وكان إمامنا في هذا العلم إبراهيم بن أدهم رحمه اللّه يقول: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض في الحرام، والزهد الفضل والسلامة الزهد في الشبهات، وأما أيوب السختياني رحمه اللّه فكان يقول: الزهد أن يقعد أحدكم في منزله فإن كان قعوده للّه تعالى رضا وإلا خرج، وإن يخرج فإن كان خروجه للّه تعالى رضا وإلا رجع، فإن كان رجوعه للّه تعالى رضا وإلا ساح ويخرج درهمه، فإن كان إخراجه للّه رضا وإلا حبسه ويحبسه، فإن كان حبسه للّه تعالى رضا وإلا رمى به ويتكلم، فإن كان كلامه للّه تعالى رضا وإلا سكت، فإن كان سكوته للّه تعالى رضا وإلا تكلم فقيل: هذا صعب فقال: هذا الطريق إلى اللّه عزّ وجلّ وإلا فلا تلعبوا فقد ذهب إلى أن الزهد هو المراقبة، والمراقبة هي الإخلاص، وسئل حاتم الأصم صاحب شقيق البلخي رحمهما اللّه تعالى عن الزهد فقال: أوّله الثقة وأوسطه الصبر وآخره الإخلاص، فإذا كان الإخلاص عندهم هو آخر الزهد فكيف يصحّ لعبد آخر الزهد قبل أوّله أم كيف يجاوز الإخلاص إلى مقامات المعرفة فقد صار آخر الزهد عندهم أوّل المعرفة وذهبت طائفة إلى أن الزهد في الدنيا فريضة على المؤمنين لأن حقيقة الإخلاص هو الزهد عندهم فأوجبوه من حيث أوجبوا على المؤمنين الإخلاص ومال إلى هذا القول عبد الرحيم بن يحيى الأسود.
وقد روينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قيل لأحمد: بأيّ شيء ذكر القوم وصاروا أئمة فقال: بالصدق، قالوا: وما الصدق؟ قال: الإخلاص، قيل: وما الإخلاص؟ قال: هو الزهد قيل: وما الزهد يا أبا عبد الله فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد سلوا بشر بن الحارث، وقال قوم الزهد في الدنيا طلب الحلال وإنه واجب مفترض في مثل زماننا هذا لاختلاط الأشياء وغلبة الشبهات قالوا: فقد تعين فرض الزهد وهذا مذهب إبراهيم ابن أدهم ووهيب بن الورد وسليمان الخواص وجماعة من أهل الشام، وقد كان سهل يقول: أزهد الناس في الدنيا أصفاهم مطعماً، وقال أقصى مقام في الورع أدنى مقام من الزهد.
وقد روينا عن يوسف بن أسباط ووكيع رحمهما اللّه قالا: لو زهد عبد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء ما سميناه زاهداً لأن الزهد عندنا إنما هو في الحلال المحض، ولا نعرف الحلال المحض اليوم، وكذلك كان الحسن البصري رحمه اللّه إمام الأئمة يقول لا شيء أفضل من رفض الدنيا، وقال الفضيل بن ثور قلت للحسن: يا أبا سعيد رجلان يطلب أحدهما الدنيا بحلالها فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه ورجل رفض الدنيا، قال: أحبّهما إليّ الذي رفض الدنيا قلت: يا أبا سعيد هذا طلبها بحلالها فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه قال: أحبّهما إليّ الذي جانب الدنيا وإنما شرف الحسن الذي رفض الدنيا لأن مقام الزهد يجمع التوكل والرضا ألا تسمع إلى الخبر الذي جاء: الزهد أن تكون بما في يد اللّه أوثق منك بما في يدك فهذا هو التوكّل، ثم قال: وأن تكون بثواب المصيبة أفرح منك ولو أنها بقيت لك وهذا هو الرضا، ثم إن المعرفة والمحبة بعد الزهد داخلان عليه فأي مقام أعلى من مقام جمع هذه الأربعة وهي غاية الطالبين، ولعمري أنه هكذا لأنه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما حديث فيه شدة قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوّه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ باللّه تعالى من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي ربّ أتباعي وأشياعي فيقول اللّه: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها.(1/372)
وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثاً أشد من هذا حدثنا عن عبد الواحد بن زيد عن الحسن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار قالوا: يا رسول اللّه مصلّين قال: نعم، كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنّة من الليل فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه، وكذلك كان الحرث بن أسد المحاسبي رحمه اللّه يقول: إنما الزهد إسقاط قيمة الدنيا من القلب وأن لا يكون لشيء عاجل في القلب وزن، فإذا سقطت قيم الأشياء واستوت في القلب فهو الزهد، فأما أبو يزيد البسطامي رحمه اللّه فإنه كان يقول ليس الزاهد من لا يملك شيئاً إنما الزاهد من لا يملكه شيء وقال عالم مثله في معناه: الزاهد من لا يتملك الأشياء ولم يسكن إليها، وكان يقول: الزاهد قوته ما وجد وثوبه ما ستر وبيته ما أواه وحاله وقته.
وقال بعض العارفين: الزهد إنما هو ترك التدبير والاختيار والرضا والتسليم لاختياره شدة كان أو رخاء، وهذا طريق الخواص والثوري وذي النون رحمهم اللّه تعالى، وقال أبو يزيد رحمه اللّه مرة: إنما الزاهد من لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء، وقال: حقيقة الزهد لا يكون إلا عند ظهور القدرة والعاجز لا يصحّ زهده هو أن يعطيه كن ويطلبه على الاسم ويقدره على الأشياء بإظهار الكون فيزهد في ذلك حياءً من اللّه تعالى ويتركه حبّاً له، وكان يستعيذ باللّه من أربعة وعشرين مقاماً من إظهار القدرة وقال لأبي موسى عبد الرحيم في أي شيء تتكلم؟ قلت: في الزهد قال: في أيّ شيء قلت: في الدنيا قال: فنفض يده وقال: ظننت أنه يتكلم في الزهد في شيء الدنيا لا شيء أيش تزهد فيه، وذهب إلى هذا المعنى سهل وغيره، وقال سبعة عشر مقاماً في المعرفة أدناها المشي على الماء وفي الهواء وظهور كنوز الأرض وهذا كله من زخرف الدنيا.
وقد حكي لنا معنى هذا عن الجنيد قال: اجتمع أربعة من الأبدال في جامع المنصور ليلة العيد فلما أسحروا قال أحدهم: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد في بيت المقدس، وقال الآخر: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بطرسوس، وقال الثالث: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بمكة، وسكت الرابع وكان أعرفهم فقيل له: أنت أيّ شيء نويت فقال: أما أنا فقد نويت اليوم ترك الشهوات لا أصلي إلا في هذا المسجد الذي بتّ فيه فقالوا: أنت أعلمنا فقعدوا عنده فصار عند هؤلاء كما ذكرناه آنفاً أن هذه الآيات هي من الشهوات إذ ليست حاجات مقامات والشهوة من الدنيا لأنها من الهوى وأيضاً ففيها تدبير واختيار، وعند الزهاد العارفين والمحبين أن هذا مكر وخداع يبتلون به ويقتطعون لينظر كيف يعملون إذاً ابتلاء كل عبد على قدر مرتبته وحاله فيلزمه الزهد فيه ويقال: هي في المقام السابع عشر من المعرفة فمن سلك به الطريق رآها فيه وفوقها نيف وسبعون مقاماً أفضل من ذلك.
وقد سئل الجنيد عن الزهد فقال معنيان: ظاهر وباطن، فالظاهر بغض ما في الأيدي من الأملاك وترك طلب المفقود، والباطن زوال الرغبة عن القلب ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك، فإذا تحقق بذلك رزقه اللّه تعالى الإشراف على الآخرة والنظر إليها بقلبه، فحينئذ يحد في العلم بتقصير الأمل وتقريب الأجل لأن الأسباب عن قلبه منقطعة والقلب منفرد الآخرة، وحقيقة الزهد قد خلصت إلى قلبه فامتلأ من الذكر الخالص لربّه سبحانه وتعالى، فالزهد عن حقيقة الإيمان والمشاهدة للآخرة تكون بعد الزهد واستواء الأشياء، فيكون عدمها كوجودها بعد المشاهدة لاستواء القلب ومعه يستوي المدح والذّم لسقوط النفس وذهاب رؤية الخلق فعندها خلص الإخلاص إلى قلبه لصفاء الزهد وثبت الزهد لسقوط النفس دليل ذلك: الخبر الذي رويناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل استويت؟ قال: وكيف أستوي؟ قال: يستوي عندك المدح والذم؟ وقول حارثة لما سأله عن حقيقة الإيمان: عزفت نفسي عن الدنيا فابتدأ بالزهد ثم ذكر الاستواء لحجرها وذهبها ثم ذكر المشاهدة بعد ذلك الحديث، وهذه كلها مقامات في الزهد وكل من جعل شيئاً الدنيا مبلغ علمه وعلوّ مشاهدته جعل الزهد ضده.(1/373)
وقد نوّع أهل المعرفة الإيمان في القلب على مقامين فجعل لهما زهدين فقال: إذا تعلّق الإيمان بطاهر القلب أحبّ العبد الدنيا وأحبّ الآخرة وعمل لهما، فإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها، وقد كان أبو سليمان يقول: من شغل بنفسه شغل عن الناس؛ وهذا مقام العاملين، ومن شغل بربه سبحانه وتعالى شغل عن نفسه؛ وهذا مقام العارفين، ولهذين المقامين دليل من السنّة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الناس خير؟ فقال: من يشنأ الدنيا ويحبّ الآخرة فأوقع الشنآن للدنيا لوقوع ضدّه من حبّ الآخرة والمقام الأعلى دليله من جعل الهموم همّاً واحداً كفاه اللّه تعالى أمر آخرته ودنياه والهم الواحد بوجد واحد لربّ واحد هو وصف عبد متوحد لواحد مقاله إلى واحد، وقد وهب له خلقاً من أخلاقه فهو الأحد بوحدانية صفته، وعبد متوحدّ بوجده بين خلقه، فهو منفرد الهمّ مجتمع القلب وانفراد الهمّ يكون بعد محو الهوى ومحوه بعد امتحان القلب للتقوى، واجتماع القلب يكون مع طيب النفس وطمأنينتها بالإيمان أو فلاحها بالتزكية والرضا، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: طيب النفس من النعيم، وقال اللّه تعالى: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها) الشمس:9 وقال تعالى:(رَاضِيَّةً مَرْضِيَّة) الفجر:28 فيكون متوحّداً بالروح مخلقة بأخلاق الإيمان مواطئة للقلب بمشاهدة اليقين، وقال وهب بن منبه: وجدت فيما أنزل اللّه تعالى على موسى عليه السلام: من أحبّ الدنيا أبغضه اللّه تعالى، ومن أبغضها أحبه اللّه تعالى، ومن أكرم الدنيا أهانه اللّه تعالى، ومن أهانها أكرمه اللّه تعالى، وأما علماء الظاهر فقالوا: الزهد في الدنيا هو موافقة العلم والقيام بأحكام الشرع وأخذ الشيء من وجهه ووضعه في حقّه، وما خالف العلم فهو هوى كلّه فذكروا فرض الزهد وظاهره ولم يعرفوا دقائقه وبواطنه.
وقد روينا عن سفيان بن عيينة والثوري معنى هذا أنهما سئلا: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قالا: نعم إذا كان إذا ابتلى فصبر، وإذا أنعم عليه شكر، قال ابن أبي الحواري فقلت له: يا أبا محمد يعني ابن عيينة قد أنعم عليه فشكر وابتلى فصبر وحبس النعمة كيف يكون زاهدًا؟ فضربني بيده وقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى عن الصبر فذلك الزاهد، ووافقهما الزهري فقال كذلك، وقد فصل ذلك أبو سليمان فقال ابن أبي الحواري: قلت له: أكان داود الطائي رحمه اللّه تعالى زاهداً؟ قال: نعم، قلت: بلغني أنه ورث من أبيه عشرين دينارًا فأنفقها في عشرين سنة فكيف يكون زاهداً وهو يمسك الدنانير؟ فقال: أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد ولعمري أنّا روينا عن رسول صلى الله عليه وسلم نعماً بالمال الصالح للمرء الصالح والمال الصالح هو الحلال والمرء الصالح المنفق ماله بالليل والنهار سرًّا وعلانية في سبيل اللّّه ابتغاء مرضاته كما وصفه اللّه تعالى ومدحه.
وقد روينا عن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم: أن اللّه تعالى يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ ولا يعطي الدين إلا من يحبّ والذي يحبّه اللّه تعالى ممن أعطاه الدنيا لا يخالف حبيبه إلى هواه ولا يؤثر نفسه على محبة مولاه تبارك وتعالى إذ قد تولاه فيما أعطاه.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر والطاعم الشاكر هو الذي يستعين بطعمته على خدمة مولاه ويعبده شكراً لما أولاه، وقد قالوا في الزهد وصفان جامعان لأحوال القلوب، قال مضاء بن عيسى: قلت للسباع الموصلي: يا أبا محمد إلى أيّ شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس باللّّه تعالى، وقال عثمان بن عمارة: كان يقال: الورع يبلغ بالعبد إلى الزهد والزهد يبلغ به حبّ اللّه تعالى؛ فهذان الحالان غاية الطالبين الحبّ للجليل والأنس باللطيف، فمن لم يتحقق بالزهد لم يبلغ مقام الحبّ ولم يدرك حال الأنس ثم إن سرائر الغيوب في مقام الحبّ والخلّة، وفي حال الأنس والقربة وفّقنا اللّه وإياكم لما يحبّ وبلغنا ما نؤمل بفضله ورحمته ولا حول ولاقوّة إلا باللّّه العليّ العظيم وهذا آخر كتاب الزهد.
تم الجزء الأوّل من قوت القلوب ويليه الجزء الثاني أوّله شرح مقام التوكل ووصف أحوال المتوكلين.
//بسم اللّه الرحمن الرحيم
شرح مقام التوكل ووصف أحوال المتوكلين(1/374)
وهو المقام السابع من مقامات اليقين
التوكّل من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقرّبين قال اللّه الحق المبين: (إن اللّه يحبّ المتوكلين) آل عمران 159فجعل المتوكل حبيبه وألقى عليه محبّته وقال اللّه عزّ وجلّ: (وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم 12يرفع المتوكلين إليه وجعل مزيدهم منه، وقال جلت قدرته: (ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه) الطلاق:3 أي كافيه مما سواه فمن كان اللّه تعالى كافيه فهو شافيه ومعافيه ولا يسأل عمّا هو فيه، فقد صار المتوكل على اللّه تعالى من عباد الرحمن الذين أضافهم إلى وصف الرحمة، ومن عباد التخصيص الذين ضمن لهم الكفاية، وهم الذين وصفهم في الكتاب بقوله سبحانه: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الفرقان:63إلى آخر أوصافهم، وهم الذين كفاهم في هذه الدار المهمّات ووقاهم بتفويضهم إليه السيِّئات بقوله تعالى:(ألَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر:36 وقوله تعالى:(وَأُفَوِّضُ أَمْري إلَى اللّه إنَّ اللّه بَصيرٌ بِالْعِبَادِ) (فَوَقاهُ اللّه سيِّئاتِ مَا مَكَرُوا) غافر:44 - 45 وليس هؤلاء من عباد العدد فقط الذين قال اللّه عزّ وجلّ:(إنْ كُلُّ مَنْ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ إلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (لَقَدْ أحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً) مريم 93 - 94.
وقال بعض الصحابة وغيره من التابعين: التوكل نظام التوحيد وجماع الأمر، وحدثونا عن بعض السلف قال: رأيت بعض العباد من أهل البصرة في المنام فقلت: ما فعل اللّه بك؟قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قلت:فأي الأعمال وجدت هناك أفضل؟ قال: التوكّل وقصر الأمل فعليك بهما وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان والإخلاص والتوكل والاستسلام للربّ عزّ وجلّ، وكان أبو محمد سهل رحمه اللّه يقول: ليس في المقامات أعزّ مِن التوكّل وقد ذهب الأنبياء بحقيقته وبقي منه صبابة انتشقها الصدّيقون والشهداء فمن تعلّق بشيء منه فهو صديق أو شهيد.
وقال بعض العارفين وهو أبو سليمان الداراني: في كلّ المقامات لي قدم إلاّ هذا التوكّل المبارك فما لي منه إلا مشام الريح، وقال لقمان في وصيته لابنه: ومن الإيمان باللّه عزّ وجلّ التوكّل على اللّه، فإن التوكل على اللّه يحبّب العبد، وإن التفويض إلى اللّه من هدي اللّه، وبهدي اللّه يوافق العبد رضوان ا، وبموافقة رضوان اللّه يستوجب العبد كرامة اللّه، وقال لقمان أيضاً: ومن يتوكّل على اللّه، ويسلّم لقضاء اللّه، ويفوّض إلى اللّه، ويرضى بقدر اللّه، فقد أقام الدين وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره.(1/375)
وقال بعض علماء الأبدال، وهو أبو محمد سهل: العلم كلّه باب من التعبّد، والتعبّد كلّه باب من الورع، والورع كلّه باب من الزهد، والزهد كلّه باب من التوكّل، قال: فليس للتوكلّ حدّ ولا غاية تنتهي إليه، وقال أيضاً في قول الله عزّ وجلّ: (لِيَبْلُوَكُمْ أيٍُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً) هود:7، قال أصدق توكلاً، وقال: التقوى واليقين مثل كفّتي الميزان والتوكل لسانه، به تعرف الزيادة والنقصان، وسئل عن قول اللّه عزّ وجلّ: ( فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن:16 قال: بإظهار الفقر والفاقة إليه، وسئل عن قوله تعالى: (اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران102 فقال: اعبدوه بالتوكّل، وقال أبو يعقوب السوسي: لا تطعنوا على أهل التوكّل فإنهم خاصّة اللّه الذين خصّوا بالخصوصية فسكنوا إلى اللّه، واكتفوا به، واستراحوا من هموم الدنيا والآخرة، وقال: من طعن في التوكّل، فقد طعن في الإيمان لأنه مقرون به، ومن أحبّ أهل التوكّل فقد أحبّ اللّه تعالى، فأوّل التوكّل المعرفة بالوكيل وأنه عزيز حكيم، يعطي لعزّه، ويمنع لحكمه، فيعتزّ العبد بعزّه ويرضى بحكمه، وكذلك أخبر عن نفسه ونبّه المتوكّلين عليه فقال سبحانه:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيِمٌ) الأنفال:49 عزّ من أعزّ بعطيته ونظر لمن منعه بحكمته، فإذا شهد العبد الذليل الملك الجليل قائماً بالقسط والتدبير والتقدير، عنده خزائن كلّ شيء، وكلّ شيء عنده بمقدار لاينزله إلا بقدر معلوم، وشهد الوكيل قابضاً على نواصي المماليك له خزائن السموات من الأحكام والأقدار الغائبات، وله خزائن الأرض من الأيدي والقلوب والأسباب المشاهدات، فخزائن السموات ماقسمه من الرزق، وخزائن الأرض ما جعله على أيدي الخلق، وفي السماء رزقكم وما توعدون، وفي الأرض آيات للموقنين، ولكن المنافقين لا يفقهون فأيقن العبد أن في يده ملكوت كلّ شيء وأنه يملك السمع والأبصار ويقلب القلوب والأيدي تقليب الليل والنهار، وأنه حسن التدبير والأحكام للموقنين، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين، ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون، ثم استوى على العرش يدبّر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه، عندها نظر العبد الذليل إلى سيده العزيز، فقوي بنظره إليه، وعزّ بقوّته به، واستغنى بقربه منه، وشرّف بحضوره عنده.(1/376)
وكذلك جاء في الخبر: كفى باليقين غنى، حينئذ نظر إليه في كل شيء، ووثق به، واعتمد عليه دون كل شيء، وقنع منه بأدنى شيء، وصبر عليه، ورضي عنه، إذ لا بدّ له منه، فثمّ لا يطمع في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا يده، ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته، هناك حقّت عبادته وخلص توحيده فعرف الخلق من معرفة خالقه، وطلب الرزق عند معبوده ورازقه، وقام بشهادة ما قال تعالى:(إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ) الأعراف:194قال: (إِنَّ الَّذينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دَونِ اللّه لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العنكبوت:17. فعندها لم يحمد خلقاً ولم يذمّه ولم يمدحه لأجل أنه منعه أو أنه أعطاه إن كان اللّه هو الأوّل المعطي، ولم يشكره إلا لأن مولاه مدحه وأمره بالشكر له تخلقاً بأخلاقه، واتّباعاً لسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذمه أو مقته فلأجل مخالفته لمولاه بموافقته هواه، لأنه تعالى قد مدح المنفقين وذمّ الباخلين، والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد مفرد لا ينبغي إلا وهو الاعتراف بأن النعمة من اللّه عزّ وجلّ، وحسن المعاملة بها لوجه اللّه لاشريك له فيه، ولذلك قال: الحمد للّه ربّ العالمين، أي الحمد كلّه لا يكون ولا ينبغي إلا، لأنه ربّ العالمين، وفي الخبر: الحمد رداء الرحمن عزّ وجلّ، والشكر إظهار الثناء، وأسرار الدعاء للأواسط، فهذا مشترك يدخل فيه الوالدان، وهو أيضاً مخصوص لمن هو أهل أن يشكر من الناس، حدثونا عن يوسف بن أسباط قال: قال لي الثوري: لا تشكر إلا من عرف موضع الشكر، قلت: وكيف ذاك؟ قال:إذا أوليتك معروفاً، فكنتُ به أسرّ منك، وكنتُ منك أشد استحياء فاشكر وإلا فلا، وسأل إبراهيم رجلاً من أصحابه درهمين فلم يكن معه، فأخرج فتى في مجلسه كيساً فيه مائتا درهم، فعرضه عليه فلم يقبله وقال: أو كل مَنْ بذل لنا شيئاً قبلناه منه؟ لا نقبل إلا ممن نرى نعمة اللّه عليه فيما أعطى أعظم من نعمته علينا فيما نأخذ، وحدثونا عن الحسن في قصة طويلة أن رجلاً بذل له جملة من المال فردّه، فلما انصرف قال له هاشم الأوقص: عجبت منك يا أبا سعيد رددت على الرجل كرامته، فانصرف حزيناً، وأنت تأخذ من مالك بن دينار ومحمد بن واسع الشيء بعد الشيء، فقال له الحسن: ويحك إن مالكاً وابن واسع ينظران إلى اللّه فيما نأخذ منهما، فعلينا أن نقبل، وإن هذا المسكين ينظر إلينا فيما يعطي، فرددنا عليه صلته، وعندها لاتذم أحداً ولا تبغضه لأجل أنه كان سبباً لمنعه إذ كان اللّه هو المانع الأوّل، وإذ له في المنع من الحكمة مثل ما له من العطاء من النعمة، ولكن نذمّه وننقصه ونبغضه إن كان استوجب ذلك من مولاه، فيكون موافقاً له، واللّه تعالى يشهد يده في العطاء، ويمدح المنفقين نهاية في كرمه، ويشهد في المنع والمكروه مشيئته، ويذمّ الباخلين والعاصين قدرة من حكمته وحكماً من تقديره لإظهار الأحكام وتفصيل الحلال والحرام وعود الثواب والعقاب على الأنام، فقد أظهر الأمر واستأثر بسرّ القدر فعمل المؤمن بما أمر وسلم له ما استأثر.(1/377)
وروى بعض العلماء عن اللّه تعالى: لو أن ابن آدم لم يخف غيري ماأخفته من غيري، ولو أن ابن آدم لم يرج غيري ما وكلته إلى غيري، وروى أعظم من هذا قال:وضع العبد في قبره مثل له كل شيء كان يخافه من دون اللّه عزّ وجلّ يفزعه في قبره إلى يوم القيامة، وقال الفضيل بن عياض: من خاف اللّه خاف منه كل شيء، ويقال: إن الخوف من المخلوقات عقوبة نقصان الخوف من الخالق، وإن ذلك من قلة الفقه عن اللّه تعالى وقد قال اللّه أحسن القائلين في معناه: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ) الحشر:13 فكان العبد إذا تمّ خوفه من اللّه تعالى، أزال ذلك الخوف خوف المخلوقين عن قلبه، وحوّل ذلك في قلوب المخلوقات فصارت هي تخافه إن لم يخفها هو، كما إذا كملت مشاهدة العبد وقام بشهادته وغيّبت تلك المشاهدة وجود الكون مع اللّه عزّ وجلّ فلم يرها، وقام له القيوم بنصيبه من الملك لما تفرّغ قلبه لمعاينة الملك، وقال سنيد عن يحيى بن أبي كثير: مكتوب في التوراة ملعون من ثقته مخلوق مثله، وقال سنيد: يعني أن يقول: لولا فلان هلكت، ولولا كذا ما كان كذا، ويقال: إن قول العبد لولا كذا ماكان كذا من الشرك، وقال في الخبر: إياكم ولو فإنه يفتح عمل الشيطان.
وقال بعض العلماء: سوف جند من جنود إبليس، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (فَلَمّا نَجّاهُمْ إلَى الْبِّر إذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت:65 قالوا: كان الملاح فارهاً، ومثله في قوله تعالى:(ومَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللّه إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف106، قيل قالوا: لولا نباح الكلاب وزقاء الديكة لأخذنا السرق، وروينا عن عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: من اعتزّ بالعبيد أذلّه اللّه، وقد جاء في الخبر: لو توكّلتم على اللّه حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً، ولزالت بدعائكم الجبال، وقد كان عيسى عليه السلام يقول: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر واللّه يرزقها يوماً بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطوناً من الطير فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض اللّه لها هذا الخلق، ويقال: لا يدّخر من الدواب إلا ثلاثة: النملة والفأرة وابن آدم، وقال أبو يعقوب السوسي: المتوكّلون على اللّه تجري أرزاقهم بعلم اللّه واختياره على يد خصوص عباده بلا شغل ولا تعب، وغيرهم مكدودون مشغولون، وقال أيضاً: المتوكّل إذا رأى السبب أو ذم أو مدح فهو مّدعٍِ لا يصحّ له التوكّل، وأوّل التوكّل ترك الاختيار والمتوكّل على صحة قد رفع أذاه عن الخلق، لا يشكو ما به إليهم، ولا يذمّ أحداً منهم لأنه يرى المنع والعطاء من واحد، فقد شغله عمّا سواه، وقيل لسهل: ما أدنى التوكّل؟ قال: ترك الأماني، وأوسطه ترك الاختيار، قيل: فما أعلاه؟ قال: لا يعرفه إلا من توسّط التوكّل وترك الاختيار، أعطى فذكر كلاماً طويلاً.
وقال بعض هذه الطائفة: العبيد كلّهم يأكلون أرزاقهم من المولى، ثم يفترقون في المشاهدات، فمنهم من يأكل رزقه بذلّ، ومنهم من يأكل رزقه بامتهان، ومنهم من يأكل رزقه بانتظار، ومنهم من يأكل رزقه بعزّ لا مهنة ولا انتظار ولا ذلّة، فأما الذي يأكلون أرزاقهم بذلّ، فالسؤال يشهدون أيد الخلق فيذلّون لهم، والذين يأكلون بامتهان، فالصناع يأكل أحدهم رزقه بمهنة وكره، والذين يأكلون أرزاقهم بانتظار، فالتجار ينتظر أحدهم نفاق سلعته فهو متعوب القلب معذّب بانتظاره، والذين يأكلون أرزاقهم بعزّ من غير مهنة ولا انتظار ولا ذل فالصوفية، يشهدون العزيز فيأخذون قسمهم من يده بعزة، فأمّا الذين يأكلون من أرباب السلاطين فباعوا أرواحهم فتلك قسمة خاسرة وقعوا في الذلّ الواضح.(1/378)
وسئل بعض العلماء عن معنى الخبر المأثور: الخلق عيال اللّه فأحبّهم إلى اللّه أنفعهم لعياله فقال: هذا مخصوص وعيال اللّه خاصته، قيل: كيف؟ قال: لأن الناس أربعة أقسام: تجار وتجارة وصناع وزراعة، فمن لم يكن منهم فهو من عيال اللّه، فأحبّ الخلق إلى اللّه أنفعهم لهؤلاء، وهذا كما قال: لأن اللّه سبحانه وتعالى أوجب الحقوق وفرض الزكاة في الأموال لهؤلاء لأنه جعل من عياله من لا تجارة له ولا صنعة فجعل معاشهم على التجّار والصنّاع، ألا ترى أن الزكاة لا تجوز على تاجر ولا صانع لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لقويّ مكتسب، فأقام الاكتساب مقام الغنيّ.
وقال اللّه تعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ) الحجر20 فكان من تدبّر الخطاب أن من ليسوا له برازقين هو من ليس له فيها معيشة في الأرض، وقال عامر بن عبد اللّه: قرأت ثلاث آيات من كتاب اللّه عزّ وجلّ استعنت بهنّ على ما أنا فيه فاستعنت قوله تعالى: (وَإنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هو وَإنْ يُرِدْكَ بَخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) يونس:107 فقلت: إن أراد أن يضرّني لم يقدر أحد أن ينفعني، وإن أعطاني لم يقدر أحد أن يمنعني، وقوله: (فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ) البقرة:152 فاشتغلت بذكره عن ذكر من سواه، وقوله تعالى:(وَمَا مِنْ دَابِّةٍ في الأرْضِ إلاّ عَلَى اللّه رِزْقُهَا) هود:6، فواللّه ما اهتممت برزقي منذ قرأتها فاسترحت، وقد كان سهل بن عبد اللّه يقول: المتوكّل إذا رأى السبب فهو مدّع، وقال: ليس مع الإيمان أسباب، إنما الأسباب في الإسلام؛ معناه ليس في حقيقة الإيمان رؤية الأسباب والسكون إليها، إنما رؤيتها والطمع في الخلق يوجد في مقام الإسلام.
ومن ذلك ما قال لقمان لابنه: للإيمان أربعة أركان: لا يصلح إلا بهنّ كما لا يصلح الجسد إلا باليدين والرجلين: التوكّل على اللّه، والتسليم لقضائه، والتفويض إلى اللّه، والرضا بقدر اللّه، فحال المتوكّل سكون القلب عن الاستشراف إلى العبيد والتطلّع وقطع الهمّ عن الفكرة فيما بأيديهم من التطمّع، عاكف القلب علّي المقلب المدبر، مشغول الفكر بقدرة المصرف المقدر، لا يحمله عدم الأسباب على ماحظرّه العلم عليه وذمّه، ولا يمنعه أن يقول الحق وأن يعمل به أو يوالي في اللّه ويعادي فيه جريان الأسباب على أيدي الخلق، فيترك الحق حياءً منهم أو طمعاً فيهم أو خشيةَ قطع المنافع المعتادة، ولا تدخله نوازل الحاجات وطوارق الفاقات في الانحطاط في أهواء الناس والميل إلى الباطل أو الصمت عن حقّ لزمه، أو يوالي في اللّه عدوَّاً أو يعادي ولياً، ليرب بذلك حاله عندهم، أو يشكر بذلك ما أسدوه إليه بالكفّ عنهم، ولا يرب الصنعة التي قد عرف بها لنظره إلى الصانع، ولا يتصنّع لمصنوع دخله لعلمه بسبق الصنع لدوام مشاهدته، ولا يسكن إلى عادة من خلق، ولا يثق بمعتاد من مخلوق؛ إذ قد أيقن برزقه ونفعه وضرّه من واحد، فهذه المعاني من فرض التوكّل، فإن وجدت في عبد خرج بها عن حدّ التوكّل دون فضائله وتدخّله في ضعف اليقين، وقد كان الأقوياء إذا دخل عليهم شيء من هذه الأهواء المفسدة لتوكّلهم، قطعوا تلك الاسباب، وحسموا أصولها واعتقدوا تركها، وعملوا في مفارقة الأمصار والتغرّب عن الأوطان وترك الآلاف والإيلاف، فأخرجوا ذلك من حيث دخل عليهم، ووضعوا عليه دواءه وضده من حيث تطرق إليهم، حتى ربما فارقوا ظاهر العلم وخالفوا علم أهل الظاهر إلى علوم الباطن وحكم مشاهدتهم وقيامهم بحقّ أحوالهم، إذ ليس أهل الظاهر حجة عليهم في شيء إلا وهم عليه حجة في مثله، لأن الإيمان ظاهر وباطن، والعلم محكم ومتشابه، ولأن أهل الحق أقرب إلى التوفيق وأوفق لإصابة الحقيقة، كل ذلك رعاية لصحة توكّلهم ووفاء بحسن عهدهم وعملاً بأحكام حالهم لئلا تسكن قلوبهم لغير اللّه، ولا تقف هممهم مع سوى اللّه، ولا تطمئن نفوسهم إلى غيره، ولا يتخذوا سكناً سواه، ولا يسكنوا إلى أهواء النفوس وينخدعوا لسكونها عن سكون القلب، فيسيء ذلك يقينهم ويوهن إيمانهم الذي هو الأصل، ويستأسر قلوبهم التي هي المكان للكشف والشهادة، فيخسروا رأس المال فتفوتهم حقيقة الحال، فماذا يرتجون وبأي شيء يقومون؟ وهذا لا يفطن له إلا العاقلون ولا تشهده العيون.(1/379)
وقد قال بعض المقرّبين في حقيقة التوكّل لما سئل عنه فقال: هو الفرار من التوكّل يعني ترك السكون إلى المقام من التوكّل؛ أي يتوكّل ولا ينظر إلى توكّلهم إنه لأجله يكفى أو يعافى أو يوقى، فجعل نظره إلى توكله علّة في توكّله يلزمه الفرار منها حتى يدوم نظره إلى الوكيل وحده بلا خلل، ويقوم له بشهادة منه بلا ملل، فلا يكون بينه وبين الوكيل شيء ينظر إليه، أو يعوّل عليه، أو يدلّ به، حتى التوكّل أيضاً الذي هو طريقه.
وكذلك قال قبله بعض العارفين في معنى قوله عزّ وجلّ: (أَمّنْ يُجِيبُ المُضْطَّرَ إذا دَعاهُ) النمل:26، فقال: المضطّر الذي يقف بين يدي مولاه فيرفع إليه يديه بالمسألة فلا يرى بينه وبين اللّه حسنة يستحق بها شيئاً، فيقول: هب لي مولاي بلا شيء فتكون بضاعته عند مولاه الإفلاس، ويصير حاله مع كل الأعمال الإفلاس، فهذا هو المضطر، فهؤلاء القوم من الذين وصفهم اللّه عزّ وجلّ بالتقوى والمخافة، وجعلهم أهلاً للدعوة والنذارة، وأخبر أنهم لا يرون بينه وبينهم سبباً يليهم ولا شفاعة فقال تعالى يأمر رسوله بإنذارهم بكلامه فجعلهم وجهة لخلقه ومكاناً لكلمه، كما جعل رسوله وجهة لهم ومكاناً لتكليمهم، فقال تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذينَ يَخَاْفُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الانعام:51 ثم قال تعالى في وصف أمثالنا من أهل اللعب واللهو والغرّة والسهوة متهددّاً لنا متوعداً: (وَذَرِ الَّذينَ اتَّخَذُوا دينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحيَاة الدُّنْيا) الانعام:70 وقيل لبعض علمائنا: ماالتوكل؟ قال: التبرّي من الحول والقوّة؛ والحول أشدّ من القوّة، يعني بالحول الحركة، والقوّة الثبات على الحركة، وهو أوّل الفعل، يعني بهذا لا ينظر إلى حركتك مع المحرّك إذ هو الأول ولا إلى ثباتك أيضاً بعد الحركة في تثبيته إذ هو المثبت الآخر فتكون الأولية والآخرية حقيقة شهادتك له به أنه الأوّل الآخر بعين اليقين؛ أي فعندها صحّ توكّلك بشهادة الوكيل، وقال مرة: التوكّل ترك التدبير، وأصل كل تدبير من الرغبة، وأصل كل رغبة من طول الأمل، وطول الأمل من حبّ البقاء؛ وهذا هو الشرك يعني أنك شاركت الربوبية في وصف البقاء، وقال: اللّه سبحانه خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه، وإنما جعل حجابهم تدبيرهم، وقد كثر قوله رحمه اللّه في ترك التدبير، وينبغي أن يعرف مامعناه، ليس يعني بترك التدبير ترك التّصرّف فيما وجّه العبد فيه وأبيح له، كيف وهو يقول: من طعن على التكسّب فقد طعن على السنّة، ومن طعن في ترك التكسّب فقد طعن على التوحيد، إنما يعني بترك التدبير ترك الأماني، وقوله: لمَ كان كذا؟ إذا وقع وِلِمَ لا يكون كذا؟ أو لو كان كذا فيما لايقع، لأن ذلك اعتراض وجهل بسبق العلم، وذهاب عن نفاذ القدرة وشهادة الحكمة، وغفلة عن رؤية المشيئة وجريان الحكم بها، ويعني ترك التدبير فيما بقي وما يأتي بعد أي لا تشتغل بالفكر فيه بعقلك وعلمك فيقطعك عن حالك في الوقت الذي هو ألزم لك وأوجب عليك حتى قطعك فيما يأتي من الأحكام.(1/380)
والتصريف في ترك التدبير والتقدير لها بالزيادة والنقصان، أو نقلها من وقت إلى غيره أو من عبد أي آخر، بالتقديم والتأخير، تكون في ذلك كما كنت فيما قد مضى، ألا ترى أن الإنسان لا يدبّر ما قد مضى؟ قال: فينبغي أن يكون فيما يستقبل تاركاً للتدبير له، تاركاً للأماني فيه بمعاني ما ذكرناه، كتركه إياه فيما مضى، فيستوي عنده الحالان، لأن اللّه أحكم الحاكمين، ولأن العبد مسلّم للأحكام والأفعال، راضٍ عن مولاه في الأقدار، مع جهله بعواقب المآل، وترك التدبير بهذه المعاني هو اليقين، واليقين هو مكان المعرفة، إذ جعل اللّه تعالى قلب الموقن مكاناً يمكن فيه على قدر المكان ما يليق به، وكان يقول: يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم قلت أنا وأنا كن فيما أنت الآن كما لم تكن، فإنه هو اليوم كما كان، وكان يقول أيضاً: الزهد إنما هو ترك التدبير، فهذا يعني به ترك الأسباب التي توجب التدبير، وإخراج السبب الذي يجب تدبيره لا أنه يكون مسبباً متيقناً للأسباب وهو ترك تدبيرها، لأن التدبير في هذا الموضع إنما هو التمييز والقيام بالأحكام ووضع الأشياء مواضعها، فكيف لا يكون العبد كذلك مع وجود الأشياء وهو عاقل ممّيز متعبّد بالعلم مطالب بالأحكام؟ وإنما يقول: اترك الأشياء المدبّرة وازهد في الأسباب المميّزة حتى يسقط عنك التدبير والتقدير، فيكون بتركها تاركاً للتدبير بسقوط أحكامها عنك، واستراحتك من القيام بها، والنظر فيها؛ فهذا هو تفصيل جملة قوله في ترك التدبير، وهذا هو حال المتوكّلين، والمتوكّل لا يهتمّ بما قد كفي كما لا يهتمّ الصحيح بالدواء إذا عوفي، ولكن قد يحتمي قبل النزال كما يحتمي المعافى قبل ورود العلل.(1/381)
قال اللّه سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللّه رِزْقُِهَا) هود:6 (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) العنكبوت:60 فالمتوكل قد علم بيقينه، إذ كل ما يناله من العطاء من ذرّة فما فوقها، أن ذلك رزقه من خالقه، وأن رزقه هو له وأن ما له واصل إليه لامحالة على أيّ حال كان، وإن ما له لا يكون لغيره أبداً، وكذلك ما لغيره من القسم والعطاء لا يكون لهذا أبداً، فقد نظر إلى قسمه ونصيبه من مولاه بعين يقينه الذي به تولاّه من إحدى ثلاث مشاهدات، وإن دنت مشاهدته نظر إلى قسمه من العطاء في الصحيفة التي كتبت له عند تصوير خلقه، فكتب فيها رزقه وأجله وأثره، وشقيّ أو سعيد، فكما لايقدر أحد من الخلق أن يجعله سعيداً إن كان قسمه شقيّاً، فلا يقدر أحد أن يجعله شقيّاً إن كان قسمه سعيداً، كذلك لا يقدر أحد أن يمنعه ما أعطاه مولاه من القسم، فيجعله محروماً، ولا يعطيه ما منعه من الحكم فيجعله مرزوقاً، لأن ذلك قد كتب كتباً واحداً وجعل مجعلاً سواء، فإن ارتفعت مشاهدته نظر إلى هذا في اللوح المحفوظ مفروغاً له منه، وهو أم الكتاب الذي استنسخ منه هذه الصحيفة، فكان يقينه يكتب رزقه في اللوح، وأنه لا يزاد فيه بحول ولا حيلة ولا ينقص منه لعجز ولا سكينة، كيقينه بما كتب فيه من أنه من أهل الجنة فهو داخلها لامحالة، وإن عمل أي عمل بعد أن يكون قد كتب اسمه في اللوح وجعل له فيها أثر كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِْثُهَا عِبَاديَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء:105 فقد كتبت الآثار والأرزاق من كل شيء كتباً واحداً في ثلاث مواضع، توكيداً للعلم وتسكيناً للقلب في القسم، كتب ذلك في الذّكر الأول وهو اللوح المحفوظ ثم في الزبر الأولى وهي الصحف، ثم أنزل ذلك في كتابنا هذا الذي به عرفنا ما سلف من ذلك، وإن علت مشاهدة كل عبد عن مقامه ومن معبوده ومن مكانه في دنوّه وعلوّه يشهد هذا الذي ذكرناه معلوماً في علم اللّه تعالى قبل خلق اللوح، فسكن قلبه واطمأن إلى علم اللّه سبحانه وتعالى وما سبق له منه، ولهذا جاء في الأثر أن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد اللّه أوثق منك بما في يدك، وأن يكون ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك، أي فيقلّ حرصك لنفاذ شهادتك ويذهب في الخلق طمعك؛ فهذا هو الرضا والزهد، فقد جمع التوكّل المقامين معاً، فما في يد اللّه سبحانه وتعالى هو رزقك الواصل إليك، لا شكّ فيه على أي حال، وهو الذي لك عند اللّه، وهو معلوم علم اللّه تعالى الذي لا ينقلب، وذلك أحد ثلاثة أشياء: ماأكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فهذا هو الذي لك في الدنيا والآخرة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم مالي تعجّب من جهل ابن آدم وغفلته، ثم قال: إنما لك من مالك، فذكر هذه الثلاث واشترط مع كل واحدة آخر غايتها فقال: ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فاشترط الإفناء والإبلاء والإمضاء، ثم قال بعد ذلك: وما سوى ذلك فهو مال الوارث، فهذه الثلاث على هذه الأوصاف هي رزق العبد، وهي التي في يد اللّه عزّ وجلّ له، الواصلة إليه، فأما ما جعله في يد العبد فقد لا لايكون له، وإنما هو مستودع إياه ومستخلف فيه، وإن تملّكه وحازه خمسين سنة وإنما للعبد ما فرغ منه العبد وهو الذي فرغ له منه لما سبق له به، فإن تملّك سوى هذا وادّعاه لأجل أنه في خزانته، أو قبض يده فذلك لجهله باللّه تعالى وقلة فقهه عن اللّه سبحانه وغفلته عن حكمة اللّه تعالى في أرضه، يودعها من يشاء إلى الوقت الذي يشاء، حتى يستقرّ إلى كيف يشاء، فقد قال تعالى:(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ) الأنعام:98 وقال: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) الأنعام:67 وقال سبحانه: (وَخَزَائِنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الأنعام:7 وهكذا روينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله، وقال صلى الله عليه وسلم: وإن لكل عبد رزقاً هو آتيه لا محالة، فمن قنع به ورضي بورك له فيه، ومن لم يقنع به ولم يرضَ لم يبارك له فيه ولم يسعه.(1/382)
ويقال: لو هرب العبد من رزقه كما لو هرب من الموت لأدركه، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه، واعلم أن الخلائق لو جهدوا أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا على ذلك، ولو جهدوا أن يضرّوك بشيء لم يكتبه اللّه سبحانه لك لم يقدروا على ذلك، طويت الصحف وجفّت الأقلام، فمن كانت هذه مشاهدته في القسم المعلوم سقط عنه جملة من الهموم واستراح من النظر إلى الخلق واستراح الخلق، ومن أذاه، وشغل عنهم بخدمة مولاه، وكان قد فهم شيئاً من الخطاب، وممّن أقبل على اللّه الكريم بصالح ما دعاه إليه واستجاب، كما روي أن رجلاً لزم باب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كل غداة فشهد عمر منه مجيئه لأجل الطلب فقال له: ياهذا هاجرت إلى عمر، أو إلى اللّه، إذهب فتعلّم القرآن، فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل فغاب زماناً حتى افتقده عمر، فسأل عنه فدلّ عليه فأتاه، فإذا هو قد اعتزل الناس وأقبل على العبادة فقال له عمر رضي اللّه عنه: إني قد افتقدتك حتى اشتقت إليك، فما الذي شغلك عنا؟ فقال: إني قد قرأت القرآن فأغناني عن عمر وعن آل عمر، فقال له عمر: رحمك اللّه فما الذي وجدت فيه؟ فقال: وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون فقلت: رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فبكى عمر، وكانت موعظة له منه، فكان عمر بعد ذلك يشابه في الأحايين فيجلس إليه ويستمع منه.
وجاء رجل إلى بشر بن الحارث فقال: إني قد عزمت على سفر إلى الشام وليس عندي زاد فما ترى؟ فقال: ياهذا أخرج فيما قصدت له، فإن لم يعطك ما ليس لك لم يمنعك ما لك، وشكا رجل إلى فضيل حاله فقال ياهذا مدبّر غير اللّه تريد؟ وكان الحسن يقول: التوكّل هو الرضا، وفي تفسير قوله عزّ وجلّ: (وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَهَا) فصلت:10 قال: خلق الأرزاق قبل الأجسام بألفي عام فالمتوكّل لا يطالب مولاه برزق غد كما لا يطالبه مولاه بعمل غد، فأما المتوكّل في المضمون من الرزق المعلوم من القسم فهو توكّل العموم يستحي الخصوص من ذكره، ويتكرمون عن نشره إذا كان اللّه تعالى قد أقسم بنفسه أن الرزق في السماء حقّ، كما أقسم بنفسه أن كلامه حق، فجمع بينهما في الحقيقة بالقسم بالذات دون سائر الأفعال لتسكن بذلك نفوس الخليقة عن النظر إلى الأدوات، ليرتفع الشكّ فيهما ويحصل اليقين بحقيقتهما، فقال سبحانه: ( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ) الذاريات:23 كما قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ) يونس:53 وليس في القرآن قسم بالذات فيما سبرناه إلا خمسة: القسم الذي في سورة النساء على تسليم الأحكام (فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) النساء:65 الآية، وفي سورة التغابن على بعث الكافرين وأبنائهم (زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَن لَنْ يِبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ) التغابن:7 وفي سورة المعارج من (سَأَلَ سَائِلٌ) المعارج:1 في تبديل الخلق خلقاًِ خيراً منهم (فَلاَ أُقسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) المعارج:40 إلى قوله: (بِمَسْبُوقِينَ) المعارج:41 وهذان القسمان المتقدمان وسائر الأقسام بالأفعال، ولأن العبد قد وكل برزقه من يقوم له به من الخلق، فإن لم يرزق من كسبه وعن يده رزق من كسب غيره ويده، ولكن شغل الخصوص بأعمال الآخرة، وما يفوتهم من القربات إلى اللّه عزّ وجلّ، وبالخدمة للمولى الذي وكلّ إليهم، فإن لم يقوموا به لم يقم به غيرهم لهم، ولم ينب غيره من الدنيا منابه، لقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إلاَ مَا سَعى) النجم:93، وقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) (لِسَعْيهَا رَاضِيَةٌ) الغاشية:8 - 9 ولقوله تعالى: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى:71، وقوله تعالى: ( وَاللّه يُريدُ الآخِرَةَ) الانفال:76 ولقوله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ) الشورى:،2، ولم يقل هذا في أرزاق الدنيا، ومعنى الزيادة أن لا يحاسبه على مايعطيه من الدنيا إذ لا زيادة في القسم.(1/383)
وقد قيل: إن اللّه تعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا، وهذا لعلوّ الآخرة ودناءة الدنيا، وكان عليّ رضي اللّه عنه يقول: إلا أن حرث الدنيا المال، وحرث الآخرة العمل الصالح، وقد قيل: إن الزيادة في الآخرة رفعة الدرجات لمن كانت نيّته وقصده ولها يعمل، فشغل الخصوص بما وكلّ إليهم وبما لا يعمله غيرهم لهم عمّا تكفّل به لهم، فأقيم غيرهم فيه مقامهم وناب أيضاً عنه مثله من أسباب دنياهم، كما روي في أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي، وخلق آدم لأجل محمد، وخلقت ما خلقت لأجل آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت إليه ماخلقته لأجله، وتوكّل الخصوص أيضاً في الصبر على الأذى من القول والفعل، إذ كان أمر بذلك الرسول في قوله تعالى: (فَاتَّخَذَهُ وَكيلاًِ ) (وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ) المزمل:9 - 1 مع قول الرسل عليهم السلام: ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى اللّه فليتوكّل المتوكّلون، وكذلك أمر نبيّه عليه السلام لما قال تعالى: (أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام:90 فأمره باتباعهم وقال: (ودع أذاهم وتوكّل على اللّه) إلى قوله: ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ) الاحقاف35.
وقال بعض العارفين: لا يثبت لأحد مقام في التوكّل حتى يستوي عنده المدح والذم من الخلق فيسقطان، وحتى يؤذى فيصبر على الأذى، يستخرج بذلك منه رفع السكون إلى الخلق، والنظر إلى علم الخالق الذي سبق، ثم التوكّل في الصبر على حسن المعاملة، وترك الطلب للمعارضة حياء من اللّه وإجلالاً له وتخوّفاً منه وحبَّاًِ له، فقد وصفهم بذلك ظاهراً وباطناً، فالظاهر قوله تعالى: ( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلينَ) (الذَّينَ صَبَرُوا وَعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) العنكبوت:58 - 59، فلما علموا صبروا على علمهم، ثم توكّلوا عليه في جميع ذلك، فأنعم أجرهم وأجزل ذخرهم، والباطن فيما أخبر عنهم إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً فقطعهم الخوف عن الطلب، ففي قوله: منكم، وجه حسن غريب، وهو باطن الآية قد يكون بمعنى لا نريد بدلاً منكم، كقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الزخرف:60 ليس أنه جعل من البشر ومنكم ملائكة، ولكن المعنى بدلاً، هذا أحد الوجهين في الآية وهو أعلاهما، والوجه الظاهر أن يكون الكاف والميم أسماء المطعمين أي لا نريد من عندكم جزاء أي مكافأة ولا شكوراً أي حسن ثناء، فلما لم يطلبوا العوض من أجلهم ولا المكافأة من عندهم وقالوا: إنّا نخاف من ربّنا، جزاهم أفضل الجزء، وأحسن لهم غاية العطاء فقال تعالى: (وَسَقَاْهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاْباً طَهُوراً) (إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الدهر:21 - 22، إذ لم يطلبوا جزاءً ولا شكوراً جعل جزاءهم شراباً طهوراً، وجعل سعيهم لديه مشكوراً، ثم التوكّل عليه في تسليم الحكم والرضا به، ومنه قول يعقوب عليه السلام حين سلم الحكم توكلاً على الوكيل الحاكم: إن الحكم إلا للّهِ،عليه توكّلت، لأن العبد إذا كان مريد المراد نفسه من الأشياء قد لا يوجد في كل شيء إرادته، ثم هو على يقين من إرادة مولاه لكلّ شيء، وأن كل شيء مراد لوكيله فينبغي أن يريد ما يريد مولاه إذا لم يتفق له مايريد بل ينبغي أن يكون مراد مولاه أحبّ إليه وأبر عنده لأن ما أراده مولاه مما لاعقوبة على العبد فيه، ولا مسخطة لمولاه فإنه محبوب للّه مختار له، فلتكن محبة اللّه عزّ وجلّ مقدمة لديه على محبته هو واختياره، إذ للّه عاقبة الأمور وقد شرّف المتقين ونزّههم عن أمور العاجلة الدنية بقوله عزّ وجلّ: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ) القصص: 83، وكما روي في أخبار موسى عليه السلام إذا لم يكن ما تريد فرد ما يكون، فإن أبيت إلا ما تريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد.(1/384)
وروي عن الحسن: وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن حبة بدينار، وهذا من نهاية التوكّل، وليس ذلك إلا في تسليم الأحكام والرضا بها كيف جرت بهم، لأن هذا كلام قد جاوز المعقول، وقد كان وهيب بن الورد المكي يقول: لو كانت السماء نحاساً، والأرض رصاصاً، ثم اهتممت برزقي لظننت أني مشرك، ويقال: من اهتمّ برزق غد وعنده اليوم قوت غد فهي خطيئة تكتب عليه، وقال سفيان: الصائم إذا اهتم في أوّل النهار بعشائه كتب عليه خطيئة، وكان سهل يقول: إن ذلك ينقص من صومه، وقال أعرف في البصرة مقبرة عظيمة يغدو على موتاهم برزقهم من الجنة بكرة وعشية يرون منازلهم من الجنان وعليهم من الغموم والكروب ما لو قسم على أهل البصرة لماتوا أجمعين، قيل: ولِمَ؟ قال: كانوا إذا تغدوا قالوا بأي شيء نتعشى؟ وإذا تعشوا قالوا بأي شيء نتغدى؟ وقال مرة أخرى: لم يكن لهم من التوكّل نصيب، وهذه المقامات من فضائل التوكّل وفوقها ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصدّيقين ومشاهدات العارفين، منها أنه أعطاهم كن بإطلاعه إياهم على الاسم فزهدوا في كون كن لأجل كان، توكلاً عليه وحياءً منه أن يعارضوه في قدرته، ويرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في تكوينه، لأن تدبيره عندهم أحكم وأيقن، وهم بالعواقب أعلم، وأخبروهم له أشد إجلالاً وإعظاماً مما نقدر نحن ونعلم، فأما التوكّل عليه في القوت فإنه عندهم فرض التوكّل يستحيون من ذكره مع الوكيل، وكذلك التوكّل عليه في تسليم الأقدار حلوها ومرّها خيرها وشرها من اللّه حكمة وعدلاً، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس، وكما قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وكذلك قال اللّه عزّ وجلّ:(وَكُلُّ صغَيرٍ وَكَبير مُسْتَطَرٌ) القمر:53، فالعلم بهذه الأشياء، وطمأنينة القلب بها، و سكينة العقل عند ورودها، وأن لا يضطرب بالرأي والمعقول، ولا ينازع بالتشبيه والتمثيل، فإن هذا عندهم من فرائض الإيمان، لا يصحّ إيمان عبد حتى يسلم ذلك كله، وليس هذا من التوكّل في شيء، ومنه قول ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحِد اللّه وكذّب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقصاً لتوحيده، فجعل الإيبمان بالأقدار كلّها أنها من الله مشيئة وحكماً بمنزلة الخيط الذي ينتظم عليه الحبّ، وأن التوحيد منتظم فيه، يقول: إذا انقطع الخيط سقط الحبّ، قال: كذلك إذا كذب بالقدر ذهب الإيمان، فالتوكلّ فرض وفضل، ففرضه منوط بالإيمان وهو تسليم الأقدار كلّها للقادر واعتقاد أن جميعها قضاؤه وقدره، ألم ترَ إلى ربك كيف أقسم بنفسه في نفي الإيمان عمّن لم يحكّم الرسول فيما اختلف عليه من حاله فقال تعالى:( فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنَونَ حَتى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسِلِّمُوا تَسلْيماً) النساء:65، فكيف بالحاكم الأوّل والقاضي الأجلّ؟ فأما فضل التوكّل فإنه يكون عن مشاهدة الوكيل فإنه في مقام المعرفة ينظر عين اليقين، كما قال العبد الصالح: فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فظهرت منه قوّة عظيمة بقوي، وأخبر عن عزيز بعزّ فكأنه قيل: ولمَ ذاك وأنت بشر مثلنا ضعيف؟ فقال: إني توكّلت على اللّه ربي وربكم، فكأنه سئل عن تفسير توكّله كيف سببه فأخبر بمشاهدة يد الوكيل آخذة بنواصي دواب الأرض، فقال: ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ثم أخبر عن عدله في ذلك وقيام حكمته، وإنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر والنفع والضرّ، فإن ذلك مستقيم في عدله، فقال: إن ربي على صراط مستقيم، وقال تعالى في فرض التوكل:( وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنيَن) المائدة:23، وقال تعالى في مثله:( إنْ كُنْتمْ آمَنْتُمْ باللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَْلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس:84، وقال تعالى في فضله:(وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم:12، وقال تعالى: (إنَّ اللّه يُحبُّ الْمُتَوَكلِّينَ) آل عمران:159.
ذكر إثبات الأسباب والأواسط لمعاني الحكمة ونفي أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكم والقدرة:(1/385)
اعلم أن اللّه عزّ وجلّ ذو قدرة وحكمة، فأظهر أشياء عن وصف القدرة، وأجرى أشياء عن معاني الحكمة، فلا يسقط المتوكّل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته من قبل أن اللّه تعالى حكيم، فالحكمة صفته، ولا يثبت المتوكّل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة، فيشرك في توحيده من قبل أن اللّه قادر والقدرة صفته، وأنه حاكم جاعل ضارّ نافع، لا شريك له في أسمائه، ولا ظهير له في أحكامه، كما قال عزّ وجلّ: (إن الحكم إلا للّه) يوسف:40 وقوله:(وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً) الكهف:26، وكما قال تعالى:(وَمَا لَهُمْ فيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ منهم منْ ظَهيرٍ) سبأ:22 الظهير المعين على الشيء، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة اللّه على الأشياء وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك والمملوك هو أيضاً عالم بوجوه الحكمة في التصريف والتقليب بإظهار الأسباب الأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح لإيقاع الأحكام على المحكوم وعود الثواب والعقاب على المرسوم، من حيث كان المتوكل قائماً بأحكام الشريعة ملتزماً لمطالبات العلم مع تسليمه الحكم الأوّل للّه، واعترافه أن كلاً بقدر اللّه إذ سمع اللّه تعالى يقول: لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، وأن اللّه تعالى في جميع ما أظهر أخفى قدرته في حكمه فظهرت حكمته في الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها، وبطنت قدرته في الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ولإتقان الصنعة الظاهرة لصنع الباطن.
فلذلك قال عزّ وجلّ:( صُنْعَ اللّه الَّذي أَتْقَنْ كُلَّ شَيء) النمل:88، أي صنعه الباطن أتقن صنعه الظاهر، ثم قال تعالى: ( وَإلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) هود: 123، من الظاهر والباطن فاعبده وتوكّل عليه في جميع ذلك، فللعارف المتوكّل من الصنع الباطن شهادة هو قائم بها، وله في الحكمة الظاهرة علم شرع وتسليم اسم ورسم هو عامل به، وهذا هو شهادة التوحيد في عبادة التفضيل، وهو مقام العلماء الربانيين، وكل مؤمن باللّه متوكّل على اللَّه، ولكن توكّل كل عبد على قدر يقينه، فتوكّل الخصوص ما قدمناه من ذكر المشاهدة ومعاني الرضا، وتوكّل العموم ما عقبناه من الإيمان بالأقدار خيرها وشرها، وقد أخبر اللّه تعالى أنه هو الرزاق، كما هو الخالق، كما هو المحيي المميت، فقرن بين هذه الأربع في قرن واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة، فكيف يختلف حكمها أو يتبعّض وصفها لظهور الأسباب ووجود الأواسط.(1/386)
فقال سبحانه وتعالى:(اللّه الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) الروم:4،، فكما ليس في الثلاث الأخر جاعل ومظهر إلا الواحد، فكذا ليس في الرابعة من الرزق إلا هو، ألا ترى أنك لا تقول: خلقني أبي وإن كان هو سبب خلقك؟ ولا تقول أحياني وأماتني فلان وإن كان أواسط في الإحياء والقتل، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فترك؟ ولذلك قال اللّه تعالى:( أَفرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخَالِقُونَ) الواقعة:58 - 59، وكذلك قال تعالى:( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) (أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الواقعة:63 - 64، فأضاف الإمناء والحرث إلينا، لأنها أعمال ونحن عبيد عمال، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات عن قدرته، وحكمته واللَّه هو القادر الحكيم، وكذلك كل ما ذكر في الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلى الجوارح المجترحة، ونسب إلى الأدوات المكتسبة، وما كان من القدرة والإرادة وصف نفسه به، لأنه المريد الأوّل والقادر الأعلى، فافهم عن اللّه خطابه كيلا يزيغ قلبك فيما تشابه، ثم قد يقول العبد أعطاني ومنعني فلان لأن هذا شرك خفي، ولأن الأسباب تظهر على أىديهم، وتجري بأواسطهم، فحجبوا بها عن المسبّب واستتر عنهم المعطي المانع، فقبح هذا أيضاً عند الموقنين كقبح ذاك، لأن اللّه تعالى نفى الرزق عن سواه كما نفى الخلق، فقال تعالى:(هَلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ) فاطر:3، ولم يرد اللفظ على اللفظ وإن حسن فيقول: يخلقكم لأنه أراد سبحانه أن يفيدنا فضل بيان ويعلمنا اقتران الرزق بالخلقة، وأنهما مسببان عن القدرة، فالمتوكّل قد أيقن أنه لم يكن على اللّه أن يخلقه، فلما خلقه كان عليه أن يرزقه، وهكذا روي عن اللّه تعالى: أأخلق خلقاً ولا أرزقه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ردًّا عليهم حين قالوا: جدي في كذا وجدي في كذا، يعنون صنوف الأسباب، فنفى ذلك بقوله هذا في صلاته وأسمعهم إياه خشية دخول الشرك عليهم،أي جد العبد لا ينفعه منك شيئاً فهذا كما قال اللّه تعالى: ( إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيْئاً) النجم:28.
قال بعض العلماء في معنى ذلك: من جدّ في الطلب وحرص وجد منك المنع لم ينفعه جده في طلبه وحرصه شيئاً، وقال أيضاً في معنى قول اللّه عزّ وجلّ: (وَيَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ) الرعد:39، قال: يمحو الأسباب من قلوب العارفين ويثبت القدرة ويمحو المشاهدة من قلوب الغافلين ويثبت الأسباب في صدورهم، وقال هذا أيضاً: خلق اللّه النفس متحركة ثم أمرها بالسكون، وهذا هو الابتلاء، فإن تداركها بالعصمة سكنت وهذا خصوص، وإن تركها تحرّكت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اردد رغبتك إلى اللّه إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، فإن حيلتك لن تزيديك ولن تنقصك من قسمة اللّه التي قسم لك، واعتبر رزقك بخلقك، فإن استطعت أن تزيد في خلقك بحيلتك فإنك إذاً تزيد في رزقك، وإلافاعلم أن اللّه هو الذي عدل الخلق وقسم الرزق، فلن تستطيع أن تزيد في أحد منها، فإن منهم المحتال الجلد البطوش ولا يزداد إلا فقراً، ومنهم المعيي الواهن المهين ولا يزداد ماله إلا كثرة، ولو كان من الحيلة لسبق القوي الضعيف إلى كل شيء، ولكن اللّه يخلق ويرزق ولا يملك العباد من ذلك شيئاً، وهكذا حكى أن بعض الأكاسرة سأل حكيماً في زمانه فقال: ما بالي أرى العاقل محروماً والأحمق مرزوقاً؟ فقال: أراد الصانع أن يدل على نفسه، ولو كان كل عاقل مرزوقاً، وكل أحمق محروماً، لوقع في العقول، إن العاقل يرزق نفسه والأحمق حرم نفسه فلما رأوا الأمر بخلاف هذا علموا أن الصانع هو الرازق.(1/387)
وروينا عن ابن مسعود في إعطاء هذا المال فتنة، وفي منعه فتنة، إن أعطيه عبد مدح غير الذي أعطاه، وإن منعه عبد ذم غير الذي منعه، وقد روينا معناه في حديث مطرف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب فقال: ألا إن في إعطاء هذا المال فتنة،، وفي منعه فتنة، يغدو الرجل إلى ابن عمه فيسأله الحاجة التي قد كتبها اللّه له فلا يملك منعه فيعطيه ما كتب له فيظل يشكره ويثني عليه بها خيراً، ثم يعود إليه العام المقبل فيسأله الحاجة التي لم يكتبها اللّه له فلا يملك أن يعطيه كما لم يعطه في العام الأول أن يمنعه فيمنعه ما لم يكتب له، فيرجع فيحتقبها عليه ذنباً، ويثني عليه بها شرَّا، إلا أن في إعطاء هذا المال فتنة وفي منعه فتنة، واللفظ للخبر ولم آل يعني بالفتنة الاختبار وصدق صلى الله عليه وسلم يختبر بذلك الموقنون للخير والغافلون لينظر كيف يعملون، فأما أهل اليقين فيعتبرون بالأسباب ويعجبون من التسبب فيزدادون بذلك هدى وإيماناً لشهودهم المعطي المانع واحداً في العطاء والمنع، ولمعرفتهم بجريان الحكمة فيما جادت به الشريعة ثبت لهم مقامان: الشكر له والصبر عليه، وأما الغافلون فيضطربون لذلك ويثبتون بنظرهم إلى الأسباب والأيدي، فيمدحون المعطين ويذمون المانعين عندهم فينقصون ذلك، فقد صار المال فتنة للفريقين يكشف إيمانهم وتمتحن للتقوى قلوبهم، وكذلك جاء في الخبر: إن العبد ليهمّ من الليل بالأمر من أمور الدنيا من التجارة وغيرها الذي لو فعله كان فيه هلكته، فينظر اللّه إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه فيصبح كئيباً حزيناً يتطير بجاره وبابن عمه من سبقني من دهاني وما هو إلا رحمة رحمه اللّه بها، وعن ابن مسعود أنه قال: من الإخلاص أن لا تحبّ أن يحمدك الناس على عبادة اللَّه وأن لا تمدحهم على ما رزقك اللّه.
وقد روينا عن عيسى عليه السلام وعن ابن مسعود وغيره: أن من اليقين أن لا تحمد أحداً على ما أعطاك اللّه ولا تذمه على ما لم يؤتك اللّه، وقال: الصبر نصف الإيمان والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، وفي حديث الإفك الذي رواه معمر بن أبان عن حمدان الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: فقام إلّي أبواي فقبلاني في صدورهما فقلت بغير حمدكما ولا حمد صاحبكما، أحمد اللّه تعالى الذي عززني وبرأني، وفي حديث غيره فقال لها أبو بكر: قومي فقبّلي رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: واللّه لا أفعل ولا أحمد إلا اللّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها يا أبا بكر، فهذه المعاني التي قدمناها تكون من ضعف اليقين، ونقصان المعرفة، فإذا انطوت في سرّ العبد وخلده وكثرت من قوله وفعله أذهبت حقيقة الإيمان، كما قال عبد وأن العبد ليخرج من منزله ومعه إيمانه فيرجع إلى منزله وليس معه من إيمانه شيء يلقى الرجل لا يملك له ضرَّا ولا نفعاً، فيقول إنك لذيت وذيت، ويلقى الآخر كذلك حتى يرجع إلى منزله، ولعله لم يخل منه بشيء وقد أسخط اللّه عليه.
