلاة تكون له رضاء ولحقه أداء، وأعطه الوسيلة والمقام المحمود الذي وعدته، واجزه عنا ما هو أهله، واجزه عنا أفضل ما جازيت نبياً عن أمته، وصل على جميع إخوانه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهمَّ صلِّ على محمد في الأولين، وصلِّ على محمد في الآخرين، وصلِّ على محمد إلى يوم الدين، اللهمَّ صلِّ على روح محمد في الأرواح، وصلِّ على جسد محمد في الأجساد، واجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفتك ورحمتك وتحننك ورضوانك على محمد عبدك ونبيك ورسولك، اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام فحينا ربنا بالسلام وأدخلنا دار السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.(1/359)
اللهمَّ إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيد غيري وأصبحت مرتهناً بعملي، فلا فقير أفقر مني، اللهمَّ لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا تسلط علي من لا يرحمني، اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها، وما عملت فيه من سيئة فاغفر لي إنك غفور رحيم ودود، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شره وشر ما فيه، وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ومن بغتات الأمور وفجاءة الأقدار ومن شر كل طارق يطرق إلا طارقاً يطرق منك بخير يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وأعوذ بك أن أزول أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي، عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك وعظمت نعماؤك، وأعوذ بك من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، أعوذ بك من حدة الحرص وشدة الطمع وسورة الغضب وسنة الغفلة وتعاطي الكلفة،(1/360)
اللهم إني أعوذ بك من مباهاة المكثرين، والإزراء على المقلين، وأن أنصر ظالماً أو أخذل مظلوماً وأن أقول في العلم بغير علم، أو أعمل في الدين بغير يقين، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وابن عبديك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً وآخره نجاحاً وأوسطه فلاحاً، اللهم اجعل أوله رحمة وأوسطه نعمة وآخره تكرمة، أصبحنا وأصبح الملك لله والعظمة والكبرياء لله والجبروت والسلطان لله والليل والنهار وما سكن فيهما لله الواحد القهار، أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، اللهمَّ إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا حي يا قيوم، يا حي حين لا حي في ديمومة ملكه وبقائه، يا حي محيي الموتى، يا حي مميت الأحياء ووارث الأرض والسماء،(1/361)
اللهمَّ إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم وباسمك الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، اللهمَّ إني أسألك باسمك الأعظم الأجل الأعز الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت، يا نور النور يا مدبر الأمور يا عالم ما في الصدور، يا سميع يا قريب يا مجيب الدعاء يا لطيفاً لما يشاء، يا رؤوف يا رحيم يا كبير يا عظم يا الله يا رحمن يا ذا الجلال والإكرام، ألم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم وعنت الوجوه للحي القيوم، يا إلهي وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت؛ اللهمَّ إني أسألك باسمك يا الله الله الله، الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وسعت كل شيء رحمة وعلماً، كهيعص حم عسق آلر حم ن يا واحد يا قهار يا عزيز يا جبار، يا أحد يا صمد يا ودود يا غفور، وهو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أعوذ باسمك المكنون المخزون المنزل السلام المطهر الطاهر القدوس المقدس. يا دهر يا ديهور يا ديهار يا أبد يا أزل يا من لم يزل ولا يزال ولا يزول هو يا هو لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان يا روح يا كائن قبل كل كون، يا كائن بعد كل كون، يا مكوّناً لكل كون، أهيا شراهيا أدوناي أصبؤت يا مجلي عظائم الأمور: {فإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبيَ اللَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ}{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} اللهمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين ومقيل عثرة العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين،(1/362)
واجعلنا مع الأحياء المرزوقين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين يا رب العالمين اللهم عالم الخفيات رفيع الدرجات، تلقي الروح بأمرك على من تشاء من عبادك غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا هو أنت الوكيل وإليك المصير، يا من لا يشغله شأن عن شأن ولا يشغله سمع عن سمع، ولا تشتبه عليه الأصوات، ويا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين. أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك؛ اللهم إني أسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً، أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين الأبد، ومرافقة نبيك محمد، وأسألك حبك وحب من أحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك اللهم بعلمك العيب وقدرتك على خلقك، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة. اللهم اقسم لي من خشيتك ما تحول به بيني وبين معصيتك، ومن طاعتك ما يدخلني جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم ارزقنا حزن خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى نجد لذة ما نطلب وخوف ما منه نهرب، اللهم ألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً، وأسكن في نفوسنا من عظمتك مهابة، وذلل جوارحنا لخدمتك، واجعلك أحب إلينا مما سواك؛(1/363)
واجعلنا أخشى لك ممن سواك، نسألك تمام النعمة بتمام التوبة، ودوام العافية بدوام العصمة، وأداء الشكر بحسن العبادة، اللهم إني أسألك بركة الحياة وخير الحياة، وأعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة. وأسألك خير ما بينهما، أحيني حياة السعداء: حياة من تحب بقاءه، وتوفني وفاة الشهداء: وفاة من تحب لقاءه، يا خير الرازقين وأحسن التوابين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ورب العالمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وارحم ما خلقت واغفر ما قدرت وطيب ما رزقت وتمم ما أنعمت وتقبل ما استعملت واحفظ ما استحفظت ولا تهتك ما سترت فإنه لا إله إلا أنت، أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك من كل راحة بغير خدمتك ومن سرور بغير قربك، ومن كل فرح بغير مجالستك ومن كل شغل بغير معاملتك؛ اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه، اللهم إني أستغفرك من كل عقد عقدته ثم لم أوف به، اللهم إني أستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فقويت بها على معصيتك، اللهم إني أستغفرك من كل عمل عملته لك فخالطه ما ليس لك، اللهم إني أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وأسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه، وأعوذ بك من جوامع الشر وفواتحه وخواتمه، اللهم احفظنا فيما أمرتنا واحفظنا عما نهيتنا واحفظ لنا ما أعطيتنا، يا حافظ الحافظين، ويا ذاكر الذاكرين، ويا شاكر الشاكرين، بذكرك ذكروا، وبفضلك شكروا، يا غياث يا مغيث، يا مستغاث يا غياث المستغيثين، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك، ولا إلى أحد من خلقك فأضيع، اكلأني كلاءة الوليد، ولا تحل عني، وتولني بما تتولى به عبادك الصالحين، أنا عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك، جار فيّ حكمك، عدل فيّ قضائك، نافذ فيّ مشيئتك؛ إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن ترحم فأهل ذلك أنت، فافعل اللهمَّ يا مولاي يا الله يا رب ما أنت له أهل ولا تفعل اللهم يا رب يا الله ما أنا له أهل، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة؛(1/364)
يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة، هب لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك، يا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وارزقنا العون على الطاعة، والعصمة من المعصية، وإفراغ الصبر في الخدمة، وإيذاع الشكر في النعمة، وأسألك حسن الخاتمة، وأسألك اليقين وحسن المعرفة بك، وأسألك المحبة وحسن التوكل عليك، وأسألك الرضا وحسن الثقة بك، وأسألك حسن المنقلب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأصلح أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، واللهم فرج عن أمة محمد فرجاً عاجلاً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربما إنك رؤوف رحيم، اللهم اغفر لي ولوالدي ولمن ولدا وارحمهما كما ربياني صغيرا، واغفر لأعمامنا وعماتنا، وأخوالنا وخالاتنا وأزواجنا وذرياتنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين يا خير الغافرين.
ولما كان الدعاء مخ العبادة أحببنا أن نستوفي من ذلك قسماً صالحاً نرجو بركته، وهذه الأدعية استخرجها الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه قوت القلوب، وعلى نقله كل الاعتماد وفيه البركة، فليدع بهذه الدعوات منفرداً أو في الجماعة، إماماً أو مأموماً ويختصر منها ما يشاء.(1/365)
فمن ذلك أن يلازم موضعه الذي صلى فيه الفجر مستقبل القبلة، إلا أن يرى انتقاله إلى زاويته أسلم لدينه لئلا يحتاج إلى حديث أو التفات إلى شيء؛ فإن السكون في هذا الوقت وترك الكلام له أثر ظاهر بين يجده أهل المعاملة وأرباب القلوب. وقد ندب رسول الله إلى ذلك، ثم يقرأ الفاتحة وأول سورة البقرة إلى المفلحون، والآيتين: وإلهكم إله واحد، وآية الكرسي والآيتين بعدها، وآمن الرسول والآية قبلها، وشهد الله، وقل اللهم مالك الملك، وإن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ـ إلى ـ المحسنين، ولقد جاءكم رسول إلى الآخر، وقل ادعوا الله الآيتين، وآخر الكهف من: إن الذين آمنوا.. الخ وذا النون إذا ذهب مغاضباً ـ إلى ـ خير الوارثين فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وسبحان ربك إلى آخر السورة، ولقد صدق الله، وأول سورة الحديد ـ إلى ـ بذات الصدور، وآخر سورة الحشر من لو أنزلنا، ثم يسبح ثلاثاً وثلاثين، وهكذا يحمد مثله، ويكبر مثله؛ ويتمها مائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له.(1/366)
فإذا فرغ من ذلك يشتغل بتلاوة القرآن حفظاً أو من المصحف، أو يشتغل بأنواع الأذكار، ولا يزال كذلك من غير فتور وقصور ونعاس، فإن النوم في هذا الوقت مكروه جداً، فإن غلبه النوم فليقم في مصلاه قائماً مستقبل القبلة، فإن لم يذهب النوم بالقيام يخط خطوات نحو القبلة ويتأخر بالخطوات كذلك، ولا يستدبر القبلة، ففي إدامة استقبال القبلة وترك الكلام والنوم ودوام الذكر في هذا الوقت أثر كبير وبركة غير قليلة. وجدنا ذلك بحمد الله ونوصي به الطالبين، وأثر ذلك في حق من يجمع في الأذكار بين القلب واللسان أكثر وأظهر، وهذا الوقت أول النهار ـ والنهار مظنة الآفات ـ فإذا أحكم أوله بهذه الرعاية فقد أحكم بنيانه وتبتني أوقات النهار جميعاً على هذا البناء؛ فإذا قارب طلوع الشمس يبتدىء بقراءة المسبعات العشر وهي من تعليم الخضر عليه السلام علمها إبراهيم التيمي وذكر أنه تعلمها من رسول الله، وينال بالمداومة عليها جميع المتفرق في الأذكار والدعوات، وهي عشرة أشياء: سبعة سبعة: الفاتحة، والعوذتان، وقل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون، وآية الكرسي، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والصلاة على النبي وآله، ويستغفر لنفسه ولوالديه وللمؤمنين وللمؤمنات، ويقول سبعاً: اللهم افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل، ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رؤوف رحيم.
وروي أن إبراهيم التيمي لما قرأ هذه بعد أن تعلمها من الخضر رأى في المنام أنه دخل الجنة ورأى الملائكة والأنبياء عليهم السلام وأكل من طعام الجنة. وقيل: إنه مكث أربعة أشهر لم يطعم. وقيل: لعله كان ذلك لكونه أكل من طعام الجنة، فإذا فرغ من المسبعات أقبل على التسبيح والاستغفار والتلاوة إلى أن تطلع الشمس قدر رمح.(1/367)
روي عن رسول الله أنه قال: "لأَنْ أَقْعُدَ فِي مَجْلِسٍ أَذْكُرُ الله فِيهِ مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ" ثم يصلي ركعتين قبل أن ينصرف من مجلسه، فقد نقل عن رسول الله أنه كان يصلي الركعتين، وبهاتين الركعتين تتبين فائدة رعاية هذا الوقت، وإذا صلى الركعتين بجمع هم وحضور فهم وحسن تدبر لما يقرأ يجد في باطنه أثراً ونوراً وروحاً وأنساً إذا كان صادقاً، والذي يجده من البركة ثواب معجب له على عمله هذا، في الأولى آية الكرسي، وفي الأخرى آمن الرسول والله نور السموات والأرض إلى آخر الآية، وتكون نيته فيها الشكر لله على نعمه في يومه وليلته، ثم يصلي ركعتين أخريين يقرأ المعوذتين فيهما في كل ركعة سورة، وتكون صلاته هذه ليستعيذ بالله تعالى من شر يومه وليلته، ويذكر بعد هاتين الركعتين كلمات الاستعاذة فيقول: أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر السامة والهامة، وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر عذابك وشر عبادك، وأعوذ باسمك وكلمتك التامة، من شر ما يجري به الليل والنهار إن ربي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.(1/368)
ويقول بعد الركعتين الأوليين: اللهمَّ إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبحت مرتهناً بعملي وأصبح أمري بيد غيري فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسىء بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي؛ ولا تسلط علي من لا يرحمني، اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تزيل النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي توجب النقم، ثم يصلي ركعتين أخريين بنية الاستخارة لكل عمل يعمله في يومه وليلته، وهذه الاستخارة تكون بمعنى الدعاء على الإطلاق؛ وإلا فالاستخارة التي وردت بها الأخبار هي التي يصليها أمام كل أمر يريده، ويقرأ في هاتين الركعتين {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} ويقرأ دعاء الاستخارة كما سبق ذكره في غير هذا الباب، ويقول فيه: كل قول وعمل أريده في هذا اليوم اجعل فيه الخيرة ثم يصلي ركعتين أخريين يقرأ في الأولى سورة الواقعة وفي الأخرى سورة الأعلى، ويقول بعدها: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، واجعل حبك أحب الأشياء إلي وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك، واجعل طاعتك في كل شيء يا أرحم الراحمين، ثم يصلي بعد ذلك ركعتين يقرأ فيهما شيئاً من حزبه من القرآن، ثم بعد ذلك إن كان متفرغاً ليس له شغل في الدنيا يتنقل في أنواع العمل من الصلاة والتلاوة والذكر إلى وقت الضحى، وإن كان ممن له في الدنيا شغل إما لنفسه أو لعياله فليمض لحاجته ومهامه بعد أن يصلي ركعتين لخروجه من المنزل؛ وهكذا ينبغي أن يفعل أبداً لا يخرج من البيت إلى جهة إلا بعد أن يصلي ركعتين ليقيه الله سوء المخرج، ولا يدخل البيت إلا ويصلي ركعتين ليقيه الله سوء المدخل بعد أن يسلم على من في المنزل من الزوجة وغيرها؛ وإن لم يكن في البيت أحد يسلم أيضاً ويقول السلام على عباد الله الصالحين المؤمنين.(1/369)
وإن كان متفرغاً فأحسن أشغاله في هذا الوقت إلى صلاة الضحى الصلاة؛ فإن كان عليه قضاء صلى صلاة يوم أو يومين أو أكثر، وإلا فليصل ركعات يطوّلها ويقرأ فيها القرآن؛ فقد كان من الصالحين من يختم القرآن في الصلاة بين اليوم والليلة، وإلا فليصل أعداداً من الركعات خفيفة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وبالآيات التي في القرآن وفيها الدعاء مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} فإذا ارتفعت الشمس وتنصف الوقت من صلاة الصبح إلى الظهر كما يتنصف العصر بين الظهر والمغرب يصلي الضحى؛ فهذا الوقت أفضل الأوقات لصلاة الضحى.(1/370)
قال رسول الله: "صَلاةُ الضُّحَى إِذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ" وهو أن ينام الفصيل في ظل أمه عند حرّ الشمس. وقيل الضحى إذا ضحيت الأقدام بحر الشمس؛ وأقل صلاة الضحى ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة، ويجعل لنفسه دعاء بعد كل ركعتين، ويسبح ويستغفر؛ ثم بعد ذلك إن كان هناك حق يقضي مما ندب إليه من زيارة أو عيادة يمضي فيه، وإلا فيديم العمل لله تعالى من غير فتور إما ظاهراً أو باطناً وقلباً وقالباً، وإلا فباطناً؛ وترتيب ذلك: أن يصلي ما دام منشرحاً ونفسه مجيبة، فإن سئم ينزل من الصلاة إلى التلاوة، فإنّ مجرد التلاوة أخف على النفس من الصلاة، فإن سئم التلاوة أيضاً يذكر الله بالقلب واللسان فهو أخف من القراءة، فإن سئم الذكر يدع ذكر اللسان ويلازم بقلبه المراقبة، والمراقبة علم القلب بنظر الله تعالى إليه فما دام هذا العلم ملازماً لقلبه فهو مراقب، والمراقبة عين الذكر وأفضله فإن عجز عن ذلك أيضاً وتملكته الوساوس وتزاحم في باطنه حديث النفس فلينم ففي النوم طرد حديث النفس وبه يقسى القلب ككثرة الكلام لأنه كلام من غير لسان فيحترز عن ذلك. قال سهل بن عبد الله: أسوأ المعاصي حديث النفس. والطالب يريد أن يعتبر باطنه كما يعتبر ظاهره، فإنه بحديث النفس وما يتخايل له من ذكر ما مضى ورأى وسمع كشخص آخر في باطنه، فيقيد الباطن بالمراقبة والرعاية كما يقيد الظاهر بالعمل وأنواع الذكر، ويمكن للطالب المجدّ أن يصلي من صلاة الضحى إلى الاستواء مائة ركعة أخرى، وأقل من ذلك عشرون ركعة يصليها خفيفة، أو يقرأ في كل ركعتين جزءاً من القرآن أو أقل أو أكثر.(1/371)
والنوم بعد الفراغ من صلاة الضحى وبعد الفراغ من أعداد أخر من الركعات حسن. قال سفيان: كان يعجبهم إذا فرغوا أن يناموا طلباً للسلامة، وهذا النوم فيه فوائد: منها أنه يعين على قيام الليل، ومنها أن النفس تستريح ويصفو القلب لبقية النهار والعمل فيه، والنفس إذا استراحت عادت جديدة، فبعد الانتباه من نوم النهار تجد في الباطن نشاطاً آخر وشغفاً آخر كما كان في أوّل النهار، فيكون للصادق في النهار نهاران يغتنمهما: بخدمة الله تعالى، والدؤوب في العمل.(1/372)
وينبغي أن يكون انتباهه من نوم النهار قبل الزوال بساعة حيث يتمكن من الوضوء والطهارة قبل الاستواء، بحيث يكون وقت الاستواء مستقبل القبلة ذاكراً أو مسبحاً أو تالياً: قال الله تعالى: {وأقِمِ الصَّلاَةَ طَرفَي النَّهارِ}{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُروبِهَا} قيل: قبل طلوع الشمس: صلاة الصبح، وقبل غروبها: صلاة العصر {ومِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} أراد العشاء الأخيرة {وأطْرَافَ النَّهارِ}{وَعِشيّاً وحِينَ تُظْهِرُونَ} ومن له همة ناهضة وعزيمة صادقة لا يستكثر شيئاً لله تعالى، ثم يحيي بين الظهر والعصر كما يحيي بين العشاءين على الترتيب الذي ذكرناه من الصلاة والتلاوة والذكر والمراقبة، ومن دام سهره ينام نومة خفيفة في النهار الطويل بين الظهر والعصر، ولو أحيا بين الظهر والعصر بركعتين يقرأ فيهما ربع القرآن أو يقرأ ذلك في أربع ركعات فهو خير كثير، وإن أراد أن يحيي هذا الوقت بمائة ركعة في النهار الطويل أمكن ذلك، أو بعشرين ركعة يقرأ فيها قل هو الله أحد ألف مرة في كل ركعة خمسين، ويستاك قبل الزوال إن كان صائماً، وإن لم يكن صائماً فأيّ وقت تغير فيه الفم، وفي الحديث "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" وعند القيام إلى الفرائض يستحب، قيل: إن الصلاة بالسواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً، وقيل هو خبر، وإن أراد أن يقرأ بين الصلاتين في صلاته في عشرين ركعية في كل ركعة آية أو بعض آية يقرأ في الركعة الأولى: {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ} {رَبَّنَا أفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أقْدَامَنَا وانْصُرنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرينَ}{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا...} {رَبَّنَا لا تُزغْ قُلُوبَنَا...} {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنادي للإيمَان...}{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ...(1/373)
} {أنْتَ ولِيُّنَا فاغْفِرْ لَنَا} {فَاطِرَ السَّمَواتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيي} {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفي وَمَا نُعْلِنُ...} {وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً} {لاَ إِلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَك}{رَبِّ لاَ تذْرني فَرْداً}{وَقُلْ رَبِّ اغْفرْ وارْحَمْ وأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمينَ}{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزْوَاجِنَا}{رَبِّ أوْزِعني أنْ أشْكرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أنْعَمْتَ عليَّ وعَلَى والديَّ وأنْ أعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصَّالِحينَ}{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفي الصُّدُورُ}{رَبِّ أوْزعني أنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عليَّ... } {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ...}{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}{رَبِّ اغْفِرْ لي ولوالديَّ ولِمنْ دَخَلَ بيْتي مُؤْمِناً وللمؤْمِنينَ والمُؤْمِناتِ وَلاَ تَزدِ الظَّالِمينَ إلاَّ تَبَاراً}"أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ" ولم يستعذ من وجود الشح فإنه طبيعة النفس، ولكن استعاذ من طاعته فقال: "وَشُحَ مُطَاعٍ" ودقائق متابعة الهوى تتبين على قدر صفاء القلب وعلو الحال، فقد يكون متبعاً للهوى باستحلاء مجالسة الخلق ومكالمتهم أو النظر إليهم، وقد يتبع الهوى بتجاوز الاعتدال في النوم والأكل وغير ذلك من أقسام الهوى المتبع، وهذا شغل من ليس له شغل إلا في الدنيا، ثم يصلي العبد قبل العصر أربع ركعات، فإن أمكنه تجديد الوضوء لكل فريضة كان أكمل وأتم، ولو اغتسل كان أفضل، فكل ذلك له أثر ظاهر في تنوير الباطن وتكميل الصلاة ويقرأ في الأربع قبل العصر: إذا زلزلت والعاديات، والقارعة، وألهاكم. ويصلي العصر ويجعل من قراءته في بعض الأيام: والسماء ذات البروج.(1/374)
وسمعت أن قراءة سورة البروج في صلاة العصر أمان من الدماميل، ويقرأ بعد العصر ما ذكرنا من الآيات والدعاء وما يتيسر له من ذلك، فإذا صلى العصر ذهب وقت التنفل بالصلاة وبقي وقت الأذكار والتلاوة، وأفضل من ذلك مجالسة من يزهده في الدنيا ويسدد كلامه عرى التقوى من العلماء الزاهدين المتكلمين بما يقوي عزائم المؤيدين، فإذا صحت نية القائل والمستمع فهذه المجالسة أفضل من الانفراد والمداومة على الأذكار، وإن عدمت هذه المجالسة وتعذرت فليتروح بالتنقل في أنواع الأذكار، وإن كان خروجه لحوائجه وأمر معاشه في هذا الوقت يكون أفضل وأولى من خروجه في أول النهار، ولا يخرج من المنزل إلا وهو على الوضوء، وكره جمع من العلماء تحية الطهارة بعد صلاة العصر، وأجازه المشايخ والصالحون، ويقول كلما خرج من منزله: بسم الله ما شاء الله، حسبي الله لا قوة إلا بالله، اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني، وليقرأ الفاتحة والمعوذتين، ولا يدع أن يتصدق كل يوم بما يتيسر له ولو تمرة أو لقمة، فإن القليل بحسن النية كثير. وروي أن عائشة رضي الله عنها أعطت السائل حبة واحدة وقالت: إن فيها لمثاقيل ذر كثير.(1/375)
وجاء في الخبر "كل امرىء يوم القيامة تحت ظل صدقته" ويكون من ذكره من العصر إلى المغرب مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فقد ورد عن رسول الله أن من قال ذلك كل يوم مائة مرة كان له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين، فقد ورد أن من قال في يومه مائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين لم يعمل أحد في يومه أفضل من عمله، ويقول مائة مرة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومائة مرة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده أستغفر الله، ومائة مرة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، ومائة مرة: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، ومائة مرة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة، ومائة مرة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ورأيت بعض الفقراء من المغرب بمكة وله سبحة فيها ألف حبة في كيس له، ذكر أن ورده أن يديرها كل يوم اثنتي عشرة مرة بأنواع الذكر.
ونقل عن بعض الصحابة أن ذلك كان ورده بين اليوم والليلة. ونقل عن بعض التابعين: كان ورده من التسبيح ثلاثين ألفاً بين اليوم والليلة، وليقل مائة مرة بين اليوم والليلة هذا التسبيح: سبحان الله العلي الديان، سبحان الله شديد الأركان، سبحان من يذهب بالليل ويأتي النهار، سبحان من لا يشغله شان عن شان، سبحان الله الحنان المنان، سبحان الله المسبح في كل مكان.(1/376)
روي أن بعض الأبدال بات على شاطىء البحر، فسمع في هدوء الليل هذا التسبيح، فقال: من الذي أسمع صوته، ولا أرى شخصه؟ فقال: أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر، أسبح الله تعالى بهذا التسبيح منذ خلقت؛ فقال: ما اسمك؟ فقال: مهليهيائيل؛ فقال: ما ثواب هذا التسبيح؟ قال: من قاله مائة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له.
وروي أن عثمان رضي الله عنه سأل رسول الله عن تفسير قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَواتِ والأرْض} من قالها عشراً حين يصبح وحين يمسي أعطي ست خصال؛ فأول خصلة: أن يحرس من إبليس وجنوده. الثانية: أن يعطى قنطاراً من الأجر. الثالثة: يرفع له درجة في الجنة. الرابعة: يزوجه الله من الحور العين. الخامسة: اثنا عشر ملكاً يستغفرون له. السادسة: يكون له من الأجر كمن حج واعتمر، ويقول أيضاً في هذا الوقت وفي أول النهار: اللهمَّ أنت خلقتني وأنت هديتني وأنت تطعمني وأنت تسقيني وأنت تميتني وأنت تحييني، أنت ربي لا رب سواك ولا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ويقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كل نعمة من الله، ما شاء الله الخير كله بيد الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله؛ ويقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
ثم يستعد لاستقبال الليل بالوضوء والطهارة، ويقرأ المسبعات قبل الغروب، ويديم التسبيح والاستغفار، بحيث تغيب الشمس وهو في التسبيح والاستغفار، ويقرأ عند الغروب أيضاً: والشمس والليل والمعوذتين، ويستقبل الليل كما استقبل النهار. قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً}{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكراً}.
{الباب الحادي والخمسون}:في آداب المريد مع الشيخ(1/377)
أدب المريدين مع الشيوخ عند الصوفية من مهام الآداب؛ وللقوم في ذلك اقتداء برسول الله وأصحابه، وقد قال الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بيْنَ يدي اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سميعٌ عليمٌ} روي عن عبد الله بن الزبير قال: قدم وفد على رسول الله من بني تميم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي؟ وقال عمر: ما أردت خلافك؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا...} الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما {لا تقدموا} لا تتكلموا بين يدي كلامه. وقال جابر: كان ناس يضحون قبل رسوله الله، فنهوا عن تقديم الأضحية على رسول الله. وقيل: كان قوم يقولون: لو أنزل فيَّ كذا وكذا فكره الله ذلك. وقالت عائشة رضي الله عنها: أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وقال الكلبي: لا تسبقوا رسول الله بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم به، وهكذا أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره. وقد استوفينا هذا المعنى في باب المشيخة. وقيل {لا تقدموا} لا تمشوا بين يدي رسول الله.(1/378)
وروى أبو الدرداء قال: كنت أمشي أمام أبي بكر، فقال لي رسول الله: "تَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". وقيل: نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله، فإذا سئل الرسول عليه السلام عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى، فنهوا عن ذلك، وهكذا أدب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكوت ولا يقول شيئاً بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ ووجد من الشيخ فسحة في ذلك، وشأن المريد في حضرة الشيخ كمن هو قاعد على ساحل بحر ينتظر رزقاً يساق إليه، فتطلعه إلى الاستماع وما يرزق من طريق كلام الشيخ يحقق مقام إرادته وطلبه واستزادته من فضل الله، وتطلعه إلى القول يرده عن مقام الطلب والاستزادة إلى إثبات شيء لنفسه وذلك جناية المريد.
وينبغي أن يكون تطلعه إلى مبهم من حاله يستكشف عنه بالسؤال من الشيخ: على أن الصادق لا يحتاج إلى السؤال باللسان في حضرة الشيخ بل يبادئه بما يريد. لأن الشيخ يكون مستنطقاً نطقه بالحق، وهو عند حضور الصادقين يرفع قلبه إلى الله ويستمطر ويستسقي لهم، فيكون لسانه وقلبه في القول والنطق مأخوذين إلى مهم الوقت من أحوال الطالبين المحتاجين إلى ما يفتح به عليه: لأن الشيخ يعلم تطلع الطالب إلى قوله واعتداده بقوله، والقول كالبذر يقع في الأرض؛ فإذا كان البذر فاسداً لا ينبت، وفساد الكلمة بدخول الهوى فيها؛ فالشيخ ينقي بذر الكلام عن شوب الهوى، ويسلمه إلى الله، ويسأل الله المعونة والسداد، ثم يقول، فيكون كلامه بالحق من الحق للحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام، كما أن جبريل أمين الوحي، فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله لا ينطق عن الهوى فالشيخ مقتدٍ برسول الله ظاهراً وباطناً، لا يتكلم بهوى النفس. وهوى النفس في القول بشيئين: أحدهما: طلب استجلاب القلوب وصرف الوجوه إليه، وما هذا من شأن الشيوخ.(1/379)
والثاني: ظهور النفس باستجلاء الكلام والعجب، وذلك خيانة عند المحققين والشيخ فيما يجري على لسانه راقد النفس تشغله مطالعة نعم الحق في ذلك فاقداً الحظ من فوائد ظهور النفس بالاستجلاء والعجب، فيكون الشيخ لما يجريه الحق سبحانه وتعالى عليه مستمعاً كأحد المستمعين، وكان الشيخ أبو السعود رحمه الله يتكلم مع الأصحاب بما يلقى إليه، وكان يقول: أنا في هذا الكلام مستمع كأحدكم، فأشكل ذلك على بعض الحاضرين وقال: إذا كان القائل هو يعلم ما يقول كيف يكون كمستمع لا يعلم حتى يسمع منه؟ فرجع إلى منزله فرأى ليلته في المنام. كأن قائلاً يقول له: أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر. ويجمع الصدف في مخلاته، والدر قد حصل معه ولكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر، ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل، ففهم بالمنام إشارة الشيخ في ذلك.
فأحسن أدب المريد من الشيخ السكوت والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بما له فيه من الصلاح قولاً وفعلاً. وقيل أيضاً في قوله تعالى: {لاَ تُقَدِّمُوا بيْنَ يدي اللَّهِ ورَسُولِهِ}: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته، وهذا من محاسن الآداب وأعزها.
وينبغي للمريد أن لا يحدث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ، بل يحب للشيخ كل منزلة عالية، ويتمنى للشيخ عزيز المنح وغرائب المواهب، وبهذا يظهر جوهر المريد في حسن الإرادة، وهذا يعز في المريدين؛ فإرادته للشيخ تعطيه فوق ما يتمنى لنفسه ويكون قائماً بأدب الإرادة. قال السري رحمه الله: حسن الأدب ترجمان العقل. وقال أبو عبد الله بن حنيف: قال لي رويم: يا بني اجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً، وقيل: التصوف كله أدب؛ لكل وقت أدب ولكل حال أدب ولكل مقام أدب، فمن يلزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول.(1/380)
ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله قوله تعالى: {لاَ تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبي} أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال أخبرنا أبو نصر الترياقي قال أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال أخبرنا أبو عيسى الترمذي قال حدثنا محمد بن المثنى، قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال حدثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي، قال حدثني حابس بن أبي مليكة، قال حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي فقال أبو بكر: استعمله على قومه، فقال عمر: تستعمله يا رسول الله فتكلما عند النبي حتى علت أصواتهما؛ فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك؛ فأنزل الله تعالى الآية، فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي لا يسمع كلامه حتى يستفهم.