وسئل بعض علمائنا عن معنى الخبر المنقول من التوراة: من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه، فقال: لأن الإيمان عقد وفعل وقول، فإذا تواضع للغني لأجل دنياه بالثناء والحركة إليه، ذهب ثلثا إيمانه وبقي الثلث وهو العقد، فإن جعلت الأواسط في الرزق أوائل في الجعل لثبوتها فإن اللّه تعالى قد أظهرها أسباباً وأثبت نفسه فيها فقال تعالى:(قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكَّلَ بِكُمْ) السجدة:11، ثم رفعه وأظهر نفسه فقال تعالى:( اللَّه يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِهَا) الزمر:42، وكذلك قال:( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة: 63، فذكر الأواسط ثم قال:(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبَّا) ( ثُمَّ شَقَقْنَا الأرََْضَ شَقًّا ) عبس 25 - 26، وقال في التفصيل:(فَأَرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنَا) مريم:17، ثم قال تعالى في التوحيد:( فَنَفَخْنَا فيهَا مِنْ رُوحِنَا) الانبياء:91، وكان النافخ جبريل عليه السلام، كما قال تعالى:( فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) القيامة: 18.(1/388)
قال أهل التفسير: فإذا قرأه عليك جبريل فخذه عنه بعد قوله تعالى:(لاَتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) القيامة: 16 وكذلك قال جبريل: لأهب لك غلاماً ذكياً لأن اللّه تعالى وهب له أن يهب لها، فذكر نفسه وهو يشهد ربه ثم قال في الحرف الآخر: ليهب لك يعني اللّه تعالى، ومثله قول موسى عليه السلام: لا أملك إلا نفسي وأخي لأجل أن اللّه تعالى قال:(وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ) مريم: 53، وهو في الحقيقة لا يملك نفسه ولا آخاه إذ لا مالك أصلاً إلا اللّه عزّ وجلّ، وهذا على أحد الوجهين إذا كان وأخي في موضع نصب والوجه الآخر أن يكون قوله وأخي في موضع رفع فيكون المعنى وأخي أيضاً لا يملك إلا نفسه وكذلك قال سبحانه في التفصيل والأمر:(اقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ) التوبة: 5، وقال في مثله من ذكر واسطة الأمر: (قَاِتلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بأَيْديكمْ) التوبة:14 ثم قال في التوحيد:( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ) الأنفال:71، وقال في إثبات الأسباب ورفع حقائقها: (وَمَا رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولَكِنَ اللّهَ رَمَى) الأنفال:17، وقال تعالى في ذكر الأواسط: ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمُ ولاَ أَوْلاَدُهُمْ إنَّمَا يُريدُ اللّه لِيْعَذّبَهُمْ بهَا) التوبة:55، وقال في مثله:(الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) العلق:4، ثم قال تعالى:(الرَّحْمنُ) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) الرحمن:1 - 2 وقال تعالى:( عَلَّمَهُ الَبَيانَ) الرحمن: 4، ثم قال: إن علينا بيانه، وقال في تثبيت الأملاك وبيعها منه بالأعواض كرماً منه وفضلاً: إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، فجاز ذلك لما ملكهم ما له كقوله تعالى:(إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيمانكم) النساء:24، وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقة إلا اللّه عزّ وجلّ، لأن حقيقة الفاعل هو الذي لا يستعين بغيره بآلة ولا سبب، وعندهم إن فعلاً لا يتأتى من فاعلين وإلا كان شركا، لأن الفاعل الثاني المظهر الذي فعل بيده وأجرى الفعل بواسطته هو ثان ومحدث، والأوّل القديم هو الفاعل الأصلي، كما أن عندهم أن حقيقة المالك هو خالق الشيء، ومن جعل في يده فهو مملك، لأنه لم يخلق مابيده كما المجري على يده الفعل مفعول، لأن اللّه تعالى هو الأول القيوم بنفسه لا يستعين بغيره، وقد جعل اللّه أيضاً بحكمته وعزته للخلقة والحياة واسطة وهوملك الأرحام، في الخبر أنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصوّرها جسداً فيقول يا رب أذكر أم أنثى؟ أسويّ أم معوج؟ فيقول اللّه ما شاء ويصوّر الملك، وفي لفظ آخر: يخلق الملك ثم ينفخ فيها الروح بالشقاوة أو بالسعادة، ويقال: إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد، ويقال: إنه يتنفس بوصفه، فيكون كلّ نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم، ولذلك سمّي الروح.(1/389)
وقد قال اللّه تعالى في وصف نفسه:( الْبَارئ الْمُصَوِّرُ) الحشر:24، كما قال الخالق، وقال تعالى:(خَلَقَ الْموْتَ وَالْحَياة) الملك:2، وقد جعل للإحياء واسطة كما جعل للموت وهو إسرافيل صاحب الصور ينفخ في النفخة الثانية فيحيا كل ميت ثم يرفعه اللّه تعالى، فقال: يوم ينفخ في الصور، ووصف نفسه بأنه المحيي المميت، وفي بعض الأخبار أن ملك الموت وملك الحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت الأحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي كل ميت، فأوحى اللّه إليهما كونا على عملكما وما سخرتما له من الصنع، فأنا المميت وأنا المحيي ولا مميت ولا محيي سواي، وكذلك أيضاً قيل عن اللّه تعالى: أنا الدليل على نفسي ولا دليل عليّ أدل مني، ولم يمنع وجود هذه الأواسط أن يكون اللّه سبحانه هو الأول في كل شيء، وهو الفاعل لكل شيء، وحده لا شريك له في شيء، ولم يقل أحد من المسلمين: الملك خلقني ولا عزرائيل أماتني ولا إسرافيل قد أحياني كذلك، أيضاً لا يصلح أن يقول الموقن المشاهد للتوحيد، فلان أعطاني أو منعني، كما لا يقول فلان رزقني ولا فلان قدر عليّ، وإن جعل واسطة في ذلك وأجرى على يديه ذلك لأن العطاء هوالرزق والمنع هو القدر، ولا كان عندهم شركاء في أسماء اللّه غيره إذ كان اللّه هو المعطي المانع الضار النافع كما هو المحيي المميت، لا شريك له في ملكه ولا ظهير له من عباده في خلقه ورزقه، وهذا عندهم يقدح في حقيقة التوحيد للعبد وهو من الشرك الخفي الذي جاء في الأثر: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل في الليلة المظلمة.(1/390)
وقال بعضهم في معنى قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إلاّ وَهُمْ مُشركُون) يوسف:106 قال مؤمن بالإقرار: إن اللّه هو المقدّر المدبّر، ومشرك في الاعتماد على الأسباب وردّ الأفعال إليها، ومن الإخلاص عند المخلصين بلا إله إلا اللّه، ولامعطي ولا مانع إلا اللّه ولا هادي ولا مضلّ إلا اللّه، كما لا إله إلا اللّه، هذا عندهم في قرن واحد ومشاهدة واحدة، وهو أوّل التوحيد، وإن كان قد جعل هادين ومضلين ومعطين ومانعين ولكن بعد إذنه ومن بعد مشيئته وحكمه،كما قال تعالى:(أَحْسَنُ الْخَاِلقينَ) المؤمنون: 14 (خَيْرُ الرَّازِقينَ) المؤمنون:72، لأنه خلقهم وخلق خلقهم ورزقهم ورزق رزقهم، وكذلك هو هداهم وهدى بهم، وأضلهم وأضلّ بهم، فعن هدايته هدوا به، وعن إضلاله ضلّوا بعد إرادته، كما عن خلقه خلقوا، ومن رزقه رزقوا،وكيف وقد فسر ماذكرناه بقوله: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني وبقوله تعالى: (لَوْ هَدانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ) إبراهيم:21، وقال في مثله: ( فَأَغْوَيْناكُمْ إنَّا كُنّا غَاوِينَ) الصافات:32، فبمشاهدة ما ذكرناه يخرج العبد من الشرك الخفي وهو تحقيق قوله: لا إله إلا اللّه بعد التصديق، أي ليس من تأله، القلوب وتأله إليه إلا اللّه، ثم يقول معها: وحده لاشريك له، أي وحده في قدرته وتوحيده لا شريك له في ملكه من خلقه، ثم وكدّ ذلك بقوله: له الملك، أي جميع ما أظهر، وله الحمد في جميع ما أعطى ومنع، يستحق الحمد كله، فهو لا يستحقه غيره، وهوعلى كل شيء قدير أي من الخلق والأمر، فالقدرة كلها له والخلق كله له يحكم في خلقه بأمره ما شاء كيف شاء، ومثل الأواسط مثل الآلة بيد الصانع، ألا ترى أنه لا يقال: الشفرة حذت النعل ولا السوط ضرب العبد، إنما يقال: الحذاء حذ النعل وفلان ضرب عبده بالسوط، وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها، وكذلك الخليقة يباشرون الأسباب في ظاهر العيان، واللّه من ورائهم محيط، القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة، ألم ترَ إلى قولهم: الأمير أعطاني كذا وخلع عليّ كذا؟ وإن لم يناوله بيده ولا يصلح أن يقول: خادم الأمير أعطاني لأجل أنه جرى على يده، وإن كان باشر العطاء بنفسه، إذ قد علم أن الخادم لا يملك ولا يتصرف في ملك الأمير إلا أن يسأل الإنسان: بيد من أعطاك الأمير؟ أو على يد من وجه إليك بالعطاء؟ لبغية تكون للسائل في معرفة أي عبد جاء به، فيجوز أن يقول حينئذ: بيد عبده فلان فإما أن يبتدئ المعطي من غير أن يسأل إذا أراد أن يظهر العطاء فيقول الأمير أعطاني على يد عبده فلان، فإن هذا لغو لا يحتاج إلى ذكر العبدمع ذكر الملك، لأن البغية إظهار العطاء من الملك المعطي، فلا معنى لذكر العبد الذي جرى العطاء على يده فافهم، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي ناوله التمرة: خذها، لو لم تأتها لأتتك، والتمرة لا تأتي، ولم يقل: لجاءك بها رجل إذ لا بغية في ذكر ذلك، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال:أتوب إلى اللّه ولا أتوب إلى محمد فقال: عرف الحق لأهله، وإنما ذكراللّه تعالى الأسباب لأن الأسماء متعلقة بها والأحكام عائدة على الأسماء بالثواب والعقاب، فلم يصلح أن لا تذكر فتعود الأحكام على الحاكم تعالى، عن هذا أنه هو يبدىء ويعيد، يبدئ الأحكام من الحاكم ويعيدها على المحكوم، وهذا هو سبب إظهار المكان من الموات والحيوان لئلا يكون تعالى محكوماً وهو الحاكم ولا يكون مأموراً وهو العزيز الآمر، فعادت على المحكومات المأمورات، ومن هذا قوله تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقٍ) النحل:96، فجميعاً عنده، وفي خزائنه، إلا أنه أضاف الدنيا إلينا لرجوع الأحام علينا وليزهدنا فيها وأضاف الآخرة إليه تخصيصاً لها، وتفضيلاً ليرغبنا فيها، وكما أخبر عن عيسى: وإذ تخلق من الطين، ومثله: فارزقوهم فيها، فسماه خالقاً، إذ خلق اللّه على يده وسماهم رازقين لما أجرى على أيديهم رزق أهليهم، فهو عندي كقوله لمريم:( وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ الَّنخِلةِ تُساقِطْ عَليْكَ رُطَباً جَنِيَّا) مريم:25، وقد علمت أن الرطب لم يتساقط بهزّها ولا جعل ولا فعل لهزّها في الرطب، ولكن أراد أن يظهر كرامتها ويجعل الآلة منه بيدها، ومثله: (ارْكُضْ بِرِجِلْكَ هَذا مُغْتَسَلٌ(1/391)
بارِدٌُ وَشَرَابٌ) ص:42، فنبعت عينان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ولا فعل لرجله في إظهار اليعنين، وقد نفى لبيد ما سوى اللّه في قوله:دٌُ وَشَرَابٌ) ص:42، فنبعت عينان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ولا فعل لرجله في إظهار اليعنين، وقد نفى لبيد ما سوى اللّه في قوله:
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما أنشد ذلك صدق، وفي لفظ آخر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصدق بيت قاله الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل
وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أنّ في الأشياء أواسط حقّ وأسباب صدق، ثم لم يمنعه ذلك أن قال أصدق بيت قاله الشاعر: كذا، إيثاراً منه للتوحيد وتوحيداً للمتوحد، هذا مع قرب عهدهم بتكذيب الرسل وإبطال الكتب، ولكن لما كانت الأشياء بعد أن لم تكن ولا تكون، بعد أن كانت أشبهت الباطل الذي لا حقيقة له أولية، ولا ثبات له آخرية، وكان اللّه تعالى الأوّل الأزلي، الآخر الأبدي، فهو الحق ولا هكذا سواه، ومثله الأسباب أيضاً في ثوانيها وأواسطها إلى جنب الأوّل المسبّب مثل ما يقول في القرآن: قال اللّه كذا، ولك أن تقول قال نوح، وقال يوسف كذا،فكل صواب، فإذا قلت قال اللّه سبحانه وتعالى فهو القائل الأوّل قبل القائلين، متكلماً بوصفه مخبراً عن علمه بغير وقت لموقت ولا حدّ لمحدود ولا حدثان، وإن قلت قال صالح وقال شعيب فقد قالوه بأنهم ثوان في القول وأواسط به، وقالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب، كذلك الأسباب في أواسطها فهي ثوان عن الأوّل المبدئ، ومن ههنا، وفي مثله دخلت الشبهة على المبتدعين فقالوا بخلق القرآن، فلو لم يدخل عليهم إلا إنهم جعلوا قول القائلين قبل قول اللّه أحكم الحاكمين، فأثبتوا قبل قوله قيلاً وهو القول منهم لنفيهم قدم الكلام، فوقعوا بجهلهم في أعظم مما هربوا منه لأنهم هربوا من إثبات قديم آخر بزعمهم، فوقعوا في إثبات حدث أوّلاً وإحداث قدم ثانياً، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً وسبحانه بكرة ً وأصيلاً، ولم يعلموا بجهلهم أنهم إنما قالوا بعد قوله، فصار قولهم عن قوله، وكان هو الأوّل في القول من حيث كان هو الأوّل بالقدم والسابق بالعلم، وصاروا هم ثوان في المقال من حيث كانوا حوادث من الأفعال، فكذلك أيضاً تدخل الشبهة على الغافلين من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين أوائل في الفعل من قبل أنّ اللّه تعالى أظهر العطاء والمنع بأيديهم، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان توحيدهم فأشركوا في أسماء اللّه كما أشركت المبتدعة في صفات اللّه عزّ وجلّ أن حجبوا عن شهادة سبق علم اللّه كما حجب الزائغون عن حقيقة توحيد اللّه تعالى، إلا إنّ شرك الزائغين ضلال ينقل عن الملة وهو شرك جلي وشرك ضعفاء اليقين غفلة وجهل لا ينقل عن الملة لأنه شرك خفي، وحكي أنّ بعض العلماء صلّى خلف رجل، فلما انفتل الإمام نظر إليه في زي غير مكتسب فقال: يا شيخ من أين تأكل؟ فقال: اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك، وحدثونا في معناه عن آخر أنه لزم العكوف في المسجد ولم يكن ذا معلوم من عيش فقال له الإمام: الذي يصلّي بالناس لوتكسّبت وتعبّست كان أفضل لك فلم يجبه، فأعاد عليه وقتاً آخر نحو ذلك، فقال يهوديّ في جوار المسجد: قد ضمن لي كل يوم رغيفين فقنعت بذلك وتركت التكسّب، فقال الإمام: إن كان صادقاً في ضمانه فإن عكوفك في المسجد خير لك، فقال له الرجل: يا هذا أنت لو لم تكن إماماً للمسليمن تقوم بينهم وبين اللّه لنقص توحيدك كان خيراً لك.(1/392)
وحدثت أنّ اللّه تعالى أوحى إلى بعض الصدّيقين: أدرك لي لطف الفطنة وخفيّ اللطف فإني أحبّ ذلك، قال: يا رب وما لطف الفطنة؟قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني أرفعها، قال وماخفيّ اللطف؟قال: إن أتتك فولة مسوّسة فاعلم أني قد ذكرتك بها، وهذاالذي ذكرناه من أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو المعطي المانع الضارّ النافع حيث كان، هو الخالق الرازق كيف شاء، ومتى شاء، وبمن شاء، هو في عقود عموم المؤمنين وفي علمهم، ألا إنّ فيهم جهلاً بالحكمة وغفلةً عن الحاكم، يحيلون ذلك إلى عاداتهم ويريدون أن يكون رزقهم من حيث معتادهم، أو من حيث معقولهم باختيارهم ومعقولهم بالعزّ والفخر والتطاول والأنفة، لا على الذلّ والتواضع والفقر والمسكنة، ولا يكلون أمورهم إلى اللّه ويرضون بتدبيره وتقديره أن يرزقهم كيف شاء وبيد مم شاء فيؤثرون أخلاق الجبابرة على أخلاق المؤمنين، لبعدهم من مشاهدة اليقين ولاستيلاء أخلاق النفس عليهم، ثم إنّ نفوسهم مع علمهم أنّ الخلق والأرض كله للّه عزّ وجله، وأنّ الحمد والملك له، قد تطمع في غير اللّه وترجو سواه،وقد تضطرب بجبلتها عن أثقال الحقائق، وقلوبهم لا تطمئن بل تنزعج عند الابتلاء بالمصائب والفاقات، ولاتصبر للخالق، وإنّ ألسنتهم قد تسبق بالمدح والفرح مع رؤية الأواسط أو بالذم والأسى على فوت العطاء لوجود الغفلة وذهابهم عن مشاهدة ما يعلمون، فهذا دليل نقص توحيدهم وضعف يقينهم، وإن معرفتهم معرفة سمع وخبر لامعرفة شهادة وخبر، وقد شركهم الموقنون بتسليم ذلك للّه في العلم والقدرة وإثبات الأواسط والأسباب لمجاري الحكمة وعود الثواب والعقاب على الخليقة، ولكن زادوا عليهم بحسن اليقين وقوة المشاهدة وجميل الصبر وحقيقة الرضا، فسكنت القلوب واطمأنت النفوس عند النوازل والبؤس، وثبتوا في الإبتلاء لشهود المبلي يدبر الخلائق كيف شاء، فحصل لهم في اليقين وحال من التوكل ونصيب من الرضا، وخرج أولئك من حقائق هذه المعاني ودخلوا في عمومها، ودخل عموم المؤمنين مع الموقنين في فرض التوكل، قد جاوزهم الموقنون فارتفعوا عليهم وعلوا في فضله ووقف العموم ونكصوا عن العلوّ لقعود اليقين بهم وحجب الأسباب لهم، وسبق المقربون إلى الفضل،ويؤت كل ذي فضل فضله، هم درجات عند اللّه، واللّه بصير بما يعملون، وقال بعض العلماء: احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها، وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونها ولا يرونها، وحدثونا عن سري السقطي قال: ثلاث يستبين بهن اليقين، القيام بالحق في مواطن الهلكة، والتسليم لأمر اللّه عند نزول البلاء، والرضا بالقضاء عن زوال النعمة، وقال يوسف بن أسباط قبله: كان يقال: ثلاث من كنّ فيه استكمل إيمانه، من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
ذكر التكسب والتصرف في المعايش(1/393)
ولا يضرّالتصرف والتكسب لمن صحّ توكله ولايقدح في مقامه ولا ينقص من حاله قال اللّه سبحانه:(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ) النبأ:11، وقال تعالى:(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فيهَا مَعَايِشَ قَليلاً مَا تَشْكُرُونَ) الأعراف:10 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده وكل بيع مبرور، وقد كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر، والتاجر أحبّ إليهم من البطال، وقال ابن مسعود: إني لأكره أن يكون الرجل بطالاً ليس في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة، ولأن التوكل من شرط الإيمان ووصف الإسلام، قال اللّه تعالى:(إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: 84، فاشترط في الإيمان به والإسلام له التوكّل عليه، فإن كان حال المتوكل التصرف فيما قد وجه فيه ودخل في الأسباب وهو ناظر إلى المسبّب في تصريفه، معتمد عليه واثق به في حركته، متسبب فيما يقلبه فيه مولاه، متعيش فيما يسببه له ويوجهه فيه، عالم بأن اللّه تعالى قد أودع الأشياء منافع خلقه وجعلها خزائن حكمته ومفاتح رزقه، ويكون أيضاً متبعاً للسنة والأثر تاركاً الترفه والتنعم، فهو في تكسبه وتصرفه أفضل ممن دخلت عليه العلل في توكله فساكنها، وقد ذكر لنا عن بعض العلماء أنه رؤي يطحن برجله، وكان قد ترك العمل أربعين سنة فقيل له: دخلت في التكسب بعد أن كنت قد تركته؟ فقال: يا هذا، إذا عدمنا عزّ التوكل لم نصبر على ذل الاستشراف، فكذلك الأمر فيمن دخلت عليه الآفة في ترك التكسب، فليخرج منها إلى الاحتراف، ومن دخل عليه اليقين فاقتطعه فليقعد عن الاكتساب، فالتكسب خير من التشرف إلى الخلق واعتياد المسألة، وسالك على طريق فهو يصل وإن كان في طريقه بعد، والتوكل لمن أقعد به ناظر إلى الوكيل أفضل لمن صح له لفراغ قلبه من الخلق وشغله بالخالق، وهو طريق قريب فصاحبه مقرب، والتارك للتكسب طمعاً في الخلق وترفّهاً للنفس وحبَّا للمسألة واتباعاً للهوى، سالك على غير طريق لا قريب ولا بعيد هو عن المحجة جائر، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم فأسه وحبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وقال صلى الله عليه وسلم: استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك يعني بمضغه، وقال: من يضمن لي خصلة واحدة، أضمن له الجنة، لا يسأل الناس شيئاً، وقال بعض علمائنا: من أنكر التكسب فقد طعن في السنّة، ومن أنكرالقعود عن التكسب فقد طعن في التوحيد، وقال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلق وهم أصناف كما هم اليوم، منهم التاجر، والصانع، والقاعد، ومن يسأل الناس، ومن لم يسأل الناس، فما قال للتاجر اترك تجارتك ولا قال للقاعد: اكتسب واصنع، بل جاءهم بالإيمان واليقين في جميع أحوالهم وتركهم مع اللّه في التدبير، فعمل كل واحد بعمله في حاله، وقد كان بعض المتوكلين يقول: من لم يصبر على جوع ثلاثة أيام أخاف أن لا يسعه ترك العمل إذا وجده، وقال أيضاً: من فقد الأسباب فضعف قلبه، أو كان وجودها أسكن لقلبه من عدمها، لم يصح له القعود عن المكاسب لأن فيه انتظار لغير اللّه، وقال بعض العلماء: من طرقته فاقة تسعة أيام، فتصور في قلبه طمع في خلق أو استشراف إلى عبد، فالسوق أفضل له من المسجد، وقال أبو سليمان الداراني: لا خير في عبد لزم القعود في البيت وقلبه معلق بقرع الباب متى يطرق بسبب، وقال بعض علمائنا: إذا استوى عنده وجود السبب وعدمه، وكان قلبه ساكناً مطمئناً عند العدم، لم يشغله ذلك عن اللّه تعالى، ولم يتفرق همّه، فترك التكسب والقعود لهذا، أفضل لشغله بحاله وتزودّه لمعاده، وقد صح له مقام في التوكل، وقال سهل وقد سئل: متى يصح للعبد التوكل؟ فقال: إذا دخل عليه الضرّ في جسده، والنقص في ماله، فلم يلتفت إليه ولم يحزن عليه شغلاً بحاله وينظر إلى قيام اللّه عليه، وقال إبراهيم الخوّاص وهو إمام المتوكلين: من المتأخرين: ثلاثة مواطن حمل الزاد فيهن من آداب التوكل: القعود في المسجد والركوب في سفينة وصحبه القافلة، وقال سفيان الثوري: العالم إذا لم يكن له معيشة صار وكيلاً للظلمة، والعابد إذا لم تكن له معيشة أكل بدينه، والجاهل إذا لم تكن له معيشة كان سفيراً للفساق، وقال بعض أهل المعرفة: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه فهذه درجة(1/394)
الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك حال الناجين، وآخر شغله معاشه عن معاده فهذه صفة الهالكين.لفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك حال الناجين، وآخر شغله معاشه عن معاده فهذه صفة الهالكين.(1/395)
وروينا عن عليّ رضي اللّه عنه الرزق رزقان: رزق يطلبك ورزق تطلبه، ففسره بعض العلماء فقال: الرزق الذي يطلبك هو رزق الغذاء، والرزق الذي تطلبه رزق التمليك، وهو طلب فضول القوت، وقال أبو يعقوب السوسي وقد كان له مقام مكين في التوكل: التوكل على ثلاثة مقامات، عام وخاص عام وخاص خاص، فمن دخل في الأسباب واستعمل العلم وتوكل على اللّه تعالى ولم يتحقق باليقين فهو عام، ومن ترك الأسباب وتوكل على اللّه وحقق في اليقين فهو خاص عام، ومن خرج من الأسباب على حقيقته لوجود اليقين، ثم دخل في الأسباب فتصرف لغيره فهذا خاص خاص، وهذا وصف الطبقة العليا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العشرة وغيرهم، جودهم اليقين من الدنيا فأدخلهم العلم في الأسباب لغيرهم ردت عليهم أحوال الغير، واتسعوا بالعلم على حقيقة اليقين، ولذلك كان الخواص رحمه اللّه تعالى يقول: دخول الخصوص في الأسباب لغيرهم ردت عليهم أحوال الغير وجعلوا رازقين لهم، فتصرفوا فيها لأجلهم وهم بريئون من التعلق بها، وقد كان أبو جعفر الحداد شيخ الجنيد أحد المتوكلين وقال: أخفيت التوكل عشرين سنة ولا فارقت السوق، أكتسب في كل يوم ديناراً وعشرة دراهم، أبيت منه دانقاً ولا أستريح فيه إلى قيراط، أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل الليل، وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرة أبي جعفر يقول: أستحي من اللّه أن أتكلم في مقامه وهو حاضر، وقد شرط النبي صلى الله عليه وسلم للعطاء ترك المسألة والاستشراف تنزيهاً للفقراء ورداً لهم إلى اللّه تعالى، لأن في مسألة العبد الفقير ذلاً ذليلاً وحرصاً على الدنيا جليلاً، وفي الاستشراف إلى العبيد طمع في غير مطمع، ونظر إلى غير اللّه، وإتيان البيوت من غير أبوابها، ومنه ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها، وقال صلى الله عليه وسلم: من استغنى أغناه اللّه، ومن استعف أعفه اللّه، ومن فتح علىه نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه باب فقر، فكان الفقراء الصادقين جعل لهم أخذ العطاء، بل ندبوا إلى قبوله عوضاً لهم من ذلك لما منعوا من الاستشراف والسؤال تنزيهاً لهم وتفضيلاً، فمثلهم في ذلك مثل أهل البيت جعل لهم خمس الخمس من الغنائم لما حرمت عليهم الصدقة تفضيلاً لهم وتشريفاً، وقد كان أحمد بن حنبل رحمه اللّه أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئاً فيه فضل عمّا كان استأجره عليه فرده، فلما ولّي قال له أحمد: ألحقه فادفعه فإنه يأخذه قال: فلحقه المروزي فدفعه إليه فأخذ، فسأل أحمد عن ذلك: كيف رد في الأوّل وأخذ في الثاني؟ فقال: إنه كان قد استشرف لذلك فرده، وقد أحسن فلما انصرف أيست نفسه منه فلذلك قبل، وقد كان الخوّاص إذا نظر إلى عبد في العطاء أو خاف اعتياد النفس له، لم يقبل منه شيئاً، وكان يقول: صوفي لا يكون بحريف، وهذا كله يحسن في حال المنفرد، فأما ذو العيال فالأمر عليه واسع من ذلك، ولابأس أن يأخذ لعياله كما أخذ لأجل غيره من الناس، لأن عياله عيال اللّه عنده، قد وكله بهم وأجرى أرزاقهم على يده، فإن طلب لهم وحث على استخراج حقهم ممّا أوجب اللّه لهم لم ينقص ذلك من حاله، وآخى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال له سعد: أشاطرك مالي وأهلي، فقال عبد الرحمن: بارك اللّه لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فعمل يومه ذلك فراح بشيء من سمن وأقط، فلو كان التكسب في الأسواق ينقص التوكل لم يختر عبد الرحمن وهو إمام الأئمة ما ينقص توكله، ولكنه أحب إدخال المشقة على نفسه وكره التنعم، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ: إياك والتنعم؛ فإن عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين، ورؤي فضالة بن عبيد أشعث أغبر جافياً وهو أمير مصر، فقيل له: لِمَ أنت هكذا؟ فقال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهانا عن الإرفاه وأمرنا أن نحتفي أحياناً، ثم اختار عبد الرحمن أيضاً إيثار أخيه بما أبره به رعاية لحق إخوته ولأن اللّه تعالى قد ندب إلى الإيثار ووصف به الأحباب، وأعلى من عبد الرحمن مقاماً إمام الأئمة أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، لما بويع بالخلافة أخذ الأثواب تحت حضنه ودخل السوق ينادي: هذا في أتم أحواله، حين أهل للخلافة وأقيم مقام النبوّة، حتى اجتمع المسلمون فكرهوا له ذلك فقال: لا(1/396)
تشغلوني عن عيالي، فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع، حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، لا وكس ولا شطط فلما رضوا جميعاً بذلك وأنفقوا عليه، ترك السوق لشغله بهم وبأمورهم؛ ألا تراه كيف آثر القيام بحقه وما أوجب اللّه عليه لأهله، وتواضع للّه في حال رفعته، وأسقط الخلق عن عينه، حتى كره المسلمون ذلك فتركه بحكم ثان، فكذلك التوكل لا يزال مع الحكم الأوّل، حتى ينهج اللّه له طريقاً آخر فيسلكه بطريق ثان، وقد كان بعض علماء السلف يجمع إليه الناس للكلام عليهم فكان يقول: لو أعلم أنّ أهلي يحتاجون إلى باقة بقل ما تكلمت عليكم، ففي هذا بيان وبرهان لمن لم تستهوه الأهواء في إنكار التكسب على أهل التوكل احتجاجاً لنفسه واعتذاراً من بطالته، ولا يسع العلماء في الدين إلاّ البيان وكشف حقيقة العلم بالبرهان، فالتكسب والأسباب طرق أودعها اللّه العطاء والأرزاق لا هي تعطى وترزق بمنزلة الأواسط من الأشخاص، فالمتوكل المتسبب موقن أنّ اللّه سبحانه هو المعطي والمانع، وأنه هو المسبب الرازق، وأنّه هو الأوّل في التصريف والآخر في التقليب، فقلته ناظر إلى القسام، ونفسه ساكنة إلى القسم، وقلبه قانع راضٍ بالمقسوم، وجسمه متحرك في المعلوم الذي وجه فيه وسبب له، وهو عارف بمقامه، وبالمراد منه، راضٍ بحاله وما قد استسعى فيه وألزم إياه، والذي ينقص المتوكل، ويخرجه من حد التوكل، اكتساب الشبهات للاستكثار، أو السعي بالتكسب للجمع والافتخار، أو الحرص على طلب ما حظره العلم عليه أو لطلب ما يكره المنال منه، أو التسخط للأقدار إذا لم تؤاته على ماقدر، أو ترك لنصح لمن عامله بأن يحتال عليه، أو يدبر أو التشرف إلى الخلق أو الطمع في سبب؛ فهذا كله لا يصح معه التوكل، وقد قال بعض العلماء: إن العبد إذا دخل السوق للتكسب فكان درهمه أحب إليه من درهم غيره، لم ينصح للمسلمين في المبايعة، وهذا عنده يخرجه من التوكل ودخول الآفات ومساكنتها، لقصور علم أو غلبة هوى يخرج العبد من التوكل، وهو أن يكون متوكلاً على الناس بأن يطمع فيهم، أو يتصدى لهم بالتعرض والتصنع، أو يكون متوكلاً على صحة جسمه ودوام عوافيه وأنه لا يرزق إلاّ من كدّه، أو يكون متوكلاً على ماله بأن يثق به ويطمئن إليه ويحسب أنه إن افتقر انقطع رزقه، وعلامة ذلك ضنته به وإعداده له؛ عدة لكذا وعدة لكذا، فهذه المعاني تخرج من التوكل، فقد تخفي دقائقها وتدق حقائقها إلاّ على جهابذة العلماء الرابحين في العلم، المتضلعين باليقين، القائمين على الدوام بالشهادة؛ فمن نظر إلى هذه المعاني من الأسباب والأشخاص أو سكن إليها سكون أنس، فيقوى قلبه بوجودها فإنه يضطرب ويستوحش أو يضعف قلبه لفقدها فهي علة في توكله. عن عيالي، فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع، حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، لا وكس ولا شطط فلما رضوا جميعاً بذلك وأنفقوا عليه، ترك السوق لشغله بهم وبأمورهم؛ ألا تراه كيف آثر القيام بحقه وما أوجب اللّه عليه لأهله، وتواضع للّه في حال رفعته، وأسقط الخلق عن عينه، حتى كره المسلمون ذلك فتركه بحكم ثان، فكذلك التوكل لا يزال مع الحكم الأوّل، حتى ينهج اللّه له طريقاً آخر فيسلكه بطريق ثان، وقد كان بعض علماء السلف يجمع إليه الناس للكلام عليهم فكان يقول: لو أعلم أنّ أهلي يحتاجون إلى باقة بقل ما تكلمت عليكم، ففي هذا بيان وبرهان لمن لم تستهوه الأهواء في إنكار التكسب على أهل التوكل احتجاجاً لنفسه واعتذاراً من بطالته، ولا يسع العلماء في الدين إلاّ البيان وكشف حقيقة العلم بالبرهان، فالتكسب والأسباب طرق أودعها اللّه العطاء والأرزاق لا هي تعطى وترزق بمنزلة الأواسط من الأشخاص، فالمتوكل المتسبب موقن أنّ اللّه سبحانه هو المعطي والمانع، وأنه هو المسبب الرازق، وأنّه هو الأوّل في التصريف والآخر في التقليب، فقلته ناظر إلى القسام، ونفسه ساكنة إلى القسم، وقلبه قانع راضٍ بالمقسوم، وجسمه متحرك في المعلوم الذي وجه فيه وسبب له، وهو عارف بمقامه، وبالمراد منه، راضٍ بحاله وما قد استسعى فيه وألزم إياه، والذي ينقص المتوكل، ويخرجه من حد التوكل، اكتساب الشبهات للاستكثار، أو السعي بالتكسب للجمع والافتخار، أو الحرص على طلب ما حظره العلم عليه أو لطلب ما يكره المنال منه، أو التسخط للأقدار إذا لم تؤاته على ماقدر، أو ترك لنصح لمن عامله بأن يحتال عليه، أو يدبر أو التشرف إلى الخلق أو الطمع في سبب؛ فهذا كله لا يصح معه التوكل، وقد قال بعض العلماء: إن العبد إذا دخل السوق للتكسب فكان درهمه أحب إليه من درهم غيره، لم ينصح للمسلمين في المبايعة، وهذا عنده يخرجه من التوكل ودخول الآفات ومساكنتها، لقصور علم أو غلبة هوى يخرج العبد من التوكل، وهو أن يكون متوكلاً على الناس بأن يطمع فيهم، أو يتصدى لهم بالتعرض والتصنع، أو يكون متوكلاً على صحة جسمه ودوام عوافيه وأنه لا يرزق إلاّ من كدّه، أو يكون متوكلاً على ماله بأن يثق به ويطمئن إليه ويحسب أنه إن افتقر انقطع رزقه، وعلامة ذلك ضنته به وإعداده له؛ عدة لكذا وعدة لكذا، فهذه المعاني تخرج من التوكل، فقد تخفي دقائقها وتدق حقائقها إلاّ على جهابذة العلماء الرابحين في العلم، المتضلعين باليقين، القائمين على الدوام بالشهادة؛ فمن نظر إلى هذه المعاني من الأسباب والأشخاص أو سكن إليها سكون أنس، فيقوى قلبه بوجودها فإنه يضطرب ويستوحش أو يضعف قلبه لفقدها فهي علة في توكله.(1/397)
وروينا عن بشر بن الحرث قال: إنّ العبد ليقرأ، إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول اللّه تعالى:كذبت، ما إياي تعبد ولا بي تستعين؛ لو كنت تعبد إياي لم تؤثر هواك على رضاي، ولو كنت بي تستعين لم تسكن إلى حولك ولا قوتك ولا إلى مالك ونفسك، وإنّ التارك للتكسب والتصرف في الأسواق إذا كان في أدنى كفاية وأعين بالصبر والقناعة، في مثل زماننا هذا أفضل وأتم حالاً من المتكسب إذا خاف أن لا ينال المعيشة إلاّ بمعصية اللّه من دخوله في شبهة عياناً أو خيانة لإخوانه المسلمين، ولأنه قد تعذر القيام بشرائط العلم مع مباشرة الأسباب وكثرة دخول الآفات والفساد في الاكتساب، فترك ملابسة أهل الأسواق ومخالطتهم على هذا الوصف المكروه أقرب إلى السلامة لبعده من رؤية الأشياء، وفقده مباشرتها، لأن الحكم متعلق بالرؤية، ومثل الحرام مثل المنكر إذا لم تره سقط عنك حكمه، وليس الخبر كالمعاينة ولا المجاورة كالمباشرة ولا المعاين كالمخبر، وذلك كخبر من زلّ عن حقيقة الكعبة على البعد إلا أنّه متوجه إلى الشطر، فصلاته جائزة ولو زلّ عنه أنملة مع المعاينة لها بطلت صلاته، والتكسب ليس بفرض وقد يفترض بأحد معنيين بوجود العيال وعدم كفايتهم من وجه من الوجوه المباحة، أو بأن يقطع عدمه عن فرض ويضعف عنه مع فقد ما يقام به الفرض مما لابدّ منه، وقد كان بشر بن الحرث ترك التكسب، وكان يتكلم في الحلال ويشدد فيه فقيل له: ياأبا نصر، فأنت من أين تأكل؟ فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي مثل من يأكل وهو يضحك، وقال مرة: ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وقد كان للثوري خمسون ديناراً يتجر له بها، ثم أخذها في آخر أمره ففرقها على إخوانه وترك التكسب، ويقال إنّه فعل ذلك لمّا مات عياله، وليس للعبد أن يحمل حال عياله على حاله إلاّ أن يكون اختيارهم كاختياره، وصبرهم على فقرهم ومعرفتهم بفضله كمعرفته، فجائز حينئذٍ أن يسير بهم سيريه، ويسقط عنه التكسب لأجلهم، لأنهم كهو في الحال مع سقوط المطالبة منهم بحقوقهم عليه، وقد فعل ذلك جماعة من السلف، وبعض العارفين يفضلون من لا معلوم له على من له معلوم، وهم لا يرون ترك التكسب أفضل لأنه معلوم، ويعد هؤلاء سكون القلب مع وجود المعلوم علة، ولكن إذا سكن قلبه مع غير معلوم، واجتمع همه وانقطع طمعه في حال المعدوم؛ فهذا هو المقام وتفصيل هذا في التوسط من المقال عندي واللّه أعلم أنّ العبد لا يفضل بنفس عدم المعلوم، كما لا يفضل بنفس القعود عن المكاسب، وإنما يفضل بحاله من مقامه؛ فإذا كان ذو المعلوم أحسن معرفةً وأقوى يقيناً، فضل على من لامعلوم له، ولا يكون سكون القلب وطمأنينة النفس أيضاً مع وجود المعلوم علة في الحال على قدر المقام، ولكن لا يكون مقاماً يرفع به ولا حالاً يفضل فيه، إلا أنّ الطمع في الخلق وتشتت القلب مع وجود معلوم الكفاءة نقصان عند الكل وعندي، وقطع الطمع في الخلق واجتماع القلب مع العدم أفضل وأعلى درجة عند الجماعة.(1/398)
وفي حديث حية وسوار ابني خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: لاتيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإنّ ابن آدم تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه اللّه بعد، وقال صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي ناوله التمرة لو لم تأتها لأتتك، ويقال إنّ العبد لو هرب من رزقه لأدركه كما لو هرب من الموت لأدركه الموت، وأنّ الرزق لا ينقطع عن العبد حتى يظهر له ملك الموت، فحينئذٍ ينقطع عنه رزق الدنيا ويدخل في رزق الآخرة، فيكون أوّل رزق الآخرة آخر رزق الدنيا ولا آخر لهذا الرزق، وقال سهل بن عبد اللّه الدستوائي: لو أن العبد سأل اللّه أن لا يرزقه لم يستجب له ولقال له: ياجاهل، أنا خلقتك ولا بدّ من أن أرزقك أبداً، وقال وقد سئل عن القوت فقال: هو الحي الذي لا يموت فقيل: إنما سألتك عن القوام، فقال: القوام هو العلم، قيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، قيل: سألناك عن طعمة الجسد، فقال: مالك وللجسد، دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخل عليه علّة فرده إلى صانعه؛ أما رأيت الصنعة إذا عابت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها، وقال الخوّاص وقد روينا عن سهل: إن اللّه تعالى يلقي على الخصوص الفاقة ويحوجهم إلى الخلق بالطمع فيهم، ويلقي في قلوب الخلق المنع لهم فيحرمهم ما في أيديهم ليردهم إليه فإذا رجعوا إليه آيسين منقادين رزقهم من حيث لا يحتسبون، ومن علامة الخصوص أنهم إذا استشرفوا إلى شيء حرموا ذلك الشيء وإذا سكنوا إلى عبد سلّط عليهم ليرفع سكونهم إليه، وقد كان بعضهم إذا جاءه السبب بعد تطلعٍ إليه ردّه، ومنهم من كان يخرجه ولا يتناول منه عقوبةً لنفسه، وكان ذو النون المصري يتكلم على إخوانه في علم التوحيد والمعرفة فسأله غلام شاب عن الخبز: من أين هو؟ فقال: خذوا بيده واذهبوا به إلى الصوفية حتى يعلّموه الأدب، وقد حكي عن معروف أبي محفوظ الكرخي أنه ذكر له انقباض بشر عن الأسباب التي تفتتح له فقال: إنّ أخي بشراً قبضه الورع، وأنا نشطتني المعرفة، إلاّ أن معروفاً كان لا يأخذ السبب إلا عند الحاجة، ويأخذ منه ما لا بدّ له منه، وكان لايدّخر، وكان قصير الأمل لم يكن يأمل البقاء من وقت صلاة إلى صلاة أخرى؛ كان إذا صلى الظهر يقول للجيران: اطلبوا؟ لكم من يصلّي صلاة العصر، وكان يقول: إنما أنا ضيف في دار مولاي إن أطعمني أكلت متى أطعمني، وإن أجاعني صبرت حتى يطعمني، وقد كان أبو محمد سهل يقول: المتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحتكر.
ذكر الادخار مع التوكّل(1/399)
ولا يضرّ الادخار مع صحة التوكل إذا كان مدخراً للّه وفيه، وكان ماله موقوفاً على رضا مولاه لا مدخراً لحظوظ نفسه وهواه، فهو حينئذ مدخراً لحقوق اللّه التي أوجبها عليه، فإذا رآها بذل ماله فيها، والقيام بحقوق اللّه لا ينقص مقامات العبد بل يزيدها علوّاً، وحدثونا عن بعض أصحاب بشر بن الحرث قال: كنت عنده ضحوة من النهار، فدخل عليه كهل أسمر خفيف العارضين، فقام إليه بشر قال: وما رأيته قام لأحد غيره قال: ودفع إليّ كفّاً من دراهم فقال: اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام والطيب، قال: وما قال لي قط مثل ذلك، قال: فجئت بالطعام فوضعته بين يديه، فأكل معه، وما رأيته أكل مع غيره، قال: فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير، فأخذه الرجل فجمعه في ثوبه فجعله تحت يده وانصرف قال: فعجبت من فعله ذلك وكرهته له إذ لم يأمره بشر بذلك ولا هو استأذنه فيه، فقال لي بشر بعد ذلك: لعلك أنكرت فعله ذلك، قلت: نعم، أخذ بقية الطعام من غير إذن، فقال: تعرفه؟ قلت لا، قال: ذلك أخونا فتح الموصلي، زارنا اليوم من الموصل، وإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار، وترك الادخار إنما هو حال من مقامه قصر الأمل، وقد يصح التوكل مع تأميل البقاء، فإن كان أمله للحياة لطاعة مولاه وخدمته والجهاد في سبيل اللّه فضل ذلك، وهذا طريق طائفة من الراجين والمستأنسين، وإن كان أمله للحياة لأجل متعة نفسه، وأخذ حظوظها من دنياه، نقص ذلك من زهده في الدنيا، فسرى النقص إلى توكله، وما نقص من الزهد نقص من التوكل بحسابه، وليس ما زاد في الزهد يزيد في التوكل بحسابه، لأنّ الزهد من شرط خصوص التوكل، وليس التوكل من شرط عموم الزهد، فكل متوكل ذي مقام زاهد لا محالة، وليس كل زاهد في مقام متوكلاً لأن التوكل مقام والزهد حال، والمقامات للمقربين والأحوال في أصحاب اليمين إلاّ أنّ من أعطى حقيقة الزهد فإنه يعطي التوكل لا محالة، لأنّ حقائق الأحوال وثبوتها، ودوام استقامة أهلها فيها، ولزومها لقلوبهم هي مقامات؛ فإذا جاز للمتوكل تأميل البقاء لشهر أو شهرين جاز له الادخار لذلك، إلاّ أنّ طول الأمل يخرج من حقيقة التوكل عند الخواص ولا يخرجه من حده عندي، وأكره للمتوكل الادخار لأكثر من أربعين يوماً، كما يكره تأميل البقاء لأكثر من أربعين، ومن ادّخر لصلاح قلبه وتسكين نفسه وقطع تشرفه إلى الناس؛ إن كان مقامه السكون مع المعلوم، فالادخار له أفضل، فأما من ادّخر لعياله لتسكن قلوبهم ولوجود رضاهم عن اللّه، ولسقوط حكمهم عنه ليتفرغ لعبادة ربه، فهو فاضل في ادخاره اتفقوا عليه، ولأنّه في ذلك قائم بحكم ربه راعٍ لرعيته التي هو مسؤول عنها، وقد ادّخر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعياله قوت سنة ليسن ذلك، وقد نهي أم أيمن وغيرها أن تدّخر شيئاً لغد، ونهى بلالاً أيضاً عن الادخار ليقتدي به أهل المقامات في ذلك، كما روي أنه قبض صلى الله عليه وسلم وله بردان في الحف ينسحبان، وقد كان عليه السلام أقصر أملاً من ذلك، كان يبول فيتيمم قبل أن يصل إلى الماء، فيقال له في ذلك إنّ الماء منك قريب، فقال: وما يدريني لعلّي لا أبلغه، ولكن فعله لئلا يهلك من طال أمله من أمته، فجعل فعله نجاة له، فهذا يدلك أن الادخار يتسع ويضيق على قدر مشاهدات العارفين، من قبل أن الشريعة جاءت بالرخصة والعزيمة؛ فالعزائم من الدين للأقوياء الحاملين، والرخص من الدنيا للضعفاء المخمولين، وقد كان الخوّاص يدقق في أحوال التوكل ويذكر أن الادخار يخرج من حد التوكل، ولم يكن يفارقه أربعة أشياء، وكان يقول: ادخارها من تمام حال المتوكل لأنها من أمور الدين؛ الركوة والحبل والإبرة والخيوط والمقراض، وكان سهل يضرب لمدّخر مثلاً في قصر الأمل وطوله فيقول: مثل من يترك الادخار مثل رجل يقول: أريد أن أخرج إلى الأيلة فيقال له: خذ رغيفاً فإن قال: أريد أن أخرج إلى عبادان قيل له خذ رغيفين فإن قال: أريد أن أخرج إلى العسكر قيل له: خذ أربعة أرغفة قال: فكذلك ترك الادخار على قدر قصر الأمل وطوله، وأعجب ما سمعت في انقطاع الأمل ما حكي أنّ موسى والخضر اجتمعا، فشكا موسى إلى الخضر الجوع فقال: أقعد فقعد، فتكلم الخضر بشيء فأقبل ظبي مخيض حتى وقف بينهما، فوقع نصفين نصفه إلى الخضر مشويّاً ونصفه إلى موسى نيّئاً، فقال له الخضر: قم فاقدح(1/400)
ناراً واشوِ نصيبك، وأخذ الخضر يأكل، ففعل ذلك موسى ثم سأله: لِمَ وقع نصفه إليك مشويّاً؟ فقال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وعلى ذلك فإن الادخار ينقص من فضائل الزاهدين بمقدار ما يمنع من حقيقة الزهد، وفي حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة في ذكر الفقير الذي أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليّاً وأسامة، فغسلاه وكفنه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه: إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ولولا خصلة كانت فيه لبعث وجهه كالشمس الضاحية فقلنا: وما هي يا رسول اللّه قال: إنه كان صوّاماً قوّاماً كثير الذكر للّه، غير أنّه كان إذا جاءه الشتاء ادّخر حلّة الصيف لصيفه، وإذا جاءه الصيف ادّخر حلة الشتاء لشتائه من قابل، ثم قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منها لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، وحدثونا عن بعض العارفين قال: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكان الناس يساقون زمرة زمرة إلى الجنة على طبقات، قال: فنظرت إلى طبقة أحسن الناس هيئة، وأعلاهم مرتقى، وأسرعهم سبقاً، فقلت هذه أفضلهم، أكون فيهم قال: فذهبت لأخطو إليهم، وأدخل معهم في طريقهم، فإذا بملائكة حولهم قد منعوني، وقالوا: قف مكانك حتى يجيء أصحابك فتدخل معهم فقلت: تمنعوني أن أكون مع هؤلاء السابقين، فقالوا: هذا طريق لايسلكه إلاّ مَنْ لم يكن له إلاّ قميص واحد، ومن كل شيء واحد، وأنت لك قميصان ومن الأشياء زوجان، قال: فانتبهت باكياً حزيناً فجعلت على نفسي أن لا أملك من كل شيء إلا واحداً، وقد كان حذيفة المرعشي يقول: منذ أربعين سنة لم أملك إلا قيمصاً واحداً، وكان كثير من السلف إذا استجد ثوباً أو شيئاً أخرج الأوّل منهما، وكانوا يستعملون الشيء الواحد من الأشياء الكثيرة؛ وهذا كله داخل في التحقق بالزهد وهو من فضائل المتوكلين، والخبر المشهور أن رجلاً من أهل الصفة توفي فما وجدوا له كفناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتشوا ثوبه قال فوجدنا داخل أزاره دينارين، فقال: كيتان، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف عدة، فلا يقول له ذلك لأنّ هذا كان حاله الزهد وإظهار الفقر فعابه الادخار.اً واشوِ نصيبك، وأخذ الخضر يأكل، ففعل ذلك موسى ثم سأله: لِمَ وقع نصفه إليك مشويّاً؟ فقال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وعلى ذلك فإن الادخار ينقص من فضائل الزاهدين بمقدار ما يمنع من حقيقة الزهد، وفي حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة في ذكر الفقير الذي أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليّاً وأسامة، فغسلاه وكفنه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه: إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ولولا خصلة كانت فيه لبعث وجهه كالشمس الضاحية فقلنا: وما هي يا رسول اللّه قال: إنه كان صوّاماً قوّاماً كثير الذكر للّه، غير أنّه كان إذا جاءه الشتاء ادّخر حلّة الصيف لصيفه، وإذا جاءه الصيف ادّخر حلة الشتاء لشتائه من قابل، ثم قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منها لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، وحدثونا عن بعض العارفين قال: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكان الناس يساقون زمرة زمرة إلى الجنة على طبقات، قال: فنظرت إلى طبقة أحسن الناس هيئة، وأعلاهم مرتقى، وأسرعهم سبقاً، فقلت هذه أفضلهم، أكون فيهم قال: فذهبت لأخطو إليهم، وأدخل معهم في طريقهم، فإذا بملائكة حولهم قد منعوني، وقالوا: قف مكانك حتى يجيء أصحابك فتدخل معهم فقلت: تمنعوني أن أكون مع هؤلاء السابقين، فقالوا: هذا طريق لايسلكه إلاّ مَنْ لم يكن له إلاّ قميص واحد، ومن كل شيء واحد، وأنت لك قميصان ومن الأشياء زوجان، قال: فانتبهت باكياً حزيناً فجعلت على نفسي أن لا أملك من كل شيء إلا واحداً، وقد كان حذيفة المرعشي يقول: منذ أربعين سنة لم أملك إلا قيمصاً واحداً، وكان كثير من السلف إذا استجد ثوباً أو شيئاً أخرج الأوّل منهما، وكانوا يستعملون الشيء الواحد من الأشياء الكثيرة؛ وهذا كله داخل في التحقق بالزهد وهو من فضائل المتوكلين، والخبر المشهور أن رجلاً من أهل الصفة توفي فما وجدوا له كفناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتشوا ثوبه قال فوجدنا داخل أزاره دينارين، فقال: كيتان، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف عدة، فلا يقول له ذلك لأنّ هذا كان حاله الزهد وإظهار الفقر فعابه الادخار.(1/401)
ذكر التداوي وتركه للمتوكّل(1/402)
وتفصيل ذلك ولا ينقص التداوي أيضاً توكل العبد لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وأخبر عن حكمة اللّه تعالى فيه فقال صلى الله عليه وسلم: ما من داء إلاّ وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلاّ السأم يعني الموت، وقال عليه الصلاة والسلام تداووا عباد اللّه، وسئل عن الدواء والرقي، هل يرد من قدر؟ فقال: هي من قدر اللّه، وفي الخبر المشهور: ما مررت بملأ من الملائكة إلاّ قالوا: أمُرْ أمتك بالحجامة، وفي الحديث أنّه أمر بها فقال: احتجموا السبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، ولا يبيغ بكم الدم فيقتلكم، وفي ذكر تبيغ الدم دليل على توقيت هذا العدد من الأيام للحجامة، إلاّ أنّه أريد به هذه الأيام من الشهر، وأحسبه لأهل الحجاز خاصة لشدة حرّ البلد، كقول عمر رضي اللّه عنه في الماء المشمس أنه يورث البرص، سمعت أن ذلك في أرض الحجاز خاصة، وكان من سيرة السلف أن يحتجموا في كل شهر مرة إلى أن يجاوز الرجل الأربعين وكانوا يستحبون الحجامة في آخر الشهر، وقد يروى في خبر منقطع: من احتجم يوم الثلاِثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة، وقد روينا من طريق أهل البيت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب دواء كل سنة، والتداوي رخصة وسعة، وتركه ضيق وعزيمة، واللّه يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج:78 أي ضيق، وربما كان المتداوي فاضلاً في ذلك لمعنيين: أحدهما أن ينوي اتباع السنة، والأخذ برخصة اللّه، وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقاً، وكوى آخر، وقال لعلي رضي اللّه عنه، وكان رمد العين: لا تأكل من هذا يعني الرطب، وكل من هذا فإنه أوفق لك، يعني سلقاً قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غير حديث من العقرب وغيرها، وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء، وفي الخبر أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء: وهو أعلى المتوكلين، وأقوى الأقوياء، فإن قيل إنما تداوى لغيره، وليسن ذلك، قلنا: فلا نرغب عن سنّته، ولا نزهد في بغيته، إذا كان فعل ذلك لنا، لئلا يكون فعلاً لغواً، وتكون الرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعناً في الشرع، وقد كان صلى الله عليه وسلم ظاهرة للخلق ليقتفوا آثاره، من ذلك أنه صام في السفر في شدة الحرّ، فكان يصب على رأسه الماء، ويستظل بالشجر، ليسن بذلك الرخصة في التبرد بالماء للصائم، فقيل له: إن قوماً صاموا وقد شق عليهم، فدعا بقدح فيه ماء فشرب، فأفطر الناس فترك حاله صلى الله عليه وسلم لأجلهم، فقيل له: إنّ قوماً لم يفطروا فقال: أولئك العصاة، والمعنى الثاني الذي يفضل به المتداوي، أنّه يحب سرعة البرء للطاعة ولخدمة مولاه، والسعي في أوامره، إذ كانت العلل قاطعة عن التصرف في العمل ومشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة، وذكر بعض علمائنا أنّ موسى عليه السلام اعتلّ علّة، فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علّته، فقالوا: لو تداويت بكذا لبرأت، فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، قال: فطالت علّته، فقالوا له: إنّ دواء هذه العلّة معروف مجرب وإن تتداوَ به تبرأ، فقال: لا أتداوى، فدامت علتّه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: وعزّتي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك، فقال لهم: داووني بما ذكرتم فداووه، فبرأ فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى اللّه إليه أردت أن تبطل حكمتي لتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء، وفي بعض الأخبار: شكا نبي من الأنبياء إلى اللّه علّة يجدها، فأوحى اللّه إليه: كل البيض، وفي خبر آخر إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى اللّه تعالى الضعف فأوحى اللّه إليه: كل اللحم باللبن فإنّ فيهما القوّة، قال الشيخ أحسبه الضعف عن الجماع، وذكر وهب بن منبه أنّ ملكاً من الملوك اعتلّ علّة وكان حسن السيرة في أهل مملكته، فأوحى اللّه تعالى إلى شعياء النبي صلى الله عليه وسلم قل له: اشرب ماء التين فإنه شفاء من علّتك، وقد روينا أعجب من ذلك أنّ قوماً شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم، فأوحى اللّه تعالى إليه مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل، فإنه يحسن الولد(1/403)
فقد كانوا يطعمون الحبالى السفرجل والنفساء الرطب، وهذا واللّه أعلم يكون في الشهر الثالث والرابع من حملها، وعلى ذلك كله فإنّ ترك التداوي أفضل للأقوياء، وهو من عزائم الدين، وطريقة أولي العزم من الصدّيقين، لأن في الدين طريقين: طريق تبتل وعزيمة، وطريق توسع ورخصة، فمن قوي سلك الطريق الأشد فهو أقرب وأعلى، وهذه للمقربين وهم السابقون، ومن ضعف سلك الطريق الأرفه وهو الأوسط إلا أنه أبعد، وهو لأصحاب اليمين وهم المقتصدون، وفي المؤمنين أقوياء وضعفاء ولينون وأشداء.قد كانوا يطعمون الحبالى السفرجل والنفساء الرطب، وهذا واللّه أعلم يكون في الشهر الثالث والرابع من حملها، وعلى ذلك كله فإنّ ترك التداوي أفضل للأقوياء، وهو من عزائم الدين، وطريقة أولي العزم من الصدّيقين، لأن في الدين طريقين: طريق تبتل وعزيمة، وطريق توسع ورخصة، فمن قوي سلك الطريق الأشد فهو أقرب وأعلى، وهذه للمقربين وهم السابقون، ومن ضعف سلك الطريق الأرفه وهو الأوسط إلا أنه أبعد، وهو لأصحاب اليمين وهم المقتصدون، وفي المؤمنين أقوياء وضعفاء ولينون وأشداء.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي أحبّ إلى اللّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: في المؤمنين من هو أشدّ في اللّه عزّ وجلّ من الحجارة، وفيهم من هو ألين من اللبن، وقال في وصف الأقوياء: مثل المؤمن كمثل النخلة لايسقط ورقها، وقال اللّه تعالى في معنى ذلك: ( أصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعَهَا فِي السَّماء) إبراهيم:24 وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل السنبلة تفيئها الرياح يميناً وشمالاً، وقال عليه السلام في وصفة المؤمن المطعم مثل المؤمن؛ كمثل النخلة أكلت طيباً ووضعت طيباً، وقال في وصف المستطعم: مثل المؤمن كمثل النملة تجمع في صيفها لشتائها، فأوصاف المؤمنين متفاوتة في الضعف والقوّة، وفي الجبن والشجاعة، وفي الصبر والجزع فشتان بين من شبه في القوّة والعلو بالنخلة؛ قلبه ثابت، وهمه في السماء، يطعم جناه ولا يدّخر، إلى من شبه بالنملة في الضعف والذي يستطعم ويحتكر، وقد فضل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوماً ومدحهم أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، وذكر أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، فعلل بالتوكل وأخبر أنهم تركوا ذلك توكلاً، ثم سأله عكاشة أن يدعو اللّه أن يجعله منهم، ففعل، لأنه رأى ذلك طريقه ورأى معه زاده، وشهد فيه القوّة فأهله لذلك، فلما قال له الآخر: ادع اللّه أن يجعلني منهم، والمقامات لا يقتدى بها ولا يتمثل فيها، كما لا تدعى، لأنها مواجيد قلوب باتحاد قريب ومشاهدات غيوب بإشهاد حبيب، فلما لم يرَ ذلك طريقه ولم يشهد معه زاده لم يؤهله لذلك، فأوقفه على حده وحكم عليه بضعفه، فرده ردَّاً جميلاً، لأنه كان حبيباً كريماً، فقال: سبقك بها عكاشة، فهذا كما يقول الحاكم الحكيم: إذا ضعف أحد الشاهدين زدني شاهداً آخر، ولا يصرح بجرح الشاهد ولو عدله لقبله، ولم يطلب الزيادة، وإلاّ فالمقامات لا تضيق لمن سبق إليها، والرسول غير بخيل مع قوله تعالى شاهداً له: (وَمَاهُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) التكوير:42، ولكن لم يرَ فيه شاهد ذلك من القوّة، وتبين فيه الضعف عن الحمل فلم يخاطر به، وقد نهى عن الكي في غير حديث وقال لرجل أراد أن يداوي أخاه إلاّ أنه مات من علّته، فقال: أما لو برأ لقلت برأته لعلمه بما يهجس في بعض النفوس أنّ الشفاء والنفع من فعل الدواء، وذلك من الشرك فكره المحققون بالتوحيد التداوي خشية دخول ذلك عليهم.(1/404)
وروي عن موسى عليه السلام: يارب ممن الدواء والشفاء؟ قال: مني، قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم، ويطيبون نفوس عبادي، حتى يأتي شفائي أو قبضي، وقد كان ابن حنبل يقول: أحبّ لمن اعتقد التوكل، وسلك هذا الطريق ترك التداوي من الأشربة وغيرها، واعتلّ عمران بن حصين فأشاروا عليه أن يكتوي فامتنع، فلم يزالوا به، وعزم عليه زياد بذلك، وكان أميراً حتى اكتوى، فكان يقول: كنت أرى نوراً، وأسمع صوتاً، وأسمع تسليم الملائكة عليّ، فلما اكتويت انقطع ذلك عني، وفي خبر كانت الملائكة تزوره فيأنس بها حتى اكتوى، فكان يقول: اكتوينا كيات، فواللّه ما أفلحنا ولا أنجحنا، ثم ناب من ذلك، وأناب إلى اللّه تعالى، فرد اللّه عليه ما كان يجد من أمر الملائكة، وقال لمطرف بن عبد اللّه: ألم ترَ أنّ الكرامة التي كان أكرمني اللّه بها قد ردها علّي؟ بعد أن كان أخبره بفقدها، فلولا أنّ ذلك كان عنده ذنباً له، لما ندم عليه وتاب منه، ولولا أنّ ذلك كان نقصاً ما صرفت الملائكة عنه، ومرض أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فقيل له: لودعونا لك طبيباً، فقال: قد نظر إليّ الطبيب، فقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء في مرضه: ما تشتكي؟ قال ذنوبي، قيل: فما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي، قيل: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني، وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه: لو داويتهما، فقال: إني عنهما لمشغول، قيل: فلو سألت اللّه أن يعافيك، فقال: أسأله فيما هو أهم إليّ منهما، وقيل لأبي محمد: متى يصح لعبد التوكل؟ قال: إذا دخل عليه الضر في جسمه، والنقص في ماله، فلم يلتفت إليه شغلاً بحاله للنظر إلى قيام اللّه عليه، وقد كان أصاب الربيع بن خيتم الفالج، فقيل له: لو تداويت فقال: قد هممت، ثم ذكرت عاداً وثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الأوجاع، وكانت فيهم الأطباء، فهلك المداوي والمداوى ولم تغن الرقي شيئاً، وقد أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج فعطل عن القيام، فسأل اللّه أن يطلقه في أوقات الصلاة ثم يرده إلى حاله بعد ذلك، فكان إذا جاء وقت الصلاة فكأنما أنشط من عقال، فإذا قضى الصلاة رجع إليه الفالج وكما كان قبل ذلك، ومن لم يتداوَ من الصدّيقين والسلف الصالح أكثر من أن يحصى، إلا أنه مخصوص لمخصوصين؛ ألم ترَ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما ذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ثم وصفهم بأنهم لا يكتوون، ولا يسترقون، فقام إليه عكاشة بن محصن الأسدي فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم، فدعا له، فقام رجل آخر فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة، فلم يمنعه من الدعاء بخلاً عليه، إلاّ أنّ طريق الخصوص الأقوياء لا يسلكه العموم الضعفاء، كما أنّ طريق العموم قد زهد فيه الخصوص.(1/405)
وأعجب ماسمعت قال بعض العارفين: أصفى ما أكون قلباً إذا كنت محموماً، أو من مواجيد العارفين ما حكي لنا أن موسى والخضر عليهما السلام اجتمعا في فلاة من الأرض، فشكا موسى إلى الخضر الجوع فقال له الخضر: اجلس بنا حتى ندعو، فتكلم الخضر بشيء، فأقبل ظبي حتى وقع بينهما نصفين: نصفه إلى الخضر مشويّاً ونصفه إلى موسى نيّئاً، فقال له الخضر: قم فاحمل هموماً كما حملت همومها، فأوقد ناراً واشو نصيبك وكل، قال: فقدح موسى ناراً وأشعل حطباً وسوّى نصيبه، فلما فرغ قال للخضر: كيف وقع نصفه إليك مشويّاً؟ قال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وقيل عنه أيضاً مرة أخرى: إنه ليس لي في هذه الخلق حاجة، وقد كان مذهب سهل أن ترك التداوي، وأن أضعف عن الطاعات، وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات، وكانت به علّة فلم يكن يتداوى منها، وقد كان يداوي الناس منها، وكان إذا رأى العبد يصلّي من قعود، أو لا يستطيع أعمال البرّ من الأمراض، فيتداوى للقيام في الصلاة، والنهوض إلى الطاعة، يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع رضاه بحاله أفضل له من التداوي للقوة، ويصلّي من قيام، وسئل عن شرب الدواء فقال: كلّ من دخل إلى شيء من الدواء فإنما هو سعة من اللّه لأهل الضعف، ومن لم يدخل في شيء منه فهو أفضل، لأنه إن أخذ شيئاً من الدواء ولو كان الماء البارد سئل عنه: لِمَ أخذت؟ ومن لم يأخذ فليس عليه سؤال، وقال: مَنْ لم يأخذ الماء البارد فليس عليه سؤال، وقال: مَنْ يأخذ الماء البارد على سبيل الدواء سئل، وأصله في هذا أنّ عنده من أفضل الأعمال أن يضعف العبد قوّته، حتى لا يكون لنفسه حراك لأجل اللّه تعالى، وإنّ ذرّة من أعمال القلوب؛ مثل التوكل والرضا والصبر أفضل من أعمال جبال من عمل الجوارح، وهذا مذهب البصريين في إسقاط القوّة بالتجوع الطويل والطي الكثير لتضعف النفس، لأنّ عندهم أن في قوة النفس قوة الشهوات وغلبة الصفات، وفي ذلك وجود المعاصي وكثرة الهوى وطول الرغبة والحرص على الدنيا وحب البقاء، يقول: إذا أدخل اللّه عليها الأمراض من حيث لا تحتسب، فلا يتعالج لرفع الأمراض عنها، فإنّ لامرض من نهاية الضعف ومن أبلغ ما ينقص به الشهوة، وقد كان يقول: علل الأحسام رحمة وعلل القلوب عقوبة، وقال مرة: أمراض الجسم للصدّيقين، وقد كان ابن مسعود يقول: تجد المؤمن أصح شيء قلباً وأمرضه جسماً، وتجد المنافق أصح شيء جسماً وأمرضه قلباً، وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تحبون أن تكونوا كالحمر الصيالة؛ لا تمرضون ولا تسقمون، وقد قيل: لا يخلوا المؤمن من علّة في جسمه أو قلة في ماله، وقيل: لا يخلو من غلبة أو ذلة، وللعبد إن لم يتداوَ أعمال حسنة؛ منها أن ينوي الصبر على بلاء اللّه تعالى، والرضا بقضائه والتسليم لحكمه إذ قد حسن عنده لأنه موقن وإذ قد عرف الحكمة في ذلك والخيرة في العاقبة، لأنه حكيم، ومنها أنّ مولاه أعلم به منه وأحسن نظراً واختياراً، وقد حبسه وقيده بالأمراض عن المعاصي، كما روي عن اللّه تعالى: الفقر سجني والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحبّ من خلقي، فلا يأمن إن تداوى فعوفي أن تقوى النفس فيفسده هواها، لأنّ المعاصي في العوافي، وعلّة سنة خير من معصية واحدة، لقي بعض الناس بعض العارفين، فقال له والعارف: كيف كنت بعدي؟ قال: في عافية فقال: إن كنت لم تعص اللّه فأنت في عافية، وإن كنت قد عصيته فأي داء أدوى من المعصية ماعوفي من عصى، وقال عليّ رضي اللّه عنه لما رأى زينة النبط بالعراق يوم عيدهم: ماهذا الذي أظهروه؟ قالوا: ياأمير المؤمنين، هذا يوم عيد لهم، فقال: كل يوم لايعصى اللّه فيه فهو عيد لنا.(1/406)
وقال اللّه تعالى وهو أصدق القائلين:( وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) آل عمران 125قيل: العوافي والغنى، وقال بعضهم: إنما حمل فرعون أن قال: أنا ربكم الأعلى طول العوافي، لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس، ولم يحمِ له جسم، ولم يضرب عليه عرق، فادّعى الربوبية، ولو أخذته الشقيقة والمليلة في كل يوم لشغله ذلك عن دعوى الربوبية واعلم أنّ الإنسان قد يطغى بالعوافي كما يطغى بالمال، لأنه قد يستغني بالعافية كما يستغني بالمال، وكل فيه فتنة، وقد قال اللّه تعالى: ( كَلاّ إنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغى) (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق:6 - 7، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ، والعصمة في حال العافية نعمة ثانية، كالعصمة في الغنى نعمة النعمة، وهذا أحد الوجوه في قوله عزّ وجلّ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمُ في حَيَاتِكُمُ) الأحقاف:20 ومنها أنّ الأمراض مكفرة للسّيئات؛ فإذا كره الأمراض بقيت ذنوبه عليه موفورة، وفي الخبر: لاتزال الحمى والمليلة بالعبد حتي يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة، وفي خبر: حمى يوم كفّارة سنة، وأحسن ما سمعت في معناه، قال: لأنّ حمى يوم تهد قوة سنة، وقيل: في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، يدخل حمى يوم في جميع المفاصل فيكون له بكل مفصل كفّارة يوم، ولما ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كفّارة الذنوب بالحمى، سأل زيد بن ثابت ربّه أن لا يزال محموماً، قال: فلم تكن الحمى تفارقه في كل يوم حتى مات، وسأل ذلك طائفة من الأنصار، وكذلك لما ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أذهب اللّه كريمته لم يرضَ له ثواباً دون الجنة، قال: فقد رأيت الأنصار يتمنّون العمى، ولما جاءت الحمى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تستأذن عليه قال: اذهبي إلى أهل قباء، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى:(فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) التوبة:108 أي بالأمراض من الذنوب، وعن عيسى عليه السلام يقول: لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب على جسده، وما له لما يرجو في ذلك من كفّارة خطاياه، والصدّيقون يبتلون بعلل الجوارح، والمنافقون يبتلون بأمراض القلوب، لأن في أمراض الأجسام ضعفها عن الآثام والطغيان، وفي أمراض القلوب ضعفها عن أعمال الآخرة والإيقان وفي معنى قوله عزّ وجلّ: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان:،2، قيل ظاهرة العوافي وباطنة البلاوي لأنها نعم الآخرة، وروي أنّ موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: ياربّ ارحمه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: كيف أرحمه؟ ممّا به أرحمه؟ وقد قال اللّه وهو أصدق القائلين في تصديق هذا المعنى:(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) المؤمنون: 75 فأخبر أنّ في ترك الرحمة لهم لطفاً ورحمة.(1/407)
وروينا عن عبد الواحد أنه خرج في نفر من إخوانه إلى بعض نواحي البصرة، فأواهم المسير إلى كهف جبل، فإذا فيه عبد مقطع بالجذام يسيل جسده قيحاً وصديد الأطباخ به، فقالوا: ياهذا، لو دخلت البصرة فتعالجت من هذا الداء الذي بك، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: سيدي، بأي ذنب سلطت هؤلاء عليّ يسخطوني عليك، ويكرهون إلي قضاءك، سيدي أستغفرك من ذلك الذنب، لك العتبى إني لا أعود فيه أبداً، قال ثم أعرض بوجهه فانصرفنا وتركناه، وفي الحديث: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي العبد على قدر إيمانه؛ فإن كان صلب الإيمان شدّد عليه البلاء، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عليه البلاء، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار؛ فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، ومنهم دون ذلك، ومنهم من يخرج أسود محترقاً، وقد روينا حديثاً من طريق أهل البيت: إذا أحب اللّه عبداً ابتلاه؛ فإن صبر اجتباه، وإنْ رضي اصطفاه، ومنها أنّ الملك يكتب له مثل أعماله الصالحة التي كان يعملها في صحته، وأنه يجري له الحسنات، مثل ما كان يجري له على أعمالهم، فيكتب الملك له أعمالاً صالحة خيراً له من أعماله، لأنّه قد يدخلها الفساد، واختيار اللّه له أن يستعمله بالأوجاع، خير له من اختياره لنفسه أن يستقل إلى اللّه بالأعمال الصالحة، وهذا أحد المعنيين، في معنى الخبر: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، قيل: هو ما دخل عليها من المصائب في الأنفس والأموال، فهي تكره ذلك وهو خير لها، ومن هذا المعنى قوله تعالى: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) البقرة:216 قد يكره العبد الفقر والعيلة والضر والخملة، وهو خير له في الآخرة وأحمد عاقبة، وقد يحب الغنى والعوافي والشهرة وهو شرّ له عند اللّه وأسوأ عاقبة.(1/408)
وفي الخبر أيضاً يقول اللّه تعالى لملائكته: اكتبوا العبدي صالح ما كان يعمل فإنه في وثاق؛ إن أطلقته أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وإن توفّيته توفّيته إلى رحمتي، فإبدال صفة لحسن اختيار اللّه له، خير له من الدنيا والآخرة ومن شهوته، والأصل في التوكل وتركه، أنّ المتوكل على اللّه قد علم في توكله أنّ للعلّة وقتاً إذا انتهت إليه برأ العليل بإذن اللّه لا محالة، ولكن اللّه عزّ وجلّ قد يحكم أنه إن تداوى شفاه في عشرة أيام، وإن لم يتداوَ أبرأه في عشرين يوماً، ليترخص العليل بما أباحه اللّه له، فيطمع في تعجيل البرء في عشرة أيام، ليكون أسرع لشفائه، وأقرب إلى عاقبته، على أنه معتقد أنّ الدواء ولا يشفى وإنّ التداوي لا ينفع لعينه، لأنّ اللّه هو الشافي وهو النافع فالشفاء والنفع فعله لعبده وجعله في الدواء من لطائف حكمته، لا يجعله سواه ولا يفعله إلا إياه، إذ كانت العقاقير مطبوعة مجبولة على خلقها، فجاعل الأسباب فيها هو جابلها، لأن الجعل فيها والخاصية منها ليس من عمل المتطبب، وإن كان يعمل بها ويجمع بينها وبين العليل لأنّه ظهر على يديه سبباً لرزقه، فاللّه خالق جميع ذلك وفاعله، وكذلك قال اللّه تعالى: (واللّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات:96 وكذلك أيضاً عند العارفين أنّ الخبز لا يشبع وأنّ الماء لا يروي كما أنّ المال لا يغني، والعدم لا يفقر، لأن اللّه هو المطعم المسقي وهو المشبع والمروي، كما هو المغني المفقر بما شاء، كيف شاء وهو جاعل الشبع والري في المطعوم والمشروب، وفي النفس بالغنى والفقر لحكمته ورحمته، كما أنّ اللّه تعالى هو المجيع المظمئ، فيدخل الطعام والشراب على الجوع والعطش الذين جعلهما فيذهبهما بما أدخل عليهما، كما يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل، فيغلب سلطان كل واحد على الآخر فيذهبه، فسواء هذا عند الموحدين من وصف الليل والنهار، ومن العلل والأدوية يتسلط الشيء على ضده فيزيله بقلبه، فهذه بإذن اللّه، والشرك في هذه الأشياء في العموم أخفى من دبيب النمل على الصفا، والموقنون الصحيحو التوحيد من جميع ذلك برآء، وعلى هذه المعاني أحد الوجهين في قوله تعالى: ( الَّذي أَعْطى كُلَّ شَيءْ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه:50 أي أعطى كل لون وجنس خلقته وطبعه أي صورة الشيء، ووصفه للضر والنفع، فإن تعجل العليل البرء بالتداوي فبرأ، كان ذلك بقضاء اللّه وقدره، على وصف السرعة من المعافاة، فإن كان ناوياً في تداويه واستعجاله شفاءه الطاعة لمولاه، والقيام بين يديه للخدمة، كان مثاباً على ذلك فاضلاً فيه غير منقوص في مقام توكله، وإن أراد بذلك صحة جسمه لنفسه والنعيم بالعوافي كان ذلك باباً من أبواب الدنيا، ودخولاً فيما أبيح له منها، وهو يخرجه من فضيلة التوكّل، وحقيقته بمقدار ما نقصه من الزهد في الحياة والنعيم، وإن أراد باستعجال العوافي قوة النفس لأجل الهوى، وليسعى في مخالفة المولى، كان مأزور السوء نيّته ووجود عزيمته وخرج من المباح إلى المحظور، وذلك يخرجه من حد التوكل وأوله، وهذا من مذموم أبواب الدنيا وممقوتها، وإن كانت نيته في تعجيل العوافي التصرف في المعايش والتكسب للإنفاق والجمع، نظر في شأنه؛ فإن كان يسعى في كفاف وعلى عيلة ضعاف، وعن حاجة وإجحاف لحق هذا بالطبقة الأولى، وهذا باب من أبواب الآخرة وهو مأجور عليه، ولا يخرجه من التوكل، وإن كان يسعى في تكاثره، وتفاخر، ولا يبالي من أين كسب، وفيما أنفق، لحق هذا في الطبقة الثالثة من العاصين، وهذا من أكبر الدنيا المبعدة عن اللّه عزّ وجلّ، فهذه نيات الناس في التداوي المحمودة والمذمومة، فإن لم يتداوَ المتوكل تسليماً للوكيل وسكوناً تحت حكمه ورضاً باختياره وصنعه، إذ قد أيقن أن للعلّة وقتاً إذا جاء برئ بإذن اللّه تعالى، إلاّ أنها بعد عشرين يوماً، فيصبر ويرضى ويحمل على نفسه ألم عشرة أيام رضاً بقضاء اللّه، وصبراً على بلائه، وحسن ظن باختياره له، ولا يتهمه في قضاءه عليه، فهذا هو أحد الوجوه في حسن الظن باختيار اللّه أن لا يتهم اللّه في فضيلة كيف، وقد روي فيه نص أنّ رجلاً قال: يارسول اللّه، أوصني، فقال: لا تتهم اللّه في شيء قضاه عليك.(1/409)
وقد روي في معنى هذا خبر فيه شدة، يقول اللّّه تعالى: مَنْ لم يصبر على بلائي ويرضَ بقضائي ويشكر نعمائي فليتخذ ربًا سواي، وهذا باب من الزهد في الدنيا بمقدار ما نقص من الرغبة في نعيم النفس، لأنّ الجسم من الملك فما نقص منه نقص من الدنيا، والقلب من الملكوت فما زاد فيه زاد في الآخرة وهو باب من الصبر بقدر ما صبر عليه من النقص، كما قال تعالى:(وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالأْنفُس) البقرة:155 يعني أمراضها وأسقامها، وبشر الصابرين ونقص الأموال إقلالها وإذهابها، فكذلك جعلناه زهداً لاقترانه بالمال، ومع هذا فهو لا يأمن في تعجيل العوافي من المعاصي، فإذا انتهى وقت العلّة، برئ من غير دواء بإذن اللّه، وله في الأمراض تجديد التوبة، والحزن على الذنوب، وكثرة الاستغفار، وحسن التذكرة، وقصر الأمل، وكثرة ذكر الموت، وفي الخبر: أكثروا من ذكر هادمّ اللذات: ومن أبلغ ما يذكر به الموت وتوقع نزوله الأمراض فقد قيل: الحمى بريد الموت، وفي قوله عزّ وجلّ: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلِّ عَامٍ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ) التوبة:126 الآية، قيل: بالأمراض والأسقام يختبرون بها، ويقال: إنّ العبد إذا مرض مرضتين ثم لم يتب قال ملك الموت: يا غافل، جاءك مني رسول بعد رسول فلم تقبل، وقد كانوا يستوحشون إذا خرج عنهم عام لم يصابوا فيه بنقص أو مال، ويقال: لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع بروعة أو يصاب بنكبة، فكانوا يكرهون فقد ذلك في ذهاب هذا العدد من غير أن يصابوا فيه بشيء، وروي أن عماراً تزوّج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عرضت عليه امرأة فذكر من وصفها حتى همّ أن يتزوجها، فقيل له: إنها ما مرضت قط فقال: لا حاجة لي فيها، وذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الأوجاع من الصداع وغيره، فقال رجل: وما الصداع؟ ما أعرفه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إليك عني، من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، لأنّ في الخبر أنّ الحمى حظ المؤمن من نار جهنم، وفي حديث أنس وعائشة: يا رسول اللّه، هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم؟ فقال: نعم، من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة، وفي لفظ الحديث الآخر: الذي يذكر ذنوبه فتحزنه، وإن ترك التداوي وبرئ بغير دواء، كان هذا من قضاء اللّّه وقدره على وصف الإبطاء، وقد اختلف رأي الصحابة في مثل هذا المعنى، عام خرج عمر رضي اللّّه عنه إلى الشام، فلما بلغوا الجابية انتهي إليهم خبر الشام أنّ به وباءً عظيماً وموتاً ذريعاً، فوقف الناس وافترقوا فرقتين، فمنهم من قال: لا ندخل على الوباء نلقي بأيدينا إلى التهلكة فنكون سبباً لإهلاك أنفسنا، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل على اللّه ولا نهرب من قدره، ولا نفر من الموت فنكون كمن قال اللّّه تعالى:(أَلََمْ تَرَ إلَى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) البقرة:243، فرجع الجميع إلى عمر فسألوه عن رأيه، فوافق عمر الذين قالوا نرجع ولا ندخل على الوباء، فقال له آخرون: أنفر من قدر اللّه؟ فقال عمر: نعم، نفر إلى قدر اللّه، ثم ضرب لهم مثلاً فقال: أرأيتم لو كان لأحدكم غنم وله شعبتان، إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعى الخصبة رعاها بقدر اللّه، وإن رعى المجدبة رعاها بقدر اللّه؟ فسكتوا، ثم دعا عمر بعبد الرحمن بن عوف يسأله عن رأيه فقيل: هو غائب، قد تأخر في المنزل الذي نزلنا فيه، فثبت عمر وأصحابه على ذلك الرأي، وعلى أن يسأل عبد الرحمن عن رأيه فيه، فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن بن عوف فسأله عمر عن ذلك، فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين، شيء سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي اللّه عنه: اللّه أكبر يقول: إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، ففرح عمر بذلك إذ وافق رأيه فرجع بالناس من الجابية.
بيان آخر من التمثيل في التداوي وتركه(1/410)
ومثل التداوي وتركه في أنهما مباحان، وأنّ أحدهما طريق الأقوياء الصابرين وهو تركه، مثل التكسب وتركه أنّ التكسب عند الجوع الذي هو علّة الجسم ليستعجل العبد الدواء بالخبز جائز له، لا يقدح في توكله لأنه مباح له مأمور به، فإن نوي بالتكسب القوّة على الطاعة والسعي في سبيل اللّه والمعاونة على البرّ والتقوى، كان فاضلاً فيه، وإن نوى بالتكسب الأكل للشهوات والقيام بحظوظ النفس من الرفاهية نقص ذلك من توكله وأخرجه من حقيقته، فكان طريقاً من طرقات الدنيا إلاّ أنّه مباح، وإن قصد بتكسبه التكاثر والحرص للجمع والمنع كان عاصياً بكسبه مخالفاً لربّه، وهذا من أكبر طرق الهوى، ثم إن لم يتكسب وصبر على الجوع ورضي بالقلة والفقر، فإن رزقه يأتيه لا محالة لمجيء وقته، وإن كان قليلاً دون سعة، ولكنه يحتاج إلى فضل صبر، وحسن رضاً، وسكون نفس، وطمأنينة قلب، فإن وجد هذه المعاني فهذا هو التوكل، وكان فاضلاً في ترك التكسب بحسن يقينه وثقته برازقه وشغله بما هو أفضل وأنفع له في عاقبته، وإن تشتت همته، واضطربت نفسه، وتكره قضاء ربه، فأخرجه ذلك إلى الجزع والهلع والتبرم والشكوى، فالتكسب لهذا أفضل وهو منقوص بتركه، كذلك أيضاً من أكبر الشكوى من علّته وتسخط حكم ربّه وتبرم وضجر وسطاً على الناس، وساء خلقه بمرضه فإن الأفضل لهذا أن يتداوى وهو ناقص بتركه.
وروينا عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط اللّه، وأن تحمدهم على رزق اللّّه، وأن تذمهم على ما لم يؤتك اللّه، إنّ رزق اللّه لا يجره حرص حريص، ولا يرده كره كاره، إنّ اللّه بحلمه وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط.
ذكر استواء شهادة المتوكل مع اختلاف ظهور الأسباب
ويستوي عند الخصوص بعين يقينهم ما جاءهم بواسطة أيديهم، وأسباب كسبهم وما جاءهم بأيدي غيرهم وبغير كسبهم إذا كان المعطي عندهم واحداً والعطاء كله رزقاً إذ كانت الأيدي ظروف العطاء فيستوي وكأن الظرف يدك أو يد غيرك، وسواء كان الكسب كسبك أو كسب غيرك لك إذ جميعه رزقك، ولأنّ لكل شيء حكماً وفي كل شيء حكمة وبكل شيء نعمة، قال اللّه تعالى:(إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) (الَّتي لَمْ يُخْلَقْ منِثْلُهَا في الِبْلاَدِ) الفجر:7 - 8 فأضافها إليه في الخلق بعد أن بنوها بأيديهم وفرغوا منها، ومثل هذين أيضاً يستوي عندهم ما ظهر بيد القدرة لا خلق فيه ولا واسطة به، وما ظهر بأيديهم عن الحكمة وترتيب العرف، لأن القدرة أيضاً بمنزلة ظرف للعطاء ظهر العطاء بها، فهي كأيدي العباد من يد الإنسان نفسه أو يد غيره، إذ القدرة والحكمة خزانتان من خزائن الملكوت والملك، فهذه المعاني الثلاث أعني ما ظهر عن يدك وتكسبك، وما ظهر بيد غيرك، وعن كسبه لك، وما أظهرته القدرة عن غير عرف معتاد ولا واسطة مرت به، هذا كله عند الموقنين سواء، لا يترجح بعضه على بعض لرجحان إيمانهم وقوّة يقينهم ونفاذ مشاهدهم، إذ كله حكمة بالغة وقدرة نافذة عن حكيم واحد وقادر واحد.(1/411)
وممّا يدلك على استواء ما ظهر بيد الأواسط وما أظهرته القدرة عند العلماء أنّ كلّ من جمع كرامات الأولياء واجبات الصدّيقين ذكر فيها ما ظهر لهم عن القدرة، وما ظهر لهم على أيدي الخلق من الإنفاق عند وقت الفاقات عن غير مسألة ولا استشراف نفس، فسووا بينهما في الكرامات وجعلوهما واحد من الإجابات، وحسبوا كل ذلك من الآيات، على أنّ العارفين يشهدون ما يوصل العبيد إليهم من أقسام رزقهم، إنها ودائع لهم عندهم وإنه حق لهم بأيديهم يؤدونه إليهم قليلاً قليلاً، ويوفونهم إياه شيئاً فشيئاً إلاّ أنهم لا يسألونهم إياه ولا يطالبونهم به، وإن كان لهم عندهم حسن أدب فيهم وحسن اقتضاء لأنّ من حسن الاقتضاء ترك الطلب، ولقوّة يقينهم برازقهم أنّه يوفيهم نصيبهم غير منقوص، فقد سكنوا إلى قديم وعده كما نظروا إلى بسط يده، وكذلك مشاهدة العالمين الموصلين إليهم قسمهم الدافعين إليهم حقوقهم، يشهدون أنهم قد خرجوا إليهم من حقهم وأدوا إليهم ودائعهم، فيستريحون إلى إخراج ذلك، ويفرحون بأدائه إلى أربابه ويشكرون اللّه على حسن توفيقه وإعانتهم على سقوط ذلك عنهم، كما يفرح من عليه الدين الثقيل إذا أداه فسقط عنه حكمه وقضاؤه، وهذا مقام للموصلين في المعرفة وحال لهم من اليقين حسنة، وهو مشاهدة عالية للآخذين من المتوكلين.
ذكر تشبيه التوكل بالزهد
اعلم أنّ التوكل لا ينقص من الرزق شيئاً، ولكنه يزيد في الفقر ويزيد في الجوع والفاقة، فيكون هذا رزق المتوكّل ورزق الزاهد من الآخرة، على هذا الوصف الخصوص من حرمان نصيب الدنيا وحمايته عن التكاثر منها، والتوسع فيها فيكون التوكل والزهد سبب ذلك، فيكون ما صرفه عنه من الدنيا زيادة له في الآخرة من الدرجات العلى، وكذلك روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: نقصان الدنيا زيادة الآخرة، وزيادة الدنيا نقصان الآخرة، ومن أعطى من الدنيا شيئاً نقص ذلك من منزلته في الآخرة، وإن كان على اللّه كريماً، وقيل إنّ الدنيا والآخرة مثل ضرتين، من أرضى إحداهما أسخط الأخرى، وقال رجل لبعض العلماء: كنت في محلة ليس فيها بقال غيري، ففتح إلى جنبي بقال آخر فأخاف أن ينقص ذلك من رزقي شيئاً، فقال: ليس ينقص من رزقك شيئاً ولكن يزيد في بطالتك، تقعد كثيراً لا تبيع شيئاً، وقد غلط في هذا الطريق قوم ادّعوا التوكل والزهد واتسعوا في المآكل والملابس، على أنّ ذلك لا ينقصهم من رزقهم شيئاً، فموهوا على دونهم ممن لا يعرف طريق الزهد والتوكل.