وقيل: لما نزلت الآية آلى أبو بكر أن لا يتكلم عند النبي إلا كأخ السرار؛ فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ. لا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك وكثرة الكلام إلا إذا بسطه الشيخ؛ فرفع الصوت تنحية جلباب الوقار؛ والوقار إذا سكن القلب عقل اللسان ما يقول، وقد ينازل باطن بعض المريدين من الحرمة والوقار من الشيخ ما لا يستطيع المريد أن يشبع النظر إلى الشيخ. وقد كنت أحم فيدخل عليَّ عمي وشيخي أبو النجيب السهروردي رحمه الله فيترشح جسدي عرقاً ـ وكنت أتمنى العرق لتخف الحمى ـ فكنت أجد ذلك عند دخول الشيخ علي، ويكون في قدومه بركة وشفاء. وكنت ذات يوم في البيت خالياً وهناك منديل وهبه لي الشيخ وكان يتعمم به، فوقع قدمي على المنديل اتفاقاً، فتألم باطني من ذلك وهالني الوطء بالقدم على منديل الشيخ، وانبعث من باطني من الاحترام ما أرجو بركته.
قال ابن عطاء في قوله تعالى: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} زجر عن الأدنى لئلا يتخطى أحد إلى ما فوقه من ترك الحرمة.(1/381)
وقال سهل في ذلك: لا تخاطبوه إلا مستفهمين. وقال أبو بكر بن طاهر: لا تبدؤوه بالخطاب ولا تجيبوه إلا على حدود الحرمة {وَلاَ تَجْهَروا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ومن هذا القبيل يكون خطاب المريد مع الشيخ، وإذا سكن الوقار القلب علم اللسان كيفية الخطاب.
ولما كلفت النفوس بمحبة الأولاد والأزواج وتمكنت أهوية النفوس والطباع استخرجت من اللسان عبارات غريبة وهي تحت وقتها صاغها كلف النفس وهواها؛ فإذا امتلأ القلب حرمة ووقاراً تعلم اللسان العبارة.
وروي: لما نزلت هذه الآية قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ {أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرونَ}"اذهب فادعه" فجاء عاصم إلى المكان الذي فيه رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله يدعوك؛ فقال: أكسر الضبة، فأتيا رسول الله فقال رسول الله: "ما يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ؟" فقال: أنا صيت وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ سَعِيداً وَتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ؟" فقال: قد رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله، فأنزل الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ...}(1/382)
فليعتبر المريد الصادق ويعلم أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله، وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض وما لو كان في زمن رسول الله واعتمده مع رسول الله فلما قام القوم بواجب الأدب أخبر الحق عن حالهم وأثنى عليهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهُمْ للتَّقْوىَ} قال أبو عثمان: الأدب عند الأكابر وفي مجالسة السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَلَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا حتَّى تَخْرُجَ إليْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}{إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}"إنما ذلكم الله الذي ذمه شين ومدحه زين" في قصة طويلة، وكانوا أتوا بشاعرهم وخطيبهم، فغلبهم حسان بن ثابت وشبان المهاجرين والأنصار بالخطبة.
وفي هذا تأدب للمريد في الدخول على الشيخ والإقدام عليه وتركه الاستعجال وصبره إلى أن يخرج الشيخ من موضع خلوته.
سمعت أن الشيخ عبد القادر رحمه الله كان إذا جاء إليه فقير زائر يخبر بالفقير فيخرج ويفتح جانب الباب ويصافح الفقير ويسلم عليه ولا يجلس معه ويرجع إلى خلوته، وإذا جاء أحد ممن ليس من زمرة الفقراء يخرج ويجلس معه، فخطر لبعض الفقراء نوع إنكار لتركه الخروج إلى الفقير وخروجه لغير الفقير، فانتهى ما خطر للفقير إلى الشيخ، فقال الفقير: رابطتنا معه رابطة قلبية وهو أهل وليس عنده أجنبية فنكتفي معه بموافقة القلوب ونقنع بها عن ملاقاة الظاهر بهذا القدر، وأما من هو من غير جنس الفقراء فهو واقف مع العادات والظاهر، فمتى لم يوف حقه من الظاهر استوحش، فحق المريد عمارة الظاهر والباطن بالأدب مع الشيخ.
قيل لأبي منصور المغربي: كم صحبت أبا عثمان؟ قال: خدمته لا صحبته، فالصحبة مع الإخوان والأقران، ومع المشايخ الخدمة.(1/383)
وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ يذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام كيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع موسى عن إنكاره، فما ينكره المريد لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة.
سأل بعد أصحاب الجنيد مسألة من الجنيد، فأجابه الجنيد، فعارضه في ذلك فقال الجنيد: فإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون. فقال بعض المشايخ: من لم يعظم حرمة من تأدب به حرم بركة ذلك الأدب.
وقيل: من قال لأستاذه: لا، لا يفلح أبداً.
أخبرنا شيخنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي، قال أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدثنا هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "اتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فَخُذُوا عَنِّي، فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبيَائِهِمْ".
قال الجنيد رحمه الله: رأيت مع أبي حفص النيسابوري إنساناً كثير الصمت لا يتكلم، فقلت لأصحابه: من هذا؟ فقيل له: هذا إنسان يصحب أبا حفص ويخدمنا، وقد أنفق عليه مائة ألف درهم كانت له واستدان مائة ألف أخرى أنفقها عليه ما يسوغ له أبو حفص أن يتكلم بكلمة واحدة.
وقال أبو يزيد البسطامي: صحبت أبا علي السندي فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفاً.(1/384)
وقال أبو عثمان: صحبت أبا حفص وأنا غلام حدث، فطردني وقال: لا تجلس عندي، فلم أجعل مكافأتي له على كلامه أن أولي ظهري إليه، فانصرفت أمشي إلى خلف ووجهي مقابل له حتى غبت عنه واعتقدت أن أحفر لنفسي بئراً على بابه وأنزل وأقعد فيه ولا أخرج منه إلا بإذنه؛ فلما رأى ذلك مني قربني وقبلني وصيرني من خواص أصحابه إلى أن مات رحمه الله.
ومن آدابهم الظاهرة: أن المريد لا يبسط سجادته مع وجود الشيخ إلا لوقت الصلاة، فإن المريد من شأنه التبتل للخدمة، وفي السجادة إيماء إلى الاستراحة والتعزز، ولا يتحرك في السماع مع وجود الشيخ إلا أن يخرج عن حد التمييز، وهيبة الشيخ تملك المريد عن الاسترسال في السماع وتقيد. واستغراقه في الشيخ بالنظر إليه ومطالعة موارد فضل الحق عليه أنجع له من الإصغاء إلى السماع.
ومن الأدب: أن لا يكتم على الشيخ شيئاً من حاله ومواهب الحق عنده وما يظهر له من كرامة وإجابة، ويكشف للشيخ من حاله ما يعلم الله تعالى منه، وما يستحي من كشفه يذكره إيماء وتعريضاً، فإن المريد متى انطوى ضميره على شيء لا يكشفه للشيخ تصريحاً أو تعريضاً يصير على باطنه منه عقدة في الطريق، وبالقول مع الشيخ تنحل العقدة وتزول.
ومن الأدب: أن لا يدخل في صحبة الشيخ إلا بعد علمه بأن الشيخ قيم بتأديبه وتهذيبه، وأنه أقوم بالتأديب من غيره؛ ومتى كان عند المريد تطلع إلى شيخ آخر لا تصفو صحبته ولا ينفذ القول فيه ولا يستعد باطنه لسراية حال الشيخ إليه، فإن المريد كلما أيقن تفرد الشيخ بالمشيخة عرف فضله وقويت محبته، والمحبة والتألف هو الواسطة بين المريد والشيخ، وعلى قدر قوة المحبة تكون سراية الحال، لأن المحبة علامة التعارف، والتعارف علامة الجنسية، والجنسية جالبة للمريد حال الشيخ أو بعض حاله.(1/385)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن سليمان، قال أخبرنا أبو الفضل حميد، قال أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أنس بن أسلم، قال حدثنا عتبة بن رزين عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله قال: "مَنْ عَلَّمَ عَبْداً آيَةً مِنْ كِتَابِ الله فَهُوَ مَوْلاَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَخْذُلَهُ وَلا يَسْتَأْثِرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ فَصَمَ عُرْوَةً مِنْ عُرَى الإِسْلامِ".
ومن الأدب: أن يراعي خطرات الشيخ في جزئيات الأمور وكلياتها، ولا يستحقر كراهة الشيخ ليسير حركاته معتمداً على حسن خلق الشيخ وكمال حلمه ومداراته.
قال إبراهيم بن شيبان: كنا نصحب أبا عبد الله المغربي ونحن شبان يسافر بنا في البراري والفلوات، وكان معه شيخ اسمه حسن وقد صحبه سبعين سنة، فكان إذا جرى من أحدنا خطأ وتغير عليه الشيخ نتشفع إليه بهذا الشيخ حتى يرجع لنا إلى ما كان.
ومن أدب المريد مع الشيخ: أن لا يستقل بوقائعه وكشفه دون مراجعة الشيخ، فإن الشيخ علمه أوسع وبابه المفتوح إلى الله أكبر؛ فإن كان واقعة المريد من الله تعالى يوافقه الشيخ ويمضيها له، وما كان من عند الله لا يختلف. وإن كان فيه شبهة تزول شبهة الواقعة بطريق الشيخ، ويكتسب المريد علماً بصحة الوقائع والكشوف، فالمريد لعله في واقعته يخامره كمون إرادة في النفس فيتشبك كمون الإرادة بالواقعة مناماً كان ذلك أو يقظة، ولهذا سر عجيب، ولا يقوم المريد باستئصال شأنة الكامن في النفس، وإذا ذكره للشيخ فما في المريد من كمون إرادة النفس مفقود في حق الشيخ، فإن كان من الحق يتبرهن بطريق الشيخ، وإن كان ينزع واقعته إلى كمون هوى النفس تزول وتبرأ ساحة المريد ويتحمل الشيخ ثقل ذلك لقوة حاله وصحة إيوائه إلى جناب الحق وكمال معرفته.(1/386)
ومن الأدب مع الشيخ: أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه لا يستعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه وقوله متفرغ، وكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً لأنه مخاطبة الله تعالى، فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط، لأنه من معاملة الله تعالى، ويسأل الله تعالى قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يحب من الأدب؛ وقد نبه الحق سبحانه وتعالى على ذلك فيما أمر به أصحاب رسول الله في مخاطبته فقال: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بيْنَ يَديْ نَجْواكُمْ صَدَقةً}{أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} "مَا تَرَى فِي الصَّدَقَةِ كَمْ تَكُونُ، دِينَاراً؟" قال علي: لا يطيقونه، قال "كَمْ؟" قال علي: تكون حبة أو شعيرة؛ فقال رسول الله "إِنَّكَ لَزَهِيدٌ" ثم نزلت الرخصة ونسخت الآية، وما نبه الحق عليه بالأمر بالصدقة وما فيه من حسن الأدب وتقييد اللفظ والاحترام ما نسخ، والفائدة باقية.
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد ابن سليمان، قال: أخبرنا أبو الفضل أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا مطلب بن شعيب، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله يقول: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبيرَنا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ" فاحترام العلماء توفيق وهداية، وإهمال ذلك خذلان وعقوق.
{الباب الثاني والخمسون}: في آداب الشيخ وما يعتمده مع الأصحاب والتلامذة(1/387)
أهم الآداب: أن لا يتعرض الصادق للتقدم على قوم، ولا يتعرض لاستجلاب بواطنهم بلطف الرفق وحسن الكلام محبة للاستتباع؛ فإذا رأى أن الله تعالى يبعث إليه المريدين والمسترشدين بحسن الظن وصدق الإرادة، يحذر أن يكون ذلك ابتلاء وامتحاناً من الله تعالى، والنفوس مجبولة على محبة إقبال الخلق والشهرة، وفي الخمول السلامة؛ فإذا بلغ الكتاب أجله وتمكن العبد من حاله وعلم بتعريف الله إياه أنه مراد بالإشارة والتعليم للمريدين، فيكلمهم حينئذ كلام الناصح المشفق الوالد لولده بما ينفعه في دينه ودنياه، وكل مريد مسترشد ساقه الله تعالى إليه يراجع الله تعالى في معناه ويكثر اللجأ إليه أن يتولاه فيه وفي القول معه، ولا يتكلم مع المريد بالكلمة إلا وقلبه ناظر إلى الله مستعين به في الهداية للصواب من القول.(1/388)
سمعت شيخنا أبا النجيب السهروردي رحمه الله يوصي بعض أصحابه ويقول: لا تكلم أحداً من الفقراء إلا في أصفى أوقاتك، وهذه وصية نافعة، لأن الكلمة تقع في سمع المريد كالحبة تقع في الأرض، وقد ذكرنا أن الحبة فاسدة تهلك وتضيع، وفساد حبة الكلام بالهوى، وقطرة من الهوى تكدر بحراً من العلم، فعند الكلام مع أهل الصدق والإرادة ينبغي أن يستمدّ القلب من الله تعالى كما يستمد اللسان من الجنان، وكما أن اللسان ترجمان القلب يكون قلبه ترجمان الحق عند العبد، فيكون ناظراً إلى الله مصغياً إليه متلقياً ما يرد عليه مؤدياً للأمانة فيه، ثم ينبغي أن يعتبر حال المريد ويتفرس فيه بنور الإيمان وقوة العلم والمعرفة ما يتأتى منه ومن صلاحيته واستعداده؛ فمن المريدين من يصلح للتعبد المحض وأعمال القوالب وطريق الأبرار، ومن المريدين من يكون مستعداً صالحاً للقرب وسلوك طريق المقربين المرادين بمعاملة القلوب والمعاملات السنية، ولكل من الأبرار والمقربين مبادٍ ونهايات فيكون الشيخ صاحب الإشراف على البواطن يعرف كل شخص وما يصلح له؛ والعجب أن الصحرواي يعلم الأراضي والغروس ويعلم كل غرس وأرضه، وكل صاحب صنعة يعلم منافع صنعته ومضارها، حتى المرأة تعلم قطنها وما يتأتى منه من الغزل ودقته وغلظه، ولا يعلم الشيخ حال المريد وما يصلح له.
وكان رسول الله يكلم الناس على قدر عقولهم، ويأمر كل شخص بما يصلح له؛ فمنهم من كان يأمره بالإنفاق ومنهم من أمره بالإمساك، ومنهم من أمره بالكسب، ومنهم من قرره على ترك الكسب كأصحاب الصفة؛ فكان رسول الله يعرف أوضاع الناس وما يصلح لكل واحد، فأما في رتبة الدعوة فقد كان يعمم الدعوة لأنه مبعوث لإثبات الحجة وإيضاح المحجة يدعو على الإطلاق، ولا يخصص بالدعوة من يتفرس فيه الهداية دون غيره.(1/389)
ومن أدب الشيخ: أن يكون له خلوة خاصة ووقت خاص لا يسعه فيه معاناة الخلق حتى يفيض على جلوته فائدة خلوته، ولا تدعي نفسه قوة ظناً منها أن استدامة المخالطة مع الخلق والكلام معهم لا يضره ولا يأخذ منه وأنه غير محتاج إلى الخلوة، فإن رسول الله مع كمال حاله كان له قيام الليل وصلوات يصليها ويدوم عليها وأوقات يخلو فيها، فطبع البشر لا يستغني عن السياسة قل ذلك أو كثر لطف ذلك أو كثف وكم من مغرور قانع باليسير من طيبة القلب، اتخذ ذلك رأس ماله واغتر بطيبة قلبه، واسترسل في الممازجة والمخالطة، وجعل نفسه مناخاً للبطالين بلقمة تؤكل عنده وبرفق يوجد منه، فيقصده من ليس قصده الدين ولا بغيته سلوك طريق المتقين فافتتن وأفتن، وبقي في خطة القصور، ووقع في دائرة الفتور، فما يستغنى الشيخ عن الاستمداد من الله تعالى والتضرع بين يدي الله بقلبه إن لم يكن بقالبه وقلبه، فيكون له في كل كلمة إلى الله الرجوع، وفي كل حركة بين يدي الله خضوع، وإنما دخلت الفتنة على المغرورين المدعين للقوة والاسترسال في الكلام والمخالطة، لقلة معرفتهم صفات النفس واغترارهم بيسير من الموهبة وقلة تأدبهم بالشيوخ.(1/390)
كان الجنيد رحمه الله يقول لأصحابه: لو علمت أن صلاة ركعتين لي أفضل من جلوسي معكم ما جلست عندكم، فإذا رأى الفضل في الخلوة يخلو، وإذا رأى الفضل في الجلوة يجلس مع الأصحاب، فتكون جلوته في حماية خلوته، وجلوته مزيداً لخلوته. وفي هذا سر: وذلك أن الآدمي ذو تركيب مختلف، فيه تضاد وتغاير على ما أسلفنا من كونه متردداً بين السفلي والعلوي، ولما فيه من التغاير له حظ من الفتور عن الصبر على صرف الحق، ولهذا كان لكل عامل فترة والفترة قد تكون تارة في صورة العمل وتارة في عدم الروح في العمل وإن لم تكن في صورة العمل، فقي وقت الفترة للمريدين والسالكين تضييع واسترواح للنفس وركون إلى البطالة، فمن بلغ رتبة المشيخة انصرف قسم فترته إلى الخلق فأفلح الخلق بقسم فترته، وما ضاع قسم فترته كضياعه في حق المريدين، فالمريد يعود من الفترة بقوة الشدة وحدة الطلب إلى الإقبال على الله، والشيخ يكتسب الفضيلة من نفع الخلق بقسم فترته ويعود إلى أوطان خلوته وخاص حالة بنفس مشرئبة، أكثر من عود الفقير بحدة إرادته من فترته، فيعود من الخلق إلى الخلوة متنزع الفتور، بقلب متعطش وافر النور، وروح متخلصة عن مضيق مطالعة الأغيار، قادمة بحدة شغفها إلى دار القرار.
ومن وظيفة الشيخ: حسن خلقه مع أهل الإرادة والطلب، والنزول من حقه فيما يجب من التبجيل والتعظيم للمشايخ واستعماله التواضع.
حكى الرقي قال: كنت بمصر وكنا في المسجد جماعة من الفقراء جلوساً، فدخل الزقاق فقام عند اسطوانة يركع، فقلنا يفرغ الشيخ من صلاته ونقوم نسلم عليه، فلما فرغ جاء إلينا وسلم علينا، فقلنا: نحن أولى بهذا من الشيخ، فقال: ما عذب الله قلبي بهذا قط، يعني ما تقيدت بأن أحترم وأقصد.(1/391)
ومن آداب الشيوخ: النزول إلى حال المريدين من الرفق بهم وبسطهم. قال بعضهم: إذا رأيت الفقير القَهُ بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنس والعلم يوحشه، فإذا فعل الشيخ هذا المعنى من الرفق يتدرّج المريد ببركة ذلك إلى الانتفاع بالعلم فيعامل حينئذ بصريح العلم.
ومن آداب الشيوخ: التعطف على الأصحاب وقضاء حقوقهم في الصحة والمرض، ولا يترك حقوقهم اعتماداً على إرادتهم وصدقهم. قال بعضهم: لا تضيع حق أخيك بما بينك وبينه من المودة.
وحكي عن الجريري قال: وافيت من الحج فابتدأت بالجنيد وسلمت عليه وقلت حتى لا يتعنى، ثم أتيت منزلي، فلما صليت الغداة التفت وإذا بالجنيد خلفي؛ فقلت: يا سيدي إنما ابتدأت بالسلام عليك لكيلا تتعنى إلى ههنا، فقال لي: يا أبا محمد، هذا حقك وذاك فضلك.
ومن آداب الشيوخ: أنهم إذا علموا من بعض المسترشدين ضعفاً في مراغمة النفس وقهرها واعتماد صدق العزيمة، أن يرفقوا به ويوقفوه على حد الرخصة، ففي ذلك خير كثير وما دام العبد لا يتخطى حريم الرخصة. فهو حرّ، ثم إذا ثبت وخالط الفقراء وتدرّب في لزوم الرخصة يدرّج بالرفق إلى أوطان العزيمة.
قال أبو سعيد بن الأعرابي: كان شاب يعرف بإبراهيم الصائغ، وكان لأبيه نعمة، فانقطع إلى الصوفية وصحب أبا أحمد القلانسي، فربما كان يقع بيد أبي أحمد شيء من الدراهم فكان يشتري له الرقاق والشواء والحلواء ويؤثره عليه ويقول: هذا خرج من الدنيا وقد تعوّد النعمة، فيجب أن نرفق به ونؤثره على غيره.(1/392)
ومن آداب الشيوخ: التنزه عن مال المريد وخدمته والارتفاق من جانبه بوجه من الوجوه، لأنه جاء الله تعالى، فيجعل نفعه وإرشاده خالصاً لوجه الله تعالى، فما يسدي الشيخ للمريد من أفضل الصدقات. وقد ورد "ما تصدق متصدق بصدقة أفضل من علم يبثه في الناس" وقد قال الله تعالى تنبيهاً على خلوص ما لله وحراسته من الشوائب {إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً}{يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} معنى يحفكم: أي يجهدكم ويلح عليكم.
قال قتادة: علم الله تعالى أن في خروج المال إخراج الأضغان، وهذا تأديب من الله الكريم والأدب أدب الله.
قال جعفر الخلدي: جاء رجل إلى الجنيد وأراد أن يخرج عن ماله كله ويجلس معهم على الفقر، فقال له الجنيد: لا تخرج من مالك كله أحبس منه مقدار ما يكفيك، وأخرج الفضل، وتقوّت بما حبست، واجتهد في طلب الحلال لا تخرج كل ما عندك فلست آمن عليك أن تطالبك نفسك.
وكان النبي عليه السلام إذا أراد أن يعمل عملاً تثبت، وقد يكون الشيخ يعلم من حال المريد أنه إذا خرج من الشيء يكسبه من الحال ما لا يتطلع به إلى المال، فحينئذ يجوز أن يفسح للمريد في الخروج من المال، كما فسح رسول الله لأبي بكر وقبل منه جميع ماله.(1/393)
ومن آداب الشيخ: إذا رأى من بعض المريدين مكروهاً، أو علم من حاله اعوجاجاً، أو أحس منه بدعوى، أو رأى أنه داخله عجب: أن لا يصرح له بالمكروه، بل يتكلم مع الأصحاب ويشير إلى المكروه الذي يعلم، ويكشف عن وجه المذمة مجملاً فتحصل بذلك الفائدة للكلّ، فهذا أقرب إلى المداراة وأكثر أثراً لتألف القلوب، وإذا رأى من المريد تقصيراً في خدمة ندبه إليها: يحمل تقصيره ويعفو عنه ويحرضه على الخدمة بالرفق واللين، وإلى ذلك ندب رسول الله فيما أنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الكروخي قراءة عليه، قال: أنا أبو نصر الترياقي، قال: أنا أبو محمد الجراحي، قال: أنا أبو العباس المحبوبي، قال: أنا أبو عيسى الترمذي، قال: حدّثنا قتيبة، قال: حدّثنا رشدين بن سعد عن أبي هلال الخولاني عن ابن عباس بن جليد الحجري عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ قال: "كل يوم سبعين مرة".
وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله، وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب وأنكر وأوجب.(1/394)
ومن جملة مهام الآداب: حفظ أسرار المريدين فيما يكاشفون به ويمنحون من أنواع المنح، فسر المريد لا يتعدى ربه وشيخه، ثم لا يحقر الشيخ في نفس المريد ما يجده في خلوته في كشف أو سماع خطاب أو شيء من خوارق العادات ويعرّفه أن الوقوف مع شيء من هذا يشغل عن الله ويسد باب المزيد، بل يعرفه أن هذه نعمة تشكر ومن ورائها نعم لا تحصى، ويعرفه أن شأن المريد طلب المنعم لا النعمة حتى يبقى سره محفوظاً عند نفسه وعند شيخه، ولا يذيع سره، فإذاعة الأسرار من ضيق الصدر، وضيق الصدر الموجب لإذاعة السر يوصف به النسوان وضعفاء العقول من الرجال، وسبب إذاعة السر أن للإنسان قوّتين آخذه ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها ولولا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها ما ظهرت الأسرار؛ فكامل العقل كما طلبت القوة الفعل قيدها ووزنها بالعقل حتى يضعها في مواضعها، فيجل حال الشيوخ عن إذاعة الأسرار لرزانة عقولهم.
وينبغي للمريد أن يحفظ سره من بثه، ففي ذلك صحته وسلامته وتأييد الله سبحانه وتعالى له بتدارك المريدين الصادقين في موردهم ومصدرهم.
{الباب الثالث والخمسون}: في حقيقة الصحبة وما فيها من الخير والشر(1/395)
المقتضي للصحبة وجود الجنسية، وقد يدعو إليها أعم الأوصاف، وقد يدعو إليها أخص الأوصاف، فالدعاء بأعم الأوصاف: كميل جنس البشر بعضهم إلى بعض، والدعاء بأخص الأوصاف كميل أهل كل ملة بعضهم إلى بعض، ثم أخص من ذلك كميل أهل الطاعة بعضهم إلى بعض، وكميل أهل المعصية بعضهم إلى بعض، فإذا علم هذا الأصل وأن الجاذب إلى الصحبة وجود الجنسية بالأعم تارة وبالأخص أخرى، فليتفقد الإنسان نفسه عند الميل إلى صحبة شخص، وينظر ما الذي يميل به إلى صحبته؟ ويزن أحوال من يميل إليه بميزان الشرع، فإن رأى أحواله مسددّة فليبشر نفسه بحسن الحال، فقد جعل الله تعالى مرآته مجلوة يلوح له في مرآة أخيه جمال حسن الحال، وإن رأى أفعاله غير مسددة فيرجع إلى نفسه باللائمة والاتهام، فقد لاح له في مرآة أخيه سوء حاله، فالجدير أن يفر منه كفراره من الأسد، فإنهما إذا اصطحبا ازداد ظلمة واعوجاجاً، ثم إذا علم من صاحبه الذي مال إليه حسن الحال وحكم لنفسه بحسن الحال طالع ذلك في مرآة أخيه، فليعلم أن الميل بالوصف الأعم مركوز في جبلته، والميل بطريقه واقع، وله بحسبه أحكام، وللنفس بسببه سكون وركون، فيسلب الميل بالوصف الأعم جدوى الميل بالوصف الأخص، ويصير بين المتصاحبين استرواحات طبيعية وتلذذات جبلية لا يفرق بينها وبين خلوص الصحبة لله إلا العلماء الزاهدون، وقد ينفسد المريد الصادق بأهل الصلاح أكثر مما ينفسد بأهل الفساد، ووجه ذلك أن أهل الفساد علم فساد طريقهم فأخذ حذره، وأهل الصلاح غره صلاحهم فمال إليهم بجنسه الصلاحية، ثم حصل بينهم استرواحات طبيعية جبلية حالت بينهم وبين حقيقة الصحبة لله، فاكتسب من طريقهم الفتور في الطلب والتخلف عن بلوغ الأرب، فليتنبه الصادق لهذه الدقيقة ويأخذ من الصحبة أصفى الأقسام ويبذر منها ما يسد في وجهه المرام قال بعضهم: هل رأيت شراً قط إلا ممن تعرف، ولهذا المعنى أنكر طائفة من السلف الصحبة ورأوا الفضيلة في العزلة والوحدة(1/396)
كإبراهيم بن أدهم وداود الطائي وفضيل بن عياض وسليمان الخواص، وحكي عنه أنه قيل له: جاء إبراهيم بن أدهم أما تلقاه؟ قال: لأن ألقى سبعاً ضارياً أحب إلي من أن ألقى إبراهيم بن أدهم، قال: لأني إذا رأيته أحسن له كلامي وأظهر نفسي بإظهار أحسن أحوالها، وفي ذلك الفتنة، وهذا كلام عالم بنفسه وأخلاقها، وهذا واقع بين المتصاحبين إلا من عصمه الله تعالى.(1/397)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي إجازة، قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي، قال: أخبرنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق، قال: حدثنا سليمان بن الأشعث، قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَماً يَتْبَعُ بِها شِعَابَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ عَنِ الفِتَنِ" قال الله تعالى إخباراً عن خليله إبراهيم: {وأعتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وأدْعُو رَبي} قال أبو بكر الوراق: ما ظهرت الفتنة إلا بالخلطة من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وما سلم إلا من جانب الخلطة: وقيل السلامة عشرة أجزاء، تسعة في الصمت، وواحد في العزلة وقيل: الخلوة أصل.(1/398)
والخلطة عارض فليلزم الأصل، ولا يخالط إلا بقدر الحاجة، وإذا خالط لا يخالط إلا بحجة، وإذا خالط يلازم الصمت، فإنه أصل والكلام عارض، ولا يتكلم إلا بحجة، فخطر الصحبة كثير يحتاج العبد فيه إلى مزيد علم، والأخبار والآثار في التحذير عن الخلطة والصحبة كثيرة، والكتب بها مشحونة وأجمع الأخبار في ذلك: ما أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح بإسناده السابق إلى أبي سليمان، قال: حدثنا مسلم بن سليمان النجاد، قال: حدثنا محمد بن يونس الكريمي، قال: حدثنا محمد بن منصور الجشمي، قال: حدثنا مسلم بن سالم، قال: حدثنا السري بن يحيى عن الحسن عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُه إِلاَّ مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ وَمِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ وَمِنْ جُحْرٍ إِلَى جُحْرٍ كَالثَّعْلَبِ الَّذِي يَرُوغُ" قالوا: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: "إِذَا لَمْ تَنَلِ المَعِيشَةَ إِلاَّ بِمَعَاصِي الله، فَإِذَا كَانَ ذلِكَ الزَّمَانُ حَلَّتِ العُزُوبَةُ" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وقد أمرنا بالتزويج؟ قال: "إِنَّهُ إِذَاكَانَ ذلِكَ الزَّمَانُ كَانَ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ أَبَوَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ فَعَلَى يَدِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلاَ وَلَدٌ فَعَلَى يَدِ قَرَابَتِهِ" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يُعَيِّرُونَهُ بِضِيقِ المَعِيشَةِ فَيَتَكَلَّفُ مَا لاَ يُطِيقُ حَتَّى يُورِدُوهُ مَوَارِدَ الهَلاكِ".(1/399)
وقد رغب جمع من السلف في الصحبة والأخوة في الله ورأوا أن الله تعالى منَّ على أهل الإيمان حيث جعلهم إخواناً، فقال سبحانه وتعالى: {واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنعْمَتِهِ إخْواناً}{هُوَ الَّذي أيَّدَكَ بِنَصْرهِ وبالمُؤْمِنينَ وألَّفَ بيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جميعاً ما ألَّفْتَ بيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّه ألَّفَ بيْنَهُمْ} وفائدة الصحبة: أنها تفتح مسامّ الباطن، ويتكسب الإنسان بها علم الحوادث والعوارض: قيل: أعلم الناس بالآفات أكثرهم آفات، ويتصلب الباطن برزين العلم، ويتمكن الصدق بطروق هبوب الآفات، ثم التخلص منها بالإيمان، ويقع بطريق الصحبة والأخوة والتعاضد والتعاون، وتتقوى جنود القلب. وتستروح الأرواح بالتشام، وتتفق في التوجه إلى الرفيق الأعلى، ويصير مثالها في الشاهد كالأصوات إذا اجتمعت خرقت الأجرام، وإذا تفردت قصرت عن بلوغ المرام.
ورد في الخبر عن رسول الله: {المؤمن كثير بأخيه}.