ذكر كتم الأمراض وجواز إظهارها(1/412)
الأفضل لمن لم يتداوَ أن يخفي علله لأنّ ذلك من كنوز البرّ ولأنها معاملات بينه وبين خالقه، فسترها أفضل وأسلم له إلاّ أن يكون له نية في الإظهار أو يكون إماماً يستمع إليه ويقتبس منه الآثار، ويكون مكيناً في المعرفة يخبر بعلته وقلبه راض عن اللّه فيما قدره، أو يكون ممن يشهد البلاء نعمة فيكون إخباره بمثابة التحدّث بنعمة اللّه، وإلاّ فإظهار العلل لمن لا يتداوى نقص لحاله، وداخل في الشكاية لمولاه، لأنّ في الشكوى استراحة النفس من البلوى كالاستراحة بالدواء، وهذا لا يفعله عالم لأنّ الاستراحة بالدواء الذي أباحه له المولي خير من استراحته إلى العبيد بالشكوى، على أنّه لا يأمن دخول الآفات عليه في الأخبار من التصنع أو التزيد في العلّة وغير ذلك، وقيل في قوله عزّ وجلّ: (فَصَبْرٌ جَميلٌ) يوسف:18، قال: لا شكوى فيه، وقال بعضهم: من بث شكواه فلم يصبر، وقيل ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ فقال: من الزمان وطول الأحزان، فأوحى اللّه إليه: تفرغت تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب، أتوب إليك، وعن طاووس ومجاهد: يكتب على المريض أنينه في مرضه، قال: وكانوا يكرهون أنين المريض لأنّه إظهار معنى يدل على شكوى، قيل: ما أصاب إبليس من أيوب إلاّ أنينه في مرضه، فجعل الأنين حظه منه، وفي الخبر: إذا مرض العبد أوحى اللّه تعالى إلى الملكين: انظرا إلى عبدي ما يقول لعواده فإن حمد اللّه وأنثى عليه بخير، ادعوا له وإن شكا وذكر شراً قالا: لا، كذلك يكون، وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية وخوف الزيارة في القول أن يخبر عن العلّة بأكثر منها فيكون في ذلك كفراً لنعمة بين بلاءين، وكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ، فيخرج إليهم، منهم فضيل ووهيب، وبشر كان يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد، وقال فضيل: ما أكره العلّة إلا لأجل العواد، وقد رأينا من الصالحين من فعل ذلك ممن هو إمام وقدوة، ولا ينقص توكل المتوكل إخباره بعلته على معنى التحدث بها مع فقد آفات النفوس، إذا كان قلبه شاكراً للّه راضياً بقضائه، ويكون بذلك مظهراً للافتقار والعجز بين يدي مولاه أو راغباً في دعاء إخوانه المؤمنين، أو يشهد ذلك نعمة فيحدث بها شكراً، وقد حكي أنّ بشر بن الحرث كان يخبر عبد الرحمن المتطبب بأوجاعه، فيصف له أشياء، وقيل عن أحمد بن حنبل أنّه كان يخبر بأمراضه ويقول: إنما أصف قدرة اللّه تعالى فيّ. وروي عن الحسن البصري: إذا حمد المريض اللّه عزّ وجلّ وشكره ثم ذكر علّته، لم يكن ذلك شكوى، وقد كان أحمد بن حنبل لا يخبر بأمراضه إذا سئل عنها، ثم رجع إلى قول الحسن هذا، فكان بعد ذلك يحمد اللّه ويثني عليه ويقول: أجد كذا وأجد كذا، وروي أنه قيل لعلّي رضي اللّه عنه في مرضه: كيف أنت؟ فقال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك فقال: أتجلد على اللّه، كأنّه أحبّ أن يظهر افتقاره إلى اللّه، وأراد أيضاً أنّ يعلمهم أنّه لا بأس بذلك لأن من يقول: بخير إذا سئل كثير، كما قال الثوري: إنما العلم الرخصة من ثقة، فأما التشديد فكل أحد يحسنه، فكان عليّ رضي اللّّه عنه أراد أن يتحقق بتأديب النبي صلى الله عليه وسلم له ونهيه إياه عن إظهار القوى، لأنه روي أنه مرض فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللّهم، صبرني على البلاء فقال: لقد سألت اللّه البلاء ولكن سل اللّه العافية، ومن هنا قال مطرف: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلي فأصبر، لأن البلاء طريق الأقوياء، وكره أهل الإشفاق والخشية إظهار الجلد والقوّة بين يدي القوي العزيز، وقد حكي أنّ الشافعي مرض مرضة شديدة بمصر فكان يقول: اللّهم، إن كان في هذا رضاك فزدني منه، فكتب إليه بعض العلماء وهو إدريس بن يحيي المعافري، يا أبا عبد اللّه، لست من رجال البلاء فسل اللّه العافية، فرجع عن قوله هذا واستغفر منه، فبعد هذا واللّّه أعلم، لعلّه ما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه: اللّهم إجعل خيرتي فيما أحببت.
ذكر فضل التارك للتكسب(1/413)
قد يفضل التارك للتكسب شغلاً بالعبادة عن المتكسب، من حيث فضل المتقدّمون الزاهد في الدنيا على كاسب المال حلالاً ومنفقه في سبيل اللّه، وسئل الحسن عن رجلين،أحدهما محترف والآخر مشغول بالتعبد: أيهما أفضل؟ فقال سبحان اللّه ما اعتدل الرجلان المتفرغ لعبادة أفضلهما، وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كفى بالموت واعطاً وبالتقوى غنى وبالعبادة شغلاً، وقد علم التارك للتكسب توكلاً على اللّه وثقة به ورعاية لمقامه وصبراً على فقره وشغلاً بمعاده عن معاشه ومقاساة الفتنة، إنّ مولاه قد تكلّل له برزقه في الدنيا وقد وكل إليه عمل الآخرة، وأنه إن شغل بما وكله إليه من عمل آخرته أقام له من يقوم بكفايته من دنياه، فلو لم يتصرف المتوكل تصرف له غيره، وإنّ عمل آخرته الذي وكّله إليه هذا فلم إن لم يعمله لم يقم غيره مقامه،وإنّ اللّه تكفل له بعمل الدنيا، فإن لم يعمل لعمل له سواه كيف شاء، فهذا هو الفرق بين ماتكفل له به من عمل الدنيا وبين ما وكّله به من عمل الآخرة، قال اللّه سبحانه في رزق الدنيا الذي تكفل به:(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزِقْهَا الله يرزقها وَإيَّاكُمْ) العنكبوت:60 وقال تعالى في رزق الآخرة الذي وكل به:(وأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاّ مَا سَعى) النجم:39، ثم قد علم المتوكل بعدتوحيده أنّ هذه الأربعة الأشياء منتظمة في سلك واحد، كشيء واحد يقع وقعة واحدة رزق مقسوم لا يزاد فيه في وقت معلوم ولا يتقدم ولايتأخر بسبب محكوم، لا ينقلب عند أثر مكتوب ولايتغير، فالرزق بفضل الرازق والوقت الذي يظهر فضل العطاء لا يقع إلاّ في ظرف، والسبب حكمة القاسم والأثر حدّ المرزوق، فلما أيقن المتوكل بهذا كان إن تصرف بحكم، وإن قعد قعد بعلم، فاستوى تصرفه وقعوده لأنه قائم بحكم ما يقتضي منه في علم حاله عالم بحكم مصرفه ومقعده، فإن شغله مولاه بخدمته عن خدمة من سواه، فصرفه في معاملته دون معاملة العبيد ساق إليه رزقه كيف شاء من الوجوه وبيد من شاء من العبيد، يحفظه له عن مجاوزة الحدود، كما قال تعالى:(حَاِفظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه) النساء:34، وبتوليه له وعصمته إياه عن التورط في محظور، كما أخبر عن أوليائه في قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّاِلحينَ) الأعراف:196، وكان العبد فاضلاً في قعوده لشغله عن العبيد بمعبوده، بانقطاعه إلى معاملة الملك دون ما يقطعه من معاملة الملوك، وبهمة الآخرة عن الدنيا، وكان داخلاً في وصف ما أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أهل كفاية اللّه، فيما روي عنه من جعل الهموم همَّا واحداً، كفاه اللّه آخرته، وخارجاً عن وصف من قطعه عن اللّه بهمة غيره وعرضه للهلكة في أودية الهموم، في قوله عليه السلام: من أصبح وهمه غير اللّه فليس من اللّه، وفي قوله: ومن تشعبت به الهموم لم يبال اللّه في أي أوديتها هلك، فإن كان حال المتوكل أن يجري رزقه على يد نفسه وكسب جارحته فهو خزانة من خزائن الملك وهو عبد من عبيد الملك، يوصل إليه عن يد نفسه بما يوصله إليه عن يد غيره وسواه، ساق إليه الرزق أو ساقه إلى الرزق بعد أن يرزقه، لأن ما لقيته فقد لقيك، والعبد متوكل على اللّه في الحالين، ناظر إليه بالمعنيين، قائم بحكم حاله في الأمرين، عارف بحسن اختيار اللّه له في الحكمين، ومن ترك التكسب لأجل اللّه ثقة به وسكوناً إليه أو لدخول الآثام وتعذر القيام بالأحكام، فحسنهُ كحسن من عمل شيئاً لأجل اللّه لأن الترك عمل يحتاج إلى نية صالحة وأفضل الناس عنداللّه أتقاهم له وأتقاهم له أعرفهم به متصرفاً كان أو قاعداً، هذا هو فصل الخطاب.(1/414)
وروينا في حديث عبد اللّه بن دينار عن عمرو بن ميمون عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما قال ربكم؟قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: حين استوى على عرشه ونظر إلى خلقه: عبادي، أنتم خلقي وأنا ربكم أرزاقكم بيدي فلا تتعبوا أنفسكم فيما تكفلت لكم به، واطلبوا أرزاقكم مني وانصبوا أنفسكم لي، وارفعوا حوائجكم إلي أصبّ عليكم أرزاقكم، أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: عبدي أنفق أنفق عليك ووسع أوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، إنّ أبواب الرزق بالعرش لا تغلق ليلاً ولا نهاراً، فأنزل الرزق منها لكل عبد على قدر نيته وعالته وصدقته ونفقته، فمن أكثر أكثر له ومن أقلل أقلل له، ومن أمسك أمسك عليه، يا زبير إنّ اللّه يحب الإنفاق ويبغض الإقتار، فكل وأطعم ولاتقترّ فيقترّ اللّه عليك ولا تعسر فيعسر عليك، أطعم الإخوان ووقرالأخبار وصل الجار ولاتماش الفجار تدخل الجنة بغير حساب، فهذه وصبة اللّه لي ووصيتي لك يا زبير بن العوام: والأسواق موائد الآباق يطعم المولى منها من أبق من خدمته وهرب من مجالسته ووهن عن معاملته وجبن في متاجرته، قال اللّه تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَما أَريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات:56 - 57، وقال بعض أهل العربية من القدماء: ما أريد أن يرزقوا خلقي إنّ اللّه هو الرزاق، أي لهم لا يطالبهم أن يرزقوا نفوسهم إذا خدموه، فذكر اللّه الوجوه الثلاثة واختار لنفسه أحدها وهي الخدمة، وعليه الكفاية، واختار من العبيد أحدهم فجعله عابده وتنزه عن أحدهما وتعالى عنه وهو الإطعام من العبيد له، وصرف عموم العبيد في الوجه الثالث من الإطعام لأنفسهم وهو التكسب، وضرب هذا مثلاً بينه وبين خلقه في الأرض وله المثل الأعلى في السموات والأرض، فبقي العبيد مع اللّه تعالى بحكمين، أحدهما ما اختاره لنفسه من العبادة وهي المعاملة وعليه الرزق كيف شاء ومتى شاء وهؤلاء عباد الرحمن لا عبيد الدنيا، والثاني ماصرف العبيد فيه من التكسب لأنفسهم وجعل ذلك رزقاً منه لهم بجوارحهم ومدحهم على هذا الوصف، وهؤلاء عموم العبيد منهم عبيد الدنيا وعبيد الهوى وبقي المولى مع العبيد على الأحكام الثلاثة التي أباحها اللّه تعالى لهم وضرب بها المثل بينه وبينهم، أيها اختاره كان ذلك لهم، وتفسير ذلك أن للمولى من الخلق أن يقول لعبده: اذهب فأطعمني لأنك عبدي وملك يدي، فأنا أملك كسبك كما أملك نفسك، وهذا هو الوجه الذي ذكرناه أنّ اللّه تنزه عنه وتعالى علواً كبيراً فقال تعالى:(مَا أُريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات:57، كما يريد الموالي من عبيدهم هذا ثم يقول المولى منا لعبده: اذهب فأطعم نفسك واسعَ في قوتك فقد أبحت لك ذلك، ووهبت لك كسبك فهو رزق مني لك وتفضّل مني عليك، وبهذا صار المكاتب لعبده في فكاك عتقه كالمعتق بأن كان له الولاء وقد يكون له الميراث في حال، لأنه منعم عليه بالكتابة له كالمعتق، وإن كان العبد هو الذي سعى في فكاك رقبة نفسه بكسبه من قبل أنّ المولى يستحق عليه كسبه ويملك رقبته، فلما ملك عبده ذلك صار محسناً إليه فهذا حال عموم العبيد مع اللّه تعالى، لأنه مولاهم الحق وهم عبيده، قنٌّ فقال: اذهبوا فتكسبوا، وأطعموا أنفسكم فقد رزقتكم ذلك ووهبته لكم، وهذا هو الوجه الثاني الذي نزه الخصوص عنه تفضيلاً لهم، فلم يستسعهم وقطعهم فشغلهم بخدمته عن خدمة نفوسهم وخليقته، وتوكل لهم بكفايتهم ولم يوكلهم فيها كما وكلّ غيرهم، بل وكل بأرزاقهم من يشاء من عباده وهو معنى قوله تعالى(مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات:57 لنفوسهم بدليل قوله تعالى(إنّ اللّه هُوَ الرَّزَّاقُ) الذاريات:58، أي لهم بإقامة غيرهم وبإظهاره في قوله: وما أريد أن يطعمون، فكانت هذه الياء اسمه مكنّى بها وهذه إرداة مخصوصة لا عامة لكل مراد، فهي إرادة ابتلاء ومحبة بمعنى ما أحبّ: ومخصوصة بمخصوصين من عباده، كما كان قوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجّنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) الذاريات:56، كانت هذه الآية مخصوصة لمن عبده منهم معناها: مؤمني الجن والإنس لا عامة لجميع خلقه، والوجه الثالث أن يقول المولى منا لعبده: اخدمني وعليّ طعمتك، تقوم خدمتك لي مقام كسبك لنفسك، وهذا هو الوجه الأعلى الذي اختاره اللّه(1/415)
تعالى، وأحبه لمن يحبه واختار له من عبده من العبيد من خصوص العاملين له، وهم العالمون به دون من صرفه في رزق نفسه بنفسه، وهو قوله تعالى:(إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات:56 - 57، أي أن يرزقوا نفوسهم بكسبهم الذي أبحته لهم، فيكونوا كغيرهم ممن قلت له: اذهب فتكسب، فقد أردت منك الرزق لنفسك بكسبك وقد وهبته لك، أي أنا أُريد من هؤلاء العبادة ولها خلقتهم فكل ميسر لما خلق له، فمن كانت صنعته العبادة وخلق لها، يسرت له، ومن كانت صنعته الدنيا وخلق لها، يسرت له، وفي الخبر أنّ اللّه تعالى خلق كل صانع وصنعته، ويقال إنّ اللّه تعالى لما أظهرالخلق في العدم أظهر لهم الصنائع كلها، ثم خيّرهم فاختار كل واحد صنعته، فلما أبداهم في الوجود أجرى على كل واحد ما اختار لنفسه قال: وانفردت طائفة فلم تختر شيئاً، فقال لها: اختاري فقالت: ما أعجبنا شيء رأيناه فنختاره قال: فأظهر مقامات العبادات فقالت: قد اخترنا خدمتك فقال: وعزّتي وجلالي لأخدمنّكم إياهم ولأسخرنّهم لكم، وفي الخبر: أوحى اللّه تعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك فالعبادة هي الخدمة، ومن ذلك قولهم: إياك نعيد ولك نصلِي ونسجد، وإليك نسعي ونحفد، أي إليك نعمل ونخدم مثل قوله تعالى: (بَنِينَ وَحَفَدَةً) النحل:72 أي خدماً في أحد الوجوه والعبادة هي الخدمة بذلّ وتواضع، والعرب تقول: طريق معبّدٍ إذا كان مذللاً ممهداً وموطوءًا بالأقدام، ويقولون: بعير معبد إذا كان ممتهناً بالكد نضواً من السير والحمل عليه، ومنه قول القبط: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، يعنون بني إسرائيل، خدمنا نستذلّهم ونمتهنهم بالكدّ والعمل، وقال بعض العارفين: إنّ اللّه سبحانه وتعالى اطلع على قلوب طائفة من عباده فلم يرها تصلح لمعرفته ولا موضعاً لمشاهدته، فرحمها فوهب لها العبادات والأعمال الصالحات، ثم إطلع على قلوب طائفة أخرى من خلقه فلم يرَ جوارحهم تصلح لخدمته ولا موضعاً لمعاملته، فاستعملهم للدنيا وعبّدهم لأهلها، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الخميصة؛ أي الذين يذلون لهذه الأشياء ويسعون لها، وفي أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد، وخلقت جميع ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت له ما خلقته لأجله. وأحبه لمن يحبه واختار له من عبده من العبيد من خصوص العاملين له، وهم العالمون به دون من صرفه في رزق نفسه بنفسه، وهو قوله تعالى:(إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات:56 - 57، أي أن يرزقوا نفوسهم بكسبهم الذي أبحته لهم، فيكونوا كغيرهم ممن قلت له: اذهب فتكسب، فقد أردت منك الرزق لنفسك بكسبك وقد وهبته لك، أي أنا أُريد من هؤلاء العبادة ولها خلقتهم فكل ميسر لما خلق له، فمن كانت صنعته العبادة وخلق لها، يسرت له، ومن كانت صنعته الدنيا وخلق لها، يسرت له، وفي الخبر أنّ اللّه تعالى خلق كل صانع وصنعته، ويقال إنّ اللّه تعالى لما أظهرالخلق في العدم أظهر لهم الصنائع كلها، ثم خيّرهم فاختار كل واحد صنعته، فلما أبداهم في الوجود أجرى على كل واحد ما اختار لنفسه قال: وانفردت طائفة فلم تختر شيئاً، فقال لها: اختاري فقالت: ما أعجبنا شيء رأيناه فنختاره قال: فأظهر مقامات العبادات فقالت: قد اخترنا خدمتك فقال: وعزّتي وجلالي لأخدمنّكم إياهم ولأسخرنّهم لكم، وفي الخبر: أوحى اللّه تعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك فالعبادة هي الخدمة، ومن ذلك قولهم: إياك نعيد ولك نصلِي ونسجد، وإليك نسعي ونحفد، أي إليك نعمل ونخدم مثل قوله تعالى: (بَنِينَ وَحَفَدَةً) النحل:72 أي خدماً في أحد الوجوه والعبادة هي الخدمة بذلّ وتواضع، والعرب تقول: طريق معبّدٍ إذا كان مذللاً ممهداً وموطوءًا بالأقدام، ويقولون: بعير معبد إذا كان ممتهناً بالكد نضواً من السير والحمل عليه، ومنه قول القبط: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، يعنون بني إسرائيل، خدمنا نستذلّهم ونمتهنهم بالكدّ والعمل، وقال بعض العارفين: إنّ اللّه سبحانه وتعالى اطلع على قلوب طائفة من عباده فلم يرها تصلح لمعرفته ولا موضعاً لمشاهدته، فرحمها فوهب لها العبادات والأعمال الصالحات، ثم إطلع على قلوب طائفة أخرى من خلقه فلم يرَ جوارحهم تصلح لخدمته ولا موضعاً لمعاملته، فاستعملهم للدنيا وعبّدهم لأهلها، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الخميصة؛ أي الذين يذلون لهذه الأشياء ويسعون لها، وفي أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد، وخلقت جميع ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت له ما خلقته لأجله.(1/416)
ذكر حكم المتوكل إذا كان ذا بيت(1/417)
فإن كان المتوكل ذا بيت فليغلقه إذا خرج، إحرازاً له لأجل الأمر بالحذر ولإتّباع السنّة والأثر قال اللّه تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنُواخُذُوا حِذْرَكُمْ) النساء: 71، وقال تعالى:(واحْذَرْهُم أنْ يَفْتنوك) المائدة:49، وقد يروي في خبر اعقلها وتوكل ولاينقص ذلك توكله إذا كان ساكن القلب إلى اللّه لا إلى خلقه، ناظراً إلى حسن تدبيره في تبقية رحله أو إذهابه لا إلى إحرازه، غير مختار لبقاء ما في بيته على اختيار اللّه له لحسن أحكامه عنده، لأن اللّه تعالى إذا رفع عبداً إلى مقام التوكّل عليه في شيء أعطاه التوكل في كل شيء، كما لا يكون توّاباً يحبه اللّه حتى يتوب إلى اللّّه بكل شيء وفي كل شيء أي يرجع إليه بالأشياء وفيها، فلذلك قال اللّه تعالى:(إنَّ اللّه يُحِبُّ الُْمُتَوَكلَّينَ) آل عمران:159، كما قال:(إنَّ اللّّه يُحِبُّ التَّوَّابينَ) البقرة:222، مع قوله: (وَعَلَى اللّه فَلْيَتوَكَّلَ الْمُتَوكِّلُونَ) إبراهيم:12، أي ليتوكل عليه في كل شيء، من توكل عليه في شيء، هذا أحسن وجوهه، والوجه الآخر وعليه فليتوكل في كل توكّله من توكل عليه في الأشياء لأن الوكيل في شيء واحد، فينبغي أن يكون التوكّل عليه واحداً في كل شيء، فالتوكل مقام رفيع من مقامات الأنبياء ومن أعالي درج الصدّيقين والشهداء؛ من تحقّق به فقد تحقّق بالتوحيد وكمل إيمانه وكان على مزيد، وانتفى عنه دقائق الشرك وخفايا تولي العدو فانقطع سلطانه عنه، قال اللّه سبحانه وتعالى:(إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِهُّم ْ يَتَوَكَّلُون) (إنَّما سُلْطَاُنهُ عَلى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) النحل:99 - 100 يعني العدو، والذين هم به مشركون يعني اللّه سبحانه، فلم يشترط نفي سلطان العدو بالإيمان مجرّداً حتى يقيمه في مقام التوكّل في اليقين، فلذلك فصلنا شرحه وأطلقنا تفصيله لأنّ من أعطى مقاماً من التوكّل على حقيقة مشاهدة الوكيل انتظم له جمل مقامات اليقين وأحوال المتقّين، كما قال عبد اللّه بن مسعود: التوكل جماع الإيمان وقد يبتلى المتوكل في توكّله بالأسباب والأشخاص والأغراض وضروب المعاني، كما يبتلى سائر أهل المقامات ويبقى عليه من العدو نزغ وطيف لا غير دون الاقتران والاستحواذ، يختبر بذلك صدقه في توكّله حتى يرد في جميع ذلك نظره إلى وكيله ليجزى جزاء الصادقين المقرّبين، أو ليكشف له دعواه فيعلم كذب نفسه، فيكون مردوداً إلى التوبة، كما قال تعالى:(لِيَجْزِيَ اللّه الصَّادِقينَ بصدْقِهِمْ) الأحزاب:24، وحسب جزاء المتوكلّين أن يكون الصادق حسبهم وأن يكون خلعة الصدق شعارهم ثم قال تعالى: (وَيُعَذِّب الْمنافِقينَ إنْ شَاءَ أوْ يَتوبَ عَلَيْهِمْ) الأحزاب:24، فأحسن حال المدّعين التوبة بها يخرجون من ظلمهم، وقال تعالى:(أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) العنكبوت:2، ثم أخبر بسنته التي قد خلت في عباده فقال: ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلاً، فليقل المتوكّل عند خروجه من منزله معتقداً لذلك بعد غلق بابه للأمر والسنّة: اللّهم إنّ جميع ما في منزلي إن سلطت عليه من يأخذه فهو في سبيلك صدقة منّي على من أخذه، فإن أخذ ما في منزله كان له في ذلك سبع معاملات: إحداهما قبول توكله على اللّه بتدبير اللّه أمره كيف شاء، واختيار اللّه له نقصان الدنيا، وإذهاب ما لعله يفتتن بتبقيته، والثانية اختيار اللّه تعالى لعبده وابتلاؤه إياه بفقد محبوبه ليظهر صدقه ومسألته، أو ليستيبن للعبد كذبه، فإن حمد اللّه وشكره على حسن بلائه ولم تضطرب نفسه أعطي ثواب الشاكرين الراضين، كما جاء في العلم المكنون عن بعض أنبيائه قال: يا رب من أولياؤك؟ قال: الذين إذا أخذت منه المحبوب سالمني، والثانية إن اضطربت نفسه وجزعت جاهدها بالصبر والصمت وحسن الثناء على اللّه وترك الشكاية إلى عبيده، فأعطي ثواب الصابرين المجاهدين، والرابعة إن لم يكن في هذا المقام ولا في المقام الأوّل انكشف له بطلان دعواه وظهر له خفيّ كذبه في حياته، فاعترف بذلك واعتذر إلى اللّه واستكان وخضع، فيكون هذا أيضاً مزيد مثله على معنى الإعلام والبيان، فيعلم إنه كذاب لكراهية ما قضى اللّه وقلّة صبره أو(1/418)
بسخطه ما حوّله اللّه من خزانته التي هي في يده إلى خزانته الأخرى التي هي في يد غيره، إذ قد علم أن يده خزانة مولاه، وأنّ ما حوله منها لم يكن له وإنما كان قد استودعه، فحزن وساءه حين استرجع منه ما أودعه وأعاره وأودعها غيره أو دفعها إلى من هي رزقه، وكانت له من قبل، أنّ المتوكل قد علم أن اللّه تعالى، إذا وهب شيئاً من الدنيا للأجسام من الملك وشيئاً من الآخرة من الملكوت وصار ذلك رزقاً للمتوكّل في آخرته، فآثر لضعف يقينه رزق دنياه على رزق آخرته لنقصان زهده، ليس ذلك، إلا للطمع فيه، وفضل الرغبة والشره إذ قد علم أن ما أخذ منه كان وديعة لغيره عنده، فهذه كلها ذنوب عند المتوكّلين موجبات للتوبة والاستغفار عند الموقنين، من قبل أن المتوكّل قد علم أن اللّه إذا وهب شيئاً من الملك في الدنيا للأجسام أو شيئاً من ملكوت الآخرة في القلوب، لم يأخذه أبداً؛ فما كان في الدنيا بقي لصاحبه إلى آخر أثره حتى يفنيه ويبليه، وما وهبه من الآخرة من الإيمان والعلم والعمل لم يأخذه أبداً بل ينميه ويزيده فيه إلى أبد الأبد في دار الأبد، ولكن قد يعير ويستودع من أمور الدنيا وأمور الآخرة، فهذا النوع لا بدّ أن يسترده ويسترجعه في الدنيا لأن حكمته أوجبت ردّه كما أوجب كرمه تبقية ما وهبه، فلا ينبغي للمتوكّل الموقن ما ذكرناه أن يحزنه ما حول اللّه من خزانته التي في يده مما أعاره واستودعه إلى خزانته الأخرى التي هي يد غيره، ممن لعلّه يهبه له أو يبتليه بأحكامه فيه، فيخرج أيضاً من يده إلى يد غيره لأنه ما خرج من الدار شيء، وللّه حكمة وابتلاء في كل شيء؛ فالحزن والأسف على فوت مثل هذا عند العارفين جناية، ومن المؤمنين خيانة، يستغفرون اللّه ويتوبون إليه كما يتوبون من المعاصي، لأنهم قد شهدوا ما بيّناه ولأنه قد أمرهم بترك الأسى على فائت الدنيا وقلة الفرح بما أتى منها، إذ لا بدّ من كونهما لأنه قد علمه وبعد علمه قد كتبه وبعد كتبه قد أعلم به، فكشف لهم اليقين عن الكتاب المستبين؛ أنّ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، فما ظهر من المصائب في الأموال والأنفس فقد سبق قبل خلق الخلق، وهذا قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) الحديد:22، قيل: من قبل أن نخلق الخليقة وقبل أن نبرأ الأرض وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وقيل: من قبل أن نبرأ المصيبة، ثم قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) الحديد:32، فالأسى على فقد الشيء على قدر الفرح بوجوده، أفلا يستحي العبد أن يكون على ضدّ ما أمر به أو بخلاف ما يحبّه منه مولاه؟ فيأسى على ماليس له ويحزن على ما أخذ منه واستودعه، أو يفرح بما ليس له لأنه لا يعلم أنه قد وهب له، فيبقي عليه، أو قد أعيره فيؤخذ منه، فلما استرجعه من يده التي هي يده تعالى قبضه، أيقن أنه لم يكن له وأنه إنما كان وديعة عنده فحزن وساء، فهذا لما أيقن شك، ولما علم جهل ورغب فيما ينبغي أن يزهد فيه، فأي شكّ مع ذلك يتوهم المتوكّل على اللّه ويدعي منازل الأقوياء الأغنياء باللّه، الشاهدين لمجاري قدر اللّه في تصاريف حكمه، فإذا علم العبد أنه كاذب استكان استكانة الكذابين وتاب توبة المدعين، ولم ينطق بكلام الصادقين ولا يدل إدلال المحبوبين، فيكون تعريف اللّه إياه هذه المعاني تأديباً له ومزيد مثله، وهذا مزيد الناقصين. ما حوّله اللّه من خزانته التي هي في يده إلى خزانته الأخرى التي هي في يد غيره، إذ قد علم أن يده خزانة مولاه، وأنّ ما حوله منها لم يكن له وإنما كان قد استودعه، فحزن وساءه حين استرجع منه ما أودعه وأعاره وأودعها غيره أو دفعها إلى من هي رزقه، وكانت له من قبل، أنّ المتوكل قد علم أن اللّه تعالى، إذا وهب شيئاً من الدنيا للأجسام من الملك وشيئاً من الآخرة من الملكوت وصار ذلك رزقاً للمتوكّل في آخرته، فآثر لضعف يقينه رزق دنياه على رزق آخرته لنقصان زهده، ليس ذلك، إلا للطمع فيه، وفضل الرغبة والشره إذ قد علم أن ما أخذ منه كان وديعة لغيره عنده، فهذه كلها ذنوب عند المتوكّلين موجبات للتوبة والاستغفار عند الموقنين، من قبل أن المتوكّل قد علم أن اللّه إذا وهب شيئاً من الملك في الدنيا للأجسام أو شيئاً من ملكوت الآخرة في القلوب، لم يأخذه أبداً؛ فما كان في الدنيا بقي لصاحبه إلى آخر أثره حتى يفنيه ويبليه، وما وهبه من الآخرة من الإيمان والعلم والعمل لم يأخذه أبداً بل ينميه ويزيده فيه إلى أبد الأبد في دار الأبد، ولكن قد يعير ويستودع من أمور الدنيا وأمور الآخرة، فهذا النوع لا بدّ أن يسترده ويسترجعه في الدنيا لأن حكمته أوجبت ردّه كما أوجب كرمه تبقية ما وهبه، فلا ينبغي للمتوكّل الموقن ما ذكرناه أن يحزنه ما حول اللّه من خزانته التي في يده مما أعاره واستودعه إلى خزانته الأخرى التي هي يد غيره، ممن لعلّه يهبه له أو يبتليه بأحكامه فيه، فيخرج أيضاً من يده إلى يد غيره لأنه ما خرج من الدار شيء، وللّه حكمة وابتلاء في كل شيء؛ فالحزن والأسف على فوت مثل هذا عند العارفين جناية، ومن المؤمنين خيانة، يستغفرون اللّه ويتوبون إليه كما يتوبون من المعاصي، لأنهم قد شهدوا ما بيّناه ولأنه قد أمرهم بترك الأسى على فائت الدنيا وقلة الفرح بما أتى منها، إذ لا بدّ من كونهما لأنه قد علمه وبعد علمه قد كتبه وبعد كتبه قد أعلم به، فكشف لهم اليقين عن الكتاب المستبين؛ أنّ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، فما ظهر من المصائب في الأموال والأنفس فقد سبق قبل خلق الخلق، وهذا قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) الحديد:22، قيل: من قبل أن نخلق الخليقة وقبل أن نبرأ الأرض وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وقيل: من قبل أن نبرأ المصيبة، ثم قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) الحديد:32، فالأسى على فقد الشيء على قدر الفرح بوجوده، أفلا يستحي العبد أن يكون على ضدّ ما أمر به أو بخلاف ما يحبّه منه مولاه؟ فيأسى على ماليس له ويحزن على ما أخذ منه واستودعه، أو يفرح بما ليس له لأنه لا يعلم أنه قد وهب له، فيبقي عليه، أو قد أعيره فيؤخذ منه، فلما استرجعه من يده التي هي يده تعالى قبضه، أيقن أنه لم يكن له وأنه إنما كان وديعة عنده فحزن وساء، فهذا لما أيقن شك، ولما علم جهل ورغب فيما ينبغي أن يزهد فيه، فأي شكّ مع ذلك يتوهم المتوكّل على اللّه ويدعي منازل الأقوياء الأغنياء باللّه، الشاهدين لمجاري قدر اللّه في تصاريف حكمه، فإذا علم العبد أنه كاذب استكان استكانة الكذابين وتاب توبة المدعين، ولم ينطق بكلام الصادقين ولا يدل إدلال المحبوبين، فيكون تعريف اللّه إياه هذه المعاني تأديباً له ومزيد مثله، وهذا مزيد الناقصين.(1/419)
والمعاملة الخامسة أن يكون له بكل درهم تلف سبعمائة درهم، كأنه قد أنفقه في سبيل اللّه، حسب له ذلك لأنه قد كان نواه، وكذلك إن لم يؤخذ ما في بيته استنباطاً من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها: إنّ له أجر غلام ولد، له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل اللّه، وإن كان لم يولد له فقال: أنت تخلقه، وأنت ترزقه إليك، محياه إليك، مماته أقرها قرارها ولك ذلك.
والمعاملة السادسة أن لا يأثم أخوه الذي أخذ رحله إن كان قد جعله صدقة عليه، فيؤجر أجراً ثانياً لإشفاقه على أخيه، وحسن نظره للعصا من حيث لا يعلمون تخلقاً بأخلاق مولاه، وينال بعفوه عن ظالمه درجة المحسنين، ويتحقّق بمقام المتّقين ويكون ممّن وقع أجره على اللّه، فيخفي له ما لا تعلم نفس من قرة العين ولأنه قد علم كيف جرى الأمر وأنّ الآخذ مبتلي بسوء القضاء، وأنّه قد عوفي إذ لم يكن هو ذلك العبد فيرحم أهل البلاء حينئذ، ويحمد اللّه على ماعافاه فيشغله الشكر للّه عن الدعاء على ظالمه، قال بعض العارفين لبعض أصحابه: لم أسقط أهل المعرفة اللأئمة عن الظالمين لهم فقلت: لاأدري قال: لعلمهم أنّ اللّه قصدهم بذلك وابتلى الظالمين بهم فرحموهم، وذلك داخل في نصر أخيه الظالم لنفسه، وطاعة لأمر رسوله في قوله: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً؛ أي تمنعه عن الظلم فإذا عفا عنه فقد منعه من الظلم، لأنه لو رآه منعه من أخذه أو وهبه له فيقوم عفوه عنه مقام رؤيته.
والمعاملة السابعة تحقّقه في الزهد فيما ذهب، وقال أبو سليمان الداراني لما بلغه عن مالك بن دينار أنه قال للمغيرة: اذهب فخذ تلك الركوة من البيت فلا حاجة لي بها، وكان قد أهداها إليه وقبلها منه فقال: ولِمَ؟ قال يوسوس إلى العدوّ أنّ اللص قد أخذها وكان مالك لا يغلق بابه إنما كان يشدّه بشريط وكان يقول: لولا الكلاب ما شددته أيضاً، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف قلوب الصوفيين، هو قد زهد مني الدنيا فما عليه بمن أخذها، وهذا كما قال أبو سليمان: لأن الزهد إذا صحّ دخل الرضا فيه، ولقول مالك أيضاً وجه كأنه كره أن يعصي اللّه به، فيكون هو سبب معصية اللّه، ولكن قول أبي سليمان أعلى لأجل التوكّل والرضا، وهذا الذي ذكرناه من ذهاب ما في البيت هو لكل من ذهب له مال في سفر أو حضر، ولكل من أصيب بمصيبة في نفس أو أهل هذه المعاملات كلها إذا اعتقدها بقلبه وكانت في خلده ووجده، وإن لم ينطق بها أو يظهرها: فأكثر الناس إيماناً وأحسنهم يقيناً أقلهم غمّاً وأيسرهم أسى على ما فات من الدنيا، وأحسنهم رضا وأنفذهم شهادة من رأى أن ذلك نعمة أوجبت عليهم شكراً، وأقل الناس إيماناً وأضعفهم يقيناً أشدهم أسى وأكثرهم غمّاً على ما فات، وأطولهم شكوى وأقلّهم شكراً، فالمصائب محنة تكشف الزهد في الدنيا والرغبة، ألم تسمع إلى الحديث الذي جاء فيه هذا الدعاء: وأسألك من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، فشدة الغمّ على فوت الدنيا دليل على حبّها وعلامة ضعف اليقين بمحبوبه وسهوله الغمّ على فوتها دليل على الزهد فيها وقوة اليقين بربّه، فإن وجد المتوكل رحله بحاله لم يضرّه بتبقيته شيء وكان له أحر ما قد نوى من المعاملات، ولا أعلم هذا القول واعتقاده عند خروج العبد من منزله أو تركه لرحله أو خروجه في سفر ينفعه شيئاً ولا يضرّه، ولا يقدم ضياع شيء حكم اللّه ببقائه له ولا يؤخر ترك العقد لهذا تبقية ما حكم اللّه بذهابه، ومع ذلك فيكون له حال من التوكل ومقامات في المعاملات إلاّ شيئاً واحداً من باب نقصان الدنيا من طريق الورع، فإنه ينقصه وهو أنّه إن أخذ ما توكّل على اللّه فيه، وفوّض إليه أمره به، ثم ردّ عليه، لم يستحبّ له في الورع أن يتملّكه، ولا أن يرجع فيه في حسن الأدب، لأنه قد كان جعله صدقة في سبيل اللّه، فإن رجع فيه لم ينقص ذلك توكله، لأنه قد صحّ تفويضه إلى الوكيل في الخالين معاً، فيكون ردّه عليه لأنه قد كان وهبه له بمنزلته ابتداء عطاء منه.(1/420)
وقد روينا أنّ ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا، ثم قال: في سبيل اللّه، فدخل المسجد وصلّى ركعتين فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنّ ناقتك في مكان كذا، فلبس نعله وقام ثم نزعها، ثم قال: أستغفر اللّه، وجلس فقيل له: ألا تذهب فتأخذها فقال: إني قد كنت قلت: في سبيل اللّه، وحدثت عن بعضهم قال: رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت: مافعل اللّه بك؟ فقال: غفر لي وأدخلني الجنة، وعرضت على منازلي فيها فرأيتها، قال وهو في ذلك كئيب حزين فقلت: قد دخلت الجنة وغفر لك وأنت حزين، فتنفّس الصعداء ثم قال: نعم إني لاأزال حزيناً إلى يوم القيامة، قلت: ولم ذلك؟ قال: إني لما رأيت منازلي من الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها، نادى منادٍ من فوقها: اصرفوه عنها فليست هذه له، إنما هذه لمن أمضى السبيل فقلت: وما أمضى السبيل؟ قيل لي: قد كنت تقول للشيء إذا ذهب منك: في سبيل اللّه، ثم ترجع فيه فلو كنت أمضيت السبيل لأمضيناها لك، وقد حدّثونا أن الربيع بن خيتم سرق فرسه وكان ثمنه عشرين ألفاً، وكان قائماً يصلّي فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه فجاءه الناس يعزونه فقال: أما إني قد كنت رأيته وهو يحلّه، قيل: وما منعك أن تزجره؟ قال: كنت فيما هو أحبّ إليّ من ذاك يعني الصلاة قال: فجعلوا يدعون عليه فقال: لا تفعلوا وقولوا خيراً فإني قد جعلتها صدقة عليه، وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له: ألا تدعو على ظالمك؟ فقال: ما أحب أن أكون عوناً للشيطان عليه، قيل: أفرأيت لو ردّت إليك سرقتك أكنت تأخذها؟ قال: ولا كنت أنظر إليها إني قد كنت أحللته منها، وقيل لآخر: أدع اللّه على من ظلمك، قال: ماظلمني أحد ثم قال: إنما ظلم نفسه فلا يكفيه المسكين ظلمه لنفسه حتى أزيده شرّاً، وذهب لبعض المسلمين مال فجاء قوم يعزونه عليه فقال: ما تعزوني على أمر الدنيا، فواللّه ما حزنت على ذهابها فكيف على ذهاب شيء منها قيل: ولِمَ؟ قال: شغلني الشكر عليه عن الحزن، وقد كانوا يقولون: إذا ظلموا من الغصب والسرقة وغير ذلك، هذه نعمة اللّه علينا إذ لم يجعلنا ظالمين مظلومين وجعلنا أعظم مما فاتنا من الظلامة، وقد كان السلف يخافون أن يذكروا الظالم بالسبّ له والدعاء عليه فيكون ذلك زيادة على مظلمتهم.(1/421)
وقد روينا: من دعا على ظالمه فقد انتصر، وأكثر بعضهم بشتم الحجاج عند بعض السلف فقال له: لا تغرق في شتمته فإن اللّه ينتصف للحجاج ممن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله، وفي الخبر أن العبد ليظلم المظلمة، فلا يزال يشتم ظالمه ويسبّه حتى يكون بمقدار ماظلمه، ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتصّ له من المظلوم، وقال بعض العلماء لرجل وقد كان شكا إليه قطع الطريق وأخذ ماله فقال له: إن لم يكن غمك أنّه قد صار في المسلمين من يستحلّ هذا أكثر من غمك بمالك فما نصحت للمسلمين، وسرقت من علي بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن فقال: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا واللّه، ولكن على المسكين، أنه يسأل يوم القيامة بهم ولا يكون له حجة، وقيل لبعضهم في معنى هذا: أدع على من ظلمك، فقال: إني مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه؛ فإن ردّ عليّ المتوكّل كلّ ما أخذ منه فالأفضل له أن لا يتملّكه، إن كان قد جعله في سبيل اللّه ليمضي السبيل، فإن كان قد جعله صدقة على الآخذ نظر في ذلك فإن كان فقيراً حمله فقره على السرقة والخيانة والحاجة أمضى صدقته عليه، وإن كان غير ذلك صرفها إلى فقير، وقد كان بعضهم إذا أخذ له الشيء يشترط فيقول: إن كان فقيراً فهو صدقة عليه، وإن كان محتاجاً فهو في حلّ، وقد أخبرني بعض الأشياخ عن شيخ كان بمكة من العباد أنّه اتهم بعض الحجاج بسرقة هميانه لأنه كان قائماً إلى جانبه، فقال له: كم كان فيه فأخبره، فحمله إلى منزله فوزن له من المال، ثم إنّ أصحابه أعلموه أنهم مزحوا معه وحلّوا هميانه وهو نائم، فجاء هو وأصحابه إليه فردّوا عليه ماله، فقال: ما كانت لتعود إليّ بعد إذ خرجت هي لكم، فقلنا: لاحاجة لنا فيها فقال: خذوها، قال: فأبينا، فقال: يابني، ودعا ابناً له وجعل يصرّها صرراً ويبعث بها إلى قوم حتى فرغ منها، وهذا كانت نيته إخراجها للّه سبحانه فلم يعد فيما أخرجه، كما نقول فيمن أخرج رغيفاً إلى سائل أو أعدّ درهماً لفقير فلم يصادفه: إنّا نستحب أن لا يرجع إلى ملكه بل يعزله لسائل آخر أو فقير غيره، لم يزل هذا من أخلاق المؤمنين، وقد رأينا من كان بهذا الوصف وهذا طريق قد عفا أثره ودرس خبره، فمن عمل به فقد أحياه وأظهره وقد كان قديماً طريقاً إلى اللّه تعالى عليه السابلة من الأولياء.
ذكر بيان آخر من أحكام المتوكّل(1/422)
اعلم أنّ التوكّل على اللّه في الأسباب لا يوجب بقاءها للعبد ولا إيثاره بها ولا حفظها عليه، ولا يقدم شيئاً عن شيء ولا يؤخّره لصلاح دنيا أو اختيارعبد، بل هو إلى الإذهاب والإتلاف أقرب لأن التوكّل قرين الزهد، هكذا هو عند الخصوص ولأجل اختيار العبد وتحقيق صدقه محنة له، ولأجل مَنْ نفي الشيء من الدنيا، قال اللّه سبحانه وتعالى: (فَمَا أُوتيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتَاعُ الْحَياةِ) الشورى:36 فإن ذهب ماله فصبر أو شكر أو رضي، كان صادقاً في توكله، وهذه أحوال المتوكلين في التوكّل إن كانوا صادقين، وإن عجز واضطرب كان كاذباً في توهّمه للتوكّل ويلزمه من مجاهدة النفس عند اضطرابها بعد عدم الأشياء ما يلزمه من مجاهداتها ونفي الآفات في سائر الأعمال، فإن حفظ عليه ماله فقد رفق به في ذ لك وستر عليه عن كشف حقيقة حاله بتلف ذلك، وجعلت كرامة من الدنيا له ليطمئن بذلك في حاله ويسكن به قلبه في طريقه، وهذا مقام الضعفاء، وإن نقص من الدنيا فقد أقيم مقام أهل البلاء، الأمثل فالأمثل بالأنبياء، ولولا الامتحان لكثر الصادقون وكذلك التوكل على اللّه في ترك الدواء لا يجلب العوافي ولا يعجلها، ولا ينقص من الأمراض ولا يذهبها، بل هو إلى الازدياد منها أقرب للتمحيص والابتلاء، ومنه قوله عزّ وجلّ: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرينَ) آل عمران:141، فمن لم يشهد نقصان الدنيا من النفس والمال نعمة توجب عليه الشكر، ويرى المنع عطاء فقد جهل تلك النعمة بإضاعة شكرها، فما فاته من جهل النعمة، وترك الشكر، أعظم مما يترك من جميع الدنيا، وأخاف عليه لطيفة من المحق، والمحق نقصان الشيء إلى ذهاب جملته عند الكفر بنعمته لقوله تعالى: ويمحق الكافرين فاللّه أعلم أي شيء يمحقه وينقصه، بمقدار ما كفر شكر نعمته، وقد قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ) البقرة:155 فهذا النقص من هذه الخمس التي المزيد منها هو جملة الدنيا، هو المزيد من الآخرة لا ضد الدنيا كما قال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّّلُونَ) الشورى:36 فصبروا على مصائبهم توكّلاً على ربّهم، ثم توكّلوا رهم لشهادة وكيلهم ولحسن ظنّهم به، ثم صبروا على توكّلهم لتمام حالهم، ويعلو بذلك فيه مقامهم: فالصبر أول مقام في التوكّل وهو عند مشاهدة القضاء بلاء، والشكر أعلى من ذلك هو شهود البلاء نعمة، والرضا فوق ذلك كلّه وهو أعلى التوكّل وهو مقام المحبين من المتوكّلين، قال اللّه عزّ وجلّ في وصف عموم المتوكلين: (وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) القصص:60، فمن اتّقى اللّه وعقل خطابه توكّل عليه فيما أصابه، فلم ييأس على ما فات ولم يفرح من الدنيا بما هو آت وهذا أوسط الزهد وأوّل التوكّل، وقال تعالى في وصف الخصوص: (وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى:36 فأهل العقل عن اللّه والمتقون له هم المتوكلون عليه، وقد زهدهم فيما يفنى برغبته إياهم فيما يبقى حين فهموا الخطاب، إذ هم أولو الألباب وذلك أنه أضاف ما عنده إليه ووصفه بالبقاء ليرغبوا فيه، لأنهم قد توكّلوا عليه وأضاف ما عندهم إليهم ليزهدوا فيه، ووصفه بالفناء لأنهم قد زهدوا في نفوسهم، إذ قد باعوها منه، فكيف يتملكون ماعندها؟ والعبد وماله لسيده وهو تعالى قد اشتراها منهم لرغبتهم فيه، وعوّضهم منها ما يبقى لهم فقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّهِ بَاقٍ) النحل:96
ذكر بيان آخر من فضيلة المتوكّل(1/423)
اعلم يقيناً أن اللّه تعالى لوجعل الخلائق كلّهم من أهل السموات والأرضين على علم أعلمهم به، وعقل أعقلهم عنه وحكمة أحكمهم عنده، ثم زاد كلّ واحد من الخلائق مثل عدد جميعهم وأضعافه علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم العواقب وأطلعهم على السرائر وأعلمهم بواطن النَّعم، وعرّفهم دقائق العقوبات وأوقفهم على خفايا اللطف في الدنيا والآخرة، ثم قال لهم: دبّروا الملك بما أعطيتكم من العلوم والعقول عن مشاهدتكم عواقب الأمور، ثم أعانهم على ذلك وقواهم له، لما زاد تدبيرهم على ما يراه من تدبير اللّه تعالى من الخير والشر والنفع والضرّ جناح بعوضة، ولا نقص جناح بعوضة ولا أوجبت العقول المكاشفات ولا العلوم المشاهدات غير هذا التدبير، ولا قضت بغير هذا التقدير الذي يعاينه ويقلب فيه، ولكن لا يبصرون لأنه أجراه على ترتيب العقول وعلى معاني العرف والمعتاد من الأمور، بالأسباب المعروفة والأواسط المشهورة على معيار ما طبع العقول فيه وجبل العقول عليه، ثم غيّب مع ذلك العواقب وحجب السرائر وأخفى المثاوب، فغاب بعينها حسن التدبير وجميل التقدير فجهل أكثر الناس الحكم إلا المتوكلين وما يعقلها إلا العالمون، ويقال: أصغر ماخلق اللّه من الحيوان والموات البعوضة والخردلة، وفي كل واحدة منها ثلاثمائة وستون حكمة، ثم يتزايد الحكم في المخلوقات على قدر تفاوتها في العظم والمنافع ومزيد آخر من الهدى، والبيان لو تمنّى أهل النهي من أولي الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب نهاية أمانيهم، فكوّنت أمانيهم على ما تمنوا لكان رضاهم عن اللّه في تدبيره ومعرفتهم بحسن تقديره لهم، خير لهم من كون أمانيهم، وأفضل لهم عند اللّه من قبل إن اللّه، أحكم الحاكمين، وقال تعالى موبخاً للإنسان مجهلاً للتمني لقلة الإيقان: (أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنّى) (فَلِلّهِ الآخِرَةُ وَالأُولى) النجم:24 - 25 أي يحكم فيهما بترك الأماني لأنه قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَواتُ وَالأَرْضُ ومَنْ فيهِنَّ) المؤمنون:71 فالمتوكّل محبّ للّه تعالى مسرور بربّه فرح له بملكه، بأنّ له الآخرة والأولى يحكم فيهما كيف شاء، والعبد عاجز لا يقدر على شيء،فهذا أوّل مقام في المحبة، فقد كفى الخلائق هذا كله بحسن تدبير الخالق العليم الخبير البصير، وإنما يحتاجون إلى معرفة بالحكمة ومشاهدة للحكم والرحمة، وإلى بصيرة ويقين يسكن عندها قلوبهم ولا يضطرب، هذا الذي ذكرناه عند الموقنين وستطلع العموم على سرّ ما ذكرناه من لطيف التدبير وباطن التقدير، وهو سرّ القدر ولطائف المقدّر في الآخرة عند المعاينة، وقد كشف الغطاء وظهر ما تحته من عجائب الخبء في السموات والأرض، وقد أطلع اللّه على ذلك العلماء به في الدنيا وهو محمود مشكور على ما أظهر وأخفى، ففي كلّ واحد منهما نعمة، ومع كل واصف منها حكمة ورحمة، ولكن قد خلق اللّه العلماء بأخلاقه فليس يكشفون من علمه إلا بقدر ما كشف، وليس يعرفون من سرّ قدره إلا بمعيار ما عرف، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عندنا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنْزِّلَهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحجر:21 فقد تأدبوا بهذا الخطاب ووقفوا عنده، وقال أبو سليمان الداراني: إذا لاحظت الأشياء من فوق وجدت لها طعماً آخر، وقال بعض العارفين: إذا رأيت الأشياء كلها كشيء واحد من معدن واحد، رأيت ما لم تسمع وفهمت ما لم تفهم الخلق، وقال بعضهم: لا ترى العجب حتى ترى عجباً فإن لم ترَ عجباً رأيت العجب.
ذكر بيان آخر من وصف المتوكّلين(1/424)
اعلم أن العلماء باللّه سبحانه؛ لم يتوكّلوا عليه لأجل أن يحفظ لهم دنياهم، ولا لأجل تبليغهم مرادهم، ولا ليشترطوا عليه حسن القضاء بما يحبّون، ولا ليبدّل لهم جريان أحكامه عمّا يكرهون ولا ليغيّر لهم سابق مشيئته إلى ما يعقلون، ولا ليحوّل عنهم سنّته التي خلت في عباده من الابتلاء والاختبار، هو أجلّ في قلوبهم من ذلك وهم أعقل عنه وأعرف به من هذا، لو اعتقد عارف باللّه أحد هذه المعاني مع اللّه في توكّله كان كبيرة توجب عليه التوبة وكان توكّله معصية، وإنما أخذوا نفوسهم بالصبر على أحكامه كيف جرت، فطالبوا قلوبهم بالرضا عنه كيف جرت، وقال رجل لمالك بن أنس: يا أبا عبد اللّه، إني تعلقت بأستار الكعبة فتبت من كلّ ذنب وحلفت أن لا أعصي اللّه فيما أستقبل، فقال له: ويحك، ومن أعظم معصية منك تتألى على اللّه أن لا ينفذ حكمه فيك، وأنشدنا بعض العلماء لبعض الحكماء:
لما رأيت القضا جارياً ... لا شك فيه ولا مرية
توكلت حقّاً على خالقي ... وألقيت نفسي مع الجرية(1/425)
وإنما كرهو ما كره اللّه طاعة للّه، فذلك كراهة ما كره حبّاً للّّه واكتراماً لحكمه عليهم، لاكراهة ما قضى إذ ليس لهم أن يقولوا: فلم قضيت ما تكره ولِمَ كرهت ما قضيت؟ هو أجلّ وأعظم، وفي نفوسهم أخوف وأهيب أن يواجهوه بهذا الخطاب في قول أو عقد، بل عرفوا حكمته فيه وصبروا على حكمه به، وإنّما توكّل العلماء به عليه لأجل أنه يحبّ المتوكّلين ولأجل أنه يستحقّ التفويض إليه ويستوجب التسليم له، إذ كان هو الوكيل الأوّل والكفيل الآجلّ حين سمعوه يقول: واللّه على شيء وكيل، ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وحين فقهوا قوله: ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون، ولما عقلوا من خطابه: أليس اللّه بأحكم الحاكمين أو لأجل أنه أمر بالتوكّل، وندب إليه وحقق الإيمان به؛ إذ سمعوه تعالى يقول: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أمن يملك السمع والأبصار ومن يدبر الأمر؟ وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها، وفي السماء رزقكم، وما توعدون، ثم أقسم عليه بنفسه أنه حقّ فتوكّلوا عليه إستحياءً، منه ولوجود اليقين الذي رفع خفايا الشكّ وحذّر من التهمة له وتوثقة بالاعتقاد عليه؛ فمنهم من توكّل عليه لأجل هذه المعاني كلها، ومنهم من توكل عليه لمشاهدة بعضها فكل عبد توكّله عن الوصف الذي به عرفه، وكلّ عرفه عن العذر المتجلي الذي عرفه؛ فكلّ يطيعه على قدر قربه منه، وكلّ يقرب على قدر علمه بقربه منه بقدر مايعرف من كينونية في مكنون كأنه، وكلّ بعلمه على قدر عنايته به ومن ورائه سرّ القدر، فمشاهدة كلّ عبد من مقامه وحاله عن وجد شهادته وجزاؤه نحو معاملته، واللّه يضاعف لمن يشاء هم درجات عند اللّه، واللّه بصير بما يعملون، لهم دار السلام عند ربهم وهو وليّهم بما كانوا يعملون، فدار السلام جامعة لهم وهم متفاوتون في درجاتها كدار الدنيا تجمعهم، وهو يرفعهم لديه في ملكوتها بتخصيص التولي وحسن الولايات عن تحسين المعاملات، اللّه يجيبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، ومن الخصوص من توكّل عليه تعظيماً له وإجلالاً، ومنهم من توكّل عليه يقيناً بوعده ليحقّق صدقه كأنه قد أخذ الموعود بيده إذ يقول تعالى: ومن أوفى بعهده من اللّه أنّه كان وعده مأتياً، ومنهم من توكّل عليه استسلاماً لما شهد من قهر عزّه وعظيم قدره، ومنهم من توكّل عليه ليحفظ عليه ماله فيه، ومنهم من توكّل عليه ليحفظ له ما استحفظه ويعصمه في ماله عليه، ومنهم من توكّل عليه لقيامه بشهادته عن حسن معرفته، ومنهم من توكّل عليه تسليماً له عن جميل معاملته، ومنهم من فوّض إليه لحسن تدبيره عنده وبحكم تقديره، ومنهم من توكّل عليه لأن توحيده له وشهادة قيوميته، ذلك يقتضيه، فهذه كانت مواجيد أوليائه ومناهج أحبابه عن مشاهدة القرب ومعرفة القريب، وبعضهم أعلى مقاماً من بعض، وبعض هذه المشاهدات أقرب وأرفع فأعلاها من توكّل عليه للإجلال والتعظيم، وأوسطها من توكّل عليه للمحبة والخوف، وأدناها من توكّل عليه تسليماً له وتحبباً إليه، وقد ذكرنا أيضاً من توكّل العموم ما يستحي العارفون من ذكره، وينزّهون قلوبهم عن فكره، وهو التوكّل عليه في القلوب، وقد طوينا ذكر توكل خصوص الخصوص من صديقي المقربين لأنه لا يحتمله عقل عاقل ولا يسع أن يستودع في كتاب الناقل إذ ربما نظر فيه منكر جاهل، واللّه المستعان فدخل من عرفه فيما يحبّ لأجله، ورغبوا فيما مدح لوصفه ليحصل لهم وصف يعطيهم به الولي حسن ثناء، ينالون بذلك قربة منه ومحبة لديه.
ذكر بيان آخر في التوكّل(1/426)
وما لا ينقص المتوكل ولا ينقص المتوكل على اللّه سبحانه مسألة مولاه فيما أحب من صالح الدنيا ومزيد الآخرة، إذ لم يقصد غير مطلوب، وكان مفوضاً إلى اللّه الأمور، ولكن يحتاج إلى معرفة الإجابة؛ فقد يكون المنع إجابة وقرباً إذا كان العطاء شغلاً عنه، وبعد الآن الخيرة فيما لا يعلم العبد، وقد يكون فيما يكره مما يعلم اللّه سبحانه حسن عاقبته، لا فيما يعقل العبد عاجل منفعته، فعليه التسليم لحكم الحاكم والرضا بقسم القاسم، فإن سأل تكاثراً من الدنيا، أو مالاً يحتاج إليه، وما ليس فيه صلاح قلبه، ولا قربة إلى ربّه، أخرجه من حقيقة التوكل بمقدار ما يخرجه من الزهد؛ وإن انقطع بالذكر عن المسألة أعطاه فوق عطاء من سأله، وإن سكت حياء من الوكيل إذ هو حسبه فشهد الكفاية ورضي بجميع التصرف، فهذا مقام من المواجهة عن مشاهدة القيومية وهو حال المقربين، ولا يقدح في التوكل تشرّف المتوكل إلى رزقه لأنه خلق ضعيفاً ذا فاقة، ورزقه معلوم لا بدّ منه، والمعلوم مقسوم فتشرّفه إلى القسم تشرّف منه إلى القاسم، ومن تشرّف إلى مولاه شرّفه وتولاه، ولكن إن تشرّف إلى الزيادة، وخرج من القناعة، وطلب العادة، وأراد الشيء قبل وقته، أو كره تأخره عنه إلى وقت مقدوره، فإنّ هذا يقدح في توكله وينقص من زهده، ولو كان الشرف إلى الرزق منها والتطلع إلى الرزق مجملاً ينقص التوكل لعللنا من باع واشترى وجهلنا من تعالج من علله بالدواء، لأن في ذلك تشرّفاً إلى الرزق وتطلعاً إلى البرء، فجاء من ذلك تضعيف التابعين وطعن على المتداوين من الصحابة والسلف الصالح، وأخرجهم ذلك من التوكل والزهد، فلهم منها مقامات، ولا يخرجه من التوكل مطالعته للعوض على معاملته من جزاء الآخرة، لأنّه قد شوّق إلى ذلك وندب إليه، ولكن لا يدخله ذلك في حقيقة الإخلاص ولا يرفعه إلى علو درجة الصدّيقين من المتوكلين، وقد يكون مزيداً على قدر حاله، إلاّ أنه لا يدخله في إخلاص المحبين، ولايرفعه في درجات المقربين، ولا يصح التوكل إلاّ بزهده في الدنيا، وأول الزهد ترك الرغبة في الحرام، وأول أحوال المتوكل في القوت ثم الصبر على حكم الحيّ الذي لا يموت، وأعلى التوكل التوكل عليه في الاستسلام للأحكام والرضا عنه في المسابقة بين الأقدام، وهو إطراح النفس ونسيانها شغلاً منه عنها بنفسها وحبّاً له، وحقيقة التوكل بعد مشاهدة يد الوكيل، فإذا ظهرت يده غابت الأيدي فيها، فعندها توكلت عليه بتدلل فقبل توكلك، واستسلمت إليه فسلمك، فإنه يتجلّى لك بوصف يلزمك حكماً، يضطرك الحكم إلى الحاكم ويوقفك الوصف على الوكيل، كما يضطرك الحاكم إلى الحكم ويجري لك وعليك ماشاء من القسم، فأعلى توكلك عليه حياءً منه، وإشهاده إياك توكله لك بحسن التدبير، لم يكلك إلى سواه ولم يولك إلا إياه: فإمّا أن يقتضيك تصبراً له، وإما أن يقتضيك تفويضاً إليه، وأما أن يقتضيك رضا عنه أو تسليماً له أو استراحة من تدبيرك لنفسك، أو يسقط عنك اهتمامك بتقديرك وأمانيك، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه، والحسب أي الحسب يجعله ما شاء كيف شاء، فقد قيل: حسبه أي التوكل، وقد قيل: التوكل حسبه من سائر المقامات، وقيل: اللّه حسبه أي يكفيه ممن سواه، قال تعالى معرفاً للكافة مسلياً للجماعة: (إنَّ اللَّّه بَالِغُ أمْرِهِ) الطلاق:3؛ أي منفذ حكمه فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلاّ أنّ من توكل عليه يكون اللّه حسبه أي يكفيه أيضاً مهم الآخرة والدنيا، ولا يزيد من لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسمه، كما لا ينقص من توكل عليه ذرة من رزقه، لكن يزيد من توكل عليه هدى إلى هداه ويرفعه مقاماً في اليقين على تقواه، ويعزه بعزه وينقص من لم يتوكل عليه من اليقين، ويزيده من التعب والهم ما يشتت قلبه ويشغل فكره، والمتوكل عليه يوجب له بذلك تكفير سيّئاته، ويلقي عليه رضاه ومحباته، والكفاية فقد ضمنها تعالى لمن صدق في توكله عليه، والوقاية فقد وهبها لمن أحسن تفويضه إليه، إلا أن الاختيار وعلم الاستئثار إليه والكفاية والوقاية يجعل ذلك ما شاء كيف شاء وأين شاء ومتى شاء من أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن حيث لا يعلم لأنّ العبد موجود، فجرى عليه الأحكام في الدارين، وفقير محتاج إلى اللطف والرحمة والرفق في المكانين، واللّه هو الغني الحميد المبدئ المعيد، وقيل لأبي محمد سهل: متى يصح للعبد(1/427)
التوكل؟ فقال: إذا علم أن تدبير مولاه له خير من تدبيره لنفسه، فإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه، فيترك التفكر فيما كان والتمني لما يكون، فيترك التدبير وللّه عاقبة الأمور وهو على كل حال محمود شكور.كل؟ فقال: إذا علم أن تدبير مولاه له خير من تدبيره لنفسه، فإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه، فيترك التفكر فيما كان والتمني لما يكون، فيترك التدبير وللّه عاقبة الأمور وهو على كل حال محمود شكور.
ذكر أحكام مقام الرضا
الرضا عن اللّه سبحانه وتعالى من أعلى مقامات اليقين باللّه، وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاّ الإحْسَانُ) الرحمن:60، فمن أحسن الرضا عن اللّه جازاه اللّه بالرضا عنه، فقابل الرضا بالرضا، وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء، وهو قوله عزّ وجلّ: (رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) التوبة100 وقد رفع اللّه الرضا على جنات عدن، وهي من أعلى الجنات، كما فضل الذكر على الصلاة فقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ) التوبة:27 كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ) العنكبوت:45 والذكر عند الذاكرين المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة وهو أحد الوجهين من الآية، والوجه الثاني ذكر اللّه للعبد أكبر من ذكر العبد للّه، وقال أبو عبد اللّه الساجي: من خلق اللّه عباد يستحيون من الصبي يتلقفون مواقع أقداره بالرضا تلقّفاً، وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء، فالراضون عن اللّه عزّ وجلّ هم الذاكرون للّه بما يحب ويرضى، فالراضون الأكبر جزاء أهل الذكر الأكبر، وهذا أحد المعاني في قوله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين؛ أي الرضا عنه، لأن السائلين يسألونه لهم فأعطاهم العفو، والذاكرون ذكروه فأعطاهم الرضا عنه عزّ وجلّ، ويكون أيضاً معناه: أعطيته النظر إليّ لأن الذكر يدخل في المشاهدة، فقابل النظر إليه اليوم بالنظر إليه غداً كما قابل الوصف بالوصف في قوله عزّ وجلّ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) عبس:38 - 39 وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يتجلى لنا ربنا ضاحكاً، والذكر قرب السمع.(1/428)
والسمع يخرج إلى النظر، والرضا هو حال الموفق، واليقين هو حقيقة الإيمان، وإلى هذا ندب النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس في وصيته له فقال: إعمل للّه باليقين في الرضا، فإن لم يكن فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، فرفعه إلى أعلى المقامات ثم ردّه إلى أوسطها، كذلك قال لابن عمرو: اعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فند المشاهدة وهو الإحسان لأنه سُأل: ما الإحسان؟ قال: تعبد اللّه كأنك تراه، ثم ردّه إلى الصبر والمجاهدة وهو الإيمان، وهذا مكان العلم بأنّ اللّه يراه، وليس بعد هذا مكان يوصف، وقد رفع اللّه تعالى الرضا منه فوق ما أعطي من النظر، ففي الخبر أنّ اللّه تعالى يتجلّى للمؤمنين فيقول: سلوني، فيقولون: رضاك، فسؤالهم الرضا بعد النظر تفضيل عظيم للرضا، ولأن بالرضا دام لهم النظر لما كان الرضا موجب النظر، سألوا دوام الرضا ليدوم القرب والنظر، فسألوه تمام النعمة من حيث بدايتها، ولا يصلح أن يظهر في معنى قولهم: رضاك أكبر من هذا، ولا يرسم في كتاب حقيقة الأمر لأنّه على كشف وصف من صفات الذات، يوجب على العبد هيبة الربوبية، وخوف هذا عن القلوب محجوب وحكمة من سرائر الغيوب، وهذا في الدنيا ثواب لأهل الخشية عن معرفة خاصية، قال اللّه سبحانه:(رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة:8، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وَلَدَيْنَا مَزيدٌ) ق:35 قال: يأتي أهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب العالمين: أحدها هدية من عند اللّه ليس عندهم في الجنان مثلها، وذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) السجدة: 17والثانية السلام عليهم من ربّهم فيزيد ذلك على الهداية، فهو قوله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحيمٍ) يس:58 والثالثة يقول اللّه تعالى إني عنكم راض فيكون ذلك أفضل من الهدية ومن التسليم، فذلك قوله تعالى:(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ) التوبة:72 من النعيم الذي هم فيه، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لطائفة من المؤ منين: ماأنتم؟ قالوا نحن المؤمنون، فقال: ماعلامة إيمانكم قالوا: نصبر عند البلاء ونشكر عند الرضا ونرضى بمواقع القضاء، فقال: مؤمنون ورب الكعبة، وفي خبر آخر أنّه قال: حلماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، فشهد لهم بالإيمان بعد وصف الرضا، وكذلك جعل لقمان الحكيم الرضا من شرط الإيمان لايصلح إلا به، فقال في وصيته: للإيمان أربعة أركان لا يصلح إلا بهنّ، كما لا يصلح الجسد إلاّ باليدين والرجلين: ذكر منها الرضا بقدر اللّه وحدثونا في الإسرائيليات أنّ عابداً عبد اللّه دهراً طويلاً، فرأي في المنام فلانة الراعية رفيقتك في الجنة، فسأل عنها إلى أن وجدها، فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة، ويظل صائماً وتظل مفطرة، فقال: أما لك عمل غير مارأيت؟ قالت: ما هو واللّه إلاّ مارأيت، لا أعرف غيره، فلم يزل يقول: تذكري حتى قالت: خصيلة واحدة هي فيَّ، إن كنت في شدة لم أتمنَّ في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمنَّ أني في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمنَّ أني في الظل قال: فوضع العابد يده على رأسه فقال: أهذه خصيلة؟ هذه واللّه خصلة عظيمة يعجز عنها العبد، وقد روينا عن ابن مسعود: من رضي بما ينزل من السماء إلى الأرض غفر له، وقال أبو الدرداد: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر.(1/429)
وروي عن محمد بن حويطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: من خير ما أعطي العبد الرضا بما قسم اللّه له، وفي الخبر المشهور: طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به، وفي مثله أيضاَ من رضي من اللّه عزّ وجلّ بالقليل من الرزق رضي اللّه منه بالقليل من العمل، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً: من طرق أهل البيت إذا أحب اللّه عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه، فالرضا عن اللّه عزّ وجلّ والرحمة للخلق وسلامة القلب والنصيحة للمسلمين وسخاوة النفس مقام الأبدال من الصدّيقين، وقد روينا في أخبار موسى عليه السلام أنّ بني إسرائيل قالوا: سل ربّك أمراً إذا فعلناه يرضى به عنا، قال موسى: إلهي قد سمعت ما يقولون، فقال: يا موسي قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم، ويشهد لهذا الخبر المروي عن نبينا صلى الله عليه وسلم: من أحبّ أن يعلم ما له عند اللّه فلينظر ما للّه عنده، فإن اللّه ينزل العبد منه بحيث أنزله من نفسه، وقد روينا حديثاً حسناً كالمسند عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك: إذا كان يوم القيامة أنبت اللّه لطائقة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا قال: فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً فيقولون: هل جزتم الصراط فيقولون: ما رأينا الصراط فيقال لهم: رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً فتقول الملائكة: من أمة مَنْ أنتم؟ فيقولون مِنْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: نشدناكم اللّه، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا اللّه هذه المنزلة بفضل رحمته فيقولون: وما هما؟ فيقولون كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم اللّه لنا، فتقول الملائكة: يحقّ لكم هذا، هكذا كان في كتاب شيخنا عن أنس، وقال فيه لطائفة من أمتي ففيه دليل على المسند، وقد جاء الأثر: من رضي من اللّه بالقليل من الرزق رضي اللّه عنه بالقليل من العمل، وقال بعض علمائنا: أعرف في الموتى عالماً ينظرون إلى منازلهم من الجنان، في قبورهم بغدى عليهم ويراح من الجنة بكرة وعشيًّا، وهم في غموم وكروب في البرزخ، لو قسمت على أهل البصرة لماتوا أجمعين، قيل: وما كانت أعمالهم؟ قال: كانوا مسلمين، إلا أنهم لم يكن لهم التوكل ولا من الرضا نصيب، وقد جاء في فرض الرضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوا اللّّه الرضا من قلوبكم تطفروا بثواب فقركم، وإلا فلا، وقرن لقمان الرضا بالتوحيد فقال في وصيته لابنه: أوصيك بخصال تقرّبك إلى اللّه وتباعدك من سخطه: الأولى تعبد اللّه لا تشرك به شيئاً، والثانية الرضا بقدر اللّه فيما أحببت وكرهت، وقال في وصيته: ومن يتوكل على اللّه ويرضى بقدر اللّه فقد أقام الإيمان وفرغ يده ورجليه لكسب الخير، وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره، فمن الرضا سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا وقناعة العبد بكل شيء، واغتباطه بقسمة ربه وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلام العبد للمولى في كل شيء ورضاه منه بأدنى شيء وتسليمه له الأحكام والقضايا باعتقاد حسن التدبير وكمال التقدير فيها، ولتسليم العبد إلى مولاه ما في يديه رضا بحكمه عليه، وإن لا يشكو الملك السيد إلى العبد المملوك ولا يتبرّم بفعل الحبيب، ولا يفقد في كل شيء حسن صنع القريب، ومن الرضا أن عند أهل الرضا لا يقول العبد: هذا يوم شديد الحرّ ولا هذا يوم شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء، ومحنة والعيال همّ وتعب، والاحتراف كدّ ومشقّة، ولا يفقد بقلبه من ذلك ما لا يغرّه به بل يرضي القلب ويسلم ويسكن العقل، ويستسلم بوجود حلاوة التدبير واستحسان حكم التقدير، كما قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في انتظار مواقع القدر، وقال ابن مسعود: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيّهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البدل، وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: إنّ فلاناً قال: وددت أنّ الليل أطول مما هو فقال:قد أحسن، وقد أساء، أحسن حيث تمنى طوله للعبادة وأساء إذا لم يحبّ ما لم يحب اللّه.(1/430)
وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء، وقال ذات يوم لامرأته عاتكة وقد غضب: واللّه لأسوءنك: فقالت أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد أن هداني اللّه له؟ قال: لا، قالت: فأي شيء تسوءني إذاً، وقال جعفر بن سليمان الصنعي قال سفيان الثوري يوماً عند رابعة: اللّهم ارضَ عنا، فقالت: أما تستحي من اللّه أن تسأله الرضا وأنك غير راضٍ عنه؟ فقال: أستغفر اللّه، قال جعفر فقلت لها: متى يكون العبد راضياً عن اللّه تعالى؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة، وقال فضيل بن عياض: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي، وفي أخبار داود: ما لأوليائي والهمّ بالدنيا، إنّ الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، وفي بعضها: يا داود، إياك والاهتمام بالدنيا، محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمّون، إياك والغم ّولاتهتم للخير وأنت تريدني، ويقال: أكثر الناس همًّا في الدنيا أكثرهم همًّا في الآخرة،وأقلّهم همًّا في الدنيا أقلّهم همًّا في الآخرة، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن، واعلم أنّ الفرح بالدنيا يخرج همّ الآخرة من القلب، والغمّ على الدنيا يحجب عن الحزن على فوت الآخرة، وذكر عند رابعة عابد له عند اللّه منزلة، وكان قوته ما يقمم من منزلة لبعض ملوكهم فقال رجل عندها: فما يضر هذا إذا كانت له عند اللّه منزلة أن يسأله، فيجعل قوته في غير هذا فقالت له: اسكت يا بطال، أماعلمت أنّ أولياء اللّه هم أرضى عنه أن يتخيروا عليه إن ينقلهم من معيشة حتى يكون هو الذي يختار لهم، وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: إنّ اللّه تعالى من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت: وكيف ذلك؟ قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قلت: نعم قال: فإن محبة اللّه من عبيده أن يرضوا عنه، وقال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سليمان، نعم الرب ربنا لو أطعناه ما عصانا، وقال اللّه عزّ وجلّ في معناه: (وَيَسْتَجيبُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّاِلحَاتِ) الشورى:26، أي يعطيهم ويستجيب لهم، والاستجابة الطاعة كقوله تعالى: (فَلْيَسْتَجيبُوا لي) البقرة: 186، فلما استجابوا له استجاب لهم، أطاعوه فيما أحبّ فأطاعهم فيما يحبون، وهذا أحد وجهي الآية كقوله تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة:40 وهو على تأويل من قرأ: هل يستطيع ربك أن يطيعك؟ قال ابن عباس: كان الحواريون أعلم باللّه أن يشكوا أنّ اللّّه يقدر على ذلك، وإنّما معناه: هل يستطيع أن يطيعك؟ وروينا أيضاً عن عائشة مثله، وقال الفضيل: من أطاع اللّه تعالى أطاعه كل شيء، ومن خاف من اللّه خاف منه كل شيء، وفي أخبار موسى عليه السلام يا رب دلّني على أمر فيه رضاك حتى أعمله، فأوحى اللّه تعالى إليه إنّ رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره، قال: يا رب دلني عليه قال: فإن رضاي في رضاك بقضائي، وقد يروى على وجه آخر أن بني إسرائيل سألوا موسى فقالوا: لو علمنا في أي شيء رضا ربنا لفعلناه، فأوحى اللّه إليه قل لهم: رضاي في رضاهم بقضائي وفي مناجاة موسى عليه السلام يا رب أي خلقك أحبّ إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له سخط قضائي، وقد ورد أشد من هذا كله أن اللّه تعالى قال:(أَنَا اللّهُ لاَ إلّهَ إلاّ أََنَا) طه: 14، من لم يصبر على بلائي ويرضَ بقضائي ويشكر نعمائي فليتخذ ربًّا سواي، وقد رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ومثله في الشدة يقول اللّه تعالى: قدّرت المقادير ودّبرت التدبير وأحكمت الصنع، فمن رضي فله الرضا مني حين يلقاني ومن سخط فله السخط مني حين يلقاني، وفي الخبر: أوّل ما كتب لموسى عليه السلام:(إنَّني أنَا اللّهُ لاَ إلَهَ إلاّ أنَا) طه:14، من رضي بحكمي واستسلم لقضائي وصبر على بلائي كتبته صديقاً وحشرته مع الصدّيقين يوم القيامة.(1/431)
وروينا في الخبر المشهور بمعناه يقول اللّه جل جلاله: قدرت الخير والشرّ وأجريتهما على أيدي عبادي، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه وويل لمن خلقته للشرّ وأجريت الشرّ على يديه، وويل ثم ويل لمن قال: لِمَ وكيف؟ وفي الأخبار السالفة أن نبيًّا من الأنبياء شكا إلى اللّه الجوع والفقر عشر سنين، كل ذلك لا ينظر في مسألته فأوحى اللّه إليه: لِمَ تشكو؟ هكذا كان بدوّك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض، وهكذا سبق لك مني وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك أم تريد أن أبدل ما قدرت عليك، فيكون ما تحبّ فوق ما أحب ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزّتي وجلالي لن تخالج في صدرك مرة أخرى لأمحونّك من ديوان النبوّة، وروينا أنّ آدم عليه السلام كان بعض أولاده الصغار يصعدون على جسمه وينزلون، يجعل أحدهم رجله على أضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه ثم ينزل على أضلاعه، كذلك قال وهو مطرق إلى الأرض ولا ينطق ولا يرفع رأسه فقال له بعض ولده يا أبت، ألا ترى مايصنع هذا بك لو نهيته عن هذا فقال: يا بني، إني رأيت ما لم تروا، وعلمت ما لم تعلموا، إني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان، ومن دار النعيم إلى دار الشقاء، فأخاف أن أتحرك حركة أخرى فيصيبني ما لا أعلم، روينا في بعض الأخبار أنّه قال: إنّ اللّه ضمن لي إن حفظت لساني أن يردّني إلى الدار التي أخرجني منها، وقال أبو محمد سهل: حظّ الخلق من اليقين على قدر حظّهم من الرضا، وحظّهم من الرضا على قدر عيشهم مع اللّه، وروى عطية عن أبي سعيد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ اللّه بحكمه وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغمّ والحزن في الشك والسخط، ومن الرضا أن لا تذمّ شيئاً مباحاً ولا تعيبه إذا كان بقضاء مولاه، شاهداً للصانع في جميع الصنعة ناظراً إلى إتقان الصنع والحكمة وإن لم يخرج ذلك عن معتاد المعقول والعادة، وبعض العارفين يجعل هذه الأشياء في باب الحياء من اللّه عزّ وجلّ، ومنهم من يقول: هي من حسن الخلق مع اللّه تعالى، ومنهم من جعله من باب الأدب بين يدي اللّه، فإذا كان هذا كذلك كان ذم الأشياء التي أبيحت وعيبها من سوء الخلق مع اللّه، وكانت من سوء الأدب بين يدي اللّه، وأعظم من ذلك أنها تدخل في باب قلة الحياء من اللّه، ويصلح أن يكون هذا أحد معاني الخبر الذي جاء: قلّة الحياء كفر، يعني كفر النعمة بأن يذم ويعيب بعض ما أنعم اللّه به عليه من الإرفاق والإلطاف، إذ كان فيها تقصير عن تمام ملها أو كانت مخالفة لهواه منها، فيكون ذلك كفراً للنعمة وقلّة حياء العبد من المنعم، إذ قد أمره بالشكر على ذلك، فبدل الشكر كفراً لأنّ أحداً لو اصطنع لك طعاماً فعبته وذممته كره ذلك منك، فكذلك تعالى يكره ذلك منك، وهذا داخل في معرفة معاني الصفات، وفي معنى ما قيل أعرفكم بربّه أعرفكم بنفسه، لأنّك إذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق عرفت منها صفات خالقك، وبعض الراضين يجعل ذم الأشياء وعيبها بمنزلة الغيبة لصانعها لأنها صنعته ونتاج حكمته، ونفاد علمه وحكم تدبيره وتدبير مقاديره، لأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخاقين، له في كل شيء حكمة بالغة وفي كل صنعة صنع متقن، ولأنّك إذا عبت صنعة أحد وذممتها سرى ذلك إلى الصانع، لأنّه كذلك صنعها وعن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها في خلقتها، وكان الورعون لا يعيبون صنعة عند كراهة الغيبة له وذلك أنّ الراضي عن اللّه متأدب بين يدي اللّه يستحي أن يعارضه في داره أو يعترض عليه في حكمه، فصاحب الدار يصنع في حكمه ما شاء والحاكم يحكم بأمره كيف شاء، والعبد راضٍ بصنع سيده مسلم لحكمة حاكمه(1/432)
وروي في الإسرائيليات أن عيسى عليه السلام مرّ مع نفر من أصحابه بجيفة كلب فغطوا آنافهم وقالوا: أف أف، ما أنتن ريحه فلم يخمر عيسى عليه السلام أنفه وقال: ما أشد بياض أسنانه، أراد أن ينهاهم بذلك عن الغيبة ويعلمهم ترك عيب الأشياء، كيف هو يرى بعين نفسه أنّ الصنعة من صانعها، فهو يقلبها ويصرفها على معاني نظره، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وقال أنس: خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ليس كل امرئ كما يريد صاحبي، ما قال لي لشيء فعلته: لما فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته، ولا قال في شيء كان: ليته لم يكن ولا لشيء لم يكن: ليته كان، وكان يقول: لو قضى شيء لكان، وهذا وصف الراضي الموقن القائم بشهادته، فبالنظر في هذه الدقائق والوقوف عندها رفع القوم عند اللّه إلى مقام المقربين، وبالتهاون بها والغفلة عنها نغلت القلوب ففسدت حتى لم تصلح للمحبة والرضا، وهذه المعاني من الاعتراضات، والتخير هو تقدم بين يدي اللّه وذاك التدبير الذي يشير إليه سهل ويقول: إنّ تدبير الخلق حجبهم عن اللّه عزّ وجلّ، وحكي لنا أنّ بعضهم صحب بعض العارفين في طريق فعبث بشيء فنحاه من مكان إلى مكان آخر فقال له العارف: ماذا صنعت؟ أحدثت في الملك حدثاً عن غير ضرورة ولا سنّة، ولا تصحبني أبداً فلو لم يكن لنا من الذنوب إلا هذه الأشياء لقد كان كافياً، وفوق ذلك تهاوننا بها وأعظم من ذلك ترك التوبة والاستغفار منها، وأعمال طلاب الرضا من اللّه مضاعفة على أعمال المجاهدين في سبيل اللّه لأن أعمال المجاهدين تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وتضعيف طالبي الرضا لا تحصى، قال اللّه تعالى:(وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) البقرة:261، وقال تعالى: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيَرةً) البقرة:245، قيل: الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، وقد قال سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذينَ يُنِفْقُونَ أَمَوالَهُمُ ابِتْغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبيتاً مِنَ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) البقرة:265، فكم في هذه الحنة من سنبلة وحبة، فهؤلاء الذين قال: واللّه يضاعف لمن يشاء هم أهل الرضا عنه، وهم الذين أقرضوا اللّه قرضاً حسناً لأجله لمضاعفته لهم أضعافاً كثيرة، فمن عقل عن اللّه حكمته كان مع اللّه تعالى فيما حكم مسلماً له ما شهد، لأنه سبحانه باختياره أنشأ الأشياء، وبمشيئته أبداها وعنه يتصرف المقدور وإليه عواقب الأمور، لا يكون مع نفسه فيما يهواه ولا مع معتاده وعرفه فيما يعقل، وقال بعض العارفين: قد نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا، فما لي منه إلا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار لكنت بذلك راضياً، وقيل لعارف فوقه: نلت غاية الرضا عنه فقال: الغاية لا، ولكن مقام من الرضا قد نلته حتى لو جعلني جسراً على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة، ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلاً من خليقته لأحببت ذلك من حكمه، ورضيت به من قسمه، وحدثونا عن الروذباري قال: قلت لأبي عبد اللّه بن الجلاء الدمشقي قول فلان: وددت أنّ جسدي قرض بالمقاريض، وأنّ هذا الخلق أطاعوه، مامعناه قال: يا هذا، إن كان من طريق الإشفاق على الخلق والنصح فأعرف، وإن كان من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف، قال ثم غشى عليه، وقد كان عمران بن حصين استسقى بطنه فلبث ملقى على ظهره ثلاثين سنة سطحياً، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان تحته موضعاً لغائطه وبوله، فدخل عليه مطرف أو أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله، فقال: لِمَ تبكي؟ فقال لأني أراك على هذه الحال العظيمة فقال: لا تبكي فإنّ أحبه إليَّ أحبه إلى اللّه ثم قال: أحدثك شيئاً لعل اللّه أن ينفعك به، واكتم عني حتى أموت أنّ الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلّم علّي فأسمع تسليمها، أراد عمران رحمه اللّه بذلك أن يعلم أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة: لأن مثل هذه الآية إنما هو درجة ورحمة، وبلاء العقوبات لا يكون معه الآيات ولا يوجد عنده الحلاوات، ولا مزيد القلوب من نسيم ريحان الغيوب ولأنه كان حزن عليه فأراد أن يبشره: فلا تذكر الحبيب ولا حب لقاء الطبيب، كما أنشد بعض المحبين:
با حبيباً بذكره نتداوى ... وصفوه لكل داءٍ عجيب(1/433)
من أراد الطبيب سرّ إذا ... اعتلّ اشتياقاً إلى لقاء الطبيب
من أراد الحبيب سار إليه ... وجفاً الأهل دونه والقريب
ليس داء المحب داء يداوى ... إنما برؤه لقاء الحبيب(1/434)
قال: ودخلنا على سويد بن شعبة نعوده، فرأينا ثوباً ملقى فما ظننّا أَنَّ تحته شيئاً حتى كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك ما نسقيك فقال: طالت الضجعة ودبرت الحراقيف وأصبحت نضواً لا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، فذكر أياماً ثم قال: وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر، واعتلّ حذيفة علّة الموت فجعل يقول: أخنق خناقك فوعزتك أنك لتعلم أنّي أحبك، فلما حضره الموت جعل يقول: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، وروى أيضاً مثل هذا عن أبي هريرة، ولما قدم سعد إلى مكة وكان قد كفّ بصره جاءه الناس يهرعون، كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، دعا له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك، قال عبد اللّه بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها فقلت له:يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فردّ اللّه عليك بصرك، فتبسم ثم قال: يابني، قضاء اللّه عندي أحسن من بصري، وقال إنّ بعض هذه الطائفة ضاع ولده وكان صغيراً ثلاثة أيام لا يعرف له خبراً فقيل له: لو سألت اللّه أن يرده عليك فقال: اعتراضي عليه فيما قضى أشدّ من ذهاب ولدي، وقد روينا عن بعض العباد أنه قال: أذنبت ذنباً فأنا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة، وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من ذلك الذنب قيل له: وما هو قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن، وقال بعض السف: لو قرض جسمي بالمقاريض كان أحبّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه اللّه: ليته لم يقضه، وحدثونا عن بشر الحافي قال: رأيت بعبادان رجلاً قد قطعه البلاء وقد سالت حدقتاه على خديه، وهو في ذلك كثير الذكر عظيم الشكر للّه، قال وإذا هو قد صرع من حبه به قال: فوضعت رأسه في حجري وجعلت أسأل اللّه عزّ وجلّ كشف مابه، وأدعو له، فأفاق فسمع دعائي فقال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ويعترض عليه في نعمه عليّ؟ قال ونحى رأسه، قال بشر فاعتقدت أن لا أعترض على عبد في نعمة أراها عليه من البلاء، وقيل لعبد الواحد ابن زيد: ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال: حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال: لا قال: هل أنست به قال: لا قال: فهل رضيت عنه قال: لا قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال: نعم قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك أنّ معاملتك خمسين سنة مدخوله، أراد بذلك أنه لم يقربك فيجعلك في المقربين فيكون مزيدك لديه من أعمال القلوب، وكذلك يصنع بأوليائه، إنما أنت عنده في طبقة أصحاب اليمين، فمزيد العموم من أعمال الجوارح، وقد يكون الرجل مخلصاً في مقامه وإن كان فوقه فوق، وقد روينا عن ابن محيريز، وكان من عباد أهل الشام وعلمائهم، كلمة غريبة المعنى دقيقة في معنى المخالفة للّه عزّ وجلّ، وإن كان قد فسرها فإنه لم يكشف معناها لفهم السامعين منه والحاضرين عنده فيحتاج تفسيرها إلى تفسير، روينا عنه أنه قال: كلكم يلقى اللّه تعالى، ولعله قد كذبه وذلك أن أحدكم لو كان له أصبع من ذهب ظل يشير بها، ولو كان به شلل ظل يواريها، يعني بذلك أن الذهب من زينة الدنيا، وقد ذم اللّه تعالى الدنيا وأنّ البلاء زينة أهل الآخرة وقدّ مدح اللّه الآخرة، أي فأنت إذا أعطاك زينة الدنيا أظهرتها وفخرت بها وإذا أعطاك زينة الاخرة وهي المصائب والبلاء كرهتها وأخفيتها لئلا تعاب بذلك، فحسب عليه حب الدنيا والتزين بها وكراهة البلاء تكذيباً للّه ورداً عليه ما وصفه، وهذا يدخل في باب الزهد وفي باب الرضا، ويدخل على من أخفى الفقر والبلاء حياء من الناس لئلا يعاب بذلك، فهو من ضعف يقينه بقوّة شاهد الخلق، ويدخل فيه من أظهر الغنى من غير نية ولا تحدث بنعمة اللّه، فذلك أيضاً من قوّة شاهد حب الدنيا، وكذلك قال أبو سليمان الداراني: ثلاث مقامات لا حدّ لها، الزهد والورع والرضا، وخالفه سليمان ابنه، وكان عارفاً، ومن الناس من كان يقدمه على أبيه فقال: بلى، من تورع في كل شيء فقد بلغ حدّ الورع، ومن زهد في كل شيء فقد بلغ حدّ الزهد، ومن رضي عن اللّه في كل شيء فقد بلغ حدّ الرضا، ولا ينقص الراضي من مقام الرضا مسألة مولاه مزيد الآخرة وصلاح الدنيا، تعبداً بذلك وافتقاراً إليه في كل شيء لأن في ذلك رضاه ومقتضى تمدحه بمسألة الخلائق له، فإن صرف مسائله إلى طلب النصيب من المولى وابتغاء القرب(1/435)
منه حبًّا له وآثره على ما سواه كان فاضلاً في ذلك، لأنه قد ردّ قلبه إليه وجمع همه بذلك، وهذا على قدر مشاهدة الراضي عن معرفته، وهو مقام المقربين ومقتضى حاله، لأنه يسأل عن عمله بعلمه في وقت من أحواله كما يسأل عن جملة عماله بعلومه في جملة عمره، وهذا أصل فاعرفه، فهو طريق الصوفيين وعليه عمل العارفين من السلف، فلم يكن يضرهم عندهم خلاف من خالف، وإن كان دعاؤه تمجيد السيدة وثناء عليه شغلاً بذكره ونسياناً لغيره وولهًا بحبه، لأنه مستوجب لذلك بوصفه، ولأنه واجب عليه، فقد استغرقه وجوب ما عليه عماله، فهذا أفضل وهو مقام المحبين، وهو من القيام بشهادته، وقد دخل فيما ذكرناه من مقتضى حاله بالعمل بعمله في وقته، وللعلماء مسألة قد اختلفوا فيها: في أهل المقامات ثلاث، أيهم أفضل؟ عبد يحب الموت شوقاً إلى لقاء اللّه، وعبد يحب البقاء للكد والخدمة للمولى، وعبد قال: لا أختار شيئاً بل أرضى مايختار لي مولاي، إن شاء أحياني أبداً وإن شاء أماتني غداً، قال: فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلّهم فضولاً، وهذا كما قاله في الاعتبار بترك الاعتراض والاختبار، لأنه دخل في الدار بغير اختيار، وكذلك يكون خروجه منها على معنى دخوله بلا اختيار، لأنّ مقام الرضا أعلى من مقام التشوق، ثم الذي يليه في الفضل الذي يحب الموت شوقاً إلى لقاء اللّه، وهذا مقام في المحبة وفي حقيقة الزهد في الحياة.ه حبًّا له وآثره على ما سواه كان فاضلاً في ذلك، لأنه قد ردّ قلبه إليه وجمع همه بذلك، وهذا على قدر مشاهدة الراضي عن معرفته، وهو مقام المقربين ومقتضى حاله، لأنه يسأل عن عمله بعلمه في وقت من أحواله كما يسأل عن جملة عماله بعلومه في جملة عمره، وهذا أصل فاعرفه، فهو طريق الصوفيين وعليه عمل العارفين من السلف، فلم يكن يضرهم عندهم خلاف من خالف، وإن كان دعاؤه تمجيد السيدة وثناء عليه شغلاً بذكره ونسياناً لغيره وولهًا بحبه، لأنه مستوجب لذلك بوصفه، ولأنه واجب عليه، فقد استغرقه وجوب ما عليه عماله، فهذا أفضل وهو مقام المحبين، وهو من القيام بشهادته، وقد دخل فيما ذكرناه من مقتضى حاله بالعمل بعمله في وقته، وللعلماء مسألة قد اختلفوا فيها: في أهل المقامات ثلاث، أيهم أفضل؟ عبد يحب الموت شوقاً إلى لقاء اللّه، وعبد يحب البقاء للكد والخدمة للمولى، وعبد قال: لا أختار شيئاً بل أرضى مايختار لي مولاي، إن شاء أحياني أبداً وإن شاء أماتني غداً، قال: فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلّهم فضولاً، وهذا كما قاله في الاعتبار بترك الاعتراض والاختبار، لأنه دخل في الدار بغير اختيار، وكذلك يكون خروجه منها على معنى دخوله بلا اختيار، لأنّ مقام الرضا أعلى من مقام التشوق، ثم الذي يليه في الفضل الذي يحب الموت شوقاً إلى لقاء اللّه، وهذا مقام في المحبة وفي حقيقة الزهد في الحياة.(1/436)
وفي الخبر: من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، والذي يحب البقاء للخدمة وكثرة المعاملة هو فاضل، بعد هذين مقامهُ قوّة الرجاء وحسن الظن في العصمة، وله أيصاَ مطالعات من الأنس وملاحظات في القرب، به طاب مقامه وعنده سكنت نفسه وقصرت أيامه، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أفضل المؤمنين إيماناً أو قال: أكمل المؤمنين إيماناً من طال عمره وحسن عمله، هذا لأن الأعمال مقتضى الإيمان إذ حقيقة الإيمان إنما هو قول وعمل، وليس بعد هؤلاء مقام يفرح به ولا يغبط صاحبه عليه، ولا يوصف بمدح إنما هو حب البقاء لمتعة النفس وموافقة الهوى، وقد تشرف النفس على الضعفاء من أهل هذا الطريق ويختفي فيها علة، وهو أن يحب البقاء لأجل النفس وللمتعة بروح الدنيا وما طبعت عليه من حب الحياة، وتكره الموت لمنافرة الطبع ولطول الأمل، فيتوهم أنه ممن يحب البقاء لأجل اللّه وطاعته، وهذا هو من الشهوة الخفية التي لا يخرجها إلا حقيقة الزهد في الدنيا، ولا يفضل في هذا الطريق االثالث إلا عارف زاهد دائم المشاهدة باليقين، فأما المعتل بوصفه وهواه فليس يقع به اعتبار في طريق ولا مقام، واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، فأما اليوم فوددت أني مت فقال له يوسف: ولِمَ؟ قال لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولِمَ تكره الموت قال: لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت فقال: أنا لا أختار شيئاً أحبّ ذلك إليّ أحبه إلى اللّه قال: فقبّل الثوري ما بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة، يعني مقام الروحانيين وهم المقربون أهل الروح والريحان، وأولو المحبة والرضوان، كما قال تعالي(فَرَوْحٌُ وَرَيَحانٌ) الواقعة:89، يعني لهم ريح من نسيم القرب وريحان من طيب الحب، وأيضاً أنّه تعالى لما ذكر أنّ، لأصحاب اليمين في كل شدة وهول سلامة، وكان المقربون هم الأعلون، كان أيضاً فيما دلّ الفهم عليه، أنّ للمقربين من كل هول روحاً به لشهادتهم القريب، وفي كل قرب منه ريحان لقرب الحبيب فبذلك علوا وبذلك فضلوا، وهكذا قال بعض الصوفية:سرّ العارف في الأشياء واقف مثل الماء في البئر لا يختار المقام وإن أخرج خرج، فإن ذم هذا الراضي ما ذمه اللّه، وكره ما كرهه اللّه لم ينقص ذلك رضاه، وكان محسناً في فعله لموافقته مولاه، وإن لم يرضَ بحاله نقص في الدين والآخرة أو كره مزيد الدنيا من الكثرة والجمع والادخار لم يقدح ذلك في رضاه لأنه من التحقق بالزهد، وهو في جميع ذلك موافق للعلم، واللّه تعالى أعلم بأحكامه من العبد وأغير على نفسه من الغير، وأعلى مشاهدة من الخلق، له المثل الأعلى، فهو على ذلك يشهد أحكامه ويذم المحكوم عليه إذ تعدى حدود أمره، وينفذ علمه بمشيئته ويمقت العاصين له باجتراح نهيه، حكمة منه وعدلاً، كما أنه يشهد يده في العطاء ويمدح المنفقين، ويمضي إرادته بالقضاء بتوفيقه، ويشكر العاملين كرماً منه وفضلاً، كذلك الراضي عنه موافق فيما حكم ومتبع له فيما رسم، ومسلم له فيما قدر وعالم منه راض بما دبر، ومستعمل لما شرع ومواطئ لرسوله، يذم ما ذمه مولاه ويمدح ما مدحه لأجل مولاه لا لأجل نفعه إياه، والتحدث بالأوجاع والإخبار عن المصائب لا ينقص حال الراضي إذا رآها نعمة من اللّه عليه، وكان القلب مسلماً راضياً غير متسخط ولا متبرم بمر القضاء، وأوّل الرضا الصبر ثم القناعة، ثم الزهد ثم المحبة، ثم التوكل، فالرضا حينئذ حال المتوكل والتوكل مقام الرضا، وقال فضيل: إذا استوى العطاء والمنع عند العبد فهو الرضا،وقال غيره: إذا لم يختلف قلبه في العدم والوجود وفي الصحة والسقم فقد رضي، وقال الثوري: منع اللّه عطاءه لأنه يمنع من غير بخل ولا عدم، فمنعه اختبار وحسن نظر، وهذا كما قال لأن حقيقة المنع إنما يكون لمن لك عنده شيء فمنعك أو تستحق عليه شيئاً فلم يعطك، فأما من لا تستحق عليه شيئاً، ولا لك معه شيء لأنه الأول قبل كل شيء، والمظهر لكل شيء، والمالك لما أظهر، والمختار لما خلق وليس لأحد من خلقه اختيار، ولا في حكمه اشتراك، له الخلق والأمر ولا يشرك في حكمه أحداً، والعبد لم يكن شيئاً مذكوراً، فكل شيء اختاره فهو عطاء منه على تفاوت مقادير وضروب أحكام، وتصاريف تدبير حلو(1/437)
ومر ولطف وعنف وشدة ورخاء، وموافقة للنفس ومرفق ومخالفة لما يهوى مما لطبعها لا يوافق، فالصبر على الأحكام مقام المؤمنين والرضا بها مقام الموقنين، ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون، واصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين، واعلم أنّ الرضا في مقامات اليقين وأحوال المحبين، ومشاهدة المتوكلين وهو داخل في كل أفعال اللّه سبحانه لأنها عن قضائه، لا يكون في ملكه إلاّ ما قضاه فعلى العارفين به الرضا بالقضاء، ثم يرد ذلك إلى تفصيل العلم وترتيب الأحكام، فما كان من خير وبرّ أمر به أو ندب إليه، رضي به العبد وأحبه شرعاً وفعلاً ووجب عليه الشكر، وماكان من شرّ نهى عنه وتهدد عليه، فعلى العبد أن يرضى به عدلاً وقدراً ويسلمه لمولاه حكمة وحكماً، وعليه أن يصبر عنه ويقر به ذنباً ويعترف به لنفسه ظلماً، ويرضى بعود الأحكام عليه بالعقاب، وأنه اجترحه بجوارحه اكتساباً ورضاً بأنّ للّه الحجة البالغة عليه، وأنّ لا عذر له فيه، ويرضى بأنّه في مشيئة اللّه عزّ وجلّ من عفو عنه برحمته وكرمه إن شاء، أو عقوبة له بعدله وحقّه إن شاء، وفصل الخطاب أنه يرضى بسوء القضاء عقد إلا من نفسه فعلاً، ويرضى به عن اللّه ولا يرضى به من نفسه لأنّ الموقنين والمحبين لا يسقطون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينكرون إنكار المعاصي وكراهتها بالألسنة والقلوب من قبل أنّ الإيمان فرضها، والشرع ورد بها ولأنّ الحبيب كرهها، فكانوا معه فيما كره كما كانوا معه فيما أحبّ، ومقام اليقين لا يسقط فرائض الإيمان، ومشاهدة التوحيد لا تبطل شرائع الرسول ولا تسقط أتباعه، فمن زعم ذلك فقد افترى على اللّه ورسوله، وكذب على الموقنين والمحبين، ألم ترَ أنّ اللّه تعالى ذم قوماً رضوا بالدنيا ورضوا بالمعاصي ورضوا بالتخلف عن السوابق، فقال سبحانه: (رَضُوا بالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) يونس:7، فذمهم بذلك وقال تعالى:( وَلِتَصْغى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الَْذينَ لاَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَلِيرْضَوْهُ وَلِيَقْترِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) الأنعام:113، فعابهم به وقال تعالى: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة:87، يعني النساء، وهذا جمع التأنيث وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون، فمن رضي بالمعاصي والمناكير منه أو من غيره، وأحب لأجلها ووالى ونصر عليها أو ادّعى أنّ ذلك في مقام الرضا الذي يجازى عليه بالرضا أو أنه حال الراضين الذين وصفهم اللّه تعالى ومدحهم، فهو مع هؤلاء الذين ذم اللّه ومقت.ومر ولطف وعنف وشدة ورخاء، وموافقة للنفس ومرفق ومخالفة لما يهوى مما لطبعها لا يوافق، فالصبر على الأحكام مقام المؤمنين والرضا بها مقام الموقنين، ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون، واصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين، واعلم أنّ الرضا في مقامات اليقين وأحوال المحبين، ومشاهدة المتوكلين وهو داخل في كل أفعال اللّه سبحانه لأنها عن قضائه، لا يكون في ملكه إلاّ ما قضاه فعلى العارفين به الرضا بالقضاء، ثم يرد ذلك إلى تفصيل العلم وترتيب الأحكام، فما كان من خير وبرّ أمر به أو ندب إليه، رضي به العبد وأحبه شرعاً وفعلاً ووجب عليه الشكر، وماكان من شرّ نهى عنه وتهدد عليه، فعلى العبد أن يرضى به عدلاً وقدراً ويسلمه لمولاه حكمة وحكماً، وعليه أن يصبر عنه ويقر به ذنباً ويعترف به لنفسه ظلماً، ويرضى بعود الأحكام عليه بالعقاب، وأنه اجترحه بجوارحه اكتساباً ورضاً بأنّ للّه الحجة البالغة عليه، وأنّ لا عذر له فيه، ويرضى بأنّه في مشيئة اللّه عزّ وجلّ من عفو عنه برحمته وكرمه إن شاء، أو عقوبة له بعدله وحقّه إن شاء، وفصل الخطاب أنه يرضى بسوء القضاء عقد إلا من نفسه فعلاً، ويرضى به عن اللّه ولا يرضى به من نفسه لأنّ الموقنين والمحبين لا يسقطون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينكرون إنكار المعاصي وكراهتها بالألسنة والقلوب من قبل أنّ الإيمان فرضها، والشرع ورد بها ولأنّ الحبيب كرهها، فكانوا معه فيما كره كما كانوا معه فيما أحبّ، ومقام اليقين لا يسقط فرائض الإيمان، ومشاهدة التوحيد لا تبطل شرائع الرسول ولا تسقط أتباعه، فمن زعم ذلك فقد افترى على اللّه ورسوله، وكذب على الموقنين والمحبين، ألم ترَ أنّ اللّه تعالى ذم قوماً رضوا بالدنيا ورضوا بالمعاصي ورضوا بالتخلف عن السوابق، فقال سبحانه: (رَضُوا بالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) يونس:7، فذمهم بذلك وقال تعالى:( وَلِتَصْغى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الَْذينَ لاَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَلِيرْضَوْهُ وَلِيَقْترِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) الأنعام:113، فعابهم به وقال تعالى: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة:87، يعني النساء، وهذا جمع التأنيث وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون، فمن رضي بالمعاصي والمناكير منه أو من غيره، وأحب لأجلها ووالى ونصر عليها أو ادّعى أنّ ذلك في مقام الرضا الذي يجازى عليه بالرضا أو أنه حال الراضين الذين وصفهم اللّه تعالى ومدحهم، فهو مع هؤلاء الذين ذم اللّه ومقت.(1/438)
وفي الخبر الدال على الشرّ كفاعله، وعن ابن مسعود أنّ العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر فاعله، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يبلغه فيرضى به، وقد جاء في الحديث لو أنّ عبداً قيل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب، كان شريكه في قتله، وقد روينا حديثاً حسناً عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مرسل: من نظر إلى مَنْ فوقه في الدين وإلى مَنْ دونه في الدنيا كتبه اللّه صابراً شاكراً، ومَنْ نظر إلى مَنْ دونه في الدين وَمنْ فوقه في الدنيا لم يكتبه اللّه صابراً ولا شاكراً، وقد غلط في باب الرضا بعض البطالين من المتأخرين، ممن لا علم له ولا يقين، فحمل الرضا على جميع ما يكون منه من معصية وهوى لجهله بالتفضيل وقلة فهمه بعلم التأويل، ولاتباعه ما تشابه من التنزيل طلباً للفتنة وغربة الحال وابتداعاً في القول والفعال، لأن أوقاته قد ذهبت فلا يذهب وقت غيره بذكرها، وبطلان قول هذا عند العلماء أظهر من أن يدل على فساده، والاشتغال بالبطال بطالة، وإنما الرضا فيما كان غير مخالفة للّه ولا معصية مثل مايكون من نقص الدنيا ونقص الأموال والأنفس من الأهل والولد، وفيما على النفس فيه مشقة ولها منه كراهة، وفيما كان مزيداً في الآخرة لا عقوبة فيه من اللّه ولا وعيد عليه ولا ذم لفاعليه، وقد يحتج أيضاً بطال لبخله وقلّة مواساته وبذله أو يعتل لاتساعه في أمر الدنيا واستئثاره على الفقر، إنّ الذي يمنعه من البذل والإيثار والزهد فيما في يديه والإخراج رضاه بحاله وقلّة اعتراضه على مجريه فيه، وإنّ هذا مقام من مقامات الرضا خص به عند نفسه، وهذا قول لاعب ذي هوى، وهو من خدع النفوس وأمانيها ومن غرور العدوّ ومكايده، لأنّ الرضا لا يمنع من اختيار الفقر والضيقة لمعرفة الراضي بفضل الزهد وأوصافه كيف يكون، فالراضي لا يأمر بالاستيثار والاتساع لما كره من النعمة والاستكثار، لأنّ الرضا لا يوقف عما ندب العبد إليه ولا يحمل على ما كره له، وهذا اعتذار من النفس وتمويه على الخلق ليسلم منهم، ولا عذر بهذا عند مالكه ولا سلامة له فيه من خالقه، ومجمل ما ذكرناه أنّ الرضا لا يصح إلا فيما يحسن الصبر عليه والشكر عليه، لأنّ الرضا مقام فوق الصبر والشكر ومزيد الصابرين والشاكرين، فأما إن كان العبدعلى نقصان من الدين وفي مزيد من الدنيا ثم رضي بحاله، فرضاه بحاله شرّ من أعماله لمخالفة الأمر، قال اللّه عزّ وجلّ:(اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيْه ِالْوَسيلَةَ) المائدة:35، وقال تعالى:(يَبْتغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الإسراء:57، وقال تعالى:(سَابقُوا إلى مَغِفْرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد:21 وقال تعالى:(وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ رَبِّكُمْ) آل عمران:133، وقال تعالى: (وَفي ذِلكَ فلْيَتَنَافَسِ الْمَتَنَافِسُونَ) المطففين:26، وقال تعالى:(يُسَارِعُونَ في الُخَيَراتِ وِهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61، فندب إلى المسارعة والسوابق وذم التخلف عنها والتتثبط بالعوائق، فعلى هذا طريق المؤمنين وفيه مقامات الموقنين، وإنما كان سبب ترك سري السقطي السوق وزهده في الدنيا قوله: الحمد للّه لأنها كلمة رضا ظهرت منه في موضع الاسترجاع للمصيبة وذلك أنه بلغه أنّ الحريق وقع في سوقه فأحرق دكانه، فخرج في قطع من الليل فاستقبله قوم فقالوا: يا أبا الحسن، احترقت دكاكين الناس إلا دكانك فقال: الحمد للّه: ثم تفكر في ذلك فقال: قلت الحمد للّه في سلامة مالي وهلك أموال إخواني المسلمين، فتصدق بجميع ما كان في دكانه من السقط والآلة كفارة لكلمته هذه، وخرج من السوق فشكر اللّه له فعله، فزهد في الدنيا ورفعه إلى مقام المحبة فأوصله ترك الرضا إلى الرضا، وبلغني عنه أنه كان يقول: قلت كلمة فأنا أستغفر اللّه منه ثلاثين سنة يعني قوله الحمد لله.(1/439)
وقد جاء في الخبر: من لم يهتم بأمر المسليمن فليس من المسلمين، وفي الخبر المشهور: أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه والبغض فيه، فجعل ذلك من أوثق العرى لأنه منوط بالإيمان، لا يستطيع الشيطان حلّه ولا سلطان له عليه كما لا سبيل له على حل الإيمان لأنّ اللّه يحول بينه وبينه، وقد تولى تأبيد الإيمان بروحه بعد كتبه في القلوب برحمته وفي الحبّ في اللّه الولاة والنصرة بالنفس والمال والفعل والمقال، وفي البغض في اللّه ترك ذلك فبغض المبتدع والفاجر المجاهر والظالم المعتدي، وترك موالاتهم ونصرتهم واجب على المؤمنين، فلأجل ذلك صارت الموالاة لأولياء الّله والمعاداة لأعدائه من أوثق عرى الإيمان لأنك قد تعصي وتخالف مولاك تسليط العدوّ وغلبة هواك، إلاّ أنّك تبغض العاصين ولا تواليهم على المعاصي، ولا تحبهم لأجلها من قبل أنّ العدو لم يسلط على حل عقد إيمانك، كما سلط على فعله من نفسك، كما أنه لم يسلط على حل عقد إيمانك كما سلط على حل المراقبة والخوف منك، ولم يسلط أيضاً عليك في استحلال المحارم ولا استحسانها ولا التدين بها، ولا في ترك التوبة منها ولا بالرضا بها كما سلط عليك بافتراقها، فإن سلط على مثل هذا منك العدو حتى تحب الفساق وتواليهم وتنصرهم على فسقهم، أو تستحل ما ارتكب من الحرام أو ترضى به أو تدين به، فقد ا نسلخ منك الإيمان كما انسلخ النهار من الليل، فلست منه في كثير ولا قليل لأنّ هذه العقود منوطة بعرى الإيمان، وهي وهو في قرن واحد مقترنان، ألم تسمع اللّه تعالى يقول: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ في شَيءْ) آل عمران: 28، أو ما سمعته تعالى يقول:( لاَتَتّخِذُوا الْيَهُودِ وَالنَّصَارى أَولِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِىَاءُ بَعْضٍ وَمنْ يَتَولَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ) المائدة:51، ومثله:(لاَيَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ) آل عمران:28، أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً أي حجة قاطعة، أن يجمعكم وإياهم في النار، وكذلك قال اللّه تعالى:(وَإنَّ الظَّالمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضَ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقين) الجاثية: 19، وقال تعالى: (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام:921، ثم قال تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤُمِنينَ نُوَلِّه مَا تَولّى وَنُصِلْهِ جَهَنَّمَ) النساء: 115، وقد روينا في خبر أنّ اللّه تعالى أخذ على كل مؤمن في الميثاق أن يبغض كل منافق، وأخذ على كل منافق أن يبغض كل مؤمن، وفي الخبر المشهور: المرء مع من أحبّ وله ما احتسب.(1/440)
وفي حديث آخر: من أحب قوماً ووالاهم في الدنيا جاء معهم يوم القيامة، وفي معنى قوله: أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه والبغض فيه، وجه خفيّ هو أن يحبك المؤمنون ويبغضك المنافقون، فيكون ذلك علامة وثيقة عرى إيمانك لأنّ قوله الحبّ في اللّه، يصلح أنّ يبغضك المنافقون كما تبغضهم أنت، فكأنك تتحبب إلى المؤمنين حتى يحبوك وتتبغض إلى المنافقين حتى يبغضوك بإظهار التباعد عنه وبترك الممالاة له وبنصحك إياهم، فيدل ذلك على قوة إيمانك، لم تأخذك في اللّه لومة لائم منهم، كما وصف تعالى بذلك من يحبهم ويحبونه، ويكون ذلك أبعد لك من المداهنة والنفاق، وأقرب إلى الورع والإخلاص فإذا فعلت ذلك بهم أبغضوك أو مقتوك، فهذا على معنى ما قال اللّه سبحانه: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رَحَمَاءَ بَيْنَهُمْ) الفتح:29، وقال:(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ) المائدة: 54، وكما أمر نبيه عليه السلام في قوله تعالى:(قَاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجدوا فيكْمْ غِلْظَةً) التوبة: 123 وروي عن عيسى عليه السلام أنّ اللّه عزّ وجلّ قال: أحبّ عبادي إليّ الذين يذكروني بالأسحار ويبغضون إلى الفجار، معناه أن يظهرلهم البغض وينابذهم العداوة حتى يبغضوه، فإذا أبغضوه أبغضهم اللّه، فيكون بغضهم إليه بهذا المعنى أي كان سبب عقوبة لهم بالبغض والمقت، وقد كان الثوري يقول: إذا رأيت الرجل محبّباً إلى جيرانه فاعلم أنه منافق، وقال كعب الأحبار لأبي إدريس الخولاني وكان من علماء الشام: كيف أنت في قومك؟ قال يحبوني ويكرموني قال كعب: ما صدقتني التوراة إذن قال: وما في التوراة؟ قال أجد في التوراة أنّ الرجل العالم لا يحبه جيرانه، وقال بعض المريدين: قلت لبعض أهل المعرفة: أني كثير الغفلة عن اللّه قليل المسارعة إلى مرضاته، أوصني بشيء أعمله أدرك به ما يفوتني من هذا، قال: يا أخي، إن استطعت أن تتحبب إلى أولياء اللّه وتتقرب من قلوبهم فافعل، لعلهم يحبونك فإنّ اللّه عزّ وجلّ ينظر إلى قلوب أوليائه في كل يوم سبعين نظرة، فلعله أن ينظر إليك في قلوبهم لمحبتهم لك فيجيرك جيرة الدنيا والآخرة، إذا لم تكن ممن ينظر إليه كفاحاً، وكذلك يقال: إنّ اللّه تعالى عزّ وجلّ ينظر إلى قلوب الصدّيقين والشهداء مواجهة، ثم ينظر إلى قلوب قوم في قلوب قوم وإلى قلوب قوم من قلوب آخرين، فهكذا عندي من عزائم الدين وسبيل الورعين أن تتبغض إلى أعدائه وتتمقت إليهم من المبتدعين والظالمين، ليبغضوك ويمقتوك، فيكون لك من القربة كحبّ أوليائه لك وحبك لهم، فهذا من أسباب ولاية اللّه.(1/441)
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: اللّهم، لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي، ووصل بعض الأمراء أبا هريرة بألف دينار وعشرة أثواب فردها عليه وقال، ما كنت لأقبل منه يأخذ المال من غير حله ويضعه في غير حقه، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ردوا هدية الفاجر عليه لا يرى أنكم ترضون عمله، وأقلّ مالك في هذا الزهد وهو باب كبير من أبواب الدين، إذا كانت المداهنة والممالأة من أكبر أبواب الدنيا، لأنّ بذلك يستوي عيش أهل الدنيا وتتم سلامتها لهم، فهذا هوالطرف الآخر من معنى قوله: الحبّ في الله والبغض في اللّه، وهو وجه غامض، ومعناه إذا كشف جلي ظاهر موجود عند علماء الآخرة، وقد جعل اللّه منْ أراد أن يحبه الفاسقون ويأمن فيهم، وجعل من يسارع بالأدهان وإظهار المتابعة للظالمين خشية دور الدوائر عليه علمين من أعلام النفاق، فقال سبحانه:(سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أَنْ يَأْمَُُنوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فيهَا) النساء: 91، وقال تعالى في المعنى الثاني:(فَتَرَىَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المائدة:52، يعني المافقين:(يُسَارعُونَ فيهِمْ) المائدة:52، يعني يواطئون الكافرين سراً:(يَقُولُونَ نَخْشى أَن تُصيَبنَا دَائِرةٌ) المائدة: 52، أي نخاف أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين، قال تعالى: (فَعَسَى اللّهُ أنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْر مِنْ عِنْدِهِ) المائدة: 52، فينبغي لمن آمن في المؤمنين وأهل السنّة وأحبوه أن يخاف في المنافقين وأهل البدع أن يبغضوه، وينبغي لمن سارع في مواطأة المؤمنين أن ينئ ويبطئ في مداهنة الظالمين ومتابعتهم، حتى يخلص له إيمانه من النفاق وتستقيم طريقه من الضلال، وقد نفى اللّه الإيمان عمن أحبّ من حادّه، وأثبت الإيمان والتأييد باليقين لمن أبغض فيه أعداءه، فقال تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُوَلهُ) المجادلة:22 الآية، فأمّا من قال من الجاهلين بأنَّ الرضا قد يكون بالمعاصي منه أو من سواه، كما يكون في الطاعات، فقد جعل المعاصي والمخالفات من القربات وسوّى بينهما، وفي هذا هدم شرائع الأنبياء وإبطال تفصيل اللّه ما أحل لنا مما حرم علينا، وما أمرنا به مما نهانا، وقد روي في خبر: من شرّ الناس منزلة عند اللّه من يقتدي بسيّئة المؤمن ويترك حسنته، وقال بعض العلماء: من حمل شاذ العلماء فقد حمل شرًّا كثيراً، ومن حسن الأدب في المعالمة إذا عملت صالحًا فقل: يا سيدي، أنت استعملتني وبحولك وقوتك وحسن توفيقك أطعتك، لأنّ جوارحي جنودك، وإذا عملت شيئاً ظلمت نفسي، وبهواي وشهوتي اجترحت جوارحي وهي صفاتي،ثم يعتقد في ذلك أنه بقدره ومشيئته كان ما قضاه، فتكون بالمعنيين قد وافقت مرضاة مولاك وتكون في الحالين عاملاً بما يرضيه بالقول والعقود، وينتفي عنك العجب في أعمال برك ويصح منك المقت لنفسك واعترافك بظلمك، وقد ثقلت هذه المشاهدة على الجاهل، فإذا عمل حسناً شهد نفسه ونظر إلى حوله وقوّته، فهلك بالكبر وبطل عمله بالعجب، وإذا عمل سيئّاً لم يعترف بالذنب ولم يقرّ على نفسه بالظلم، ولم تصح له توبة ولم يرض له عملاً، نعوذ باللّه من مشاهدة الضلال، وقال أبو محمد سهل رحمه اللّه تعالى: إذا عمل العبد حسنة فقال: يا رب أنت استعملتني، شكر اللّه له ذلك فقال: أنت عملت، فإذا نظر إلى نفسه فقال أنا عملت، يقول اللّه بل أنا استعملت، قال وإذا عمل سيئّة فقال: أنت قدّرت وأنت أردت، يقول اللّه تعالى: أنت ظلمت وأنت عصيت بشهوتك وهواك، فإن قال العبد: ظلمت نفسي وعصيت بجهلي استحيا اللّه منه فقال: بل أنا قدرت وأنا قضيت، قد غفر لك باعترافك بالظلم على نفسك، فهذه آداب العاملين ومشاهدة العالمين، وهذا داخل قي قوله: أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه، فكذلك يحب ابن آدم ممن عامله الاعتراف والتواضع، وهذا أيضاً أحد المعاني في قوله تعالى:( وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوِبهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَا وآخرَ سيًّئاً) التوبة:1،2، قيل: هو الاعتراف عقيب العمل السيّئ لأنه قد تقدم ذكره فكان الصالح بعده اعترافه.(1/442)
وفي الحديث الذي رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم آنفاً أنّه قال: من نظر إلى من فوقه في الدين وإلى من دونه في الدنيا، كتبه اللّه صابراً شاكراً، ومن نظر إلى من دونه في الدين ومن فوقه في الدنيا، لم يكتبه صابراً ولا شاكراً، فيه أربعة معان حسان إذا تدبرها العبد وتفكّر فيها لم يعدم أن يرى أهلها، لأنه لا يخلو أن يرى بعينه أو بقلبه لسيرة المتقدمين، فيرى من فوقه في باب الدنيا فيشكر اللّه على حاله ويقنع منه برزقه فيكون صابراً شاكراً بمعرفة ما قنع به، ورضي باختيار ما صرف عنه من الفضول، وروي عنه من الحساب الطويل، ولا يخلو أن يرى من فوقه في أمر الدين يسارع إليه ويسابقه إذ قد ندب إلى ذلك، فيكون حضَّاً له وحثَاً على افتعال الخيرات وأعمال الصالحات، وأقل ما يفيده ذلك الإزراء على نفسه والمقيت لها في تقصيره، ثم ينظر في الأمرين الآخرين من وجه آخر، فلا يخلو أن يرى من هو دونه في الدنيا من ذوي الفاقات والحاجات، فيحمد اللّه على تفضيله عليه وحس صونه له ويشكر نعمته لفضل إحسانه وكفايته له، ويجد أيضاً في المعنى الآخر من هو دونه في أمر الدين من الفجرة والظالمين وأهل البدع والزائغين، فيفرح بفضل اللّه ورحمته ويشكر اللّه على حسن إسلامه وجميل معافاته مما ابتلي به غيره، فيكون أيضاً صابراً شاكراً، فيكون للعبد في هذه الطبقات من الناس أربع معاملات بما وهب اللّه من البصيرة والاعتبار، ويشهد لما ذكرناه قوله: لا حسد إلاّ في اثنين؛ رجل آتاه اللّه حكمة فهو يبثها في الناس ويعملها، ورجل آتاه اللّه مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وفي لفظ حديث آخر: ورجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الرجل: لو آتاني اللّه ما آتى هذا فعلت كما يفعل، فندب إلى الحسد على أعمال البرّ وفضل الحاسد لما ندب اللّه إليه من المنافسة في أعمال الخير، فمن حسد على هذه المعاني من أعمال الخير، كان ذلك مزيداً له في مقام الرضا للغبطة به والطلب له، فأما من قلبت عليه هذه المعاني فجهل عواقب الأمور، وغلبت عليه الغفلة واستحوذت عليه الجهالة، فجعل ينظر إلى من فوقه في الدنيا فيغبطه على حاله، أو يتمنى مكانه أو يدخله نظره إليه في استصغار نعمة اللّه عليه ويزدري يسير ما قسمه اللّه له، ثم ينظر إلى من دونه في الدين من عموم المسلمين فيرضى بنقصان مقامه ويجعل ذلك معذرة له وتأسّياً به، ويثبطه عن المسارعة إلى القربات ولعله أن يداخله العجب والكبر حتى يتفضّل عليه بحاله، أو ينظر إلى نفسه بأعماله، لتقصير غيره عن مثل فعاله، فهذا إذاً يكتب جزوعاً عن الصبر كفور النعمة بإضاعة الشكر، لأنه ليس بصابر ولا شاكر، وهذا وصف من أوصاف المنافقين، وهو مقام الهالكين، إذ الصبر والشكر من صفات المؤمنين، وقد وصف هذا البلد بمثل هذا المعنى: فاللّه المستعان، وقد حدثونا عن عبد اللّه بن المبارك رحمه اللّه تعالى أنه قال: طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شرّاً من بغداد، قيل: وكيف ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هو بلد تزدري فيه النعمة وتستصغر فيه المعصية،وحدثونا عنه أنه قيل له حين قدم خراسان: كيف رأيت الناس ببغداد؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران، وقيل إنّه كان يتصدق كل يوم بدينار لأجل مقامه ببغداد، إلى أن يخرج إلى مكة، فبلغني أنه كان يتصدّق بستة عشر ديناراً، وقد وصفها الشافعي أنها هي الدنيا، فروينا عنه أنّه قال: الدنيا كلها بادية وبغداد حاضرتها.(1/443)
وروينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يايونس، رأيت بغداد؟ قلت: لا قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس، وقد ذم العراق جماعة منهم عمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار، فروينا عن عمر أنّه قال لمولى له: أين تسكن؟ قال: العراق، فقال له: ما تصنع هناك بلغني أنّه ما من أحد سكن العراق إلاّ قيض له قرين من البلاء، وذكر كعب الأحبار العراق يوماً فقال: فيه تسعة أعشار الشر، وفيه الداء العضال، ومن سكن بلداً كثير المنكر ظاهر المعاصي، فكان منزعجاً فيه غير مطمئن إليه يرغب إلى اللّه عزّ وجلّ في إخراجه منه لحسن اختياره له، وكان مضطرّاً في المقام فيه لعيلة ثقيلة أو قلّة ذات يد حقيقة، لا يستطيع حيلة في الخروج ولا يعرف طريقاً، وهو على يقين من سلامة دينه فيه، فإنه معذور عند اللّه لحسن تفضل من اللّه، وهو أقرب إلى العفو والسلامة ممن اغتبط بمقامه واطمأن ورضي بحاله، أو كان مقامه على هوى أو لاختلاف أسباب الفتنة والدنيا، قال اللّه تعالى: (أَلَمْ تََكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء:97 في التفسير: إذا كنت في بلد يعمل فيه بالمعاصي فتحول منه إلى غيره، وقيل: إذا كان العبد في بلد من يعمل فيه بالمنكر والمعاصي أضعف أو أقل من أهل الدين والمعروف، ثم لم ينكر ذلك فقد وجب الخروج منه، ثم قال عزّ وجلّ في قوم من المستضعفين عذرهم وأرجى إلى العفو أمرهم: ( وَالْمُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذينَ يَقُولُون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) النساء:75 وقال تعالى في تمام وصفهم واستثنائهم من غيرهم: (ولاَ يَسْتَطيعُونَ حيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً ) (فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) النساء98 - 99 ولا يصح الرضا إلا بالعصمة من جميع الهوى، وأوّل الرضا القناعة، وقال بعض أهل المعرفة: لا يكون العبد قانعاً حتى لو جاء إلى باب منزله جميع ما يرغب فيه أهل الدنيا من الاتساع والنعمة، فعرض عليه لم ينظر إلى ذلك ولم يفتح بابه قناعة منه بحاله، والعصمة حال الراضي عن اللّه عزّ وجلّ، وهي ظاهر الرحمة، والرحمة أول الرضا من اللّه تعالى، قال اللّه سبحانه وتعالى: (إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَارَحِمَ رَبِّي) يوسف:53 وقال تعالى:( لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إلاّ منْ رَحِمَ) هود:43 فالعصمة من اللّه لعبده دليل على الرحمة منه، ثم تدخله في مقام المحبة وهي رحمة المحبوبين، ثم ترفعه إلى الرضا فتكون المحبة مقامه عن شهادة محبوب، ويكون الرضا حاله في جميع تصريف البقية والمطلوب، وهذا آخر كتاب الرضا.
ذكر أحكام المحبة ووصف أهلها وهو المقام التاسع من مقامات اليقين(1/444)
المحبة من أعلى مقامات العارفين، وهي إيثار من اللّه تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم، قال اللّه جلت قدرته: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ) المائدة:54 ثم قال تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ) الحديد:21 وهذا الخبر متصل بالابتداء في المعنى لأنّ اللّه تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم، وما اعترض بينهما من الكلام فهو نعت المحبوبين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما كان اللّه ليعذب حبيبه بالنار، وقال اللّه عزّ وجلّ مصداق قول نبيه عليه السلام، ردّاً على من ادعى محبته واحتجاجاً عليهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) المائدة: 18 وقال زيد بن أسلم: إنّ اللّه ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اصنع ماشئت فقد غفرت لك، وروينا عن إسماعيل بن أبان عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا أحب اللّه عبداً لم يضره ذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا: إنّ اللّه يحب التوّابين ويحب المتطهرين، وقد اشترط اللّه للمحبة غفران الذنوب بقوله تعالى: (يُحْبِبْكُمْ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) آل عمران:31 فكل مؤمن باللّه فهو محب للّه، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته وتجلي المحبوب له على وصف من أوصافه، دليل ذلك استجابتهم له بالتوحيد والتزام أمره وتسليم حكمه، ثم تفاوتهم في مشاهدات التوحيد، وفي دوام الالتزام للأوامر وفي تسليم الأحكام، فليس ذلك يكون إلا عن محبة، وإنّ تفاوت المحبون على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يقصر عن المحبة صغير كما لا يصغر عن المعرفة من عرف، ولا يكبر عن التوبة كبير ولو كان على كل العلوم قد أوقف، لأنّ اللّه تعالى وصف المؤمنين بشدة الحبّ له فقال تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للّه) البقرة:165 وفي قوله أشدّ دليل على تفاوتهم في المحبة لأنّ المعنى أشدّ فأشدّ ولم يقل شديد، والحب للّه، فأشبه هذا الخطاب قوله تعالى:(إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13 فدلّ على تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضلهم في التقوى ولم يقل: إنّ الكرام المتقون.(1/445)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ اللّه يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فالمؤمنون متزايدون في الحبّ للّه عزّ وجلّ عن تزايدهم في المعرفة به والمشاهدة له، وقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحبّ للّه من شرط الإيمان قال: أن يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي حديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي خبر آخر أشدّ توكيداً وأبلغ من هذين قوله: واللّه، لا يؤمن العبد حتى أكون أحبّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وفي خبر آخر: ومن نفسك، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالمحبة للّه فيما شرعه من الأحكام فقال أحبّوا اللّه لما أسدى إليكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ اللّه، فدلّ ذلك على فرض الحبّ للّه وإنّ تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله، ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمه المعرفة به، فأفضل الحبّ له ما كان عن المشاهدة، والمحبون للّه على مراتب من المحبة؛ بعضها أعلى من بعض، فأشدهم حبّاً للّه أحسنهم تخلقاً بأخلاقه مثل العلم والحلم والعفو وحسن الخلق، والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته وأتركهم منازعة له في معاني الصفات كي لا يشركوه فيها، مثل الكبر والحمد وحب المدح وحب الغنى والعز وطلب الذكر، ثم أشدهم حبّاً لرسوله إذ كان حبيب الحبيب وأتبعهم لآثاره أشبعهم هدياً لشمائله، وقد روي أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه إني أحبك فقال: استعد للفقر فقال: إني أحبّ اللّه فقال: استعد للبلاء، والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبلي وهو اللّه تعالى المبتلي، فلما ذكر محبته أخبره بالبلاء ليصبر على أخلاقه، كما قال تعالى:(ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) المدثر:7 فدل على أحكامه وبلائه، والفقر من أوصاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر محبته دله على اتباع أوصافه ليقتفي آثاره لقوله عليه السلام: أحيني مسكيناً وأْتِني مسكيناً واحشرني في جملة المساكين، ومن علامة المحبة كثرة ذكر الحبيب، وهو دليل محبة المولى لعبده وهو من أفضل مننه على خلقه، وفي الخبر أنّ للّه في كل يوم صدقة يمنّ بها على خلقه، وما تصدق على عبد بصدقة أفضل من أن يلهمه ذكره.(1/446)
وفي حديث سفيان عن مالك بن معول قيل: يارسول اللّه، أي الأعمال أفضل؟ قال: احتناب المحارم، ولا يزال فوك رطباً من ذكر اللّه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الذكر للّه كما أمر بمحبة اللّه، لأن الذكر مقتضى المحبة فقال: أكثر من ذكر اللّه حتى يقول الناس إنك مجنون، وقد روينا: أكثروا من ذكر اللّه حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون، وفي حديث أبي سلمة المدني عن أبيه عن جده: أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى مسجد قباء، فذكر حديثاً فيه طول قال في آخر: من تواضع للّه رفعه ومن تكبر وضعه، ومن أكثر ذكر اللّه أحبه اللّه، وقد أخبر أنّ الذاكرين هم السابقون المفردون، ورفعهم إلى مقام النبوّة في وضع الوزر، ورفع الذكر إن كان الذكر موجب الحبّ في قوله: سيروا سبق المفردون، قيل: مَنْ المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللّه، وضع الذكر عنهم أوزارهم يردون القيامة خفافاً، ومن أعلام المحبة: حبّ لقاء الحبيب على العيان، والكشف في دار السلام ومحل القرب وهو الاشتياق إلى الموت، لأنه مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المعاينة، وفي الحديث: من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، وقال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، وقال بعض السلف ما من خصلة أحبّ إلى اللّه تكون فيّ لعبد بعد حبّ لقائه من كثرة السجود، فقدم حبّ لقاء اللّه وقد شرط اللّه لحقيقة الصدق القتل في سبيله، وأخبر أنه يحب قتل محبوبه في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف:4، بعد قوله تقريراً لهم: لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ حيث قالوا: إنّا نحبّ اللّه، فجعل القتل محنة محبته وعلامة أخذ مال محبوبه ونفسه، إذ يقول تعالى: (يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) التوبة:111، وفي وصية أبي بكر لعمر رضي اللّه عنهما: الحق ثقيل وهو مع ثقله مريء، والباطل خفيف وهو مع خفته وبيء؛ فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحبّ إليك من الموت وهو مدرك، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه، وكان الثوري وبشر بن الحرث يقولان: لا يكره الموت إلا مريب، وهو كما قالا: لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء الحبيب، وهذا لا يجده إلا عبد يحبّ اللّه بكل قلبه، عندها يشتاق إليه مولاه فينزعج القلب لشوق الغيب، فيحبّ لقاءه، وروي أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن زمعة لما تبنى سالماً مولاه، عاتبته قريش في ذلك وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش بمولى فقال: واللّه، لقد أنكحته إياها وأني لأعلم أنه خير منها، فكان قوله أشد عليهم قالوا: وكيف؟ وهي أختك وهو مولاك فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب اللّه بكل قلبه فلينظر إلى سالم، فمن الدليل أنّ من المؤمنين من يحبّ اللّه ببعض قلبه فيؤثره بعض الإيثار، ويوجد فيه محبة الاعتبار، ومنهم من يحبه بكل قلبه فيؤثره على ما سواه، فهذا عابده ومألوهه الذي لا معبود له ولا إله إياه، وفيه دليل على أنهم على مقامات المحبة عن معاني مشاهدات الصفات ما بين البعض في القلوب والكلية، وقد كان نعيمان يؤتي به رسوله اللّه صلى الله عليه وسلم فيجده في معصية يرتكبها إلى أن أتى به يوماً فحده فلعنه رجل وقال: ماأكثر ما يؤتى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تفتعل فإنّه يحب اللّه ورسوله، فلم يخرجه من المحبة مع المخالفة، وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب يعني على الفؤاد كان المؤمن يحب اللّه حبّاً متوسطاً، فإذا دخل الإيمان باطن القلب فكان في سويدائه أحبه الحب البالغ، ومحبة ذلك أن ينظر؛ فإن كان يؤثر اللّه على جميع هواه ويغلب محبته على هوى العبد، حتى تصير محبة اللّه هي محبة العبد من كل شيء، فهو محب للّه حقّاً، كما أنه مؤمن به حقّاً، وإن رأيت قلبك دون ذلك فلك من المحبة بقدر ذلك، فأدلّ علامات المحبة الإيثار للمحبوب على ذخائر القلوب، ولذلك وصف اللّه المحبين بالإيثار، ووصفه العارفون بذلك، فقال تعالى في وصفه المحبين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَيَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً) الحشر:9، ثم قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الحشر:9، وقال في(1/447)
وصفه: تاللّه لقد آثرك اللّه علينا، وقال بعض العلماء: إنّ ظاهر القلب محل الإسلام، وإن باطنه مكان الإيمان، فمن ههنا تفاوت المحبون في المحبة لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر، وفرّق بعض علمائنا البصريين بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه، وقال مرة: في القلب تجويفان، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب وفيه السمع والبصر وعنه يكون الفهم والمشاهدة، وهو محل الإيمان، وقد قال اللّه: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) المجادلة:22 وقال: إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم طاعة للّه ومحبة له، فأما محبة المقربين فعن مشاهدة معاني الصفات وبعد معرفة أخلاق الذات، وهي مخصوصة بمخصوصين، والأصل في هذا أنّ المحبة، إذا كانت عن المعرفة فإنّ المعرفة عموم وخصوص؛ فلخصوص العارفين خاصة المحبة، ولعمومهم عموم المحبة.صفه: تاللّه لقد آثرك اللّه علينا، وقال بعض العلماء: إنّ ظاهر القلب محل الإسلام، وإن باطنه مكان الإيمان، فمن ههنا تفاوت المحبون في المحبة لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر، وفرّق بعض علمائنا البصريين بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه، وقال مرة: في القلب تجويفان، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب وفيه السمع والبصر وعنه يكون الفهم والمشاهدة، وهو محل الإيمان، وقد قال اللّه: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) المجادلة:22 وقال: إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم طاعة للّه ومحبة له، فأما محبة المقربين فعن مشاهدة معاني الصفات وبعد معرفة أخلاق الذات، وهي مخصوصة بمخصوصين، والأصل في هذا أنّ المحبة، إذا كانت عن المعرفة فإنّ المعرفة عموم وخصوص؛ فلخصوص العارفين خاصة المحبة، ولعمومهم عموم المحبة.(1/448)
ويروى في الأخبار السالفة: أنّ زليخا لما آمنت وتزوّج بها يوسف عليه السلام، انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت، فكان يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدافعه إلى الليل، فإذا دعاها ليلاً سوّفته نهاراً فقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه، فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه، وما أريد به بدلاً حتى قال لها: فإنّ اللّه أمرني بذلك، وأخبرني أنّه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان اللّه أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر اللّه، فعندها سكنت إليه، وقال بعض العلماء باللّه: إذا تم التوحيد تمت المحبة، وإذا جاءت المحبة تم التوكّل، فتم إيمانه وخلص فرضه وسمّي ذلك يقيناً، وقال الفضيل بن عياض في فرض المحبة: إذا قيل لك: تحبّ اللّه؟ فاسكت فإن قلت: لا، كفرت وإن قلت: نعم، فلس وصفك وصف المحبين، فاحذر المقت، وقال بعض علمائنا: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة، ولا في جهنم عذاب أشدّ من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة، ولم يتحقق بشيء من ذلك، وقال عالم فوقه: كل أهل المقامات يرجى أن يعفى عنهم ويسمح لهم إلا من ادعى المعرفة والمحبة، فإنهم يطالبون بكل شعرة مطالبة، وبكل حركة وسكون وكل نظرة وخطرة للّه وفي اللّه ومع اللّه، واعلم أنّ المحبة من اللّه لعبده ليست كمحبة الخلق، إذ محبة الخلق تكون حادثة لأحد سبع معان؛ لطبع أو لجنس أو لنفع أو لوصف أو لهوى أو لرحم ماسة أو لتقرب بذلك إلى اللّّه، فهذه حدود الشيء الذي يشبهه الشيء، واللّه يتعالى عن جميع ذلك لا يوصف بشيء منه إذ ليس كمثله شيء في كل شيء ولأن هذه أسباب محدثة في الخلق لمعان حادثة ومتولدة من المحبين لأسباب عليهم داخلة، وقد تتغير الأوقات وتنقلب لانقلاب الأوصاف، ومحبة اللّه سابقة للأسباب عن كلمته الحسنى، قديمة قبل الحادثات عن عنايته العليا، لا تتغير أبداً ولا تنقلب لأجل مابدا لقوله تعالى: إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني الكلمة الحسنى، وقيل المنزلة الحسنى فلا يجوز أن يسبقها سابق منهم بل قد سبقت كل سابقة، تكون: كقوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمينَ) الأنبياء51 فكذلك قال: هو سماكم المسلمين من قبل، وقال تعالى: (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يونس:2، وقال تعالى في آخر آياتهم: (في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِرٍ) القمر:55، ولا يصلح أن يكون قبل قدمه الصدق منهم قدم، كما لا يصلح أن يكون قبل علمه بهم منهم عمل بهم منهم، لأنّ عمله سبق المعلوم ومحبته لأوليائه سبقت محبتهم إياه ومعاملتهم له، ثم هي مع ذلك خاصية حكم من أحكامه ومزيد من فضل أقسامه وتتمة من سابغ إنعامه، خالصة لمخلصين،ومؤثرة لمؤثرين بقدم صدق سابق لخالصين، يؤول لي مقعد صدق عند صادق لسابقين، ليس لذلك سبب معقول ولا لأجل عمل معمول، بل يجري مجرى سرّ القدر ولطف القادر، وإفشاء سرّ القدر كفر، ولا يعلمه إلا نبي أو صديق ولا يطلع عليه إلا من يظهره، وما ظهر في الأخبار من الأسباب، فإنما هو طريق الأحباب ومقامات أهل القرب من أولي الألباب، وإنما تستبين المحبة وتظهر للعبد لحسن توفيقه وكلاءة عصمته، ولطائف تعليمه من غرائب علمه وخفايا لطفه، في سرعة ردهم إليه في كل شيء ووقوفهم عنده، ونظرهم إليه دون كل شيء وقربه منهم أقرب من كل شيء، وكثرة استعمالهم لحسن مرضاته وكشف اطلاعهم على معاني صفاته، ولطيف تعريفه لهم مكنون أسراره وفتوحه لأفكارهم من بواطن إنعامه واستخراجه منهم خالص شكره وحقيقة ذكره، فهذه طريقات المحبين له عن كشوف اطلاعه لهم من عين اليقين، يقال: إذا أحب اللّه عبداً استخدمه؛ فإذا استخدمه اقتطعه، وقيل إذا أحبّ اللّه عبداً نظر إليه، وإذا نظر اللّه إلى عبد لم يعذبه، وروي بعض هذا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.(1/449)
وروينا في الخبر: إذا أحبّ اللّه عبداً ابتلاه، وإذا أحبه الحبّ البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناؤه؟ قيل: لم يترك له أهلاً ولا مالاً، فالمحبة مزيد إيثار من المحب الأوّل وهو اللّه، لعبده وأحكام تظهر من المحبوب وهو العبد، في حسن معاملته، أوحقيقة علم يهبه له، كما قال إخوة يوسف عرفوا محبة اللّه ليوسف عليهم: تاللّه، لقد آثرك اللّه علينا، ثم قالوا: وإن كنا لخاطئين؟ فذكروا سالف خطاياهم وأنه آثره بما لم يؤثرهم به، فقال اللّه تعالى في وصفه إياه: ( قَالَ اجْعَلْني عَلى خَزَائِنِ الأرْضِ إنّي حَفيظٌ عَليمٌ) يوسف:55، وقال في موهبته له: آتيناه حكماً وعلماً، وكذلك نجزي المحسنين، فذكر ما سلف من إحسانه لما آثره به، وقالت الرسل: إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن اللّه يمنّ على من يشاء من عباده، وقال تعالى: (اللّهُ يَصْطَفي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) الحج: 75 وفي الخبر: إذا أحب اللّه عبداً ابتلاه يعني اختبره؛ فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه، وقال بعض العلماء: إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك فاعلم أنه يريد أن يصافيك، وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طولعت بشيء من المحبة فقال: يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرت عليه إياه؟ فقال: لا فقال: فلا تطمع في المحبة، فإنه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه، ومن دلائل المحبة حبّ: كلام الحبيب وتكريره على الأسماع والقلوب، وحدثونا عن بعض المريدين قال: كنت وجدت حلاوة المناجاة في سوء الإرادة، فأدمنت على قراءة القرآن ليلاً ونهاراً، ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة، قال: فسمعت قائلاً يقول لي في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي، أما ترى ما فيه من لطيف عتابي، قال: فانتبهت، وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي الأوّل، وقد قال بعض العارفين: لا يكون العبد مريداً حتى يجد في القرآن كل مايريد، وقد كان ابن مسعود يقول: لا على أحدكم أن يسأل على نفسه إلا القرآن فإن كان يحبّ القرآن فهو يحبّ اللّه، وإن لم يكن يحبّ القرآن فليس يحبّ اللّه، ومن علامة حبّ القرآن حب أهل القرآن وكثرة تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وقال سهل بن عبد اللّه: علامة حبّ اللّه حبّ القرآن وعلامة حبّ القرآن وحبّ اللّه حبّ النبيّ عليه السلام وعلامة حبّ النبيّ عليه السلام حبّ السنّة، وعلامة حبّ السنّة حبّ الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرةوقال تعالى وهو أحسن القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة:54 أي لا يرتدون لأنهم أبدال المرتدين، ولا ينبغي أن يكونوا أمثالهم، كما قال: يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، ومن علامة محبة المولى تقديم أمور الآخرة من كل ما يقرَّب من الحبيب على أمور الدنيا من كل ما تهوى النفس، والمبادرة بأوامر المحبوب وبواديه قبل عاجل حظوظ النفس، ثم إيثار محبته على هواك واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرك به ونهاك، والذل لأوليائه من العلماء به والعاملين، ثم التعزز على أبناء الدنيا الموصوفين بها المؤثرين لها، كما قيل لابن المبارك: ما التوضع؟ فقال: التكبر على المتكبرين، وقال الفتح بن شحرف، رأيت عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه في النوم فقلت: أنبئني بحرف خير فقال: ماأحسن تواضع الأغنياء للفقراء رجاء ثواب اللّه، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة باللّه، وإنما وصف اللّه أحباءه بالذل للأولياء والعزّ على الأعداء لأنه يصف من يحبه بأحسن الأوصاف، فالذل للحبيب حسن، والعزّ على العدو في حسنه مثل العزّ على الذليل، فلذلك وصف اللّه محبه بالذل للولي وبالعزّ على العدو، وقبح العزّ على الحبيب كقبح الذلّ للعدو، واللّه لا يصف أولياءه بقبيح، ومن علامات الحبّ: المجاهدة في طريق المحبوب بالمال والنفس، ليقرب منه ويبلغ مرضاته ويقطع كل قاطع يقطعه عنه بالمسارعة إلى قربه، كما قال تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلّيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) طه84 وكما أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم في قوله: وتبتل إليه تبتيلاً فيه معنيان: أحدهما انقطع إليه انقطاعاً عمّا سواه بالإخلاص له والأثرة على غيره، والأخرى: اقطع كل ما قطعك عنه(1/450)
إليه أي اقطع كل قاطع حتى تصل إليه، فهذان من أدل الدليل على المحبة، ثم أن لا يخاف في حبه لومة لائم كمن الخلق لأمه على محبته أو على السلوك إليه بشق النفس وهجران الدار ورفض المال، ولا يرجو في محبته مدح مادح ولا يرغب في حسن ثناء العباد بإيثارك له على الأهل والمال، ثم وجود الأنس في الوحدة والروح بالخلوة، ولطف التملق في المناجاة والتنعم بكلامه والتنعم بمرّ أحكامه ووجد حلاوة الخدمة ورؤية البلاء منه نعمة، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، ومن المحبة ترك السكون إلى غير محبوبه إذ هو السكن، وقال أبو محمد: خيانة المحب عند اللّه أشدّ من معصية العامة، وهو أن يسكن إلى غير اللّه ويستأنس بسواه، وفي قصة برخ، العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام أنّ اللّه تعالى قال لموسى: إنّ برخاً نعم العبد هو لي إلا أنّ فيه عيباً، قال: يارب، وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم السحر فيسكن إليه، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء، فالسكون في هذا الموضع الاستراحة إلى الشيء والأنس به، والسكون في غير هذا الموضع النظر إلى الشيء والإدلال به والطمأنينة والقطع به، ذكرت هذه الحكاية لبعض أهل المعرفة فقال: لم يرد بهذا برخاً إنما أراد به موسى، لأنه أقامه مقام المحبة فاستحى أن يواجهه بذلك، فعرض له ببرخ وكان هذا جواباً منه: إنّي سألته، لم أخبر موسى بعيبه وهو يحبه دون أن يخبره هو بعيب نفسه، فأجاب بهذا: فالمقربون من المحبين إنما نعيمهم باللّه وروحهم وراحتهم إليه من حيث كان بلاؤهم منه، فإذا وجدوا ذلك في سواه كانت ذنوباً لهم عن غفلة أدخلت عليهم ليتوبوا منها إليه فيغفر لهم، وروينا أن عابداً عبد اللّه في غيضة دهراً، فنظر إلى طير قد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حوّلت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى اللّه إلى النبي عليه السلام: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً فمن صدق المحبة وخالصها الانقطاع إلى الحبيب بوجود الأنس به، ومصادفة الاستراحة والروح عنده بمحادثة في المجالسة، ومناجاة في الخلوة وذوق حلاوة النعيم في ترك المخالفة لغلبة حب الموافقة، كما أنشدني بعضهم عن بعض المحبين:إليه أي اقطع كل قاطع حتى تصل إليه، فهذان من أدل الدليل على المحبة، ثم أن لا يخاف في حبه لومة لائم كمن الخلق لأمه على محبته أو على السلوك إليه بشق النفس وهجران الدار ورفض المال، ولا يرجو في محبته مدح مادح ولا يرغب في حسن ثناء العباد بإيثارك له على الأهل والمال، ثم وجود الأنس في الوحدة والروح بالخلوة، ولطف التملق في المناجاة والتنعم بكلامه والتنعم بمرّ أحكامه ووجد حلاوة الخدمة ورؤية البلاء منه نعمة، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، ومن المحبة ترك السكون إلى غير محبوبه إذ هو السكن، وقال أبو محمد: خيانة المحب عند اللّه أشدّ من معصية العامة، وهو أن يسكن إلى غير اللّه ويستأنس بسواه، وفي قصة برخ، العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام أنّ اللّه تعالى قال لموسى: إنّ برخاً نعم العبد هو لي إلا أنّ فيه عيباً، قال: يارب، وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم السحر فيسكن إليه، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء، فالسكون في هذا الموضع الاستراحة إلى الشيء والأنس به، والسكون في غير هذا الموضع النظر إلى الشيء والإدلال به والطمأنينة والقطع به، ذكرت هذه الحكاية لبعض أهل المعرفة فقال: لم يرد بهذا برخاً إنما أراد به موسى، لأنه أقامه مقام المحبة فاستحى أن يواجهه بذلك، فعرض له ببرخ وكان هذا جواباً منه: إنّي سألته، لم أخبر موسى بعيبه وهو يحبه دون أن يخبره هو بعيب نفسه، فأجاب بهذا: فالمقربون من المحبين إنما نعيمهم باللّه وروحهم وراحتهم إليه من حيث كان بلاؤهم منه، فإذا وجدوا ذلك في سواه كانت ذنوباً لهم عن غفلة أدخلت عليهم ليتوبوا منها إليه فيغفر لهم، وروينا أن عابداً عبد اللّه في غيضة دهراً، فنظر إلى طير قد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حوّلت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى اللّه إلى النبي عليه السلام: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً فمن صدق المحبة وخالصها الانقطاع إلى الحبيب بوجود الأنس به، ومصادفة الاستراحة والروح عنده بمحادثة في المجالسة، ومناجاة في الخلوة وذوق حلاوة النعيم في ترك المخالفة لغلبة حب الموافقة، كما أنشدني بعضهم عن بعض المحبين:(1/451)
ألذّ جميل الصبر عمّا ألذه ... وأهوى لما أهواه تركاً فاتركه(1/452)
وقال نظيره في مثله: وأترك ما أهوى لمن قد هويته، وأرضى بما يرضى وإن سخطت نفسي، ثم الطمأنينة إلى الحبيب وعكوف الهم على القريب ودوام النظر، وسياحة الفكر لأن من عرفه أحبه، ومن أحبه نظر إليه، ومن نظر إليه عكف عليه، أما فهمت هذا من قوله تعالى:(وَانْظُرْ إِلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه:97 ومن فرائض المحبة وفضائلها؛ موافقة الحبيب فيما أحب حبّ اللّه، كما قال عمر رضي اللّه عنه لصهيب رحم اللّه صهيباً: لو لم يخف اللّه لم يعصه؛ أي أنّ محبته له تمنعه من مخالفته عن غير خيفة، فهو يطيعه حبّاً له، وكان صهيب يقول إنّه يستخرج من حبي لربي شيئاً لا يستخرجه غيره؛ يعني من معاني الصفات المخوفة والأفعال المرجوة، وقال بعض علمائنا: الإيثار يشهد للحب، فعلامة حبه إيثاره على نفسك، وقال: ليس كل من عمل بطاعة اللّه صار حبيباً للّه، ولكن كل من اجتنب ما نهاه صار حبيباً وهذا كما قال: إنَّ المحبة تستبين بترك المخالفة، ولا تبين بكثرة الأعمال، كما قيل: أعمال البرّ يعملها البرّ والفاجر والمعاصي لا يتركها إلا صديق، وقيل: أفضل منازل الطاعات الصبر على الطاعات، وإن الصبر على الطاعة يضاعف إلى سبعين، والصبر عن المعصية يضاعف إلى سبعمائة كأنه أقيم مقام المجاهد في سبيل اللّه، لأنه يقع اختباراً من اللّه وضرورة من كلية النفس، فإذا ترك هواه فقد ترك نفسه، فأقلّ ما له في ذلك الزهد في الدنيا والجهاد في سبيل اللّه، ومن أجل ذلك ضوعفت حسناته إلى سبعمائة، ومن أجله ثبتت له المحبة بترك المخالفة، قال اللّه تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن:46 تفضله على غيره بحبه، وأعجب ما سمعت في هذا أنّ موسى سأل الخضر: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: بترك المعاصي كلها، وقد كان أبو محمد يقول في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفَسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) التوبة: 111، قال: عيش نفوسهم الفاني وهو عاجل حظوظهم من الشهوات، ومن المحبة وجود الروح بالشكوى إليه والاستراحة إلى علمه به وحده، وإخلاص المعاملة لوجهه وحسن الأدب فيها، وهو الإخفاء لها وكتم ما يحكم به من الضيق والشدائد، وإظهار ما ينعم به من الإلطاف والفوائد وكثرة التفكر في نعمائه وخفيّ ألطافه، وغرائب صنعه وعجائب قدرته وحسن الثناء عليه في كل حال، ونشر الآلاء منه والأفضال والصبر على بلائه، لأنه قد صار من أهله وأوليائه، وقد يعسف بأوليائه ويعنف بأحبابه لتمكنه منهم ومكانتهم عنده، ولعلمه أنهم لا يريدون له بدلاً ولا يبغون عنه حولاً، إذ ليست لهم راحة لسواه ولا بغية في سواه ولا لهم همّة إلاّ إياه، كما قال بعض المحبين: ويلي منك وويلي عليك، أفزع منك وأشتاق إليك، إن طلبتك أتعبتني وإن هربت منك طلبتني، فليس لي معك راحة ولا لي في غيرك استراحة، ثم المسارعة إلى ما ندب إليه من أنواع البرّ بوجود الحلاوة وبشرح الصدر كما جاء في الأثر، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، ثم الرضا بقضائه لأنه مستحسن لأفعاله، ثم اللهج بذكره ومحبة من يذكره ومجالسة من يذكره، ودوام التشكي والحنين إليه وخلو القلب من الخلق، وسبق النظر إلى الخالق في كل شيء، وسرعة الرجوع إليه بكل شيء، ووجد الأنس به عند كل شيء، وكثرة الذكر له والتذكر بكل شيء، ومن علامة المحبة طول التهجد، وروي عن اللّه سبحانه: كذب من ادّعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، إلاّ أنّ بعضهم جعل سهر الليل في مقام بعينه، ذكر له هذا الخبر فقال: ذاك إذا أقامه مقام الشوق فأما إذا أنزل عليه السكينة وأواه بالأنس في القرب، استوى نومه وسهره،ثم قال: رأيت جماعة من المحبين، نومهم بالليل أكثر من سهرهم، وإمام المحبين وسيد المحبوبين رسوله اللّه صلى الله عليه وسلم كان ينام مثل ما يقوم، وقد يكون نومه أكثر من قيامه ولم يكن تأتي عليه ليلة حتى ينام فيها، ومن المحبة الخروج إلى الحبيب من المال بالزهد في الدنيا، والخروج إليه من النفس بإيثار الحق على جميع الأهواء، وقال الجنيد: علامة المحبة دوام النشاط والدؤوب بشهوة يفتر بدنه ولا يفتر قلبه، وقد قال بعض السلف: العمل عن المحبة لا يداخله الفتور، وقال بعض العلماء: واللّه ما استسقي محب للّه من طاعته ولو حل بعظيم الوسائل، ومن المحبة التناصح بالحق والتواصي به والصبر(1/453)
على ذلك، كما وصف تعالى الرابحين من الصالحين، فقال تعالى:(إِنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) (إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَبْرِ) العصر:2 - 3، لأن المحبين ليسوا كمن وصفه في قوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألَكُمْ أَمْوَالَكُمْ) (إِنْ يَسْألكُموهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد:36 - 37 يعني أن يسألكم محبوبكم من الأموال ويستقصي عليكم يخرج أحقادكم عليه.على ذلك، كما وصف تعالى الرابحين من الصالحين، فقال تعالى:(إِنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) (إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَبْرِ) العصر:2 - 3، لأن المحبين ليسوا كمن وصفه في قوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألَكُمْ أَمْوَالَكُمْ) (إِنْ يَسْألكُموهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد:36 - 37 يعني أن يسألكم محبوبكم من الأموال ويستقصي عليكم يخرج أحقادكم عليه.