وقال تعالى مخبراً عمن لا صديق له: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَميمٍ} وقال عمر: إذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك. وقد قال القائل:
وإذا صفا لك من زمانك واحد، فهو المراد وأين ذاك الواحد
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قال: يا داود، ما لي أراك منتبذاً وحدك؟ قال: إلهي، قليت الخلق من أجلك فأوحى الله إليه: يا داود، كن يقظاناً مرتاداً لنفسك إخواناً وكل خدن لا يوافق على مسرتي فلا تصحبه فإنه عدوّ يقسي قلبك ويباعدك مني.(1/400)
وقد ورد في الخبر: "إن أحبكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون فالمؤمن آلف مألوف" وفي هذا دقيقة: وهي أنه ليس من اختار العزلة والوحدة لله يذهب عنه هذا الوصف فلا يكون ألفاً مألوفاً، فإن هذه الإشارة من رسول الله إلى الخلق الجبلي، وهذا الخلق يكمل في كل من كان أتم معرفة ويقيناً وأوزن عقلاً وأتم أهلية واستعداداً، وكان أوفر الناس حظاً من هذا الوصف: الأنبياء ثم الأولياء، وأتم الجميع في هذا: نبينا صلوات الله عليه، وكل من كان من الأنبياء أتم ألفة كان أكثر تبعاً، ونبينا كان أكثرهم ألفة وأكثرهم تبعاً، وقال: "تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ" وقد نبه الله تعالى على هذا الوصف من رسول الله فقال: {وَلُوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَولِكَ} وكان بشر بن الحارث يقول: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله تعالى من يؤنسه، فالأنيس يهيئه الله للصادقين رفقاً من الله تعالى وثواباً للعبد معجلاً، والأنيس قد يكون مفيداً كالمشايخ وقد يكون مستفيداً كالمريدين، فصحيح الخلوة والعزلة لا يترك من غير أنيس، فإن كان قاصراً يؤنسه الله بمن يتم حاله به، وإن كان غير قاصر يقيض الله تعالى من يؤنسه من المريدين، وهذا الأنس ليس فيه ميل بالوصف الأعم بل هو باللهومن الله وفي الله.(1/401)
وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال: "المُتَحَابُّونَ فِي الله عَلَى عَمُودٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي رَأْسِ العَمُودِ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ مُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ يُضِيءُ حُسْنُهُمْ لأَهْلِ الجَنَّةِ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لأَهْلِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ أَهْلُ الدُّنْيَا: انْطَلِقُوا بِنا نَنْظُرْ إِلَى المُتَحَابينَ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا أَشْرَفُوا عَلَيْهِمْ أَضَاءَ حُسْنُهُمْ لأَهْلِ الجَنَّةِ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لأَهْلِ الدُّنْيَا، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ، مَكْتُوبٌ عَلَى جِبَاهِهِمْ: هؤُلاءِ المُتَحَابُّونَ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ". وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ: إني أحبك في الله، فقال له: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله يقول: "يُنْصَبُ لِطَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَرَاسِيُّ حَوْلَ العَرْشِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ. يَفْزَعُ النَّاسُ وَلا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلا يَخَافُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"، فقيل: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: "المُتَحَابُّونَ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ".
وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله قال: "يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابينَ فِيَّ وَالمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالمُتَصَدِّقِينَ فِيَّ".(1/402)
أخبرنا الشيخ أبو الفتح محمد بن عبد الباقي إجازة، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن خيرون، قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله المحاملي، قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن جعفر بن محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، قال: حدثنا حماد بن يحيى بن سعيد بن المسيب أن رسول الله قال: أَلاَ أُخُبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟" قالوا: وما هو؟ قال: "إِصْلاحُ ذَاتِ البيْنِ، وَإِيَّاكُمْ وَالبِغْضَةَ فَإِنَّها هِيَ الحَالِقَةُ" وبإسناد إبراهيم الحربي عن عبد الله بن عمر عن أبي أسامة عبد الله بن الوليد عن عمران بن رباح قال: سمعت أبا مسلم يقول: سمعت أبا هريرة يقول الخبر؛ وفي الخبر تحذير عن البغضة: وهو أن يجفو المختلي الناس مقتاً لهم وسوء ظن بهم، وهذا خطأ، وإنما يريد أن يخلو مقتاً لنفسه وعلماً بما في نفسه من الآفات، وحذراً على نفسه من نفسه، وعلى الخلق أن يعود عليهم من شره؛ فمن كان خلوته بهذا الوصف لا يدخل تحت هذا الوعيد، والإشارة بالحالقة، يعني أن البغضة حالقة للدين. لأنه نظر إلى المؤمنين المسلمين بعين المقت.
وأخبرنا الشيخ أبو الفتح بإسناده إلى إبراهيم الحربي، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو عاصم عن ثور عن خالد بن معدان وقال: إن الله تعالى ملكاً نصفه من نار ونصفه من ثلج، وإن من دعائه اللهم فكما ألفت بين هذا الثلج وهذه النار فلا الثلج يطفىء النار ولا النار تذيب الثلج، ألف بين قلوب عبادك الصالحين.
وكيف لا تتألف قلوب الصالحين وقد وجدهم رسول الله في وقته العزيز بقاب قوسين في وقت لا يسعه فيه شيء للطف حال الصالحين وجدهم في ذلك المقام العزيز وقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فهم مجتمعون وإن كانوا متفرقين، وصحبتهم لازمة، وعزيمتهم في التواصل في الدنيا والآخرة جازمة.(1/403)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن رجلاً صام النهار وقام الليل وتصدق وجاهد ولم يحب في الله ولم يبغض فيه ما نفعه ذلك.
أخبرنا رضي الدين بن إسماعيل بن يوسف إجازة إن لم يكن سماعاً، قال: أخبرنا أبو المظفر عن والده أبي القاسم القشيري قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن المعلم يقول: سمعت أبا بكر التلمساني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله، لتوصلكم بركة صحبتهم إلى صحبة الله.
وأخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إجازة. قال: أخبرنا عمر بن أحمد الصفار النيسابوري إجازة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أبا نصر الأصفهاني يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: سمعت علي بن سهل يقول: الأنس بالله تعالى أن تستوحش من الخلق إلا من أهل ولاية الله؛ فإن الأنس بأهله ولاية الله هو الأنس بالله.
وقد نبه القائل نظماً على حقيقة جامعة لمعاني الصحبة والخلوة وفائدتهما وما يحذر فيهما بقوله:
وحدة الإنسان خيرٌ >< من جليس السوء عندهْ
وجليس الخير خيرٌ >< من قعود المرء وحدهْ
{الباب الرابع والخمسون}: في أداء حقوق الصحبة والأخوة في الله تعالى(1/404)
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوى}{وَتَواصَوْا بالحَقِّ وتَواصَوْا بالمَرْحَمةِ}{أشِدّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بيْنَهُمْ}{الأخِلاَّء يَوْمَئذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ}{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يقُولُ يا لَيْتَني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً يَا ويلتى لَيْتَني لَمْ أتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في كلام له: وهل يفسد الناس إلا الناس؛ فالفساد بالصحبة متوقع، والصلاح متوقع، وما هذه سبيله كيف لا يحذر في أوله ويحكم الأمر فيه بكثرة اللجأ إلى الله تعالى وصدق الاختيار وسؤال البركة والخيرة في ذلك وتقدم صلاة الاستخارة.
ثم إن اختيار الصحبة والأخوة عمل، وكل عمل يحتاج إلى النية وإلى حسن الخاتمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الخبر الطويل: "سبعة يظلهم الله تعالى... فمنهم: اثنان تحابا في الله فعاشا على ذلك وماتا عليه" إشارة إلى أن الأخوة والصحبة من شرطهما حسن الخاتمة حتى يكتب لهما ثواب المؤاخاة، ومتى أفسد المؤاخاة بتضييع الحقوق فيها فسد العمل من الأول.
قيل: ما حسد الشيطان متعاونين على بر حسده متآخيين في الله متحابين فيه، فإنه يجهد نفسه ويحث قبيله على إفساد ما بينهما.
وكان الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة ارتفعت الأخوة، والأخوة في الله تعالى مواجهة، قال الله: {إخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ} قال الجنيد رحمه الله: ما تواخى اثنان في الله واستوحش أحدهما إلا لعلة في أحدهما.
فالمؤاخاة في الله أصفى من المال الزلال، وما كان لله فالله مطالب بالصفاء فيه وكل ما صفا دام، والأصل في دوام صفائه عدم المخالفة: قال رسول الله: "لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحْهُ وَلاَ تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ".(1/405)
قال أبو سعيد الخراز: صحبت الصوفية خمسين سنة ما وقع بيني وبينهم خلاف. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني كنت معهم على نفسي.
أخبرنا شيخنا أبو النجيب السهروردي إجازة، قال أخبرنا عمر بن أحمد الصفار، قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن خلف قال أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الله الداراني قال: سمعت أبا عمرو الدمشقي الرازي يقول سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول وقد سأله رجل: على أي شرط أصحب الخلق؟ فقال: إن لم تبرهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرهم فلا تسؤهم.
وبهذا الإسناد قال أبو عبد الله: لا تضيع حق أخيك بما بينك وبينه من المودة والصداقة، فإن الله تعالى فرض لكل مؤمن حقوقاً لم يضيعها إلا من لم يراع حقوق الله عليه.
ومن حقوق الصحبة: أنه إذا وقع فرقة ومباينة لا يذكر أخاه إلا بخير.
وقيل: كان لبعضهم زوجة وكان يعلم منها ما يكره، فكان يقال له استخباراً عن حالها فيقول: لا ينبغي للرجل أن يقول في أهله إلا خيراً، ففارقها وطلقها، فاستخبر عن ذلك فقال: امرأة بعدت عني وليست مني في شيء كيف أذكرها؟
وهذا من التخلق بأخلاق الله أنه سبحانه يظهر الجميل ويستر القبيح.(1/406)
وإذا وجد من أحدهما ما يوجب التقاطع فهل يبغضه أو لا؟ اختلف القول في ذلك، كان أبو ذر يقول: إذا انقلب عما كان عليه أبغضه من حيث أحببته. وقال غيره لا يبغض الأخ بعد الصحبة ولكن يبغض عمله، قال الله تعالى لنبيه: {فإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَريءٌ ممَّا تَعْمَلُونَ} قيل: الصداقة لحمة كلحمة النسب. وقيل لحكيم مرة: أيما أحب إليك، أخوك أو صديقي؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي، وهذا الخلاف في المفارقة ظاهراً أو باطناً. وأما الملازمة باطناً إذا وقعت المباينة ظاهراً فتختلف باختلاف الأشخاص، ولا يطلق القول فيه إطلاقاً من غير تفصيل، فمن الناس من كان تغيره رجوعاً عن الله وظهور حكم سوء السابقة، فيجب بغضه وموافقة الحق فيه. ومن الناس من كان تغيره عثرة حدثت وفترة وقعت يرجى عوده فلا ينبغي أن يبغض عمله في الحالة الحاضرة، ويلحظ بعين الود منتظراً له الفرج والعود إلى أوطان الصلح، فقد ورد: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما شتم القوم الرجل الذي أتى بفاحشة قال: "مه" وزجرهم بقوله: "ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم".
وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب يذنبه، فإنه يركبه اليوم ويتركه غداً.
وفي الخبر "اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته".(1/407)
وروي أن عمر رضي الله عنه سأل عن أخ له كان آخاه فخرج إلى الشام، فسأل عنه بعض من قدم عليه فقال: ما فعل أخي؟ فقال له: ذاك أخو الشيطان. قال له: مه، قال له: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر، فقال: إذا أردت الخروج فآذنّي، قال: فكتب إليه: {حم تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزيزِ العَليمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} وروي أن رسول الله رأى ابن عمر يلتفت يميناً وشمالاً فسأله فقال: يا رسول الله، آخيت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه، فقال: "يا عبد الله، إذا آخيت أحداً فاسأله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله، فإن كان مريضاً عدته، وإن كان مشغولاً أعنته".
وكان يقول ابن عباس رضي الله عنه: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة تكون له فعلمت ما مكافأته في الدنيا.
وكان يقول سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له.
وعلامة خلوص المحبة لله تعالى: أن لا يكون فيها شائبة حظ عاجل من رفق أو إحسان، فإن ما كان معلولاً يزول بزوال علته، ومن لا يستند في خلته إلى علة يحكم بدوام خلته.
ومن شرط الحب في الله إيثار الأخ بكل ما يقدر عليه من أمر الدين والدنيا. قال الله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً ممَّا أوتُوا ويؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً}{لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أي لا يحسدون إخوانهم على مالهم، وهذان الوصفان بهما يكمل صفو المحبة، أحدهما انتزاع الحسد على شيء من أمر الدين والدنيا. والثاني: الإيثار بالمقدور. وفي الخبر عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام: "المرء على دين خليله ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه".
وكان يقول أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني. قيل: وكيف ذلك؟ قال: كلهم يرى لي الفضل عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني.(1/408)
ولبعضهم نظماً:
تذلل لمن إن تذللت له >< يرى ذاك للفضل لا للبله
وجانب صداقة من لم يزل >< على الأصدقاء يرى الفضل له
{الباب الخامس والخمسون}: في آداب الصحبة والأخوة
سئل أبو حفص عن أدب الفقراء في الصحبة. فقال: حفظ حرمات المشايخ، وحسن العشرة مع الإخوان، والنصيحة للأصاغر، وترك صحبة من ليس في طبقتهم، وملازمة الإيثار، ومجانبة الادخار، والمعاونة في أمر الدين والدنيا.
فمن أدبهم: التغافل عن زلل الإخوان، والنصح فيما يجب فيه النصيحة، وكتم عيب صاحبه، وإطلاعه على عيب يعلم منه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي. وهذا فيه مصلحة كلية تكون للشخص ممن ينبهه على عيوبه. قال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه، فإن الصادق يحب من يصدقه، والكاذب لا يحب الناصح. قال الله تعالى: {ولَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ}.
ومن آداب الصوفية: القيام بخدمة الإخوان واحتمال الأذى منهم، فبذلك يظهر جوهر الفقير. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كان في دار العباس بن عبد المطلب إلى الطريق بين الصفا والمروة، فقال له العباس: قلعت ما كان رسول الله وضعه بيده، فقال: إذن لا يرده إلى مكانه غير يدك، ولا يكون لك سلم غير عاتق عمر، فأقامه على عاتقه ورده إلى موضعه.
ومن أدبهم: أن لا يرون لنفسهم ملكاً يختصون به، قال إبراهيم بن شيبان: كنا لا نصحب من يقول نعلي.
أخبرنا بذلك رضي الدين عن أبي المظفر عن والده أبي القاسم القشيري قال: سمعت أبا حاتم الصوفي قال: سمعت أبا نصر السراج يقول ذلك. وقال أحمد بن القلانسي: دخلت على قوم من الفقراء يوماً بالبصرة فأكرموني وبجلوني فقلت يوماً لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.(1/409)
وكان إبراهيم ابن أدهم إذا صحبه إنسان شارطه على ثلاثة أشياء: أن تكون الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا كيدهم فقال رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا. فقال: أعجبني صدقك.
وكان إبراهيم بن أدهم ينظر البساتين ويعمل في الحصاد وينفق على أصحابه.
وكان من أخلاق السلف: أن كل من احتاج إلى شيء من مال أخيه استعمله من غير مؤامرة. قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بيْنَهُمْ} ومن أدبهم أنهم إذا استثقلوا صاحباً يتهمون أنفسهم ويتسببون في إزالة ذلك من بواطنهم، لأن انطواء الضمير على مثل ذلك للمصاحب وليجة في الصحبة.
قال أبو بكر الكتاني: صحبني رجل وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت له شيئاً بنية أن يزول ثقله من قلبي، فلم يزل، فخلوت به يوماً وقلت له: ضع رجل على خدي، فأبى، فقلت له: لا بد من ذلك، ففعل ذلك فزال ما كنت أجده في باطني.
قال الرقي: قصدت من الشام إلى الحجاز حتى سألت الكتاني عن هذه الحكاية.
ومن أدبهم: تقديم من يعرفون فضله والتوسعة له في المجلس والإيثار بالموضع روي أن رسول الله كان جالساً في صفة ضيقة، فجاءه قوم من البدريين، فلم يجدوا موضعاً يجلسون فيه، فأقام رسول الله من لم يكن من أهل بدر فجلسوا مكانهم، فاشتدّ ذلك عليهم فأنزل الله تعالى: {وإذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا...} وحكي أن علي ابن بندار الصوفي ورد على أبي عبد الله بن خفيف زائراً فتماشيا، فقال له أبو عبد الله: تقدم، فقال: بأي عذر؟ فقال: بأنك لقيت الجنيد وما لقيته.(1/410)
ومن أدبهم: ترك صحبة من همه شيء من فضول الدنيا: قال الله تعالى: {فَأعْرِضْ عَمَّنْ تَولَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يردْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنيا} ومن أدبهم: بذل الإنصاف للإخوان وترك مطالبة الإنصاف: قال أبو عثمان الحيري: حق الصحبة أن توسع على أخيك من مالك ولا تطمع في ماله، وتنصفه من نفسك ولا تطلب منه الإنصاف، وتكون تبعاً له ولا تطمع أن يكون تبعاً لك وتستكثر ما يصل إليك منه وتستقل ما يصل إليه منك.
ومن أدبهم في الصحبة: لين الجانب وترك ظهور النفس بالصولة: قال أبو علي الروذباري: الصولة على من فوقك قحة، وعلى من مثلك سوء أدب، وعلى من دونك عجز.
ومن أدبهم: أن لا يجري في كلامهم: لو كان كذا لم يكن كذا وليت كان كذا عسى أن يكون كذا، فإنهم يرون هذه التقديرات عليه اعتراضاً.
ومن أدبهم في الصحبة: حذر المفارقة والحرص على الملازمة، قيل: صحب رجل رجلاً ثم أراد المفارقة، فأستأذن صاحبه فقال: بشرط أن لا تصحب أحداً إلا إذا كان فوقنا، وإن كان فوقنا أيضاً فلا تصحبه لأنك صحبتنا أولاً، فقال الرجل: زال عن قلبي نية المفارقة.
ومن أدبهم: التعطف على الأصاغر. قيل: كان إبراهيم بن أدهم في الحصاد ويطعم الأصحاب، وكانوا يجتمعون بالليل وهم صيام وربما كان يتأخر في بعض الأيام في العمل؛ فقالوا ليلة: تعالوا نأكل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا يسرع؛ فأفطروا وناموا، فرجع إبراهيم فوجدهم نياماً، فقال: مساكين لعلهم لم يكن لهم طعام، فعمد إلى شيء من الدقيق فعجنه، فانتبهوا وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً فنمتم، فقالوا: انظروا بأي شيء عاملناه وبأي شيء يعاملنا.
ومن أدبهم: أن لا يقولوا عند الدعاء إلى أين؟ وبأي سبب؟ قال بعض العلماء: إذا قال الرجل للصاحب: قم بنا، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه: وقال آخر: من قال لأخيه أعطني من مالك فقال: كم تريد؟ ما قام بحق الإخاء وقد قال الشاعر:(1/411)
لا يسألون أخاهم حين يندبهم >< للنائبات على ما قال برهانا.
ومن أدبهم: أن لا يتكلفوا للإخوان قيل: لما ورد أبو حفص العراق تكلف له الجنيد أنواعاً من الأطعمة؛ فأنكر ذلك أبو حفص وقال: صير أصحابي مثل المخانيث يقدم لهم الألوان.
والفتوة عندنا ترك التكلف وإحضار ما حضر؛ فإن بالتكلف ربما يؤثر مفارقة الضيف، وبترك التكلف يستوي مقامه وذهابه.
ومن أدبهم في الصحبة: المداراة وترك المداهنة، وتشبه المداراة المداهنة والفرق بينهم: أن المداراة ما أردت به صلاح أخيك فداريته لرجاء صلاحه واحتملت منه ما تكره. والمداهنة: ما قصد به شيئاً من الهوى من حظ أو إقامة جاه.
ومن أدبهم في الصحبة: رعاية الاعتدال بين الانقباض والانبساط: نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الانقباض عن الناس مكسبة لعداواتهم، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
ومن أدبهم: ستر عورات الإخوان: قال عيسى عليه السلام لأصحابه: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً فكشف الريح عن ثوبه قالوا: نستره ونغطيه، فقال: بل تكشفون عورته قالوا: سبحان الله من يفعل هذا؟ قال: أحدكم يسمع في أخيه بالكلمة فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها.
ومن أدبهم: الاستغفار بظهر الغيب، والاهتمام لهم مع الله تعالى في دفع المكاره عنهم.
حكي أن أخوين ابتلي أحدهما بهوى فأظهر عليه أخاه فقال: إني ابتليت بهوى فإن شئت أن لا تعقد على محبتي لله فافعل، فقال: ما كنت لأحل عقد إخائك لأجل خطيئتك، وعقد بينه وبين الله عقداً لا يأكل ولا يشرب حتى يعافيه الله تعالى من هواه، وطوى أربعين يوماً كلما يسأله عن هواه، يقول: ما زال، فبعد الأربعين أخبره أن الهوى قد زال، فأكل وشرب.(1/412)
ومن أدبهم: أن لا يحوجوا صاحبهم إلى المداراة ولا يلجئوه إلى الاعتذار ولا يتكلفوا للصاحب ما يشق عليه، بل يكونوا للصاحب من حيث هو مؤثرين مراد الصاحب على مراد أنفسهم. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شر الأصدقاء من أحوجك إلى مداراة أو ألجأك إلى اعتذار أو تكلفت له.
وقال جعفر الصادق: أثقل إخواني علي من يتكلف لي وأتحفظ منه وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي؛ فآداب الصحبة وحقوق الأخوة كثيرة، والحكايات في ذلك يطول نقلها. وقد رأيت في كتاب الشيخ أبي طالب المكي رحمه الله من الحكايات في هذا المعنى شيئاً كثيراً؛ فقد أودع كتابه كل شيء حسن من ذلك وحاصل الجميع: أن العبد ينبغي له أن يكون لمولاه ويريد كل ما يريد لمولاه لا لنفسه، وإذا صاحب شخصاً تكون صحبته إياه لله تعالى، وإذا صحبه لله تعالى يجتهد في كل شيء يزيده عند الله زلفى، وكل من قام بحقوق الله تعالى يرزقه الله تعالى علماً بمعرفة النفس وعيوبها، ويعرّفه محاسن الأخلاق ومحاسن الآداب، ويوقفه من أداء الحقوق على بصيرة ويفقهه في ذلك كله، ولا يفوته شيء مما يحتاج إليه فيما يرجع إلى حقوق الحق، وفيما يرجع إلى حقوق الخلق، فكل تقصير يوجد من خبث النفس وعدم تزكيتها وبقاء صفاتها عليه، فإن صحبت ظلمت بالإفراط تارة وبالتفريط أخرى، وتعدت الواجب فيما يرجع إلى الحق والخلق، والحكايات والمواعظ والآداب وسماعها لا يعلم في النفس زيادة تأثير، ويكون كبئر يقلب فيه الماء من فوق فلا يمكث فيه ولا ينتفع به، وإذا أخدت بالتقوى والزهد في الدنيا نبع منها ماء الحياء وتفقهت وعلمت وأدت الحقوق وقامت بواجب الآداب بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
{الباب السادس والخمسون}: في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية في ذلك(1/413)
حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا الشريف نور الهدى أبو طالب الزيني، قال: أخبرنا كريمة المروزية، قالت: أخبرنا أبو الهيثم الكشميهني قال: أخبرنا أبو عبد الله الفربري، قال: أخبرنا أبو عبد الله البخاري، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا زيد بن وهب، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله تعالى إليه ملكاً بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار".(1/414)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلةٍ مِنْ طِينٍ ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ}{ثُمَّ أنشأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} واعلم أن الكلام في الروح صعب المرام والإمساك عن ذلك سبيل ذوي الأحلام، وقد عظم الله تعالى شأن الروح وأسجل على الخلق بقلة العلم حيث قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَليلاً} {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بني آدَمَ} وروي: أنه لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان، فمع هذه الكرامة واختياره سبحانه وتعالى إياهم على الملائكة لما أخبر عن الروح أخبر عنهم بقلة العلم. وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبي...}{كَانَتْ أعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْري وكَانوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}{وقَالُوا قُلُوبُنَا في أكِنَّةٍ ممَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وفي آذانِنَا وقْرٌ ومِنْ بيْنِنَا وَبيْنكَ حِجَابٌ} وأما المستمسكون بالشرائع الذين تكلموا في الروح؛ فقوم منهم بطريق الاستدلال والنظر، وقوم منهم بلسان الذوق والوجد لا باستعمال الفكر، حتى تكلم في ذلك مشايخ الصوفية أيضاً، وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد قال الجنيد: الروح شيء استأثر الله بعلمه ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود، ولكن نجعل للصادقين محملاً لأقوالهم وأفعالهم.
ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة، حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسع القول في التفسير إلا نقل. وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما تحتمل الآية من المعنى من غير القطع بذلك، وإذا كان الأمر كذلك فللقول فيه وجه ومحمل.(1/415)
قال أبو عبد الله النباجي: الروح جسم يلطف عن الحس ويكبر عن اللمس ولا يعبر عنه بأكثر من موجود، وهو إن منع عن العبارة فقد حكم بأنه جسم؛ فكأنه عبر عنه.
وقال ابن عطاء الله: خلق الله الأرواح قبل الأجساد، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني الأرواح. {ثمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} وقال بعضهم: الروح لطيف قائم في كثيف، كالبصر جوهر لطيف قائم في كثيف. وفي هذا القول نظر. وقال بعضهم: الروح عبارة والقائم بالأشياء هو الحق، وهذا فيه نظر أيضاً إلا أن يحمل على معنى الإحياء؛ فقد قال بعضهم: الإحياء صفة المحيي، كالتخليق صفة الخالق وقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبي} وأمره كلامه، وكلامه ليس بمخلوق: أي صار الحي حياً بقوله: كن حياً؛ وعلى هذا لا يكون الروح معنى في الجسد، فمن الأقوال ما يدل على أن قائله يعتقد قدم الروح، ومن الأقوال ما يدل على أنه يعتقد حدوثه.
ثم إن الناس مختلفون في الروح الذي سئل رسول الله عنه، فقال قوم: هو جبرائيل. ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، ولكل وجه منه سبعون ألف لسان، ولكل لسان منه سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، ويخلق من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن الروح خلق من خلق الله صورهم على صورة بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح.
وقال أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس.(1/416)
وقال مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقاً من الروح غير العرش، ولو شاء أن يبلغ السموات والأرض السبع في لقمة لعمل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة الآدميين، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش والملائكة معه في صف واحد. وهو من يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لحرق أهل السموات من نوره؛ فهذه الأقاويل لا تكون إلا نقلاً وسماعاً بلغهم عن رسول الله ذلك، وإذا كان الروح المسؤول عنه شيئاً من هذا المنقول فهو غير الروح الذي في الجسد؛ فعلى هذا يسوغ القول في هذا الروح ولا يكون الكلام فيه ممنوعاً.
وقال بعضهم: الروح لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره.
وقال بعضهم: الروح لم يخرج من "كن" لأنه لو خرج من "كن" كان عليه الذل. قيل: فمن أي شيء خرج؟ قال: من بين جماله وجلاله وسبحانه وتعالى بملاحظة الإشارة خصها بسلامه وحياها بكلامه؛ فهي معتقة من ذل "كن".(1/417)
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم، ولولا ذلك ما أقرت بالربوبية، حيث قال: "بلى" والروح هي التي قام بها البدن واستحق بها اسم الحياة، وبالروح ثبت العقل، وبالروح قامت الحجة؛ ولو لم يكن الروح كان العقل معطلاً لا حجة عليه ولا له، وقيل: إنها جوهر مخلوق ولكنها ألطف المخلوقات وأصفى الجواهر وأنوارها، وبها تتراءى المغيبات وبها يكون الكشف لأهل الحقائق، وإذا حجبت الروح عن مراعاة السير أساءت الجوارح الأدب، ولذلك صارت الروح بين تجلّ واستتار وقابض ونازع، وقيل: الدنيا والآخرة عند الأرواح سواء، وقيل الأرواح أقسام: أرواح تجول في البرزخ وتبصر أحوال الدنيا والملائكة وتسمع ما تتحدث به في السماء عن أحوال الآدميين وأرواح تحت العرش، وأرواح طيارة إلى الجنان وإلى حيث شاءت على أقدارها من السعي إلى الله أيام الحياة.
وروى سعيد ابن المسيب عن سلمان قال: أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حتى يردها إلى جسدها.
وقيل: إذا ورد على الأرواح ميت من الأحياء التقوا وتحدثوا وتساءلوا، ووكل الله بها ملائكة تعرض عليها أعمال الأحياء، حتى إذا عرض على الأموات ما يعاقب به الأحياء في الدنيا من أجل الذنوب قالوا: نعتذر إلى الله ظاهراً عنه، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى. وقد ورد في الخبر عن النبي: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ عَلَى الله، وَتُعْرَضُ عَلَى الأَنْبيَاءِ وَالآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بيَاضاً وَإِشْرَاقاً" فاتقوا الله تعالى ولا تؤذوا موتاكم.
وفي خبر آخر: "إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الموتى، فإن كان حسناً استبشروا، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا".
وهذه الأخبار والأقوال تدل على أنها أعيان في الجسد، وليست بمعان وأعراض.(1/418)
سئل الواسطي: لأي علة كان رسول الله أحلم الخلق؟ قال: لأنه خلق روحه أولاً فوقع له صحبة التمكين والاستقرار، ألا تراه يقول: "كُنْتُ نَبيّاً وَآدَمُ بيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ" أي لم يكن روحاً ولا جسداً وقال بعضهم: الروح خلق من نور العزة، وإبليس من نار العزة، ولهذا قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والمختار عند أكثر متكلمي الإسلام: أن الإنسانية والحيوانية خلقا في الإنسان، والموت يعدمهما؛ وأن الروح هي الحياة بعينها صار البدن بوجودها حياً: وبالإعادة إليه في القيامة يصير حياً. وذهب بعض متكلمي الإسلام إلى أنه جسم مشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو اختيار أبي المعالي الجويني، وكثير منهم مال إلى أنه عرض؛ إلا أنه ردهم عن ذلك الأخبار الدالة على أنه جسم، لما ورد فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ، فحيث وصف بأوصاف دل على أنه جسم، لأن العرض لا يوصف بأوصاف؛ إذ الوصف معنى والمعنى لا يقوم بالمعنى. واختار بعضهم أنه عرض.
سئل ابن عباس رضي الله عنهما قيل: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان، قيل له: فأين تذهب الجسوم إذا بليت. قال: فأين يذهب لحمها إذا مرضت.