وروينا في مقرأ ابن عباس: ويخرج أضغانكم؛ يعني الأموال، فلو لم يدخل على هؤلاء الضعفاء إلا الشرك في محبة الأموال والشغل بها عن ذكر ذي الجلال، فخسروا ما ربح المخلصون من الأحباب، وفاتهم ما أدرك الصالحون من طوبى وحسن مآب، فاللّه تعالى يسأل أحبابه أموالهم وأنفسهم حتى لا يبقى لهم محبوب سواه ولئلا يعبدوا إلاّ إيّاه محبة منه وكشفاً لمحبتهم واختباراً لأخبارهم في صدقهم وصبرهم، ولأنه جواد ملك لايسأل إلا كلية الشيء وجملته، وهو غيور لا يحب أن يشركه سواه في محبته، فلا يصبر عليه إلاّ من عرفه ولا يحبه إلا من صبر عليه، ولا يرضى بحكمه فيه إلاّ من أيقن به، إلاّ أنه لا يسأل الجملة كلها إلا لمن أحبه المحبة الخاصة، وذلك كله من نظام حكمته، وقيل لبعض المحبوبين وكان قد بذل المجهود في بذل ماله ونفسه، حتي لم يبقَ عليه منها بقية: ما كان سبب حالك هذه من المحبة؟ فقال: كلمة سمعتها من خلق لخلق عملت بي هذا البلاء، قيل: وما هي؟ قال: سمعت محبّاً قد خلا بمحبوبه وهو يقول: أنا واللّه أحبك بقلبي كله، وأنت معرض عني بوجهك كله، فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأي شيء تنفق عليّ فقال: ياسيدي، أملّكك ما أملك، ثم أنفق عليك روحي حتى تهلك، فقلت: هذا خلق لخلق وعبد لعبد، فكيف بخلق لخالق وعبد لمعبود، فكان ذلك سببه فقد دخلت الأموال في الأنفس تحت الشراء، وقد باعوه نفوسهم فما دونها لمحبتهم إياه، وقد اشتراها منهم لنفاستها عنده، فعلامة محبته لها اشتراؤها منهم، وعلامة شرائها طيّها عنهم؛ فإذا طواها فلم يكن عليهم منها بقية هوى في سواه، فقد اشتراها، واعلم أنّ آفات النفوس هي أدواؤها، وطهرة النفوس من الأدواء هو داؤها، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا) الشمس:9، فإذا صفاها من الآفات فقد صافاها، وإذا امتحنها بالتمحيص من الشهوات للتقوى فقد اشتراها، ولكل داء من النفس دواء على قدر صغره وعظمه، فضع الدواء على الداء من حيث دخل عليك، بإدخال ضده عليه وبقطع أصله عنه، فعلامة النفوس المشتراة وهي المحبوبة المجتباة، التوبة إلى الحبيب بالخدمة له وكثرة الحمد له بالسياحة إليه ودوام الصلاة، بحسن الأدب بين يديه والأمر بما يحب والنهي عمّا يكره والحفظ بحدوده التي حدّها وترتيب العلم على مدارج العقل، بإخفاء علم التوحيد وأسرار قيومية القدرة من المحافظة، لأنّ العقل حدّ، وذلك من كتمان علم المحبة، فهو عند المحبين كحفظ حدوده على الجوارح التي شرعها بألسنة الرسل، ومن يتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، إنّ اللّه يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهرين، واللّه يحب المتّقين، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يحبه اللّه فليزهد في الدنيا، فلا يطمعن طامع في محبة اللّه قبل الزهد في الدنيا، فهذه جمل أوصاف المحبين، ومن المحبة أن لا يطلب خدمة سواه وأن يجتمع في محبته همه وهواه، ولا يهوي إلا ما فيه رضا المولى، ولا يقضي عليه مولاه إلا بما يهواه.(1/454)
وروي عن بعض العلماء إذا رأيته يوحشك من خلقه، فاعمل أنّه يريد أن يؤنسك به وفي أخبار داود عليه السلام أنّ اللّه تعالى أوحى إليه: إنّ أودّ الأودّاء إليّ من عبدني لغير نوال، لكن ليعطي الربوبية حقها، وفيما نقل وهب من الزبور، ومن أظلم ممن عبدني لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن أهلاً أن أطاع، أو كما قال، وفي أخبار عيسى: إذا رأيت التقيّ مشغوفاً في طلب الربّ فقد ألهاه ذلك عمّا سواه، وعن عيسى عليه السلام: المحب للّه يحب النصب، وروي عنه أنّه مرّ على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية فقال: ماأنتم؟ فقالوا: نحن عبّاد قال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوّفنا اللّه من النار فخفنا منها فقال: وحق على اللّه أن يؤمنكم ما خفتم، ثم جاوزهم فمرّ بآخرين أشدّ عبادة منهم فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شوّقنا اللّه إلى الجنان وما أعدّ فيها لأوليائه فنحن نرجو ذلك، فقال: حق على اللّه أن يعطيكم ما رجوتم، ثم جاوزهم فمرّ بآخرين يتعبدّون فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبون للّه، لم نعبده خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنة ولكن حبّاً له وتعظيماً لجلاله فقال: أنتم أولياء اللّه حقّاً، معكم أمرت أن أقيم فأقام بين أظهرهم، وفي لفظ آخر أنه قال للأوّلين: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً أحببتم، وقال لهؤلاء: أنتم المقربون، وممن روى عنه هذا القول وأقيم في هذا المقام جماعة من التابعين بإحسان منهم: أبو حازم المدني كان يقول إني لأستحي من ربّي أن أعبده خوفاً من العقاب، فأكون مثل العبد السوء إن لم يعطَ أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له، وقد روينا معنى هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكون أحدكم كالعبد السوء؛ إن خاف عمل، ولا كالأجير السوء إن لم يعطَ أجراً لم يعمل، وقال بعض إخوان معروف له: أخبرني عنك أي شيء أحاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شيء الموت؟ قلت: ذكر القبر والبرزخ فقال: وأي شيء القبر؟ فقلت:خوف النار ورجاء الجنة فقال: وأيّ شيء هذا؟ إنّ واحداً بيده هذا كله إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.(1/455)
وحدثت عن عليّ بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفّح وجوه قوم، فيدخل بعضاً ويرد بعضاً، قال: ثم جاوزتها إلى حظيرة القدس، فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى اللّه عزّ وجلّ لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ فقال: معروف الكرخي عبد اللّه لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنته بل حبّاً له، فقد أباحه النظر إليه إلى يوم القيامة، قلت: فمن الآخران قال: أخواك بشر بن الحرث وأحمد بن حنبل، وهذا مقام الأبدال من الصدّيقين، لا يقامون مقام أبدال الأنبياء ولا يعطون منازل الشهداء، حتى تغلب محبة اللّه على قلوبهم في كل حال فيتألهون إليه، ويذهلون به عن غيره وينسون في ذكره من سواه، فيعبدونه لأجله صرفاً، وهم، المقربون ونعيمهم في الجنان صرف، ويمزج لأهل المزج وهم أصحاب اليمين، كما قال تعالى في وصف نعيمهم: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ) (عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) (تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعيمِ) (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ) المطففين:22 - 23 - 24 - 25 ثم قال في نعت شراب المقربين ومزاجه، يعني مزاج شراب الأبرار: من تسنيم عيناً يشرب بها المقرّبون؛ أيّ يشربها المقرّبون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين، فما طال شراب الأبرار إلا بمزاج شراب المقربين، فعبّر عن جمع نعيم الجنان بالشراب، كما عبّر عن العلوم والأعمال بالكتاب، فقال في نعت الأبرار مثله؛ إنّ كتاب الأبرار لفي عليين، ثم قال: يشهده المقربون؛ فما حسن علمهم ولا صفت أعمالهم، ولا علا كتابهم إلاّ بشهادة المقربين لما قرب منهم وحضروه، كذلك كانوا في الدنيا تحسن علومهم بعلمهم وترتفع أعمالهم بمشاهدتهم، ويجدون المزيد في نفوسهم بقربهم منهم، كما بدأنا أول خلق نعيده، وقلا تعالى: (جَزَاءً وِفَاقَاً) النبأ:26 أي وافق أعمالهم، وقال تعالى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) الأنعام:139 أي كوصفهم في الدنيا إنّه حكيم عليم؛ فمن كان في هذه الدار نعيمه طيبات الملك، فكذلك غداً يكون الملك نعيمه، ومن كان فيها نعيمه وروحه بالطيب الملك، فهو غداً في مقعد صدق عند مليكه،كما قال أبو سليمان الداراني: مَنْ كَان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومَنْ كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربّه، وقد روينا عن رابعة العدوية وكانت إحدى المحبين، وكان الثوري يقعد بين يديها ويقول: علّمينا مما أفادك اللّه من ظرائف الحكمة، وكانت تقول: نعم الرجل أنت لولا أنّك تحب الدنيا، وقد كان رحمه اللّه زاهداً في الدنيا عالماً، إلاّ إنّها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا، وقال لها الثوري يوماً: لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ماعبدت اللّه خوفاً من اللّه، فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت، ولا حبًّا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبًّا له وشوقاً إليه، وروى عنهاحمّاد بن زيد أنها قالت: إني لأستحي إن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها، وكان هذا جواباً لأنّه قال لها: اذكري لي حوائجك حتى أقضيها، وخطبها عبد الواحد بن زيد فقالت: يا شهواني اطلب شهوانية مثلك، أي شيء رأيت فيَّ من آلة الشهوة؟ وخطبها محمد بن سليمان أمير البصرة على مائة ألف وقال لي: غلة عشرة آلاف في كل شهر أدفعها إليك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وأنّ كل ما تملكه لي وأنك شغلتني عن اللهّ طرفة عين، وقدقالت: في معنى المحبة أبياتاً تحتاج إلى شرح، حملها عنها أهل البصرة وغيرهم، منهم جعفر بن سليمان الضبعي وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الواحد بن زيد:
أحبُّك حبين: حب الهوى ... وحبُّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا(1/456)
فأما قولها: حبّ لهوى وقولها حب أنت أهل له، وتفريقها بين الحبين فإنّه يحتاج إلى تفصيل حتى يقف عليه من لا يعرفه، ويخبره من لم يشهده، وفي تسميته ونعت وصفه إنكار من ذوي العقول، ممن لا ذوق له ولا قدم فيه، ولكنّا نحمل ذلك وندّل عليه من عرفه يعني حب الهوى، إني رأيتك فأحببتك عن مشاهدة عين اليقين، لا عن خبر وسمع تصديق من طريق النعم والإحسان، فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك عليّ، ولكن محبتي من طريق العيان، فقربت منك وهربت إليك واشتغلت بك وانقطعت عمّن سواك، وقد كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة فلما رأيتك اجتمعت كلّها فصرت أنت كلية القلب وجملة المحبة فأنسيتني ما سواك ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب، ولا أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان، لأن حبي لك لا يوجب عليك جزاء عليه بل يوجب على كل شيء لك مني كل شيء مما لا أطيقه ولا أقوم بحقك فيه أبداً، إذ كنت قد أحببتك فلزمني خوف التقصير، ووجب علّي الحياء من قلة الوفاء، فتفضلت علّي بفضل كرمك، وما أنت له أهل من تفضلك، فأريتني وجهك عندك آخراً كما أريتنيه اليوم عندي أولاً، فلك الحمد على ما تفضلت به ذا عندي في الدنيا ولك الحمد على ما تفضلت به في ذاك عندك في الآخرة، ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك، إذ كنت وصلت إليهما بك فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما، فهذا الذي فسّرناه هو وجد المحبين المحقين ظنَّاً بقولها ذلك، إذا كان لها في المحبة قدم صدق، واللّه أعلم ولايسعنا أن نشرح في كتاب كشف حقيقة ما أجملناه ولا أن نفصل وصف ما ذكرناه ومَنْ لم يكن من المحبين كذلك حتى يدلّ بمحبته ويقتضي الجزاء عليها من محبوبه ويوجب على حبيبه شيئاً لأجل محبته، فهو مخدوع بالمحبة ومحجوب بالنظر إليها، وإنما ذاك مقام الرجاء الذي ضده الخوف، وليس من المحبة في شيء ولا تصح المحبة إلاّ بخوف المقت في المحبة، وقال بعض العارفين: ماعرفه من ظن أنه عرفه، ولا أحبّه من توهمّ أنّه أحبه.
ذكر مخاوف المحبين ومقاماتهم في الخوف
وللمحب سبع مخاوف ليست بشيء من أهل المقامات، بعضها أشدّ من بعض: أولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأعظم من هذا خوف البعد، وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيّب الحبيب إذ سمع المحبوب يقول: ألا بعداً لثمود ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود فذكر البعد في البعد، يشيب أهل القرب في القرب، ثم خوف السلب للمريد والإيقاف مع التحديد، وهذا يكون للخصوص في الإظهار والاختيار منهم، فيسلبونه حقيقة ذلك عقوبة لهم، وقد يكون عند الدعوى للمحبة ووصف النفس لحقيقتها، وينقصون معه ولا يقنطون لذلك وهو لطيف من المكر الخفي، ثم خوف الفوت الذي لا درك له، سمع إبراهيم بن أدهم وهو أحد المحبين قائلاً يقول في سياحته نظماً:
كل شيء لك مغفور ... سوى الإعراض عني
قد وهبنا منك ما فا ... ت بقي ما فات مني(1/457)
فاضطرب وغشي عليه فلم يفق يوماً وليلة، وهذا في قصة طويلة كانت له بعد مقامات أقيم نقل عنها إلى هذا المكان، حتى قال في آخر ذلك: فسمعت النداء من الجب: يا إبراهيم كن عبداً قال: فكنت عبداً، فاسترحت، معناه لا يملكك إلا واحد تكون عبداً له حرًّا مما سواه،ولا تملك شيئاً فإنّ الأشياء في خزانة مليكها فلا تتملكها فتحجبك عن مالك، وتأسرك بمقدار ما ملكتها، وقد ضرب اللّه مثلاً بينه وبين خلقه أنّ رجلين أحدهما فيه شركاء متشاكسون علىه من أهل ومال وشهوات، وآخر مسالماً خالصاً لواحد، إنهما لا يستويان في قوله تعالى:(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاَ رَجُلاً فيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهّ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر:29، أي الأكثر ليسوا علماء، هكذا الواحد وأشد من الفوت خوف السلو وهذا أخوف ما يخافون، لأن حبَّا له كان به لا بهم وهو نعمة عظيمة لا يعرف قدرها، فكيف يشكره عليها ولا يقوم لها شيء ؟ فكذلك سلوهم عنه يكون به كما حبهم له به، فيدخل عليهم السلو عنه من حيث لا يشعرون، من مكان ما دخل عليهم الحبّ له من حيث لا يعلمو، فتجد السلو به كماوجدت الحبّ له، فتكون به قد سلوت عنه وأنت لا تدري كيف سلوت، لأنه يدرجك في ذلك إدراجاً بلطائف الحكمة، كما أنك أحببته وأنت لا تدري لأنه أشهدك وصفه باطلاع القدرة عن جنان الرحمة، فوجدت نفسك محبًّا له، كذلك ترجع المحبة كما جاءت تحجبك عنه عن وصف المكر والجبرية، فتجد قلبك سالياً عنه بلا حول منه ولا قوّة ولا اجتلاب ولا حيلة، وهذا لا يصفه إلا عارف بدقيق بلائه، ولا يحذره إلا خائف من خفي مكره وابتلائه فإذا سلوت عنه به كان ذلك دليلاً منه أنه قد رفضك وأطرحك كما أنت إذا كنت تحبه إنما أحببته به، وهذا هو تحقيق المكر السريع بسرعة تقليب القدرة لقلوب الذي تحقق بالمكور، وهو درك الشقاء الذي أدرك المغرور بما لا يدركه الطرف لسرعته، ولا يحول في الوهم لخفيته، كقوله تعالى: (إَذَاَ لَهُمْ مَكْرٌ في آيَاِتَنا) يونس: 21، أي معصية بالنعم، قل اللّه أسرع مكراً أي أخفى تقليباً قد أظهر لهم نعماً أحبوها، وكانت عقوبة ونقاماً باطنة في لبس النعم الظاهرة يدر جوابها إلى درجة درجة من حيث لا يعلمون، وأشد من هذا كله خوف الاستبدال لأنه لا مشوبة فيه، وهذا حقيقة الاستدارج يقع عن نهاية المقت من المحبوب، وغاية البغض منه والبعد، والسلو مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب بداية ذلك كله، والقبض عن الذكر وضيق الصدر بالبر أسباب هذه المعاني المبعدة والمدارج المدرجة، إذا قويت وتزايدت أخرجت إلى هذا كله، وإذا تناقصت وبدل بها الصالحات والحسنات أدخلت في مقامات المحبة والقربات، كما جاء في الأثر الثابت عن حبيب اللّه، وكذلك في تدبر الخطاب أنّ العاكف على هواه مقيت اللّه، فوجد هذه الأوصاف منك دلائل ما عاد عنك من الاستبدال بك والإسقاط لك، والخوف من هذه المعاني علامة المعرفة بأخلاقه الملوئة، ولا يصلح شرح هذه المقامات في كتاب ولا تفصيلها برسم خطاب، إنما يشرح في قلبه بيقينه قد شرح وبفضل العبد من نفسه قد فصل، فأما قلبه مشترك وعبد في هواه مرتبك، فليس لذلك أهلاً واللّه المستعان، وثم خوف ثامن عن شهادة حب عال يغرب اسمه فيلتبس، ويخفي وصفه لقلة اشتهاره في الاستماع فيجهل، لم نسمه لأنه خوف عن مقام له اسم من المحبة، فيشتبه على كثير من سامعيه فينكرونه ويتشنج في أوهام غير مشاهديه بالخلق فيمثلونه، لأن أسماء صفات الخلق ملتبسة بمعنى صفات الخالق، وإنما لهم من ذلك مايعلمون وهم بعلومهم محجوبون، فكيف بها يشهدون، فإن ذكرنا خوفه ثم على ذكر مقامه فظهر بإظهاره، فكان طيه أفضل من نشره إلى أن يسأل عنه من ابتلي بمصدره عنه، بعد أن نشرت منه لأن مقامات المحبة كلها إلى جنب مقامه، كنهر ضيف إلى بحر مثله، كمثل مشاهدات اليقين كلها إلى جنب شهادة التوحيد بالتوحيد، وهو وصف من المحبة يعرف لأنّه من شوق الحبيب إلى المحب، وهو من معنى قول رابعة آنفاً: حبّ الهوى، ومن معنى قول عائشة رضي اللّه عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: أرى ربّك يسارع إلى هواك، ومن صدر عن مقام محبّ بعد وروده رفع إلى هذا المقام لأنه في مقام محبوب لجميل مشاهدات اليقين، وقد كان الجنيد رحمه اللّه ينشد هذين(1/458)
البيتين كثيراً:تين كثيراً:
ومن بعد هذا ما تدق صفاته ... وما كتمه أحظى لديه وأعدل
ألا أنَّ للرحمن سرًّا يسرّه ... إلى أهله في السرّ والستر أجمل
وقد ذكرنا معناه بعض المحبوبين في كلام منظوم في بيتين وهما:
فمنك بدا حبّ بعز تمازجا ... بماء وصال كنت أنت وصلته
ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه ... فكان بلا كون لأنك كنته
وقال بعض العلماء: مَنْ عرف اللّه من طريق المحبة بغير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عرفه من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومَنْ عرف اللّه من طريق المحبة والخوف أحبّه اللّه فقرّبه وعلّمه ومكنّه، وليس العجب من خوف الخائفين إذ لا يعرفون إلا الصفات المخوفات والأفعال القاصمات، وإنما العجب من خوف المحبين مع ما عرفوا من أخلاقه وحنانه وشهدوا من تعطفه وألطافه مالم يعرف الخائفون، ثم هم مع حبهم يهابونه وعلى أنفسهم به يحابونه، وفي فزعهم منه يشتاقون إليه، وفي بسطه لهم ينقبضون بين يديه، وفي إعزازه لهم يذلون له، لأن من قبض فانقبض فليس بعجب، ولكن من أعزّ وأكرم فتواضع وذلّ فهو العجب، فللمحبين الانقباض في البسط، وللخائفين الانقباض في القبض، وللمحبين الذلّ مع العزّ والكرامة، وللخائفين الذلة مع الهيبة والمهنة، فهذا يدل على أنّ معرفة المحبين به أعظم المعارف إذ كانت أوائل أحوالهم المخاوف، فكل محبّ للّه خائف وليس كل خائف محبًّا يعني محبة المقربين، لأنّه لم يذق طعم الحبّ لأنّ طعم محبة المسلمين المفترضة لا يقع بها اعتبار في مقامات الخصوص، لأنّه لا يوجد عنها مواجيد الأحوال، ولا يعلى بها في مشاهدات الأنتفال، لأنها قوت الإيمان، منوطة بصحته وموجودة بوجوده، والمحبة لا ترفع الهيبة، فلذلك كان محبّاً خائفاً لأنّ المحبوب مهوب، والخوف قد يقبض عن المحبة لشغل الخائف بوصفه السالف، وهذا كشف الأبرار وهو حجاب المقرب من المحبة قوت، وهذا كما يقول في الرجاء والخوف لأنهما وصفا الإيمان، إلا إنّ الخائف يتدرج الرجاء في حاله والراجي ينطوي الخوف في رجائه، وفي سبق ترتيب المقامات من اللّه تعالى حكم غريب وحكمة لطيفة لا يعرفها إلا من أعطى يقين شهادتها، إن سبق إلى العبد بمقام الخوف كان محبًّا حبّ المقربين العارفين، وإن سبق إليه بمقام المحبة كان محبًّا محبة أصحاب اليمين، ولم يكن له مقامات المحبين المستأنسين ولا المشتاقين في مقامات المقربين، وكل هؤلاء موقنون صالحون وإن خرجت أحوالهم عن ترتيب علوم أهل الظاهر، لأن المنكر له أكثر من المقرّ، واللّه غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هم درجات عند اللّه واللّه بصير بما يعملون، وربما كانت المحبة ثواباً للخوف ومزيداً له وهذا في مقام العاملين، وربما كان الخوف مزيد المحبة وثوابها وهذا في مقام العالمين، فمن كانت المحبة مزيده بعد الخوف فهو من المقربين المحبوبين، ومَنْ كان الخوف مزيد محبتّه فهذا من الأبرار المحبين، وهم أصحاب اليمين.(1/459)
وسئل بعض علمائنا البصريين: الحبّ أفضل أو الحياء ؟ فقال: الحب الذي يورث منه الخوف، الحياء أفضل من، والحبّ الذي يورث الحياء منه أفضل من الحياء وهو الشوق، وقال الجنيد: المحبة نفسها قرب القلب من اللّه بالاستنارة والفرح، فأما حبّ تجلي الصفات عن الأسماء الباطنة فإنّا لم نذكر منها شيئاً، وإنما ذكرنا محبة الأخلاق عن الأسماء الظاهرة، ولا أحسب أنه يحل رسمه في كتاب ولا كشفه لعموم الناس لأنّه من سرّ المحبة لا يكاشف به إلا مَنْ اطلع عليه ولا يتحدث به إلا مَنْ أعطيه، وما رأيت أحداً رسمه في كتاب لأنّه لا يؤخذ من كتاب، وإنما يتلقى من أفواه العلماء، وينسخ من قلب إلى قلب، وهو يشبه ماكتبنا عنه آنفاً من الخوف الثامن الذي لم نصفه لمن لا يعرفه، ومما نقل في الأثر من وصف من أذيق منه ولم يفصح بذكر وصفه أنّا روينا في الأخبار: أنّ بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل اللّه أن يرزقه ذرة من محبته ففعل ذلك، فهام في الجبال وحار عقله، ووله قلبه، وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصدّيق ربه فقال: يارب انقصه من الذرة نصفها، فأوحى اللّه إليه إنما أعطنياه جزءاً من مائة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك أنّ مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخّرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته، فقسمت ذرة من المحبة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه من ذلك، فقلت: سبحانك أحكم الحاكمين انقصه مما أعطيته، قال: فأذهب اللّه عنه جملة ذلك الجزء وبقي فيه عشر معشاره وهو جزء من ألف جزء، فاعتدل خوفه وحبه وعلمه ورجاؤه، وصار كسائر العارفين، ومن علم المحبة سهر الليل بمناجاة الجليل، والحنين إلى الغروب شوقاً إلى الخلوة بالمحبوب، ومناجاة القلب سرائر الوجد، ومطالعة الغيب والمناجاة عند أهل المصافاة، إنما هي بالقلوب وهي مطالعاتها بواطن الغيوب، وجولانها في سرّ الملكوت وعلوّها في معاني الجبروت بأنوار أرواحها، يحملها شعاع أنواره فيوقعها على خزائن أسراره، والمناجاة دليل رؤية القرب وشاهد وجود الأنس، وفيما أخبرنا عن اللّه تعالى أنه قال: كذب من ادّعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحبّ الخلوة بحبيبه، فها أنا ذا قريب من أحبابي أسمع سرّهم ونجواهم وأشهد حنينهم وشكواهم.(1/460)
وروينا عن بعض العلماء القدماء أنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصدّيقين: أنّ لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبّهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، يذكروني وأذكرهم، وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتّك، قال: يارب: وماعلامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحنّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرّة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا لي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملّقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوّه وشاكٍ، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، فأول ما أعطيهم ثلاثاً أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات والأرض ومافيهما في موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وأما الشوق فإنه مقام رفيع من مقامات المحبة، وليس يبقى الشوق للعبد راحة ولا نعيماً في غير مشوقه، والمشتاقون مقرّبون بما أشهدوا من الشوق إليه، وهم المأمور بطلبهم، الموجود الحبيب عندهم مثوبة منه لهم لما شوقهم إليه في قوله لموسى عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، هم المشتاقون من المحبين واللّه أعلم، وذلك أن الحبيب قرب منهم بوصفه تكرّماً، ففرحوا بقربه، وعاشوا بمشاهدته، ونعموا لحضورهم عنده، ثم احتجب عنهم غيرة على نفسه لعزّه فانكسرت قلوبهم لأجله، فاشتاقوا إلى ما عودهم منه، فثبتت لديه حرمتهم، فأمر أولياءه بطلبهم، وأوجد نفسه عندهم لمكانتهم عنده، ففرح هؤلاء من المحبين بقربه لا يوصف، وانكسارهم، وحزنهم لأجله لا يعرف، واللّه سبحانه قد يعرض عن محبيه تعزّزاً ليزعجهم الشوق إليه، ويقلقهم الأسف عليه، وينظر إليه في إعراضه عنهم من حيث لا يعلمون لينظروا إليه من حيث يعلمون، فسيكنون بالأدب بين يديه، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم، وكان أحد المشتاقين وهو من أبدال هؤلاء الذين نتكلم في علمهم ونكشف طريقهم، وكانت له رحمه اللّه أماكن من المحبة رفيعة، وكاشفات في القرب عليه، قال: قلت ذات يوم يا رب إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما تسكن به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك، فقد أضرّ بي القلق،قال: فرأيت في المنام أنه أوقفني بين يديه، فقال: يا إبراهيم، أما استحيت مني أن تسألني ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه أم هل يستروح المحبُّ إلى غير مشوقه؟ قال: قلت: يا رب تهت في حبك فلم أدرِ ما أقول فاغفر لي وعلمني كيف أقول، فقال: قل اللّهم رضني بقضائك، وصبّرني على بلائك، وأوزعني شكر نعمائك.(1/461)
وقد حدثونا بمعنى ذلك عن أحمد بن عيسى الخراز، وكان مشتهراً بالسماع كثير الحركة والصعق عنده، ذكر بعض أصحاب سهل قال: رأيته في المنام بعد موته فقلت: ما فعل اللّه بك فقال: أوقفني بين يديه، فقال لي: يا أحمد حملت وصفي على ليلي وسعدي لولا أني نظرت إليك في مقام واحد أردتني به خالصاً لعذبتك، قال: وأقامني من وراء حجاب الخوف فأرعدت وفزعت ما شاء اللّه، ثم أقامني من وراء حجاب الرضا فقلت: يا سيدي لم أجد من يحملني غيرك، فطرحت نفسي فقال: فقل: صدقت من أين تجد من يحملك غيري؟ قال: وأمر بي إلى الجنة، وفي هذا تخويف للسامعين على التشبيه، الحائدين عن سمع أهل الفهم والتنبيه، لأنّ السماع علم لا يصلح إلا لأهل الصفاء، فمن سمعه على كدر فذاك له محنة وضرر، ويدخل من الآفات على نقصان المشاهدات إذا سمع من قبل النغمة والصوت مايدخل على من نظر إلى الأيدي في العطاء، لأنّ الصوت ظرف للمعاني بمنزلة اليد ظرفاً للأرزاق، فالنظر الموقن يأخذ رزقه من اليد، ويترك النظر والسامع المحق، يأخذ المعاني من الصوت ولا يلتفت إلى التنغيم بها، فمن سمع على التشبيه والتمثيل ألحد، ومن سمع على الهوى والشهوة فهو لعب ولها، ومن سمع باستخراج الفهم ومشاهدة العلم على معاني صفات حقّ ونظر وتطرق ودليل على آيات صدق، كان سامعاً على مزيد، وهذه طرائق أهل التوحيد، وفي السماع حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس بمشاهدة هوى وشهوة فهو حرام، وَمنْ سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية وزوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، وفعل هذا بعض السلف من التابعين، ومن سمعه بقلب بمشاهدة معان تدله على الدليل وتشهده طرقات الجليل فهذا مباح، لا يصحّ إلاّ لأهله ممن كان له نصيب منه، ووجد في قلبه مكاناً له لعبد أقيم مقام حزن، أو شوق أو في مقام خوف، أو محبة، فيحركه السمع ويخرجه إلى الشهادة، فيكون ذلك مزيده من السمع، فأمّا من سمعه على نغمة، أو لأجل صوت، أو ليلهو به، أو ليستروح إليه، فهذا لاعب لاه لا يحلّ له إذ ليس مراداً به، وكان الجنيد يقول: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواطن،عند الطعام لأنهم لا يأكلون إلاّ عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتذاكرون أحوال النبيين، ومقامات الصدِيقين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقّاً، وكان بعض العارفين يقول: تعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء، عند المسائل وعند الغضب، وعند السماع، وإنما ذكرنا هذا لأنّه كان طريقاً لبعض المحبين وحالاً لبعض المشتاقين، فإن أنكرناه مجملاً فقد أنكرنا على تسعين صادقاً من خيار الأمة، وقد دخل فيه غير أهله فأحالوه عن وجهته، وعدلوا به عن قصده، وقد كان بعض السامعين يقتات السماع فيجعله قوته، ويتقوى به على زيادة طيه، وأحدهم يطوي اليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه إلى القوت عدل بها إلى السماع، فأثار منه مواجيده، وأهاج فيه أذكاره، فحمله ذلك عن الطعام، وأغناه عن الأنام، فهذا لا يصلح إلا لقلب صاف من الأكدار، نقيّ نظيف من الآثام، ومن شهد فيه خلقاً فذلك علامة كدر قلبه، ومن أحدث فيه لعباً ولهواً فهو دليل نقص لبه.(1/462)
حدثني بعض الشيوخ عن شيخ له قال: رأيت أبا العباس الخضر فقلت: ماتقول في هذا السماع الذي يختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفا الزلال لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء، وقد صدق في قوله: لأنّا روينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف على أمتي الشهوة الخفية والنغمة الملهية، وأنّ حماد روى عن إبراهيم: الغناء ينبت النفاق في القلب، وعن مجاهد: ومن الناس من يشتري لهو الحدث ليضلّ عن سبيل اللّّه قال: الغناء وهداكما، قالاه: لأنّ سماع الغناء حرام وأجور المغنيات وأثمانهن حرام، والفرق بين الأغاني والقصائد أنّ الأغاني ما شّبب به النساء وذكر فيه الغزل، ووصفن به، وشهدن منه، ودعا إلى الهوى، وشوّق إلى اللهو، فمن سمع من حيث قال القائلون بهذه المعاني فالسماع عليه حرام، والقصائد ماذكر باللّه، ودلّ عليه، وشوّق إليه، وأهاج مواجيد الإيمان، وأثار مشاهدات العلوم، وذكر به طرقات الآخرة ومقامات الصادقين، فمَنْ سمع من حيث شهد بهذه الشهادة فهو من أهله إذ له نصيب منه، وقال اللّه سبحانه: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون، فالكلام روحان، منثور ومنظوم، فالمنثور كلام العلاّمة، والمنظوم كلام الشعراء، فما ذكر به اللّه ويذكر منه فهو طريق إليه، ولم يزل الحجازيون عندنا يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام التي أمر الله عباده أن يذكروه فيها، أيام التشريق من وقت عطاء بن أبي رباح إلى يومنا، هذا ما أنكره عالم، وقد كان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما، ويحمل القول في السماع أنّ من سمع فظهرت عليه صفات نفسه وذكرته حظوظ دنياه فالسماع عليه حرام، ومَنْ سمع فظهر له به ذكر ربّه، وتذكر به أجل ما شوّقه اللّه إليه وأعده لأوليائه، فهو له ذكر من الأذكار، وسئل عالمنا رحمه اللّه فقيل له: بلغنا أنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون فقال: كيف أنكر السماع وقد سمعه عبد اللّه بن جعفر الطيار، يعني ابن أبي طالب، وإنما أنكر اللهو وأنكر اللعب في السماع، ولعمري أنّ هؤلاء الأشياخ الذين ذكروا قد كانوا يسمعون، ولكن كان منهم مَنْ سمع السرّ دون العلانية، ومنهم مَنْ كان يسمع مع إخوانه ونظرائه دون الأتباع والأصحاب، وكانوا يقولون: لا يصحّ السماع إلا لعارف مكين، ولا يصلح لمريد مبتدىء وكان بعض العلماء قد ترك السماع فقيل له، فقال: ممن؟ فقيل له: فأنت، فقال: مع مَنْ كانوا لا يسمعون إلا من أهله ومع أهله.(1/463)
وحدثونا عن يحيى بن معاذ قال: فقدنا ثلاثاً فما نراها ولاأراها تزداد إلا عزة، حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الأخاء مع الوفاء، وقد سمع من الصحابة غير عبد اللّه بن جعفر أربعة منهم: ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم قال: طفت ذات ليلة بالبيت، وكانت ليلة مظلمة ذات مطر ورعد، فخلا الطواف، فلما انتهيت إلى الباب قلت: اللّهم اعصمني حتى لا أعصيك أبداً، قال: فسمعت قائلاً يقول: من جوف البيت يا إبراهيم أنت تسألني أن أعصمك وكل عبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتهم فعلى مَنْ أتفضل ولمن َأغفر؟ وفي خبر وهب بن منبه أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام أنك تكثر مسألتي ولا تسألني أن أهب لك الشوق، قال: يا رب وما الشوق؟ قال: إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، وأتممتها بنور وجهي، فجعلت أسرارهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طرقاً ينظرون به إلى عجائب قدرتي فيزدادون في كل يوم شوقاً إليّ، ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا أتوني خرّوا لي سجّداً فأقول: إني لم أدعكم لعبادتي، ارفعوا روؤسكم أُرِكُمْ قلوب المشتاقين إليّ فوعزّتي وجلالي إنّ سمواتي لتضيء من نور قلوبهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، معنى قول لداود عليه السلام: ولا تسألني الشوق ليس أنه قد يعطي الأولياء ما لا يعطي الأنبياء كما غلط في هذا بعض الناس، ففضّل العارف على النبي، ولكنه ذكر ذلك لداود عليه السلام ليسأله إياه فيعطيه، فلما أخبره به أعطاه مقام الشوق إليه، فجاوز مقامات المشتاقين من العارفين، وإنما أراد أن يجعل ذلك على لسانه ليريه فضل مكانه، ويظهر له ذلك عن مسألته ليفضله ويشرفه بسرعة إجابته، كما أنّ قول داود عليه السلام: وماالشوق؟ ليس أنه لم يعرف الشوق وقد اتاه الحكمة والنبؤّة، ولكن سكت بين يديه استحياءً منه، واعترف لديه بالجهل لأنه عند علاّم الغيوب،واراد أن يسمع منه حقيقة وصفه لأنّه أصدق القائلين وأمدح الواصفين.
وأما الغيرة فحال سنية من أحوال المحبين، لأنه قد أظهرهم على معاني نفسه فضنوا بها لما امتلأت بها قلوبهم، وحارت فيها عقولهم، إلا أنّ هؤلاء خصوص أصحاب اليمين، وهم عموم المحبين، إلاّ إنّه إذا رفعهم إلى مقام التوحيد فأشهدهم الإيجاد بالوحدانية والانفراد بالفردانية نظروا، فإذا هو لم يعط منه لسواه شيئاً ولا أظهر من معانيه وصفاً، فانطوت الغيرة من توحيدهم لماعرفوا بيقين التوحيد أنه مانظر إليه سواه، ولا عرفه إلاّ إيّاه، فتسقط هممهم بالغيرة عليه، وعرفوا حكمته بتعريفه أنواع ما يظهر وأقسام ما ينشر، وأنه في غيب غيبه لايظهر عليه سواه وفي سرّسرّه لا يشهده إلاّ إيّاه، فقام لهم مقام المعرفة بالتوحيد مقام الغيرة عليه، فهذا إذا طولعوا به مقام الموحدين من الصدِيقن، وقد روينا في دلائل المحبّ وأوصافه أبياتاً عن يحي بن معاذ،وأبي تراب النخشبي، وعن أبي سعيد الخراز أي أيضاًَ على قافية واحدة في معان متقاربة، وهي جامعة مختصرة في نعت المحبين من المريدين، وفي وصف السائحين من المرادين بالتقرّب والانقطاع أولى الأحوال والمشاهدات الرفاع، فالذي روينا عن أبي تراب هذه الأبيات:
لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعّمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام ولطف عاجل
ومن اللطائف أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإنّ ألحّ العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسّماً ... والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهّماً ... لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً من كل ما هو قائل
والذي رويناه عن يحيي بن معاذ:
ومن الدلائل أن تراه مشمراً ... في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه ... جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً ... نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى ... من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكياً ... أن قد رآه على قبيح فاعل(1/464)
ومن الدلائل أن تراه مسلماً ... كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضياً ... بمليكه في كل حكم نازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى ... والقلب محزون كقلب الثاكل
والذي رويناه عن أبي سعيد الخراز دخل فيما ذكرناه عنهما، وأحسب أنه أخذه منها لأنهما أقدم منه، إلا أنّ قوله كان أحد عشر بيتاً فقط، وجميع ما قدمنا ذكره من العلامات والدلالات هي أوصاف المحبين، وكل محبّ للّه فعن محبة اللّّّه، لأنّ وجود العبد لمحبته للّه علامة غيب محبة اللّه له، يبين ذلك الغيب له في هذه الشهادة إلاّ أنّ في المحبة مقامين، مقام تعريف ومقام تعرّف، فمقام التعريف هومعرفة العموم وهذا قبل المحبة الخاصة، ومقام التعرّف معرفة الخصوص وهذا بعد محبة العموم، وهو مزيد الحبِ الأول، وهذا محبة خصوص، وكذلك في المحبة مقامان، مقام محبّ وأعلى منه مقام محبوب، وهذا كما عبروا عن قولهم مريد ومراد، وعلى الحقيقة كل مريد للّه فهو مراد بذلك، إلا أنهم جعلوا اسم مراد بوصف مخصوص بعرف به فيمتاز معه المبتدئ من المبادئ، والمنيب من المجتبي، والطالب من المطلوب، والراغب من المرغوب، والحافظ من المحفوظ، فكذلك لعمري ليس الحامل مثل المحمول، ولا الزائر كالمزور ولا الاشتياق كالحضور، ولا المحبّ مثل المحبوب، قال أبو موسى الدبيلي: عرضت على أبي يزيد البسطامي كتاب صاحبنا عبد الرحيم في الإخلاص فما أعجبه منه إلاّ حكاية أبي عاصم الشامي في الشوق، يعني أنّ عبد الرحيم ذكر الإخلاص في كتابه فقال: قيل لأبي عاصم وافد أهل الشام يشتاق إلى اللّه، فقال: لا، قيل:ولِمَ؟ قال: إنما يشتاق إلى غائب، فإذا كان الغائب حاضراً فإلى مَنْ يشتاق؟ قلت: سقط الشوق، وهذا مقام محبوب، وفي المشاهدة مقامان؟ مقام شوق ومقام أنس، فالشوق حال من القلق والانزعاج عن مطالعة العزة ومعاينة الأوصاف من وراء حجاب الغيب بخفايا الألطاف، وفي هذا المقام الحزن والانكسار، والأنس حال من القرب عن مكاشفة الحضور بلطائف القدرة، ففي هذا المقام السرور والاستبشار، وقال ضيغم: عجيب للخليقة كيف أرادت بك بدلاً، وعجبت لهاكيف أنست بسواك، وقال الجنيد: علامة كمال الحبّ دوام ذكره في القلب بالفرح والسرور والشوق إليه والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع وعلامة أنسه باللّه استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها، ولا يحمل هذا على الأنس بالخلق، فيرتب على مدراج المعقول، كما لا يحمل المحبة على محبة الخلق فيكون بمعاني العقول، لأنّه حال منها، أو إنما هو طمأنينة وسكون إليه، ووجد حلاوة منه، واستراحة وروح بما أوجدهم، وقد أنكر الأنس من لا مقام له فيه، كما أنكر المحبة أيضاً من لا معرفة له بها لأنه تخيّل فيه محبة المخلوق، وتمثل لها صفاتهم، فقال:لا يعرف المحبة ولا يعقلها إلاّ لمخلوق وليس إلا الخوف والهيبة، وممن ذهب إلى هذا القول: أحمد بن غالب المعروف بغلام خليل، أنكر على الجنيد وأبي سعيد والثوري كلامهم في المحبة، وليس هذا مذهب السلف ولا طريقة العارفين، كتب عامر بن عبد اللّه إلى بعض إخوانه: آنسك اللّه بنفسه، وقيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ قال: من الأنس باللّه وأنشدونا لبعض العارفين:
الأنس باللّه لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة للّه عمال(1/465)
وقد روينا في التفسير عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله عزّ وجلّ: (الَّذينَ آمَنُوا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ) الرعد: 28، قال: هشت إليه وأنست به، وفي مقام الأنس يكون التملق والمناجاة، ومعه تكون المحادثة والمجالسة، ومعنى من البسط، ولا يحبّ اللّه تعالى هذا النوع من الإدلال إلاّ ممن أقامه مقام الأنس، ولا يحسن ذلك إلاّ منهم لنحو قول موسى عليه السلام في مقام الأنس: يا رب لي ماليس لك، قال: وماهو ؟ قال: لي مثلك وليس لك مثل نفسك، قال: صدقت، معنى قوله: مثلك أي لي أنت كقوله تعالي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) الشورى: 11، معناه ليس كهو شيء لأنّه لا مثل له، فيكون لمثله مثل إذ لا يكون لمثله مثل، والعرب تعبر بالمثل عن نفس الشيء وفوق هذا من البسط ما أخبر اللّه تعالى عنه أنّه قال مواجهاً للجليل العظيم: إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون، وأعظم من هذا قوله: اذهب إلى فرعون، فقال مجيباً له، فأرسل إلى هارون ولهم عليّ ذنب، ومثله قوله: إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري فحسن هذا منه، لأنّه أقامه مقام البسط بين يديه والأنس به، ولأنّ مكانه لديه مكان محبوب، فأدلّ به عليه فحمله ذلك، وهذا من غير موسى في غير هذا المقام من سوء الأدب بين يدي المرسل، ولم يحتمل ليؤنس عليه السلام خاطراً من هذا القول لما أقيم مقام القبض والخوف، حتى عوقب بالسجن في بطن الحوت في البحر، في ظلمات ثلاث، ونودي عليه إلى يوم الحشر، لولا أنْ تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، وقيل: عراء القيامة، ونهي الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به في القول والفعل فقال تعالى:(فَاصِبْر لِحُكُمِ رَبِّكَ ولاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادي وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم: 48، وقد قال تعالى:(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة: 253، واحتمل لإخوة يوسف ما عزموا عليه واعتقدوه وما فعلوه وما أسروه من قولهم: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم إلى نحو ذلك من الكلام والفعال، ولقد عددت من أول قولهم ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا إلى رأس العشر من أخباره عنهم في قوله، وكانوا فيه من الزاهدين نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض، قد يجتمع في الكلمة الواحدة الأربعة والخمسة من الخطايا، ودون ذلك وفوقه بدقائق الاستخراج ومعرفة خفايا الذنوب، فغفر لهم ذلك إن كانوا في مقام محبوبين، ولم يحتمل لعزير مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محي من ديوان النبوة، وقد قال اللّه تعالى فوق ذلك كله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجَلَ مِنْ بَعْدِهِ) البقرة:92، ما جاءتكم البّينات فعفونا عن ذلك، فإن شاء أن يعفو عفا عن العظائم فلم يعظم عليه شيء، وإن شاء طالب وناقش على الصغائر، ولا تصغر الذرة والخردلة عن مطالبته، وكيف يصغر ذنب ممن واجه به الملك الجبّار؟ ألا ترى من كشف عورته بين يدي نبي كفر لانتهاك حرمة النبوّة فكيف بالعظيم الأكبر لولا فضله ورحمته؟ وفي قوله سبحانه:(يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) آل عمران: 129، قيل: يغفر لمن يشاء على الذنب العظيم، ويعذّب من يشاء على الذنب الصغير، وقيل: يشترك الجماعة في المعصية فيغفرها لبعضهم ويبدلها حسنات، فلا تضرّه بل تكون عاقبتها ما يسرّه، ويعذّب البعض بذنبه ولا يغفر له، وقد لا ينفعه معه عمل لا يسأل عمّا يفعل، وهم يسألون له الخلق والأمر،يحكم بأمره في خلقه ما يشاء، كيف شاء، ولا حول ولا قوة إلا باللّه، واحتمل لآصف بن برخيا فوق ذلك كله، يقال: إنه كان أحد المسرفين، ولا يصلح أن تذكر ذنوبه لمكان علمه ولحسن عطف اللّه عليه، ثم تداركه مولاه، واجتباه، وأعطاه العلم والفضل، وأيد به نبيه وخليفته، وجعله وزيره، وأطلعه على الاسم الأعظم بعد ما كان منه ما يتعاظم لئلاّ ييأس محبّ من عطفه، ولكيلا يقنط متحجّب من لطفه، ولم يسمح لبلعم بن باعوارء بذنب واحد من ذنوب آصف بن برخيا إلاّ إنّ بلعم أكل دنياه بدينه وأدخل الهوى على العلم فضلّ بذلك وهلك واشتدّ مقت اللّه له، وآصف كانت معاصيه في جوارحه بينه وبين خالقه، فكان آصف مستبدلاً به من بلعم لما أري تلك الآيات، فانسلخ منها بعد العبادات، إذ لم يرد بحقائقها والنيات فيه، ويقال: إنه أوتي الاسم الأعظم المتصل بكل المتصلة(1/466)
بكان، وقد قيل: كان أوتي فوق ذلك ثم انسلخ من الآيات فسكن إلى الدنيا وهوى في الهالكات، ولم ينفعه ما كان منه من العبادة والزهادة كي لا يأمن عامل من عماله مكره، ولئلا يدل عالم عليه بما أظهره، وكان آصف في كبائر المخالفات فاستنقذ منها ثم أوتي بعدها الآيات لأنّه بوصف مراد وفي مقام محبوب، هذا بحضرة نبي اللّه وخليفته في الأرض سليمان عليه السلام.، وقد قيل: كان أوتي فوق ذلك ثم انسلخ من الآيات فسكن إلى الدنيا وهوى في الهالكات، ولم ينفعه ما كان منه من العبادة والزهادة كي لا يأمن عامل من عماله مكره، ولئلا يدل عالم عليه بما أظهره، وكان آصف في كبائر المخالفات فاستنقذ منها ثم أوتي بعدها الآيات لأنّه بوصف مراد وفي مقام محبوب، هذا بحضرة نبي اللّه وخليفته في الأرض سليمان عليه السلام.
فأمّا قصة بلعم فهي أشهر من أن نذكرها، ولها مقدمات فيها قصص وإطالة لا نشتغل بذكره، ولكن نذكر بعض ما انتهى إلينا من قصة آصف، وليس كل أحد على قصته يقف، حدثونا أنّ اللّه تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام: يا ابن رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين، إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عنه مرة بعد مرة، فوعزتي وجلالي لئن أخذته عطفة من عطفاتي عليه لأتركنّه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده، قال: فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى اللّه إليه، فخرج حتى علا كثيباً من رمل، ثم رفع يديه نحو السماء وهو يقول: إلهي وسيدي أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب عليّ وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودنّ فأوحى اللّه إليه: صدقت أنت أنت وأنا أنا أستقبل التوبة إليّ فقد تبت عليك وأنا التوّاب الرحيم، وهذا كلام مدّل به عليه، وهارب منه إليه، ومتملّق له منه ومن إدلال المحبوبين من المستأمنين مناجاة برخ الأسود الذي أمر اللّه كليمه أن يسأله أن يستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين، واستسقي لهم موسى في سبعين ألفاً، فأوحى اللّه إلى موسى كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم وسرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع فإن عبداً من عبادي يقال له برخ قل له يخرج حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى فلم يعرف، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق فإذا بعبد أسود استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور اللّه فسلم عليه وقال: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسق لنا، قال: فخرج فقال في كلامه: ماهذا من فعالك وما هذا من حلمك، فما هذا الذي بدا لك؟ أنقصت عليك غيوثك، أم عاندت عن طاعتك الرياح، أم نفد ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين، ألست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين خلقت الرحمة، وأمرت بالعطفة فتكون لما تأمر من المخالفين، أم ترينا إنك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟ قال فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت اللّه العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، قال: فرجع برخ، قال: ففي هذا ذكري الراجين، وأنس المشتاقين، وطمع للعالمين، وتحبّب إلى المطيعين؛ هذا كما قال بعض العارفين: الحبيب لا يحاسب والعدو لا يحسب.(1/467)
وروي عن اللّه سبحانه أنه أوحى إلى عبد تداركه بعد أن كان أشفى على الهلكة: كم من ذنب واجهتني به غفرته لك قد أهلكت في دونه أمة من الأمم، وقد اشترك عبدان في اسم المعصية ثم تباينا في الاجتباء والعصمة؛ آدم عليه السلام وإبليس لعنة اللّه عليه، ثم اجتبى آدم وهذا لما سبق له من الاصطفاء والكلمة الحسنى، وإبليس أبلس من رحمته وأغوى لما سبق له من الشقوة والكلمة السوء، وقد عاتب اللّه نبيه على الإعراض عن عبد، وكره له الإقبال على عبد فقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّى) عبس 8 - 9 - 10 وقال تعالى في الأخرى: (أَمَا مَنِ اسْتَغْنى)(فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى)(وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى) عبس:5 - 6 - 7، وربهما واحد، وبمثله أمره بالإقبال والسلام على طائفة، وأمره بالإعراض وترك القعود مع طائفة فقال تعالى: (وَإذَا جَاءَكَ الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الأنعام:45، (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الكهف:82، (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) الأنعام:68 (وإما ينسيّنك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام:68 وكلهم عبيد لواحد ومثل المحبوب من المحبّ مثل مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم من مقام موسى عليه السلام، قال موسى: ربّ اشرح لي صدري، وقال لمحمد: ألم نشرح لك صدرك؟ وقال موسى: واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، وقال لمحمد: ورفعنا لك ذكرك، أيّ تقرن بي في الشهادة والآذان، لا أوازرك بغيري لأنك من أهلي، والوزير القرين والظهير، أي فأنت من أهلي فقد وزرتك وقرنتك بذكري، فأنا ظهيرك ومعينك لا أشد أزرك بغيري، فأشبه هذا ما رويناه عن ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ: (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) الإسراء: 79 قال يقعده على العرش فكان العرش مكان الربوبية بمشيئته في الدنيا وهو مستغني عنه بقدرته، فوهبه لحبيبه في الآخرة فجعله مكانه تفضّلاً له وتشريفاً، ليكون هناك فوق المرسلين في الجلالة، كما كان ههنا آخرهم في الرسالة، وقال لموسى عليه السلام بعد المقام: قد أوتيت سؤالك يا موسى ولقد منّنا عليك مرة أخرى، ففي هذا تحديد، وقال لمحمد عليه السلام بعد المقامات وقل: ربّ زدني علماً فلم يحد له حدّاً، فهذا غاية المزيد.
وقال موسى عليه السلام ربّ أرني أنظر إليك أي في محل العبودية، وقال لمحمد عليه السلام: ما زاغ البصر وما طغى، فكان قاب قوسين أو أدنى؛ أي مكان الربوبية، فبين المحبّ والمحبوب في التقليب، كما بين موسى ومحمد عليهما السلام في التقريب، كم بين من رأى ما رأى عند نفسه في مكانه وبين من رأى ربّه في علوه، كم بين من عجل إليه شوقاً منه ليرضى عنه وبين من عجل به شوقاً إليه ليرضاه إليه لرضاه عنه، كم بين من رأى ما رأى فلم يثبت، ففاضت عليه الأنوار لضيقه، وبين من رأى ما رأى فثبت له وغاضت فيه الأنوار لسعته، فقد جاوز المحبوب مقام المحبّ في التمكين، كما جاوز محمد صلى الله عليه وسلم مقام موسى عليه السلام في المكان أدخل بينه وبين موسى لام الملك وأقام محمداً مقامه في الملك(1/468)
وقال تعالى لموسى: ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي) طه:41 وقال لمحمد: (إنّ الذَّينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه) الفتح:،1، فكم بين من صنعه لنفسه وبين من جعله بدلاً من نفسه تفضلاً وتعظيماً، كم بين من فصل مدحه من وصفه وبين من وصل مدحه بوصفه، فقال تعالى في الفصل: ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً منّي وَلِتَصْنَعَ عَلى عَيْني) طه:39 وقال في الوصل:(لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الفتح:9 الآية، وقال في مثله: واللّه ورسوله أحق أن ترضوه، وقد قيل في قوله تعالى: (يَا مُوسى إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتي وَبكَلامي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ) الاعراف:144 أي خذ ما آتيتك من الكلام فتلا: واصطفيتك به على الناس، فاشكر عليه والنظر فقد خصصت به محمداً، وعن ابن عباس وكعب أنّ اللّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد فأعطى موسى الكلام وخصّ محمداً بالرؤية، ومما يؤيد هذا القول أنّ الذي آتاه الكلام هو الذي ثبت له فدلّ أنه هو الذي أريد به لأنّ اللّه تعالى إذا أراد عبداً بشيء ثبته فيه وقواه عليه، وقد ثبت محمداً لما آتاه من الرؤية وقواه لها ومكنه فيه، لأنه أراد بها، ومن وصف مقام المحبوب ما قيل لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: صف لنا أصحابك، فقال: عن أيهم تسألون؟ قالوا: عن سلمان، قال: أدرك علم الأول والآخر، قالوا: فعمار، قال: مليء إيماناً إلى مشاشه، قالوا: حذيفة، قال: صاحب السرّ أعطى علم المنافقين، قالوا: فأخبرنا عن نفسك فقال: إياي أردتم بهذا كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدأت؛ فهذا مقام محبوب، لأنه إذا سأل سمع منه فاستجيب له، وإذا سكت نظر إليه فعطف عليه، وقد روينا عنه من أحبّ من لا يعرف فإنما يمازح نفسه، أي من لا يعرف صفات حبيبه وأخلاقه وأفعاله وأحكامه فيحبه بعد خبره فيسارع إلى مرضاته ويجانب مكارهه فإنما يمازح نفسه؛ أي يلهو بها ويلعب ليس فيه شيء من حد المحبين ولا حقيقة العارفين إذا لا يأمن انقلاب محبته لتقليب أفعال محبوبه، ولا يأمن تغيير حبه لابتلاء حبيبه واختلاف أحكامه فكأنه كان مازحاً بحبه لا محقّاً به، وفي مثل هذا المقام من جهل المحبين بأفعال المحبوب اغترار عظيم.
ومن المحبة كتمان المحبة إجلالاً للحبيب وهيبة له وتعزيزاً وتعظيماً له وحياء منه؛ وهذا وصف المخصوصين من عقلاء المحبين وهو من الوفاء عند أهل الصفاء، إذ كانت المحبة سرّ المحبوب في غاية القلوب؛ فإظهارها وابتذالها من الخيانة فيها وليس من الأدب ولا الحياء النسبة إليها ولا الإشارة بها، لأنّ في ذلك اشتهاراً فتدخل عليه دقائق الدعوى والاستكبار، وقد قال بعض العارفين: أبعد الناس من اللّه أكثرهم إشارة به هو الذي يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التزيّن والتصنّع بذكره عند كل أحد هذا ممقوت عند المحبين للّه والعلماء به.(1/469)
دخل ذو النون المصري على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلي ببلاء يجلّ عن الوصف فقال ذو النون، لا يحبه من وجد ألم ضربه، فقال الرجل: لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضربه، فقال ذو النون: لكني أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه، فقال الرجل: أستغفر اللّه وأتوب إليه؛ وهذا كما قال ذو النون هو من علامة الإخلاص في المحبة إذ كانت أعمال القلوب، فوجود الإشفاق والحذر من إظهارها خشية السلب والاستبدال، وخوف المكر والاستدراج علامة التحقق بها ودفعها عن النفس، وسترها عن أبناء الجنس، وترك التظاهر بها علامة الظفر بها، لأنّ المحبوب غيور، وغيرته على نفسه وعلى ظهور محبته أشد من غيرته على إظهار محبته، وغيرته على إظهارهم لغير أبناء جنسهم أشد من غيرة جميع محبيه عليه؛ وهذا كلام على عالم صاح في مقام صحو مكين، فأما السكرن بحاله والولهان بوجده فمغلوب، والمغلوب معذور، قال رجل لأبي محفوظ، وقد رأى من بعض المحبين شيئاً استجهله فيه فأخبر معروفاً بذلك فتبسّم ثم قال: ياأخي له محبون صغار وكبار ومجانين وعقلاء، فهذا الذي رأيته من مجانينهم ومن المحبة كتمان بلاء الحبيب بعد الرضا به لأنّ ذلك من السرّ عنده وحسن الأدب لديه، وعوتب سهل في العلة التي كانت به علة مهولة كان يداوي الناس منها ولا يداوي نفسه فقيل له في ذلك فقال: ضرب الحبيب لا يوجع، وكان حينئذ يقول: من علامة المحبّ في المكاره والأسقام هيجان المحبة وذكرها عند نزول البلاء، إذ هو لطف من مولاه وفيه الغربة إلى محبوبه وقلة التأذي بكل بلاء يصيبه لغلبة الحب على قلبه، وقد كان بعض المحبين يقول: أصفى ما أكون ذكراً إذا ما كنت محموماً، وذكر بعض من ينتمي إلى المحبة مقامه في المحبة عند بعض المحبين فقال له المحبّ: أرأيت هذا الذي تذكر محبته أهممت بسواه قط؟ قال: نعم، قال: فهل رأيته في ليلة مرتين وثلاثاً؟ قال: لا، قال: لولا أني أستحي لأخبرتك أنّ محبتك معلولة تهتم بسوى حبيبك ولا تراه في ليلتك، ثم قال: لكني لا أدعي محبته وعلى ذلك ما اهتممت بسواه مذ عرفته، وربما رأيته في ليلة سبع مرار، وذكر بعض المحبين ممن كان بدلاً عن إبراهيم بن أدهم ممن تكلم في علم طريقه ووصفه حاله وذكر القصة بطولها قال: رأيت اللّه عزّ وجلّ مائة وعشرين مرة وسألته عن سبعين مسألة أظهرت منها أربعة فأنكرها الناس فأخفيت الباقي، وفيما ذكر من وصف المحبّ كفاية وغيبة عن وصف المحبوب وليس يمكننا وصف المحبوب إذ كان حاله يجلّ عن الوصف، وكيف يوصف من يسمع ويبصر من يحبه ويبطش ويعقل عن محبوبه فيكون هو سمعه وبصره وقلبه ويده ومؤيده، كما جاء في الخبر: إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقلبه الذي يعقل به، وإن سألني أعطيته وإن سكت ادّخرت له، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم؛ فهذا كله في مقام محبوب، ويقال: إنّ هذه الآيات والقدر من سرائر الغيوب وخفايا الملكوت التي تسميها العامة المعجزات والآيات وتسمّيها العلماء الكرامات والإجابات؛ وهي آيات اللّه في أرضه مودعة وقدرته في عباده جارية، وعنايات له في ملكه مستقرة، ليس للعباد منها إلاّ كشفها ونظرهم إليها إذا أقيموا مقام الأنس من مقام محبوب، ويقال: إنّها توجد في المقام السابع عشر من مقامات المعرفة، إذا أقيم العبد هذا المقام في المعرفة يؤدي بها ظهرت له وفوقها ثلاثة وثمانون مقاماً من مقامات العارفين، أفضل من ذلك، ويقال: إنها لا تكون لأبدال المرسلين من الصدّيقين، وإنّما يعطاها أبدال النبيين من الصالحين، فأبدال المرسلين فضّلهم على أبدال النبيين كفضل المرسلين على النبيين وكفضل الصدّيقين على من دونهم من الصالحين، كيف وقد قال بعض العلماء: ما رأيت هذه الكرامات أظهرت إلا على أيدي البله من الصادقين.(1/470)
وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكثر من يدخل الجنة من أمتي البله، وعليون لذوي الألباب، فأولو الألباب هم المواجهون بالخطاب، الشهداء عليه، المستحفظون للكتاب، كما قال تعالى: ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّه وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاْءَ) المائدة:44، والعامة يحسبون أنها من أعلى مقامات المعرفة فجميع تلك الأسرار من الغيوب التي تكنّها الحجب والأستار لا يظهر عليه إلا مطلوب، والمطلوب عن نفسه مسلوب، فمن بقيت عليه من نفسه بقية، أو نظر إلى حركته وسكونه بعينه نظرة خفية فسترها عليه رحمة له، لأنه لو كوشف هلك في حيرة الهوى، وغرق في بحر الدنيا، ونفس حبه لها، وعين طلبه إياها هو حجابها عنه واستثارها منه، حتى يكون كارهاً لظهورها كراهته لظهور الخلق عليه في معصيته، وخائفاً منها خيفته من نفسه في تظاهرها عليه بهلكته، فإذا بقي بباق وحيّ بحياة حي صرفاً منه وصرفاً عنه بلا طلب ولا نظر ولا سبب ولا فكر، أدّى لعجائبه، وفتح له كنوز غرائبه، ويفعل اللّه ما يشاء.
وقال بعض العارفين ممن يكشف عن مشاهدته: عبدت اللّه ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح على بذل المجهود، واستفراغ الطاقة، حتى ظننت أنّ لي عند اللّه شيئاً، فذكر أشياء من مكاشفات السموات في قصة طويلة قال في آخرها: فبلغت صفاً من الملائكة بعدد جميع ما خلق اللّه من شيء فقلت: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبوب للّه نعبده ههنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ماخطر على قلوبنا قط طلب لسواه ولا ذكرنا غيره، قال: فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حقّ عليه الوعيد تخفيفاً عنهم في جهنم، وقال بعض العلماء: كل مقام أعبر عنه إلا مقام المحبة، قيل: ولم؟ قال: لأن الشيء يعبر عنه بألطف منه ولا شيء ألطف من المحبة، وقيل لمعروف: أخبرنا عن المحبة أي شيء هي؟ قال: ياأخي ليس المحبة من تعليم الناس، المحبة من تعليم الحبيب، وقد كان الحذاق من العلماء لا يخبرون بحقائق أربع مقامات؛ حقيقة التوحيد، وحقيقة المعرفة، وحقيقة المحبة، وحقيقة الإخلاص، وقال بعض العارفين: كل المقامات عن أنوار الأفعال والصفات، إلا المحبة فإنّها عن نور حقيقة الذات، فلذلك عزّ وصفها، وعزب علمها، وقلّ من المؤمنين المتحقق بها؛ وذلك أنّها سرّ كالمعرفة إذا ظهر المحبوب أحببته كما إذا رأيت المعروف عرفته؛ وذلك متعلّق به وهو الظاهر لظاهر المعرفة والمحبة الباطن لباطن المحبة، والمعرفة عن وصف باطن، ومن أدرك مقام المحبة للّه لم يضره فوت شيء من المقامات، ومن فاته المحبة لم يغبط بدرك شيء، وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق:3، إن الهاء عائدة على التوكل أي فالتوكل حسبه من جميع المقامات والتوكّل حال من مقام المحبة.(1/471)
وقد قال اللّه تعالى: ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّه أكْبَرُ)، والرضا مقام من المحبة فقد جلّت المحبة أن توصف ودقت عن العلوم بالعقول أن يعرف مثلها مثل العلم باللّّه؛ فكذلك أي قلب أجلّ من قلب يكون محبوبه اللّه، ولا أعلم من معلومه اللّه، وقيل: إن للقلب حبة هي باطنه عليها يتعلق، المحبة، ومنه سمّيت محبة؛ كان اشتقاقه من حبة القلب وهي التي يقال لها سويداؤه، والميم في الأسماء قد تزاد للمبالغة في الوصف، ومن هذا قول اللّه عزّ وجلّ: ( قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً) يوسف:،3 لما وصفها بنهاية الوصف في الحبّ؛ أي قد خرق حبه شغاف قلبها فوصل إلى حبة القلب، وخرق الشغاف وهو حجاب القلب، وحبّاً منصوب على التفسير كأنّه قيل: قد شغفها أي خرق شغافها، فقيل: ماذا؟ فقيل: حبّاً، فالحب إذا وصل إلى هذا الموضع من العبد لم يملك المحبّ نفسه، ففرغ قلبه له، وامتلأ به، ولم يجر على ترتيب ما رسمناه، وربّما خرج إلى الوله والاستهتار وجاوز معيار العقل في التصريف والأذكار، والعرب تقول: قد دمغه وأرأسه وقاده وركبته، كذلك قولهم أشغفه إذا أصاب شغاف قلبه فهتك حجابه وقد قرئت بالعين، ومعنى قد شغفها بلغ أعلى القلب ونهايته لأن الشغف أعلى كل شيء وأبعده، فالمعنى ذهب به الحبّ أقصى المذاهب وغايته، فحينئذ يملكه الحبّ فيكون أسيره، ويغلب عليه الحبيب فيصبر مأسوره فيحكم عليه ولا يجاوز، ويفرغ له قلبه من كل شيء رسمه، ويمتلئ به فلا يبقى فيه شيء رسمه، ولا يقدر على الكذب لظهور سلطان قهر الحبّ، فحينئ يكشف قناعه ويرسل عذاره فيه ويصفه الحبّ بالحبّ وهو صامت بخيفة المحبّ إلا لمن أحبّ، وهو ظاهر، وليس يكون هذا إلا في مقام شكر وحال عليه، فمن لم يعرف هذا المقام أنكر هذا الكلام إلا أن يربط قلبه بتأبيده ويحفظ سرّه بتمكينه كما قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ) القصص:10 أي من المصدقين إنّا نرده إليها ولا تظهر أنه ابنها فيقتل، وكما لطف للفتية الذين آمنوا وهم أصحاب الكهف لما غلب حبّ الإيمان على قلوبهم، إذ قاموا فقالوا: ربّنا ربّ السموات والأرض لئلا يظهروا إيمانهم لما غلب حبه عليهم فيقتلوا؛ فهذه لطائف الحكيم وخفي صنع العليم، فالمحبون له حافظون للغيب بما حفظ، وقال سمنون لبعض الفقراء في قصة ذكرها يفرح بحبه ويذكر المحبة، وقال بعض الناس في وصف المحبين أقامهم مقام المحبة فلم يزن الملك في قلوبهم حبة فمحبة غير اللّه في محبة اللّه شرك عند المحبين؛ وهي خيانة عند بعضهم، وهو من نقض العهد وقلة الوفاء بالعقد.
وقال سهل: من أحبّ الدرهم لا يحبّ الآخرة، ومن أحبّ الخبز لم يحبّ اللّه عزّ وجلّ، ولا يخرج حبّ الوالد والولد المحبين من المحبة، لأنّ ذلك جعل اللّه في القلوب نصيباً لهم ولا يخرجه أيضاً حبّ الزوجة بمعنى الرفق بها والرحمة لها، ولا يخرجه أيضاً حبّ مصالح الدنيا من حاجات الأقسام والقلوب ممّا لا بدّ منه، وليس ذلك كله يكون في مكان محبة اللّه، لأنّ محبة اللّه في أنوار الإيمان، ومحبّة هذه الأشياء في مكان العقل، هكذا عندي في الفرق بين محبة اللّه ومحبة المخلوق، ويخرجه جميع ذلك عند بعض المحبين من السلف، فأما الاشتغال بهده الأشياء بالإيثار لها على التفرغ لمرضاة اللّه والإنحطاط في أهوائها دون محبة اللّه فإنّ ذلك يخرجه عند الكل وعندي يخرج العبد من حقيقة المحبة السكون إلى غير اللّه، والفرح بسواه، والحزن على فوت غيره إياه، وقيل لبعض العارفين من الأبدال: الناس يقولون إنك محبّ فقال لست محبّاً المحب متعوب ولكني محبوب وقيل له أيضاً الناس يقولون إنك واحد من السبعة، فقال: أنا كل السبعة، وقال هذا إذا رأيتموني فقد رأيتم أربعين بدلاً، قيل: كيف وأنت شخص واحد؟ قال: لأني قد رأيت أربعين بدلاً فأخذت من كل بدل خلقاً من أخلاقه، وقيل له: بلغنا أنك ترى الخضر فتبسم ثم قال: ليس العجب ممّن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحجب عنه فلا يقدر عليه ولعمري أن من كان عند اللّه لم يره بشر ولا ملك.(1/472)
حدثونا أنّ الحسن رحمه اللّه اختفى عند حبيب العجمي من الحجاج، فسعى به فدخل عليه الشرط، ففزع الحسن وذهب ليتسور الحائط ويهرب، فقال له حبيب أبو محمد: اقعد حتى نبصر، فقال: فدخل عليه الشرط فقالوا: أين الحسن؟ قيل لنا إنه عندك، فقال: هل ترون شيئاً؟ ففتشوا الدار كلها وخرجوا وهم لا يرونه، فقال له الحسن: كيف لم ينظروا إليّ؟ قال لأنك كنت عند اللّه فلم يروك، ولو كنت عندي لأبصروك، قال له الحسن: إني قد رأيتك لما دخلوا هممت بشيء، فهل ذكرت اسم اللّه الأعظم؟ قال: لا، ولكن قلت اللّهم اجعله عندك حتى لا يبصروه، وهذا هو واحد من أصحاب الحسن، وقد كان الحسن فوقه بدرجات أحوجه اللّه إليه، وقيل لأبي يزيد بلغت جبل قاف؟ فقال: جبل قاف أمره قريب الشأن في جبل كاف وجبل عين وجبل صاد، قال: وما هذا؟ قال: هذه جبال محيطة بالأرضين السفلى، حول كل أرض جبل بمنزلة جبل قاف محيط بهده الدنيا، وهو أصغرها، وهذه أصغرالأرضين، وقد كان أبو محمد يخبر أنه صعد جبل قاف، ورأى سفينة نوح مطروحة فوقه، وكان يصفه ويصفها، وقال للّه عبد بالبصرة يرفع رجله وهو قاعد فيضعها على جبل قاف، وقد قيل: الدنيا كلها خطوة للولي، وإنّ وليَّا للّه خطا خطوة واحدة خمسمائة عام، ورفع رجله على جبل قاف والأخرى على جانب الجبل الآخر، فعبر الأرض كلها، وقيل لأبي يزيد: دخلت إرم ذات العماد فقال: قد دخلت ألف مدينة للّه في ملكه، أدناها ذات العماد، ثم عدد كلها؛ البيت وتأويل وباريس وجايلق وجابرس ومسك، ولعلّ قائلاً يقول: فقد قال اللّه في وصفها: (الَّتي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلادِ) الفجر:8، قيل: فإن معناه في بلاد اليمن لأنهم خوطبوا بما في بلادهم، كما قال تعالى: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ) المائدة:33، يعني أرض بلادهم، فذات العماد مدينة عاد في اليمن بين إبتر والشحر، يقال: لها سور له ألف باب ما بين البابين، فرسخ مركبة على أعمدة الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، فيها مائة ألف عمود من ذلك، كانت الجن اصطنعتها لعاد بن شدّاد بن سام بن نوح، استخرجت الجن هذه العمد من قعور البحار والقفار، وكانت سخرت الجن له قبل سليمان بن داود بأربعة آلاف عام، تجتمع في يهذه المدينة طائفة من الأبدال ليالي الجمع وفي الأعياد، يقال: فيها صناديق من حجارة، طول كل صندوق عشرة أذرع، فيها قبور الأنبياء؛ أجسادهم صحيحة باقية إلى يومنا هذا، وهي محجوبة عن أبصار العباد، وقد كان سهل رحمه اللّه يزورها في كل جمعة، وهذا واحد من المحبوبين وهذه آيات يسيرة من قدرة اللّه الكبيرة.(1/473)
وقيل لهذا العبد: حدثنا عن مشاهدتك من اللّه، فطاح ثم قال: ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك، قيل: فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك في اللّه، فقال: وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه، قيل: فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتها، قال: نعم، دعوت نفسي إلى اللّه في بعض الأمور فتلكعت عليّ، فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق الغمض سنة، فوفت لي بذلك، وحكى عنه بجير بن معاذ في بعض مشاهداته أنه رآه من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر مستوفزاً على صدور قدميه، رافعاً أخمصها وعقبيه على الأرض ضارباً بذقنه على صدره شاخصاً بعينيه لا يطرف، قال: ثم سجد عند السحر ثم قعد فقال: اللّهم، إن قوماً طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والهوى فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإنّ قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فانقلبت لهم الأعيان فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء، قال: ثم التفت فرآني، فقال يحيى: قلت نعم ياسيدي، قال: منذ متى أنت ههنا؟ قلت: من صلاة العشاء، فسكت فقلت: ياسيدي، حدثني بشيء فقال: أخبرك بما يصلح لك، أدخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلي، فأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال لي: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك، فقلت: ياسيدي، مارأيت شيئاً أستحسنته فأسألك إياه، فقال: أنت عبدي حقّاً، تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ذكر أشياء، قال يحيى بن معاذ: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه، فقلت: ياسيدي، ولم لاسألته المعرفة به، وقد قال: سلني ماشئت، فصاح فيَّ صيحة وقال: اسكت، ويلك غرت عليه مني، وقد كان أبو تراب النخشبي رحمه اللّه معجباً ببعض المريدين، فكان يؤويه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجيده، فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد، فقال المريد: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وجد المريد فقال: ويحك ماأصنع بأبي يزيد، قد رأيت اللّه فأغناني عن أبي يزيد، قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت له: ويلك لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة، كان أنفع لك من أن ترى اللّه عزّ وجلّ سبعين مرة، فبهت المريد من قولي وأنكره وقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: ويلك، إنما ترى اللّه عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند اللّه قد ظهر له على مقداره، قال: فعرف ما أقول فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره يخرج إلينا من النهر، قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره، فقلت للفتى: هذا أبو يزيد فانظر إليه قال: فنظر إليه الفتى فصعق، فحركناه فإذا هو ميت، قال: فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد: ياسيدي، نظره إليك قتله؟ قال: لا ولكن كان صاحبك صادقاً وأسكن قلبه سرّ لم يكن ينكشف له بوصفه، فلمّا رآنا كشف له سرّ قلبه فضاق عن حمله لأنّه في مقام الضعفاء المريدين فقتله ذلك، فهذه جمل من أوصاف المحبوب المزاد، ورزق بغير حساب من المحب الجواد، بتيسير من الطالب للمطلوب وعناية من المحب للمحبوب، ومقام الحبيب أعز من أن يظهر وأخفى من أن يعرف، غيرة من عليهم سترهم بأفعالهم وضناً منه بهم حجبهم بأوصافهم، أهل المقامات يشتاقون إليه وهو يشتاق إليهم، وأهل القرب ينظرون إليه وهو ينظر إليهم، وأهل المحبة يحبون أن يسمعوا كلامه وهو يحب أن يسمع كلامهم، وأهل الأحوال يسألونه وهو حسبهم ويحب أن يسألوه، وأهل المشاهدات يزورنه وهو في قلوبهم يزورهم، وأهل الآخرة ينظرون إليه في الآخرة وهو ينظر إليهم في الدنيا، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء كما ذكرنا في قصة داود الملك الرسول؛ إذ أرسله الملك الجليل إلى أحبائه الأربعة عشر الأولياء أن يسألهم أن يسألوه حاجة، فلما رأوه نفروا منه لئلا يشغلهم عنه، فذكرناها قبل هذا فلا تنكرن من هذا شيئاً فإنه يعطي المحبوب في الدنيا أول عطاء أهل الجنة في الآخرة؛ وهو: كن، فيزهدون في ذلك لأجل بقائه ويكرهون ذلك لحبه، قد جاوزوا معارف من سواهم، فإذا أعطاهم كن أمرهم أن يقولوا: كن في أمر الساعة ولا يقولوا: كن في كشف الغطاء عن النيران والجنان، وما وراءها من الكون(1/474)
والمكان للعيان قبل اللقاء، وإن كانت ظاهرة لباطن إلا أنها مستورة بالصنع للإيقان، مقطوع عنها الوهم راجع عنها الفكر والهم، وسألهم أن لا يظهروا ما في الحكمة والعقل إخفاؤه، لأن إظهاره لا يصلح للخلائق ولا يستقيم عليه أمر المملكة، ولا ينتظم به التدبير لما سبق من التقدير، وفيه سقوط الأحكام ووقوع الهلكة للأنام، فإذا رأوا ذلك منه وما قد استثناه عليهم منها استجابوا له أحسن استجابة، وردوها إليه أسرع مرد وأبلغه في مرضاته، وهو أن يتركوا إظهار شيء لإظهاره ويزهدوا في كل معنى منها لوجهه، ورضوا بتصريف قدرته في مجاري حكمته.ن للعيان قبل اللقاء، وإن كانت ظاهرة لباطن إلا أنها مستورة بالصنع للإيقان، مقطوع عنها الوهم راجع عنها الفكر والهم، وسألهم أن لا يظهروا ما في الحكمة والعقل إخفاؤه، لأن إظهاره لا يصلح للخلائق ولا يستقيم عليه أمر المملكة، ولا ينتظم به التدبير لما سبق من التقدير، وفيه سقوط الأحكام ووقوع الهلكة للأنام، فإذا رأوا ذلك منه وما قد استثناه عليهم منها استجابوا له أحسن استجابة، وردوها إليه أسرع مرد وأبلغه في مرضاته، وهو أن يتركوا إظهار شيء لإظهاره ويزهدوا في كل معنى منها لوجهه، ورضوا بتصريف قدرته في مجاري حكمته.(1/475)
وهذا غاية الجهد ونهاية الزهد والحب، فيشكر لهم ذلك أحسن شكر ويدخر لهم عنده أفضل ذخر، ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت اللّه عزّ وجلّ في هذا الأمر، ولو دعوت، فسكت ثم قال: للّه تعالى عباد في هذه البلدة، لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة، ولكن لا يفعلون، قيل: ولم؟ قال: لأنهم لايحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة اللّه تعالى أشياء لا نستطيع ذكرها، حتى قال: لو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها، واعلم أن العبد إذا بلغ من اللّه تعالى هذا المكانة حتى يعطيه كن اقتضته الحال أن يقول: وفقني لما تحب واعصمني مما تكره، فإني بشر جاهل لا أحسن التدبير ولا أعرف المقادير ولا علم لي بعواقب الأمور، وأخاف أن يكون في قولي تفاوت وفي إرادتي اضطراب، وإذا أجابه تعالى إلى ذلك، سكت فلم ينطق وسلم، ورضي بالتدبير فأطرق لأن الذي يحب اللّه تعالى يحب أن تكون الأمور على ماهي عليه، لأنها عن تدبير يظهر بمعاني الخير والشر لأنه تولى التدبير بنفسه كما استوى على العرش بوصفه، ولم يجعل على العباد تدبير الملك إنما جعل عليهم الصبر والرضا للملك، فمرجع العبد إلى الصمت والأدب في نفوذ المراد كما كان، وترك العبد الفضول والاعتراض وحصل له مقام التوكل والرضا، ولذلك كان أبو محمد رحمه اللّه تعالى إذا قيل له: مامراد اللّه تعالى من الخلق؟ يقول: ماهم عليه، فكيف تريد ما لا يريد وهو محب لصفاته التي عنها تظهر المرادات، ومنها تبدو الأحكام، ولا بدّ ممّا يكون كما لابد ممّا كان، وكن منطوٍ تحت كان ولولا كان لم يكن، فكان أحب إليهم من كن لأنّ له ولهم مثل كن أمثال وليس لهم ولا له مثل كان مثل، فهؤلاء هم الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وهم المحبون للّه من عباده الزاهدون في ملكوته لوداده، وكذلك صنعوا مثل هذا فيما استخلفهم فيه من الأموال لما سمعوه يقول: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فأخرجوا الكل لأجله، فكان هو خلفاً لهم بعد أن كانوا وكلاء؛ فإذا قالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل يقول اللّه تعالى لهم فانقلبوا بنعمة اللّه وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان اللّه رضي اللّه عنهم ورضوا عنه لأنهم عملوا بما قالوا، فتحققوا بالإيمان، وقيل: إنّ الإيمان قول وعمل، ولا ينوب القول عن العمل، وإذا قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه تعالى: صدقتم لأنهم لا يخدمون ولا يذلون لسواه، ولا يعدون للنوائب إلا إياه، ولا يستعينون بغيره، ولذلك صاروا صدّيقين لتصديق الصادق لهم، كما بلغنا أنّ العبد ليقرأ قوله: إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول اللّه تعالى: كذبت ولو كنت إياي تعبد لم تخف ولم ترج سواي، ولو كنت بي تستعين لم تسكن إلى مالك وأهلك، وكذلك بلغنا أنّ العبد ليقرأ السورة من القرآن فتصلي عليه حتى يفرغ منها، إذا عمل بها فهذا صديق، وأن العبد ليقرأ السورة من القرآن فتلعنه إلى أن يختمها، إذا لم يعمل بما يقول فهذا كذاب، فأين الإيمان؟ ولا إيمان إلا بعمل فليس هذا مؤمناً حقّاً، فالأولياء حققوا القول بالعمل، وشهدوا الإيمان باليقين، فإذا قالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر توكلوا عليه ورضوا عنه وتألهوا إليه، ولم يكن في صدورهم غيره فيقول اللّه تعالى: صدقتم، فيكونون صدّيقين كما يقول للشيء: كن فيكون، فتدبروا فإذا قال: ونعم الوكيل، قاموا مقام التوكل فصار لهم في الصدق مقامات، يقول الصادق: صدقتم، فيكونون صدّيقين، فيقول: عبادي، أنتم خيرتي من ذوي ودادي، وأنا وكيلكم رضيتم بي وأنا حسبكم، فهؤلاء الذين انقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان اللّه فأعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة والفضل والتوكّل عليه وصرف السوء واتباع الرضا برضاهم عنه رضي اللّه عنهم، فالحبيب يعتذر له، والعدو لا يقبل عذره، والمحبوب لا يحاسب، والمبغض لا يحسب له، وقد قال بعض الأدباء في معناه:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكل إحسانه ذنوب
وقال آخر في وصف آخر:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب ويأتي بالمعاذير
وأنشدت لبعض المريدين المتحققين:(1/476)
أني جعلت منظري في مهجتي ... وجعلت ودك لي إليك شفاعة
ولو إن وقتاً منك بالدهر كله ... لكان قليلاً ألف عام بساعة
فليتق اللّه تعالى عبد لم يطلعه اللّه عزّ وجلّ على ماذكرناه، فيزهد فيه ويعلو همه عنه بمشاهدة قدرة عظيمة، ومعاينة آيات كثيرة ظاهراً وباطناً، أن يدعى المعرفة أو يتوهم المحبة فما عنده منها إلا أماني وغرور وظنون وزور، واللّه تعالى يعطي قوماً الظنون كما يعطي أولياءه اليقين، ويعطي قوماً المزورات لعلل القلوب كما يعطي أحباءه المحققات في مقام محبوب، بآيات بينات وشواهد من اليقين، بإثبات آيات في القرآن وآيات الرسول، ولا يظهرهم على كن حتى ينكشف الكون عن قلوبهم، وفي الكون ما فيه من نفيس الملكوت وعظيم الرغبوت، مما لا يصلح ذكره، واعلم أنّ آفات النفوس وزينة الملك: حجب قلوب العموم وحظوظ العقل وشهوات الأرواح من رغبوت الملكوت، حجب قلوب الخصوص وسمو القلب إلى معاني الدرجات التي يشاهدها، ووقوفها مع خصائص الرحموت والرغبوت التي يطالع بها، حجب قلوب المحبوبين لأنهم إذا جاوزوا شهوات النفوس ورفعت بحبهم عنه حجب العقول وقعوا في شهوات الأرواح، فلا يواجهون بالوجه ولا ينظرون إلى الوصف حتى يجاوزوا أيضاً شهوات الأرواح وينكشف عنهم أيضاً، حجب الأنوار فيخلفوا الرسم ويغيروا الوسم، فإذا انكشفت المقامات وانقطعت الفضائل وحققت المطالعات وسقطت المنازل والدرجات، اصطلم الطالب وغلب المطلوب وفنى الراغب وبقي المرغوب، أظهر لهم التعلق بالاسم وهو آخر الحجب وأول القرب، يبتليهم به لينظر كيف يعملون في الوسم، فعندها حقت كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك الآية، وهناك صح له هذا المقام وفي معناه:
ظهرت لمن أفنيت بعد بقائه ... فصار بلا كون لأنك كنته(1/477)
فهذا مكان وجده بموجوده وقيامه بقيوميته بعد أن كان واجداً بكونه وقائماً بقيامه، وقد كان أبو يزيد يقول: إن أعطاك مناجاة موسى وروحانية عيسى وخلة إبراهيم صلوات اللّه وسلامة عليهم أجمعين، فاطلب ما وراء ذلك، فإنّ عنده فوق ذلك أضعافاً مضاعفة، فإن سكنت إلى ذلك حجبك به، وهذا هو بلاء مثلهم في مثل حالهم لأنهم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، فإذا لم ينظر العبد إلى جميع المطلوب ولم يقف على كون مرغوب أقامه حينئذ مقام محبوب، فآواه في ظلة وعطف عليه بحنانه، ونظر إليه بعينه وواجهه بوجهه فتوجّه إليه ولم ينتنِ، وسارع إلى قربه ولم ين فلم يشهد في وجهه وجهاً، ولا رأى في يده يداً، وقام بشهادته لقيوميته مشاهداً فهذا غاية الطالبين من العارفين، وقد قال بعض العارفين المحبين: كوشفت بأربعين حوراء، رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من فضة وذهب وجوهر يتخشخشن، وتنثني معهن، فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً، قال: ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء؛ فوقهن في الحسن والجمال، وقيل: انظر إليهن قال: فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر، وقلت: أعوذ بك ممّا سواك، لاحاجة لي بهذا، فلم أزل أتضرع حتى صرفن عني، وللّه عزّ وجلّ مثل هذا العبد في كل قرن وزمان ما يكثر عدده، متفرقين في أرضه ومنتشرين في بلاده ومخمولين مختبين تحت ستره في عباده، لا تستطيع العقول حمل وصفهم لضعفها، ولا يثبت في القلوب حق نعتهم لوصفها أقل مايوصفون به الإخلاص في الحركة والسكون، وهو أجلّ ماعندنا، والإخلاص عند المخلصين خراج الخلق من معاملة الخالق، فإذا لم يدخلوا كيف يخرجون؟ وأول الخلق النفس، فإذا لم يتكدر القلب بها كيف يصفى منها؟ والإخلاص عند المحبين أن لا يعمل عملاً لأجل نفس، ولا دخل عليه مطالعة العرض والتشرف إلى حظ طبع، بل للتعظيم، ولا يشرك محبوباً في حب ذي الجلال والإكرام ولا يعلق قلبه بما يروق نظره من جمال لما ملاه من نهاية الحسن وغاية الجمال، ولا سبيل إلى هذا إلا بعد معرفته، ولا معرفة قبل معاينته إذ ليس الخبر كالمعاينة، ولا معاينة إلا بنور اليقين، ولا حق يقين بوجود هوى نفس، فإذا انكشف الحجاب وهوى الهوى طلعت عين اليقين، فأنوار الصفات من الحسن والجمال والبهاء والكمال، في عين اليقين عيناً بعد عين كنور فوق نور، إلى نور النور، والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال، ومن الإخلاص في الصدق عند الصديقين سؤال الحجبة في قلوب الناس، كما قال بشر وقد سئل: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: كنت أكاتم اللّه تعالى حالي: معناه أسأله أن يكتم علي ويخفي أمري، وحدثت أنه رأى الخضر عليه السلام فقال: ادع اللّه تعالى لي فقال: يسر اللّه تعالى عليك طاعته، قال، قلت: زدني فقال: وسترها عليك، فقيل في تأويل ذلك معنيان؛ منهم من قال: وسترها عليك أي يسترك حتى لا تعرف بها كما ذكرنا آنفاً.(1/478)
وقال بعضهم: أراد سترها عنك حتى لا تنظر أنت إليها، وقال بعضهم: قلقني الشوق إلى الخضر، فسألت اللّه تعالى مرة أن يريني إياه، ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب على قلبي ولا همني إلا أن قلت له: يا أبا العباس، علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولم يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل: اللّهم أسبل عليّ كثيف سترك وحط عليّ سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك واحجبني في قلوب خليقتك، قال ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك، قال فما تركت أن أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحدثت أنّ هذا كان يستذل ويمتهن حتى كان أهل الذمة يسخرون به في الطريق، يحملونه الأشياء في الطريق لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يولعون به، وكانت راحته في ذلك ووجود قلبه به واستقامة حاله عليه، وهذا طريق جماعة من السلف وحال طبقة من صادقي الخلف، أخفوا أنفسهم وأسقطوا منازلهم فسموا عقلاء المجانين، وهذا من الزهد في النفس وحقيقة التواضع، إلا أنه زهد مجانين الأولياء وتواضع موقني الضعفاء؛ فالتكبّر يكون بثلاثة معان: تكبّر على الناس عجباً بالنفس، وتكبّر في قلوب الناس عزّة من النفس، أي يحب أن يكبر في قلوبهم فيكون ذلك تكبّراً منه، وتكبّر في القلب عن نظره إلى صلاحه ودينه فيكبر ذلك عنده فيدل به، ولذلك رآه من نفسه لقصور علم اليقين منه، وهذا أدق معاني التكبر ولا يتخلص منه إلا صحيحو التوحيد، صادقو اليقين مخلصو الصالحين، وأما التكبّر الظاهر الذي هو التطاول والفخر والتظاهر، فذاك جلي وهو من أكثف حجب القلب وأقوى صفات النفس، فلذلك فزع العلماء من دقائقه لما عرفوه، فطلبوا القلّة والذلّة للنفس ليمتهنوها بخفايا التواضع، لينتفي عنهم دقائق الكبر لتخلص لهم الأعمال، والتواضع عند المتواضعين هو حقيقة أن يكون العبد ذليلاً صفة لا متذللاً متعمّداً للذلّة، وأن يكون عند نفسه في نفسه وحيداً حقيراً معتقداً لصغره وحقارته في نفسه، لا متواضعاً متكلفاً، وعلامة ذلك أن لا يغضب إذا عابه ونقصه عائب، ولا يكره أن يذمه ويقذفه بالكبائر ذام، وبيان ذلك في وجده أن لا يجد طعم الذل في ذلة ولا يشهد الضعة في تواضعه، إذ قد صار ذلك له صفة،فمن ذلّ ووجد ذوق ذله فهو متعمل للتواضع، ومن تواضع وشهد تواضعه وضعته فهذا متعذر؛ وهي علامة بقية الأنفة في نفسه لنفسه، ومتى غضب أو كره ذمه من غيره فهو يفرح ويرضى بمدحه، فإذا كانت فيه هذه العلامات فهو محجوب عن جميع ما ذكرناه من المقامات، ومتى ذل نفسه وتواضع عند نفسه فلم يجد لذله ذوقاً ولا لضعته حسّاً فقد صار الذل والتواضع كونه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجد النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة من نفسه، فصارت الذلة والضعة صفته لا تفارقه، لا زمة له لزوم الزبالة للزبال والكساحة للكساح؛ هما صنعتان لهما كسائر الصنائع، وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما، فهذه ولاية عظيمة له من نفسه، قد ولاه على نفسه وملكه عليها فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب وبعده المكاشفات بسائر العيوب، أول ذلك دخول نور الحكمة في القلب وينبوع الحكم من قلبه، كما روينا أنّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قال: يابني إسرائيل، أين ينبت الزرع؟ قالوا: في التراب فقال: بحق أقول لكم: لا تنبع الحكمة إلا في قلب مثل التراب، ومن كان حاله مع اللّه تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبّر العز ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارقه العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه، وممن روينا عنه اختيار الذل وإسقاط المنزلة والقدر عند الناس ومحو جاهه وموضعه من قلوبهم، وأظهر على نفسه ألوان معاني الذم أكثر من أن يحصى، وذكرهم يطول، وذاك أنّ حالهم الصدق فتقتضيهم القيام بحكمها فلا بد من قيامهم بمقتضى حالهم.(1/479)
حدثني بعض الأشياخ عن أبي الحسن الكريني أستاذ الجنيد، أن رجلاً دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يرده، فرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله المنزل في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يدعى فيرمي له عظم فيجيء وزاد غيره، وقال: لو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت، وحدثني شيخ آخر عن أستاذه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت قلبي فدخلت حماماً في جوف المحلة وعنيت على ثياب فاخر فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت وجعلت أمشي قليلاً قليلاً ليفطن بي فلحقوني فنزعوا مرقعتي واستخرجوا الثياب، وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت أعرف في الناحية بلص الحمام فسكنت نفسي، وحدثت عن بعض الصوفية أنّه وقف على رجل يأكل، فمد يده إليه فقال: إن كان ثم شيء للّه فقال له: اجلس فكُلْ، فقال: أعطني في كفي، فأعطاه في كفه فقعد في مكانه يأكله، فسأله عن امتناعه من الجلوس معه، فقال: إن حالي مع اللّه عزّ وجلّ الذل، فكرهت أن أفارق حالي، وكان هذا ربما مديده إلى الهراس فيضع فيها هريسته والعرب تأنف أن يوضع الشيء في أكفها لعزة نفوسها، حتى روينا عن بعض الصحابة من المهاجرين؛ الأول في أول النبوة فقال جعت ثلاثاً لم أطعم شيئاً، فبلغني أن إنساناً يتصدق بزبيب، فسألته فقال: هات كفك فقلت: إني رجل من العرب ولا آخذ في كفي فاجعله لي في شيء، قال فجعله في كيل ثم ناولنيه، فلما فرغته رددته إليه، فكانت فيه عزة نفس، لا جرم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: أنت رجل فيك جاهلية فقال: على ما أنا عليه من كبر السن؟ قال: نعم، وكان قدخاصم رجلاً فأرى عليه تعززاً، وإنما نبهنا ببعض ما ذكرناه له: العقول المستيقظة وحركنا بما بيّنا القلوب الحية، ليحيا من حي عن بينة بذكر أوصاف الصادقين وطرقات المخلصين ليستدل على الكثير باليسير، وقد كان شاهد من شهود بسطام عظيم القدر فيهم لا يفارق مجلس أبي يزيد فقال له يوماً: ياأبا يزيد، أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر، وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي شيئاً من هذا العلم الذي تذكر، وأنا أصدق به وأحبه، فقال له أبو يزيد: لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة، قال: ولم؟ لأنك محجوب بنفسك، قال: أفلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعلمه قال: لا تقبل،قال: فاذكره لي، قال: اذهب الساعة إلى المزين واحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان اللّه تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك سبحان اللّه شرك قال: كيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها قال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره قال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء فقال: لا أطيقه فقال: قد قلت لك إنك لا تقبل، فهذا لما قال سبحان اللّه كان مشركاً عنده لأنه سبحه برسم النفس، وقد كان أبو يزيد يقول: سبحاني ما أعظم شأني وهو موحد لأنه وحد بأولية بدت.(1/480)
وهذا الذي ذكره دواء من اعتلّ بنظره إلى نفسه، ثم سقم بنظر الناس إليه لزمه سد نظره إلى نظرهم، ليس لها من دون اللّه كاشفة إلا إن هذا من طبّ المجانين، يصلح لضعفاء اليقين، ولو أدخل الطبيب الأعلى ذرة من عين اليقين، أخرج بها من قلبه كل نظرة فاستراح من كل دواء، ولكن ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينّة بشواهد الحق، ويحيا من حي عن بينة بشاهد الحق، ويتلوه شاهد منه فلا تنكرنّ من جميع ما ذكرناه شيئاً، فتخسر أقل أنصبة المؤمنين من علم القدرة واليقين، لأن للمؤمنين أنصبة من هذا العلم؛ منها المشاهدة لما وصفناه، والإدراك لما رمزناه، ومنها الوجد والحال، ومنها المعاملة، والمنازلة، ومنها الذوق والشمّ، منه وآخرها التصديق والقبول، فأقل النصيب من علم المعرفة إن لم يشهد فلا يجحد، وإن لم يعرف فليتعرّف، ويكون معقله التسليم وليس وراء هذا مكان، وهذه المقامات التي شرحناها وهي مقامات اليقين؛ أولها التوبة إلى هذا المقام من المحبة، منوط بعضها ببعض، إن أعطي العبد حقيقة من أحدها أعطي من كل مقام حاله ومع كل حال مشاهدة، ولكل مشاهدة علم، إلا من شهد بالحق، وهم يعلمون وكلها مجموعة في حقيقة الإيمان، إن أعطي العبد حقيقة من إيمان ويقين حتى يكون مؤمناً حقّاً، غير مرتدّ عنه ولا مستبدل به في علم اللّه تعالى، وكان إيمانه منة وهبة لا عارية ولا وديعة، فيسترد ويرتد على إظهار لبس أو إدراج مكر، محنة من اللّه تعالى وخبرة، ويكون مستبدلاً لا بدلاً، فإذا لم يكن كذلك وكان بدلاً من مستبدل به أعطي من جميعها حالاً فحالاً، وشهادة شهادة، وإن تفاوتوا في العلوم وتعالوا في القرب وذاك هو كمال الإيمان، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وصف كمال الإيمان، ثلاثة أحاديث من أصول هذه الأحوال وأساس هذه الأفعال منها؛ أنه قال: لا يستكمل العبد إيمانه حتى يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرة الشيء، وحتى لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف، فهذان حالا الصادق الزاهد، وهما أول الطريق المؤدي إلى التحقيق وأس البنيان الرافع، إلى أنه ألا يخاف في اللّه لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، آثر أمر الآخرة على أمر الدنيا، فهذه أحوال المحبّ للّه تعالى، المخلص بمعاملة اللّه عزّ وجلّ، الراغب فيما عند اللّه تبارك وتعالى، والحديث الثالث قوله صلى الله عليه وسلم: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون فيه ثلاث خصال؛ من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يتناول ماليس له، فهذه تجمع أحوال العدل والفضل والمراقبة والزهد، وهي أصول المقامات ويشبه هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الرابع: ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، العدل في الرضا والغضب، والقصد في اللاغنى، والفقر وخشية اللّه تعالى في السرّ والعلانية، وتفسير ما ذكرناه قبل، من أن هذه المقامات مرتبطة بعضها ببعض، وأنّ من أعطي حقيقة من أحدها أعطي جميعها حالاً، إذ يجمع ذلك كله الإيمان باللّه تعالى ليتوب العبد إلى من آمن به، وإلى ما آمن به من الوعد وما آمن به من الوعيد، ليحقّ إيمانه ويصحّ يقينه، وليستقيم توحيده، كما قال تعالى: إنَّ الذين قالوا: ربنا اللّه، ثم استقاموا، وقال تعالى:(فَاسْتَقِيمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) هود: 112 وقال: فآمن له لوط وقال: إني مهاجر إلى ربي فذهب إليه لما آمن به، وهو الرجوع وهي التوبة، ثم يزهد فيما تاب منه من هواه لتصحّ توبته وتخلص نيته، فيكون نصوحاً، كما قال تعالى:(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقُ) النحل: 96، وقال: والآخرة خير وأبقى، وقال: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين لما أخرجوه من أيديهم وتركوه، وتابوا إلى أ بيهم، وزهدوا فيه، ثم يصبر عما زهد فيه ليحق زهده، كما قال: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وقال عزوجل:(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرَ) المدثر: 7، ثم يشكر على ما صبر عنه ليكمل صبره، كما قال:(لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللّه) الكهف:39، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه) النحل: 53، (وَاذْكُرُوا نِعمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) البقرة: 231، ثم يرجو من شكر له ليزيده من فضله فيعطيه فوق سؤله بحسن ظنه به، كما قال تعالى:(1/481)
(وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر:9، وقد ذم من أيس من رحمته بقوله: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه، إنه ليؤس كفور، ثم يخاف فوت ما رجا ويخاف من تقصيره في الشكر لما أولى، لتحق غبطته برجائه ويتم إشفاقه من تبديل الآية ويخاف نقصان المزيد كما قال سبحانه: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً) السجدة:16، وقال مخبراً عن أوليائه: إنّا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ اللّه علينا وقد عاب اللّه من فرح بما أظهر له وفخر بما أوتي ومن عود البلاء ونسي أنه كان مبتلي، في قوله تعالى: ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ: ذهب السيّئات عني إنه لفرح فخور، ثم يتوكل على من خافه فيسلم نفسه إليه ويستسلم بين يديه، أن يحكم فيه ما أحبّ لقوله تعالى:(وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) المائدة:23، وقوله: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، ثم يرضى بمن توكل عليه وعمّن توكل له لعلمه بحكمته البالغة وتدبيره الحسن لقوله تعالى: (رِضِيَ اللّه عَنْهُمْ رَضُوا عَنْهُ) المائدة:119، ولقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه) البقرة: 2،7، ثم يحب من رضي به و رضي عنه، إذ كان قد اختاره على ما سواه وإذ صار حسبه لما رآه، فصارت هذه المقامات التسع كمقام واحد، بعضها منوط ببعض، ودليلها كتاب اللّه تبارك وتعالى الحقّ اليقين النور المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من طريق الهوى، ولا من خلفه من خيل الأعداء، فأشبهت دعائم الإسلام الخمس في مقام العموم من طريق الإسلام، إذ بعضها مرتبط ببعض كهذه في مقام الخصوص من طريق المقرّبين، ثم يرجع بعد مقام المحبة إلى حال الرضا قوة فقوة، ثم يتردد في مقام المحبة رتبة رتبة، وليس فوق حال الرضا مقام يعرف، ولا فوق مقام المحبة حال يوصف، وهما موجب المعرفة ومنتهاها المعروف وقرارها المألوف، وإن إلى ربّك المنتهى، إلى ربّك يومئذ المستقر، فليس للرضا نهاية إذ ليس للمحبوب غاية، وإنّ الرضا مزيد أهل الجنة، في الجنة وليس للحب نهاية لأنه عن الوصف ولا غاية للصفات وليس لطلب المحبّ حدّ لأنه عن القرب، ولا غاية للقرب لأنه عن وصف قريب، ولا حدّ لقرب فيترافع المؤمنون في الحبّ مقامات على تجلّي الحبيب بمعاني الصفات، ويتزايد الرضوان في الرضا درجات حسب تعاليمهم في علو المشاهدات، ويتعالى أهل عليّين في العلوّ غايات على قدر أنصبتهم من قوة الإيمان وصفاء اليقين.َيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر:9، وقد ذم من أيس من رحمته بقوله: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه، إنه ليؤس كفور، ثم يخاف فوت ما رجا ويخاف من تقصيره في الشكر لما أولى، لتحق غبطته برجائه ويتم إشفاقه من تبديل الآية ويخاف نقصان المزيد كما قال سبحانه: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً) السجدة:16، وقال مخبراً عن أوليائه: إنّا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ اللّه علينا وقد عاب اللّه من فرح بما أظهر له وفخر بما أوتي ومن عود البلاء ونسي أنه كان مبتلي، في قوله تعالى: ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ: ذهب السيّئات عني إنه لفرح فخور، ثم يتوكل على من خافه فيسلم نفسه إليه ويستسلم بين يديه، أن يحكم فيه ما أحبّ لقوله تعالى:(وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) المائدة:23، وقوله: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، ثم يرضى بمن توكل عليه وعمّن توكل له لعلمه بحكمته البالغة وتدبيره الحسن لقوله تعالى: (رِضِيَ اللّه عَنْهُمْ رَضُوا عَنْهُ) المائدة:119، ولقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه) البقرة: 2،7، ثم يحب من رضي به و رضي عنه، إذ كان قد اختاره على ما سواه وإذ صار حسبه لما رآه، فصارت هذه المقامات التسع كمقام واحد، بعضها منوط ببعض، ودليلها كتاب اللّه تبارك وتعالى الحقّ اليقين النور المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من طريق الهوى، ولا من خلفه من خيل الأعداء، فأشبهت دعائم الإسلام الخمس في مقام العموم من طريق الإسلام، إذ بعضها مرتبط ببعض كهذه في مقام الخصوص من طريق المقرّبين، ثم يرجع بعد مقام المحبة إلى حال الرضا قوة فقوة، ثم يتردد في مقام المحبة رتبة رتبة، وليس فوق حال الرضا مقام يعرف، ولا فوق مقام المحبة حال يوصف، وهما موجب المعرفة ومنتهاها المعروف وقرارها المألوف، وإن إلى ربّك المنتهى، إلى ربّك يومئذ المستقر، فليس للرضا نهاية إذ ليس للمحبوب غاية، وإنّ الرضا مزيد أهل الجنة، في الجنة وليس للحب نهاية لأنه عن الوصف ولا غاية للصفات وليس لطلب المحبّ حدّ لأنه عن القرب، ولا غاية للقرب لأنه عن وصف قريب، ولا حدّ لقرب فيترافع المؤمنون في الحبّ مقامات على تجلّي الحبيب بمعاني الصفات، ويتزايد الرضوان في الرضا درجات حسب تعاليمهم في علو المشاهدات، ويتعالى أهل عليّين في العلوّ غايات على قدر أنصبتهم من قوة الإيمان وصفاء اليقين.(1/482)
قال اللّه تعالى:(وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين) آل عمران:139، فأعطاهم من معاني وصفه العلو، ثم وصف نصيبهم بوصفهم فقال: إنّ كتاب الأبرار لفي علّيين، وما أدراك ما عليّون، فعليّون لانهاية له في العلوّ إذ هو من أسماء المبالغة في الوصف، وقيل: إنه اسم لا واحد له من جنسه، فهو عليّ في علوّهم يعلو بهم أبداً في علوّ علوّهم في دار الأبد، وهم أعلون لأن الأعلى معهم، فهم يعلون به، وعليّون يلعو بهم هذا كله لأنه معهم، كما قال: وأنتم الأعلون واللّه معكم، فالرضا الأول الذي هو قبل المحبة مقام التوكّل، وحال المحبّ المحبوب حاله، والرضا الثاني الذي يكون بعد المحبة مقام المعرفة، وحال المحبوب التوكل حاله، والمحبة من أشرف المقامات ليس فوقها إلا مقام الخلّة، وهو مقام في المعرفة الخاصة وهي تخلّل أسرار الغيب، فيطلع على مشاهدة المحبوب باب يعطي حيطة بشيء من علمه بمشيئته على مشيئته التي لا تنقلب، وعلمه القديم الذي لا يتغيرّ، وفي هذا المقام الإشراف على بحار الغيوب وسرائر ما كان في القديم، وعواقب ما يؤت،ومنه مكاشفة العبد بحاله وإشهاده من المحبة مقامه، والإشراف على مقامات العباد من المآل والإطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد حالاً فحالاً، وقد ذكر أبو يزيد البسطامي وأبو محمد سهل أنهما أقيما في هذا المقام، ووصفا حاليهما منه، وقد كان لشقيق وابن أدهم البلخيين مطالعات في هذه المعاني، وقد سلك بابي الفيض في هذا الطريق، فظهر على ما فيه مما يبهر من رأى انقلاب الأعيان وتبصرة بعظيم العيان، وهذا محجوب عن أوهام القلوب بعقولها، ومستقرّ في جبّ غاية القلوب بأرواحها، فإذا خرجت النفس من الروح فكان روحانيًّا خروج الليل من النهار تنفس المكروب، وإذا خلا العقل عن القلب فكان ربّانيًّا انفرجت الكروب، كما قال العارف:
بحياتي يا حياتي ... لا تبعد قرباتي
أخرج النفس من الرو ... ح وروّح كرباتي
وقد قال أحسن القائلين: (وَلاَيُحِيطُونَ بِشَيءِ مِنْ عِلْمِهِ إلاَ بِما شاءَ) البقرة: 255، والاستثناء واقع على إعطاء الحيطة بشيء من شهادة علمه، بنور ثاقب من وصفه وشعاع لائح من سبحته إذ شاء، وهذا معنى من سرّ التوحيد لا يكشفه إلا عين اليقين، ولا نظهره حتى يظهر لنا منه عارف ما عليه قد أوقف، وما منه به قد كوشف، فحينئذ يقع العين على العين ويضيء الكوكب الدرّي في جوهر مشكاة القلب، وقد كان للشيخ أبي الحسن بن سالم رحمه اللّه تعالى من هذا الطريق، مشاهدات ومطالعات وسياحات في الغيوب، وجريان في الآخريات، وانقلبت له الأعيان وظهر له العيان، وطوى له المكان ورأى ألف وليّ للّه تعالى، وحمل عن كل واحد علماً، ثم انقطع الطريق بعد فقده وعفا الأثر ودرس الخبر، ثم اللّه تعالى أعلم بما هو صانع بهذا الطريق وأهله، هل ينشئ له أهلاً وينهج له غامضات الطريق طريقاً أم يطويهم في طيّ طريقهم ويخفي طريقهم في خفاء الموج الغامض في غامضات العلم السابق؟ نقول في ذلك كا قال إمام الأئمة علي بن أبي طالب، كرّم اللّه وجهه، بعد إذ ذكر في خطبته قيام الساعة واسقرار أهل الدارين فيهما قال: ثم اللّه أعلم بما هو صانع بالدنيا بعد ذلك، فهذا من سرّ السرّ الذي أودعه صاحب الأمر، وليس فوق الخلة مقام إلا درجة النبوة، وهو محجوب عن القلوب كحجاب هذا المقام من الخلّة عن قلوب العموم، فهذا لا فوت فيه لأنه درك منه، ولا حزن عليه لأنه لا نصيب عنه، ولكن مقام الخلّة لا يكون إلا مقام محبوب على كل حال.(1/483)
وما سمعت من أحد من أهل العلم الباطن والمعرفة الثاقبة رسماً من علم الخلّة ولا من وصف محبوبه شيئاً في كتاب اللّه تعالى، ولا إشاراته إلا نكتاً في الأخبار ولمعاً من الآثار، أعلم أنه كلام محبوب من مقام خلّة، ولكنه مستودع في كتاب اللّه تعالى المكنون، وغامض من خطابه المصون، ومخبوّ في سرّ آياته عن القلوب والعيون، وكاشف به الساجدين، وأظهر عليه أهل السرّ من العارفين، ألا يسجدوا للّه الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وقوله تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَواتِ وَالأرْض) الفرقان:6، وقد كان الحسن رحمه اللّه يروي في الخلّة أخبار، منها أن اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى بعض أوليائه: إنما أتخذ لخلّتي من لا يفتر عن ذكري ولا يكون له غيري ولا يؤثر علّي شيئاً من خلقي، وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً، وإن قطع بالمناشير لم يجد للمس الحديد ألماً، وقد روينا عن الخليل الحبيب عليه السلام أنه قال: تحابوا في اللّه وتصافوا وتباذلوا وتخاللوا فيها، وليس من كرم اللّه تعالى أن اتخذ عبداً من عباده خليلاً فنبه أن الخلّة من اللّه تعالى كانت لأوليائه عن فرط كرمه وفضل آلائه، ألحقهم بكرامته وأهلهم بفضله لها وعظمهم عن نصيب تعظيمه فيها، واللّه الواسع الكريم ذو الفضل العظيم، إذا رفع عبداً جاوز به الحدود، وإذا خفضه وضعه تحت المحدود، وقد تكلم الجنيد رحمه اللّه تعالى في مقام من هذا وقد سئل عنه فقال: هو غاية الحبّ وهو مقام عزيز يستغرق العقول وينسي النفوس، وهو من أعلى علم المعرفة بالله تعالى، وقال: في هذا المقام يعلم العبد أنّ اللّه عزّ وجلّ يحبه ويقول العبد: بحقي عليك وبجاهي عندك ويقول: بحبك لي، قال: وهؤلاء هم المدلون على اللّه تبارك وتعالى، والمستأنسون باللّه تعالي، وهم جلساء اللّه تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون بأشياء هي عند العامة كفر باللّه لما قد علموا أن اللّه تعالى يحبهم، وأنّ لهم عند اللّه جاهاً ومنزلة، ثم قال عن بعض العلماء: أما أهل الأنس باللّه تعالى فليس إلى معرفتهم سبل، هذا من كلام الجنيد ونحو معناه حدثني به الخاقاني المقري، ولولا أنّا روينا عنه ما ذكرناه لا ما كنا نشرح حال هؤلاء إشفاقاً على الألباب كما قال المجلى:
وأن أشرح ثناءك غير أني ... أجلك عن كتاب في كتاب
وقد كان شيخنا أبو بكر بن الجلاء رحمه اللّه كتب إلى شيخنا أبي الحسن بن سالم رحمه اللّه تعالى، يسأله عن مسائل من معاني السرائر في كتاب، فحدثني من رآه: رمى بالكتاب وقال: أين صاحب هذه المسائل؟ فقيل: هو غائب بمكة فقال: أنا لا أجيب عن هذا في كتاب، قولوا له: يحضر إن أراد، وقد حدثني ابن الجلاء بهدا لأن مقام الخلّة هو الذي أخفيناه وعظمناه، لا يعطاه العبد إلاّ في مقام مع مقام، فالمقام الأوّل هو المعرفة الخاصية بظهور تعرف كشفاً عن وصف الباطن، ثم يدخل عليه المحبة المخصوصة وهو مقام محبوب، ثم يرفع من هذا المقام إلى مقام الخلة وهو الإشراف على سرائر غيوب من شرفات العرش وسرادقات القدس وغير ذلك، والأصل فيما ذكرناه أنه سبحانه يعطي مقامات المعرفة في مقام عارف، ولا يعطي فيه مقام محبوب، وقد يعطي مقامات من المحبة في مقام محبّ ولا يعطي شهادته خلّة لغير خليل عارف، فإذا جمع مقام معرفة تعرّف إلى مقام محبة محبوب أعطي مقاماً من الخلّة الذي وصفناه، وهذا من أعز ما أظهر في الكون لمظهر مكنون، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس قبل موته بثلاث فقال: إن اللّه تعالى قد اتخذ صاحبكم خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فرفع صلى الله عليه وسلم في مقام محبوب إلى درجة خليل كما نقل من مقام محبّ إلى حال محبوب،كما زيد بالمحبة في مقام محبوب الصفوة، وقال أيضاً في المقام الأول: إنّ اللّه عزّ وجلّ اتخذ موسى صفياً واتخذني حبيباً، فأول العطاء هو الصفاء من الهوى ثم المحبة بعد الصفاء، ثم الزيادة بوصف محبوب فوق المحبة، ثم ارتفع فعلا بعد القوّة والاستواء إلى العلي الأعلى، فدنا لما علا فتدلّى حتى دنا فكان قاب قوسين أو أدنى وكانت البلد من ورائه والوجه مواجها لوجهه:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر(1/484)
إذ من العلوم علم لا ينبغي أن يسأل عنه حتى يبدي العالم ذكره، فهذا منها فلا يبدي إلا بقدر معلوم بمقدار ما أبدى المبدئ، ويعيد منه بقدر ما أعاد المعيد، وكان لديه خليلاً كما كان عنده قريباً، فصارت الخلّة مقاماً في محبوب وهو نهاية المزيد، كما كان مقام محبوب وزيادة على مقام محب كما رفعه إلى المحبة بعد الصفوة من كدر الهوى، وكذلك أنت أيها السامع الشاهد، يجعل لك بعد الصفاء نصيباً من نصيب وشهادة على شهادة، ووجداً من وجد وفقداً للنفس من فقد، فلا يذهب كثير النبوّة منه صغير العطية لك لأنّه تعالى رفع الطائعين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً إلى مقام النبّيين والصدّيقين، والصدّيقون باقون إلى نزول الروح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وهم الأبدال عددهم في كل الدنيا ثلاثمائة، وما شاء اللّه منهم الشهداء والصالحون، فهم ثلاث طبقات وكلهم مقرّبون سابقون، إيمان صدّيق منهم كإيمان جميع الشهداء، وإيمان شهيد كإيمان كل الصالحين، وإيمان كل صالح بمقدار إيمان ألف مؤمن من عموم المسلمين، وليس في الخلّة شريك لغير الخليل على خليله، ولأنها حال مفردة لفرده موحدة لواحد، ولو كان يصلح لها نظير ويوزر بها وزير كان أحق الأمة بذلك الصدّيق، فقد أعطاه تعالى ثلاثاً لم يعطها غيره منها: إنا روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنّ اللّه عزّ وجلّ أعطاك مثل إيمان، كل من آمن بي من أمتي، وأعطاني مثل إيمان كل من آمن بي من ولد آدم، والحديث الثاني أنّ للّه تعالى ثلاثمائة خلق، من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة، فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه: يا رسول اللّه، هل فيّ منها خلق واحد؟ فقال: كلها فيك يا أبا بكر، وأحبها إلى اللّه عزّ وجلّ السخاء، والحديث الثالث هو المستفيض، رأيت ميزاناً دليّ من السماء فوضعت في كفة فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة، وجيء بأمتي فوضعت في كفة، فرجح بهم وليس بين الصدّيق وبين الرسول إلا درجة النبوّة والقطب اليوم الذي هو إمام لأثافي الثلاثة، والأوتاد السبعة، والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاثمائة، كلهّم في ميزانه، وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدل من أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه والأثافي الثلاثة بعده، إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاثمائة وثلاثة عشر، إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين أهل الرحمة والرضوان، فمع هذا الفضل العظيم لأبي بكر الصدّيق رضي اللّه تعالى عنه لم يصلح أن يشرك الحبيب الرسول المقرّب الخليل في مقام الخلّة، كما صلح أن يشرك في مقام الأخوة، وهو المقام الذي شرك فيه عليًّا كرّم اللّه وجهه، فقال عليّ مني بمنزلة هارون من موسى، فهذا مقام أخوة، كذلك في التفرّد بمقام الخلّة: لو كنت متّخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل اللّه تبارك وتعالى يعني نفسه صلوات اللّه عليه، لأنه واحد لواحد، مفرد لفرد، فاعتبروا يا أولي الألباب بتدبر فهم الخطاب، فمن أعطي من الصفاء نصيباً أعطي من الحب نصيباً، وكان له من المعرفة بقوة محبته، ومن المعرفة بقدر معرفته، فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة، لأن المعروف بها واحد والمتعرّف عنها واحد، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين في أعلاها وهي مقامات المقرّبين، وعمومهم في أولها وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين، ولكل منهم وجهة من الصفات المخوفة عنها كانوا خائفين، أو الأخلاق المرجوّة منها كانوا راجين، أو الأفعال والأملاك عندها كانوا صابرين شاكرين، أو معاني أوصاف ذات منها كانوا محبين متوكّلين، قال اللّه سبحانه وتعالى:(وَلِكُلٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتِبَقُوا الْخَيْرَاتِ) البقرة: 148، ويقال من أحب شيئاً حشر معه.(1/485)
وفي الخبر: المرء مع من أحبّ وله ما احتسب، وفي الخبر:من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة، فأماجمل مقامات المحبين فمذكورة في الكتاب العزيز، من الحبيب اثني عشر مقاماً: خميس في دليل الخطاب وتدبّر الألباب، وسبعة في صريح الكلام بظاهر الأفهام، فأمّا السبع المصرحة فقوله عزّ وجلّ: (إنَ اللّه يُحبُ التَوَّابِينَ وَيُحِبُّ المتُطَهِّرينَ) البقرة:222، (وَاللّه يُحِبُ الصَّابِرينَ) آل عمران: 146، (وَاللّه يُحِبُّ الشَّاكِرينَ) آل عمران:144، (واللّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقينَ) آل عمران: 76، ( وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنين) آل عمران: 134، ( وَاللّهِ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلينَ) آل عمران: 159 وأما الخمسة المتدبرة فهم الموحدون لقوله: لا يحبّ الكافرين والعادلون، لقوله: لا يحب الظالمين والمستقيمون، لقوله: لا يحب الفاسقين والمتواضعون، لقوله: لا يحبّ المستكبرين والموفون، لقوله: لا يحبّ الخائنين وهؤلاء طبقات المحبوبين تعريضاً وتصريحاً، وشرح هذه الأوصاف هي مقامات اليقين، وفي كل مقام من هذه أحوال يكثر عددها، كل حال منها طريق إلى اللّه عزّ وجلّ، في كل طريق طائفة من المحبين، محبتهم على قدر معرفتهم ومعرفتهم على زنة تعرف المعروف إليهم، وعن نحو تعريف المعروف لهم، وذلك معنى من معارفهم، فهم على زنة يقينهم، ويقينهم على حسب صفاء إيمانهم، وإيمانهم على نحو عناية اللّه بهم وتفضّله عليهم وإيثاره لهم، ومن وراء ذلك سرّ القدر المختزن المستأثر، وليس فوق المحبة مقام مشهور، ولا دون التوبة حال مذكور،فأول المقامات التوبة، يخرج بها من الظلم والظلم حال من الشرك، قال اللّه تعالى:(إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ) لقمان: 13، وقال اللّه تعالى:(الَّذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَاَنهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ في الدُنْيَا) الأنعام: 82، وهذا فصل الخطاب لأضدادهم، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك هم أحق بالأمن غداً في المقام الأمين وقال تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات:11، فآخر الظلم أول التوبة وآخر التوبة أول المحبة، وآخر المحبة أول المعرفة وهي معرفة متعرف، وهي الخاصية مزيد المحبة الأولى وآخر نصيب العبد من المعرفة وأول التوحيد، وهو توحيد الشاهدين ولا آخر له، وأوسط المقامات الزهد وأول الزهد آخر الهوى، وآخر الزهد أول العلم وآخر العلم أول الخوف وآخر الخوف، أول الحبّ وهذا حبّ محبوب، والظالم لامقام له ولاجاه، ومن لا جاه له فلا شفاعة ومن لا شفاعة فلا شهادة، ومن لاشهادة فلا يقين، فلو أعطي مثقالاًِ من الإيمان لم يتجه لأنه صلى الله عليه وسلم قال في وصف الداخلين:أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم قال في الخبر الآخر: السخاء من اليقين، ولا يدخل في النار موقن، وقال سبحانه وتعالى في تقصيل ماوصلنا مما عنه شهدناه:(لاَ يَنَالُ عَهْدي الظَّالِمينَ) البقرة: 124، ثم قال في البيان الثاني من الخطاب:(لاََيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحَمنِ عَهْداً) مريم: 87، وقال في البيان الثالث:(وَلاَيَمِلْكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمْونَ) الزخرف: 86، وقال في وجد اليقين بعد شهادة العين في الرواية بعد المكاشفة: (وَكَذلِكَ نُرِي إبْراهيمَ مَلَكُوتَ الََّسمواتِ وَالأَرَِْض ولِيَكُونَ مِنَ المْوقِنينَ) الانعام: 75، ثم قال بنبأ يقين: إني وجدت، وكما أن اليقين بعد المشاهدة كذلك الوجد بعد اليقين، واليقين هو حقيقة الإيمان وكماله، كما جاء في الأثر: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.(1/486)
وقد روينا في تفسير قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، قيل: الجاه وقيل: الشفاعة ويقال: الولاية، وقيل: الإمامة، لا يكون الظالم إماماً للمتقين لأن من تبعه أمة من المؤمنين فهو إمام للمتقين، والظالم متهدد بالنار متوعّد بسوء المنقلب، مشفوع فيه فكيف يكون شفيعاً محجوب عنه؟ فكيف يكون شهيداً؟ ألم تسمع إلى قول الشاهد: ولا تحسبنّ اللّه غافلاً عمّا يعمل الظالمون وإلى قوله تعالى:(وَسَيََعْلَمُ الذينَ ظَلَمْوا أيَّ مُنْقَلبِ يَنْقلبُونَ) الشعراء: 227، مع قوله تعالى:( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذِلكَ جَزَاؤُا الظَّالِمينَ) المائدة: 29، ثم أجمل ذلك بقوله: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فصغير التوبة لصغير الظلم عن صغائر المظالم، وكبير التوبة لكبير الظلم عن كبائر المظالم، والظلم ظلمة اليوم في القلب، وظلمة غداً في القيامة، فالتوبة تخرج العبد من الظلم، وبخروجه من الظلم يدخل في منازل العهد، وبرعاية العهد يعمل في الإصلاح، واللّه لا يضيع أجر المصلحين،كما لا يصلح عمل المفسدين، فإذا كان مصلحاً بالتوبة ما أفسد بالهوى استعمل بالصالحات لأنه قد صلح، َفإذا عمل بالصالحات أدخل في الصالحين لأنه قد فضل، قال اللّه تعالى:(وَيُؤْتِ كُلَّ ذي فَضْلٍ فَضْلَهُ) هود: 3، وقال في البيان الأول: (وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصَّالِحينَ) العنكبوت: 9، فمن صلح له تولاّه ومن تولاه علمه وحباه وكاشفه من نفسه وعافاه وأحبه، فكان هو حسبه وكفاه وجعله تحت كنفه وآواه، فيكون ظاهر حاله العصمة من الهوى، وأعلاه مشاهدة عين اليقين من المولى، ومن اكتسب من المظالم ظلم، ومن ظلم ولاّه مثله ومن ولاّه مثله تولى عنه، ومن تولى عنه أفسد ومن أفسد قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، ومن قطع بعد فانقطع ومن انقطع فبعد لعن وطرد ومن طرد عمي وصمّ تحت الهوى المعمي المصمّ، ومن عمي لم يشهد البصير ومن صمّ لم يسمع من السميع، فكيف يتدبر الخطاب وقلبه مقفل وهمه على هواه مقبل؟ والفتاح العليم عنه معرض؟ فهذا من توصيل القول بمطلع المقول من قوله تعالى: (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يكْسِبُونَ) الأنعام: 129 ومن قوله تعالى: ( إنْ تَوَلَّيْتُمْ أََنْ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ) محمد:22 الآية، فبينوا وللتائب حال من أول المحبة، وللتواب مقام من حقيقة الحبّ، وللناس في التوبة مقامات حسب كونهم في الهوى طبقات، وهم في الحب درجات نحو مشاهدتهم لمحاسن الصفات، فتجلّى لكل وجه بمعنى، حسن وجهه هذا في القلوب عن محاسن الإيمان، وفي الآخرة على معاني محاسن الوجوه في العيان، فتحكم عليهم المشيئة منه لهم بما يوجدهم به منه على معاني ما أوجدهم منه به اليوم، فسبحان من هذه قدرته عن إرادته وسع كل شيء رحمة وعلماً، ويلزم كل عبد من المجاهدة على قدر ما ابتلى به من الهوى، ويثبت له من المحبة بقدر ما صح له من التوبة، ويسقط عنه من المجاهدة بقوة ما يكشف له من المشاهدة، فيحمل الإشهاد عنه آلام الجهاد، فيكون العبد في البلاء محمولاً، ويكون يقينه بالشهادة واليقين موصولاً، وهذا من سوابغ العوافي وتمام من النعماء، وهؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم من النّبيين والصدِّيقين والشهداء وهم الذين جاء الخبر فيهم.(1/487)
إنّ لله عباداً ضنائن من خلقه، يغذوهم برحمته ويجعلهم في ظل عافيته، يضن بهم عن القتل والبلاء ويحييهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية أولئك الذين تمرّ عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم منها في عافية، فالأفضل بعد هذا لكلّ عبد معرفته بعلم حاله، ووقوفه على حده ولزوم الصدق في مقامه، وترك التكلّف و الدعوي في جميع سكونه وحركته،فإنه هذا أبلغ فيما يريد، وأوصل في طلب ما يرجو، فإنّ علم العلماء لا يغني عنه من علمه بنفسه شيئاً لا يسأل عن علومهم كما لا يسألون عن علمه، وهذا طريق رأس ماله الصدق، وزاده الصبر وقوته التقوى، فمن عدم الصدق لم يربح، ومن لم يتزود الصبر انقطع، ومن لم يقتت التقوى هلك، فذرة من صدق أنفع من مثقال عمل، وذرة من صبر خير من مثقال من عمل، وذرة من تقوى أنفع من مثقال إيمان، فإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، ويعطي اللّه تعالى العبد بأداء الفرائض واجتناب المحارم مقاماً من مقامات اليقين، يرفع به إلى عليين، وربما أعطاه بهما مثل ثواب الأبدال بعد أن يريد بالفعل والترك وجه اللّه تعالى وحده، وإن لم يسلك به طريق الأبدال قط ولم يعرف منهم أحداً أبداً، ومن نقله مولاه باليقين الذي به تولاه لم يخف عليه التنقيل، لأن النقل يضطره إلى التنقل في الأحوال، والمشاهدة تحكم علىه بالأفعال، وربما بلغ اللّه تعالى العبد بحسن الظن به، وقوة الأمل والطمع فيه جميع ما ذكرناه، بعد أن يكون حسن اليقين، وقد يعطيه مقام الصدِيقين بخلق من أخلاقه إذا خلقه به، وربّما بلغه منازل الشهداء بشيء واحد يتركه له، أو شيء يؤثره به لأنه غفور شكور، وأضرّ شيء على العبد قلة معرفته به، فلربما كان العبد على تسع كبائر فيترك العاشرة لوجه اللّه تعالى، فتكون تلك الخصلة ذرة إلى جنب تسعة أجبل، فينظر اللّه تعالى إليه بوجهه لوجهه الذي تركه له نظرة، فتمحو تلك النظرة الجبال التسعة فتصبر هباءً منثوراً، وربما حسن اللّه تعالى وصفاً واحداً من العبد يصفه به فيحبط عنه مائة وصف قبيح يصفه الناس به، فتدبروا، فلا ييأس عبد من فضل مولاه ولا يقطعن من حبله رجاه بعد إذ عرفه، فإن السيد كريم رحيم، ولا ينقطعن عبد عن بابه وأن يقطع بخلافه ولا يبعدن عن فنائه وإن بعد بأوصافه، ولا يستوحش من التقرّب إليه بما يحب بعد ما توحش، تفحش لديه بما يكره، فهكذا يحب اللّه تعالى من عباده فتبينوا، ونحو هذا يحبّ اللّه تعالى منهم أن يعرفوا فيفعلوا بعد المعرفة، فإنّ المعروف مفرط الكرم واسع الرحمة فاضل الفضل، فإن أعطي المعرفة لم يمنع شيئاً ولا يضرّ ما منع وإن منع المعرفة لم يعط شيئاً ولم ينفع منه ما أعطي، وقد تلتبس المحاب فتدخل محبة النعم في محبة المنعم، وتدخل محبة النفس على محبة خالق، ويشتبه ذلك عند عموم المحبين ممن لم يكشف له عين اليقين، فيكون العبد محبَّا للنعم، وهو يظن بوهمه أنه محب للمنعم، ويكون محبّاً لنفسه ويحسب أنه محبّ لمولاه، وعلامة ذلك سكونه إلى الأشياء وفرحه بالموجودات، ووجود راحته ولذته في هواه، فربما اختار اللّه تعالى أن يكشف له حاله قبل موته، وربما ستر عليه حاله ولم يفضحه حتى يلقاه، فيثيبه ثواب مثله وجزاءه، وليس يظهر فرقان هذا إلا في قلب موقن مراد بنورثاقب، وعلم نافذ ويقين صاف من عين التوحيد وشاهد القيومية لأنه من باب مشاهدة الصفات الغيبية ومشاهدة الأفعال الملكوتية، وهو الفرقان الذي وعده اللّه تعالى المتقين من المؤمنين فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29، قيل: نوراً أتفرقون به بين الشبهات وهو المخرج الذي ضمنه اللّه تعالى لأهل التقوى، والمنهج في قوله تعالى:(وَمنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق:2، قيل: من كل أمر ضاق على الناس به فتفصيل معاني التوحيد من شواهد الناظرين أضيق الضيق، وشهادة الجمع في التفرقة والبقاء في الفناء أخفى، وشرح غريب عن الأسماع ينكر أكثره أكثر من سمعه، غير أنّ من له نصيب منه يشهد ما رمزناه، فيكشف له به ما غطيناه، إلا أنه استولى على القلب أحد وجهين، فالخصوص أحبوه من طريق مشاهدة الصفات، فحب هؤلاء بقلب ووجد لا يتغير أبداً، وهم مثبتون فيه إلى لقاء الحبيب، وهؤلاء عبدوه على التعظيم والمحبة والإجلال والكبرياء، وفي هؤلاء المقرّبون والمحبوبون(1/488)
والخائفون والعاملون والمتوكلون والراضون، وهو المقام الأعلى وهم الأعلون عنده في المنتهى، والعموم أحبوه من طريق مواجيد الأفعال، وهي النعم والإحسان والأيادي والأفضال، وعما أظهر من العوافي ومما أخبر عنه بما أسروهم الذين خدموه شهوة وعادة وحاجة، أحبوه لمنافعة ومرافقه ولأجل ما في يده من ملكه، وحبّ هؤلاء يتغير لانقلاب الأحكام، وهؤلاء لم يتحققوا بالإخلاص ولا الزهد، وقد بقي عليهم من نفوسهم هوى، حجبهم ذلك عن مخالصته وبعدهم عن مضافاته، وهذه هي أوصافهم عائدة لهم وعليهم، فحبّ هؤلاء حول قلب لأن الأفعال التي أحبوه لأجلها تحول فيحولون، وتختلف عليهم بالمكاره والمرائر فيختلفون، وفي هؤلاء المريدون والعاملون والراجون والطامعون والتائبون وأصحاب اليمين من هؤلاء.ائفون والعاملون والمتوكلون والراضون، وهو المقام الأعلى وهم الأعلون عنده في المنتهى، والعموم أحبوه من طريق مواجيد الأفعال، وهي النعم والإحسان والأيادي والأفضال، وعما أظهر من العوافي ومما أخبر عنه بما أسروهم الذين خدموه شهوة وعادة وحاجة، أحبوه لمنافعة ومرافقه ولأجل ما في يده من ملكه، وحبّ هؤلاء يتغير لانقلاب الأحكام، وهؤلاء لم يتحققوا بالإخلاص ولا الزهد، وقد بقي عليهم من نفوسهم هوى، حجبهم ذلك عن مخالصته وبعدهم عن مضافاته، وهذه هي أوصافهم عائدة لهم وعليهم، فحبّ هؤلاء حول قلب لأن الأفعال التي أحبوه لأجلها تحول فيحولون، وتختلف عليهم بالمكاره والمرائر فيختلفون، وفي هؤلاء المريدون والعاملون والراجون والطامعون والتائبون وأصحاب اليمين من هؤلاء.
وقد قال بعض العارفين: كل محبة كانت عن عوض إذا زال العوض زالت المحبة فمنهم من عرف حاله في مقامه، فاعترف بنقصان محبته وتقصير شهادته واستغفر منها وأناب، ومنهم من ليس عليه ذلك لنقصان مزيده وضعف يقينه، فكانت محبته عن صفات متصلة بذات، ويخاف على مثل هذا الانقلاب عندكشف الغطاء، لأنه في اغترار وفتنة والتباس ومحنة، وفي طريق مكر وهلكة إلا أن تداركه رحمة من ربّه، فيوقف في حده في مقامه ويرده إلى حاله من مكانه، فيتوب من محبته ويستغفر من شهادته، فحينئذ يرحمه اللّه تعالى فيدخله في أهل العفو، ويستر عليه في الآخرة كما ستر عليه في الدنيا، فلقيه تحت الستر في الدارين، وهذه بعض مخاوف الصادقين من المحبين لأنها محبة إظهار لا ظهور، فصاحبها في تقلّب وغرور، إلا أنّ أهل محبة الأفعال ينقسمون قسمين: منهم من أحبه لأجل أفعاله إلا أن يشهدها منه فيراه فيها، فهو يتبصر له ويتعمل في المجاهدة ويجتهد في تنقية محلبه لبقاء حاله، فهذا أعلاهما وهذه محبة عموم أهل الآخرة الذين لا يشهدون سواها، ولايطلبون إلا إياها، ومنهم من تتغير عليه الأفعال وتخرجه من الاعتياد، ويتابع عليه البلاء وينقصه من العوافي في المال والنفس، فيخرج صفته ويظهر من تسخطه وتبرمه به، فهذا قد افتضح بدعوى المحبة وقد كشفه بعد ستره، فلم يزن في المحبين حبة، وهذه محبة أهل الدنيا الذين هم لها يكدحون وإياها يطلبون وقد سئل الجنيد رحمه اللّه تعالى عن المحبة فقال: الناس في محبة اللّه خاص وعام: فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه، فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان، فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظيم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك، فلما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى، لم يمتنعوا أن أحبوه إذا استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها، ولو زال عنه جميع النعم، ومن الناس من يكون محباً لهواه أو لعدوّ اللّه إبليس، وهو يدعي لعظيم جهله وطول غرته المحبة للّه تعالى.(1/489)
قال بعض علمائنا: عوتب أبو محمد في قوله: لكل أحد يادوست قال: وقلت له: قد لا يكون حبيباً كما تقول فقال في أذني سرًّا لا يخلو:إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً، فإن كان مؤمناً فهو حبيب اللّه عزّ وجلّ، وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس، ومن محبة الهوى إيثار عاجل حظ النفس على آجل ما وعدت به ويقدم محبتها على محبة اللّه عزّ وجلّ، وهي مطبوعة على محبة الهوى، وكراهة الحق أمارة بالسوء فيما تسرّ كذابة فيما تظهر من الخير، قال اللّه سبحانه تعالى: (وَعسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أنَ تُحِبُّوا شىْئاً وَهُوَ شرٌّ لَكُمْ) البقرة: 216، فقرن محبتها بالشر وقرن كراهتها بالخير، والعرب تسمي النفس كذبة أي التي يكثر منها الكذب، يصفونها بالمبالغة فيه على معنى قوله: ويل لكل همرة لمزة، أي الذي يكثر همز الناس ولمزهم، وكذلك وصفها اللّه تعالى بالمبالغة بالأمر بالسوء فقال: أمارة بالسوء أي فعالة، التي يكثر منها الأمر يتكرر مرة بعد مرة، من وصفها الفعل ومن محبة العدو طاعته وموافقته لأن فيها كراهة اللّه تعالى ومخالفته وهو مجبول على ضد ما يحب اللّه تعالى، واللّه تعالى يحب ضد ما جعله عليه وذلك ابتلاء من اللّه تعالى له، وابتلاء منه به لنا، واعلم أنّ قليل ما أعطاك اللّه عزّ وجل ّمن الإيمان به وصحة التوحيد له، ويسير ما قسم اللّه تعالى لك من الإخلاص والصدق وحسن المعاملة، خير لك وأنفع من كثير ما أظهر لك وعرفك، وإنما لك مما رأيته ما طلبته ونلته بيدك، وما ملكته وسلطت عليه من منازلتك، فأما ما لم تطلبه ولم تنله فهو لغيرك، لأنك قد قد ترى السماء ولا تنالها، فهي أرض لمن سخرت له، وترى ما جعل لغيرك فلا ينفعك ولا يغني عنك، وهو نافع مغن لمن سلط عليه فلكه، ومن الناس من يتوهم أنّ الإظهار هبة له، وأنّ ما رآه وعرفه ملكه وحازه وتحقق به، واعلم أنّ ألف خاطر لا يجيء منها حال، وألف حال يكون منها مقام، والمقام إنما هو ما ثبت ودام فمثل الخواطر في ممرها كالسحاب في سيرها، وقيل في المثل:سحابة صيف عن قليل تقشع، ومثل الأحوال في حيلولتها كمثل الأزمنة في أحوالها، في كل سنة أربعة مشتاً ومصيف ومربع وخريف، وإنما الهبة من اللّه تعالى ما وقر في القلوب من المشاهدات، وما حققته الأعمال من المنازلات، فيورث ذلك علماً خاصياً أو خلقاً مرضاً أو حالاً سنياً أو وصفاً زكياً من أخلاق الصالحين، وسيما المتقين وعلوم العارفين وملاحظات المقربين، ولا يصلح الكلام بهذا العلم إلاّ لمن له مشاهدته منه، إن كان من علوم القدرة والتوحيد أو منازلة لمن كان له من مواريث الأعمال، وعن تنقيل الأحوال وعن زهد في الدنيا، وسعي في طلب الأخرى، إن كان من علم الوعظ والندب إلى الفضل، فذل كله بعد التوبة ومع حالك الاستقامة، وعن كمال علم السنة والجماعة، بعد معرفة بعلم الأصول والسنن من آثار الرسول، وإلا كان متكلّفاً، وفي الدعوى داخلاً إلا أن يحكي شيئاً سمعه فيكون به لقائله محاكياً، ويضف حاله إلى صاحبه فيكون عنه راوياً، فأما التحلي وهو اللبس الظاهر والتصنع المفتعل بالإشارة الفارعة، فهو من حلية الدنيا وزينة الهوى، وكذلك التمني، وهو ما يظنه العقل أو توهمته النفس وقدره الوهم، أو من وسوسة العدو الخناس لعنه اللّه تعالي، فليس هذا كله من الإيمان ولا من علم اليقين في شيء، بل هو من همزات الشياطين وخطراتهم وقرب محضرهم، لأن هذا داء القلوب من أدواء الذنوب، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من تطبب ولم يعلم الطب فقتل، هو ضامن، فالمتكلم للناس بقتلهم يكون قاتلاً، والإظهار الذي يقع به الإغترار أكثر من أن يحصى، والظهور الذي يحق به الحقيقة أعز من أن يرى، واللّه تعالى يظهر من خزائن ملكه ما شاء على الألسنه والجوارح فهي من خزائن الأرض، فيها من التدبير والحكمة كما في ملك الأرض، وعلوم هذه الخزائن هي العلوم الظاهرة وهي حجج اللهّ تعالى في أرضه على عباده، ويظهر من خزائن ملكوته مايحب، وهي القلوب والبصائر والكنوز والذخائر، فهذه كخزائن الملكوت وهي من خزائن السماء وفيها من القدر والآيات كما في السموات وعلوم هذه الخزائن من علم اليقين، وهو العلم الباطن النافع يخص به من يحب، وهم أولياؤه المقربون إنّ الحكم إلا للّه، ولا يشرك في حكمه أحداً يختص برحمته من يشاء، ولا(1/490)
حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا آخر شرح مقام المحبة وهو آخر شرح مقامات اليقين التسعة.ول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا آخر شرح مقام المحبة وهو آخر شرح مقامات اليقين التسعة.
الفصل الثالث والثلاثون
ذكر دعائم الإسلام الخمس
التي بني عليها
أول ذكر فرض شهادة التوحيد للمؤمنين(1/491)
ووصف فضائلها وهي شهادة المقربين وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وفضلها للموقنين، قال اللّه تعالى وصدقت أنبياؤه لرسوله صلى الله عليه وسلم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَه إلاَّ اللّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) محمد:19، وقال لعباده يأمرهم بمثل ذلك: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وأنْ لا إلهَ إلاَّ هُوَ) هود:14، ففرض التوحيد هو اعتقاد القلب أنّ اللّه تعالى واحد لا من عدد، وأول لا ثاني له، موجود لا شكّ فيه وحاضر لا يغيب، وعالم لا يجهل قادر لا يعجز، حي لا يموت قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه سميع بصير، ملك لا يزول ملكه قديم بغير وقت، آخر بغير حد كائن لم يزل ولا تزال الكينونة صفته لم يحدثها لنفسه، دائم أبد الأبد لا نهاية لدوامه، والديمومة وصفه غير محدثها لنفسه، لا بداية لكونه ولا أولية لقدمه ولا غاية لأبديته، آخر في أوليته أول في آخريته، وإنّ أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة له ولا منفصلة عنه، وإنه إمام كل شيء، ووراء كل شيء، وفوق كل شيء ومع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من نفس الشيء، وإنه مع ذلك غير محل للأشياء، وإن الأشياء ليست محلاً له، وإنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبكل شيء محيط، الجو وجه والفضاء من ورائه، والهواء وجه والمكان من ورائه، والحول وجه والبعد من ورائه، وهذه كلها حجب مخلوقات من وراء الأرضين والسموات متصلات بالأجرام اللطاف ومنفصلات عن الأجسام الكثاف، وهي أماكن لما شاء داخلة في قوله ومن كل شيء خلقنا زوجين داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، واللّه جلّ وعظم شأنه هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه لا يمتزج ولا يزدوج إلى شيء، بائن من جميع خلقه لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس في ذاته سواه ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخق إلا الخلق ولا في الذات إلا الخالق، فتبارك اللّه أحسن الخالقين، وإنه تعالى ذو أسماء وصفات وقدرة وعظمة وكلام ومشيئة وأنوار، كلها غير مخلوقة ولا محدثة، بل لم يزل قائماً موجوداً بجميع أسمائه وصفاته وكلامه وأنواره وإرادته، وإنه ذو الملك والملكوت والعزّة والجبروت، له الخلق والأمر والسلطان والقهر، يحكم بأمره في خلقه وملكه ما شاء كيف شاء، لا معقب لحكمه ولا مشيئة لعبد دون مشيئته، إن شاء شيئاً كان ولا يكون إلا ما شاء، لا حول لعبد عن معصيته إلا برحمته، ولا قوة لعبد على طاعته إلا بمحبته، وهو واحد في جميع ذلك، لا شريك له ولا معين في شيء من ذلك، ولا يلزمه إثبات الوعيد بل المشيئة إليه في العفو، ولا يجب عليه في الأحكام ما أجرى علينا، ولا يختبر بالأفعال ولا يشار بالمقال، حكيم عادل بحكمة وعدل، هما صفتاه لا يشبه حكمته بحكمة خلقه، ولا يقاس عدله بعدل عباده، ولا يلزمه من الأحكام ما ألزمهم، ولا يعود عليه من الأسماء المذمومة كما يعود عليهم، قد جاوز العقول وفات الأفهام والأوهام والعقول، هو كما وصف نفسه وفوق ما وصفه خلقه، نصفه بما ثبتت به الرواية وصحت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس كمثله شيء في كل شيء بإثبات الأسماء والصفات، ونفي التمثيل والأدوات، وأنه سبحانه وتعالى لم يزل موجوداً بصفاته، كلها لم تزل له، وإنّ صفاته قائمة به لم تزل كذلك، ولا يزال بلا نهاية ولا غاية ولا تكييف ولا تشبيه ولا تثنية، بل بتوحيد هو متوحد به وتفريد هو منفرد به، لا يجري عليه القياس ولا يمثل بالناس، ولا ينعت بجنس ولا يلمس بحس ولا بجنس من شيء، ولا يزدوج إلى شيء، وإنّ ما سوى أسمائه وصفاته وأنواره وكلامه من الملك والملكوت محدث كله ومظهر، كان بعد إن لم يكن ولم يكن قديماً ولا أول بل كان بأوقات محدثة وأزمان مؤقتة، واللّه تعالى هو الأزلي الذي لم يزل، الأبدي الذي لم يحل، القيوم بقيومية هي صفته، الديموم بديمومية هي نعته، أوّل بلا أوّل ولا عن أوّل، آخر لا إلى آخر بكينونة هي حقيقته، أحد صمد لم يلد وبمعناه لم يولد، ومعنى ذلك لم يتولد هو من شيء ولم يتولد منه شيء، ومثل ذلك لم يخلق من ذاته شيء، كما لم تخلق ذاته من شيء، سبحانه وتعالى عمّا يقول الملحدون من ذلك علوّاً كبيراً.
ذكر فرض شهادة الرسول
صلى الله عليه وسلم(1/492)
قال اللّه تعالى الكبير المتعال: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ ميثَاقَ النَّبيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدَّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِننَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) آلعمران: 81، وقال عزّ وجلّ: (مَنْ يُطِعِ الرَسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) النساء:80 وقال: (إنَّ الَّذينَ يُبَايُعونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه) الفتح:10 ففرض شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن تشهد أنّ محمداً رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وكتابه خاتم الكتب لا كتاب بعده، وهو مهيمن على كل كتاب، ومصدق لما سلف من الكتب قبله، وأن شريعته ناسخة للشرائع، قاضية عليها إلا ما أقره كتابه ووافقه، وكتابه شاهد على الكتب وحاكم عليها، وأنه هو الذي بشر به عيسى عليه السلام أمته، وهو الذي أخبر به موسى عليه السلام أمته، وهو المذكور في التوراة والإنجيل وسائر كتب اللّه عزّ وجلّ المنزلة، وهو الذي أخذ اللّه ميثاق النبيين أن يؤمنوا به وينصروه لو أدركوه، فأقرّوا بذلك وشهد اللّه تعالى على شهادتهم، وهو الذي أخذت الأنبياء شهادة الأمم على الإيمان به وأمرتهم بتصديقه وأخبرتهم بظهوره، وأنّ موسى وعيسى عليهما السلام لو أدركاه لزمهما الدخول في شريعته، وأنّ بقية بني إسرائيل من اليهود والنصارى كفرة باللّه لحجودهم رسالته، وأن إيمانهم بكتابه مفترض عليهم مأمور به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم، وأنّ طاعته ومحبته فريضة واجبة على الكافة كطاعة اللّه تعالى، واتباع أمره واجتناب نهيه مفترضة على الأمة إيجاباً أوجبه اللّه تعالى له، وفرضاً افترضه على خلقه متصل بفرائضه.
ذكر فضائل شهادة الرسول
صلى الله عليه وسلم(1/493)
قال اللّه تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ) آل عمران:31، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وقال صلى الله عليه وسلم: لو أدركني موسى وعيسى ما وسعهما إلا اتباعي، وروينا في لفظ آخر: ثم لم يؤمنا بي لأكبهما اللّه في النار، وحدّثونا في الإسرائيليات أنّ رجلاً عصى اللّه تعالى مائتي سنة، في كلها يتمرد ويجترئ على اللّه، فلما مات أخذ بنو إسرائيل برجله وألقوه على مزبلة، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السلام أن غسله كفنه وصل عليه في جميع بني إسرائيل، ففعل ما أمر به فعجب بنو إسرائيل من ذلك، وأخبروه أنّه لم يكن في بني إسرائيل أعتى على اللّه ولا أكثر معاصٍ منه، فقال: قد علمت، ولكن اللّه تعالى أمرني بذلك، قالوا: فاسأل لنا ربّك، فسأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ، قد علمت، ما قالوا، فأوحى اللّه تعالى إليه أن صدقوا أنه عصاني مائتي سنة إلاّ أنه يوماً من الأيام فتح التوراة فنظر إلى اسم حبيبي محمد مكتوباً، فقبله ووضعه على عينه، فشكرت له ذلك، فغفرت له ذنوب مائتي سنة، وحدّثنا في معناه عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت مؤاخياً لأبي لهب، مصافياً له، فلما مات وأخبر اللّه تعالى عنه بما أخبر، حزنت عليه وأهمني أمره، فسألت اللّه تعالى عليه حولاً أن يريني إياه في المنام، قال: فرأيته يلتهب ناراً فسألته عن حاله فقال: صرت إلى النار في العذاب، لا يخفف عني ولا يروح إلا ليلة الإثنين في كل الليالي والأيام فإنه يرفع عني العذاب، قلت وكيف ذلك؟ قال: ولد في تلك الليلة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءتني أميمة فبشرتني بولادة آمنة إيّاه، ففرحت بمولده، فأعتقت وليدة لي فرحاً مني به، فأثابني اللّه تعالى بذلك أن رفع عني العذاب في كل ليلة إثنين لذلك، وقال اللّه تعالى في تحقيق المحبة: (يُِحبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر:9، ثم قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر:9، فمن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إيثار سننه على الرأي والمعقول، ونصرته بالمال والنفس والقول، وعلامة محبته اتباعه ظاهراً وباطناً، فمن اتباع ظاهره: أَداء الفرائض واجتناب المحارم والتخلق بأخلاقه والتأدب بشمائله وآدابه، والاقتفاء لآثاره والتجسس عن أخباره، والزهد في الدنيا والإعراض عن أبنائها ومجانبة أهل الغفلة والهوى، والترك للتكاثر والتفاخر من الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة، والتقرب من أهلها والحب للفقراء، والتحبب إليهم، وتقريبهم وكثرة مجالستهم، واعتقاد تفضيلهم على أبناء الدنيا، ثم الحب في اللّه للبعيد المبغض، وهم العلماء والعباد والزهاد، والبغض في اللّه للقريب المحب، وهم الظلمة المبتدعة والفسقة المعلنة، ومن اتباع حاله في الباطن مقامات اليقين، ومشاهدات علوم الإيمان، مثل الخوف والرضا والشكر والحياء، والتسليم والتوكل والشوق والمحبة، وإفراغ القلب للّه وإفراداً لهم باللّه، ووجود الطمأنينة بذكر اللّه، فهذه معاملات الخصوص وبعض معاني باطن الرسول، وهو من أتباعه ظاهراً وباطناً، فمن تحقق بذلك فله من الآية نصيب موفور أعني قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) آل عمران:31وقد كان سهل يقول: علامة المحبة، إتباع الرسول، وعلامة إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا، وقال أيضاً في تفسير قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَأُولئكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ) النساء:69، قال: يطع اللّه في فرائضه، والرسول في الدخول في سننه، فإذا اجتنب العبد البدع، وتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فقد اتبعه وقد أحب اللّه تعالى، وكان معه صلى الله عليه وسلم غداً موافقاً في منزلته.