وقال بعض من يتهم بالعلوم المردودة المذمومة وينسب إلى الإسلام: الروح تنفصل عن البدن في جسم لطيف.(1/419)
وقال بعضهم: إنها إذا فارقت البدن تحل معها القوة الوهمية بتوسط النطقية، فتكون حينئذ مطالعة للمعاني والمحسوسات، وإن تجردها من هيئات البدن عن المفارقة غير ممكن، وهي عند الموت شاعرة بالموت وبعد الموت؛ متخيلة بنفسها مقبورة، وتتصور جميع ما كانت تعتقده حال الحياة، وتحس بالثواب والعقاب في القبر. وقال بعضهم: أسلم المقالات أن يقال: الروح شيء مخلوق أجرى الله تعالى العادة أن يحيى البدن ما دام متصلاً به، وإنه أشرف من الجسد يذوق الموت بمفارقة الجسد، كما أن الجسد بمفارقته يذوق الموت، فإن الكيفية والماهية يتعاشى العقل فيهما كما يتعاشى البصر في شعاع الشمس. ولما رأى المتكلمون أنه يقال لهم: الموجودات محصورة: قديم، وجسم، وجوهر، وعرض فالروح من أي هؤلاء؟ فاختار قوم منهم أنه عرض. وقوم منهم أنه حسن لطيف كما ذكرنا، واختار قوم أنه قديم لأنه أمر والأمر كلام قديم، فما أحسن الإمساك عن القول فيما هذا سبيله. وكلام الشيخ أبي طالب المكي في كتابه يدل على أنه يميل إلى أن الأرواح أعيان في الجسد، وهكذا النفوس، لأنه يذكر أن الروح تتحرك للخير، ومن حركتها يظهر نور في القلب يراه الملك فيلهم الخير عند ذلك. وتتحرك للشر، ومن حركتها تظهر ظلمة في القلب فيرى الشيطان الظلمة فيقبل بالإغواء.(1/420)
وحيث وجدت أقوال المشايخ تشير إلى الروح أقول: ما عندي في ذلك على معنى ما ذكرت من التأويل دون أن أقطع به، إذ ميلي في ذلك إلى السكوت والإمساك، فأقول والله أعلم: الروح الإنساني العلوي السماوي من عالم الأمر، والروح الحيواني البشري من عالم الخلق، والروح الحيواني البشري محل الروح العلوي ومورده، والروح الحيواني جسماني لطيف وحامل لقوة الحس والحركة، ينبعث من القلب أعني بالقلب ههنا المضغة اللحمية المعروفة الشكل المودعة في الجانب الأيسر من الجسد، وينتشر في تجاويف العروق والضوارب، وهذه الروح لسائر الحيوانات، ومنه تفيض قوى الحواس وهو الذي قوامه بإجراء سنة الله بالغذاء غالباً ويتصرف بعلم الطب فيه باعتدال مزاج الأخلاط ولو ورد الروح الإنساني العلوي على هذا الروح تجنس الروح الحيواني وباين أرواح الحيوانات، واكتسب صفة أخرى فصار نفساً محلاً للنطق والإلهام. قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فألْهَمَهَا فُجُورها وتَقْواها}{وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إليْها}"القُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَسْوَدُ مَنْكُوسٌ فَذلِكَ قَلْبُ الكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلافِهِ فَذلِكَ قَلْبُ المُنَافِقِ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الإِيمَانِ فِيهِ مَثَلُ البَقْلَةِ يُمِدُّهَا المَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ كَمَثَلِ القَرْحَةِ يَمُدُّهَا القَيْحُ وَالصَّدِيدُ، فَأَيُّ المَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ حُكِمَ لَهُ بِها".(1/421)
والقلب المنكوس ميال إلى الأم التي هي النفس الأمارة بالسوء ومن القلوب قلب متردد في ميله إليها، وبحسب غلبة ميل القلب يكون حكمه من السعادة والشقاوة، والعقل جوهر الروح العلوي ولسانه والدال عليه، وتدبيره للقلب المؤيد والنفس الزكية المطمئنة تدبير الوالد للولد البارّ، والزوج للزوجة الصالحة؛ وتدبيره للقلب المنكوس والنفس الأمارة بالسوء تدبير الوالد للولد العاق، والزوج للزوجة السيئة؛ فمنكوس من وجه ومنجذب إلى تدبيرهما من وجه؛ إذ لا بد له منهما.
وقول القائلين واختلافهم في محل العقل: فمن قائل إن محله الدماغ، ومن قائل إن محله القلب كلام القاصرين عن درك حقيقة ذلك، واختلافهم في ذلك لعدم استقرار العقل على نسق واحد، وانجذابه إلى البار تارة وإلى العاق أخرى وللقلب والدماغ نسبة إلى البارّ والعاق، فإذا رئي في تدبير العاق قيل مسكنه الدماغ، وإذا رئي في تدبير البارّ قيل مسكنه القلب، فالروح العلوي يهم بالارتفاع إلى مولاه شوقاً وحنواً وتنزهاً عن الأكوان، ومن الأكوان القلب والنفس؛ فإذا ارتقى الروح يحنو القلب إليه حنوّ الولد الحنين البارّ إلى الوالد، وتحن النفس إلى القلب الذي هو الولد حنين الوالدة الحنينة إلى ولدها، وإذا حنت النفس ارتقت من الأرض وانزوت عروقها الضاربة في العالم السفلي وانطوى هواها وانحسمت مادته وزهدت في الدنيا وتجافت عن دار الغرور وأنابت إلى دار الخلود، وقد تجلد النفس التي هي الأم إلى الأرض بوضعها الجبلي لتكونها من الروح الحيواني المجنس ومستندها في ركونها إلى الطبائع التي هي أركان العالم السفلي. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبعَ هَوَاهُ}{ذلِكَ تَقْدِيرُ العَزيزِ العَليمِ} وقد ورد في أخبار داود عليه السلام أنه سأل ابنه سليمان: أين موضع العقل منك؟ قال: القلب؛ لأنه قالب الروح، والروح قالب الحياة.(1/422)
وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان روح الحياة وروح الممات؛ فإذا اجتمعا عقل الجسم. وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد يصير الحي ميتاً، وروح الحياة ما به مجاري الأنفاس وقوّة الأكل والشرب وغيرها.
وقال بعضهم: الروح نسيم طيب يكون به الحياة، والنفس ريح حارة تكون منها الحركات المذمومة والشهوات ويقال: فلان حار الرأس وفي الفصل الذي ذكرناه يقع التنبيه بماهية النفس، وإشارة المشايخ بماهية النفس إلى ما يظهر من آثارها من الأفعال المذمومة والأخلاق المذمومة، وهي التي تعالج بحسن الرياضة وإزالتها وتبديلها، والأفعال الرديئة تزال والأخلاق الرديئة تبدّل.
أخبرنا الشيخ العالم رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني، قال: أخبرنا إجازة أبو سعيد محمد بن أبي العباس الخليلي، قال: أخبرنا القاضي محمد بن سعيد الفرخزادي، قال: أخبرنا أبو إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الله السفياني، قال: حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن رسول الله كان إذا قرأ هذه الآية: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} <اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا أَنْتَ وَلِيُّها وَمَولاَها وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها>.(1/423)
وقيل: النفس لطيفة مودعة في القالب، منها الأخلاق والصفات المذمومة، كما أن الروح لطيفة مودعة في القلب، منها الأخلاق والصفات المحمودة، كما أن العين محل الرؤية، والأذن محل السمع، والأنف محل الشم، والفم محل الذوق، وهكذا النفس محل الأوصاف المذمومة والروح محل الأوصاف المحمودة، وجميع أخلاق النفس وصفاتها من أصلين، أحدهما: الطيش، والثاني: الشره، وطيشها من جهلها، وشرهها من حرصها، وشبهت النفس في طيشها بكرة مستديرة على مكان أملس مصوب، لا تزال متحركة بجبلتها ووضعها، وشبهت في حرصها بالفراش الذي يلقي نفسه على ضوء المصباح ولا يقنع بالضوء اليسير دون الهجوم على جرم الضوء الذي فيه هلاكه، فمن الطيش توجه العجلة وقلة الصبر، والصبر جوهر العقل، والطيش صفة النفس، وهواها وروحها لا يغلبه إلا الصبر، إذ العقل يقمع الهوى، ومن الشره يظهر الطمع والحرص، وهما اللذان ظهرا في آدم حيث طمع في الخلود، فحرص على أكل الشجرة.
وصفات النفس لها أصول من أصل تكونها، لأنها مخلوقة من تراب، ولها بحسبه وصف، وقيل: وصف الضعف في الآدمي من التراب، ووصف البخل فيه من الطين، ووصف الشهوة فيه من الحمأ المسنون، ووصف الجهل فيه من الصلصال. وقيل قوله: {كَالفَخَّارِ}{يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ}{لاَ أُقْسِمُ بيَوْمِ القِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ}{إنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بالسُّوءِ} وأما السر فقد أشار القوم إليه.(1/424)
ووجدت في كلام القوم أن منهم من جعله بعد القلب وقبل الروح. ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف. وقالوا: السر محل المشاهدة، والروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة، والسر الذي وقعت إشارة القوم إليه غير مذكور في كتاب الله، وإنما المذكور في كلام الله الروح والنفس، وتنوع صفاتها والقلب والفؤاد والعقل، وحيث لم نجد في كلام الله تعالى ذكر السر بالمعنى المشار إليه، ورأينا الاختلاف في القوم فيه وأشار قوم إلى أنه دون الروح، وقوم إلى أنه ألطف من الروح؛ فنقول ـ والله أعلم: الذي سموه سراً ليس هو بشيء مستقل بنفسه له وجود وذات كالروح والنفس، وإنما لما وصفت النفس وتزكت انطلق الروح من وثاق ظلمة النفس، فأخذ في العروج إلى أوطان القرب، وانتزع القلب عند ذلك عن مستقره متطلعاً إلى الروح؛ فاكتسب وصفاً زائداً على وصفه، فانعجم على الواجدين ذلك الوصف حيث رأوه أصفى من القلب فسموه سراً. ولما صار للقلب وصف زائد على وصفه بتطلعه إلى الروح اكتسب الروح وصفاً زائداً في عروجه وانعجم على الواجدين فسموه سراً، والذي زعموا أنه ألطف من الروح: روح متصفة بوصف أخص مما عهدوه، والذي سموه قبل الروح سراً: هو قلب اتصف بوصف زائد غير ما عهدوه، وفي مثل هذا الترقي من الروح والقلب تترقى النفس إلى محل القلب، وتنخدع من وصفها فتصير نفساً مطمئنة تريد كثيراً من مرادات القلب من قبل إذ صار القلب يريد ما يريد مولاه متبرئاً على الحول والقوة والإرادة والاختيار، وعندها ذاق طعم صرف العبودية حيث صار حراً عن إرادته واختياراته.(1/425)
وأما العقل فهو لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. وقد ورد في الخبر عن رسول الله أنه قال: "أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله العَقْل، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْطُقْ فَنَطَقَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اصْمُتْ فَصَمَتَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي وَكِبْرِيَائِي وَسُلْطَانِي وَجَبَرُوتِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ وَلا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، بِكَ أُعْرَفُ، وَبِكَ أُحْمَدُ، وَبِكَ أُطَاعُ، وَبِكَ آخُذُ، وَبِكَ أُعَاتِبُ، وَلَكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ العِقَابُ، وَمَا أَكْرَمْتُكَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الصَّبْرِ" وقال عليه السلام: "لا يُعْجِبَنَّكُمْ إِسْلامُ رَجُلٍ حَتَّى تَعْلَمُوا ما عَقَلُهُ عَقْلُهُ".
وسألت عائشة رضي الله عنها النبي قالت: قلت يا رسول الله: بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: "بِالعَقْلِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" قالت: قلت أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: "يَا عَائِشَةُ، وَهَلْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ الله إِلاَّ مَنْ قَدْ عَقَلَ فَبِقَدْرِ عُقُولِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى قَدْرِ ما يَعْمَلُونَ يُجْزَوْنَ" وقال عليه السلام: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْطَلِقُ إِلَى المَسْجِدِ فَيُصَلِّي وَصَلاتُهُ لا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي المَسْجِدَ فَيُصَلِّي وَصَلاتُهُ تَعْدِلُ جَبَلَ أُحُدٍ إِذَا كَانَ أَحْسَنَهُما عَقْلاً" قيل: وكيف يكون أحسنهما عقلاً؟ قال: "أَوْرَعُهُما عَنْ مَحَارِمِ الله وَأَحْرَصُهُما عَلَى أَسْبَابِ الخَيْرِ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي العَمَلِ وَالتَّطَوُّعِ".(1/426)
وقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الله تَعَالَى قَسَمَ العَقْلَ بيْنَ عِبَادِهِ أَشْتَاتاً، فَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ يَسْتَوِي عِلْمُهُمَا وَبِرُّهُمَا وَصَومُهُمَا وَصَلاَتُهُمَا وَلكِنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي العَقْلِ كَالذَّرَّةِ فِي جَنْبِ أُحُدٍ".
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: إني أجد في سبعين كتاباً أن جميع ما أعطي الناس من بدء الدنيا إلى انقطاعها من العقل في جنب عقل رسول الله كهيئة رملة وقعت من بين جميع رمال الدنيا.
واختلف الناس في ماهية العقل، والكلام في ذلك يكثر، ولا نؤثر نقل الأقاويل، وليس ذلك من غرضنا، فقال قوم: العقل من العلوم؛ فإن الخالي من جميع العلوم لا يوصف بالعقل، وليس العقل جميع العلوم؛ فإن الخالي عن معظم العلوم يوصف بالعقل. وقالوا: ليس من العلوم النظرية، فإن من شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل؛ فهو إذن من العلوم الضرورية وليس هو جميعها، فإن صاحب الحواس المختلة عاقل وقد عدم بعض مدارك العلوم الضرورية.
وقال بعضهم: العقل ليس من أقسام العلوم؛ لأنه لو كان منها لوجب الحكم بأن الذاهل عن ذكر الاستحالة والجواز لا يتصف بكونه عاقلاً في كثيرر من أوقاته ذاهلاً وقالوا: هذا العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم.(1/427)
ونقل عن الحارث بن أسد المحاسبي وهو من أجلّ المشايخ أنه قال: العقل غريزة يتهيأ بها درك العلوم، وعلى هذا يتكرر ما ذكرناه في أول ذكر العقل: أنه لسان الروح؛ لأن الروح من أمر الله، وهي المتحملة للأمانة التي أبت السموات والأرضون أن يحملنها، ومنها يفيض نور العقل وفي نور العقل تتشكل العلوم؛ فالعقل للعلوم بمثابة اللوح المكتوب، وهو بصفته منكوس متطلع إلى النفس ومنتصب مستقيم تارة، فمن كان العقل فيه منكوساً إلى النفس فرقه في أجزاء الكون وعدم حسن الاعتدال بذلك وأخطأ طريق الاهتداء، ومن انتصب العقل فيه واستقام: تأيد العقل بالبصيرة التي هي للروح بمثابة القلب. واهتدى إلى المكون، ثم عرف الكون بالمكون: مستوفياً أقسام المعرفة بالمكون والكون؛ فيكون هذا العقل عقل الهداية؛ فكما أحب الله إقباله في أمر دله على إقباله عليه، وما كرهه الله في أمر دله على الإدبار عنه؛ فلا يزال يتبع محاب الله تعالى ويجتنب مساخطه، وكلما استقام العقل وتأيد بالبصيرة كانت دلالته على الرشد ونهيه عن الغي.
قال بعضهم: العقل على ضربين: ضرب يبصر به أمر دنياه، وضرب يبصر به أمر آخرته، وذكر أن العقل الأول من نور الروح، والعقل الثاني من نور الهداية؛ فالعقل الأول موجود في عامة ولد آدم، والعقل الثاني موجود في الموحدين مفقود من المشركين.
وقيل: إنما سمي العقل عقلاً لأن الجهل ظلمة، فإذا غلب النور بصره في تلك الظلمة زالت الظلمة فأبصر فصار عقالاً للجهل.(1/428)
وقيل: عقل الإيمان مسكنه في القلب ومتعلمه في الصدر بين عيني الفؤاد، والذي ذكرناه من كون العقل لسان الروح ـ وهو عقل واحد ليس هو على ضربين، ولكنه إذا انتصب واستقام تأيد بالبصيرة واعتدل ووضع الأشياء في مواضعها، وهذا العقل هو المستضيء بنور الشرع؛ لأن انتصابه واعتداله هداه إلى الاستضاءة بنور الشرع، لكون الشرع ورد في لسان النبي المرسل، وذلك لقرب روحه من الحضرة الإلهية ومكاشفة بصيرته التي هي الروح بمثابة القلب بقدرة الله وآياته واستقامة عقله بتأييد البصيرة. فالبصيرة تحيط بالعلوم التي يستوعبها العقل والتي يضيق عنها نطاق العقل، لأنها تستمد من كلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها، والعقل ترجمان تؤدي البصيرة إليه من ذلك شطراً، كما يؤدي القلب إلى اللسان بعض ما فيه ويستأثر ببعضه دون اللسان، ولهذا المعنى من جمد على مجرد العقل من غير الاستضاءة بنور الشرع حظي بعلوم الكائنات التي هي الملك،والملك ظاهر الكائنات. ومن استضاء عقله بنور الشرع تأيد بالبصيرة فاطلع على الملكوت، والملكوت باطن الكائنات اختص بمكاشفته أرباب البصائر والعقول دون الجامدين على مجرد العقول، وقد قال بعضهم: إن العقل عقلان، عقل للهداية مسكنه في القلب وذلك للمؤمنين الموقنين ومتعمله الصدر بين عيني الفؤاد، والعقل الآخر مسكنه في الدماغ ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد، فبالأول يدبر أمر الآخرة، وبالثاني يدبر أمر الدنيا، والذي ذكرناه أنه عقل واحد إذا تأيد بالبصيرة دبر الأمرين، وإذا تفرد دبر أمر واحد وهو أوضح وأبين. وقد ذكرنا في أول الباب من تدبيره للنفس المطمئنة والأمارة ما يتنبه الإنسان به على كونه عقلاً مؤيداً بالبصيرة تارة ومنفرداً بوصفه تارة، والله الملهم للصواب.
{الباب السابع والخمسون}: في معرفة الخواطر وتفصيلها وتمييزها(1/429)
أخبرنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا أبو الفتح الهروي، قال: أخبرنا أبو نصر الترياقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجراحي، قال: أخبرنا أبو العباس المحبوبي، قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، قال: أخبرنا هناد، قال: أخبرنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الله فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ"، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ}"الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله تعالى تولى وخنس، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه" وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّض لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}{إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّروا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُون}{يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبيَّنُوا}.(1/430)
ومن الأدب عند الاشتباه: إنزال الخاطر بمحرك النفس وخالقها وبارئها وفاطرها؛ وإظهار الفقر والفاقة إليه، والاعتراف بالجهل وطلب المعرفة والمعونة منه، فإنه إذا أتى بهذه الأدب يغاث ويعان، ويتبين له هل الخاطر لطلب حظ أو طلب حق؟ فإن كان للحق أمضاه، وإن كان للحظ نفاه، وهذا التوقف إذا لم يتبين له الخاطر بظاهر العلم؛ لأن الافتقار إلى باطن العلم عند فقد الدليل في ظاهر العلم، ثم من الناس من لا يسعه في صحته إلا الوقوف على الحق دون الحظ وإن أمضى خاطر الحظ يصير ذلك ذنب حاله فيستغفر منه كما يستغفر من الذنوب.(1/431)
ومن الناس من يدخل في تناول الحظ ويمضي خاطره بمزيد علم لديه من الله. وهو علم السعة لعبد مأذون له في السعة عالم بالإذن؛ فيمضي خاطر الحظ، والمراد بذلك على بصيرة من أمره يحسن به ذلك ويليق به عالم بزيادته ونقصانه عالم بحاله محكم لعلم الحال، وعلم القيام لا يقاس على حاله ولا يدخل فيه بالتقليد؛ لأنه أمر خاص لعبد خاص، وإذا كان شأن العبد تتميز خواطر النفس في مقام تخلصه من لمات الشيطان تكثر لديه خواطر الحق وخواطر الملك، وتصير الخواطر الأربعة في حقه ثلاثاً ويسقط خاطر الشيطان إلا نادراً لضيق مكانه من النفس؛ لأن الشيطان يدخل بطريق اتساع النفس، واتساع النفس باتباع الهوى والإخلاد إلى الأرض، ومن ضايق النفس على التمييز بين الحق والحظ ضاقت نفسه وسقط محل الشيطان إلا نادراً لدخول الابتلاء عليه؛ ثم من المرادين المتعلقين بمقام المقربين من إذا صار قلبه سماء مزيناً بزينة كوكب الذكر، يصير قلبه سماويّاً يترقى ويعرج بباطنه ومعناه وحقيقته في طبقات السموات، وكلما ترقى تتضاءل النفس المطمئنة وتبعد عنه خواطرها حتى يجاوز السموات بعروج باطنه، كما كان ذلك لرسول الله بظاهره وقالبه؛ فإذا استكمل العروج تنقطع عنه خواطر النفس لتستره بأنوار القلب وبعدت عنه النفس وعند ذلك تنقطع عنه خواطر الحق أيضاً لأن الخاطر رسول والرسالة إلى من بعد وهذا قريب. وهذا الذي وصفناه نازل ينزل به ولا يدوم، بل يعود في هبوطه إلى منازل مطالبات النفس وخواطرها فتعود إليه خواطر الحق وخواطر الملك، وذلك أن الخواطر تستدعي وجوداً.(1/432)
وما أشرنا إليه حال الفناء ولا خاطر فيه، وخاطر الحق انتفى لمكان القرب، وخاطر النفس بعد عنه لبعد النفس، وخاطر الملك تخلف عنه كتخلف جبريل في ليلة المعراج عن رسول الله حيث قال: لو دنوت أنملة لاحترقت قال محمد بن علي الترمذي: المحدث والمكلم إذا تحققا في درجتهما لم يخافا من حديث النفس: فكما أن النبوة محفوظة من إلقاء الشيطان كذلك محل المكالمة والمحادثة محفوظ من إلقاء النفس وفتنتها ومحروس بالحق والسكينة لأن السكينة حجاب المتكلم والمحدث مع نفسه.
وسمعت الشيخ أبا محمد بن عبد الله البصري بالبصرة يقول: الخواطر أربعة: خاطر من النفس، وخاطر من الحق، وخاطر من الشيطان، وخاطر من الملك. فأما الذي من النفس: فيحس به من أرض القلب، والذي من الحق: من فوق القلب، والذي من الملك: عن اليمين القلب، والذي من الشيطان: عن يسار القلب. والذي ذكره إنما يصح لعبد أذاب نفسه بالتقوى والزهد، وتصفى وجوده، واستقام ظاهره وباطنه، فيكون قلبه كالمرآة المجلوة: لا يأتيه الشيطان من ناحية إلا ويبصره فإذا أسود القلب وعلاه الزين لا يبصر الشيطان.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ نكتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهِ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. قَالَ الله تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبونَ}.(1/433)
سمعت بعض العارفين يقول كلاماً دقيقاً كوشف به فقال: الحديث في باطن الإنسان. والخيال الذي تراءى لباطنه ويخيل بين القلب وصفاء الذكر: هو من القلب وليس هو من النفس، وهذا بخلاف ما تقرر، فسألته عن ذلك؛ فذكر أن بين القلب والنفس مناغاة ومحادثات وتألفاً وتودداً، وكلما انطلقت النفس في شيء بهواها من القول والفعل تأثر القلب بذلك وتكدر، فإذا عاد العبد من مواطن مطالبات النفس وأقبل على ذكره ومحل مناجاته وخدمته لله تعالى، أقبل القلب بالمعاتبة للنفس، وذكر النفس شيئاً من فعلها وقولها كاللائم للنفس والمعاتب لها على ذلك، فإذا كان الخاطر أول الفعل ومفتتحه فمعرفته من أهم شأن العبد، لأن الأفعال من الخواطر تنشأ، حتى ذهب بعض العلماء إلى أن العلم المفترض طلبه بقول رسول الله: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" هو علم الخواطر، قال: لأنها أول الفعل، وبفسادها فساد الفعل، وهذا لعمري لا يتوجه، لأن رسول الله أوجب ذلك على كل مسلم، وليس كل المسلمين عندهم من القريحة والمعرفة ما يعرفون به ذلك، ولكن يعلم الطالب أن الخواطر بمثابة البذر، فمنها ما هو بذر السعادة، ومنها ما هو بذر الشقاوة.
وسبب اشتباهه الخواطر أربعة أشياء لا خامس لها: إما ضعف اليقين، أو قلة العلم بمعرفة صفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا جاهها ومالها وطلب الرفعة والمنزلة عند الناس. فمن عصم عن هذه الأربعة: يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان. ومن ابتلي بها: لا يعلمها ولا يطلبها، وانكشاف بعض الخواطر دون البعض لوجود بعض هذه الأربعة دون البعض، وأقوم الناس بتمييز الخواطر أقومهم بمعرفة النفس، ومعرفتها صعبة المنال لا تكاد تتيسر إلا بعد الاستقصاء في الزهد والتقوى.
واتفق المشايخ على أن من كان أكله من الحرام لا يفرق بين الإلهام والوسوسة.(1/434)
وقال أبو علي الدقاق: من كان قوته معلوماً لا يفرق بين الإلهام والوسوسة، وهذا لا يصح على الإطلاق إلا بقيد، وذلك أن من المعلوم ما يقسمه الحق سبحانه وتعالى لعبد بإذن يسبق إليه في الأخذ منه والتقوت به، ومثل هذا المعلوم لا يحجب عن تمييز الخواطر إنما ذلك يقال في حق من دخل في معلوم باختيار منه وإيثار، لأنه ينحجب لموضع اختياره، والذي أشرنا إليه منسلخ من إرادته فلا يحجبه المعلوم.
وفرقوا بين هواجس النفس ووسوسة الشيطان، وقالوا: إن النفس تطالب وتلح، فلا تزال كذلك حتى تصل إلى مرادها، والشيطان إذا دعا إلى زلة ولم يجب يوسوس بأخرى، إذ لا غرض له في تخصيص، بل مراده الإغواء كيفما أمكنه. وتكلم الشيوخ في الخاطرين إذا كانا من الحق أيهما يتبع؟ قال الجنيد: الخاطر الأوّل لأنه إذا بقي رجع صاحبه إلى التأمل، وهذا شرط العلم. وقال ابن عطاء: الثاني أقوى لأنه ازداد قوة بالأول. وقال أبو عبد الله بن خفيف: هما سواء لأنهما من الحق فلا مزية لأحدهما على الآخر.
قالوا: الواردات أعم من الخواطر، لأن الخواطر تختص بنوع خطاب أو مطالبة، والواردات تكون تارة خواطر وتارة تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط.(1/435)
وقيل: بنور التوحيد يقبل الخاطر من الله تعالى، وبنور المعرفة يقبل من الملك، وبنور الإيمان ينهى النفس، وبنور الإسلام يرد على العدوّ. ومن قصر عن درك حقائق الزهد وتطلع إلى تمييز الخواطر يزن الخاطر أولاً بميزان الشرع، فما كان من ذلك نفلاً أو فرضاً يمضيه، وما كان من ذلك محرماً أو مكروهاً ينفيه؛ فإن استوى الخاطران في نظر العلم ينفذ أقربهما إلى مخالفة هوى النفس، فإن النفس قد يكون لها هوى كامن في أحدهما، والغالب من شأن النفس الاعوجاج والركون إلى الدون، وقد يلم الخاطر بنشاط النفس والعبد يظن أنه بنهوض القلب، وقد يكون من القلب نفاق بسكونه إلى النفس، يقول بعضهم: منذ عشرين سنة ما سكن قلبي إلى نفسي ساعة، فيظهر من سكون القلب إلى النفس خواطر تشتبه بخواطر الحق على من يكون ضعيف العلم، فلا يدرك نفاق القلب والخواطر المتولدة منه إلا العلماء الراسخون، وأكثر ما تدخل الآفات على أرباب القلوب والآخذين من اليقين واليقظة والحال بسهم من هذا القبيل، وذلك لقلة العلم بالنفس والقلب وبقاء نصيب الهوى فيهم.
وينبغي أن يعلم العبد قطعاً أنه مهما بقي عليه أثر من الهوى وإن دق وقلّ يبقى عليه بحسبه بقية من اشتباه الخواطر، ثم قد يغلط في تمييز من هو قليل العلم، ولا يؤاخذ بذلك ما لم يكن عليه من الشرع مطالبة، وقد لا يسامح بذلك بعض الغالطين لما كوشفوا به من دقيق الخفاء في التمييز، ثم استعجالهم مع علمهم وقلة التثبت.(1/436)
وذكر بعض العلماء أن لمة الملك ولمة الشيطان وجدتا لحركة النفس والروح، وأن النفس إذا تحركت انقدح من جوهرها ظلمة تنكت في القلب همة سوء، فينظر الشيطان إلى القلب فيقبل بالإغواء والوسوسة، وذكر أن حركة النفس تكون إما هوى وهو عاجل حظ النفس، أو أمنية وهي عن الجهل الغريزي، أو دعوى حركة أو سكون وهي آفة العقل ومحبة القلب، ولا ترد هذه الثلاثة إلا بأحد ثلاثة: بجهل، أو غفلة، أو طلب فضول. ثم يكون من هذه الثلاثة ما يجب نفيه، فإنها ترد بخلاف مأمور أو على وفق منهيَ. ومنها ما يكون نفيها فضيلة إذا وردت بمباحات.
وذكر أن الروح إذا تحركت انقدح من جوهرها نور ساطع يظهر من ذلك النور في القلب همة عالية بأحد معان ثلاثة: إما بفرض أمر به، أو بفضل ندب إليه، وإما بمباح يعود صلاحه إليه، وهذا الكلام يدل على أن حركتي الروح والنفس هما الموجبتان للمتين. وعندي والله أعلم أن اللمتين يتقدمان على حركة الروح والنفس، فحركة الروح من لمة الملك، والهمة العالية من حركة الروح، وهذه الحركة من الروح ببركة لمة الملك. وحركة النفس من لمة الشيطان ومن حركة النفس الهمة الدنيئة، وهي من شؤم لمة الشيطان. فإذا وردت اللمتان ظهرت الحركتان وظهر سر العطاء والابتلاء من معط كريم وميل حكيم. وقد تكون هاتان اللمتان متداركتين وينمحي أثر إحداهما بالأخرى. والمتفطن المتيقظ ينفتح عليه بمطالعة وجود هذه الآثار في ذاته باب أنس، ويبقى أبداً متفقداً حاله مطالعاً آثار اللمتين.
وذكر خاطر خامس: وهو خاطر العقل متوسط بين الخواطر الأربعة، يكون مع النفس والعدوّ لوجود التمييز وإثبات الحجة على العبد، ليدخل العبد في الشيء بوجود عقل، إذ لو فقد العقل سقط العقاب والعتاب، وقد يكون مع الملك والروح ليوقع الفعل مختاراً ويستوجب به الثواب.(1/437)
وذكر خاطر سادس: وهو خاطر اليقين، وهو روح الإيمان ومزيد العلم، ولا يبعد أن يقال: الخاطر السادس وهو خاطر اليقين حاصله راجع إلى ما يريد من خاطر الحق وخاطر العقل أصله تارة من خاطر الملك، وتارة من خاطر النفس، وليس من العقل خاطر على الاستقلال، لأن العقل كما ذكرنا غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم ويتهيأ بها الانجذاب إلى دواعي النفس تارة وإلى دواعي الملك تارة، وإلى دواعي الروح تارة وإلى دواعي الشيطان تارة فعلى هذا لا تزيد الخواطر على أربعة، ورسول الله لم يذكر غير اللمتين، وهاتان اللمتان هما الأصل، والخاطران الآخران فرع عليهما، لأن لمة الملك إذا حركت الروح واهتزت الروح بالهمة الصالحة قربت أن تهتز بالهمة الصالحة إلى حظائر القرب، فورد عليه عند ذلك خواطر من الحق، وإذا تحقق بالقرب يتحقق بالفناء، فتثبت الخواطر الربانية عند ذلك، كما ذكرناه من قبل لموضع قربه، فيكون أصل خواطر الحق لمة الشيطان إذا حركت النفس بجبلتها إلى مركزها من الغريزة والطبع، فظهر منها لحركتها خواطر ملائمة لغريزتها وطبيعتها وهواها، فصارت خواطر النفس نتيجة لمة الشيطان؛ فأصلها لمتان وينتجان أخريين، وخاطر اليقين والعقل مندرج فيهما. والله أعلم.
{الباب الثامن والخمسون}: في شرح الحال والمقام والفرق بينهما(1/438)
قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما، فتراءى للبعض الشيء حالاً وتراءى للبعض مقاماً، وكلا الرؤيتين صحيح لوجود تداخلهما، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق؛ فالحال سمي حالاً لتحوّله، والمقام مقاماً لثبوته واستقراره، وقد يكون الشيء بعينه حالاً ثم يصير مقاماً، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس ثم تعود ثم تزول، فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحوّل الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم ويغلب حال المحاسبة وتنقهر النفس وتنضبط وتتملكها المحاسبة فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه، فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة، ثم ينازله حال المراقبة، فمن كانت المحاسبة مقامه يصير له من المراقبة حال، ثم يحوّل حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة ويتدارك الله عبده بالمعونة، فتصير المراقبة مقاماً بعد أن كانت حالاً ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة، ولا يستقر مقام المراقبة قراره إلا بنازل حال المشاهدة؛ فإذا منح العبد بنازل حال المشاهدة استقرّت مراقبته وصارت مقامه، ونازل المشاهدة أيضاً يكون حالاً يحول بالاستتار ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقاماً وتتخلص شمسه عن كسوف الاستتار، ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه كالتحقق بالفناء والتخلص إلى البقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين، وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب وذلك أعلى فروع المشاهدة. وقد قال رسول الله: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَاناً يُبَاشِرُ قَلْبي".(1/439)
قال سهل بن عبد الله: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر وهو قلب القلب وسويداؤه، والتجويف الثاني ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين، وهو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين، ومنه تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات، فهكذا تنبعث من نظر العقل أشعة العلوم المحيطة بالمعلومات، وهذه الحالة التي خرقت شغاف القلب ووصلت إلى سويدائه وهي حق اليقين: هي أسمى العطايا وأعز الأحوال وأشرفها، ونسبة هذه الحال من المشاهدة كنسبة الآجرّ من التراب، إذ يكون تراباً ثم طيناً ثم لبناً ثم آجراً؛ فالمشاهدة هي الأول والأصل، يكون منها الفناء كالطين، ثم البقاء كاللبن ثم هذه الحالة وهي آخر الفروع.(1/440)
ولما كان الأصل في الأحوال هذه الحالة وهي أشرف الأحوال وهي محض موهبة لا تكتسب سميت كل المواهب من النوازل بالعبد أحوالاً، لأنها غير مقدورة للعبد بكسبه، فأطلقوا القول وتداولت ألسنة الشيوخ أن المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، وعلى الترتيب الذي درجنا عليه كلها مواهب، إذ المكاسب محفوفة بالمواهب، والمواهب محفوفة بالمكاسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد، ولكن في المقامات ظهر الكسب وبطنت المواهب، وفي الأحوال بطن الكسب وظهرت المواهب، فالأحوال مواهب علوية سماوية، والمقامات طرقها وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوني عن طرق السموات فإني أعرف بها من طرق الأرض: إشارة إلى المقامات والأحوال، فطرق السموات التوبة والزهد وغير ذلك من المقامات. فإن السالك لهذه الطرق يصير قلبه سماوياً، وهي طرق السموات ومتنزل البركات، وهذه الأحوال لا يتحقق بها إلا ذو قلب سماوي قال بعضهم الحال هو الذكر الخفي، وهذا إشارة إلى شيء مما ذكرناه، وسمعت المشايخ بالعراق يقولون: الحال ما منّ الله، فكل ما كان من طريق الاكتساب والأعمال يقولون: هذا ما منّ العبد، فإذا لاح للمريد شيء من المواهب والمواجيد قالوا: هذا ما منّ الله، وسموه حالاً إشارة منهم إلى أن الحال موهبة.
وقال بعض مشايخ خراسان: الأحوال مواريث الأعمال.
وقال بعضهم: الأحوال كالبروق، فإن بقي فحديث النفس، وهذا لا يكاد يستقيم على الإطلاق وإنما يكون ذلك في بعض الأحوال فإنها تطرق ثم تستلبها النفس؛ فأما على الإطلاق فلا، والأحوال لا تمتزج بالنفس كالدهن لا يمتزج بالماء.
وذهب بعضهم إلى أن الأحوال لا تكون إلا إذا دامت، فأما إذا لم تدم فهي لوائح وطوالع وبوادر، وهي مقدمات الأحوال وليست بأحوال.(1/441)
واختلف المشايخ في أن العبد هل يجوز له أن ينتقل إلى مقام غير مقامه الذي هو فيه قبل إحكام حكم مقامه. قال بعضهم: لا ينبغي أن ينتقل عن الذي هو فيه دون أن يحكم حكم مقامه.
وقال بعضهم: لا يكمل المقام الذي هو فيه إلا بعد ترقيه إلى مقام فوقه فينظر من مقامه العالي إلى ما دونه من المقام فيحكم أمر مقامه. والأولى أن يقال ـ والله أعلم ـ: الشخص في مقامه يعطى حالاً من مقامه الأعلى الذي سوف يرتقي إليه، فبوجدان ذلك الحال يستقيم أمر مقامه الذي هو فيه ويتصرف الحق فيه كذلك، ولا يضاف الشيء إلى العبد أنه يرتقي أو لا يرتقي، فإن العبد بالأحوال يرتقي إلى المقامات، والأحوال مواهب ترقى إلى المقامات التي يمتزج فيها الكسب بالموهبة، ولا يلوح للعبد حال من مقام أعلى مما هو فيه وقد قرب ترقيه إليه، فلا يزال العبد يرقى إلى المقامات بزائد الأحوال، فعلى ما ذكرناه يتضح تداخل المقامات والأحوال حتى التوبة، ولا تعرف فضيلة إلا فيها حال ومقام، وفي الزهد حال ومقام، وفي التوكل حال ومقام، وفي الرضا حال ومقام.(1/442)
قال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، أشار إلى الرضا ويكون منه حالاً ثم يصير مقاماً، والمحبة حال ومقام، ولا يزال العبد يتتوب بطروق حال التوبة حتى يتوب، وطروق حال التوبة بالانزجار أوّلاً قال بعضهم: الزجر هيجان في القلب لا يسكنه إلا الانتباه من الغفلة فيرده إلى اليقظة، فإذا تيقظ أبصر الصواب من الخطأ. وقال بعضهم: الزجر ضياء في القلب يبصر به خطأ قصده.(1/443)
والزجر في مقدمة التوبة على ثلاثة أوجه: زجر من طريق العلم، وزجر من طريق العقل، وزجر من طريق الإيمان، فينازل التائب حال الزجر، وهي موهبة من الله تعالى تقوده إلى التوبة، ولا يزال بالعبد ظهور هوى النفس يمحوه آثار حال التوبة والزجر حتى تستقر وتصير مقاماً، وهكذا في الزهد لا يزال يتزهد بنازلة حال تريه لذة ترك الاشتغال بالدنيا وتقبح له الإقبال عليها، فتمحو أثر حاله بدلالة شره النفس وحرصها على الدنيا ورؤية العاجلة حتى تتداركه المعونة من الله الكريم، فيزهد ويستقر زهده ويصير الزهد مقامه، ولا تزال نازلة حال التوكل تقرع باب قلبه حتى يتوكل، وهكذا حال الرضا حتى يطمئن على الرضا، ويصير ذلك مقامه، وههنا لطيفة: وذلك أن مقام الرضا والتوكل يثبت ويحكم ببقائه مع وجود داعية الطبع، ولا يحكم ببقاء حال الرضا مع وجود داعية الطبع، وذلك مثل كراهة يجدها الراضي بحكم الطبع، ولكن علمه بمقام الرضا يغمر حكم الطبع وظهور حكم الطبع في وجود الكراهية المغمورة بالعلم لا يخرجه عن مقام الرضا، ولكن يفقد حال الرضا لأن الحال لما تجردت موهبة أحرقت داعية الطبع، فيقال: كيف يكون صاحب مقام في الرضا ولا يكون صاحب حال فيه والحال مقدمة المقام والمقام أثبت، نقول: لأن المقام لما كان مشوباً بكسب العبد احتمل وجود الطبع فيه، والحال لما كانت موهبة من الله نزهت عن مزج الطبع فحال الرضا أشرف، ومقام الرضا أمكن، ولا بدّ للمقامات من زائد الأحوال، فلا مقام إلا بعد سابقة حال، ولا تفرد للمقامات دون سابقة الأحوال.(1/444)
وأما الأحوال فمنها ما يصير مقاماً، ومنها ما لا يصير مقاماً، والسر فيه ما ذكرناه: أن الكسب في المقام ظهر والموهبة بطنت، وفي الحال ظهرت الموهبة بطن، فلما كان في الأحوال الموهبة غالبة لم تتقيد وصارت الأحوال إلى ما لا نهاية لها، ولطف سنى الأحوال أن يصير مقاماً، ومقدورات الحق غير متناهية، ومواهبه غير متناهية، ولهذا قال بعضهم: لو أعطيت روحانية عيسى ومكالمة موسى وخلة إبراهيم عليه السلام لطلبت ما وراء ذلك، لأن مواهب الله لا تنحصر؛ وهذه أحوال الأنبياء ولا تعطى الأولياء ولكن هذه إشارة من القائل إلى دوام تطلع العبد وتطلبه وعدم قناعته بما فيه من أمر الحق تعالى؛ لأن سيد الرسل صلوات الله عليه وسلامه نبه على عدم القناعة وقرع باب الطلب واستنزال بركة المزيد بقوله عليه السلام: "كُلُّ يَوْمٍ لَمْ أَزْدَدْ فِيهِ عِلْماً فَلاَ بُورِكَ لِي فِي صَبيحَةِ ذلِكَ اليَوْمِ". وفي دعائه: "اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْييِ وَضَعُفَ فِيهِ عَمَلِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي وَأُمْنِيَتِي مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ فَأَنَا أَرْغَبُ إِلَيْكَ وَأَسْأَلُكَ إِيَّاهُ".
فاعلم أن مواهب الحق لا تنحصر، والأحوال مواهب متصلة بكلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها وتنفد أعداد الرمال دون أعدادها. والله المنعم المعطي.
{الباب التاسع والخمسون}: في الإشارات إلى المقامات على الاختصار والإيجاز(1/445)
أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله، قال: أخبرنا أبو منصور بن خيرون إجازة، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري إجازة، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن العباس بن محمد، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن صاعد، قال: أخبرنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا الهيثم بن جميل، قال: أخبرنا كثير بن سليم المدائني، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل ذرب اللسان وأكثر ذلك على أهلي؛ فقال له رسول الله: "أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ؟ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ رَبي فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث آخر: "فَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ". وروى أبو بردة قال: قال رسول الله: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبي فَأَسْتَغْفِرُ الله فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ".
وقال الله تعالى: {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَميعاً أَيهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}{إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابينَ}{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} قال رجل لبشر الحافي: ما لي أراك مهموماً؟ قال: لأني ضال ومطلوب، ضللت الطريق والمقصد وأنا مطلوب به ولو تبينت كيف الطريق إلى المقصد لطلبت، ولكن سنة الغفلة أدركتني وليس لي منها خلاص إلا أن أزجر فأنزجر.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً بالبصرة يشتكي عينيه وهما يسيل منهما الماء، فقلت له: ألا تمسح عينيك؟ فقال: لا؛ لأن الطبيب زجرني، ولا خير فيمن لا ينزجر.
فالزجر في الباطن حال يهبها الله تعالى، ولا بد من وجودها للتائب؛ ثم بعد الانزجار يجد العبد حال الانتباه.(1/446)
قال بعضهم: من لزم مطالعة الطوارق انتبه. وقال أبو يزيد: علامة الانتباه خمس: إذا ذكر نفسه افتقر، وإذا ذكر ذنبه استغفر، وإذا ذكر الدنيا اعتبر، وإذا ذكر الآخرة استبشر، وإذا ذكر المولى اقشعر.
وقال بعضهم: الانتباه أوائل دلالات الخير، إذا انتبه العبد من رقدة غفلته أداه ذلك الانتباه إلى التيقظ؛ فإذا تيقظ ألزمه تيقظه الطلب لطريق الرشد فيطلب، وإذا طلب عرف أنه على غير سبيل الحق فيطلب الحق ويرجع إلى باب توبته ثم يعطي بانتباهه حال التيقظ.
قال فارس: أوفى الأحوال التيقظ والاعتبار. وقيل: التيقظ تبيان خط المسلك بعد مشاهدة سبيل النجاة.
وقيل: إذا صحت اليقظة كان صاحبها في أوائل طريق التوبة.
وقيل: اليقظة طردة من جهة المولى لقلوب الخائفين تدلهم على طلب التوبة، فإذا تمت يقظته نقل بذلك إلى مقام التوبة؛ فهذه أحوال ثلاثة تتقدم التوبة، ثم التوبة في استقامتها تحتاج إلى المحاسبة، ولا تستقيم التوبة إلا بالمحاسبة.
نقل عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيةٌ} وكان بعض المحاسبين يكتب الصلوات في قرطاس، ويدع بين كل صلاتين بياضاً، وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبة أو أمر آخر خط خطاً، وكلما تكلم أو تحرك فيما لا يعنيه نقط نقطة، ليعتبر ذنوبه وحركاته فيما لا يعنيه لتضيق المحاسبة مجاري الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لموضع صدقه في حسن الافتقاد وحرصه على تحقيق مقام العباد، وهذا مقام المحاسبة والرعاية يقع من ضرورة صحة التوبة.(1/447)
قال الجنيد: من حسنت رعايته دامت ولايته. وسئل الواسطي: أي الأعمال أفضل؟ قال: مراعاة السر، والمحاسبة في الظاهر، والمراقبة في الباطن، ويكمل أحدهما بالآخر، وبهما تستقيم التوبة. والمراقبة والرعاية حالان شريفان ويصيران مقامين شريفين يصحان بصحة مقام التوبة، وتستقيم التوبة على الكمال بهما؛ فصارت المحاسبة والمراقبة والرعاية من ضرورة مقام التوبة.
أخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف أبي بكر الشيرازي قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسن الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى؛ ويكون العلم على ظاهرك قائماً.
وقال المرتعش: المراقبة مراعاة السر لملاحظة الحق في كل لحظة ولفظة. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أخبرنا أبو زرعة عن ابن خلف عن السلمي قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم الإنسان في هذا الطريق المحاسبة والمراقبة وسياسة العمل بالعلم، وإذا صحت التوبة صحت الإنابة.
قال إبراهيم بن أدهم: إذا صدق العبد في توبته صار منيباً؛ لأن الإنابة ثاني درجة التوبة.
وقال أبو سعيد القرشي: المنيب الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله.
وقال بعضهم: الإنابة الرجوع منه إليه لا من شيء غيره، فمن رجع من غيره إليه ضيع أحد طرفي الإنابة، والمنيب على الحقيقة: من لم يكن له مرجع سواه، فيرجع إليه من رجوعه، ثم يرجع من رجوع رجوعه، فيبقى شبحاً لا وصف له قائماً بين يدي الحق مستغرقاً في عين الجمع ومخالفة النفس ورؤية عيوب الأفعال والمجاهدة تتحقق بتحقيق الرعاية والمراقبة.(1/448)
قال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملاً فأحتسبه. وقال أبو عبد الله السجزي: من استحسن شيئاً من أحواله في حال إرادته فسدت عليه إرادته، إلا أن يرجع إلى ابتدائه فيروض نفسه ثانياً ومن لم يزن نفسه بميزان الصدق فيما له وعليه لا يبلغ مبلغ الرجال. ورؤية عيوب الأفعال من ضرورة صحة الإنابة وهو في تحقيق مقام التوبة. ولا تستقيم التوبة إلا بصدق المجاهدة. ولا يصدق العبد في المجاهدة إلا بوجود الصبر.
وروى فضالة ابن عبيد قال: سمعت رسول الله يقول: "المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ" ولا يتم ذلك إلا بالصبر، وأفضل الصبر الصبر على الله بعكوف الهم عليه، وصدق المراقبة بالقلب، وحسم مواد الخواطر. والصبر ينقسم إلى فرض وفضل؛ فالفضل كالصبر على أداء المفترضات، والصبر على المحرمات.
ومن الصبر الذي هو فضل: الصبر على الفقر، والصبر عند الصدمة الأولى، وكتمان المصائب والأوجاع، وترك الشكوى، والصبر على إخفاء الفقر، والصبر على كتم المنح والكرامات ورؤية العبر والآيات.
ووجوه الصبر فرضاً وفضلاً كثيرة، وكثير من الناس من يقوم بهذه الأقسام من الصبر، ويضيق عن الصبر على الله بلزوم صحة المراقبة والرعاية ونفي الخواطر، فإذاً حقيقة الصبر كائنة في التوبة كينونة المراقبة في التوبة، والصبر من أعز مقامات الموقنين، وهو داخل في حقيقة التوبة.
قال بعض العلماء: أي شيء أفضل من الصبر ـ وقد ذكره الله تعالى في كلامه في نيف وتسعين موضعاً وما ذكر شيئاً بهذا العدد وصحة التوبة تحتوي على مقام الصبر مع شرفه.
ومن الصبر: الصبر على النعمة: وهو أن لا يصرفها في معصية الله تعالى، وهذا أيضاً داخل في صحة التوبة.
وكان سهل بن عبد الله يقول: الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء.
وروي عن بعض الصحابة: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر.(1/449)
ومن الصبر: رعاية الاقتصاد في الرضا والغضب، والصبر عن محمدة الناس، والصبر على الخمول والتواضع والذل: داخل في الزهد وإن لم يكن داخلاً في التوبة، وكل ما فات من مقام التوبة من المقامات السنية والأحوال وجد في الزهد، وهو ثالث الأربعة التي ذكرنا.
وحقيقة الصبر تظهر من طمأنينة النفس، وطمأنينتها من تزكيتها، وتزكيتها بالتوبة؛ فالنفس إذا تزكت بالتوبة النصوح زالت عنها الشراسة الطبيعية، وقلة الصبر من وجوه الشراسة للنفس وإبائها واستعصائها. والتوبة النصوح تلين النفس وتخرجها من طبيعتها وشراستها إلى اللين؛ لأن النفس بالمحاسبة والمراقبة تصفو وتنطفىء نيرانها المتأججة بمتابعة الهوى، وتبلغ بطمأنينتها محل الرضا ومقامه، وتطمئن في مجاري الأقدار.
قال أبو عبد الله النباجي: لله عباد يستحيون من الصبر ويتلفقون مواضع أقداره بالرضا تلقفاً.
وعن عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا مواقع القضاء: قال رسول الله لابن عباس حين وصاه: "اعْمَلْ لله بِاليَقِينِ فِي الرِّضَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ خَيْراً كَثِيراً" وفي الخبر عن رسول الله: "مِنْ خَيْرِ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ: الرِّضَا بِمَا قَسَم الله تَعَالَى لَهُ".(1/450)
فالأخبار والآثار والحكايات في فضيلة الرضا وشرفه أكثر من أن تحصى، والرضا ثمرة التوبة النصوح، وما تخلف عبد عن الرضا إلا بتخلفه عن التوبة النصوح، فإذاً تجمع التوبة النصوح حال الصبر ومقام الصبر، وحال الرضا ومقام الرضا. والخوف والرجاء مقامان شريفان من مقامات أهل اليقين، وهما كائنات في صلب التوبة النصوح؛ لأنّ خوفه حمله على التوبة، ولولا خوفه ما تاب، ولولا رجاؤه ما خاف؛ فالرجاء والخوف يتلازمان في قلب المؤمن، ويعتدل الخوف والرجاء للتائب المستقيم في التوبة. دخل رسول الله على رجل وهو في سياق الموت فقال: "كَيْفَ تَجِدُكَ؟" قال أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي. فقال: "مَا اجْتَمَعَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هذَا المَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ الله مَا رَجَا وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ".
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بأَيْدِيكُمْ إِلى التَّهْلُكَةِ} وإذا صحت التوبة النصوح وتزكت النفس انجلت مرآة القلب وبان قبح الدنيا فيها، فيحصل الزهد، والزاهد يتحقق فيه التوكل لأنه لا يزهد في الموجود إلا لاعتماد على الموعود، والسكون إلى وعد الله تعالى هو عين التوكل، وكلما بقي على العبد بقية في تحقق المقامات كلها بعد توبته يستدركه: يزهده في الدنيا، وهو ثالث الأربعة.(1/451)
أخبرنا شيخنا، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري إجازة، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن العباس، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن ساعدة، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا الهيثم بن جميل، قال: أخبرنا محمد بن سليمان عن عبد الله بن بريدة قال: قدم رسول الله من سفر، فبدأ بفاطمة رضي الله عنها فرآها قد أحدثت في البيت ستراً وزوائد في يديها، فلما رأى ذلك رجع ولم يدخل، ثم جلس فجعل ينكت في الأرض ويقول: "مَا لَي وَلِلدُّنْيَا، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟" ؛ فرأت فاطمة أنه إنما رجع من أجل الستر؛ فأخذت الستر والزوائد وأرسلت بهما مع بلال وقالت له: اذهب إلى النبي فقل له: قد تصدّقت به، فضعه حيث شئت، فأتى بلال إلى النبي فقال: قالت فاطمة قد تصدّقت به فضعه حيث شئت، فقال النبي: "بِأَبي وَأُمِّي قَدْ فَعَلْتُ، بِأَبي وَأُمِّي قَدْ فَعَلْتُ، اذْهَبْ فَبِعْهُ".
وقيل في قوله تعالى: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً} سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزهد؟ فقال: هو أن لا تبالي بمن أكل الدنيا مؤمن أو كافر.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: ويلكم أي مقدار لجناح بعوضة أن يزهد فيها؟.
وقال أبو بكر الواسطي: إلى متى تصول بترك كنيف، وإلى متى تصول بإعراضك عما لا تزن عند الله جناح بعوضة؟.
فإذا صح زهد العبد صح توكله أيضاً؛ لأن صدق توكله مكنه من زهده في الموجود؛ فمن استقام في التوبة وزهد في الدنيا وحقق هذين المقامين استوفى سائر المقامات وتكوّن فيها وتحقق بها.(1/452)
وترتيب التوبة مع المراقبة وارتباط إحداهما بالأخرى: أن يتوب العبد، ثم يستقيم في التوبة حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئاً، ثم يرتقي من تطهير الجوارح عن المعاصي إلى تطهير الجوارح عما لا يعني فلا يسمح بكلمة فضول ولا حركة فضول، ثم ينتقل للرعاية والمحاسبة من الظاهر إلى الباطن وتستولي المراقبة على الباطن: وهو التحقق بعلم القيام بمحو خواطر المعصية عن باطنه ثم خواطر الفضول؛ فإذا تمكن من رعاية الخطرات عصم عن مخالفة الأركان والجوارح وتستقيم توبته. قال الله تعالى لنبيه: {فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} قال أبو بكر الوراق: من خرج من قالب العبودية صنع به ما يصنع بالآبق.
وسئل سهل بن عبد الله التستري: أي نزلة إذا قام العبد بها قام مقام العبودية؟ قال: إذا ترك التدبير والاختيار.
فإذا تحقق العبد بالتوبة والزهد ودوام العمل لله يشغله وقته الحاضر عن وقته الآتي ويصل إلى مقام ترك التدبير والاختيار، ثم يصل إلى أن يملك الاختيار، فيكون اختياره من اختيار الله تعالى لزوال هواه ووفور علمه وانقطاع مادة الجهل عن باطنه.(1/453)
قال يحيى بن معاذ الرازي: ما دام العبد يتعرف يقال له لا تختر ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف، فإذا عرف وصار عارفاً يقال له إن شئت اختر وإن شئت لا تختر؛ لأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت، وإن تركت الاختيار فباختيارنا تركت الاختيار؛ فإنك بنا في الاختيار وفي ترك الاختيار. والعبد لا يتحقق بهذا المقام العالي والحال العزيز ـ الذي هو الغاية والنهاية: وهو أن يملك الاختيار بعد ترك التدبير والخروج من الاختيار ـ إلا بإحكامه هذه الأربعة التي ذكرناها، لأن ترك التدبير فناء، وتمليك التدبير والاختيار من الله تعالى لعبده ورده إلى الاختيار تصرف بالحق، وهو مقام البقاء، وهو الانسلاخ عن وجود كان بالبعد إلى وجود يصير بالحق، وهذا العبد ما بقي عليه من الاعوجاج ذرة، واستقام ظاهره وباطنه في العبودية، وعمر العلم والعمل ظاهره وباطنه، وتوطن حضرة القرب بنفس بين يدي الله عز وجل متمسكة بالاستكانة والافتقار، متحققة بقول رسول الله: "لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ فَأَهْلِكَ وَلاَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَأَضِيعَ. اكْلأْنِي كَلاءَةَ الوَلِيدِ وَلاَ تَخَلَّ عَنِّي".
{الباب الستون}: في ذكر إشارات المشايخ في المقامات على الترتيب قولهم في التوبة:
قال رويم: معنى التوبة أن يتوب من التوبة،
قيل معناه قول رابعة: أستغفر الله العظيم من قلة صدقي في قولي أستغفر الله.
وسئل الحسن المغازلي عن التوبة؟ فقال: تسألني عن توبة الإنابة أو عن توبة الاستجابة؟ فقال السائل: ما توبة الإنابة؟ فقال: أن تخاف من الله عز وجل من أجل قدرته عليك. قال: فما توبة الاستجابة؟ قال: أن تستحي من الله لقربه منك، وهذا الذي ذكره من توبة الاستجابة إذا تحقق العبد بها ربما تاب في صلاته من كل خاطر يلم به سوى الله تعالى ويستغفر الله منه، وتوبة الاستجابة لازمة لبواطن أهل القرب، كما قيل: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".(1/454)
قال ذو النون: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة الأنبياء من رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرهم.
سئل أبو محمد سهل عن الرجل يتوب من الشيء ويتركه ثم يخطر ذلك الشيء بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوته، فقال: الحلاوة طبع البشرية ولا بد من الطبع، وليس له حيلة إلا أن يرفع قلبه إلى مولاه بالشكوى، وينكره بقلبه، ويلزم نفسه الإنكار ولا يفارقه، ويدعو الله أن ينسيه ذلك ويشغله بغيره من ذكره وطاعته. قال: وإن غفل عن الإنكار طرفة عين أخاف عليه أن لا يسلم وتعمل الحلاوة في قلبه، ولكن مع وجدان الحلاوة يلزم قلبه الإنكار ويحزن، فإنه لا يضرّه. وهذا الذي قاله سهل كاف بالغ لكل طالب صادق يريد صحة توبته، والعارف القويّ الحال يتمكن من إزالة الحلاوة عن باطنه ويسهل عليه ذلك. وأسباب سهولة ذلك متنوعة للعارف ومن تمكن من قلبه حلاوة حب الله الخاص عن صفاء مشاهدة وصرف يقين، فأي حلاوة تبقى في قلبه، وإنما حلاوة الهوى لعدم حلاوة الحب لله.
وسئل السوسي عن التوبة؟ فقال: التوبة من كل شيء ذمه العلم إلى ما مدحه العلم، وهذا وصف يعمّ الظاهر والباطن لمن كوشف بصريح العلم، لأنه لا بقاء للجهل مع العلم، كما لا بقاء لليل مع طلوع الشمس، وهذا يستوعب جميع أقسام التوبة بالوصف الخاص والعام، وهذا العلم يكوّن علم الظاهر والباطن بتطهير الظاهر والباطن بأخص أوصاف التوبة وأعم أوصافها.
وقال أبو الحسن النوري: التوبة أن تتوب عن كل شيء سوى الله تعالى.
قولهم في الورع:
قال رسول الله: "مِلاكُ دِينِكُمُ الوَرَعُ".(1/455)
أخبرنا أبو زرعة إجازة، عن أبي بكر بن خلف، عن أبي عبد الرحمن السلمي إجازة، قال: أخبرنا أبو سعيد الخلال، قال: حدثني ابن قتيبة، قال: حدثنا عمر بن عثمان، قال: حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم، عن حبيب بن عبيد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله توضأ على نهر فلما فرغ من وضوئه أفرغ فضله في النهر وقال: يبلغه الله عز وجل قوماً ينفعهم.
قال عمر بن الخطاب: لا ينبغي لمن أخذ بالتقوى ووزن بالورع أن يذل لصاحب دنيا. قال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذم.
نقل عن الحارث بن أسد المحاسبي أنه كان على طرف أصبعه الوسطى عرق إذا مدّ يده إلى طعام فيه شبهة ضرب عليه ذلك العرق.
سئل الشبلي عن الورع؟ فقال: الورع أن تتورع أن يتشتت قلبك عن الله طرفة عين.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد كما أن القناعة طرف من الرضا.
وقال يحيى بن معاذ: الورع الوقوف على حدّ العلم من غير تأويل.
سئل الخواص عن الورع؟ فقال: أن لا يتكلم العبد إلا بالحق غضب أو رضي وأن يكون اهتمامه بما يرضي الله تعالى.
أخبرنا أبو زرعة إجازة عن أبي بكر بن خلف إجازة عن السلمي قال: سمعت الحسن بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة ولم يشرب من ماء زمزم إلا من ماء استقاه بركوته ورشائه ولم يتناول من طعام جلب من مصر شيئاً.
وقال الخواص: الورع دليل الخوف، والخوف دليل المعرفة والمعرفة دليل القربة.
قولهم في الزهد:
قال الجنيد: الزهد خلوّ الأيدي من الأملاك والقلوب من التتبع.(1/456)
وسئل الشبلي عن الزهد؟ فقال: لا زهد في الحقيقة، لأنه إما أن يزهد فيما ليس له فليس ذلك بزهد، أو يزهد فيما هو له فكيف يزهد فيه وهو معه وعنده، فليس إلا ظلف النفس وبذل مواساة: يشير إلى الأقسام التي سبقت بها الأقلام، وهذا لو اطرد هدم قاعدة الاجتهاد والكسب، ولكن مقصود الشبلي: أن يقلل الزهد في عين المعتد بالزهد لئلا يغتر به.
قال رسول الله: {إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُوتِيَ زُهْداً فِي الدُّنْيَا وَمَنْطِقاً، فَاقْرَبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلَقَّى الحِكْمَةَ}.
وقد سمى الله عز وجل الزاهدين علماء في قصة قارون فقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} وقال سهل بن عبد الله: للعقل ألف اسم، ولكل اسم منه ألف اسم، وأوّل كل اسم منه ترك الدنيا.
وقيل في قوله تعالى: {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وفي الخبر: "العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم".
وجاء في الأثر: لا تزال "لا إله إلا الله" تدفع عن العباد سخط الله ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم؛ فإذا فعلوا ذلك وقالوا لا إله إلا الله قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين.
وقال سهل: أعمال البر كلها في موازين الزهاد وثواب زهدهم زيادة لهم.
وقيل: من سمي باسم الزهد في الدنيا فقد سمي بألف اسم محمود؛ ومن سمي باسم الرغبة في الدنيا فقد سمي بألف اسم مذموم.