ذكر فضائل شهادة التوحيد ووصف توحيد الموقنين(1/494)
قال اللّه تعالى: (شَهِِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ) آل عمران:18، وقال سبحانه وتعالى: (وَالَّذينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) المعارج: 33، فشهادة الموقن بيقينه أنّ اللّه تعالى هو الأوّل في كل شيء، وأقرب من كل شيء، وهو المعطي المانع الهادي المضل، لا معطي ولا مانع ولا ضار ولا نافع إلا اللّه، كما لا إله إلا اللّه، وقرب اللّه منه ونظره إليه وقدرته عليه وحيطته به، فيسبق نظره وهمه إلى اللّه عزّ وجلّ قبل كل شيء، ويذكره في كل شيء ويخلو قلبه من كل شيء، ويرجع إليه في كل شيء، ويتأله إليه دون كل شيء، ويعلم أنّ اللّه عزّ وجلّ أقرب إلى القلب من وريده، وأقرب إلى الروح من حياته، وأقرب إلى البصر من نظره، وأقرب إلى اللسان من ريقه، بقرب هو وصفه لا بتقريب ولا بتقرب، وأنّه تعالى على العرش في ذلك كله، وأنه رفيع الدرجات من الثرى وهو رفيع الدرجات من العرش، وأنّ قربه من الثرى ومن كل شيء، كقربه من العرش، وأنّ العرش غير ملامس له بحس ولا مفكر فيه بوجس، ولا ناظر إليه بعين ولا محيط به بدرك، لأنه تعالى محتجب بقدرته عن جميع بريته، ولا نصيب للعرض منه إلا كنصيب موقن عالم به، واجد بما أوجده منه من أنّ اللّه تعالى عليه، وأنّ العرش مطمئن به، وأنّ اللّه تعالى محيط بعرشه فوق كل شيء وفوق، تحت كل شيء، فهو فوق الفوق وفوق التحت، ولا يوصف بتحت فيكون له فوق، لأنه هو العلي الأعلى أين كان لا يخلو من علمه وقدرته مكان، ولا يحد بمكان ولا يفقد من مكان ولا يوجد بمكان، فالتحت للأسفل والفوق للأعلى، وهو سبحانه فوق كل فوق وفوق كل تحت في السمو، وهو فوق ملائكة الثرى، وهو فوق ملائكة العرش والأماكن للممكنات ومكانه، مشيئته ووجوده قدرته والعرش والثرى وما بينهما وحد للخلق الأسفل والأعلى، بمنزلة خردلة في قبضته، وهو أعلى من ذلك، ومحيط بجميع ذلك بحيطة هي صفته وسعة هي قدرته، وعلو هو عظمته بما لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم، ولا نهاية لعلوه ولا فوق لسموه ولا بعد في دنوه، ولا حس في وجوده ولا مس في شهوده، ولا إدراك لحضوره ولا حيطة لحيطته، وقد قال اللّه تعالى للكل: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل:50 وقال سبحانه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) الأعلى:1، وقال عزّ وجلّ: (أَلاَ إنَّهُ بِكُلِّ شيءِ مُحيطٌ) فصلت:54، وإنّ اللّه تعالى لا يحجبه شيء عن شيء، ولا يبعد عليه شيء، قريب من كل شيء بوصفه، وهو القدرة والدرك، والأشياء مبعدة بأوصافها، وهو البعد والحجب، فالبعد والأبعاد حكم مشيئته، والحدود والأقطار حجب بريته، والمسافة والتلقاء مكانة لسواه، والنواحي والجهات موضع للمحدثات، والنهار والليل مسكن للمصرفات، والبعد والفضاء مكان للمخلوقين والتوسعة والهواء محل للعالمين، والأحكام والأقدار واقعة على خلقه.(1/495)
وهو سبحانه وتعالى قد جاوز المقدار والأحكام، وفات العقول والأوهام وسبق الأقدار، واحتجب بعزه عن الأفكار، لا يصوره الفكر ولا يملكه الوهم، حجب عن العقول تشج ذاته ولم تحكم العقول بدرك صفاته، إذ يس كمثله شيء فيعرف بالتمثيل، ولا له جنس فيقاس على التجنيس، وهو اللّه في السموات وفي الأرض، ثم استوى على العرش، وهو معكم أينما كنتم، غير متصل بالخلق ولا مفارق، وغير مماس لكون ولا متباعد، بل متفرد بنفسه متحد بوصفه لا يزدوج إلى شيء ولا يقترن به شيء، هو أقرب من كل شيء بقرب هو وصفه، هو محيط بكل شيء بحيطة هي نعته، وهو مع كل شيء وفوق كل شيء، وهو أمام كل شيء ووراء كل شيء، بعلو ودنو هو قربه، فهو وراء الحول الذي هو وراء حملة العرش، وهو أقرب من حبل الوريد الذي هو الروح، وهو مع ذلك فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، وليس يحيط به شيء وليس هو تعالى في كل هذا مكاناً لشيء، ولا مكاناً له شيء، وليس كمثله في كل هذا شيء، لا شريك له في ملكه ولا معين له في خلقه، ولا نظير له من عباده، ولا شبيه له في اتحاده وهو أوّل في آخريته بأوليّة هي صفته، وآخر في أوّليته بآخريتة هي نعته، وباطن في ظهوره بباطنية هي قربه، وظاهر في باطنيته بظهور هو علوه، لم يزل كذلك أزلاً، ولا يزال كذلك أبداً، لا يتوجه عليه التضاد ولا تجري عليه الحوادث والآباد، ولا ينتقص ولا يزاد، هو على عرشه باختياره لنفسه، فالعرش حد خلقه الأعلى وهو غير محدود بعرشه تعالى، والعرش محتاج إلى مكان والرب غير محتاج إليه، كما كان الرحمن على العرش استوى، الرحمن اسمه والاستواء نعته، متصل بذاته، والعرش خلقه منفصل عن صفاته، ليس بمضطر إلى مكان يسعه، ولا حامل يحمله ولا حيطة تجمعه، ولا خلق يوجده، هو حامل للعرش وللحملة بخفي لطفه، وجامع للعرش وللحفظة بلطيف صنعه، وموجد ما أحب لمن يحب من التجلي بمعالي أسمائه وصفاته بخفي لطفه ولطيف قربه، لاختصاص رحمته، وهو أظهر الكون من وراء الحول، هو ممكن للعرش ببسطه في توسعة الحول، وهو محيط بالعرش والحول بالقدرة والطول، لا يسعه غير مشيئته ولا يظهر إلا في أنوار صفته، ولا يوجد إلا في سعة البسطة، فإذا قبض أخفى ما أبدى، وإذا بسط أعاد ما أخفى، وكذلك جعله في كل رسم كون، وفعله بكل اسم مكان مما جل فظهر، ومما دق فاستتر، لا يسعه غير مشيئته بقربه، ولا يعرف إلا بشهوده، ولا يرى إلا بنوره، هذا لأوليائه اليوم بالغيب في القلوب، ولهم ذلك غداً في المشاهدة بالأَبصار، ولا يعرف إلا بشيئته إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن شاء لم يسعه كل شيء، إن أراد عرفه كل شيء وإن لم يرد لم يعرفه كل شيء، إن أحب وجد عند أي شيء، وإن لم يحب لم يوجد بشيء، وقد جاوز الحدود والمعيار وسبق القبل والأقدار، ذو صفات لا تحصى ولا تتناهى، ليس محبوساً في صورة ولا موقوفاً بصفة، ولا محكوماً عليه بحكم ولا موجوداً بلمم، لا يتجلى بوصف مرتين، ولا يظهر في صورة لإثنين، ولا يرد منه بمعنى واحد كلمتان، بل لكل تجل منه صورة، ولكل عبد عند ظهوره له صفة، وعن كل نظرة كلام وبكل كلمةٍ إفهام، ولا نهاية لتجليه ولا غاية لأوصافه ولا نفاد لكلمه، ولا انقطاع لأفهامه ولا تكييف لمعانيه هذه، إذ ليس في التوحيد كيف، ولا للقدرة ماهية، ولا يشبهه بهذه الأوصاف خلق، إذ ليس للذات كفؤ، إذا احتجب عن العيان والأبصار رفع ذاته عن القلوب والأفكار، فلم يخيله عقل ولم يصوره فكر، لئلا يملكه الوهم، فيكون مربوباً وهو رب، ولا ينظر إليه بفكر فيكون مقهوراً وهو قاهر، لا يعقل بعقل لأنه عاقل العقل، ولا يدرك بحيطة وهو محيط بكل حيطة، حتى يتجلى آخراً بإحسانه، كما تجلى أولاً بحنانه، فيشهد بحضوره وينظر بنوره وليس هذا لسواه ولا يعرف بهذا إلا إياه.(1/496)
وهذا منه لأوليائه اليوم بأنوار اليقين في القلوب، وهو لهم منه غداً بمعاينة الأبصار في دار الحبيب أبد الأبد في الجنان، يتجلّى لهم بعظائم القدرة ولطائف الحنان، ويكلمهم بما لا غاية له من لذيذ المعاني، يتجلّى بصفات الجلال ويظهر بمعاني الحسن والجمال، ويبدو بلبس البهاء والكمال يجمع لهم بأول معنى من معانيه بما يوجدهم به من النعيم والسرور والفضل والحبور، بكل نظرة أو كلمة أو قرب أو لطف أو عطف أو حنان أو إحسان جميع ما فرقه من نعيم الجنان، وينظر إذا أحب إلى ما يحب اختياراً لا تهجم الأشياء عليه في نظره اخباراً، ويعرض عما شاء اختياراً لا تعترض المنظورات في نظره اضطراراً يعرض في نظره لكبرياء عزه، وينظر في أعراضه بلطائف عطفه، الملك في قبضته والخزائن في كلمته والكون في مشيئته والملكوت كله بيده، والجبروت والعظمة سبحات صفاته وجود الأشياء لا يضطره إلى النظر إليها إن أراد الإعراض عنها لأنه مقتدر قهار وعدمها لا يضطره إلى أن يراها لسبق علمه بها، لأنها معلوم علمه ذي الأخبار، ولأنه هو الجبار إذ الموجود والمعدوم يضطر غيره إلى النظر لضعفه عن الامتناع، والعدم يضطر سواه إلى الفقد لعجزه عن الاختراع، وهو تعالى مباين لسواه بعزه، غير مماثل لغيره بقهره، ولأن المعدوم كالمحجوب وهو تعالى يرى المحجوب، من الذرة من تحت الثرى من وراء السموات والأرضين، ولا يحجبن نفاذ نظره إليها ولا يمنعن قربه منها، ولا يحجزن قدرته عليها ولا يجاوز دون حيطته بها، إذ الحجب واقعة على الخلق غيرمتصلة بالخالق، وبواطن الأشياء وغوامضها منكشفة للخالق وهو أيضاً يشهد المآل والأواخر إلى نهاية نهاياتها في أبد أبدها، كما يشهد ذلك اليوم أعني من غد وبعد غد، وما وراءه إلى يوم القيامة وما فيها، وهذا كله عدم لم يخلقه بعد، لأن علمه بذلك شهادة له لأنه ليس بينه وبين علمه حجاب، فهو يشهد الكون من أوله إلى آخره من حيث علمه بعلم هو وصفه، ومشاهدة هي نعته، ولأن كلامه بذلك يخبر بأنه قد كان دليلاً على شهوده المآب، لأنه شهد ما علم كما علم ما به تتكلم، فلم يتفاوت كلامه وعلمه ولم يختلف علمه وشهادته، ومع ذلك كله فلا موجود في الأولية ولا المشاهدة سواه، ولا شريك له في القدم ولا يقدم شاهد إلا إياه، قوته كنه قدرته وقدرته دوام بقائه، ونظره سعة علمه وعلمه مدى نظره، يدرك الأشياء كلها على اختلاف أوصافها بصفة من صفاته، ثم يدرك بجميع أوصافه ما أدركه بهذه الصفة، فصح بذلك أنه نظر وعلم وتكلم، لا يدخل الترتيب في صفاته أعني بقبل وبعد، ولا يوصف بوقت وحدّ ولا يشبه بالتعقيب بقوته وأحكامه أعني بثم ولم، وإذا وحتى، ولزم على ذلك أنه يعلم بنظره وينظر بعلمه، فصارت الأوائل والأواخر لديه كشيء واحد، وكانت صفاته كلها آحاداً كاملات تامات، غير محدودة للمحدودات ولا مؤقتة مرتبة للمرتبات المؤقتات، إذ لم يكن لها محدثات لأنها قديمة بقدمه وكائنة موجودة بكونه ووجوده، إذ الترتيب في النعوت من وصف الخلق والأدوات لكونها محدثة مظهرات بحدود وترتيب وأوقات، واللّه تعالى ليس كمثله شيء في كل الصفات، فصفاته قديمة بقدمه وكائنة موجودة بكائنته ووجوده، والأفعال محدثة مظهرات بحدود وترتيب، وأوقات بترتيب فلا موجود في الأولية ولا المشاهدة سواه ولا شريك له في القدم، ولا قيوم له في الأبد والأزل سواه قبل وجود الوقت، والحدثان ليست صفاته ذوات جهات فيتوجه إلى جهته فيدرك بصفة دون صفة، ولا ذاته ذو ذات فيقبل على مكان دون مكان فيضطره الترتيب للمخلوقات، ولا يدبر الأمور بأفكار فيشغله شأن عن شأن، ولا يدخل عليه الاعتراض فيتغير عمّا كان، ولا يخلق بآلة فيستعين بسواه، ولا يعجزه قدرة فيحتاج إلى مباشرة يديه، يخلق بيده إذا شاء وعن كلمته إن شاء، وبإرادته متى شاء وبمعاني صفاته كيف شاء، لا يضطره التكوين إلى الكلام وكلامه إليه كيف شاء، كان خزائنه في كلمته وقدرته في مشيئته، إذا تكلم أظهر وإن شاء قدر، ومتى أحب ظهر وبأي قدرة شاء استتر، هو عزيز في قربه وقريب في علوّه حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالفعال، كشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع بالصنعة وأظهر الصنعة بالأدوات، هو باطن في غيبه وظاهر بحكمه وقدرته، غيب في حكمته، وحكمته شهادة ظاهرة بمحكوماته، وهي مجاري قدرته، وصنع سر في صنعته وهي(1/497)
علانية مشيئته، ليس كمثله شيء في كل صفة ولا كقوله في ماهية.لانية مشيئته، ليس كمثله شيء في كل صفة ولا كقوله في ماهية.
وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه، كلمة مجملة بالغة في وصف التوحيد أنه قال في خطبته: الحمد للّه الذي لم يجعل السبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن درك معرفته، وروينا عن أحمد بن أبي الحواري عن بعض علماء أهل المعرفه من أهل الشام أنه قال: رأى عزّ وجلّ خلقه قبل أن يخلقهم كما رآهم بعد ما خلقهم، وروي عن أبي سليمان الداراني أن قال: أدخلهم الجنان قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه.
وقال أيضاً: إنّ اللّه عزّ وجلّ أعزّ من أن يغضبه أفعال خلقه، لكنه نظر إلى قوم بعين الغضب قبل أن يخلقهم، فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الغضب فأسكنهم دار الغضب؛ وهو أكبر من أن يرضيه أفعال خلقه، ولكنه نظر إلى قوم بعين الرضا قبل أن يخلقهم، فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الرضا فأسكنهم دار الرضا، وقد روينا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: (هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسَانِ حينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَىْئاً مَذْكُوراً) الدهر:1؛ يعني كان في علم اللّّه أنه يكوّنه وكأنه علق قوله، لم يكن بقوله مذكوراً واللّه تعالى يخبر بما يكون في الدنيا وبما يكون في القيامة وبما بعدها، بلفظ أنه قد كان لاستواء ذلك في عمله آخراً كأول، إذ لا ترتيب في العلم ولا حدّ ولا مسافة ولا بعد في القدرة، وقد قال اللّه تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه قيلاً) النساء:122، أعنده علم الغيب، فهو يرى فنقصه بذلك وذمه، وقال تعالى: (الَّذي يَراكَ حينَ تَقُومُ) (وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدينَ) الشعراء: 218 - 219؛ أي ويرى تقلبك وبه انتصب التقلب بالعطف على القيام، وجاء في التفسير تقلبك في الأصلاب الزاكية والأرحام الطاهرة، لم يتفق لك أوان على سفاح قط، كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في أصلاب الأنبياء: يقلبك بالتنقيل في صلب نبي بعد نبي حتى أخرجك من ذرية ورثة إسماعيل.(1/498)
وقد روينا يعني ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى في سمع الأصوات قبل الأشباح وخلقها: (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا) المجادلة:1، فأخبر أنه سمع الأصوات في القدم في علمه قبل خلق المصوتين في الحديث، فكيف لا يرى الكون عن آخره في القدم بعلمه قبل ظهورهم له متصورين بفعله؟ وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) الأعراف:11، والخلق والتصوير كانا بعد السجود لآدم، فأخبر عنه أولاً لشهوده له واستوائه في علمه إذ لا بدّ من كونه، فأشبه قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَواتِ وَ الأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِِ) الأعراف:54، والعرش قبل السموات والأرض والاستواء صفته لم تزل به، ثم أخبر عنه أنه أخر الترتيب، فاللّّه سبحانه وتعالى عالم بالكون قبل الكون وناظر إلى علمه، لا حجاب بينه وبين معلومه، وسامع لما شهد ومتكلم بما علم فقد سبق النظر والسمع والكلام الكون كله من حيث سبق العلم والقدرة والمشيئة، فهو ناظر سامع متكلم بنفسه من حيث كان عالماً مقتدراً مريداً بنفسه، ثم أظهر الخلق عالماً بعد عالم في وقت بعد وقت، فجاؤوا على نظره وسمعه وكلامه كما كانوا في علمه وقدرته ومشيئته، بغير زيادة ولا نقصان خردلة، ألا ترى أنه بقدرته وعلمه يرى يوم القيامة وما فيها؟ والآخرة وما يكون منها على حقيقة ما أخبر عنه لا يمنعه عدم الكون ولا يحجبه بعد التأخير؟ كذلك كان يشهد ما قد كان اليوم في قدمه بعلمه به وبقدرته عليه وحيطته به، لا يمنعه عدم كونه ولا يحجبه، فقد ظهوره ولا يجوز أن يدرك سبحانه وتعالى اليوم ما لم يكن أدركه في القدم، كما لا يجوز أن يستفيد الآن علم ما لم يكن علمه فيما لم يزل، فيكون متكلّماً بما لم يشهد وهو معلومه منطوٍ في علمه، أو يكون مستزيداً بما أظهر حين ظهر وهو في قبضته وغيبه، جلّ عن ذلك وصفه وعلا عن هذا جلاله وعزّه لأنّ نظر سعة علمه وعلمه حيطة نظره، فهو ناظر إلى ما علمه بوصفه لا يختلف عليه أوصافه، فالكون موجود له بعلمه لسبق علمه به، ولا بيان له في علمه ولا أثر له في وصفه ولا وجود للكون في وجودكينونته، ولا قدم له في قدم أزليته، ليس محلاً للكون ولا هو حال فيه، ولأن أوليته سبقت الكون والمكان فليس لهما في قدمه قدم، كما أنه تعالى يشهد الآن ما يكون من العاقبة والمآل إلى آخر الأحوال، لا يختلف الأواخر و الأول في صفاته ولا تتفاوت صفاته على ترتيبها من نظر وعلم، لأنها معلوم علمه وموجود إرادته، فهو سبحانه وتعالى واجد الأشياء به لا بها، وناظر إليها في علمه لا بوجودها لاقتداره عليها وإحاطة علمه بها، والكون معدوم لنفسه لتلاشيه لأنه سبحانه وتعالى خالق العدم كما هو خالق الوجود، ليس للعدم قدم مع قدمه فيكون ثانياً معه، ولا الكون كائن موجود بنفسه فيكون أولاً مع أوليته، جلّ الواحد المتحد بنفسه عن ثانٍ معه في الأزل أو شريك له في القدم، ثم ظهرت الأشياء لنفوسها فظهر بعضها لبعض بإظهاره، فوجدت بإيجاده وظهر عليها بإظهاره بحد ووقت لا أول لها ولا قبل بل هو الأول الذي لم يزل بلا أول، والقديم الأبد بلا وقت ولا أمد قائم بصفاته، وصفاته موجودة له قائمة به، فمن شهد ما فصلناه بنور اليقين لم يدخل عليه قدم العالم، إذ لا قديم مع اللّه في كينونية أزله، ومن لم يهتد بما بيناه ووقف مع العقل ودخلت عليه شبهة قدم العالم، فالحد برؤيته قدم الحدثان أو جحد قدم العلم، ينفي وجود الحدث فيه، وهذا شرك بالصفات بترتيبه إياها بالعقل، ونحن بريئون من شهادته، مبطلون لدعواه منكرون لشركه في القدم، موحدون باليقين ما ألحد بالعقل، لأنّ من قال: إنّ شيئاً قديم مع اللّّه تعالى أو موجود بنفسه لنفسه، فقد أشرك في الصفات، ومن قال: إنّ اللّه سبحانه نظر بعد أن لم ينظر أو علم بعد أن لم يعلم أو تكلم بعد أن لم يتكلّم، فقد قال بحدوث الصفات وقدم عليها لمعلومات، بل المعلومات منطوية في العلم لا أثر لها فيه، واللّه قديم بعلمه واجد لمعلومه بنفسه عن علمه به لقدرته عليه يقهره، وناظر إليه بعلمه لا بعدم معلومه والمعلوم معدوم لنفسه غير موجود بنفسه حتى أحدثه وأوجده، فظهر حين أظهره لمن أظهره بعضاً لبعض لا لنفسه، إذ قد فرغ منه لعلمه به(1/499)
لا أنه قرب له نظره؛ كما لم يحدث به علمه لنفسه وعلمه صفته لم يزل له وهو قائم بوصفه، ولا يجوز أن يحدث له شيئاً لم يعلمه، كذلك لا ينبغي أن يفقد شيئاً لم يجده، ومن اختلف عليه ما ذكرناه دخل عليه مذهب المعتزلة والجهمية، لأن المعتزلة مجمعة على اختلافهم أنّ اللّه تعالى لا يرى الشيء حتى يكون، واختلفوا في العلم فقالت العبادية من القدرية وهم أصحاب عباد: إنّ اللّه تعالى لا يرى الشيء، حتى يكون، يضاهون بذلك قول النظام وبشر المريسي في أن اللّه تعالى لا يرى الأشياء حتى تكون، والجهمية مجمعة على اختلافهم أنّ اللّه تعالى لم يتكلم بالشيء حتى كان، ثم خلق الكلام فقدموا الكون قبل كلامه، كما قدمه أولئك قبل نظره، وقال الجميع بحدوث النظر، كما قالوا بحدوث الكلام والنظر لأنهم قالوا بحدوث الأسماء بعد حدوث المسميات، وتقدم الاستطاعة من الخلق على الإرادة من الخالق، فاستوى بذلك شركهم خرجوا به من التوحيد، كذلك كذبت العبادية من القدرية أصحاب عباد يضاهون قول النظامية والمريسية، تشابهت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه، والمعتزلة أيضاً مجمعة على نفي العلم والقدرة والمشيئة إلاّ أنهم يقولون: عالم ولكن لا يضطر علمه إلى شيء ولا يوجب شيئاً، فجعلوه كالظن من الخلق فقالوا: عالم بلا علم قديم وقادر بلا قدرة ومريد بلا إرادة سابقة، وقدموا الاستطاعة من الخلق فقالوا: لئلا يلزمهم سبق المعلومات وإنّ الإرادة والكلام من نعوت الأفعال مخلوقان.لا أنه قرب له نظره؛ كما لم يحدث به علمه لنفسه وعلمه صفته لم يزل له وهو قائم بوصفه، ولا يجوز أن يحدث له شيئاً لم يعلمه، كذلك لا ينبغي أن يفقد شيئاً لم يجده، ومن اختلف عليه ما ذكرناه دخل عليه مذهب المعتزلة والجهمية، لأن المعتزلة مجمعة على اختلافهم أنّ اللّه تعالى لا يرى الشيء حتى يكون، واختلفوا في العلم فقالت العبادية من القدرية وهم أصحاب عباد: إنّ اللّه تعالى لا يرى الشيء، حتى يكون، يضاهون بذلك قول النظام وبشر المريسي في أن اللّه تعالى لا يرى الأشياء حتى تكون، والجهمية مجمعة على اختلافهم أنّ اللّه تعالى لم يتكلم بالشيء حتى كان، ثم خلق الكلام فقدموا الكون قبل كلامه، كما قدمه أولئك قبل نظره، وقال الجميع بحدوث النظر، كما قالوا بحدوث الكلام والنظر لأنهم قالوا بحدوث الأسماء بعد حدوث المسميات، وتقدم الاستطاعة من الخلق على الإرادة من الخالق، فاستوى بذلك شركهم خرجوا به من التوحيد، كذلك كذبت العبادية من القدرية أصحاب عباد يضاهون قول النظامية والمريسية، تشابهت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه، والمعتزلة أيضاً مجمعة على نفي العلم والقدرة والمشيئة إلاّ أنهم يقولون: عالم ولكن لا يضطر علمه إلى شيء ولا يوجب شيئاً، فجعلوه كالظن من الخلق فقالوا: عالم بلا علم قديم وقادر بلا قدرة ومريد بلا إرادة سابقة، وقدموا الاستطاعة من الخلق فقالوا: لئلا يلزمهم سبق المعلومات وإنّ الإرادة والكلام من نعوت الأفعال مخلوقان.(1/500)
والجهمية أيضاً مجمعة أنّ اللّه تعالى لا يتكلم بوصفه أصلاً وإنما يظهر في أديم القضاء الكلام بخلق الأعراض في الأجسام، فكان هذا عندهم هو التوحيد لئلا يثبتوا مع اللّه قديماً، وهذا عند أهل السنة والجماعة هو الإلحاد لنفي قدم الصفات والقول بحدوثها وانفصالها عن الذات، وليس يختلف أهل اليقين بحمد اللّه تعالى في جميع ما ذكرناه، كما لا يختلفون في صحة التوحيد، وهذه شهادة الموقنين وإيمان المقربين، فلا يتشبهن لك العقل بالمعقول عن شهود ما ذكرناه فيعقلك عن النفاد للشهادة، فليس يشهد ما ذكرناه من صفات الشهيد بنور العقل، وإنما يشهد بنور اليقين، لأنّ خالقاً لا يشبه بمخلوق، ومن ليس كمثله شيء لا يشهد إلا بما ليس كمثله شيء، وهو نور اليقين من نور القادر، ومن لم يجعل اللّه نوراً له فما له من نور، وما ذكرناه من وصفه تعالى هو ظاهر التوحيد المتصل بفرض الشهادة، لا يجري على ترتيب المعقول، ولا يمثل بقياس العقول، لأن نفي الصفات وإثباتها بالمماثلات موجود في رأي العقول، كما أنّ الكفر والضلال موجود في طبائع النفوس لعدم شهادة الأبصار، ولفقد وجود مشاهدة الإلهية في تخيل الأفكار، ولجريان المعتاد والعرف في ظهور الأسباب، كما حدثنا أنّ بعض الصدّيقين دعا إلى اللّه سبحانه وتعالى بحقيقة التوحيد فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فعجب من ذلك فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه: تريد أن تستجيب لك العقول؟ قال: نعم، قال: احجبني عنهم قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك؟ قال: تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب قال: فدعا إلى اللّه تعالى من هذه الطرق فاستجاب له الجمّ الغفير، فإنما صحة التوحيد بإثبات الصفات وأوصاف الذات التي جاءت بها السنن وشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم مع نفي الشبه والماهية ونفي الجنس والكيفية، ثم سكون القلب وطمأنينة العقد إلى الإيمان بهذا، والتسليم له لأجل نور اليقين الموهوب لأن هذا إنما يشهد بنور اليقين وعلمه، لا بعلم العقل ونوره، لأن خالقاً لا يرى بمخلوق، فالعقل مرآة الدنيا بنوره يشهد ما فيها، والإيمان مرآة الآخرة وبه ينظر إليها فيؤمن بما فيها.(2/1)
و اللّه تعالى إنما يرى بنور اليقين، وفي هذا النور مشاهدة الصفات وهو حقيقة الإيمان، وأعز ما نزل من السماء وهو السكينة المنزلة في قلوب المؤمنين لمزيد الإيمان ولتعريف صفاته المؤمن معها بترك ضرب الأخبار بعضها ببعض، ومعارضة بعضها بعضاً أو ترتيب بعضها على بعض، بل يؤمن بكل خبر ورد في الصفات والقدرة على حدته، كما يسلم جميعها على الجملة بإسلامه وإلا أدّى ذلك إلى نفي بعضها أو إبطال جميعها، لأنّا أخذنا الإيمان بمنة اللّّه تعالى ورحمته من قبل التصديق واليقين والنقل، لا من قبل التقليد وحسن الظن والعقل، وأربعة أشياء تسلم ولا تعارض اعتراضاً: أخبار الصفات وأصول العبادات وفضائل الأصحاب وفضائل الأعمال، ولولا أنّ اللّه تعالى تولّى قلوب المؤمنين فحبب الإيمان إليها وزينه فيها، وكره الكفر وشأنه عندها، لتاهوا في الظلمات وغرقوا في بحار الهلكات لظهور الأغيار ومعاية الأسباب، ولغيب القدرة عن العيان، ولما ابتلوا به من الحجب والأعيان، ولكن اللّّه تعالى سلم وحبب الإيمان في القلوب، وزين وكره الكفر والعصيان وشين، وكذلك مدح المؤمنين بالغيب المستور، ومن ذلك سبق المقربون بمشاهدة النور فقال سبحانه وتعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة:257، فلولا أنهم كانوا في ظلمة الطبع ما امتنّ عليهم من نور اليقين، وكذلك جاء الخبر أنّ اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه اهتدى ومن أخطأه ضلّ، وفي أحد المعاني من قوله تعالى: يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب قال: يمحو الأسباب من قلوب الموحدين ويثبت نفسه، ويمحو الوحدانية من قلوب الناظرين ويثبت الأسباب ولولا أنّ التوحيد لم يرسمه عارف قط في كتاب ولا كشفه علام في خطاب، لعجز علوم العموم عن درك شهادته، ولسبق إنكاره القول لضعفها عن حمل مكاشفته، لذكرنا من ذلك ما يبهر القول ويبهت ذوي المعقول، ولكنا كرهنا أن نبتدع ما لم نسبق إليه، أن نظهر ما يضطرب العقول بالحيرة فيه،خفنا من عدم النصيب مما نذكره، فيعود على السامعين من نفعنا ضرورة، وحقيقة علم التوحيد باطن المعرفة، وهو سبق المعروف إلى من به تعرف بصفة مخصوصة بحبيب مقرب مخصوص لا يسع معرفة ذلك الكافة، وإفشاء سرّ الربوبية كفر.
وقال بعض العارفين: من صرح بالتوحيد وأفشى الوحدانية فقتله، أفضل من إحياء غيره، وقال بعضهم: للربوبية سرّ لو ظهر لبطلت النبوّة وللنبوّة سرّ لو كشف بطل العلم، وللعلماء باللّه سرّ لو أظهره اللّه تعالى لبطلت الأحكام، فقوام الإيمان واستقامة الشرع بكتم السرّ، به وقع التدبير وعليه انتظم الأمر والنهي، اللّه غالب على أمره، وفوق ذلك علم التوحيد والاسم منه وحداني، فالتوحيد وصفه وفوقه علم الإتحاد، فالوصف منه متحد وفوقهما علم الوحدانية، والاسم منه واحد، وفوق ذلك علم الأحدية والإسم منه أحد وهذه أسماء لها صفات، وأوصاف لها أنوار وأنوار عنها علوم، وعلوم له مشاهدات بعضها فوق بعض، فوق كل ذي علم عليم، ثم علم التوحيد أول هذه العلوم وعموم هذه المشاهدات، وظاهر هذه الأنوار وأقربها إلى الخلق، فالاسم منه موحد وههنا بان الخلق وظهر، فهذا توحيده الذي وحده به الموحدون من جميع خليقته، فعاد ذلك عليهم برحمته، والمشاهدات الأول توحيد الرب تعالى نفسه بنفسه لنفسه، قبل توحيد خلقه، فتوحيدهم إيّاه عن توحيده فيما كتبنا عنه، وأخفينا فيما أظهرناه، فهو محجوب في خزائن الغيوب عن البصائر والفهوم، قد جاوز علم الملكوت كله، فهو من ورائها في خزائن الجبروت، وإنما ذكرنا من ذلك قوت القلوب من علم التوحيد، وما لا بدّ للإيمان منه من المزيد، وقال عالمنا أبو محمد سهل رحمه اللّه تعالى: للعالم ثلاثة علوم؛ علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسع إظهاره إلاّ لأهله، وعلم هو سرّ بين اللّه وبين العالم هو حقيقة إيمانه، لا يظهره لأهل الظاهر ولا لأهل الباطن، وقال بعض السلف قبله: ما من عالم يحدث قوماً بعلم لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم.
شرح ثاني ما بني الإسلام عليه من الخمس: وهو
الصلاة(2/2)
وأول ذلك وصف الطهارة، أولها فرائض الاستنجاء وسننه، وفرائض الوضوء وسننه وفضائله، وفرائض الصلاة وسننها وأحكام المصلّي في وقت الصلاة وإدراكها، وما يتعلق بها وهيئات الصلاة وآداب المصلّي.
ذكر فرائض الاستنجاء
قال اللّه جلّ ثناؤه وصدقت أنباؤه: (فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّهُ يُِحِبُّ الْمُطَّهِّرينَ) التوبة:108 وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا يقبل اللّه صلاة بغير طهور، وقال عليه الصلاة والسلام: الطهور نصف الإيمان، وقال: مفتاح الصلاة الطهور، فأول الطهارة الاستنجاء وفيه فرضان وأربع سنن: أحد الفرضين إزالة الحدث، والثاني طهارة المزيل، وهو أن لا يكون رجيع دابة ولا مستعملاً مرة، ولا عظم ميتة، ويكره له الاستنجاء بفحمة لأثر في ذلك، والسنن الأربع: وتر الاستجمار ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، والاستنجاء بالماء، ومباشرة الأذى بالشمال، ومسح اليد بالتراب، فأما كيفية الإستنجاء فأن يأخذ الحجر بشماله ويمره على مقدمته من مقدمها مسحاً إلى مؤخرها، ثم يرمي به، هناك ثم يأخذ الحجر الثاني فيبتدئ من مؤخر المقعدة فيمسحها مداً إلى مقدمها، ثم يرمي به، ثم يأخذ الحجر الثالث، فيديره حول المسربة إدارة فإن احتاج إلى حجر آخر فليجعلها خمساً، وإن اكتفى بحجر واحد فلا بد من ثلاث، وإن استجمر بحجر كبير ذي ثلاث شعب أجزأه عن ثلاثة أحجار، وفي الخبر: من استجمر فليوتر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة أبعد، وكان يتبوأ لحاجته كما يتبوأ الرجل المنزل لأنه كان لا يقعد في فضاء، بل كان ينصب وراءه شيئاً أو يقعد إلى حائط، أو نشز من الأرض يستره أو كوم من حجارة يحجبه، ثم يستدبر ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يستقبل القبلة أيضاً لغائط ولا بول، ولم يكن يرفع ثوبه للغائط حتى يدنو من الأرض، فأما من أراد أن يبول قريباً من صاحبه بحيث يراه ويحسه فلا بأس بذلك، فإنها رخصة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رفع الحياء منها بفعله، لأنه كان عليه السلام أشد الناس حياء، وكان يبول وإلى جانبه صاحبه ليسن التوسعة في ذلك، وقال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه فقال: لا أحسبك تحسن الخراءة فقال: بلى وأبيك إني بها لحاذق، قال فصفها لي قال: أبعد الأثر وأعد المدر واستقبل الشيح واستدبر الريح وأقعي إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام، والشيح نبت طيب الرائحة يكون بالبادية، والإقعاء في هذا الموضع أن يستوفز على صدور قدميه والأجفال أن يرفع عجزه.(2/3)
وفي حديث سلمان: علمنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، أمرنا أن لا نستجمر بعظم ولا روث، ونهانا أن لا نستقبل القبلة لبول أو غائط، وأن يجلس أحدنا على رجله اليسرى وينصب اليمنى، فأما وصف الاستبراء فهو أن يستفرغ الرجل بوله رويداً، ولا يحرك ذكره فينتشر البول على الحشفة، فإذا انقطع البول على مهل مد ذكره ثلاثاً من أصله إلى الحشفة مداً رفيقاً، لئلا ينتضح البول، ثم ينتثره ثلاثاً ويتنحنح ثلاثاً، وإن فعل ذلك سبعاً سبعاً فقد بالغ، ثم يأخذ الحجر بيمينه ويأخذ ذكره بشماله، ويمده عليه حتى يرى موقعه جافاً، فهناك طهرين انقطعت النداوة، ومن مده إلى الأرض أو إلى حائط حتى يرى الجفوف عن أثره، فمثله وهذا كافيه من الماء ما لم ينتشر البول على الحشفة ويسحب البول في أرض دمثة رخوة، وعلى تراب مهيل، ويكره له أن يبول مستقبل الريح أو على أرض صلبة كيلا ينضح البول عليه، وقد شبه فقهاء المدينة الذكر بالضرع، وقال بعضهم إنه لا يزال يخرج منه الشيء بعد الشيء ما دمت تمده، وقيل: إذا وقع الماء على الذكر انقطع البول، وقد كان أخفهم استبراء وأقلهم استعمالاً للماء في الطهور، أفقههم عندهم، وقد يكون ما يظهر من النداوة بعد غسل الذكر بالماء أنّ ذلك من مرجع الماء يتردد في الإحليل لضيق المسلك وتلاحم انضمامه عليه فإذا خشي الوسواس فلينضح فرجه بعد وضوئه، وهو أن يأخذ كفاً من ماء فليرشه عليه، وفي خبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ويكره مس الذكر باليمين ويخرج من الذكر خمسة أشياء؛ البول والمذي والودي وهو لزوجة تتعقب البول إذا طال حبسه، والريح والمني ثم كلها توجب الوضوء إلا المني، وهو الماء الدافق الذي يفتر عنه الذكر وتنقطع الشهوة، ومنه يخلق الإنسان فإنه يوجبُ الغسل، وما خرج من الذكر من غير ذلك من دودٍ أو حصى ففيه الوضوء، وقد يخفي الريح، فلذلك يستحب الوضوء عند كل صلاة وهو من المرأة أطهر.
ذكر فرائض الوضوء
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من توضأ كما أمر، وفي لفظ: من توضأ فأسبغ الوضوء وصلّى ركعتين ولم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفي لفظ آخر: ولم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بما يكفر اللّه الخطايا به ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء في المكاره، ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، وتوضأ صلى الله عليه وسلم مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين فقال: من توضأ مرتين آتاه اللّه أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء إبراهيم عليه السلام.
ذكر فرائض الطهارة
وهي ثمانية: طهارة الإناء ثم الماء الطاهر والنيّة والترتيب على نسق الكتاب وغسل الأعضاء الثلاثة المأمور بها، ومسح الرس، ولا ينفض يديه بالماء عند غسل وجهه وذراعيه، فإنّ ذلك يكون مسحاً، ولا يلطم وجهه بالماء لطماً فإنه مكروه، ولكن ليحمل الماء بيديه معاً إلى وجهه ثم ليسنه عليه سنّاً، ويغسل وجهه غسلاً من أصول شعر رأسه إلى ما ظهر من لحيته وعلى ما استرسل منها، وليدخل البياض الذي بين أذنه ولحيته في غسل وجهه، وليدخل مرفقيه في غسل ذراعيه، وهذا فرض وينبغي أن يقطر الماء من وجهه وذراعيه قطراً، ويكفيه في مسح الرأس أن يمسحه بماء، جديد يبتدئ بمقدم رأسه ثم يرد يده إلى مؤخره، ثم يردها إلى يافوخه هذه مرة، وليمسح رأسه أجمع وهذه الأربعة الأعضاء هي المنصوص عليها، فأما ذكر الواو في الترتيب، فإني سمعت بعض فقهاء العرب من أهل اللغة بمكة يقول: إنّ الواو وإن كانت للجمع فلا تقتضي الترتيب في الظاهر، فإنه إذا لم يرد به الجمع بين شيئين واستحال أن يجمع بها بين اثنين معاً فإنها تقوم حينئذ مقام ثم، تكون للترتيب لا غير.
ذكر سنن الوضوء
وهي عشرة: التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار وهو إخراج الماء من الأنف، وتخليل اللحية ومسح الأذنين وغسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وأن يبدأ بالميامن وتخليل أصابع القدمين.
ذكر فضائل الطهارة
وما يقال عند غسل كل عضو من الأذكار(2/4)
أول ذلك أن يتوضأ قاعداً مستور العورة، وأن لا يكون الماء مشمساً، وقد كره ذلك وقيل: إنّ كراهيته في أرض الحجاز خاصة وإسباغ الوضوء سيما في الشتاء، فإنه من عزائم الدين، وقال بعض السلف: وضوء المؤمن في الشتاء بالماء البارد يعدل عبادة الرهبان كلها، وأن لا يعتدي في الطهور فقد نهي عن ذلك، وهو أن يغسل كل عضو فوق الثلاث، والوضوء على الوضوء نور، وهو أن يتوضأ لكل صلاة عن غير حدث، فإن ذلك مستحب إذا أمكن، وله بكل وضوء عشر حسنات، ويجزيه أن يصلّي الخمس بوضوء واحد، فقد فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والوضوء على حدته قربة إلى اللّه تعالى، إذا نوى به العبد ذلك من غير أن يصلّي به، وفي الخبر: إذا توضأ العبد خرجت ذنوبه من جميع أعضائه، وتكون الصلاة نافلة، ويستحب أن يتوضأ العبد كلما بال ما لم يشق ذلك عليه، وأن يصلّي ركعتين كلما توضأ، ثم أن لا يتكلم في الوضوء إلا بذكر اللّه تعالى، وأن يقول عند غسل كل عضو ما يستحب من الدعاء، فيقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللّهم طهر قلبي من النفاق، وحسن فرجي من الفواحش، ويقول عند التسمية: أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون، ويقول عند غسل يديه: اللّهم إني أسألك اليمن والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة، ويقول عند المضمضة: اللّهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك، ويقول عند الاستنشاق: اللّهم صلّ على محمد وأوجد لي رائحة الجنة، وأنت عني راض، ويقول عند الاستنثار: اللّهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار، ويقول عند غسل وجهه: اللّهم بيض وجهي يوم تبيض فيه وجوه أوليائك، ولا تسود وجهي يوم تسود فيه وجوه أعدائك، وعند غسل يمينه: اللّهم آتني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل الشمال: اللّهم إني أعوذ بك أن تؤتيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللّهم غشُني برحمتك وأنزل علي من بركاتك، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلاّ ظلك، ويقول عند مسح الأذنين: اللّهم اجعلني ممن يستمع القول فيتبع أحسنه اللّهم اسمعني منادي الجنة مع الأبرار، ثم يمسح عنقه فيقول: اللّهم فك رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال، ويقول عند غسل قدمه اليمنى: اللّهم ثبت قدمي على الصراط مع أقدام المؤمنين، ويقول عند غسل اليسرى: اللّهم إني أعوذ بك أن تنزل قدمي عن الصراط يوم تنزل فيه أقدام المنافقين، وأن يبتدئ بغسل الذراعين من أصابع الكفين ويقطع من المرفقين كل غسلة، وأن يرفع في غسل الذراعين إلى إنصاف العضدين، وأن يبتدئ بغسل القدمين من الأصابع ويخللهما في الميامن ويقطع غسلهما من الكعبين، ويرفع في غسل الرجلين إلى إنصاف الساقين ويمين أصابع اليد اليمنى خنصرهما، ويمين اليد اليسرى إبهامها، وإذا فرغ من وضوئه رفع رأسه إلى السماء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي، أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التوّاب الرحيم، اللّهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين، واجعلني شكوراً واجعلني أذكرك كثيراً، وأسبحك بكرة وأصيلاً، هذا جميع ما روي من القول بعد الفراغ من الوضوء بآثار متفرقة جمعناها، يقال إنّ من قال هذا بعد فراغه من الوضوء ختم على وضوئه بخاتم، ورفع له تحت العرش، فلم يزل يسبح اللّه ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة، وأكره الوضوء في إناء صفر، سمعت أنّ العبد إذا توضأ احتوشتْه الشياطين توسوس إليه، فإذا ذكر اللّه خنست عنه وحضرته الملائكة، فإنّ كان وضوءه في إناء صفر أو نحاس لم تحضره الملائكة.
وروي عن ابن عمر وأبي هريرة كراهة ذلك، وقال بعضهم: سألني شعبة أن أخرج له وضوءاً، فأخرجته في إناء صفر فلم يتوضأ به، وقال حدثني عبد اللّه بن دينار عن ابن عمر أنه كره الوضوء في إناء صفر، وتوضأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ركوة ومن إداوة ومن مهراس حجر، وقد روينا في حديث زينب بنت جحش أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضأ واغتسل، في حديث آخر من مخضب لها وهو نحاس وهذه رخصة.
صفة الغسل من الجنابة(2/5)
يضع الإناء عن يمينه ثم يسمي اللّه تعالى، ويفرغ الماء على يديه ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء ثم يغسل ذكره ويستنجي، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً إلا غسل قدميه، ثم يدخل يديه في الإناء بما حملتا من الماء فيصب على شقه الأيمن ثلاثاً ظهراً وبطناً إلى فخذه وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك ثلاثاً ظهره وبطنه إلى فخذه وساقه، ويدلك ما أقبل من جسده وما أدبر بيديه معاً، ثم يدخل يديه بما حملتا من الماء فيفيض على رأسه ثلاثاً ويخلل شعر رأسه بأصابعه ويبل الشعر وينقي البشرة، ثم يتنحي من موضعه قليلاً فيغسل قدميه، فإن فضل من الإناء ماء أفاضه على سائر جسده، وأمر يديه على ما أدركتا من بدنه؛ فإن قدم غسل رجليه فأدخلهما في أول وضوئه فلا بأس ولا وضوء عليه بعد الغسل، وليتق أن يمس ذكره في تضاعيف ذلك بيديه، فإن مس ذكره فليعد وضوءه وإن نسي المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة حتى صلّى أحببت أن يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة، وإن نسيهما في الوضوء فلا إعادة عليه، وكيفما أتى بغسل جسده من الجنابة فجائز بعد أن يعم جميع بدنه غسلاً، ومن لم يتوضأ قبل الغسل أحببت له أن يتوضأ بعده، ومن انغمس في نهر أجزاه عن الغسل وأحب أن يتوضأ وفرض غسل الميت كغسل الجنابة.
كتاب الصلاة
ذكر فرائض الصلاة قبل الدخول فيها
وهي سبع: أول ذلك طهارة الجسد، وطهارة الثوب وطهارة البقعة، وستر العورة وهي من السرّة إلى الركبة، واستقبال القبلة وإصابة الوقت، والقيام إلا من عذر، وفرائض الصلاة في صلبها اثنتا عشر خصلة، روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: مفتاح الجنة الصلاة، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: تحريمها التكبير وتهليلها التسليم فأول ذلك النية وتكبيرة الإحرام بلفظ التكبير، وليس للعرب في لفظ التكبير بمعنى الإكبار إلا وزن أفعل والأفعل فيقولون: اللّه أكبر واللّه الأكبر، وليس يقولون: اللّه كبير، وهم يريدون معنى أكبر مما سواه، إنما يقولون كبير بمعنى عظيم لأن هذه لفظة أعجمية عربت، وتقول العرب: اللّه كبار، وليس بمعنى أكبر إنما هو بمعنى كبير، والتفخير للتعظيم، ثم يقرأ سورة الحمد؛ أولها بسم اللّه الرحمن الرحيم، والركوع، ثم الطمأنينة في السجود والجلسة بين السجدتين والتشهد الأخير، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم والتسليم الأول، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا ينظر اللّه تعالى إلى من لا يقيم صلبه بين الركوع والسجود، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود، ورأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي لا يقيم ظهره في ركوعه وسجوده، فقال له: ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ، ثم رآه لا يطمئن إلى الركوع والسجود فأمره أيضاً بإعادة الصلاة، ثم علمه الطمأنينة بينهما والقيام فيهما، فقال: حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي، ورأى حذيفة وابن مسعود رضي اللّه عنهما رجلاً يصلّي لا يتم ركوعه وسجوده فقالا: لو مات هذا لمات على غير فطرة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أحدهما: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ فقال: منذ أربعين سنة فقال: ما صليت منذ أربعين سنة، وعن كعب الأحبار قسمت الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود، فمن نقص أحدهما لم يقبل منه سائرها، ويقال: من لم تقبل صلاته ردت أعماله كلها عليه.
ذكر سنن الصلاة(2/6)
وهي اثنتا عشرة سنة: رفع اليدين بتكبيرة الإحرام، وصورة الرفع أن يكون كفّاه مع منكبيه وإبهامه عند شحمة أذنية وأطراف أصابعه مع فروع أذنيه، فيكون بهذا الوصف من الرفع موطئاً للأخبار الثلاثة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يرفع يديه إلى منكبيه وأنّه كان يرفعهما إلى شحمة أذنيه، وأنه رفع إلى فروع أذنيه يعني أعاليهما، ولفظ التكبير أن يضم الهاء من الاسم بتخفيف الضمة من غير بلوغ، واو، ويهمز الألف من أكبر ولا يدخل بين الباء والراء ألفاً، ويجزم الراء، لا يجوز غير هذا فيقول: اللّه أكبر، ثم لا يرفع يديه إذا كبر إلى قدام دفعاً، ولا يردهما إلى خلف منكبيه وتكون أصابعه تلقاء أذنيه، ثم يكبر ويرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً، ويكون إرساله يديه مع آخر التكبير، لا يسلهما قبل انقضاء التكبير ولا يوقفهما بعد الفراغ من التكبير، ثم يستأنف وضع اليمين على الشمال بعد الإرسال، روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا كبر أرسل يديه، فإذا أراد أن يقرأ وضع اليمين على اليسرى، وليقبض على زند كفه الشمال وليجعلهما تحت صدره، ثم التوجه فيقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، ثم يقول: إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ويقول: سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك، فقد روي جميع ذلك في روايات مختلفة وجمعه حسن، إلا أن يكون خلف الإمام ولا يكون للإمام سكتتان، فلا يمكنه أن يأتي بهذا التوجه كله مع قراءة الحمد، ولا يشتغلن حينئذ إلا بقراءة الحمد، يغتنم قراءتها في سكوت الإمام، واحذر أن تقرأ في قراءة الإمام، أو تركع أو تسجد أو ترفع رأسك قبله، ثم الاستعاذة، ثم قراءة سورة من القرآن أو ثلاث آيات من سورة بعد الحمد، والتأمين بعد قراءة الحمد سنة حسنة، فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم أمر به ثم رفع اليدين بالتكبير، للركوع أيضاً سنة، ثم التسبيح للركوع وإذا أردت عشراً أو سبعاً ولا أقل من ثلاث، وإنما قيل: إن الثلاث أدنى الكمال لأن الكمال عشرة، قال اللّه تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) البقرة:196، ولتكن الثلاث بعد أن يضع يديه على ركبتيه وقبل أن يرفعهما، لأنه إذا لم يتحفظ في ذلك ويتمهل فيه حصل من التسبيح واحدة بعد الركوع، وتكون الأولى والأخرى في الإنحطاط والرفع، وهذا مكروه، وصورة الركوع أن يفرج بين أصابعه فيملأ بها ركبتيه، ويجافي عضديه عن جنبيه ولا يرفع رأسه ولا يخفضه، وليمد عنقه مع ظهره مداً فيكون ظهره ورأسه سواء، ولا يكون مخفوضاً إلى أسفل ولا مقبواً إلى فوق، ثم رفع اليدين بقول: سمع اللّه لمن حمده، سنة، ويقول: اللّهم ربنا، لك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ثم التسبيح في السجود إن شاء عشراً أو سبعاً وأدناه ثلاث، ولتكن الثلاث بعد حصول جبهته على الأرض وقبل رفعه إياه، وإلا كانت واحدة تذهب الأولى في حال وضع الوجه، والأخرى في حال رفع الرأس، فتحصل تسبيحة واحدة في كل سجدة، وهذا غير مستحب أن ينقص من ثلاث، وقال أنس بن مالك: ما رأيت أشبه صلاة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من إمامكم، هذا يعني عمر بن عبد العزيز، قال: فكنا نسبح وراءه عشراً في الركوع والسجود عشراً عشراً، ويجعل رأسه بين كفيه في سجوده، فإنهما يسجدان إذا كانتا مفتوحتين فيجافي عضديه عن جنبيه، ويمد ظهره ويرفع بطنه عن فخذيه، ويستحب أن يباشر الأرض بكفيه، فإنهما يسجدان مع الوجه، ثم التكبير للسجود والرفع بين السجدتين وللقيام بين السجود من غير رفع يديه، ثم يقول: ربّ اغفر لي وارحمني ثلاثاً، روي ذلك عن ابن عمر وإن قال: ربِّ اغفر وارحم، وتجاوز عمّا تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم فجائز، روي ذلك عن ابن مسعود، وإن قال: ربّ اغفر لي وارحمني واهدني وأجبرني وأنعشني، فحسن قد روي ذلك عن عليّ رضي اللّه تعالى عنه، ثم التشهد الأول ثم السلام الأخير بالألف واللام وضمّ الميم من السلام من غير تنوين، ومد الاسم وجزم الهاء منه، فيقول: السلام عليكم ورحمة اللّه حتى يتبين خذاه لمن عن يمينه وشماله ويلوي به عنقه إلى منكبيه، كذلك كان تسليم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير أن يحول جسمه عن القبلة ولا يرفع فخذه عن(2/7)
الأرض.الأرض.
ذكر أحكام الصلاة في الإدراك
ومن أدرك من صلاة رباعية ركعتين أو الثالثة من صلاة المغرب، فإنّ ما أدرك هو أول الصلاة فليبن على ذلك ومن أدرك مع الإمام بعض القيام افتتح سورة الحمد ولم يركع حتى يتمها، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبله رفع بعده، ومن لم يدرك مع الإمام من القيام شيئاً كبر للإحرام، ثم كبر وركع وهي له ركعة، وإن ركع الإمام وهو في قراءة سورة غير الحمد فليقطع حيث انتهى وليركع بعده، ومن أدركه في التشهد أو في السجود ابتدأ التكبير للإحرام قائماً، ثم جلس وسجد للإتباع، فإذا سلم الإمام قام من غير تكبير يحدثه ثانياً، وابتدأ بقراءة الحمد عند قيامه، ولا يعتد بشيء مما أدرك مع الإمام إلا بالركوع، وهو أن يكون قد وضع يديه على ركبتيه واطمأن قبل أن يرفع الإمام رأسه، فهذه له ركعة، ومن دخل في صلاة مكتوبة ثم ذكر أن عليه أخرى أحببت أن يتمها ثم يصلّي التي ذكر، ثم يعيد هذه الصلاة، ومن وافق الإمام في صلاة العصر ولم يكن صلّى الظهر صلاّها معه، ثم يصلّي الظهر ثم أعاد بعدها صلاة العصر، فعله بعض الصحابة وهو أحب الوجوه إليّ، ومن تكلم في صلاته ناسياً أو سلم من ركعتين من صلاة رباعية، فليسجد سجدتي السهو بعد التشهد، فإن كان قد خرج من المسجد وتطاول ذلك، ثم ذكر أحببت أن يعيد الصلاة، ومن تكلم أو سلم عامداً أو استدبر القبلة، أو انكشفت عورته أو رعف في صلاته أو ذكر أنه نسي مسح رأسه، أو غسل عضو من أعضائه، أعاد الصلاة، ومن فاتته جماعة فتطوع رجل قام يصلّي معه أحببت أن يكون هو المصلّي به فرضه، ولا يخرج من الخلاف ويدخل في فرض الجماعة، ولا أستحب أن يصلّي فرضاً خلف رجل يتطوع، ولا أكره صلاة النوافل جماعة، ولا سجود سهو على العبد فيما جهر فيه مما يخافت فيه مما يجهر، ومن شك في ثلاث ركعات أو اثنتين فليجعلهما اثنتين، ومن شكّ في أربع أو ثلاث حسبها ثلاثاً يبني أبداً على اليقين، وهو الأقل، ثم يسجد سجدتيّ السهو قبل السلام، وعليه أن يتشهد ثانياً لسجدتيّ السهو وصلاته تامة، ومن سها عن سجدتي السهو، فإن ذكر قريباً أو قبل أن يخرج من المسجد فأحب أن يسجدهما ثم يتشهد ويسلم، فإن تطاول الوقت أو كان قد خرج من المسجد سقط عنه، ومن شك في القبلة لدخول ظلمة أو فقد أدلة تحرى جهده، فإن تبين له أنّ القبلة بخلاف ذلك أحببت له أن يعيد ذلك، وأستحب سجود السهو فيما زاد بعد التسليم وفيما نقص قبله، فإن سجدهما في الزيادة والنقصان قبل السلام فحسن كل ذلك، قد رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن لحقه وهم في الصلاة ليس بشك، أو كثر وهمه في الصلاة أحببت أن يجعل سجوده أبداً بعد السلام، ومن صلّى في حال ضرورة بنقصان طهارة أو نقصان فرض من فرائض الصلاة أحببت أن يعيد متى قدر على ذلك، ومن صلّى في ثوب ثم رأى فيه نجاسة بعد ذلك أعاد ما دام في الوقت قبل أن يدخل وقت صلاة أخرى، فإن خرج جميع الوقت فلا إعادة عليه، ولو أعاد تلك الصلاة متى رأى تلك النجاسة كان أحب إليّ، ومن كان عليه صلوات فرط فيها بإضاعة أو نقصان حدود صلاها أحب إليّ متوالية صلاة يوم في وقت واحد إن أمكن، أو في أوقات متفرقة نسقاً، وأن يكون ذلك في غير الأوقات المنهي فيها عن الصلاة أحب إليّ، ومن علم في صلاته أنّ عليه ثوباً فيه نجاسة وأنه غير مستقبل القبلة، فليلق الثوب وليستقبل القبلة وليتم صلاته، وإن أعاد فهو أحب إليّ،.
ذكر هيئات الصلاة وآدابها
السواك قبل الصلاة من فضائلها، روي في الخبر: صلاة بسواك تفضّل على صلاة بغير سواك سبعين ضعفاً، وأستحب له أن يقرأ، قل: أعوذ بربّ الناس، قبل دخوله في الصلاة، فإنه جنة له من العدو، وأن يستعيذ في كل ركعة قبل قراءة الحمد لأنه يكون قارئاً للقرآن ولأنّ كل ركعة صلاة، وأن يضم أصابع كفيه في التكبير وأن يراوح بين قدميه في القيام، لا يضم كعبيه ولكن يجعل بين قدميه مقدار أربع أصابع، فإنّ ذلك يستحب، قال بعضهم: كانوا يفتقدون الإمام إذا كبر في ضم الأصابع، وإذا قام في تفرقة الأقدام، قال: فيستدلون بذلك على فقهه، ونظر ابن مسعود إلى رجل قد ألزق كعبيه في الصلاة فقال: لو رواح بينهما كان قد أصاب السنة.(2/8)
وقد يروى في خبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصفن والصفد في الصلاة، فأما الصفن فرفع إحدى الرجلين من قوله تعالى: (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) ص:31، إذا عطف الفرس طرف سنبكه، وأما الصفد فهو اقتران القدمين معاً ومنه قوله تعالى: (مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) إبراهيم:49، واحدها صفد، وقد رأيت بعض العلماء يفرق بين أصابعه في التكبير، وتأول أنّ ذلك معنى الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا كبر نشر أصابعه نشراً، وذلك محتمل لتوكيده بالمصدر، وهو قوله نشراً، فيصلح أن يكون قوله نشراً، يريد به التفرقة، وقد تسمى التفرقة بثاء ونشراً لأنّ حقيقة النشر البسط، وقد قال اللّه تعالى: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الغاشية:16، فهذا هو التفرقة وقال في معنى البث كالفراش المبثوث، ثم قال في مثله: (كأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) القمر:7، فإذا كان النشر مثل البث، وكان البث هو التفرقة، كان قوله نشراً بمعنى فرق، إلاّ أنّ إسحاق بن راهويه سئل عن معنى قوله نشر أصابعه في الصلاة نشراً فقال: هو فتحها وضمها، أراد بذلك أن يعلم أنه لم يكن يقبض كفه وهذا وجه حسن، لأن النشر ضد الطي في المعنى، والقبض طي، ورأيت ثلاثة من العلماء يفرقون أصابعهم في التكبير منهم: أبو الحسن صاحب الصلاة في المسجد الحرام وكان فقيهاً، ورأيت ثلاثة يضمون أصابعهم: منهم أبو الحسن بن سالم وأبو بكر الآجري، وأحسب أنّ أبا زيد الفقيه كان يفرق في أكثر ظني إذا تذكرت تكبيره، قول: آمين من فضائل الصلاة، روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بآمين، وفي لفظ: آمين لغتان: المد والقصر، والميم فيهما مخففة لأنك إذا شددت الميم أحلت المعنى، فيكون معناه قاصدين من قوله ولا آمين البيت الحرام، وأن يترك إحدى يديه على الأخرى قابضاً على الزندين بين السرّة والصدر، فإنّ ذلك من الخشوع، وقال بعض العلماء: ما أحسبه ذل بين يدي عزيز.(2/9)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من سنن المرسلين، وفسر عليّ عليه السلام قوله تعالى: فصل لربك وانحر، قال: وضع اليمين على الشمال، وهذا موضع علم علي رضي اللّه تعالى عنه، ولطيف معرفته، لأنّ تحت الصدر عرقاً، يقال له: الناحر لا يعلمه العلماء، فاشتق عليّ رضي اللّه عنه قوله: وانحر من لفظ الناحر: أي أوضع يدك على إلا الناحر، وهذا هو العرق، كما يقال ادمغ؛ أي أصب الدماغ ولم يحمله على نحر البدن، لأنه ذكر في الصلاة، ومن الناس من يظن اشتقاقه من النحر، والنحر هو تحت الحلقوم عنده لمتقي التراقي، واليد لا توضع هناك إلا من قال من أهل اللغة في معناه: وانحر أي وجه القبلة بنحرك، فهذا لعمري وجه لا يقعي في الصلاة، وهو أن يجلس على قدميه وينصب ركبتيه، هذا مذهب أهل اللغة في الإقعاء، أو على ركبتيه جاثياً وأصابع رجليه في الأرض، هذا مذهب أهل الحديث، وليجتنب السدل والكف، فإمّا السدل فهو أن يرخي أطراف ثيابه على الأرض وهو قائم، يقال: سدل وسدن بمعنى واحد، وقد تبدل اللام نوناً لقرب المخرجين إذا أرسل ثيابه، ومنه قيل: سدنة الكعبة أحدهم سادن، وهم قوامها الذين يسلبون عليها كسوتها؛ وسدانة الكعبة ثيابها المسبلة، وهذا قول أهل اللغة ومذهب أهل الحديث في السدل أن يلتحف بثوبه، ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد كذلك، ولأنّ هذا فعل اليهود في صلاتهم فنهوا عن التشبه بهم، والقميص في معناه؛ ولا يركع ويسجد ويداه في بدن القميص إن اتسع، فأما أن يدخل يديه في جسد القميص في السجود فمكروه، وقد قال بعض الفقهاء في السدل قولاً ثالثاً قال: هو أن يضع وسط إزاره على رأسه، ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه، وهذا قول بعض المتأخرين وليس بشيء عندي، والأولان أعجب إليّ، وهما مذهب القدماء، وأما الكف فقد نهي عنه في الصلاة أيضاً، وهو أن يرفع ثيابه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود، وأكره أن يأتزر قوق القميص فإنه من الكف، وقد روي عن أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه كراهية ذلك، وروينا عن بعض أولاد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الرخصة في ذلك صلّى أنه صلى الله عليه وسلم محتزماً بعمامته فوق القميص، وقد يكون الكف في شعر الرأس، فلا يصلين وهو عاقص شعره، وفي الحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكف شعراً ولا ثوباً، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة وعن الصلب، فأما الاختصار فأن يضع يده على خاصرته، وأما الصلب فأن يضع يديه جميعاً على خصريه ويجافي بين عضديه في القيام، ولتقع ركبتاه على الأرض قبل يديه، ويداه قبل وجهه، وأن يسجد على جبهته وأنفه، فإنهما عضو واحد، ولينهض على صدور قدميه وإن ضعف فليعتمد على الأرض بيديه، وأن لا يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً ولا يلحظ عن يمين وشمال، فإن لحظ فهو أيسر، وليرم ببصره إلى موضع سجوده، فإن لم يفعل فليقابل بوجهه تلقاء القبلة ولا يعبث بشيء من بدنه في الصلاة.(2/10)
وروي أنّ سعيد بن المسيب نظر إلى رجل يعبث بلحيته في صلاته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وقد رويناه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من طريق ونهى عن المواصلة في الصلاة وهي في خمس: اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام، ولا يصل ركوعه بقراءته، واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة بينهما أن لا يصل تسليم الفرض بتسليم التطوع، وليفصل بينهما، وقد قيل: التسليم حزم والتكبير جزم، وقد جاء في الخبر: سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف، والنعاس، والوسوسة، والتثاؤب، والحكاك، والالتفات، والعبث بالشيء، وزاد بعضهم: والسهو، والشك، وقال بعض السلف: أربعة أشياء في الصلاة من الجفاء: الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصى وأن يصلّي بطريق من يمر بين يديه وزاد بعضهم وأن لا يصلّي في الصف الثاني، وفي الصف الأول فرجة وقد نهى عن صلاة الحاقن، والحاقب، والحازق، فالحاقن من البول والحاقب من وجود الغائط والحازق صاحب الخف الضيق فلا يصلّي من كن به هذه الثلاثة لأنها تشغل القلب، وأكره صلاة الغضبان والمهتم بأمر ومن عرضت له حاجة حتى يسري عن قلوبهم ذلك و يطمئن القلب ويتفرّغوا للصلاة ومن شغل قلبه حضور الطعام وكانت نفسه تائقة إليه فليقدم الأكل لقوله صلى الله عليه وسلم إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب، وفي الخبر لا يدخلن أحدكم الصلاة وهو مغضب ولا يصلّين أحدكم وهو غضبان، وكان الحسن يقول: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرعز
ذكر فضائل الصلاة وآدابها وماَ يزكو به أهلها ووصف صلاة الخاشعين
قال اللّه تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري) طه:14، وقال: (وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلينَ) الأعراف:205، وقال تعالى: (لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء:43، قيل: سكارى من حبّ الدنيا وقيل: من الاهتمام بها، وقال جلّ ثناؤه: (الَّذينَ هُمْ عَلى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون) المعارج:23، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من صلّى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال صلى الله عليه وسلم: إنما الصلاة تمسكن، وتواضع، وتضرع وتباؤس، وتنادم، وترفع يديك وتقول:اللّهم، فمن لم يفعل فهي خداج أي ناقصة، روينا عن اللّه سبحانه وتعالى في الكتب السالفة أنه قال: ليس كل مصلٍّ أتقبّل صلاته إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر عليّ، وأطعم الفقير الجائع لوجهي، فمن الإقبال على الصلاة أن لا تعرف من على يمينك ولا من على شمالك من حسن القيام بين يدي القائم على كل نفس بما كسبت، وكذلك فسّروا قوله تعالى: (هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) المؤمنون:2، وقال سعيد بن جبير: ما عرفت من على يميني ولا على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة، منذ سمعت ابن عباس يقول: الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلّي من على يمينه وعن شماله.(2/11)
وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من لم يخشع فسدت صلاته، وروينا عن معاذ بن جبل، من عرف من عن يمينه وشماله في الصلاة متعمّداً فلا صلاة له، وقد أسنده إسماعيل بن أبي زياد عن بشر بن الحرث وغيره وعن الثوري أيضاً: من قرأ كلمة مكتوبة في حائط أو بساط في صلاته فصلاته باطلة، وقال بشر يعني بذلك لأنه عمل في الصلاة، ومن الدوام في الصلاة السكون فيها، وعلى ذلك فسّر قوله تعالى: (الَّذينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) المعارج:23، قيل: هو السكون والطمأنينة في الصلاة من قولك: ماء دائم إذا سكن، وقال بعض الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئاتهم في الصلاة، من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعيم بها واللذة، ثم إصغاء القلب للفهم وخشوعه للتواضع، وسكون الجوارح للهيبة، ثم الترتيل في القراءة والتدبر لمعاني الكلام، وحسن الافتقار إلى المتكلم في الإفهام والإيقاف على المراد، وصدق الرغبة في الطلب للاطلاع على المطلع من السرّ المكنون المستودع في الكتاب، وإن مرّ بآية رحمة سأل ورغب، أو آية عذاب فزع واستعاذ، أو مرّ بتسبيح أو تعظيم حمد وسبّح وعظّم، فإن قال بلسانه فحسن وإن أسره في قلبه ورفع به همّه نابه قصده عن المقال، وكان فقره غاية السؤال، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة:121، هكذا كان وصفهم في التلاوة، وينبغي أن يكون قلبه بوصف على ركن من أركان الصلاة، وهمه معلّق بكل معنى من معاني المناجاة، فإذا قال: اللّه أكبر أي مما سواه ولا يقال أكبر من صغير، إنما يقال أكبر من كبير، فيقال: هذا كبير وهذا أكبر، فإن كان همّه الملك الكبير كان ذكر اللّه أكبر في قلبه فليواطئ قلبه قول مولاه في قوله تعالى: (وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبرُ) العنكبوت:45، ويواطئ لسانه قلبه في مشاهدة الأكبر فيكون يتلو وينظر، فإن اللّه تعالى قدّم العين على اللسان في قوله تعالى: (أَلَم نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) البلد:8 - 9.
فلا يقدّم لسانه ويؤخّر بصره ويكون عقده محقّقاً لمقاله بالوصف حتى يكون عاملاً بما يقول في الحال، فقد أخذ عليه ذلك لما أمر به حجة عليه وتنبيهاً له، ولا يكون بقوله: اللّه أكبر، حاكياً؛ ذلك عن قول غيره، ولا مخبراً به عن سواه، بل يكون هو المتحقق بالمعنى القائم بالشهادة، وهذا عند أهل المعرفة واجب لأن الإيمان قول وعمل في كل شيء، فإذا قلت: اللّه أكبر فإن العمل بالقول أن يكون اللّه أكبر في قلبك من كل شيء، وهو من رعاية العهد، لتدخل تحت الثناء والمدح في قوله تعالى: (وَ الَّذينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المعارج:32، فالعهد ما أعطيت بلسانك، والرعاية والوفاء بالقلب ليستحق الأجر العظيم كما قال تعالى: (وَمَنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّه فَسَيُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً) الفتح:1،، ومن كان في قلبه الملك الصغير الفاني أكبر من الملك الأكبر فما عمل بقوله تعالى: اللّه أكبر، وليس هذا حقيقة الإيمان لأنه لم يأتِ بعمل وقول، وإنما جاء بالقول وهذا قائم بنفس من مشاهدته الآخرة، وكانت قرة عينه الآخرة، كما قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) النحل:96، يعني الدنيا، (وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقٍ) النحل:69، يعني الآخرة.(2/12)
وقد قال: جعلت قرة عيني في الصلاة لأنه كان عند ربه فجعل قرة عينه به، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَلِذَكْرُ اللّه أَكْبَرُ) العنكبوت:45، فالمذكور أكبر وأكبر، وقد أخبر تعالى أن الصلاة أريد بها الذكر في قوله تعالى: (وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْري) طه:14، وروي معنى ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنما فرضت الصلاة وأمرت بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر اللّه، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك؟ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لأنس بن مالك، وإذا صليت صلاة فصلِّ صلاة مودّع لنفسه، مودّع لهواه، مودّع لعمره، سائر إلى مولاه، كما قال: (يَا أَيُّها الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الإنشقاق:6، وكقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ) البقرة:223، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت قرّة عيني في الصلاة، وكان يرى الأكبر فتقرّ عينه به، وقال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من اللّه إلا بعداً، كما قال: من لم يترك قول الزور والخيانة فليس للّه تعالى حاجة أن يترك طعامه وشابه، فإنما المراد من الصلاة والصيام المخالفة من الآثام، ومن إقامة الصلاة وإتمامها الوضوء لها قبل دخول وقتها لئلا يشغله عن أول وقت غيرها، وينبغي أن يكون قلبه في همّه، وهمّه مع ربّه، وربّه في قلبه، فينظر إليه من كلامه، ويكلمه بخطابه، ويتملقه بمناجاته، ويعرفه من صفاته، فإن كل كلمة عن معنى اسم، أو وصف، أو خلق، أو حكم، أو إرادة، أو فعل؛ لأن الكلم ينبئ عن معاني الأوصاف، ويدل على الموصوف، وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات للعارف، من كل جهة مقام ومشاهدات؛ أول الجهات الإيمان بها، والتسليم لها، والتوبة إليها، والصبر عليها، والرضا بها والخوف منها، والرجاء لها، والشكر عليها، والمحبة لها، والتوكل فيها، فهذه المقامات العشر هي مقامات اليقين، لأن الكلمة هي حق اليقين، وهذه المعاني كلها منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التملّق والمناجاة، ويعرفها أهل العلم والحياة، لأن كلام المحبوب حياة القلوب، لا ينذر به إلا حيّ ولا يحيا به إلا مستجيب، قال اللّه تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً) يس:69 - 7،، وقال سبحانه: (اسْتَجيبُوا للّه وَلِلرَسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال:42، ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من نقل في العشر المقامات المذكورة في سورة الأحزاب؛ أولها مقام المسلمين، وآخرها مقام الذاكرين، وبعد مقام الذكر هذه المشاهدات العشر فعندها لا يملّ المناجاة لوجود المصافاة، ولا يثقل عليه القيام للذاذة والإفهام، ويسهل عليه الوقوف لدنوّ العطوف، ويتنعم بالعتاب بحلاوة الإقتراب، هنالك يندرج طول القيام في التلاوة فلا يجده كاندراج القبلة في الصلاة فلا يشهدها، فيكون من ورائه القبلة وهو أمامها، كذلك القيام يحمله وهو مع حامله.
حدثت أنّ الموقن إذا توضّأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفاً منه، لأنه يتأهب للدخول على الملك، فإذا كبر حجب عنه إبليس وضرب بينه وبينه سرادق لا ينظر إليه، وواجهه الجبار بوجهه، فإذا قال: اللّه أكبر أطلع الملك في قلبه، فإذا ليس في قلبه أكبر من اللّه تعالى فيقول: صدقت اللّه تعالى في قلبك، كما تقول: قال فيتشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، فيكشف له بذلك النور ملكوت السموات والأرض، ويكتب له حشو ذلك النور حسنات، قال: وإنّ الغافل الجاهل إذا قام للوضوء احتوشته الشياطين، كما يحتوش الذباب على نقطة العسل، وإذا كبر أطلع الملك في قلبه، فإذا كل شيء في قلبه أكبر من اللّه تعالى عنده، فيقول له: كذبت ليس اللّه في قلبك كما تقول، قال: فيثور في قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجاباً لقلبه، قال: فيرد ذلك الحجاب صلاته، ويلتقم الشيطان قلبه، فلا يزال ينفخ فيه، وينفث ويوسوس إليه، ويزين له، حتى ينصرف من صلاته ولا يعقل ما كان فيه، وقد جاء في الخبر: لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات.(2/13)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه رأى في القبلة نخامة، فغضب غضباً شديداً، ثم حكّها بعرجون كان في يده، وقال: ائتوني بعبير فلطخ أثرها بزعفران، ثم التفت إلينا فقال: أيكم يحب أن يبزق في وجهه؟ قلنا: لا أينا، قال: فإن أحدكم إذا دخل في صلاته فإن اللّه عزّ وجلّ بينه وبين القبلة، وفي لفظ آخر واجهه اللّه تعالى؛ فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة فليبصق في ثوبه وليقل به هكذا، وذلك بعضه ببعض، وقد روي: إذا قام العبد في صلاته فقال: اللّه أكبر، قال اللّه لملائكته: ارفعوا الحجاب بيني وبين عبدي، فإذا التفت يقول اللّّه تعالى: عبدي إلى من تلتفت؟ أنا خير لك ممن تلتفت إليه، ثم إذا قام المقبل على صلاته شهد قلبه قيامه لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم شهد وقوفه بالحضرة بين يدي الملك الجبار، إذ ليس من الغافلين، فتأخذه غيبة الحضور، ويرهقه إجلال الحاضر، ويستولي عليه تعظيم القريب، وبجمعه خشية الرقيب، فإذا تلا وقف همّه مع المتكلم ماذا أراد، واشتغل قلبه بالفهم عنه والانبساط منه، فإن ركع وقف قلبه مع التعظيم للعظيم، فلا يكون في قلبه أعظم من اللّه تعالى وحده، فإن رفع شهد الحمد للمحمود، فوقف مع الشكر للودود، فاستوجب منه المزيد، وسكن قلبه بالرضا، لأنه حقيقة الحمد، وإن سجد سما قلبه في العلوّ فقرب من الأعلى بقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق:19.
وأهل المشاهدة في السجود على ثلاث مقامات؛ منهم من إذا سجد كوشف بالجبروت الأعلى فيعلو إلى القريب ويدنو من القريب، وهذا مقام المقربين من المحبوبين، ومنهم من إذا سجد كوشف بملكوت العزة، فيسجد على الثرى الأسفل عند وصف من أوصاف القادر الأجل، فيكسر قلبه ويخبت تواضعاً وذلاً للعزيز الأعلى، وهذا مقام الخائفين من العابدين، ومنهم من إذا سجد جال قلبه في ملكوت السموات والأرض فآب بظرائف الفوائد وشهد غرائب الزوائد، وهذا مقام الصادقين من الطالبين، وهناك قسم رابع لا يذكر بشيء ليس له وصف فيستحق المدح، وهم الذين يجول همّهم في أعطية الملك وأنصبة المماليك، فهم محجوبون بالهمم الدنية عن الشهادة العلية مأسورون بالهوى عن السياحة إلى الإعلام، فإن دعا هذا المصلّي نظر إلى المدعوّ فكان هو المرجوّ فأخذ في التمجيد والثناء والحمد والآلاء، ونسي حاجته من الدنيا واشتغل عن نفسه بالمولى وعن مسألته بحسن الثناء، وإن استغفر هذا الداعي تفكّر في أوصاف التوبة وأحكام التائب وتفكّر في ما سلف من الذنوب فعمل في تصفية الاستغفار وإخلاص الإنابة والاعتذار، وجدّدَ عقد الاستقامة، فيكون له بهذا الاستغفار من اللّه عزّ وجلّ تحية وكرامة، ففي مثل صلاة هذا العبد وردت الأخبار أنّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء فيصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وأنّ المصلّي لينثر عليه البرّ من عنان السماء إلى مفرق رأسه ويناديه منادٍ لو علم المناجي من يناجي ما انفتل، وأنّ أبواب السماء، للمصلّين، وأنّ اللّه تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلّين، وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يديّ مصلّياً باكياً فأنا اللّه تعالى الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري، قال: وكنا نرى أنّ تلك الرقة والبكاء وتلك الفتوح التي يجدها المصلّي في قلبه من دنوّ الرب تبارك وتعالى من القلب، وقال رجل للنبيصلى الله عليه وسلم: ادع اللّه تعالى أن يرزقني مرافقتك في الجنة، فقال: أعني بكثرة السجود.(2/14)
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما افترض اللّه على خلقه بعد التوحيد أحبّ إليه من الصلاة، ولو كان شيء أحبّ إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته؛ منهم راكع، وساجد، وقائم، وقاعد، أو كما قال بعض العلماء: الصلاة خدمة اللّه عزّ وجلّ في أرضه، وقال آخر: المصلون خدام اللّه عزّ وجلّ على بساطه، إنّ المصلين من الملائكة يسمون في السموات خدام الرحمن ويفخرون بذلك على سائر المرسلين من الملائكة، ويقال: إن المؤمن إذا صلّى ركعتين عجب منه عشر صفوف من الملائكة؛ كل صف منهم عشرة آلاف، وباهى اللّه تعالى به مائة ألف ملك؛ وذلك أنّ العبد قد جمع فيه أركان الصلاة الأربعة؛ من القيام والقعود والركوع والسجود، وفرق ذلك على أربعين ألف ملك، والقائمون لا يركعون إلى يوم القيامة، والساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة، وكذلك الراكعون والساجدون، ثم قد جمع اللّه له أركان الصلاة الستة؛ من التلاوة والحمد والاستغفار والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق ذلك على ستين ألف ملك لأن كل صفّ من الملائكة عبادته ذكر من الأذكار الستة، فإذا رأت الأملاك ما جمع فيه من الأركان الستة والأذكار في ركعتين عجبت منه وباهاهم اللّه تعالى به، لأنه قد فرق تلك الأعمال والأركان على مائة ألف ملك؛ وبذلك فضّل المؤمن على الملائكة، وكذلك فضّل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب على الأملاك بالتنقيل في المقامات بأن جمعت فيه ورفع منها، والملائكة لا ينقلون بل كل ملك موقوف في مقام معلوم لا ينقل عنه إلى غيره مثل: الشكر والخوف والرجاء والشوق والأنين والخشية والمحبة، بل كل ملك له مزيد وعلوّ من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كلّه في قلب الموقن.
قال اللّه تعالى، وهو أصدق القائلين في صفات أوليائه المؤمنين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَ الَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون: 1 - 2 - 3، فمدحهم بالصلاة كما ذكرهم بالإيمان، ثم مدح صلاتهم بالخشوع كما افتتح بالصلاة أوصافهم، ثم قال في آخرها: (وَالَّذينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) المؤمنون: 9، فختم بها نعوتهم وقال في نعت عباده: المصلّين الذين استثناهم من الجزوعين من المصائب والفقر، المانعين للمال والخير، إلا المصلّين الذين هم على صلاتهم دائمون، ثم نسق النعوت وقال في آخرها: والذين هم على صلاتهم يحافظون، فلولا أنها أحبّ الأعمال إليه ما جعلها مفتاح صفات أحبائه وختامها، ولما وصفهم بالدوام والمحافظة عليها، ومدحهم بالخشوع فيها؛ والخشوع هو انكسار القلب وإخباته وتواضعه وذلته ثم لين الجانب وكفّ الجوارح وحسن سمت وإقبال، والمداومة والمواظبة عليها وسكون القلب والجوارح فيها؛ والمحافظة هي حضور القلب وإصغاؤه وصفاء الفهم وإفراده من مراعاة الأوقات وإكمال طهارة الأدوات، ثم قال تعالى في عاقبة المصلّين: (أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ) المؤمنون:1، - 11، فجعل أول عطائهم الفلاح وهو الظفر والبقاء، وآخره الفردوس وهو خير المستقر والمأوى، وقال في أضدادهم: من أهل النار ما سلككم في سقر، قالوا: لم نكُ من المصلّين، وقال موبخاً لآخر منهم فلا صدق ولا صلّى، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن طاعة من نهاه عن الصلاة، ثم أمره بها وأخبره أنّ فيها القرب والزلفى في قوله تعالى:(أَرَأَيْتَ الَّذين يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى) العلق:9 - 1،، ثم قال: (كَلاّ لاَ تَطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق:19، فالمصلّون بقية من خلقه وورثة جنته من عباده وأهل النجاة من دار غضبه إبعاده جعلنا اللّه منهم بعطفه ورحمته.