وقال السري: الزهد ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا، ويجمع هذا: الحظوظ المالية، والجاهية، وحب المنزل عند الناس، وحب المحمدة والثناء.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: الزهد غفلة، لأن الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء غفلة.(1/457)
وقال بعضهم: لما رأوا حقارة الدنيا زهدوا في الدنيا لهوانها عندهم، وعندي أن الزهد في الزهد غير هذا، وإنما الزهد في الزهد بالخروج من الاختيار في الزهد، لأنّ الزاهد اختار الزهد وأراده، وإرادته تستند إلى علمه، وعلمه قاصر، فإذا أقيم في مقام ترك الإرادة وانسلخ من اختياره كاشفه الله تعالى بمراده، فيترك الدنيا بمراد الحق لا بمراد نفسه، فيكون زهده بالله تعالى حينئذ. أو يعلم أن مراد الله منه التلبس بشيء من الدنيا، فما يدخل بالله في شيء من الدنيا لا ينقص عليه زهده، فيكون دخوله في الشيء من الدنيا بالله وبإذن منه زهداً في الزهد، والزاهد في الزهد استوى عنده وجود الدنيا وعدمها، إن تركها تركها بالله، وإن أخدها أخذها بالله، وهذا هو الزهد في الزهد: وقد رأينا من العارفين من أقيم في هذا المقام. وفوق هذا مقام آخر في الزهد: وهو لمن يردّ الحق إليه اختياره لسعة علمه وطهارة نفسه في مقام البقاء. فيزهد زهداً ثالثاً ويترك الدنيا بعد أن مكن من ناصيتها وأعيدت عليه موهوبة، ويكون تركه الدنيا في هذا المقام باختياره، واختياره من اختيار الحق؛ فقد يختار تركها حيناً تأسياً بالأنبياء والصالحين، ويرى أن أخذها في مقام الزهد في الزهد رفق أدخل عليه لموضع ضعفه عن درك شأو الأقوياء من الأنبياء والصديقين؛ فيترك الرفق من الحق بالحق للحق، وقد يتناوله باختياره رفقاً بتدبير يسوسه فيه صريح العلم: وهذا مقام التصرف لأقوياء العارفين: زهدوا ثالثاً بالله، كما رغبوا ثانياً بالله، كما زهدوا أوّلاً لله.
قولهم في الصبر:
قال سهل: الصبر انتظار الفرج من الله وهو أفضل الخدمة وأعلاها.(1/458)
وقال بعضهم: الصبر أن تصبر في الصبر: أي لا تطالع فيه الفرج: قال الله تعالى: {والصَّابِرينَ في البَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} وقيل: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر؛ فالصبر: عرك النفس، وبالعرك تلين والصبر جار في الصابر مجرى الأنفاس، لأنه يحتاج إلى الصبر عن كل منهيّ ومكروه ومذموم ظاهراً وباطناً، والعلم يدل والصبر يقبل، ولا تنفع دلالة العلم بغير قبول الصبر ومن كان العلم سائسه في الظاهر والباطن لا يتم ذلك له إلا إذا كان الصبر مستقره ومسكنه. والعلم والصبر متلازمان كالروح والجسد لا يستقل أحدهما بدون الآخر، ومصدرهما الغريزة العقلية، وهما متقاربان لاتحاد مصدرهما، وبالصبر يتحامل على النفس، وبالعلم يترقى الروح، وهما البرزخ والفرقان بين الروح والنفس ليستقر كل واحد منهما في مستقره، وفي ذلك صريح العدل وصحة الاعتدال، وبانفصال أحدهما عن الآخر أعني العلم والصبر ميل أحدهما على الآخر أعني النفس والروح، وبيان ذلك يدق. وناهيك بشرف الصبر قوله تعالى: {إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}{واصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ باللَّهِ} قيل: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله؛ فقال: لا. فقال: الصبر لله، فقال: لا. فقال: الصبر مع الله، فقال: لا. فغضب الشبلي وقال: ويحك، أي شيء هو؟ فقال الرجل: الصبر عن الله.(1/459)
قال: فصرخ الشبلي صرخة كاد أن تتلف روحه وعندي في معنى الصبر عن الله وجه ولكونه من أشدّ الصبر على الصابرين وجه: وذلك أن الصبر عن الله يكون في أخص مقامات المشاهدة يرجع العبد عن الله استحياء وإجلالاً، وتنطبق بصيرته خجلاً وذوباناً، ويتغيب في مفاوز استكانته وتخفيه لإحساسه بعظيم أمر التجلي، وهذا من أشدّ الصبر لأنه يواد استدامة هذا الحال تأدية لحق الجلال، والروح تود أن تكتحل بصيرتها باستلماع نور الجمال، وكما أن النفس منازعة لعموم حال الصبر، فالروح في هذا الصبر منازعة، فاشتد الصبر عن الله تعالى لذلك.
وقال أبو الحسن بن سالم: هم ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار؛ فالمتصبر: من صبر في الله؛ فمرّة يصبر، ومرة يجزع. والصابر: من يصبر في الله ولله ولا يجزع، ولكن تتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع. وأما الصبار: فذاك الذي صبره في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجود والحقيقة، لا من جهة الرسم والخلقة، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة.
وكان الشبلي يتمثل بهذين البيتين:
إن صوت المحب من ألم الشو >< ق وخوف الفراق يورث ضرّا
صابر الصبر فاستغاث به الصبـ >< ـر فصاح المحب للصبر صبرا
قال جعفر الصادق رحمه الله: أمر الله تعالى أنبياءه بالصبر وجعل الحظ الأعلى للرسول حيث جعل صبره بالله لا بنفسه، فقال: {وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ باللَّهِ}.
وسئل السري عن الصبر، فتكلم فيه، فدب على رجله عقرب، فجعل يضربه بإبرته، فقيل له: لم لا تدفعه؟ قال: أستحي من الله تعالى أن أتكلم في حال ثم أخالف ما أتكلم فيه.(1/460)
أخبرنا أبو زرعة إجازة، عن أبي بكر بن خلف إجازة، عن أبي عبد الرحمن قال: سمعت محمد بن خالد يقول: سمعت الفرغاني يقول: سمعت الجنيد رحمه الله يقول: إن الله تعالى أكرم المؤمنين بالإيمان، وأكرم الإيمان بالعقل وأكرم العقل بالصبر، فالإيمان زين المؤمن، والعقل زين الإيمان، والصبر زين العقل.
وأنشد عن إبراهيم الخوّاص رحمه الله:
صبرت على بعض الأذى خوف كله >< ودافعت عن نفسي لنفسي فعزّت
وجرّعتها المكروه حتى تدرّبت >< ولو لم أجرّعها إذن لاشمأزّت
ألا ربّ ذل ساق للنفس عزّة >< ويا رب نفس بالتذلل عزت
إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى >< إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر جهدي إن في الصبر عزة >< وأرضى بدنياي وإن هي قلّت
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أنعم الله على عبد من نعمة ثم انتزعها فعاضه مما انتزع منه الصبر، إلا كان ما عاضه خيراً مما انتزعه منه. وأنشد لسمنون:
تجرّعت من حاليه نعمى وأبؤسا >< زماناً إذا أجرى عزاليه احتسى
فكم غمرة قد جرّعتني كؤوسها >< فجرعتها من بحر صبري أكؤسا
تدرّعت صبري والتحفت صروفه >< وقلت لنفسي الصبر أو فاهلكي أسى
خطوب لو أن الشم زاحمن خطبها >< لساخت ولم تدرك لها الكف
ملمسا قولهم في الفقر: قال ابن الجلاء: الفقر أن لا يكون لك؛ فإذا كان لك لا يكون لك حتى تؤثر.
وقال الكتاني: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الغنى بالله تعالى، لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بالآخر.
وقال النوري: نعت الفقراء السكون عند العدم، والبذل عند الوجود، وقال غيره: والاضطراب عند الموجود.
وقال الدراج: فتشت كنف أستاذي أريد مكحلة، فوجدت فيها قطعة فتحيرت، فلما جاء قلت له: إني وجدت في كنفك هذه القطعة. قال: قد رأيتها ردها، ثم قال: خذها واشتر بها شيئاً، فقلت: ما كان أمر هذه القطعة بحق معبودك؟ فقال: ما رزقني الله تعالى من الدنيا صفراء ولا بيضاء غيرها، فأردت أن أوصي أن تشدّ في كفني فأردها إلى الله.(1/461)
وقال إبراهيم الخواص: الفقر رداء الشرف ولباس المرسلين وجلباب الصالحين.
وسئل سهل عن عبد الله عن الفقير الصادق؟ فقال: لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
قال أبو علي الروذباري رحمه الله: سألني الزقاق فقال: يا أبا علي، لم ترك الفقراء أخذ البلغة في وقت الحاجة؟. قال: قلت لأنهم مستغنون بالمعطي عن العطايا، قال: نعم، ولكن وقع لي شيء آخر، فقلت: هات أفدني ما وقع لك؟ قال: لأنهم قوم لا ينفعهم الوجود، إذ لله فاقتهم، ولا تضرهم الفاقة، إذ لله وجودهم. قال بعضهم: الفقر وقوف الحاجة على القلب ومحوها عما سوى الرب.
وقال المسوحي: الفقير الذي لا تغنيه النعم ولا تفقره المحن.
وقال يحيى بن معاذ: حقيقة الفقر أن لا يستغنى إلا بالله، ورسمه عدم الأسباب كلها.
وقال أبو بكر الطوسي: بقيت مدة أسأل عن معنى اختيار أصحابنا لهذا الفقر على سائر الأشياء؟ فلم يجبني أحد بجواب يقنعني، حتى سألت نصر بن الحمامي فقال لي: لأنه أول منزل من منازل التوحيد، فقنعت بذلك.
وسئل ابن الجلاء عن الفقر؟ فسكت حتى صلى، ثم ذهب ورجع ثم قال: إني لم أسكت إلا لدرهم كان عندي فذهبت فأخرجته، واستحيت من الله تعالى أن أتكلم في الفقر وعندي ذلك، ثم جلس وتكلم.
قال أبو بكر بن طاهر عن حكم الفقير: أن لا يكون له رغبة، فإن كان ولا بدّ لا تجاوز رغبته كفايته.
قال فارس: قلت لبعض الفقراء مرة ـ وعليه أثر الجوع والضر: لم لا تسأل فيطعموك؟ فقال: إني أخاف أن أسألهم فيمنعوني فلا يفلحون.
وأنشد لبعضهم:
قالوا غداً عيدٌ ماذا أنت لابسه >< فقلت خلعة ساق عبده الجرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما >< قلب يرى ربّه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به >< يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي >< والعيدُ ما دمت لي مرأى
ومستمعا قولهم في الشكر: قال بعضهم: الشكر هو الغيبة عن النعمة برؤية المنعم.(1/462)
وقال يحيى بن معاذ الرازي: لست بشاكر ما دمت تشكر وغاية الشكر التحير، وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها.
وفي أخبار داود عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى الله إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني.
ومعنى الشكر في اللغة: هو الكشف والإظهار، يقال: شكر وكشر، إذا كشف عن ثغره وأظهره، فنشر النعم وذكرها وتعدادها باللسان من الشكر. وباطن الشكر: أن تستعين بالنعم على الطاعة ولا تستعين بها على المعصية فهو شكر النعمة.
وسمعت شيخنا رحمه الله ينشد عن بعضهم:
أوليتني نعماً أبوح بشكرها >< وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنك ما حييت وإن أمت >< فلتشكرنك أعظمي في قبرها
قال رسول الله: "أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ الله فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ".
وقال رسول الله: "مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ" قيل: فما باله؟ قال: "أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ".
قال الجنيد: فرض الشكر الاعتراف بالنعم بالقلب واللسان.
وفي الحديث: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلهَ إِلاَّ الله، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لله".
وقال بعضهم في قوله تعالى: {وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَهُ ظَاهِرَةً وبَاطِنةً} وحقيقة الشكر أن يرى جميع المقضى له به نعماً غير ما يضره في دينه؛ لأن الله تعالى لا يقضي للعبد المؤمن شيئاً إلا وهو نعمة في حقه؛ فإما عاجلة يعرفها ويفهمها، وإما آجلة بما يقضي له من المكاره، فإما أن تكون درجة له أو تمحيصاً أو تكفيراً؛ فإذا علم أن مولاه أنصح له من نفسه وأعلم بمصالحه وأن كل ما منه نعم، فقد شكر.
قولهم في الخوف:(1/463)
قال رسول الله: "رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كَانَ دَاوُدُ النَّبيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَعُودُهُ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّ بِهِ مَرَضاً وَمَا بِهِ مَرَضٌ إِلاَّ خَوْفَ الله تَعَالَى وَالحَيَاءَ مِنْهُ".
قال أبو عمر الدمشقي: من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.
وقال بعضهم: ليس الخائف من يخاف ويمسح عينيه ولكن الخائف التارك ما يخاف أن يعذب عليه.
وقيل: الخائف الذي لا يخاف غير الله. قيل: أي لا يخاف لنفسه إنما يخاف إجلالاً له، والخوف للنفس خوف العقوبة.
وقال سهل: الخوف ذكر والرجاء أنثى أي منهما تتولد حقائق الإيمان. قال الله تعالى: {وَلقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإيَّاكُمْ أنِ اتّقُوا اللَّهَ} وقيل: إن الله تعالى جمع للخائفين ما فرقه على المؤمنين: وهو الهدى والرحمة والعلم والرضوان، فقال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}{إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَماءُ}{رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وقال سهل: كمال الإيمان بالعلم، وكمال العلم بالخوف. وقال أيضاً: العلم كسب الإيمان، والخوف كسب المعرفة.
وقال ذو النون: لا يسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج الخوف قلبه.
وقال فضيل بن عياض. إذا قيل لك: تخاف الله؟ اسكت، فإنك إن قلت لا؛ كفرت، وإن قلت نعم؛ كذبت، فليس وصفك وصف من يخاف. {يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، ثُمَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَجْعَلُ مَنْ آمَنَ بي سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ كَمَنْ لا يُؤْمِنُ بي}.(1/464)
قيل: جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: من يلي حساب الخلق؟ فقال: "الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى" قال: هو بنفسه؟ قال: "نَعَمْ" فتبسم الأعرابي، فقال النبي: "مِمَّ ضَحِكْتَ يا أَعْرَابيُّ؟" فقال: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سمح.
وقال شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة، وقيل: الرجاء رؤية الجلالة بعين الجمال، وقيل: قرب القلب من ملاطفة الرب.
قال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم في طيرانه.
قال أبو عبد الله ابن خفيف: الرجاء ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو، قال مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا.
والخوف والرجاء للإيمان كالجناحين، ولا يكون خائفاً إلا وهو راج، ولا راجياً إلا وهو خائف، لأنّ موجب الخوف الإيمان، وبالإيمان رجاء، وموجب الرجاء الإيمان، ومن الإيمان خوف ولهذا المعنى روي عن لقمان أنه قال لابنه: خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره، وارجه رجاء أشد من خوفك، قال: فكيف أستطيع ذلك إنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن ذو قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان.
قولهم في التوكل:
قال السري: التوكل الانخلاع من الحول والقوة. وقال الجنيد: التوكل أن تكون لله كما لم تكن، فيكون الله لك كما لم يزل.
وقال سهل: كل المقامات لها وجه وقفا، غير التوكل فإنه وجه بلا قفا.
قال بعضهم: يريد توكل العناية لا توكل الكفاية، والله تعالى جعل التوكل مقروناً بالإيمان فقال: {وعَلَى اللَّهِ فَتَوكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مؤْمِنينَ}{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}{وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذي لا يَمُوتُ} وقال ذو النون: التوكل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة.
وقال أبو بكر الرقاق: التوكل رد العيش إلى يوم واحد وإسقاط هم غد.(1/465)
وقال أبو بكر الواسطي: أصل التوكل الفاقة والافتقار وأن لا يفارق التوكل في أمانيه ولا يلتفت بصره إلى توكله لحظة في عمره.
وقال بعضهم: من أراد أن يقوم بحق التوكل لنفسه قبراً يدفنها وينسى الدنيا وأهلها، لأن حقيقة التوكل لا يقوم لها أحد من الخلق على كماله.
وقال سهل: أول مقامات التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ولا يكون له حركة ولا تدبير. وقال حمدون القصار: التوكل هو الاعتصام بالله.
وقال سهل أيضاً: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل. وقال: التقوى واليقين مثل كفتي الميزان، والتوكل لسانه به تعرف الزيادة والنقصان.
ويقع أن التوكل على قدر العلم بالوكيل، فكل من كان أتم معرفة كان أتم توكلاً، ومن كمل توكله غاب في رؤية الوكيل عن رؤية توكله، ثم إن قوة المعرفة تفيد صرف العلم بالعدل في القسمة، وأن الأقسام نصبت بإزاء المقسوم لهم عدلاً وموازنة، فإن النظر إلى غير الله لوجود الجهل في النفس، وكل ما أحس بشيء يقدح في توكله يراه من منبع النفس، فنقصان التوكل يظهر بظهور النفس، وكماله يثبت بغيبة النفس، وليس للأقوياء اعتداد بتصحيح توكلهم وإنما شغلهم في تغييب النفس بتقوية مراد القلب، فإذا غابت النفس انحسمت مادة الجهل فصح التوكل والعبد غير ناظر إليه، وكلما تحرك من النفس بقية يرد على ضميرهم سر قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شيءٍ}.
قولهم في الرضا:
قال الحارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. وقال ذو النون: الرضا سرور القلب بمر القضاء. وقال سفيان عند رابعة: اللهم ارض عنا، فقالت له: أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض، فسألها بعض الحاضرين متى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة كسروره بالنعمة.(1/466)
وقال سهل: إذا اتصل الرضا بالرضوان اتصلت الطمأنينة: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} وقال رسول الله: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً" وقال عليه السلام: "إِنَّ الله تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالفَرَحَ فِي الرِّضَا وَاليَقِينِ، وَجَعَلَ الهَمَّ وَالحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ".
وقال الجنيد: الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلوب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضا، وليس الرضا والمحبة كالخوف والرجاء، فإنهما حالان لا يفارقان العبد في الدنيا والآخرة لأنه في الجنة لا يستغني عن الرضا والمحبة.
وقال ابن عطاء الله: الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد، لأنه اختار له الأفضل فيرضى له وهو ترك السخط.
وقال أبو تراب: ليس ينال الرضا من الله من للدنيا في قلبه مقدار.
وقال السري: خمس من أخلاق المقربين: الرضا عن الله فيما تحب النفس وتكره، والحب له بالتحبب إليه، والحياء من الله، والأنس به والوحشة مما سواه.
وقال الفضيل: الراضي لا يتمنى فوق منزلته شيئاً. وقال ابن شمعون: الرضا بالحق والرضا له والرضا عنه فالرضا به مدبراً ومختاراً، والرضا عنه قاسماً ومعطياً، والرضا له إلهاً ورباً.
سئل أبو سعيد: هل يجوز أن يكون العبد راضياً ساخطاً؟ قال: نعم، يجوز أن يكون راضياً عن ربه ساخطاً على نفسه وعلى كل قاطع يقطعه عن الله. وقيل للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب من الصحة قال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَّ أنه في غير الحالة التي اختار الله له.
وقال علي رضي الله عنه: من جلس على بساط الرضا لم ينله من الله مكروه أبداً، ومن جلس على بساط السؤال لم يرض عن الله في كل حال.
وقال يحيى: يرجع الأمر كله إلى هذين الأصلين: فعل منه لك، وفعل منك له، فترضى بما عمل وتخلص فيما تعمل.(1/467)
وقال بعضهم: الراضي من لم يندم على فائت من الدنيا ولم يتأسف عليها.
وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به، يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
وقال الشبلي رحمه الله بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، فقال: صدقت قال: فضيق الصدر ترك الرضا بالقضاء. وهذا إنما قاله الجنيد رحمه الله تنبيهاً منه على أصل الرضا، وذلك أن الرضا يحصل لانشراح القلب وانفساحه، وانشراح القلب من نور اليقين. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فإذا تمكن النور من الباطن اتسع الصدر وانفتحت عين البصيرة وعاين حسن تدبير الله تعالى فينتزع السخط والضجر، لأن اتساع الصدر يتضمن حلاوة الحب وفعل المحبوب بموقع الرضا عن المحب الصادق؛ لأن المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده واختياره، فيفنى في لذة رؤية اختيار المحبوب عن اختيار نفسه، كما قيل: وكل ما يفعل المحبوب محبوب.
{الباب الحادي والستون}: في ذكر الأحوال وشرحها
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله، قال: أخبرنا أبو طالب الزيني، قال: أخبرتنا كريمة المروزية، قالت: أخبرنا أبو الهيثم الكشميهني، قال: أخبرنا أبو عبد الله الفربري، قال: أخبرنا أبو عبد الله البخاري، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي قال: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْداً لا يُحِبُّهُ إِلاَّ لله، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ".(1/468)
وأخبرنا شيخنا أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل، قال: أخبرنا أبو بكر بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوة، قال: حدثني أبو عبيد بن مؤمل عن أبيه، قال: حدثني بشر بن محمد، قال: حدثنا عبد الملك بن وهب، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن العرباض بن سارية قال: كان رسول الله يدعو: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَمِنَ المَاءِ البَارِدِ" فكأنّ رسول الله طلب خالص الحب، وخالص الحب: هو أن يحب الله تعالى بكليته، وذلك أن العبد قد يكون في حال قائماً بشروط حاله بحكم العلم، والجبلة تتقاضاه بضد العلم، مثل أن يكون راضياً والجبلة قد تكره، ويكون النظر إلى الانقياد بالعلم لا إلى الاستعصاء بالجبلة؛ فقد يحب الله تعالى ورسوله بحكم الإيمان، ويحب الأهل والولد بحكم الطبع.
وللمحبة وجوه وبواعث المحبة في الإنسان متنوعة: فمنها محبة الروح، ومحبة القلب، ومحبة النفس، ومحبة العقل؛ فقول رسول الله وقد ذكر الأهل والمال والماء البارد: معناه استئصال عروق المحبة بمحبة الله تعالى حتى يكون حب الله تعالى بقلبه وروحه وكليته، حتى يكون حب الله تعالى أغلب في الطبع أيضاً والجبلة من حب الماء البارد، وهذا يكون حباً صافياً تنغمر به وبنوره نار الطبع والجبلة، وهذا يكون حب الذات عن مشاهدة بعكوف الروح وخلوصه إلى مواطن القرب.
قال الواسطي في قوله تعالى: {يُحبُّهُمْ ويُحبُّونَهُ} وقال بعضهم: المحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك حبه فيه حقيقة، فإذاً الحب حبان: حب عام، وحب خاص. فالحب العام: مفسر بامتثال الأمر، وربما كان حباً من معدن العلم بالآلاء والنعماء، وهذا الحب مخرجه من الصفات، وقد ذكر جمع من المشايخ الحب في المقامات، فيكون النظر إلى هذا الحب الذي يكون لكسب العبد فيه مدخل.(1/469)
وأما الحب الخاص: فهو حب الذات عن مطالعة الروح، وهو الحب الذي فيه السكرات، وهو الاصطناع من الله الكريم لعبده واصطفاؤه إياه، وهذا الحب يكون من الأحوال؛ لأنه محض موهبة ليس للكسب فيه مدخل، وهو مفهوم من قول النبي: "أحب إلي من الماء البارد" لأنه كلام عن وجدان روح تلتذ بحب الذات، وهذا الحب روح، والحب الذي يظهر عن مطالعة الصفات ويطلع من مطالع الإيمان قالب هذا الروح، ولما صحت محبتهم هذه أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ} .لعين تفدّى ألف عين وتتقى ويكرم ألف للحبيب المكرم
وهذا الحب الخالص هو أصل الأحوال السنية وموجبها، وهو في الأحوال كالتوبة في المقامات؛ فمن صحت توبته على الكمال تحقق بسائر المقامات من الزهد والرضا والتوكل على ما شرحناه أولاً: ومن صحت محبته هذه تحقق بسائر الأحوال من الفناء والبقاء والصحو والمحو وغير ذلك؛ والتوبة لهذا الحب أيضاً بمثابة الجسمان؛ لأنها مشتملة على الحب العام الذي هو لهذا الحب كالجسد، ومن أخذ في طريق المحبوبين وهو طريق خاص من طريق المحبة يتكمل فيه ويجتمع له روح الحب الخاص مع قالب الحب العام الذي تشتمل عليه التوبة النصوح، وعند ذلك لا يتقلب في أطوار المقامات، لأن التقلب في أطوار المقامات والترقي من شيء منها إلى شيء طريق المحبين، ومن أخذ في طريق المجاهدة من قوله تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا}{وَيهْدي إليْهِ مَنْ يُنِيبُ}{اللَّهُ يَجْتبي إليْهِ مَنْ يَشَاءُ} قال الروذباري: ما لم تخرج من كليتك لا تدخل في حد المحبة. وقال أبو زيد: من قتلته محبته فديته رؤيته، ومن قتله عشقه فديته منادمته.(1/470)
أخبرنا بذلك أبو زرعة عن بن خلف عن أبي عبد الرحمن قال: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: قال أبو يزيد ذلك، فإذاً التقلب في أطوار المقامات لعوام المحبين، وطي بساط الأطوار لخواص المحبين وهم المحبوبون: تخلفت عن هممهم المقامات، وربما كانت المقامات على مدارج طبقات السموات: وهي مواطن من يتعثر في أذيال بقاياه.
وقال بعض الكبار لإبراهيم الخواص: إلى ماذا أدى بك التصوف؟ فقال: إلى التوكل، فقال: تسعى في عمران باطنك أين أنت من الفناء في التوكل برؤية الوكيل؟.
فالنفس إذا تحرّكت بصفتها متفلتة من دائرة الزهد يردها الزاهد إلى الدائرة بزهده، والمتوكل إذا تحركت نفسه يردها بتوكله، والراضي يردها برضاه، وهذه الحركات من النفس بقايا وجودية تفتقر إلى سياسة العلم، وفي ذلك تنسم روح القرب من بعيد: وهو أداء حق العبودية مبلغ العلم وبحسبه الاجتهاد والكسب. ومن أخذ في طريق الخاصة عرف طريق التخلص من البقايا بالتستر بأنوار فضل الحق. ومن اكتسى ملابس نور أهل القرب بروح دائمة العكوف محمية عن الطوارق والصروف لا يزعجه طلب ولا يوحشه سلب، فالزهد والتوكل والرضا كائن فيه، وهو غير كائن فيها، على معنى أنه كيف تقلب كان زاهداً وإن رغب، لأنه بالحق لا بنفسه، وإن رئي منه الالتفات إلى الأسباب فهو متوكل، وإن وجد منه الكراهة فهو راض، لأن كراهته لنفسه ونفسه للحق وكراهته للحق أعاد إليه نفسه بدواعيها وصفاتها مطهرة موهوبة محمولة ملطوف بها، صار عين الداء دواءه وصار الإعلال شفاءه، وناب طلب الله له مناب كل طالب من زهد وتوكل ورضا، أو صار مطلوبه من الله ينوب عنه كل مطلوب من زهد وتوكل ورضا.
قالت رابعة: محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه.
وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب لمن أحببت كلك ولا يبقى لك منك شيء.(1/471)
وقال أبو الحسين الوراق: السرور بالله من شدة المحبة له، والمحبة في القلب نار تحرق كل دنس.
وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشدّ من صبر الزاهدين، واعجباً كيف يصبر الإنسان عن حبيبه.
وقال بعضهم: من ادعى محبة الله من غير تورّع عن محارمه فهو كذاب، ومن ادعى محبة الجنة من غير إنفاق ملكه فهو كذاب، ومن ادعى حب رسول الله من غير حب الفقراء فهو كذاب، وكانت رابعة تنشد:
تعصي الإله وأنت تُظهر حُبَّه >< هذا لعمري في الفعال بديعُ
لو كان حُبُّك صادقاً لأطعته >< إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
وإذا كان الحب للأحوال كالتوبة للمقامات فمن ادعى حالاً يعتبر حبه، ومن ادعى محبة تعتبر توبته، فإن التوبة روح الحب، وهذا الروح قيامه بهذا القالب، والأحوال أعراض قوامها بجوهر الروح.
وقال سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي قال: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" فهم مع الله تعالى.
وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة حتى تخرج من رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة من حيث كان له المحبوب في الغيب ولم يكن هذا بالمحبة، فإذا خرج المحب إلى هذه النسبة كان محباً من غير محبة.
سئل الجنيد عن المحبة؟ قال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، قيل: هذا على معنى قوله تعالى: "فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً" وذلك أن المحبة إذا صفت وكملت لا تزال تجذب بوصفها إلى محبوبها، فإذا انتهت إلى غاية جهدها وقفت والرابطة متأصلة متأكدة، وكمال وصف المحبة أزال الموانع من المحب، وبكمال وصف المحبة تجذب صفات المحبوب تعطفاً على المحب المخلص من موانع قادحة في صدق الحب، ونظراً إلى قصوره بعد استنفاد جهده، فيعود المحب بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، فيقول عند ذلك:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا >< نحن روحان حللنا بدَنا
فإذا أبصرتني أبصرته >< وإذا أبصرته أبصرتنا(1/472)
وهذا الذي عبرنا عنه حقيقة قول رسول الله: "تَخَلَّقُوا بِأَخْلاقِ الله" لأنه بنزاهة النفس وكمال التزكيه يستعدّ للمحبة والمحبة موهبة غير معللة بالتزكية، ولكن سنة الله جارية أن يزكي نفوس أحبائه بحسن توفيقه وتأييده، وإذا منح نزاهة النفس وطهارتها ثم جذب روحه بجاذب المحبة خلع عليه خلع الصفات والأخلاق، ويكون ذلك عنده رتبة في الوصول، فتارة ينبعث الشوق من باطنه إلى ما وراء ذلك لكون عطايا الله غير متناهية، وتارة يتسلى بما منح فيكن ذلك وصوله الذي يسكن نيران شوقه، وبباعث الشوق تستقر الصفات الموهوبة المحققة رتبة الوصول عند المحب، ولولا باعث الشوق رجع القهقرى وظهرت صفات نفسه الحائلة بين المرء وقلبه، ومن ظن من الوصول غير ما ذكرنا أو تخايل له غير هذا القدر، فهو متعرض لمذهب النصارى في اللاهوت والناسوت.
وإشارات الشيوخ في الاستغراق والفناء كلها عائدة إلى تحقيق مقام المحبة باستيلاء نور اليقين وخلاصة الذكر على القلب، وتحقيق حق اليقين بزوال اعوجاج البقايا، وأمنت اللوث الوجودي من بقاء صفات النفس. وإذا صحت المحبة ترتبت عليها الأحوال وتبعتها.
سئل الشبلي عن المحبة؟ فقال: كأس لها وهج إذا استقر في الحواس وسكن في النفوس تلاشت.
وقيل: للمحبة ظاهر وباطن، ظاهرها اتباع رضا المحبوب، وباطنها أن يكون مفتوناً بالحبيب عن كل شيء ولا يبقى فيه بقية لغيره ولا لنفسه؛ فمن الأحوال السنية في المحبة والشوق، ولا يكون المحب إلا مشتاقاً أبداً؛ لأن أمر الحق تعالى لا نهاية له؛ فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن ما وراء ذلك أوفى منها وأتم:
حزني كحسنك لا لذا أمد >< ينهى إليه ولا لذا أمد
ثم هذا الشوق الحادث عنده ليس من كسبه، وإنما هو موهبة خص الله بها المحبين.(1/473)
قال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان الداراني فرأيته يبكي، فقلت: ما يبكيك رحمك الله قال: ويحك يا أحمد، إذا جن هذا الليل افترشت أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم، وأشرف الجليل جل جلاله عليهم يقول: يعنيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى مناجاتي، وإني مطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم وأرى بكاءهم، يا جبريل ناد فيهم ما هذا البكاء الذي أراه فيكم؟ هل خبركم مخبر أن حبيباً يعذب أحبابه بالنار؟ كيف يجمل بي أن أعذب قوماً إذا جن عليهم الليل تملقوا إلي؟ فبي حلفت إذا وردوا القيامة على أن أسفر لهم عن وجهي وأبيحهم رياض قدسي.
وهذه أحوال قوم من المحبين أقيموا مقام الشوق، والشوق من المحبة كالزهد في التوبة: إذا استقرت التوبة ظهر الزهد، وإذا استقرت المحبة ظهر الشوق.
قال الواسطي في قوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قال: شوقاً واستهانة بمن وراءه {قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلَى أَثَرِي} قال أبو عثمان: الشوق ثمرة المحبة، فمن أحب الله اشتاق إلى لقائه. وقال أيضاً في قوله تعالى: {فإنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} وقال ذو النون: الشوق أعلى الدرجات وأعلى المقامات، فإذا بلغها الإنسان استبطأ الموت شوقاً إلى ربه ورجاء للقائه والنظر إليه.(1/474)
وعندي: أن الشوق الكائن في المحبين إلى رتب يتوقعونها في الدنيا، غير الشوق الذي يتوقعون به ما بعد الموت، والله تعالى يكاشف أهل وده بعطايا يجدونها علماً ويطلبونها ذوقاً؛ فكذلك يكون شوقهم ليصير العلم ذوقاً، وليس من ضرورة مقام الشوق استبطاء الموت، وربما الأصحاء من المحبين يتلذذون بالحياة لله تعالى، كما قال الجليل لرسوله عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنّ صَلاَتي ونُسُكي وَمَحْيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العَالمينَ} وأنكر بعضهم مقام الشوق وقال: إنما يكون الشوق لغائب، ومتى يغيب الحبيب عن الحبيب حتى يشتاق؟ ولهذا سئل الأنطاكي عن الشوق؟ فقال: إنما يشتاق إلى الغائب وما غبت عنه منذ وجدته، وإنكار الشوق على الإطلاق لا أرى له وجهاً؛ لأن رتب العطايا والمنح من أنصبة القرب إذا كانت غير متناهية كيف ينكر الشوق من المحب؟ فهو غير غائب وغير مشتاق بالنسبة إلى ما وجد، ولكن يكون مشتاقاً إلى ما لم يجد من أنصبة القرب، فكيف يمنع حال الشوق والأمر هكذا؟ ووجه آخر: أن الإنسان لا بد له من أمور يردها حكم الحال لموضع بشريته وطبيعته وعدم وقوفه على حد العلم الذي يقتضيه حكم الحال، ووجود هذه الأمور مثير لنار الشوق، ولا نعني بالشوق إلا مطالبة تنبعث من الباطن إلى الأولى والأعلى من أنصبة القرب، وهذه المطالبة كائنة في المحبين، فالشوق إذاً كائن لا وجه لإنكاره.
وقد قال قوم: شوق المشاهدة واللقاء أشد من شوق البعد والغيبوبة، فيكون في حال الغيبوبة مشتاقاً إلى اللقاء، ويكون في حال اللقاء والمشاهدة مشتاقاً إلى زوائد ومبار من الحبيب وإفضاله، وهذا هو الذي أراه وأختاره.
وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله، فإذا تحركت اشتياقاً أضاء النور ما بين المشرق والمغرب، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إليّ أشهدكم أني إليهم أشوق.(1/475)
وقال أبو يزيد: لو أن الله حجب أهل الجنة عن رؤيته لاستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.
سئل ابن عطاء الله عن الشوق فقال: هو احتراق الحشا وتلهب القلوب وتقطع الأكباد من البعد بعد القرب.
سئل بعضهم: هل الشوق أعلى أم المحبة. فقال: المحبة؛ لأن الشوق يتولد منها، فلا مشتاق إلا من غلبه الحب، فالحب أصل والشوق فرع.
وقال النصرآباذي: للخلق كلهم مقام الشوق لا مقام الاشتياق، ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار.
ومنها الأنس: وقد سئل الجنيد عن الأنس: فقال: ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة.
وسئل ذو النون عن الأنس؟ فقال: هو انبساط المحب إلى المحبوب. قيل: معناه قول الخليل: {أَرِني كَيْفَ تُحيي المَوْتَى}{أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَْ}
شغلت قلبي بما لديك فلا >< ينفك طول الحياة عن فكرِ
آنستني منك بالوداد فقد >< أوحشتني من جميع ذا البشرِ
ذكرك لي مؤنس يعارضني >< يوعدني عنك منك بالظفرِ
وحيثما كنت يا مدى هممي >< فأنت مني بموضع النظرِ
وروي أن مطرف ابن الشخير كتب إلى عمر بن عبد العزيز: ليكن أنسك بالله وانقطاعك إليه، فإنّ لله عباداً استأنسوا بالله وكانوا في وحدتهم أشد استئناساً من الناس في كثرتهم، وأوحش ما يكون آنس ما يكونون، وآنس ما يكون الناس أوحش ما يكونون.
قال الواسطي: لا يصل إلى محل الأنس من لم يستوحش من الأكوان كلها.
وقال أبو الحسين الوراق: لا يكون الأنس بالله ومعه التعظيم، لأن كل من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إلا الله تعالى، فإنك لا تتزايد به أنساً إلا ازددت منه هيبة وتعظيماً.
قالت رابعة: كل مطيع مستأنس. وأنشدت:
ولقد جعلتك في الفؤاد مُحدِّثي >< وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانسٌ >< وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقال مالك بن دينار: من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل عمله وعمي قلبه وضيع عمره.(1/476)
قيل لبعضهم: من معك في الدار؟ قال: الله تعالى معي ولا يستوحش من أنس بربه.
وقال الخراز: الأنس محادثة الأرواح مع المحبوب في مجالس القرب.
وصف بعض العارفين صفة أهل المحبة الواصلين فقال: جدد لهم الود في كل طرفة بدوام الاتصال، وآواهم في كنفه بحقائق السكون إليه حتى أنت قلوبهم وحنت أرواحهم شوقاً. وكان الحب والشوق منهم إشارة من الحق إليهم عن حقيقة التوحيد وهو الوجود بالله، فذهبت مناهم وانقطعت آمالهم عنده لما بان منه لهم، ولو أن الحق تعالى أمر جميع الأنبياء يسألون لهم ما سألوه بعض ما أعد لهم من قديم وحدانيته ودوام أزليته وسابق علمه، وكان نصيبهم معرفتهم به وفراغ همهم عليه واجتماع أهوائهم فيه، فصار يحسدهم من عبيده العموم: أن رفع عن قلوبهم جميع الهموم وأنشد في معناه:
كانت لقلبي أهواء مفرقة >< فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده >< وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم >< شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
وقد يكون من الأنس: الأنس بطاعة الله وذكره وتلاوة كلامه وسائر أبواب القربات، وهذا القدر من الأنس نعمة من الله تعالى ومنحة منه، ولكن ليس هو حال الأنس الذي يكون للمحبين، والأنس حال شريف يكون عند طهارة الباطن وكنسه بصدق الزهد وكمال التقوى وقطع الأسباب والعلائق ومحو الخواطر والهواجس، وحقيقته عندي: كنس الوجود بثقل لائح العظمة وانتشار الروح في ميادين الفتوح، وله استقلال بنفسه يشتمل على القلب فيجمعه به عن الهيبة، وفي الهيبة اجتماع الروح ورسوبه إلى محل النفس، وهذا الذي وصفناه من أنس الذات وهيبة الذات يكون في مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء، وهما غير الأنس والهيبة اللذين يذهبان بوجود الفناء؛ لأن الهيبة والأنس قبل الفناء ظهرا بمطالعة الصفات من الجلال والجمال. وذلك مقام التلوين، وما ذكرناه بعد الفناء في مقام التمكين والبقاء من مطالعة الذات.(1/477)
ومن الأنس خضوع النفس المطمئنة، ومن الهيبة: خشوعها، والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح.
ومنها: القرب، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {واسْجُدْ واقْتَرِبْ}"أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده" فالساجد إذا أذيق طعم السجود يقرب لأنه يسجد ويطوي بسجوده بساط الكون ما كان وما يكون، ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب قال بعضهم: إني لأجد الحضور فأقول: يا ألله، أو يا رب؛ فأجد ذلك علي أثقل من الجبال. قيل: ولم؟ قال: لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليساً ينادي جليسه، وإنما هي إشارات وملاحظات ومناغاة وملاطفات، وهذا الذي وصفه مقام عزيز متحقق فيه القرب، ولكنه مشعر بمحو، ومؤذن بسكر، يكون ذلك لمن غابت نفسه في نور روحه لغلبة سكره وقوة محوه؛ فإذا صحا وأفاق تتخلص الروح من النفس والنفس من الروح، ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه، فيقول: يا الله ويا رب، بلسان النفس المطمئنة العائدة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها، والروح تستقل بفتوحه وبكمال الحال عن الأقوال، وهذا أتم وأقرب من الأول، لأنه وفى حق القرب باستقلال الروح بالفتوح، وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل الافتقار، وحظ القرب لا يزال يتوفر نصيب الروح بإقامة رسم العبودية من النفس.
وقال الجنيد: إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه، فانظر ماذا يقرب من قلبك.
وقال أبو يعقوب السوسي: ما دام العبد يكون بالقرب لم يكن قريباً حتى يغيب عن رؤية القرب بالقرب فإذا ذهب عن رؤية القرب بالقرب فذلك قرب. وقد قال قائلهم:
قد تحققتك في السـ >< ـر فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعانٍ >< وافترقنا لمعانِ
إن يكن غيبك التّعـ >< ـظيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوجـ >< ـد من الأحشاءِ داني(1/478)
وقال ذو النون: ما ازداد أحد من الله قربة إلا ازداد هيبة. وقال سهل: أدنى مقام من مقامات القرب الحياء. وقال النصرآباذي: باتباع السنة تنال المعرفة، وبأداء الفرائض تنال القربة، وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة.
ومنها: الحياء، والحياء على الوصف العام والوصف الخاص؛ فأما الوصف العام فما أمر به رسول الله في قوله: "اسْتَحْيُوا مِنَ الله حَقَّ الحَيَاءِ" قالوا: إنا نستحي يا رسول الله. قال: "لَيْسَ ذلِكَ، وَلكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ الله حَقَّ الحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْيَذْكُرِ المَوْتَ وَالبلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَة تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ الله حَقَّ الحَيَاءِ" وهذا الحياء من المقامات.
وأما الحياء الخاص فمن الأحوال: وهو ما نقل عن عثمان رضي الله عنه قال: إني لأغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من الله.
أخبرنا أبو زرعة عن ابن خلف عن أبي عبد الرحمن قال سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت أحمد السقطي بن صالح يقول: سمعت محمد بن عبدون يقول سمعت أبا العباس المؤدب يقول: قال لي سري: احفظ عني ما أقول لك إن الحياء والأنس يطوفان بالقلب، فإذا وجدا فيه الزهد والورع حطا، وإلا رحلا، والحياء إطراق الروح إجلالاً لعظيم الجلال. والأنس التذاذ الروح بكمال الجمال؛ فإذا اجتمعا فهو الغاية في المنى والنهاية في العطاء.
وأنشد شيخ الإسلام:
أشتاقه فإذا بدا >< أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة >< وصيانة لجماله
الموت في إدباره >< والعيش في إقباله
وأصدّ عنه إذا بدا >< وأروم طيف خياله
قال بعض الحكماء: من تكلم في الحياء ولا يستحي من الله فيما يتكلم به فهو مستدرج.
وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع حشمة ما سبق منك إلى ربك.
وقال ابن عطاء الله: العلم الأكبر الهيبة والحياء؛ فإذا ذهب عنه الهيبة والحياء فلا خير فيه.(1/479)
وقال أبو سليمان: إن العباد عملوا على أربع درجات: على الخوف، والرجاء، والتعظيم، والحياء. وأشرفهم منزلة: من عمل على الحياء لما أيقن أن الله تعالى يراه على كل حال استحيا من حسناته أكثر مما استحيا العاصون من سيئاتهم.
وقال بعضهم: الغالب على قلوب المستحيين الإجلال والتعظيم دائماً عند نظر الله إليهم.
ومنها الاتصال قال النوري: الاتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار وقال بعضهم: الاتصال وصول السر إلى مقام الذهول. وقال بعضهم: الاتصال أن لا يشهد العبد غير خالقه ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه. وقال سهل بن عبد الله: حرّكوا بالبلاء فتحرّكوا، ولو سكنوا اتصلوا. وقال يحيى بن معاذ الرازي: العمال أربعة: تائب، وزاهد، ومشتاق، وواصل؛ فالتائب محجوب بتوبته، والزاهد محجوب بزهده، والمشتاق محجوب بحاله، والواصل لا يحجبه عن الحق شيء.
وقال أبو سعيد القرشي: الواصل الذي يصله الله فلا يخشى عليه القطع أبداً، والمتصل الذي بجهده يتصل، وكلما دنا انقطع، وكأن هذا الذي ذكره حال المريد والمراد، لكون أحدهما مباداً بالكشوف وكون الآخر مردوداً إلى الاجتهاد.
وقال أبو يزيد: الواصلون في ثلاثة أحرف همهم لله، وشغلهم في الله، ورجوعهم إلى الله.
وقال السياري: الوصول مقام جليل، وذلك أن الله تعالى إذا أحب عبداً أن يوصله اختصر عليه الطريق وقرّب إليه البعيد.
وقال الجنيد: الواصل هو الحاصل عند ربه. وقال رويم: أهل الوصول أوصل الله إليهم قلوبهم، فهم محفوظو القوى، ممنوعون من الخلق أبداً.
وقال ذو النون: ما رجع من رجع إلا من الطريق، وما وصل إليه أحد فرجع عنه.(1/480)
واعلم أن الاتصال والمواصلة أشار إليه الشيوخ، وكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجدان فهو من رتبة الوصول، ثم يتفاوتون، فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال وهو رتبة في التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع فعل الله، ويخرج في هذه الحالة من التدبير والاختيار، وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يوقف في مقام الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه به من مطالعة الجمال والجلال، وهذا تجلي طريق الصفات وهو رتبة في الوصول. ومنهم من ترقى لمقام الفناء مشتملاً على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة مغيباً في شهوده عن وجوده، وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين، وهذا المقام رتبة في الوصول، وفوق هذا حق اليقين، ويكون من ذلك في الدنيا للخواص لمح: وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه حتى قالبه، وهذا من أعلى رتب الوصول؛ فإذا تحققت الحقائق يعلم العبد مع هذه الأحوال الشريفة أنه بعد في أول المنزل فأين الوصول؟ هيهات منازل طريق الوصل لا تقطع أبداً أبد الآباد في عمر الآخرة الأبدي، فكيف في العمر القصير الدنيوي؟.(1/481)
ومنها القبض والبسط: وهما حالان شريفان، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} واعلم أن القبض والبسط لهما موسم معلوم ووقت محتوم لا يكونان قبله ولا يكونان بعده، ووقتهما وموسمهما في أوائل حال المحبة الخاصة لا في نهايتها، ولا قبل حال المحبة الخاصة؛ فمن هو في مقام المحبة العامة الثابتة بحكم الإيمان لا يكون له قبض ولا بسط، وإنما يكون له خلاف خوف ورجاء، وقد يجد شبه حال القبض وشبه حال البسط، ويظن ذلك قبضاً وبسطاً، وليس هو ذلك، وإنما هو هم يعتريه فيظنه قبضاً، واهتزاز نفساني ونشاط طبيعي يظنه بسطاً، والهم والنشاط يصدران من محل النفس ومن جوهرها لبقاء صفاتها، وما دامت صفة الأمارة فيها بقية على النفس يكون منها الاهتزاز والنشاط والهم: وهج ساجور النفس، والنشاط: ارتفاع موج النفس عند تلاطم بحر الطبع؛ فإذا ارتقى من حال المحبة العامة إلى أوائل المحبة الخاصة يصير ذا حال وذا قلب وذا نفس لوامة، ويتناوب القبض والبسط فيه عند ذلك؛ لأنه ارتقى من رتبة الإيمان إلى رتبة الإيقان وحال المحبة الخاصة، فيقبضه الحق تارة ويبسطه أخرى.
قال الواسطي: يقبضك عمّا لك ويبسطك فيما له: وقال النوري: يقبضك بإياك، ويبسطك لإياه.(1/482)
واعلم أن وجود القبض لظهور صفة النفس وغلبتها، وظهور البسط لظهور صفة القلب وغلبته، والنفس ما دامت لوامة فتارة مغلوبة، وتارة غالبة، والقبض والبسط باعتبار ذلك منها، وصاحب القلب تحت حجاب نوراني لوجود قلبه، كما أن صاحب النفس تحت حجاب ظلماني لوجود النفس، فإذا ارتقى من القلب وخرج من حجابه لا يقيده الحال ولا يتصرف فيه، فيخرج من تصرف القبض والبسط حينئذ، فلا يقبض ولا يبسط ما دام متخلصاً من الوجود النوراني الذي هو القلب ومتحققاً بالقرب من غير حجاب النفس والقلب؛ فإذا عاد إلى الوجود من الفناء والبقاء، يعود إلى الوجود النوراني الذي هو القلب، فيعود القبض والبسط إليه عند ذلك، ومهما تخلص إلى الفناء والبقاء فلا قبض ولا بسط.
قال فارس: أولاً القبض ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقع في الوجود، فأما مع الفناء والبقاء فلا، ثم إن القبض قد يكون عقوبة الإفراط في البسط، وذلك أن الوارد من الله تعالى يرد على القلب فيمتلىء القلب منه روحاً وفرحاً واستبشاراً، فتسترق النفس السمع عند ذلك وتأخذ نصيبها، فإذا وصل أثر الوارد إلى النفس طغت بطبعها وأفرطت في البسط حتى تشاكل البسط نشاطاً، فتقابل بالقبض عقوبة، وكل القبض إذا فتش لا يكون إلا من حركة النفس وظهورها بصفتها، ولو تأدبت النفس وعدلت ولم تجر بالطغيان تارة وبالعصيان أخرى ما وجد صاحب القلب القبض، وما دام روحه وأنسه. ورعاية الاعتدال الذي يسدّ باب القبض متلقى من قوله تعالى: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وقيل: الباقي أن تصير الأشياء كلها له شيئاً واحداً، فيكون كل حركاته في موافقة الحق دون مخالفته، فكان فانياً عن المخالفات باقياً في الموافقات.
وعندي أن هذا الذي ذكره هذا القائل هو مقام صحة التوبة النصوح، وليس من الفناء والبقاء في شيء.(1/483)
ومن الإشارة إلى الفناء ما روي عن عبد الله بن عمر أنه سلم عليه إنسان وهو في الطواف فلم يرد عليه فشكاه إلى بعض أصحابه، فقال له: كنا نتراءى الله في ذلك المكان.
وقيل: الفناء هو الغيبة عن الأشياء كما كان فناء موسى حين تجلى ربه للجبل.
وقال الخراز: الفناء هو التلاشي بالحق، والبقاء هو الحضور مع الحق.
وقال الجنيد: الفناء استعجام الكل عن أوصافك واشتغال الكل منك بكليته.
وقال إبراهيم ابن شيبان: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة.
وسئل الخراز ما علامة الفاني؟ قال: علامة من ادّعى الفناء ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى.
وقال أبو سعيد الخراز: أهل الفناء في الفناء صحتهم أن يصحبهم علم البقاء؛ وأهل البقاء في البقاء صحتهم أن يصحبهم علم الفناء.(1/484)
واعلم أن أقاويل الشيوخ في الفناء والبقاء كثيرة، فبعضها إشارة إلى فناء المخالفات وبقاء الموافقات وهذا تقتضيه التوبة النصوح، فهو ثابت بوصف التوبة وبعضها يشير إلى زوال الرغبة والحرص والأمل، وهذا يقتضيه الزهد. وبعضها إشارة إلى فناء الأوصاف المذمومة وبقاء الأوصاف المحمودة، وهذا يقتضيه تزكية النفس. وبعضها إشارة إلى حقيقة الفناء المطلق، وكل هذه الإشارات فيها معنى الفناء من وجه. ولكن الفناء المطلق هو ما يستولي من أمر الحق سبحانه وتعالى على العبد، فيغلب كون الحق سبحانه وتعالى على كون العبد، وهو ينقسم إلى فناء ظاهر وفناء باطن، فأما الفناء الظاهر: فهو أن يتجلى الحق سبحانه وتعالى بطريق الأفعال ويسلب عن العبد اختياره وإرادته فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلاً إلا بالحق، ثم يأخذ في المعاملة مع الله تعالى بحسه، حتى سمعت أن بعض من أقيم في هذا المقام من الفناء كان يبقى أياماً لا يتناول الطعام والشراب حتى يتجرد له فعل الحق فيه ويقيض الله تعالى له من يطعمه ويسقيه كيف شاء وأحب، وهذا لعمري فناء، لأنه فني عن نفسه وعن الغير نظراً إلى فعل الله تعالى بفناء فعل غير الله. والفناء الباطن: أن يكاشف تارة بالصفات وتارة بمشاهدة آثار عظمة الذات، فيستولي على باطنه أمر الحق حتى لا يبقى له هاجس ولا وسواس. وليس من ضرورة الفناء أن يغيب إحساسه، وقد يتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص، وليس ذلك من ضرورة الفناء على الإطلاق.(1/485)
وقد سألت الشيخ أبا محمد بن عبد الله البصري وقلت له: هل يكون بقاء المتخيلات في السر ووجود الوسواس من الشرك الخفي؟ ـ وكان عندي أن ذلك من الشرك الخفي ـ فقال لي: هذا يكون في مقام الفناء. ولم يذكر أنه هل هو من الشرك الخفي أم لا؟ ثم ذكر حكاية مسلم بن يسار أنه كان في الصلاة فوقعت اسطوانة في الجامع فانزعج لهدّتها أهل السوق، فدخلوا المسجد فرأوه في الصلاة ولم يحسّ بالأسطوانة ووقوعها؛ فهذا هو الاستغراق والفناء باطناً، ثم قد يتسع وعاؤه حتى لعله يكون متحققاً بالفناء ومعناه روحاً وقلباً، ولا يغيب عن كل ما يجري عليه من قول وفعل، ويكون من أقسام الفناء: أن يكون في كل فعل وقول مرجعه إلى الله وينتظر الأذن في كليات أموره ليكون في الأشياء بالله لا بنفسه؛ فتارك الاختيار منتظر لفعل الحق فان، وصاحب الانتظار لإذن الحق في كليات أموره راجع إلى الله بباطنه في جزئياتها فان، ومن ملكه الله تعالى اختياره وأطلقه في التصرف يختار كيف شاء وأراد لا منتظراً للإذن هو باق، والباقي في مقام لا يحجبه الحق عن الخلق، ولا الخلق عن الحق، والفاني محجوب بالحق عن الخلق، والفناء الظاهر لأرباب القلوب والأحوال، والفناء الباطن لمن أطلق عن وثاق الأحوال، وصار بالله لا بالأحوال، وخرج من القلب فصار مع مقلبه لا مع قلبه.
{الباب الثاني والستون}: في شرح كلمات مشيرة إلى بعض الأحوال في اصطلاح الصوفية(1/486)
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي ابن سليمان إجازة، قال: أخبرنا أبو الفضل حمد بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، قال: حدثنا مسور بن عيسى، قال: حدثنا القاسم بن يحيى، قال: حدثنا ياسين الزيات عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي قال: "إن من معادن التقوى تعلمك إلى ما قد علمت علم ما لم تعلم، والنقص فيما علمت قلة الزيادة فيه، وإنما يزهد الرجل في علم ما لم يعلم قلة الانتفاع بما قد علم". فمشايخ الصوفية أحكموا أساس التقوى، وتعملوا العلم لله تعالى، وعملوا بما علموا لموضع تقواهم، فعلمهم الله تعالى ما لم يعلموا من غرائب العلوم ودقيق الإشارات، واستنبطوا من كلام الله تعالى غرائب العلوم وعجائب الأسرار وترسخ قدمهم في العلم قال أبو سعيد الخراز أول الفهم لكلام الله العمل به. لأن فيه العلم والفهم والاستنباط. وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله تعالى: {إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وقد ورد في الخبر عن رسول الله فيما رواه سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أنه قال: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله؛ فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله.
أخبرنا أبو زرعة، قال: أخبرنا أبو بكر بن خلف، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت النصرآباذي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: سمعت القرشي يقول: هي أسرار الله تعالى يبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة، وهي من الأسرار التي لم يطلع عليه إلا الخواص.(1/487)
وقال أبو سعيد الخراز: للعارفين خزائن أودعوها علوماً غريبة وأنباء عجيبة يتكلمون فيها بلسان الأبدية ويخبرون عنها بعبارة الأزلية، وهي من العلم المجهول، فقوله بلسان الأبدية وعبارة الأزلية، إشارة إلى أنهم بالله ينطقون. وقد قال تعالى على لسان نبيه: "بي ينطق" وهو العلم اللدني الذي قال الله تعالى فيه في حق الخضر: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاَّ هُوَ} فهذا جمع ثم فرق فقال: {وَالمَلاَئِكَةُ وأُولُو العِلْمِ}{آمَنَّا بِاللَّهِ}{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وقال الجنيد: القرب بالوجد جمع، وغيبته في البشرية تفرقة. وقيل: جمعهم في المعرفة وفرقهم في الأحوال. والجمع اتصال لا يشاهد صاحبه إلا الحق، فمتى شاهد غيره فما جمع، والتفرقة شهادة لمن شاء بالمباينة، وعباراتهم في ذلك كثيرة والمقصود أنهم أشاروا بالجمع إلى تجريد التوحيد، وأشاروا بالتفرقة إلى الاكتساب، فعلى هذا لا جمع إلا بتفرقة، ويقولون فلان في عين الجمع، يعنون استيلاء مراقبة الحق على باطنه؛ فإذا عاد إلى شيء من أعماله عاد إلى التفرقة؛ فصحة الجمع بالتفرقة. وصحة التفرقة بالجمع؛ فهذا يرجع حاصله إلى أن الجمع من العلم بالله، والتفرقة من العلم بأمر الله، ولا بد منهما جميعاً.
قال المزيني: الجمع عين الفناء بالله، والتفرقة العبودية متصل بعضها بالبعض. وقد غلط قوم وادعوا أنهم في عين الجمع وأشاروا إلى صرف التوحيد وعطلوا الاكتساب فتزندقوا. وإنما الجمع حكم الروح؛ والتفرقة حكم القالب. وما دام هذا التركيب باقياً فلا بد من الجمع والتفرقة.
وقال الواسطي: إذا نظرت إلى نفسك فرقت وإذا نظرت إلى ربك جمعت، وإذا كنت قائماً بغيرك فأنت فان بلا جمع ولا تفرقة.(1/488)
وقيل: جمعهم بذاته، وفرقهم في صفاته، وقد يريدون بالجمع والتفرقة: أنه إذا أثبت لنفسه كسباً ونظر إلى أعماله فهو في التفرقة، وإذا أثبت الأشياء بالحق فهو في الجمع، ومجموع الإشارات ينبىء أن الكون يفرق والمكون يجمع، فمن أفرد المكون جمع، ومن نظر إلى الكون فرق؛ فالتفرقة عبودية، والجمع توحيد؛ فإذا أثبت نظراً إلى كسبه فرق، وإذا أثبتها بالله جمع، وإذا تحقق بالفناء فهو جمع الجمع، ويمكن أن يقال: رؤية الأفعال تفرقة، ورؤية الصفات جمع، ورؤية الذات جمع الجمع.
سئل بعضهم عن حال موسى عليه السلام في وقت الكلام فقال: أفنى موسى عن موسى فلم يكن لموسى خبر من موسى، ثم كلم فكان المكلم والمكلم هو، وكيف كان يطيق موسى حمل الخطاب ورد الجواب لولا بإياه سمع، ومعنى هذا: أن الله تعالى منحه قوة وبتلك القوة سمع؛ ولولا تلك القوة ما قدر على السمع، ثم أنشد القائل متمثلاً:
وبدا له من بعد ما انْدَمَلَ الهوَى >< برق تألَّق موهناً لمعانُه
يبدو كحاشية الرداءِ ودونه >< صعب الذرى متمنع أركانُه
فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق >< نظراً إليه ورده أشجانُه
فالنارُ ما اشتملت عليه ضلوعه >< والماءُ ما سمحت به أجفانُه
ومنها قولهم: التجلي والاستتار. قال الجنيد: إنما هو تأديب وتهذيب وتذويب، فالتأديب: محل الاستتار وهو للعوام، والتهذيب للخواص وهو التجلي، والتذويب للأولياء وهو المشاهدة.
وحاصل الإشارات في الاستتار راجع إلى ظهور صفات النفس.
ومنها الاستتار. وهو إشارة إلى غيبة صفات النفس بكمال قوة صفات القلب. ومنها التجلي، ثم التجلي قد يكون بطريق الأفعال، وقد يكون بطريق الصفات، وقد يكون بطريق الذات، والحق تعالى أبقى على الخواص موضع الاستتار رحمة منه لهم ولغيرهم؛ فأما لهم فلأنهم به يرجعون إلى مصالح النفوس، وأما لغيرهم فلأنه لولا مواضع الاستتار لم ينتفع بهم لاستغراقهم في جمع الجمع وبروزهم لله الواحد القهار.(1/489)
قال بعضهم: علامة تجلي الحق للأسرار هو أن لا يشهد السر ما يتسلط عليه التعبير ويحويه الفهم، فمن عبر أو فهم فهو صاحب استدلال لا ناظر إجلال.
وقال بعضهم: التجلي: رفع حجبه البشرية لا أن يتلون ذات الحق عز وجل، والاستتار: أن تكون البشرية حائلة بينك وبين شهود الغيب.
ومنها: التجريد والتفريد، الإشارة منهم إلى التجريد والتفريد أن العبد يتجرد عن الأغراض فيما يفعله، لا يأتي بما يأتي به نظراً إلى الأغراض في الدنيا والآخرة، بل ما كوشف به من حق العظمة يؤديه حسب جهده عبودية وانقياداً والتفريد: أن لا يرى نفسه فيما يأتي به بل يرى منة الله عليه، فالتجريد ينفي الأغيار، والتفريد ينفي نفسه واستغراقه عن رؤية نعمة الله عليه وغيبته عن كسبه.
ومنها: الوجد والتواجد والوجود؛ فالوجد: ما يرد على الباطن من الله يكسبه فرحاً أو حزناً، ويغيره عن هيئته ويتطلع إلى الله تعالى، وهو فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات نفسه ينظر منها إلى الله تعالى. والتواجد: استجلاب الوجد بالذكر والتفكر، والوجود: اتساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان، فلا وجد مع الوجدان، ولا خبر مع العيان، فالوجد بعرضية الزوال والوجود ثابت بثبوت الجبال، وقد قيل:
قد كان يطربني وجدي فأقعدني >< عن رؤية الوجد من في الوجد موجود
والوجد يطرب من في الوجد راحته >< والوجد عند حضور الحق مفقود
ومنها: الغلبة والغلبة وجد متلاحق، فالوجد كالبرق يبدو، والغلبة كتلاحق البرق وتواتره يغيب عن التمييز؛ فالوجد ينطفىء سريعاً، والغلبة تبقى للأسرار حرزاً منيعاً.
ومنها: المسامرة وهي تفرد الأرواح بخفي مناجاتها ولطيف مناغاتها في سر السر بلطيف إدراكها للقلب لتفرد الروح بها فتلتذ بها دون القلب.(1/490)
ومنها: السكر والصحو: فالسكر: استيلاء سلطان الحال، والصحو: العود إلى ترتيب الأفعال وتهذيب الأقوال، قال محمد بن خفيف: السكر غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب، وقال الواسطي: مقامات الوجد أربعة: الذهول، ثم الحيرة، ثم السكر، ثم الصحو: كمن سمع بالبحر، ثم دنا منه، ثم دخل فيه، ثم أخذته الأمواج؛ فعلى هذا: من بقى عليه أثر من سريان فيه فعليه أثر من السكر، ومن عاد كل شيء منه إلى مستقره فهو صاح؛ فالسكر لأرباب القلوب، والصحو للمكاشفين بحقائق الغيوب.
ومنها: المحو والإثبات، المحو: بإزالة أوصاف النفوس، والإثبات: بما أدير عليهم من أثار الحب كؤوس. أو المحو: محو رسول الأعمال بنظر الفناء إلى نفسه ومأمنه، والإثبات: إثباتها بما أنشأ الحق له من الوجودية؛ فهو بالحق لا بنفسه بإثبات إياه مستأنفاً بعد أن محاه عن أوصافه.
وقال ابن عطاء الله: يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم.
ومنها: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فعلم اليقين: ما كان من طريق النظر والاستدلال. وعين اليقين: ما كان من طريق الكشوف والنوال. وحق اليقين: ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال بورود رائد الوصال.
قال فارس: علم اليقين لا اضطراب فيه، وعين اليقين: هو العلم الذي أودعه الله الأسرار والعلم إذا انفرد عن نعت اليقين كان علماً بشبهة، فإذا انضم إليه اليقين كان علماً بلا شبهة. وحق اليقين: هو حقيقة ما أشار إليه علم اليقين وعين اليقين.
وقال الجنيد: حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يشاهد العيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق، كما أخبر الصديق حين قال ـ لما قال له رسول الله: "مَاذَا أَبْقَيْتَ لِعِيَالِكَ؟" قال: الله ورسوله علم اليقين حال التفرقة. وعين اليقين حال الجمع. وحق اليقين جمع الجمع بلسان التوحيد.(1/491)
وقيل: لليقين: اسم، ورسم، وعلم، وعين وحق؛ فالاسم والرسم للعوام، وعلم اليقين للأولياء، وعين اليقين لخواص الأولياء، وحق اليقين للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحقيقة حق اليقين اختص بها نبينا محمد.
ومنها: الوقت، والمراد بالوقت: ما هو غالب على العبد، وأغلب ما على العبد وقته، فإنه كالسيف يمضي الوقت بحكمه ويقطع. وقد يراد بالوقت ما يهجم على العبد لا بكسبه، فيتصرف فيه فيكون بحكمة. يقال: فلان بحكم الوقت، يعني مأخوذاً عما منه بما للحق.
ومنها: الغيبة والشهود؛ فالشهود: هو الحضور وقتاً بنعت المراقبة، ووقتاً بوصف المشاهدة؛ فما دام العبد موصوفاً بالشهود والرعاية فهو حاضر؛ فإذا فقد حال المشاهدة والمراقبة خرج من دائرة الحضور فهو غائب، وقد يعنون بالغيبة الغيبة عن الأشياء بالحق؛ فيكون على هذا المعنى حاصل ذلك راجعاً إلى مقام الفناء.
ومنها: الذوق والشرب والري، فالذوق: إيمان، والشرب: علم، والري: حال؛ فالذوق لأرباب البواده، والشرب لأرباب الطوالع واللوائح واللوامع، والري لأرباب الأحوال: وذلك أن الأحوال هي التي تستقر؛ فما لم يستقر فليس بحال وإنما هي لوامع وطوالع. وقيل: الحال لا تستقر لأنها تحول، فإذا استقرت تكون مقاماً.
ومنها: المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة: فالمحاضرة لأرباب التلوين، والمشاهدة لأرباب التمكين، والمكاشفة بينهما إلى أن تستقر؛ فالمشاهدة والمحاضرة لأهل العلم، والمكاشفة لأهل العين، والمشاهدة لعين الحق: أي حق اليقين.
ومنها: الطوارق، والبوادي، والباده، والواقع، والقادح، والطوالع، واللوامع واللوائح: وهذه كلها ألفاظ متقاربة المعنى، ويمكن بسط القول فيها؛ ويكون حاصل ذلك راجعاً إلى معنى واحد يكثر بالعبارة فلا فائدة فيه، والمقصود أن هذه الأسماء كلها مبادي الحال ومقدّماته، وإذا صح الحال استوعب هذه الأسماء كلها ومعانيها.(1/492)
ومنها: التلوين والتمكين: فالتلوين لأرباب القلوب لأنهم تحت حجب القلوب، وللقلوب تخلص إلى الصفات، وللصفات تعدد بتعدد جهاتها؛ فظهر لأرباب القلوب بحسب تعدد الصفات تلوينات، ولا تجاوز للقلوب وأربابها عن عالم الصفات. وأما أرباب التمكين فخرجوا عن مشائم الأحوال، وخرقوا حجب القلوب، وباشرت أرواحهم سطوع نور الذات؛ فارتفع التلوين لعدم التغير في الذات، إذ جلت ذاته عن حلول الحوادث والتغيرات؛ فلما خلصوا إلى مواطن القرب من أنصبة تجلي الذات ارتفع عنهم التلوين، فالتلوين حينئذ يكون في نفوسهم لأنها في محل القلوب لموضع طهارتها وقدسها، والتلوين الواقع في النفوس لا يخرج صاحبه عن حالة التمكين، لأنّ جريان التلوين في النفس لبقاء رسم الإنسانية، وثبوت القدم في التمكين كشف حق الحقيقة، وليس المعنى بالتمكين: أن لا يكون للعبد تغير فإنه بشر، وإنما المعنى به: أن ما كوشف به من الحقيقة لا يتوارى عنه أبداً ولا يتناقض بل يزيد، وصاحب التلوين قد يتناقض الشيء في حقه عند ظهور صفات نفسه، وتغيب عنه الحقيقة في بعض الأحوال، ويكون ثبوته على مستقر الإيمان وتلوينه في زوائد الأحوال.
ومنها: النفس: ويقال النفس للمنتهي، والوقت للمبتدي، والحال للمتوسط، فكأنه إشارة منهم إلى أن المبتدىء يطرقه من الله تعالى طارق لا يستقر، والمتوسط صاحب حال غالب حاله عليه، والمنتهي صاحب نفس متمكن من الحال لا يتناوب عليه الحال بالغيبة والحضور، بل تكون المواجيد مقرونة بأنفاسه مقيمة لا تتناوب عليه، وهذه كلها أحوال لأربابها، ولهم منها ذوق وشرف، والله ينفع ببركتهم آمين.
{الباب الثالث والستون}: في ذكر شيء من البدايات والنهايات وصحتها(1/493)
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي، قال: أخبرنا الشريف أبو طالب الحسين بن محمد الزيني، قال: أخبرتنا كريمة المروزية، قالت: أخبرنا أبو الهيثم محمد بن مكي الكشميهني، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري، قال: حدثنا أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت رسول الله يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُها أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
النية أول العمل، وبحسبها يكون العمل، وأهم ما للمريد من ابتداء أمره في طريق القوم: أن يدخل طريق الصوفية ويتزيا بزيهم ويجالس طائفتهم لله تعالى، فإن دخوله في طريقهم هجرة حاله ووقته، وقد ورد: "المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَاهُ الله عَنْهُ" وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
أخبرنا أبو زرعة إجازة عن ابن خلف عن أبي عبد الرحمن عن ابن أبي العباس البغدادي عن جعفر الخلدي قال: سمعت الجنيد يقول: أكثر العوائق والحوائل والموانع من فساد الابتداء، فالمريد في أول سلوك هذا الطريق يحتاج إلى إحكام النية، وإحكام النية: تنزيهها من دواعي الهوى، وكل ما كان للنفس فيه حظ عاجل، حتى يكون خروجه خالصاً لله تعالى.(1/494)
وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه عون الله بقدر ذلك.
وكتب بعض الصالحين إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك قليل من العمل، ومن لم يهتد إلى النية بنفسه يصحب من يعلمه حسن النية.
قال سهل بن عبد الله التستري: أول ما يؤمر به المريد المبتدىء: التبري من الحركات المذمومة ثم النقل إلى الحركات المحمودة، ثم التفرّد لأمر الله تعالى، ثم التوقف في الرشاد، ثم الثبات، ثم البيان، ثم القرب، ثم المناجاة، ثم المصافاة ثم الموالاة؛ ويكون الرضا والتسليم مراده، والتفويض والتوكل حاله، ثم يمن الله تعالى بعد هذه بالمعرفة، فيكون مقامه عند الله مقام المتبرئين من الحول والقوة؛ وهذا مقام حمله العرش وليس بعده مقام. هذا من كلام سهل جمع فيه ما في البداية والنهاية.
ومتى تمسك المريد بالصدق والإخلاص بلغ مبلغ الرجال، ولا يحقق صدقه وإخلاصه شيء مثل متابعة أمر الشرع وقطع النظر عن الخلط؛ فكل الآفات التي دخلت على أهل البدايات لموضع نظرهم إلى الخلق. وبلغنا عن رسول الله أنه قال: "لا يَكْمُلُ إِيمَانُ المَرْءِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عِنْدَهُ كَالأَبَاعِرِ ثُمَّ يَرْجِع إِلَى نَفْسِهِ فَيَرَاهَا أَصْغَرَ صَاغِرٍ" إشارة إلى قطع النظر عن الخلق والخروج منهم وترك التقيد بعاداتهم.
قال أحمد بن خضرويه: من أحب أن يكون الله تعالى معه على كل حال فليلزم الصدق، فإن الله تعالى مع الصادقين، وقد ورد في الخبر عن رسول الله: "الصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى البِرِّ" ولا بد للمريد من الخروج من المال والجاه والخروج عن الخلق بقطع النظر عنهم إلى أن يحكم أساسه فيعلم دقائق الهوى وخفايا شهوات النفس، وأنفع شيء للمريد معرفة النفس؛ ولا يقوم بواجب حق معرفة النفس من له في الدنيا حاجة من طلب الفضول والزيادات، أو عليه من الهوى بقية.(1/495)
قال زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك تصبح لا تهم لله بمعصية وتمسي ولا تهم لله بمعصية؛ فإذا أحكم الزهد والتقوى انكشفت له النفس وخرجت من حجبها وعلم طريق وخفي شهواتها ودسائسها وتلبيساتها. ومن تمسك بالصدق فقد تمسك بالعروة الوثقى. قال ذو النون: لله تعالى في أرضه سيف ما وضع على شيء إلا قطع وهو الصدق.
ونقل في معنى الصدق: أن عابداً من بني إسرائيل راودته ملكة عن نفسه فقال: اجعلوا لي ماء في الخلاء أتنظف به، ثم صعد على موضع في القصر فرمى بنفسه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملك الهواء أن ألزم عبدي، فلزمه ووضعه على الأرض وضعاً رفيقاً، فقيل لإبليس ألا أغويته. فقال ليس لي سلطان على من خالف هواه وبذل نفسه لله تعالى.
وينبغي للمريد أن تكون له في كل شيء نية لله تعالى حتى في أكله وشربه وملبوسه، فلا يلبس إلا لله ولا يأكل إلا لله ولا يشرب إلا لله ولا ينام إلا لله، لأنّ هذه كلها أرفاق أدخلها على النفس إذا كانت لله لا تستعصي النفس وتجيب إلى ما يراد منها من المعاملة لله والإخلاص، وإذا دخل في شيء من رفق النفس لا لله بغير نية صالحة صار ذلك وبالاً عليه. وقد ورد في الخبر "مَنْ تَطَيَّبَ لله تَعَالَى جَاءَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ الأَذْفَرِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الجِيفَةِ".(1/496)
وقيل: كان أنس يقول: طيبوا كفي بمسك، فإنّ ثابتاً يصافحني ويقبل يدي وقد كانوا يحسنون اللباس للصلاة متقربين بذلك إلى الله بنيتهم: فالمريد ينبغي أن يتفقد جميع أحواله وأعماله وأقواله ولا يسامح نفسه أن تتحرك بحركة أو تتكلم بكلمة إلا لله تعالى، وقد رأينا من أصحاب شيخنا من كان ينوي عند كل لقمة ويقول بلسانه أيضاً: آكل هذه اللقمة لله تعالى، ولا ينفع القول إذا لم تكن النية من القلب؛ لأن النية عمل القلب، وإنما اللسان ترجمان؛ فما لم تشتمل عليه عزيمة القلب لله لا تكون نية.
ونادى رجل امرأته وكان يسرح شعره فقال: هاتي المدري، أراد الميل ليفرق شعره، فقالت له امرأته: أجيء بالمدري والمرآة، فسكت ثم قال: نعم، فقال له من سمعه: سكت وتوقفت عن المرآة ثم قلت نعم؛ فقال: إني قلت لها هات المدري بنية، فلما قالت: والمرآة لم يكن لي في المرآة نية، فتوقفت حتى هيأ الله تعالى لي نية، فقلت نعم، وكل مبتدىء لا يحكم أساس بدايته بمهاجرة الألاّف والأصدقاء والمعارف ويتمسك بالوحدة لا تستقر بدايته. وقد قيل: من قلة الصدق كثرة الخلطاء، وأنفع ماله لزوم الصمت وأن لا يطرق سمعه كلام الناس؛ فإن باطنه يتغير ويتأثر بالأقوال المختلفة، وكل من لا يعلم كمال زهده في الدنيا وتمسكه بحقائق التقوى لا يعرفه أبداً، فإن عدم معرفته يفتح عليه خيراً، وبواطن أهل الابتداء كالشمع تقبل كل نقش، وربما استضر المبتدىء بمجرد النظر إلى الناس، ويستضر بفضول النظر أيضاً وفضول المشي، فيقف من الأشياء كلها على الضرورة، فينظر ضرورة؛ حتى لو مشى في بعض الطريق يجتهد أن يكون نظره إلى الطريق الذي يسلكه لا يلتفت يمينه ويساره، ثم يتقي موضع نظر الناس إليه وإحساسهم منه بالرعاية والاحتراز؛ فإن علم الناس منه بذلك أضر عليه من فعله، ولا يستحقر فضول المشي، فإن كل شيء من قول وفعل ونظر وسماع خرج عن حد الضرورة جر إلى الفضول، ثم يجر إلى تضييع الأصول.(1/497)
قال سفيان: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول: فكل من لا يتمسك بالضرورة في القول والفعل لا يقدر أن يقف على قدر الحاجة من الطعام والشراب والنوم، ومتى تعدى الضرورة في القول والفعل لا يقدر أن يقف على قدر الحاجة من الطعام والشراب والنوم، ومتى تعدى الضرورة تداعت عزائم قلبه وانحلت شيئاً بعد شيء.
قال سهل بن عبد الله: من لم يعبد الله اختياراً يعبد الخلق اضطراراً، وينفتح على العبد أبواب الرخص والاتساع ويهلك مع الهالكين.
ولا ينبغي للمتبدىء أن يعرف أحداً من أرباب الدنيا، فإن معرفته لهم سم قاتل. وقد ورد "الدنيا مبغوضة الله فمن تمسك بحبل منها قادته إلى النار" وما حبل من حبالها إلا كأبنائها، والطالبين لها والمحبين، فمن عرفهم انجذب إليه شاء أو أبى.(1/498)
ويحترز المبتدىء عن مجالسة الفقراء الذين لا يقولون بقيام الليل وصيام النهار، فإنه يدخل عليه منهم أشر ما يدخل عليه بمجالسة أبناء الدنيا، وربما يشيرون إلى أن الأعمال شغل المتعبدين، وأن أرباب الأحوال ارتقوا عن ذلك، وينبغي للفقير أن يقتصر على الفرائض وصوم رمضان فحسب ولا ينبغي أن يدخل هذا الكلام سمعه رأساً، فإنا اختبرنا ومارسنا الأمور كلها وجالسنا الفقراء والصالحين، ورأينا أن الذين يقولون هذا القول ويرون الفرائض دون الزيادات والنوافل تحت القصور مع كونهم أصحاء في أحوالهم. فعلى العبد التمسك بكل فريضة وفضيلة، فبذلك يثبت قدمه في بدايته، ويراعي يوم الجمعة خاصة ويجعله لله تعالى خالصاً لا يمزجه بشيء من أحوال نفسه ومآربها، ويبكر إلى الجامع قبل طلوع الشمس بعد الغسل للجمعة، وإن اغتسل قريباً من وقت الصلاة إذا أمكنه ذلك فحسن، قال رسول الله: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اغْتَسِلْ لِلْجُمُعَةِ وَلَوِ اشْتَرَيْتَ المَاءَ بِعَشَائِكَ، وَمَا مِنْ نَبيَ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرَهُ الله تَعَالَى أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ، فَإِنَّ غُسْلَ الجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِلذُّنُوبِ مَا بيْنَ الجُمُعَتَيْنِ" ويشتغل بالصلاة والتضرع والدعاء والتلاوة وأنواع الأذكار من غير فتور إلى أن يصلي الجمعة، ويجلس معتكفاً في الجامع إلى أن يصلي فرض العصر وبقية النهار يشغله بالتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي، فإنه يرى بركة في جميع الأسبوع حتى يرى ثمرة ذلك يوم الجمعة.
وقد كان من الصادقين من يضبط أحواله وأقواله وأفعاله جميع الأسبوع لأنه يوم المزيد لكل صادق، ويكون ما يجده يوم الجمعة معياراً يعتبر به سائر الأسبوع الذي مضى؛ فإنه إذا كان الأسبوع سليماً يكون يوم الجمعة فيه مزيد الأنوار والبركات، وما يجد في يوم الجمعة من الظلمة وسآمة النفس وقلة الانشراح، فلما ضيع في الأسبوع يعرف ذلك ويعتبر.(1/499)
ويتقي جداً أن يلبس للناس: أما المرتفع من الثياب أو ثياب المتقشفين ليرى بعين الزهد؛ ففي لبس المرتفع للناس هوى، وفي لبس الخشن رياء، فلا يلبس إلا لله.
بلغنا أن سفيان لبس القميص مقلوباً ولم يعلم بذلك حتى ارتفع النهار ونبهه على ذلك بعض الناس، فهم أن يخلع ويغير ثم أمسك وقال: لبسته بنية لله فلا أغيره فألبسه بنية للناس؛ فليعلم العبد ذلك وليعتبره.
ولا بد للمبتدىء أن يكون له حظ من تلاوة القرآن ومن حفظه، فيحفظ من القرآن من السبع إلى الجميع إلى أقل أو أكثر كيف أمكن، ولا يصغي إلى قول من يقول: ملازمة ذكر واحد أفضل من تلاوة القرآن، فإنه يجد بتلاوة القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة جميع ما يتمنى بتوفيق الله تعالى. وإنما اختار بعض المشايخ يديم المريد ذكراً واحداً ليجتمع الهم فيه، ومن لازم التلاوة في الخلوة وتمسك بالوحدة تفيده التلاوة والصلاة أو في ما يفيده الذكر الواحد؛ فإذا سئم في بعض الأحايين يصانع النفس على الذكر مصانعة، وينزل من التلاوة إلى الذكر فإنه أخف على النفس.
وينبغي أن يعلم أن الاعتبار بالقلب، فكل عمل من تلاوة وصلاة وذكر لا يجمع فيه بين القلب واللسان لا يعتدّ به كل الاعتداد؛ فإنه عمل ناقص.
ولا يحقر الوساوس وحديث النفس فإنه مضر وداء عضال؛ فيطالب نفسه أن تصير في تلاوته معنى القرآن مكان حديث النفس من باطنه، فكما أن التلاوة على اللسان هو مشغول بها ولا يمزجها بكلام آخر، هكذا يكون معنى القول في القلب لا يمزجه بحديث النفس، وإن كان أعجمياً لا يعلم معنى القرآن يكون لمراقبة حلية باطنه، فيشغل باطنه بمطالعة نظر الله إليه مكان حديث النفس؛ فإن بالدوام على ذلك يصير من أرباب المشاهدة.
قال مالك: قلوب الصديقين إذا سمعت القرآن طربت إلى الآخرة، فليتمسك المريد بهذه الأصول، وليستعن بدوام الافتقار إلى الله، فذلك ثبات قدمه.(1/500)
قال سهل: على قدر لزوم الالتجاء والافتقار إلى الله تعالى يعرف البلاء، وعلى قدر معرفته بالبلاء يكون افتقاره إلى الله، فدوام الافتقار إلى الله أصل كل خير ومفتاح كل علم دقيق في طريق القوم، وهذا الافتقار مع كل الأنفاس لا يتشبث بحركة ولا يستقل بكلمة دون الافتقار إلى الله فيها، وكل كلمة وحركة خلت عن مراجعة الله والافتقار فيها لا تعقب خيراً قطعاً، علمنا ذلك وتحققناه.
وقال سهل: من انتقل من نفس إلى نفس من غير ذكر فقد ضيع حاله، وأدنى ما يدخل على من ضيع حاله دخوله فيما لا يعنيه وتركه ما يعنيه.
وبلغنا أن حسان بن سنان قال ذات يوم: لمن هذه الدار؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: مالي وهذا السؤال؟ وهل هذه إلا كلمة لا تعنيني؟ وهل هذا إلا لاستيلاء نفسي وقلة أدبها وآلى على نفسه أن يصوم سنة كفارة لهذه الكلمة فبالصدق نالوا ما نالوا، وبقوة العزائم ـ عزائم الرجال ـ بلغوا ما بلغوا.
أخبرنا أبو زرعة إجازة، قال: أخبرنا أبو بكر بن خلف، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت منصوراً يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: لو أقبل صادق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته من الله أكثر مما ناله، وهذه الجملة يحتاج المبتدىء أن يحكمها، والمنتهي عالم بها عالم بحقائقها؛ فالمبتدىء صادق والمنتهي صدّيق.
قال أبو سعيد القرشي: الصادق الذي ظاهره مستقيم وباطنه يميل أحياناً إلى حظ النفس، وعلامته أن يجد الحلاوة في بعض الطاعة ولا يجدها في بعض، وإذا اشتغل بالذكر نور الروح، وإذا اشتغل بحظوظ النفس يحجب عن الأذكار. والصديق: الذي استقام ظاهره وباطنه يعبد الله تعالى بتلوين الأحوال، لا يحجبه عن الله وعن الأذكار أكل ولا نوم ولا شرب ولا طعام، والصديق يريد نفسه لله وأقرب الأحوال إلى النبوة الصديقية.
وقال أبو يزيد: آخر نهايات الصديق أول درجة الأنبياء.(2/1)
واعلم أن أرباب النهايات استقامت بواطنهم وظواهرهم لله، وأرواحهم خلصت عن ظلمات النفس ووطئت بساط القرب، ونفوسهم منقادة مطواعة صالحة مع القلوب مجيبة إلى كل ما تجيب إليه القلوب، أرواحهم متعلقة بالمقام الأعلى، انطفأت فيهم نيران الهوى، وتخمر في بواطنهم صريح العلم وانكشفت لهم الآخرة، كما قال رسول الله في حق أبي بكر رضي الله عنه: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَيِّتٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبي بَكْرٍ" إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى ما كوشف به من صريح العلم الذي لا يصل إليه عوام المؤمنين إلا بعد الموت حيث يقال: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ} قال يحيى بن معاذ ـ وقد سئل عن وصف العارف؛ فقال: رجل معهم بائن منهم. وقال مرة: عبد كان فبان.
فأرباب النهايات هم عند الله بحقيقتهم معوقين بتوقيت الأجل، جعلهم الله تعالى من جنوده في خلقه، بهم يهدي وبهم يرشد وبهم يجذب أهل الإرادة، كلامهم دواء ونظرهم دواء، ظاهرهم محفوظ بالحكم، وباطنهم معمور بالعلم.
قال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراً من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله وكرامته على هتك أستار محارم الله؛ فأرباب النهايات كلما ازدادوا نعمة ازدادوا عبودية، وكلما ازدادوا دنيا ازدادوا قرباً، وكلما ازدادوا جاهاً ورفعة ازدادوا تواضعاً وذلة: {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرينَ} قال يحيى بن معاذ: الدنيا عروس تطليعها ماشطتها، والزاهد فيه يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها، والعارف بالله مشتغل بسيده ولا يلتفت إليها.(2/2)
واعلم أن المنتهي مع كمال حاله لا يستغني أيضاً عن سياسة النفس ومنعها الشهوات وأخذ الحظ من زيادة الصيام والقيام وأنواع البر، وقد غلط في هذا الخلق، وظنوا أن المنتهي استغنى عن الزيادات والنوافل ولا على قلبه من الاسترسال في تناول الملاذ والشهوات، وهذا خطأ لا من حيث إنه يحجب العارف عن معرفته، ولكن موقف عن مقام المزيد. وقوم لما رأوا أن هذه الأشياء لا تؤثر فيهم قسوة ولا تورثهم حجبة ركنوا إليها واسترسلوا فيها وقنعوا بأداء الفرائض واتسعوا في المأكل والمشرب، وهذا الانبساط منهم بقية من سكر الأحوال، وتقيد بنور الحال، وعدم التخلص بالكلية إلى نور الحق، ومن تخلص من نور الحال إلى نور الحق يذهب عنه بقايا السكر ويوقف نفسه مقام العبيد، كأحد عوام المؤمنين يتقرب بالصلاة والصوم وأنواع البر حتى بإماطة الأذى عن الطريق، ولا يستكبر ولا يستنكف أن يعود في صور عوام المؤمنين من إظهار الإرادة بكل بر وصلة، ويتناول الشهوات وقتاً رفقاً بالنفس المطهرة المزكاة المنقادة المطواعة لأنها أسيرته، ويمنعها الشهوات وقتاً لأن في ذلك صلاحها، واعتبر هذا سواء بحال الصبي، فإنه إن جاوز حدّ الاعتدال من إعطاء المراد وقتاً ومنعه وقتاً انفسد طبعه؛ لأن الجبلة لا بد من قمعها بسياسة العلم، وما دامت الجبلة باقية لا بد من سياسة العلم، وهذا باب غامض دخل في النهايات على المنتهي من ذلك دواخل ووقع الركون وانسد به باب المزيد؛ فالمنتهي ملك ناصية الاختيار في الأخذ والترك، ولا بدّ له من أخذ وترك في الأعمال والحظوظ؛ ففي الأعمال لا بد له من أخذ وترك، فتارة يأتي بالأعمال كآحاد الصادقين، وتارة يترك زيادة الأعمال رفقاً بالنفس، وتارة يأخذ الحظوظ والشهوات رفقاً بالنفس، وتارة يتركها افتقاداً للنفس بحسن السياسة، فيكون في ذلك كله مختاراً؛ فمن ساكن ترك الحظوظ بالكلية، فهو زاهد تارك بالكلية. ومن استرسل في أخذها فهو راغب بالكلية.(2/3)
والمنتهي شمل الطرفين، فإنه على غاية الاعتدال، واقف على الصراط بين الإفراط والتفريط، فمن ردت إليه الأقسام في النهاية فأخذها زاهداً في الزهد فهو تحت قهر الحال من ترك الاختيار، وتارك الاختيار الواقف مع فعل الله تعالى مقيد بالحال، وكما أن الزاهد مقيد بالترك تارك الاختيار، فكذلك الزاهد في الزهد الآخذ من الدنيا ما سيق إليه لرؤيته فعل الله مقيداً بالأخذ، وإذا استقرت النهاية لا يتقيد بالأخذ ولا بالترك بل يترك وقتاً واختياره من اختيار الله، ويأخذ وقتاً واختياره من اختيار الله، وهكذا صومه النافلة وصلاته النافلة يأتي بها وقتاً ويسمح للنفس وقتاً، لأنه مختار صحيح في الاختيار في الحالين، وهذا هو الصحيح ونهاية النهاية، وكل حال يستقر ويستقيم يشاكل حال رسول الله، وهكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل ولا يقوم الليل كله، ويصوم من الشهر ولا يصوم الشهر كله غير رمضان ويتناول الشهوات. ولما قال الرجل إنني عزمت أن لا آكل اللحم، قال: فإني آكل اللحم وأحبه، ولو سألت ربي أن يطعمني كل يوم لأطعمني.(2/4)
وذلك يدلك على أن رسول الله كان مختاراً في ذلك، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وكان يترك الأكل اختياراً، وقد دخلت الفتنة على قوم كلما قيل لهم: إن رسول الله فعل كذا يقولون: كان رسول الله مشرعاً، وهذ إذا قالوه على معنى أنه لا يلزمهم التأسي به جهل محض؛ فإن الرخصة الوقوف على حد قوله، والعزيمة التأسي بفعله، وقول رسول الله لأرباب الرخص وفعله لأرباب العزائم، ثم إن المنتهي يحاكي حاله حال رسول الله عليه الصلاة والسلام في دعاء الخلق إلى الحق، فكل ما كان يعتمده رسول الله ينبغي أن يعتمده، فكان قيام رسول الله وصيامه الزائد لا يخلو: إما أنه كان ليقتدي به، وإما أنه كان لمزيد كان يجده بذلك، فإن كان ليقتدي به فالمنتهي أيضاً مقتد به ينبغي أن يأتي بمثل ذلك، والصحيح الحق أن رسول الله لم يفعل ذلك لمجرد الاقتداء، بل كان يجد لذلك زيادة، وهو ما ذكرناه من تهذيب الجبلة، قال الله تعالى خطاباً له: {واعْبُدْ رَبَّكَ حتَّى يَأْتِيكَ اليَقِينُ} ومن يتراءى له أن أوقاته كلها خلوة وأنه لا يحجبه شيء وأن أوقاته بالله ولله ولا يرى نقصاناً لأن الله ما فطنه لحقيقة المزيد، فهو صحيح في حاله، غير أنه تحت قصور، لأنه ما نبه لسياسة الجبلة، وما عرف سر تمليك الاختيار، ما وقف من البيان على البيضاء النقية. وقد نقلت عن المشايخ كلمات فيها موضع الاشتباه، فقد يسمعها الإنسان ويبني عليها، والأولى أن يفتقر إلى الله تعالى في أي كلمة يسمعها حتى يسمعه الله في ذلك والصواب.(2/5)
نقل عن بعضهم أنه سئل عن كمال المعرفة فقال: إذا اجتمعت المتفرقات، واستوت الأحوال والأماكن، وسقطت رؤية التمييز. ومثل هذا القول يوهم أن لا يبقى تمييز بين الخلوة والجلوة وبين القيام بصور الأعمال وبين تركها، ولم يفهم منه أن القائل أراد بذلك معنى خاصاً، يعني أن حظ المعرفة لا يتغير بحال من الأحوال، وهذا صحيح، لأن حظ المعرفة لا يتغير ولا يفتقر إلى التمييز وتستوي الأحوال فيه، ولكن حظ المريد يتغير ويحتاج إلى التمييز، وليس في هذا الكلام وأمثاله ما ينافي ما ذكرناه.
قيل لمحمد بن الفضل: حاجة العارفين إلى ماذا؟ قال: حاجتهم إلى الخصلة التي كملت بها المحاسن كلها ألا وهي الاستقامة، وكل من كان أتم معرفة كان أتم استقامة؛ فاستقامة أرباب النهاية على التمام، والعبد في الابتداء مأخوذ في الأعمال محجوب بها عن الأحوال. وفي التوسط محفوظ بالأحوال يحجب عن الأعمال. وفي النهاية لا تحجبه الأعمال عن الأحوال ولا الأحوال عن الأعمال، وذلك هو الفضل العظيم.(2/6)
سئل الجنيد عن النهاية فقال: هي الرجوع إلى البداية، وقد فسر بعضهم قول الجنيد فقال: معناه أنه كان في ابتداء أمره في جهل، ثم وصل إلى المعرفة، ثم رد على التحير والجهل، وهو كالطفولية: يكون جهل ثم علم ثم جهل. قال الله تعالى: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} وقال بعضهم: أعرف الخلق بالله أشدهم تحيراً فيه. ويجوز أن يكون معنى ذلك ما ذكرناه أنه يبادىء الأعمال، ثم يرقى إلى الأحوال، ثم يجمع له بين الأعمال والأحوال، وهذا يكون للمنتهي المراد المأخوذ في طريق المحبوبين تنجذب روحه إلى الحضرة الإلهية وتستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، والنفس تستتبع القالب، فيكون بكليته قائماً بالله ساجداً بين يدي الله تعالى، كما قال رسول الله: "سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَالِي" وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بالغُذُوِّ وَالآصَالِ}"إِنَّ الله تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلاناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ الله قَدْ أَحَبَّ فُلاناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ" وبالله العون والعصمة والتوفيق.(2/7)