ذكر الحث على المحافظة على الصلاة وطريقة المصلّين من الموقنين(2/15)
قال اللّه سبحانه وتعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَ الَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح:29 الآية، فاختار لنفسه أصحابه صلوات اللّه عليه ثم اختار لأصحابه الصلاة فجعلها وصفهم في الإنجيل والتوراة، فهذا يدل أنّ الصلاة أفضل الأعمال لأن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفضل العمال، وسئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لمواقيتها، وعن عمر رضي اللّه تعالى عنه: إذا رأيت الرجل حافظاً لصلاته فظنّ به خيراً وإذا رأيته مضيعاً لصلاته فهو لا سواها أضيع، وكان الحسن يقول: ابن آدم ماذا يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟ فهو على اللّه تعالى أهون، وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عماد الدين من تركها فقد كفر، وفي حديث آخر بين الكفر والإيمان ترك الصلاة، وفي الخبر: من حافظ على الصلوات الخمس بإكمال طهورها ومواقيتها، كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضّيعها حشره اللّه تعالى مع فرعون وهامان، وفي تفسير قوله تعالى: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة إلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمِن عَهْداً) مريم:87، قال الصلوات الخمس، وعن ابن مسعود وسلمان: الصلاة مكيال، فمن أوفى وفى له، ومن طفف فقد علمتم ما قال اللّه تعالى في المطففين، وفي الخبر: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته فلا يتم ركوعها ولا سجودها، وفي الخبر: إذا صلّى العبد في الملأ فأحسن وأساء صلاته في الخلا فتلك استهانة يستهين بها ربه عزّ وجلّ، وفي الخبر: إذا أحسن العبد صلاته في العلانية و أحسنها في السرّ قال اللّه تعالى لملائكته: هذا عبدي حقّاً، وعن كعب وغيره: من قبلت صلاته قبلت أعماله كلها، ومن ردّت عليه صلاته ردّت عليه أعماله كلها، ويقال: من تقبلت منه الصلوات الخمس كملاً من غير أن تلفق، ولا يرفع بعضها من بعضِ، أو غيرها من النوافل، أطلع على علم الأبدال وكتب صديقاً، وعلامة قبول الصلوات أن تنهاه في تضاعيفها عن الفحشاء والمنكر والفحشاء والكبائر، والمنكر ما أنكره العلماء، فمن انتهى رفعت صلاته إلى سدرة المنتهى، ومن تحرقته الأهواء فقد ردّت صلاته لما غوى فهوى، وقال مالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم: إني لأرى الرجل يسيء صلاته فأرحم عياله، وقال الفضيل بن عياض: الفرائض رؤوس الأموال والنوافل الأرباح، ولا يصحّ ربح إلا بعد رأس المال، وكان ابن عيينة يقول: إنما جرموا الوصول بتضييع الأصول، وقال عليّ بن الحسين: من اهتم بالصلوات الخمس في مواقيتها وإكمال طهورها لم يكن له في الدنيا عيش وكان عليه السلام إذا توضأ للصلاة تغير لونه واصفرّ وأرعد، فقيل له في ذلك فقال: تدرون بين يدي من أريد أن أقف وعلى من أدخل ولمن أخاطب؟ وقال بعض العارفين: للصلاة أربع فرائض؛ إجلال المقام، وإخلاص السهام، ويقين المقال، وتسليم الأمر، وقال أبو الدرداء: خيار عباد اللّه الذين يراعون الشمس والقمر والأظلّة لذكر اللّه تعالى وكان وكيع يقول: من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يحافظ عليها ومن تهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه.(2/16)
وروينا في تفسير قوله تعالى: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد:21، قال: تكبيرة الإحرام، وفي حديث أبي كاهل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من صلّى أربعين يوماً الصلوات في جماعة لا يفوته منها تكبيرة الإحرام كتب له براءتان؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار، وقال سعيد بن المسيب: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة، وكان يسمى حمامة المسجد، وقال عبد الرزاق: من عشرين سنة ما سمعت الأذان إلا في المسجد، ويقال: إنه إذا كان يوم القيامة أمر بطبقات المصلين إلى الجنة زمراً، قال: فتأتي أول زمرة كان وجههم الكوكب الدري فتستقبلهم الملائكة فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ فيقولون: كنا إذا سمعنا الأذان قمنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك، ثم تأتي الزمرة الثانية فوق أولئك في الحسن والجمال كأنّ وجوههم الأقمار فتقول الملائكة: من أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون، فيقولون: وما كانت صلاتكم؟ فيقولون: كنا نتوضأ للصلاة قبل دخول وقتها، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك، ثم تأتي الزمرة الثالثة فوق هؤلاء في المنزلة والجمال كأنّ وجوههم الشمس الضاحية، فتقول الملائكة: أنتم أحسن وجوهاًوأعلى مقاماً فما أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون، فيقولون: وما كانت صلاتكم؟ فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك.(2/17)
وقال بعض العلماء رضي اللّه عنهم: سميت الصلاة صلاة لأنها صلة بين العبد وبين اللّه عزّ وجلّ ومواصلة من اللّه تعالى لعبده، ولا تكون المواصلة والمنال إلا لتقّي، قال اللّه تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللّه لُُحُومُهَا وَلاَدِمَاؤُهَا وَلكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) الحج:37، ولا يكون التقيّ إلا خاشعاً فعندها لا يعظم عليه طول الوقوف ولا يكثر عليه الانتهاء عن المنكر والائتمار بالمعروف، كما قال سبحانه وتعالى: (إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرَ) العنكبوت:45، والخاشعون من المؤمنين هم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، الحافظون لحدود اللّه جزاؤهم البشرى، كما قال: (وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) الأحزاب:47 والخاشعون أيضاً الخائفون، الذاكرون، الصابرون، والمقيمون الصلاة، فإذا كملت هذه الأوصاف فيهم كانوا مخبتين، وقد قال سبحانه: (وَبَشِّرِ الْمُخْتِتِينَ) الحج:34، وكان ابن مسعود إذا نظر إلى الربيع بن خيثم يقول: وبشر المختبين أما واللّه لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك، وفي لفظ آخر لأحبك، يقال: إنه كان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة لا تحسب جارية ابن مسعود إلا إنه أعمى لشدة غضّ بصره وطول إطراقه إلى الأرض بنظره، وكان إذا دق الباب عليه تخرج إليه إنه أعمى لشدة غضّ بصره وطول طاقه إلى الأرض بنظره، وكان إذا دق الباب عليه تخرج إليه الجارية فإذا رأته قالت لعبد اللّه صديقك ذاك الأعمى قد جاءك فكان ابن مسعود يضحك ويقول: ويحك ذاك الربيع، ومشى ذات يوم مع ابن مسعود في الحدادين فلما نظر إلى الأكوار تنفخ وإلى النيران تلتهب، صعق وسقط مغشياً عليه، وقعد ابن مسعود عند رأسه إلى وقت الصلاة فلم يفق فحمله ابن مسعود على ظهره إلى منزله، فلم يزل مغشياً عليه إلى الساعة التي صعق فيها حتى فاتته خمس صلوات، وابن مسعود عند رأسه يقول: هذا واللّه الخوف، وكان هذا يقول: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي، وقد كان عامر بن عبد اللّه من خاشعي المصلّين، كان إذا صلّى ضربت ابنته بالدف، وتحدث النساء بما يردن في البيت، ولم يكن يعقل ذلك ولا يسمعه وقيل له ذات يوم: هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء؟ قال: نعم بوقوفي بين يدي اللّه عزّ وجلّ ومنصرفي إلى إحدى الدارين، قيل: فهل تجد شيئاً مما نجده من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف الأسنة فيّ أحبّ إليّ من أن أجد شيئاً في الصلاة مما تجدون، وكان يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وقد كان مسلم بن يسار من الزاهدين العاملين، كان إذا دخل في الصلاة يقول لأهله: تحدثوا بما تريدون وأفشوا سركم فإني لا أستمع إليكم، وكان يقول: وما يدريكم أين قلبي، وكان يصلّي ذات يوم في مسجد البصرة، فوقعت خلفه أسطوانة معقود بناؤها على أربع طاقات، فتسامع بها أهل السوق فدخلوا المسجد وهو يصلي كأنه وتد، وما انفتل من صلاته، فلما فرغ جاءه الناس يهنونه فقال: أي شيء تهنوني؟ قالوا: وقعت هذه الأسطوانة العظيمة وراءك فسلمت منها، قال: متى وقعت؟ قيل: وأنت تصلّي، قال: ما شعرت بها، وقال بعض المصلّين: الصلاة من الآخرة، فإذا دخلت في الصلاة خرجت من الدنيا، وسئل بعضهم: هل تذكر في صلاتك شيئاً؟ قال: وهل شيء أحبّ إليّ من الصلاة فأذكره فيها؟ وكان أبو الدرداء يقول: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ.(2/18)
وفي الخبر: أنّ عمار بن ياسر صلّى صلاة فخففها فقيل له: خففت يا أبا اليقظان، فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئاً؟ قالوا: لا قال: لأني بادرت سهو الشيطان أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: إنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يكتب له ثلثها ولا نصفها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها، وكان يقول: إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها، وقد ذكر هذا عبد الواحد بن زيد أنه إجماع، فروينا عنه أنه قال: أجمعت العلماء أنه ليس للعبد من صلاته إلاّ ما عقل، وقال الحسن: كل صلاة لا يحضرها قلبك فهي إلى العقوبة أسرع منها إلى الثواب، ويقال: إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، منهم الزبير وطلحة، كانوا أخفّ الناس صلاة، فسئلوا عن ذلك فقالوا: نبادر بها وسوسة العدوّ، وروينا أنّ عمر رضي اللّه تعالى عنه قال على المنبر: إنّ الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل للّه تعالى صلاة، قيل: وكيف ذاك: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على اللّه تعالى فيها؟ وقال اللّه جلّ ذكره: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَديثاً) النساء:87، (حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء:43 وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من تشعبت به الهموم لم يبال اللّه تعالى في أي أوديتها هلك، وسئل أبو العالية عن قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) الماعون:5، قال: هو الذي يسهو في صلاته فلا يدري على كم ينصرف، على شفع أم على وتر؟ سئل الحسن عن ذلك فقال: هو الذي يسهو عن وقت الصلاة حتى يخرج وقتها، وكان يقول: أما واللّه لو تركوها لكفروا، ولكن سهوا عن الوقت، وقال بعض السلف فيها: هو الذي إن صلاّها في أوّل الوقت أو في الجماعة لم يفرح وإن صلاّها بعد الوقت لم يحزن، وقيل: هو الذي لا يرى تعجيلها برّاً ولا تأخيرها إثماً ويقال: إنّ الصلوات الخمس يلفق بعضها إلى بعض حتى يتم بها للعبد صلاة واحدة، وقيل: من الناس من يصلّي خمسين صلاة فيكمل له بها خمس صلوات وإن اللّه تعالى ليستوفي من العبد ما أمره به كما فرضه عليه وإلاّ تممه من سائر أعماله النوافل لأنه ما فرض على العبد إلاّ ما يطيقه بعونه إذ لم يكلفه ما لا طاقة له به برحمته.(2/19)
وروينا عن عيسى عليه السلام: يقول اللّه تعالى: بالفرائض نجا مني عبدي وبالنوافل تقرّب إليّ عبدي وقد جاء مثله عن نبينا صلى الله عليه وسلم: يقول اللّه: لا ينجو مني عبد إلاّ بأداء ما افترضته عليه، وفي الخبر المفسر: أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن وجدت كاملة وإلا يقول اللّه تعالى: انظروا هل لعبدي نوافل؟ فنتمّ فرائضه من نوافله؟ ثم يعمل بسائر الفرائض، كذلك يوفي كل فرض من جنسه من النفل؛ فإذا كانت النوافل في السهو والتقصير كالفرائض أو لم يوجد نوافل فكيف يكون حاله في الحساب؟ وكان ابن عباس يفسر قوله تعالى كلا لما يقض ما أمره قال: يعني به الكافر، لأن عنده أنّ كل موضع في القرآن يذكر به الإنسان خاصة أنه يعني به الكافر، وقد قال اللّه تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة:286 يعني طاقتها، وقال سبحانه وتعالى مخبراً عن المؤمنين: (وَلاَ تُحَمِّلْنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) البقرة:286، في التفسير قد فعلت؛ وفي هذه المسألة اختلاف وشبهة، والصواب من ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ لا يكلف المؤمنين خاصة ما لا طاقة لهم به، فهم مخصوصون بذلك فضلاً من اللّه تعالى ونعمة آثرهم بها على الكافرين، إذ له أنّ يؤثر بعض عباده على بعض لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وهذا مفهوم من دليل الخطاب من قوله: لا تحملنا ما لا طاقة لنا به أن له تعالى أن يحمل الكافر ما لا طاقة له به عدلاً منه وحكمة، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدلَ لِكَلِمَاتِهِ) الأنعام:115، قيل: صدقاً للمؤمنين وعدلاً على الكافرين، قال اللّه تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: (تَاللّه لَقَدْ آثَرَكَ اللّه عَلَيْنَا) يوسف:91 فهذا نص في الإيثار لبعض خلقه على بعض، ثم رأيت تصديق ما ذكرته عن ابن عباس رواها إسماعيل عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الأعراف:42، يعني إلاّ طاقتها من العمل لأن اللّه تعالى افترض على المؤمنين أعمالاً يطيقونها، ولم يفترض عليهم ما لا يطيقون، هذا نقل لفظ ابن مسعود في تخصيص المؤمنين، كما ذكرناه آنفاً، ويقول أيضاً في تفصيل هذه المسألة: للزائغين فيها تعلق ابتغاء التآويل أنّ اللّه تعالى كلّف العباد ما لا يطيقونه إلا به لافتقارهم إليه وعدم استغنائهم عنه في كل حركة وسكون، إذ لا مشيئة لهم دون مشيئته ولا استطاعة إلاّ بتوفيقه ولا حول ولا قوة إلاّ به، ألم تسمع إلى قوله تعالى في وصف الكافرين: (مَا كَانُوا يَسْتَطيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) هود:2،، وقال تعالى في مثله: (وَكَانُوا لاَ يَسْتَطيعُونَ سَمْعاً) الكهف:1،1، وقال فيمن استطاع به إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت.(2/20)
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلّى كما أمر غفر له ما تقدّم من ذنبه، وقد يروى في خبر: يقول اللّه تعالى: ليس كل مصلٍّ أتقبّل صلاته إنما أتقبّل صلاة من تواضع لعظمتي وخشع قلبه لجلالي، وكفّ شهواته عن محارمي، وقطع ليله ونهاره بذكري، ولم يصر على معصيتي، ولم يتكبّر على خلقي، ورحم الضعيف، وواسى الفقير من أجلي، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلم له نوراً يدعوني فألبّيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبره، أكلؤه بقوّتي وأباهي به ملائكتي، لو قسم نوره عندي على أهل الأرض لوسعهم، مثله كمثل الفردوس لا يتسنّى ثمرها ولم يتغير حالها، وفي الخبر: كم من قائم حظه من قيامه السهر والتعب، ومن صلّى صلاة وراء إمام فلم يدر ماذا قرأ فهو نهاية السهو، فإنه تارك الأمر للاستماع فيخاف عليه مجانية الرحمة لأن اللّه تعالى ضمن الرحمة بشرطين: الاستماع والإنصات، وقال سبحانه في المعنيين: (وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرَحَمُونَ) الأعراف: 204 وقال تعالى:(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) الأحقاف:29، وروينا في خبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة فترك في قراءته، فلما انفتل قال: ماذا قرأت؟ فسكت القوم، فسأل أبيّ بن كعب فقال: قرأت سورة كذا وتركت آية كذا فما أدري أنسخت أم رفعت، فقال: أنت لها يا أبيّ، ثم أقبل على الآخرين فقال: ما بال أقوام يحضرون صلاتهم ويتمّون صفوفهم ونبيهم بين أيديهم، لا يدرون ما يتلو عليهم من كتاب ربهم إلاّ أنّ بني إسرائيل كذلكم فعلوا، فأوحى اللّه إلى نبيهم أن قل لقومك تحضروني أبدانكم وتعطوني ألسنتكم وتغيبون عني قلوبكم باطلاً ما تذهبون.
وقال بعض علمائنا: إنّ العبد يسجد السجدة عنده أنه يتقرب بهما إلى اللّه عزّ وجلّ، ولو قسمت ذنوبه في سجدته على أهل مدينته لهلكوا، قيل: وكيف يكون ذلك يا أبا محمد؟ قال: يكون ساجداً عند اللّه وقلبه مصغ إلى هوى، ومشاهد لباطل قد استولى عليه، وهذا كما قال لأن فيه انتهاك حرمة القرب وسقوط هيبة الرب تعالى، واعلم أنّ طول الصلاة عليك غفلة وقصرها سهو لأنها إذا طالت عليك دلّ على عدم الحلاوة ووجود الثقل بها وكبرها على جوارحك، وإذا قصرت عليك وخفّت دلّ على نقصان حدودها ودخول الغفلى والسهو فيها، فالنسيان قصرها، والاستقامة في الصلاة أن لا تطول عليك لوجود الحلاوة، ولذة المناجاة، وحسن الفهم، واجتماع الهمّ، ولا تقصر عليك لتيقظك فيها، ورعايتك حدودها، وحسن قيامك بها؛ وهذه مراقبة المصلين ومشاهدة الخاشعين.
ذكر أحكام الخواطر في الصلاة(2/21)
وما ذكر به العبد في الصلاة من الخير فليسارع إلى فعله فذلك من أحبّ الأشياء إلى اللّه تعالى لأنه أذكره إياها في أحبّ المواطن إليه، وما ذكر به من المكروه والممقوت إليه من المعتاد والمستأنف فليجتنبه؛ فإنه هو الذي يبعده من قرب اللّه سبحانه وتعالى، وتذكيره إياه في محل القرب، توبيخاً له وتقريراً، وقد يكون عتباً وتنبيهاً، فترك ذلك مما يقرب إلى اللّه تعالى، ويدل على حسن الاستجابة له؛ وهو مسلك طريقه إلى اللّه تعالى وما خطر به من خاطر تمنٍّ أو هوى أو ذكر بهمة ما يأتي أو ما قد مضى، فإنّ ذلك وسوسة إليه من عدوه حسداً له ليقطعه بذلك عن وقوف قلبه عند كل ركن من أركان الصلاة ويشغل قلبه عن الوقوف في المناجاة، بما يضرّه عما ينفعه ليحرمه بذلك أن يشهد عند كل ذكر من أذكار الصلاة ما يوجبه الذكر من تدبير أو تعظيم أو حمد أو دعاء أو استغفار، وإن خطر بقلبه أمر معاشه وتصريف أحواله وتدبير شأنه من المناجاة، فذلك من قبل النفس وفكرها بما توسوس به من أمور الدنيا، فأما إن خطرت همة محظورة أو فكرة في معصية مأزورة ؛ فهذا هو الهلاك والبعد، يكون عن وصف النفس الأمارة باستحواذ العدوّ المغوي؛ فهو علامة الإبعاد، والحجاب دليل المقت، والإبعاد والإعراض، فإذا ابتلي في صلاته بهذه المعاني فقد اختبر بذلك فعليه أن يعمل في نفيه مع نفس بدوّه، ولا يمكنه من الظهور من قلبه فيملكه، ولا يصغي إليه بعقله فيستولي عليه، ولا يحادثه ولا يطاوله فيخرجه من حدّ الذكر واليقظة إلى مسامرة الجهل والغفلة، وكل عمل محظور فالهمة به محظورة وفيه نقص، وكل عمل مباح فالهمة به مباحة ونفيها فضيلة، وما خظر على قلبه من الخيرات المتأخر فعلها فليعقد النية بذلك، فإنه قد ذكر به وأريد منه، ثم ليمض في صلاته ولا يشتغل بتدبيره؛ كيف يكون؟ ومتى يكون؟ أو كيف أكون فيه؟ وعنده إذا كان فيفوته الإقبال في الحال بتدبير شأنه في المآل؛ وهذا هو استراق من العدوّ عليه وإلقاء من خدوعه إليه، فإن جاهد هذا المصلّي نفسه عن مسامرة الفكر وقابل عدوّه في قطع وسوسة الصدر، كان مجاهداً في سبيل اللّه تعالى، مقاتلاً لمن يليه من أعداء اللّه تعالى، له أجران: أجر الصلاة للتقرب إلى الكريم، وأجر المصارمة والمحاربة لعدوّه الرجيم.
وقد كان الأقوياء من المؤمنين، أهل الغلظة على الأعداء والتمكين، إذا ابتلوا بداخل يدخل عليهم في الصلاة من الأسباب، يخرجهم عن المشاهدة فيها عملوا في قطع ذلك الشيء وإبعاده من أصله، إذ كان سبب قطعهم وإبعادهم من قربهم، فيستخرج بإدخال ذلك عليهم إخراجهم من الدنيا؛ وهو الزهد فيها، فيكون ذلك إحساناً من اللّه إليهم ومريداً منه لهم؛ وهذا أحد ما زهد لأجله الزاهدون في الدنيا لتصفو قلوبهم من الأسباب فتخلص أعمالههم من الوسواس بالاكتساب ومن ذلك ما بلغنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه نزع الجبة التي كانت عليه في الصلاة لما نظر إلى علمها وقال: ألهتني هذه في الصلاة يعني شغلتني، ونظر إلى شراك نعله في الصلاة وكان جديداً، فأمر أن ينزع منها ويعاد لها الشراك الخلق، وكان قد احتذى نعلاً فأعجبه حسنها فسجد وقال: تواضعت لربي كيلا يمقتني، ثم خرج بها فدفعها إلى أوّل سائل لقيه، ثم أمر عليّاً أن يشتري له نعلين سبتيين جرداوين فلبسهما.(2/22)
وكان الضعفاء من المؤمنين يعملون في نفيه وترك مساكنته ومحادثته في الحال لقوادح اليقين في إيمانهم ولسرعة التيقظ في قلوبهم؛ لأن الآفات تدخل من مكان الهوى وتمكّن الأعداء، ومكان الهوى وقوّة العدوّ لطول الغفلة وعدم حلاوة الطاعة لاتساع النفس في الشهوات وقوة سلطانها على الصفات واتساع النفس وقوة صفتها لضيق القلب، وضعف اليقين إذ لو قوي يقين العبد لانشرح صدره ولأطفأ نور يقينه ظلمة هواه، ولاندرجت النفس في القلب اندراج الليل في النهار، ولأسقط مكانه من الشهادة تمكن أعدائه والعادة، ولعلم يقيناً أنّ ما هو فيه من الذكر والصلاة أنفع له وأحمد عاقبة مما تفكر فيه من عاجل دنياه، فيشتغل حينئذ بما هو فيه له من الذكر عمّا هو عليه من سوء الفكر، وليس بعد هذين المقامين حال ينعت ولا يمدح بشيء، وما قدح في قلبه من فهم الخطاب وتدبر معاني الكلام والإيقان على المقصد والمراد فهو تعليم من اللّه تعالى وتوقيف وتنبيه منه وتعريف؛ وهذا مزيد التلاوة وعلامة الإخلاص في المعاملة وبركة التدبر، دليل القبول والشكر لحسن الخدمة، فليأخذ من ذلك ما عفا ويغترف منه ما صفا، ولا ينتظره ولا يتمناه ولا يتبعه بعد انصرافه بالفكر في معناه، فيسترق العدوّ عليه السمع ويلقي إليه الوسوسة ويطمع فيه بالغرة ويدخل عليه من باب الأمنية، لأنه قد قرن الأماني بالإضلال؛ فهي مواعيد الكذب للإبطال، ألم تسمع إلى ربك تعالى كيف أخبرك عنه في قوله تعالى: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمنِّيَنَّهُمْ) النساء:119، ثم قال في مثله: (وَعِدْهُمْ وَشَارِكْهُمْ في الأَمْوَالِ وَ الأَوْلاَدِ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) الإسراء:64، ثم استثنى عباده المسلطين عليه بسلطانه، الغالبين له بآياته، فلم يصل العدو إليهم لمواصلته لهم وتوكّلهم عليه بوكالته إياهم، تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: (إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلاً) الإسراء:65، وقوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَن اتَّبَعَكُما الغَالِبُونَ) القصص:35، مع قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلى الَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) النحل:99.
وللعبد في التفكّر والتدّبر لما يستقبل من كل كلمة شغل عمّا فات مما كان عمله، وله في الشغل في الحال اقتطاع بما قد فهمه وما فهمه من غير ما يتلوه فاستدل به على ما سواه مما يعينه ويحتاج إليه؛ فهي أبواب من الفطنة تفتح له فيكون التكلم مفتاحها، ثم يخرج العبد إلى سواها مما هو له أصلح أو عليه أوجب، فليعرف بذلك ما عرف وليقف من ذلك على ما عليه وقف وما تفكر فيه من غير تدبر التلاوة، أو شغل به من غير فهم المتلوّ فهو حجاب له من الفهم وقطع له عن خالص العلم فليقطع ذلك، والتمام في التلاوة أن يتدبر التالي باطن الكلام، ويتفكرّ في غوامض الخطاب، ويوقف قلبه على معاني المراد، ويعمل فكره في تذكر الموصل والترداد، فإن الكلام عزيز من عزيز، ولطيف من لطيف، وحكيم من حكيم، وعلى من على ظاهره سهل قريب، وباطنه بحر عميق، يقول السامع إذا عقله قد فهمته، لتجلي فحواه، فإذا شهده كأنه ما سمعه لدقيق معناه يحسب العاقل أنه قد عرفه لظهور بيانه وتفصيل حكمته، فإذا عرف المتكلم به كأنه ما عقله لعمق بحاره وسعة أقطاره قد اغترّ به قوم لما سمعوا بيانه فادّعوا أنهم يحسنونه، وخدع به آخرون لما عقلوا أمثاله فطلبوا غيره وسألوا أبداله، وأصغى آخرون إلى سمعه فادّعوا فهمه فأكذبهم الصادق، وعزلهم عن سمعه، ثم أخبرنا بجميع ذلك عن جهلهم، وعجبنا من جراءتهم، فقال في وصف الأولين: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذا) الأنفال:31، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) يونس:15.(2/23)
وقال في نعت الآخرين: (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) الشعراء:223، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الشعراء:212، (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) الأنفال:21، ثم وصف من أسمعه إياه وأفهمه معناه من الجنّ الذين هم أسد قوة من الأنس وأعظمهم وصفاً فقالوا: (إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) الجنّ:1 (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) الجنّ:2، فهؤلاء ممن عقله فمدحم بفهمه وأخبر عن صاحب التنزيل بمثله فقال: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسخرُونَ) الصافات:12، أي عجبت من القرآن وتفصيله وتنزيله، ويسخر منه الجاهون، فإن فتح للتالي بالتلاوة عين نفس المتلّو باب الفكر في معاني العظمة والقدرة، وكشف له بواسطة الكلام مشاهدة ما كان علمه من وعد الآخرة وعيدها فله أجران، من حيث كان منه عملان: الفكرة والصلاة، وهذا كله لعموم المؤمنين مزيد، وهو بذلك للخصوص من المقرّبين دون ذلك إلاّ ما وجهوا به من طوالع الغيوب، وأطلعوا عليه من مطالع سرائر المحبوب، فكوشفوا به من بوادي اليقين من العزة والجبروت والإجلال والرهبوت، فأهجم عليهم من غير تفكّر منهم ولا تدّبر مما استعملهم به، واضطرهم إلى مشاهدته، القدير، فأخرس ألسنتهم عن المقال، وعقم عقولهم عن المجال، وأغنى قلوبهم عن الطلب، ولم يوكل إلى فكرهم بنظر إلى سبب، بل من غير تعمّل منهم لتكييفه ولا روية ولا اختيار لماهيته، ثم يجاوزونه إذا أخذ منهم حقه وأدركوا به نصيبهم إلى العالم الأكبر، فيقفون بين يديه ويحطون عنده، ولا يقفون مع المشاهدة طرفة عين، ولا يسكنون إليها خطرة قلب لئلا يقطعهم البيان عن المبين، ولا يشغلهم الخبر عن اليقين، ولا يحجبهم الشهادة عن الشهيد ولا يحسبهم البادئ العائد عن المبدئ المعيد؛ بل قد أشرف بهم على المراد فأسقط عنهم التشرّف وأذهلهم عن الاعتراف والتعريف بما ناداهم به من التعرّف، واقتطعهم العيان فأغناهم عن الانقطاع، وتقطعوا بالمفصل فأنساهم الانتفاع، وتوصّلوا بالموصل فأطلعهم عليه، وكان لهم حاملاً إليه ودليلاً أمامهم منه عليه؛ وهذه صفة الأقوياء بالقوى، الأغنياء بالغنى، الواجدين للموجد، الفاقدين للموجد، الذاكرين بذاكر، الصابرين بصابر ولا ينبغي للمصلي أن يدخل في صلاته حتى يقضي نهمته، ويفرغ من حاجته، ولا يبقى عليه ما يزعج قلبه ويفرّق همّه ليفرغ قلبه في صلاته، ويجتمع همّه في وقوفه، ويصحو عقله لفهمه، ويواطئ قلبه قيله ويقبل على المقبل عليه بمعقوله؛ وهذا يؤمر به القضاء عن مجاهدة الأعداء والمرضى عن مسابقة الأولياء.
وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: المؤمن القويّ أحبّ إلى اللّه تعالى من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، وقد قال اللّه تعالى: (لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولي الضَرَرِ وَ المُجَاهِدُونَ في سَبيلِ اللّهِ) النساء:95، إلى قوله: (فَضَّلَ اللّهُ المُجَاهِدينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدينَ دَرَجَةً) النساء:95، مع قوله: (وَكُلاًّ وَعَد اللّهُ الحُسْنَى) النساء:95.
شرح ثالث ما بني الإسلام عليه وهو
الزكاة
كتاب الزكاة
فأما فرائض الزكاة فأربع: الحرية، وصحة الملك، ووجود النصاب؛ وهو مائتا درهم وعشرون ديناراً، واستكمال الحول وهو من شهر إلى مثله.
ذكر فضائل الصدقة
وآداب العطاء وما يزكو به المعروف ويفضل به المنفقون(2/24)
روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس في المال حقّ سوى الزكاة، وأنّ جماعة من التابعين كانوا يذهبون إلى أنّ في المال حقوقاً غير الزكاة، منهم: إبراهيم النخعي، قال: كانوا يرون أنّ في المال حقوقاً سوى الزكاة؛ ومنهم: الشعبي سئل: أفي المال حقّ سوى الزكاة؟ قال: نعم، أما سمعت قوله تعالى: (وَآتَىْ المَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُربى) البقرة:177 الآية، ومنهم: عطاء ومجاهد، وقد كان المسلمون يرون المساواة والفرض والقيام بمؤن العجزة من أنفسهم وأهلهم من المعروف والبرّ والإحسان، وأنّ ذلك واجب على المتّقين وعلى المحسنين من أهل اليسار والمعروف، وكذلك مذهب جماعة من أهل التفسير أنّ قوله عزّ وجلّ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة:3، وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة:254، مأمور به، وأنّ ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، وأنه داخل في حقّ المسلم على المسلمين، وواجب بحرمة الإسلام ووجود الحاجة، فمن فضائل الزكاة وأن يخرجها في أول ما تجب عليه، وأن يقدمها قبل وجوبها، إذا رأى لها موضعاً يتنافس فيه، ويغتنم خوف فوته من غاز في سبيل اللّه عزّ وجلّ، أو في دين مطالب، أو جهاد وغزو، أو إلى رجل فقير فاضل طرأً في وقته، أو أنّ سبيل غريب كان تقدمتها إلى هؤلاء وأمثالهم أفضل وأزكى، لأنه من المسارعة إلى الخير، ومن المعاونة على البرّ والتقوى، وداخل في التطوّع بالخير وفعله الذي أمر به، ولا يأمن الحوادث إذ في التأخير آفات، وللدنيا نوائب وعوائق، وللنفس بدوات، وللقلوب تقليب، وإنّ جعل رأس الحول أحد الشهرين كان أفضل، فإنّ في هذين خاصية من الفضائل ليست في غيرهما، فأما شهر رمضان فإن اللّه تعالى خصّه بتنزيل القرآن وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وجعله مكاناً لأداء فرضه الذي افترضه على عباده من الصيام وشرّفه بما أظهر فيه من عمارة بيوته بالقيام.(2/25)
وقد كان مجاهد يقول: لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء اللّه تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان، وقد رفعه إسماعيل بن أبي زياد فجاء به مسنداً وأما ذو الحجة فإنّا لا نعلم شهراً جمع خمس فضائل غيره؛ هو شهر حرام وشهر حج وفيه يوم الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات؛ وهي العشرة، والأيام المعدودات: وهي أيام الشريق التي أمر اللّه تعالى بذكره فيها، وأفضل أيام في شهر رمضان العشر الأواخر، وأفضل أيام في شهر الحجة العشر الأُوَل، وقد استحب بعض أهل الورع أنّ يقدم في كل سنة بشهر لئلا يكون مؤخراً عن رأس الحول، لأنه إذا أخرج في شهر معلوم ثم أخرج القابل في مثله، فإن ذلك الشهر يكون الثالث عشر؛ وهذا تأخير، فقالوا: إنه إذا أخرج في رجب فليخرج من القابل في جمادى الآخرة ليكون آخر سنته بلا زيادة، وإذا أخرج في رمضان فليخرج من قابل في شعبان على هذا لئلا يزيد على السنة شيئاً؛ وهذا أحسن، وليتق أن يكون مخرجاً للفرض في كل شهر، ثم أن يخرجها طيبة بها نفسه، مسروراً بها قلبه، مخلصاً لربه، مبتغياً بها وجهه لغير رياء ولا سمعة ولا تزيّن ولا تصنّع، لا يحبّ أن يطلع عليها غير اللّه عزّ وجلّ، ولا يرجو في إعطائها ولا يخاف في منعها سواه، وليكن ناظراً إلى اللّه تعالى، عارفاً بحسن توفيقه له، وأن يعتقد فضل من يعطيه من الفقراء عليه ولا ينتقصه بقلبه ولا يزدريه، وليعلم أنّ الفقير خير منه، لأنه جعل طهرة وزكاة ورفعة ودرجة في دار المقام والحياة، وأنه هو قد جعل سخرة للفقير وعمارة لدنياه، كما حدثنا بعض العارفين قال: أريد مني ترك التكسب وكنت ذا صنعة جليلة، فجال في نفسي من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه تنقطع إلينا وتتهمنا فيك علينا، أن نخدمك وليّاً من أوليائنا، أو نسخّرلك منافقاً من أعدائنا، وأن يسرّ ذلك إلى الفقير سرّاً ولا يذكر ذلك، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأَذَى) البقرة:264، قال: المنّ أن تذكرها، والأذى أن تظهرها، وحدثت عن بشر بن الحارث قال: قال سفيان: من منّ فسدت صدقته، قيل: كيف المنّ يا أبا نصر؟ قال: أن تذكره أو تحدث به، وبعضهم يقول: المنّ هو أن تستخدمه بالعطاء، والأذى أن تعيّره بالفقر وقيل: المنّ أن يتكبر عليه لأجل أن يعطيه، والأذى أن تنهره أو توبخه بالمسألة، وفي الحديث: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، وقال بعض العلماء: ثلاثة من كنوز البرّ منها: إخفاء الصدقة، وقد روينا مسنداً من طريق؛ وذلك أسلم لدينه وأقلّ لآفاته وأزكى لعمله.(2/26)
وقد روينا في الخبر: لا يقبل اللّه من مسمع ولا مراءٍ ولا منّان، فجمع بين المنّة والسمعة، كما جمع بين السمعة والرياء وردّ بهن الأعمال؛ فالمسمع الذي يتحدث بما صنعه من الأعمال ليسمعه من لم يكن رآه، فيقوم ذلك مقام الرؤية، فسوّى بينهما في إبطال العمل لأنهما عن ضعف اليقين، إذ لم يكتف المسمع بعلم مولاه، كما لم يقنع المرائي بنظره فأشرك فيه سواء وألحق المنّان بهما لأن في المنة معناهما من أنه ذكره فقد سمع غيره به، أو رأى نفسه في العطاء ففخر به وأدّاه سرّاً، فإن أظهره نقل من السرّ وكتب في العلانية، فإن تحدث به محي من السرّ والعلانية فكتب رياء، فلو لم يكن في إظهار الصدقة مع الإخلاص بها إلاّ فوت ثواب السرّ لكان فيه نقص عظيم، فقد جاء في الأثر: تفضّل صدقة السرّ على صدقة العلانية سبعين ضعفاً، وفي الحديث المشهور: سبعة في ظل عرش اللّه تعالى يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: أحدهم رجل تصدّق بصدقة فلم تعلم شماله ما أعطت يمينه، وفي لفظ آخر: فأخفى عن شماله ما تصدّقت به يمينه؛ وهذا من المبالغة في الوصف وفيه مجاوزة الحدّ في الإخفاء، أي يخفي من نفسه فكيف غيره؟ وقد تستعمل العرب المبالغة في الشيء على ضرب المثل والتعجّب وإن كان فيه مجاوزة للحدّ، من ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ ذّم قوماً ووصفهم بالبخل وبالغ في وصفهم فقال تعالى: (أَمْ لَهَمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) النساء:53، والنقير لا يريده أحد ولا يطلبه ولا يعطاه، لأنه هو النقطة التي تكون على ظهر النواة، منه منبت النخلة وفيه معنى أشدّ من هذا وأغمض أنه لما قال: فأخفى عن شماله، كان لهذا القول حقيقة في الخفاء فهو أن لا يحدّث نفسه بذلك ولا يخطر على قلبه، وليس يكون هذا إلاّ أن لا يرى نفسه في العطاء أصلاً ولا يجري وهم ذلك على قلبه،كما يقول في سرّ الملكوت: إنّ اللّه تعالى لا يطلع عليه إلاّ من لا يحدّث نفسه به، بمعنى أنه لا يخطر على قلبه، ولا يذكره، ولا يشهد نفسه فيه شغلاً عنه بما اقتطع به، وبأنه لا يباليه ؛ فعندها صلح أن يظهر على السرّ، فإن لم يمكنك على الحقيقة أن تخفي صدقتك عن نفسك فاخف نفسك فيها، حتى لا يعلم المعطى أنك أنت المعطي؛ وهذا مقام في الإخلاص، فإن أظهرت يدك في الإعطاء فاخفها سرّاً إلى المعطي؛ هذا حال الصادق، فقد كان بعض المخلصين يلقي الدرهم بين يدي الفقير، أو في طريقه، أو موضع جلوسه، بحيث يراه وهو لا يعلم من صاحبه، وبعضهم كان يصرّ ذلك في ثوبه وهو نائم فلا يعلم من جعله، وقد رأيت من يفعل ذلك، فأما من كان يوصل إلى الفقير على يد غيره ويستكمه شأنه فلا يحصى ذلك من المسلمين.(2/27)
وفي الخبر: صدقة السرّ، وقيل صدقة الليل، تطفئ غضب الرب تعالى، وقد أخبر اللّه تعالى أنّ الإخفاء أفضل، ومعه يكون تكفير السيّئات، فقال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) البقرة:271، فإن أظهر مسكين نفسه، وكشف نفسه للسؤال، وآثر التبذل على الصون والتعفّف؛ فلا بأس أن تظهر معروفك إليه، فإن أظهرت زكاتك إرادة السّنة، والافتداء بك، والتحريض على مثل ذلك من غيرك لينافسك فيه أخوك، فيسرع إلى مثله أمثالك منهم فحسن؛ وذلك من التحاض على إطعام المسكين، وقد ندب اللّه إليه وقد قيده في قوله تعالى: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرَّاً وَعَلانِيَةً) الرعد:22، قيل سرّاً التطوّع، وعلانية الصدقة المفروضة، وكذلك قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضاً حَسَناً) المزمل:2،، القرض الحسن هو التطوّع، وقد قيل الحلال، كما قال: (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزْقاً َحسَناً) هود:88 أي حلالاً، وقد قال تعالى: (إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) البقرة:271، فمدح المبدي بنعم إلاّ أنّ ذلك لا يحسن إلاّ إلى من أبدى نفسه كأنه هذا السائل الذي يسأل بلسانه وكفّه، وقوله تعالى: (وَإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ) البقرة: 271 الآية، كأنها للمستخفف بالمسألة وهي لخصوص الفقراء لا يظهرون نفوسهم بما يمنعهم الحياء والتعفّف، فمن أظهر نفسه فأظهر إليه، ومن أخفاها فأخفي له، ومن ذلك كشف عورة الفاسق: إنما حرم عليك أن تظهر عورة من يخفي عنك نفسه ويستتر، فإذا أظهر نفسه بها وأعلن فلا بأس أن يظهر عليه كما جاء في الخبر: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، وينبغي أن يجعل صدقته من أفضل ما يحبه من المال، ومن جيد ما يدخر ويقتني وتستأثر به النفوس، فيؤثر مولاه به كما أمره، وضرب المثل له فقال: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) البقرة:267 ثم قال: (وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخِبيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) البقرة:276، وقال في ضرب المثل بالعبيد: ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه، أي لا تقصدوا الرديء فتجعلوه للّه تعالى، ولو أعطى أحدكم ذلك لم يأخذه إلاّ على أغماض أي كراهية وحياء، ولا يجعل ما للّه تعالى دون ما يستجيد لنفسه، أو ما يكره أن يقتنيه لعاقبته أو يأخذه من غيره، أو مالا يستحسن أن يهديه لنبيل من العبيد، فتكون قد آثرت نفسك أو عبداً مثلك على مولاك فإن هذا من سوء الأدب ولا يقوم سوء أدب واحد في معاملة بجميع المعاملات.
وقد روي في معنى قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّه قَرْضاً حَسَناً) البقرة: 245، قال: طيّباً، فإن اللّه تعالى طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً، وفي حديث أبان عن أنس:(2/28)
طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية، وفي الخبر: سبق درهم مائة ألف درهم، وقد تهدد اللّه تعالى قوماً جعلوا له ما يكرهون ووصفت ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحسنى لا جرم فأكذبهم في قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ للّه مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) النحل:62، أي حقاً لهم النّار، وفي الآية وقف غريب لا يعلمه إلاّ الحذّاق من أهل العربية تقف على لا فيكون نفياً لوصفهم أنّ لهم الحسنى، ثم يستأنف بجرم أنّ لهم النار، أي كسب لهم جعلهم للّه ما يكرهون النار، أي بجرمهم واكتسابهم، وإذا دعا لك مسكين عند الصدقة فأردد عليه مثل دعائه حتى يكون ذلك جزاء لقوله: وتخلص لك صدقتك وإلاّ كان دعاؤه مكافأة على معروفك، فقد كان العلماء يتحفظون من ذلك وهو أقرب إلى التواضع، ولا نرى أنك مستحق لذلك منه لما وصلته به، لأنك عامل في واجب عليك لمعبودك أو توفي للمعطي رزقه وما قسم له من تعبدك بذلك، وكانت عائشة وأم سلمة رضي اللّه عنهما إذا أرسلتا معروفاً إلى فقير قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به ثم يردّان عليه مثل قوله، ويقولان: حتى تخلص لنا صدقتنا، وفعل ذلك عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما، ولا ينبغي أن تقتضي من الفقير الدعاء لك، أو تطالبه بذلك، أو تحبّ منه الثناء والمدح على ذلك، فإنه ينقص من الصدقة، وإذا كثر منك وقوي أحبطها، وإن كان عليه أن يدعو لك ويثني به عليك فإنما يعمل فيما تعبده مولاه به، وأمره به فلا يرى ذلك من حقك عليه، وإذا وصلت إلى الفقير معروفاً فبحسن أدب ولين جانب ولطف كلام وتذلل وتواضع.
وقد كان بعض الأدباء إذا أراد أن يدفع إلى فقير شيئاً بسط كفّه بالعطاء لتكون يد الفقير هي العليا، وبعضهم كان يضعها بين يديه على الأرض، ويسأله قبولها منه ليكون هو السائل، ولا يناوله بيده إعظاماً له؛ وهذا يدل على معرفة العبد بربه وحسن أدبه في عبادته، ومن أحبّ الثناء والذكر على معروفه كان ذلك حظه منه وبطل أجره، وربما كان عليه فضل من الوزر لمحبته الذكر والثناء فيما للّه تعالى أن يفعله، وفي رزق اللّه لعبده الذي أجراه على يده، فإن تخلّص سواء بسواء فما أحسن حاله واستحب للفقير أن يخصّ ذا المعروف إليه بدعوات شكراً لما أولاه وتأدّباً وتخلقاً بفعل مولاه، لأنه قد جعله سبباً للخير وواسطة للبرّ إذ اللّه سبحانه وتعالى يشهد نفسه بالعطاء، ثم قد أثنى على عبده وشكر له في الإعطاء، فليقل طهّر اللّه قلبك في قلوب الأبرار، وزكّى عملك في عمل الأخيار، وصلّى على روحك في أرواح الشهداء؛ فذلك هو شكر الناس، والدعاء لهم، وحسن الثناء عليهم، ومن شكرهم أيضاًِ أن لا يذمهم في المنع، ولا يعيبهم عند القبض.
فذلك تأويل الخبر: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه تعالى فإن فيه إثبات حكم الأواسط، واستعمال حسن الأدب في إظهار النعم والتخلّق بأخلاق المنعم، لأنه أنعم عليهم ثم شكر لهم كرماً منه، وكذلك في الخبر: العبد الموقن يشهد يد مولاه في العطاء، فحمد ثم شكر للمتّقين، إذ جعلهم مولاه سبب حمده، وطرقاً لرزقه.(2/29)
في الخبر: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه، فأما شكر اللّه تعالى على العطاء فهو اعتقاد المعرفة أنه من اللّه تعالى، لا شريك له فيها، والعمل بطاعته بها، ومن فضل الصدقة أن يقصد بها الفقراء الصالحين الصادقين من أهل التصوّف والدين، ممّن يؤثر التستّر والإخفاء، ولا يكثر البث والشكوى، وممّن فيه وصف من أوصاف الكتاب للفقراء، الذين أحصروا في سبيل اللّه، أي حبسوا في طريق الآخرة لعيلة، أو ضيق معيشة، أو إصلاح قلب، أو قصور يد، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، لأنهم مقصوصو الجناح، إذ المال للغني بمنزلة الجناح للطائر بماله حيث شاء من البلاد وينبسط في شهواته كيف شاء من المراد، والفقير محصور عن ذلك لا يستطيعه لقبض يده وقد رزقه، ومن هذا قوله تعالى: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَاري سَوْءَاتِكُمْ وَريشاً) الأعراف:26، قيل: المال، وقيل: المعاش، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف، فسمّى اللّه تعالى من لا يعرفهم بالفقر ولا يشهد وصفهم بالتقلّل، لظهور تعففهم عن المسألة، جاهلاً بوصف المؤمنين، ثم وكّد وصفهم وأظهر للخلق تعريفهم بياناً منه، وكشفاً لحالهم، إذ ستروها بالعفة، فقال: تعرفهم بسيماهم فالسيما هي العلامة اللازمة والخليقة الثابتة دون التحلي واللبسة الظاهرة، لا يسألون الناس إلحافاً، أي بهذه العلامة أيضاً تعرفهم إن أشكلوا عليك، فإنهم لا يسألون عفة وقناعة إلحافاً، لا يلتحفون بالأغنياء ولا يلاحفون أهل الدنيا تملّقاً وضراعة؛ أي هم منفردون بأحوالهم، أغنياء بيقينهم، أعزّة بصبرهم، والإلحاف مشتق من اللّحاف الذي يلتحف به فيلزم الجسم، فقال: ليسوا ممن يفعل ذلك، لا يلتحفون الأغنياء كاللحاف ولا يلتحفون المسألة إلزاماً كالصنعة، كما يلتحف بالثوب، فاحرص أن يكون معروفك فيمن فيه هذه الأوصاف أو بعضها، فيزكو عملك ويشكر فعلك، والأفضل في المعروف أن يؤثر الرجل إخوانه من الفقراء على غيرهم من الأجانب.
فقد روي عن علي رضي اللّه عنه: لأَن أصلَ أخاً من إخواني بدرهم أَحبّ إلي من أن أتصدّق بعشرين درهماً، ولأَن أصلَه بعشرين درهماً أَحبّ إليّ من أن أتصدّق بمائة درهم، ولأَن أصلَه بمائة درهم أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة، ولأنّ اللّه تعالى ضمّ الأصدقاء إلى الأقارب فكان فضل الصدقة على الأقارب دون البعيد كفضل الصدقة على القربة دون الأباعد، لأنه ليس يعد صلة الرحم في معناها أفضل من صلة الإخوان، وكان بعض السلف يقول: أفضل الأعمال صلة الإخوان وليقصد ببرّه من إذا دفع إليه العطاء حمد اللّه تعالى وشكره، ورأى النعمة منه، ولم ينظر إلى واسطة في نعمة، فإن هذا أشكر العباد للّه تعالى لأن حقيقة الشكر للّه بشهود النعمة منه والإخلاص بحسّ المعاملة له، وأن لا يشهد في النعمة بالعطاء والنعمة بالعمل الصالح سواه.(2/30)
وفي وصية عليّ رضي اللّه تعالى عنه: لا تجعل بينك وبين اللّه تعالى منعماً، وأعدد نعمة غيره عليك مغرماً، فليقدم مثل هذا على من لو أعطاه ورزقه أثنى عليه ومدحه وشهده فيه فحمده، فيكون قد حمد غير الذي أعطاه، ونظر إلى سواه، وذكر غير الذي ذكره بالعطاء، لأنّ الذي يحمد اللّه ويشكره ويثني عليه برزقه ويذكره يرى أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو المنعم المعطي، فينظر إليه من قرب؛ فيقين هذا باللّه أنفع لصاحب المعروف عند اللّه من دعاء الآخر المثنى، لأنه كان سبباً لنفع موقن فيكون واضعاً للشيء في حقيقة موضعه، ومدح الآخرة ودعاؤه له لأجل أنه يراه هو المعطي فينظر إليه فيمدحه، فضعف يقين هذا بربه أشّد على المنفق من دعائه له، إن كان ناصحاً للّه تعالى في خلقه ولخلق اللّه تعالى فيه، إلاّ أن لا ينصح لمولاه لغلبة هواه على تقواه، وجهله بعائد النفع له في عقباه، فنقص هذا حينئذ بمقامه من التوحيد أعظم من زيادته بصدقته، على أنه لا يؤمن الاستشراف من الآخر إليه، والاعتياد منه، والطمع فيه، بكلام يحبط عمله، وأيضاً فإنه إذا رآه في العطاء فإنه يراه عند المنع فيذمه ويقع فيه، فيكون هو سبب حمله عليه، وهو آمن مطمئن لهذا كله مع الموقن المشاهد، وفي الخبر أن الصدقة تقع بيد اللّه تعالى قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، فالموقن يأخذ رزقه من يد اللّه تعالى فهو لا يعبد إلاّ اللّه تعالى، ولا يطلب منه إلاّ كما أمره في قوله تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العنكبوت:17، ووجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى بعض الفقراء بمعروف، وقال للرسول: احفظ ما يقول، فلما أوصله إليه قال: الحمد للّه الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره، ثم قال: اللهم إنك لم تنسى فلاناً، يعني نفسه، فاجعل فلاناً لا ينساك، فأخبر الرسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك فسرّ به وقال قد علمت أنه يقول ذلك.(2/31)
وقد روي هذا عن عمر وعن أبي الدرداء مع جرير رضي اللّه عنهم وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: تب، فقال: أتوب إلى اللّه ولا أتوب إلى محمد، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله، وقالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها في قصة الإفك: نحمد اللّه ولا نحمدك، فسرّه ذلك وقال لها أبو بكر لما نزل تحصينها وبراءتها: قومي فقبّلي رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: واللّه لا أفعل ولا أحمد إلاّ اللّه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: دعها يا أبا بكر، وفي لفظ آخر أنها قالت لأبي بكر: نحمد اللّه ولا نحمدك، ولا نحمد صاحبك، فلم ينكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك بل سرّه وأمر أباها بالكفّ عنها، وقد جعل اللّه تعالى من وصف الكافرين أنهم إذا ذكر اللّه وحده في شيء انقبضت قلوبهم، وإذا ذكر غيره فرحوا، وجعل من نعتهم أنهم إذا ذكر توحيده وإفراده عند شيء عصوا ذلك وكرهوه، وإذا أشرك غيره في ذلك صدقوا به فقال تعالى: (وَإذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر:45،وقال أيضاً: (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللّه وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) غافر:12، والكفر: التغطية، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) غافر:12، والشرك: الخلط، أن يخلط بذكره ذكر سواه، ثم قال: (فَالحُكْمُ للّهِ العَلِيِّ الكَبيرِ) غافر:12، يعني لا يشركه في حكمه خلق، لأنه العلي في عظمته، الكبير في سلطانه، لا شريك له في ملكه وعطائه ولا ظهير له من عباده، ففي دليل هذا الكلام وفهمه من الخطاب أنّ المؤمنين إذا ذكر اللّه تعالى بالتوحيد والإفراد في الشيء انشرحت صدورهم، واتسعت قلوبهم، واستبشروا بذكر اللّه تعالى وتوحيده، وإذا ذكرت الأواسط والأسباب التي دونه كرهوا ذلك واشمأزت قلوبهم؛ وهذه علامة صحيحة فاعرفها من قلبك ومن قلب غيرك لنستدلّ بها على حقيقة التوحيد في القلب، أو وجود خفيّ الشرك في النفس، إن كنت عارفاً، وينبغي أن يجعل صدقته من أجل ما يقدر عليه وأطيبه في نفسه وجهده، فإنّ اللّه طيّب لا يقبل إلاّ طيباً، وزكاء الصدقة ونماؤها عند اللّه تعالى على حسب حلّها ووضعها في الأخص الأفضل من أهلها، وينبغي أن يستصغر ما يعطي، فإن الاستكثار من العجب، والعجب يحبط الأعمال، قال اللّه تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) التوبة:25، ويقال: إنّ الطاعة كلما استصغرت كبرت عند اللّه تعالى، وإنّ المعصية كلما استعظمت صغرت عند اللّه تعالى.(2/32)
وعن بعض العلماء: لا يتمّ المعروف إلاّ بثلاث: تصغيره وتعجيله وستره، وقد كانوا يدفعون في الزكاة المئين، وفي التطوّع الألوف، وكانوا يصلون الفقير بما يخرجه من حدّ الفقر، ومن الحاجة و الضرّ إلى حدّ الكفاية والغنية، ويبقى لهم فضل، وعلى هذا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة ما أبقت غني؛ أي تكفي الفقير لوقته، ويبقى له غنية واستغناء لوقت ثانٍ تستقلّ به عن المسألة والتشرّف، فيكون كأنه عمل عملاً ثانياً للمعطي غير عمله الأول بالعطاء؛ وهذا أحد تأويل الخبر، وقد وصف اللّه تعالى أهل الحاجة بأوصاف خمسة فرقها في كتابه فقال سبحانه وتعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ المَحْرُوم) الذاريات:19، وقال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ) الحج:36، وقال عزّ وجلّ: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقيرَ) الحج:28، فأما السائل فهو الذي يسأل بكفه ويظهر السؤال بلسانه، وأما المحروم فهو المحارف الذي حارفه الرزق أي انحرف عنه، فقد حرمه، وقيل: هو الذي لا معلوم له ولا كسب، قد حرم التصرف والتعيش، وأما القانع فهو الذي يقعد في بيته ويقنع بما آتاه اللّه من غير طلب ولا تعرض، وقيل: إنّ القنوع هو وصف من أوصاف المسألة من غير إلحاف ولا إلحاح، وهو اسم من الأضداد يكون القنوع العفّة والكف ويكون المسألة، وأما المعتّر فهو الذي يعرض بالسؤال ولا يصرح تحمله الحاجة على التعريض، ويوقفه الحياء عن التصريح، وأما البائس فهو الذي به بؤس وشدة من مرض أو برد أو عضب و زمانة، ثم إنّ اللّه تعالى قد فضل بين الفقراء والمساكين فقال أهل العلم: الفقير الدي لا يسأل، والمسكين السائل، وقيل: الفقير المحارف وهو المحروم، والمسكين الذي به زمانة، واشتقاقه من السكون، أي فقد أسكنه الفقر لما سكنه وأقلّ حركته؛ وهذه أوصاف، يقال: قد تمسكن الرجل وسكن، كما يقال: تمدرع وتدرّع إذا لبس مدرعة، فكذلك الفقير إذا كانت المسألة لبسة له، وأهل اللغة مختلفون فيهما، قال بعضهم: المسكين أسوأ حالاً من الفقير لأن اللّه تعالى قال: (أَوْ مِسْكيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) البلد:16، فهو الذي لا شيء له، قد لصق بالتراب من الجهد، وذهب إلى هذا القول يعقوب بن السكيت ومال إليه يونس بن حبيب، وقال: قلت مرة لأعرابي: أفقير أنت؟ فقال: لا واللّه بل مسكين أسوأ حالاً من الفقير، وبعضهم يؤوله على غير هذا فيقول: ذا متربة من الغنى، يقال: أترب الرجل إذا استغنى فهو مترب من المال؛ أي قد كان مترباً غنياً من أهل النعم، ثم افتقر فهذا أفضل من أعطى.
وقال بعض أهل اللغة في قوله تعالى: ذا متربة، دليل أنّ المسكين أسوأ حالاً، قال: إنّ اللّه تعالى لما نعته بهذا خاصة علمت أنه ليس كل مسكين بهذا النعت، ألا ترى أنك إذا قلت: اشتريت ثوباً ذا علم نعته بهذا النعت، لأنه ليس كل ثوب له علم، فكذلك المسكين الأغلب عليه أن يكون له شيء، فلما كان هذا المسكين مخالفاً لسائر المساكين بين اللّه تعالى نعته؛ وبهذا المعنى استدل أهل العراق من الفقهاء أنّ اللمس هو الجماع بقوله تعالى: (فَلَمَسُوهُ بِأيْديهمْ) الأنعام:7، أنّ اللمس يكون بغير اليد وهو الجماع، فلما قال: بأيديهم خصّ به هذا المعنى فردّوه على من احتج به من علماء الحجاز في قولهم: اللمس باليد، وقال آخرون: بل الفقير أسوأ حالاً من المسكين، لأن المسكين، يكون له الشيء والفقير لا شيء له، قال اللّه تعالى في أصحاب السفينة: (فَكَانَتْ لِمَسَاكينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ) الكهف:69، فأخبر أنّ لهم سفينة وهي تساوي جملة وقالوا: سمي فقيراً لأنه نزعت فقرة من ظهره فانقطع صلبه من شدة الفقر فهو مأخوذ من فقار الظهر، ومال إلى هذا القول الأصمعي وهو عندي كذلك من قبل أنّ اللّه تعالى قدمه على الأصناف الثمانية التي جعل لهم الصدقة فبدأ به فدل على أنه هو الأحوج فالأحوج أو الأفضل فالأفضل، وقال قوم: الفقير هو الذي يعرف بفقره لظهور أمره، والمسكين هو الذي لا يفطن له ولا يؤبه به لتخفيه وتستّره، وقد جاءت السنّة بوصف هذا، في الخبر المروي: ليس المسكين الذي ترده الكسرة والكسرتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه.(2/33)
وقد قال بعض الحكماء في مثل هذا، وقد سئل: أي الأشياء أشدّ؟ فقال: فقير في صورة غني، وقيل لحكيم آخر: ما أشد الأشياء؟ قال: من ذهب ماله وبقيت عادته، وقال الفقهاء: المسكين الذي له سبب ويحتاج إلى أكثر منه لضيق مكسب أو وجود عيلة؛ فهذا أيضاً قد وردت السنّة بفقره، وذكر فضله في الحديث الذي جاء أنّ اللّه يحبّ الفقير المتعفف أبا العيال ويبغض السائل الملحف، وفي الخبر الآخر: أنّ اللّه تعالى يحبّ عبده المؤمن المحترف؛ وكل هذه الأقوال صحيحة، فالأفضل أن توضع الزكاة في الأحوج فالأحوج، والأفضل فالأفضل، من أهل العلم باللّه تعالى، وأهل المعاملة وأهل الدين للّه، المنقطعين عن أهل الدنيا، المشغولين بتجارة الآخرة عن تجارات الدنيا، ثم في ذي العيال بقدر عياله بمقدار غناه عن حاجاته، فيكون له بعددهم أجور أمثاله من المنفردين إذ هم جماعة، وقد كان عمر رضي اللّه عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها، وكذلك في السنّة، روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعطي العطاء على قدر العيلة، ويعطي المتأهل ضعف ما يعطي العزب، ويعطي كل رجل على قدر أهل بيته، وحدثنا عن بعض هذه الطائفة قال: صحبنا أقواماً كان برّهم لنا الألوف من الدراهم انقرضوا وجاء آخرون كان برّهم لنا المئين، ونحن بين قوم صلتهم لنا العشرات نخاف أن يجيء قوم شر من هؤلاء، وقال بعض السلف: رأينا قوماً ما كانوا يفعلون، ونخاف أن يجيء قوم يقولون ولا يفعلون، وإن اتفق ذو دين في عيلة من مساكين فذلك غنيمة المتقين، وذخيرة المنفقين، والمعروف في مثله واقع في حقيقته، وسئل ابن عمر عن جهد البلاء ما هو؟ فقال: كثرة العيال وقلة المال.
وقد جاء في الخبر: لا تأكل إلاّ طعام تقيّ ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ، لأن التقي تستعين به على البرّ والتقوى فيشركه في قصده، وفي الخبر أيضاً: أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين، وفي لفظ آخر: أضف بطعامك من تحبه للّه تعالى، وينبغي للموقن أن يكون يفرح ويُسرُّ بقبول معروفه من الأتقياء، لأن ذلك عمله، إن لم يقبله منه عارف باللّه تعالى وأحكامه، وقد ردّت عليه أعماله، فينبغي أن يحزن برّدها عليه إذ كان ذلك ردّاً من اللّه تعالى له، ومن وصل فقيراً بمعروف فردّه عليه فعظم الفقير في عينه فذلك يدل على جهل المعطي بربه، لأنه لو أخذها فأسقط منزلته عنده ثم أخرجها سرّاً إلى من هو أحوج إليها منه كان بذلك فاضلاً، ومن ردّ عليه فقير برّه فلم يحزنه ذلك أو سرّه، ذلك دل على ضعف نيته في الإخراج وقلة إخلاصه بمعروفه، لأن الصادق يسوءه ردّ معروفه إليه ويحزنه، وينبغي أن لا يتملك ذلك أنْ ردّه عليه بل يدفعه إلى فقير آخر، لأنه قد أخرجه للّه تعالى، فلا يرجع فيه، والفقراء شركاء في العطاء يردّ عليهم من بعضهم إلى بعض، وكذلك إن أخرج صدقة باسم فقير بعينه ليعطيه إياها فصادف غيره فذكر من هو أحوج منه أو أفضل ووافق طالباً إليه في حق عليه فلا بأس أن يدفعها إلى من يدفعها إلى الثاني ما لم تخرج عن يده، أو يكون قد وعده بها، وكذلك إن دفعها إلى من يدفعها إلى فقير بعينه ثم رأى من أثر في قلبه فأخرج منه فله أن يسترجعها من المأمور ويدفعها إليه، ما لم يكن قد نفدها أو أعلمه بها، وينبغي أن يستبشر بقبول العارفين معروفه، لأن ذلك قبول من اللّه تعالى لعلمه، إذ كان العارف باللّه تعالى وأيامه يتصرف عن اللّه تعالى في الأفعال، كما أنه ينطق عنه في المقال، وليس قبوله منه كقبول غيره ولا ردّه عليه كردّ غيره، إذ كان الشاهد فيه من اللّه سبحانه أقوى وأعلى من الشاهد في غيره ولما هو إلى التوفيق والعصمة أقرب مما سواه من الفقراء.(2/34)
حدثني بعض إخواني: أنّ فقيراً بمكة ردّ على بعض الأغنياء معروفه فأخذ يبكي، فقال: أليس هذا عملي قد ردّ عليّ؟ قيل له: فإن غيره يقبله، فقال: من أين لي مثل هذه العين؟ وهذا كما قال، لأن المؤمن ينظر بعين اليقين ونور اللّه تعالى، فردّه عن اللّه تعالى، كما قال تعالى: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) هود:17، والجاهل يتصرف بهواه عن نفسه فردّه كقبوله، لأنه يأخذه لنفسه، ويرد بنفسه، والعارف إن أخذ فبرب، وإن ردّ فعن ربّ تعالى، وليزدد في عينه من قبل منه معروفه نبلاً وجلالة، ويعظم في عينه محبة ومهابة، لأنه قد أعانه على برّه وتقواه، وأكرمه بقبول جدواه، فليشهد ذلك نعمة من اللّه تعالى وإحساناً منه إليه، وعلى العبد أن يجتهد في طلب الأتقياء وذوي الحاجة من الفقراء ويبلغ غاية علمه بذلك، فإن قصر علمه ولم تنفذ فراسته ومعرفته في الخصوص استعان بعلم من هو أعلم منه، وأنفذ نظر، أو أعرف بالصالحين وأهل الخير منه، ممن يوثق بدينه وأمانته من علماء الآخرة، لا من علماء الدنيا، وعلماء الآخرة هم الزاهدون في الدنيا، الورعون عن التكاثر منها، فإن حبّ الدنيا غامض قد هلك فيه خلق كثير لم ينج منه إلا العلماء، ولم يسلم من الدنيا إلاّ المتحققون بالعلم واليقين؛ وهم المتقللون من الدنيا، وقد قال اللّه تعالى: (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) البقرة:265، أي يقيناً، يعني أنهم يتثبتون في صدقاتهم أن لا يضعوها إلاّ في يقين يستروح إليه القلب وتطمئن به النفس، وقد كان بعض العلماء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له: لو عممت بمعروفك جميع الفقراء؟ فقال: لا أفعل بل أؤثر هؤلاء على غيرهم، قيل: ولم؟ قال: لأن هؤلاء همهم اللّه سبحانه وتعالى، فإذا طرقتهم فاقة تشتت همّ أحدهم فلأن أردّ همة واحد إلى اللّه تعالى أحبّ إليّ من أن أعطي ألفاً من غيرهم ممن همّه الدنيا، فذكر هذا الكلام لأبي القاسم الجنيد فاستحسنه، وقال: هذا كلام وليّ من أولياء اللّه تعالى، ثم قال: ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا، وبلغني أنّ هذا الرجل اختل حاله في أمر الدنيا حتى همّ بترك الحانوت فوجه إليه الجنيد بمال كان صرف إليه فقال: اجعل هذا في بضاعتك ولا تترك الحانوت، فإنّ التجارة لا تضرّ مثلك، ويقال: إنّ هذا الرجل كان بقّالاً ولم يكن يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه، وأما ابن المبارك رحمه اللّه تعالى فإنه كان يجعل معروفه في أهل العلم خاصة، فقيل له: لو عممت به غيرهم، فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء، فإذا اشتغل قلب العالم بالحاجة أو العيلة لم يتفرغ للعلم، ولا يقبل على تعليم الناس، فرأيت أن أعينهم وأكفيهم حاجاتهم لتفرغ قلوبهم للعلم، وينشطوا لتعليم الناس؛ هذا طريق السلف الصالح، والتوفيق من اللّّه تعالى للعبد في وضع صدقته في الأفضل كالتوفيق منه إطعام الحلال الذي في غيبه يوفقه لأوليائه ويستخرجه لهم من علمه كيف شاء بقدرته.
شرح رابع ما بني الإسلام عليه: وهو
الصيام
ذكر فرائض الصيام
اعتقاد الصوم إيجاباً للّه تعالى عليه وقربة منه إليه، وإخلاصاً به له، وسقوط فرض عنه، وأن يجتنب الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر الثاني، وأن يتم الصيام إلى سقوط قرص الشمس، وأن لا ينوي في تضاعيف النهار الخروج من الصوم.
ذكر فضائل الصوم ووصف الصائمين(2/35)
صوم الخصوص حفظ الجوارح الست: غضّ البصر عن الاتساع في النظر، وصون السمع عن الإصغاء إلى محرم، أو الوزر، أو القعود، مع أهل الباطل، وحفظ اللسان عن الخوض فيما لا يعني جملة مما إن كتب عنه كان عليه وإن حفظ له لم يكن له، ومراعاة القلب بعكوف الهمّ عليه، وقطع الخواطر والأفكار التي كفّ عن فعلها، وترك التمني الذي لا يجدي، وكفّ اليد عن البطش إلى محرم من مكسب أو فاحشة، وحبس الرجل عن السعي فيما لم يؤمر به ولم يندب إليه من غير أعمال البرّ، فمن صام تطوّعاً بهذه الجوارح الست وأفطر بجارحتين: الأكل والشرب والجماع؛ فهو عند اللّه تعالى من الصائمين في الفضل لأنه من الموقنين الحافظين للحدود، ومن أفطر بهذه الست أو ببعضها وصام بجارحتين: البطن والفرج، فما ضيع أكثر مما حفظ؛ فهذا مفطر عند العلماء صائم عند نفسه، وقد قال أبو الدرداء: أيا حبذا نوم الأكياس كيف يعيبون قيام الحمقى وصومهم، ولذرّة من تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، ومثل من صام عن الأكل وأفطر بمخالفة الأمر مثل مسح كل عضو، فصلاته مردودة عليه لجهله، ومثل من أفطر بالأكل والجماع وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كل عضو مرة واحدة وصلّى، فهو تارك للفضل في العدد إلاّ أنه مكمل للرضى بحسن العمل، فصلاته متقبلة لأحكامه للأصل وهو مفطر للسعة صائم في الفضل، ومثل من صام من الأكل والجماع وصام بجوارحه الست عن الآثام، كمثل من غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، فقد جمع الفرض والفضل وأكمل الأمر والندب؛ فهو من المحسنين، وعند العلماء من الصائمين، وهذا صوم الممدوحين في الكتاب الموصوفين بالذكر من أولي الألباب، ومن فضائل الصوم أن يجتنب من حظوظ هذه الجوارح الشبهات من الأشياء وفضول الحلال، ويرفض الشهوات الداعية إلى العادات، ولا يفطر إلاّ على حلال متقلّلاً منه، فبذلك يزكو الصيام، ولا يقبل امرأته في صومه ولا يباشرها بظاهر جسمه فإن ذلك إن لم يبطل صومه فإنه ينقصه وتركه أفضل، إلاّ لقوي متمكن مالك لأربه، وليقل نومه بالنهار ليعقل صومه بعمارة الأذكار، وليجد مسّ جوعه وعطشه، وقد كانوا يتسحرون بالتمرتين والثلاث وبالحبات من الزبيب والجرعة من الماء، ومنهم من كان يقضم من شعير دابته التماساً لبركة السحور، وليكثر ذكر اللّه تعالى، وليقلل ذكر الخلق بلسانه، ويسقط الاهتمام بهم عن قلبه؛ فذلك أزكى لصومه، ولا يجادل ولا يخاصم وإن شتم أو ضرب لم يكافئ على ذلك لأجل حرمة الصوم ولا يهتم لعشائه قبل محل وقته، يقال: إنّ الصائم إذا اهتم بعشائه قبل محل وقته أو من أول النهار كتبت عليه خطيئة وليرض باليسير مما قسم له أن يفطر عليه ويشكر اللّه تعالى عزّ وجلّ كثيراً عليه.
ومن فضائل الصيام التقلّل من الطعام والشراب، وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وليفطر على رطب إن كان وإلاّ على تمر إن وجد فإنه بركة، أو على شربة من ماء فإنه ظهور.(2/36)
هكذا روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يفطر على جرعة من ماء، أو مذقة من لبن، أو تمرات قبل أن يصلي، وفي الخبر: كم من صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش قيل: هو الذي يجوع بالنهار ويفطر على حرام، وقيل: هو الذي يصوم عن الحلال من الطعام ويفطر بالغيبة من لحوم الناس، وقيل: هو الذي لا يغضّ بصره ولا يحفظ لسانه عن الآثام ويقال: إنّ العبد إذا كذب، أو اغتاب، أو سعى في معصية في ساعة من صومه، خرق صومه، وإنّ صوم يوم يلفق له في صيام أيام حتى يتمّ بها صوم يوم ساعة ساعة، وفي الحديث: الصوم جنة ما لم يخرقها بكذب أو غيبة، وكانوا يقولون: الغيبة تفطر الصائم، وقد كانوا يتوضؤون من أذى المسلم، وروي عن جماعة في الوضوء مما مسّت النار: لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحبّ إليّ من أن أتوضأ من طعام طيّب، وروي عن بشر بن الحرث عن سفيان: من اغتاب فسد صومه، وروينا عن ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصوم: الغيبة والكذب، وروي عن جابر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة، ويقال: إنّ من الناس من يكمل له صوم رمضان واحد في عشر رمضانات، وفي عشرين، مثل سائر الفرائض من الصلاة والزكاة التي يحاسب عليها العبد، فإن وجدت كاملة وإلاّ تممت من سائر تطوعه، ويقال: إنّ العبد يصحّ له صوم في خمسة أيام كما يصحّ له صلاة واحدة بخمس صلوات ترفع له الأوقات، وفي الخبر: من اغتاب خرق صومه فليرقع صومه بالاستغفار، ويقال: إنّ اللّه تعالى لم يفترض شيئاً فرضي بدونه، وأنه يطالب بما فرضه ويحاسب على ما أوجبه وعفو اللّه سبحانه وتعالى يأتي على كثير من الذنوب، والمراد من الصيام مجانبة الآثام لا الجوع والعطش، كما ذكرناه من أمر الصلاة أنّ المراد بها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من لم يترك قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يترك طعامه وشرابه.
شرح خامس ما بني الإسلام عليه:
الحج
بالحج كمال الشريعة وتمام الملة
ذكر فرائض الحج(2/37)
قال اللّه تعالى:(وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً) آل عمران: 97، وفسّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة، فإذا وجد العبد زاداً وراحلة لزمه فرض الحج، فإن أخرّه بعد وجود ذلك كان مكروهاً، فإن مات ولم يحج، أو مات على عدم الإمكان بعد وجوده، كان عاصياً للّه تعالى من حين أمكنه إلى يوم موته، ولم يكن كامل الإسلام، لأن اللّه تعالى أكمل الإسلام بالحجّ لما أنزل هذه الآية في الحج يوم عرفة (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) المائدة:3، وفي الخبر: من لم يمنعه من الحج مرض قاطع أو سلطان جائر ومات ولم يحجّ فلا يبالي مات يهوديًّا أو نصرانيّاً، وقال عمر: لقد هممت أن أكتب إلى الأمصار بضرب الجزية على من لم يحجّ ممن يستطيع إليه سبيلاً، وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس: لو علمت رجلاً غنيّاً وجب عليه الحجّ ثم مات قبل أن يحجّ ما صليت عليه، وبعضهم كان له جار موسر فمات قبل أن يحجّ فلم يصلِّ عليه، وكان ابن عباس يقول: من مات ولم يزك ولم يحج: سأل الرجعة إلى الدنيا، وكان يفسرّه في هذ الآية قال: (رَبِّ أَرْجعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت) المؤمنون:99 - 100 قال: أحجّ ومثله فيقول: (رَبِّ لَوْلاَ أخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) المنافقون:10 قال: أزكي وأحجّ، وكان يقول هذه الآية، أشد شيء على أهل التوحيد ومن كان ذا قوة على المشي أو ممن يصلح له أن يؤجّر نفسه وأمن التهلكة في خروجه فحجّ على ذلك كان فاضلاً في فعله، وللحاج الماشي بكل قدم يخطوها سبعمائة حسنة، وللراكب بكل خطوة تخطوها دابته سبعون حسنة، والقوّة على المشي من الاستطاعة عند بعض العلماء، فأما فرائض الحجّ عند جملة العلماء فستة اختلفوا منها في ثلاث وهنّ: السعي، والبيتوتة بمزدلفة عند المشعر ليلة النحر، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، وأجمعوا على ثلاث وهنّ: الإحرام به، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، ولم يختلفوا في أنّ ما سوى هذه سنّة واستحباب، ومذهبي في هذا وهو مذهب الأكثر من العلماء أنّ فرائض الحج أربعة: أولها الإحرام به والوقوف بعرفة بعد زوال الشمس من يوم عرفة، وآخر حدّ الوقوف قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وطواف الزيارة بعد الوقوف بعرفة بعد رمي جمرة العقبة، والسعي بين الصفا والمروة بعد الإحرام بالحج إن شئت قبل الوقوف بعرفة وإن شئت بعده، وما سوى ذلك من المناسك فمسنون ومستحبّ، وبعضه أوكد من بعض، وفي ترك بعضه كفارة وفي بعضه لا حرج فيه، وطواف الحج ثلاثة: واحد فريضة إن تركه بطل حجه وهو طواف الزيارة، وواحد سنة إن تركه كان عليه دم وحجه تام وهو طواف الوداع، وواحد مستحبّ إن تركه فلا شيء عليه وهو طواف الورود، ولم نذكر من فرائض الحج وأحكامه وهيئاته في هذا الباب إلاّ قوت الأعمال، مثل ما ذكرناه من سائر الأبواب في هذا الكتاب، على ما يليق بيانه للمعنى الذي قصدناه فيه، وقد أشبعنا أحكام الحج وما يقال في المشاعر في كتاب مناسك الحج المفرد.
ذكر فضائل الحج وآدابه
وهيئاته وفضائل الحجاج وطريق السلف السالكين للمنهاج(2/38)
قال اللّه سبحانه وتعالى: (أالحَجُّ أَشْهُرٌ مَعلُومَاتٌ َُمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ) البقرة: 196، يعني من أوجبه على نفسه في هذه الأشهر فأحرم به وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، الرفث اسم جامع لكل لغوٍ وخني وفجر من الكلام ومغازلة النساء ومداعبتهن والتحدث في شأن الجماع، والفسوق جمع فسق وهو اسم جامع لكل خروج من طاعة ولكل تعدّي حدّ من حدود اللّه تعالى، والجدال وصف مبالغ للخصومة والمراء فيما يورث الضغائن وفيما لا نفع فيه؛ فهذه ثلاثة أسماء جامعة مختصرة لهذه المعاني المثبتة أمر اللّّه تعالى بتنزيه شعائره ومناسكه منها لأنها مشتملة على الآثام وهنّ أصول الخطايا والإجرام، والحجّ في اللغة هو القصد إلى من يعظم، وكانت العرب تقول نحجّ إلى النعمان أي نقصده تعظيماً له وتعزيزاً، فينبغي أن يكون الحاجّ معظّماً لمن قصده بالحجّ ليتحقق بمعنى هذا الاسم، والحجّ أيضاً سلوك الطريق الواضح الذي يخرج إلى البغية ويوقف على المنفعة واشتقاقه من المحجّة بمنزلة النسك، وهو اسم للطريق مشتقّ من المنسك، وهو من أسماء الطريق وإن كان أصله المذيح ومنه سمي الناسك لأنه سالك لطريق الآخرة، فأول فضائل الحجّ حقيقة الإخلاص به لوجه اللّه تعالى، وأن تكون النفقة حلالاً واليد فارغة من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم، ويكون الهمّ مجرّداً والقلب ساكناً مطمئناً مملوءاً بالذكر فارغاً من الهوى ناظراً أمامه غير ملتفت إلى ورائه، وصحة القصد بحسن الصدق ثم طيب النفس بالبذل والإنفاق والتوسع في النفقة والزاد وبذل ذلك، لأنّ النفقة في الحجّ بمنزلة النفقة في سبيل اللّه تعالى؛ الدرهم بسبعمائة درهم، والحجّ من سبيل اللّّه، روي ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر وغيره: من كرم الرجل طيب زاده في سفره، وكان يقول: أفضل الحجاج أخلصهم نية وأزكاهم نفقة وأحسنهم يقيناً، وفي حديث ابن المنكدرعن جابر عن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم: الحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة، وقال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما برّ الحجّ، قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، ويقال: إنّما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وبعضهم يقول يسفر عن صفات النفس وجوهرها إذ ليس كل من حسنت صحبته في الحضر حسنت صحبته في السفر، وقال رجل لآخر: إنه يعرفه، فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: ما أراك تعرفه، ولا يجادل ولا يخاصم ولا يكثر المراء ولا يرفث بلسانه.
وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من رفث فسد حجّه، وليتعلّم أحكام المناسك ومعالم الحجّ وهيئاته وآداب المشاهد قبل الخروج، وليكن ذلك أهمّ شيء إليه وليقدّمه على جميع أسباب السفر، فإن هذا هو المقصود والبغية فلا يتأبن عنه، وليعد له رفيقاً صالحاً عالماً محبّاً للخير معيناً عليه، إن نسي ذكره، وإنْ ذكر أعانه، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه، وإن أساء ظنه وضاق صدره وسّع صدره وصبره وحسن ظنه ولا يخالف رفيقه ولا يكثر الاعتراض عليه، وليحسن خلقه مع جميع الناس، ويلين جانبه ويخفض جناحه، ويكف أذاه عن الخلق، ويحتمل أذاهم؛ فبهذه المعاني يفضل الحج وإن يحج على رحْل أو زاملة فإن ذلك حج المتّقين وطريق السلف، يقال: حجّ الأبرار على الرحال، وحدث سفيان الثوري عن أبيه قال: برزت من الكوفة إلى القادسية للحجّ، ووافيت الرفاق من البلدان فرأيت الحاج كلهم على زوامل وجوالقات ورواحل، وما رأيت في جميعهم إلاّ محملين، وقال مجاهد لابن عمر وقد دخلت القوافل: ما أكثر الحجاج، فقال: ما أقلّهم، ولكن قل: ما أكثر الراكب، قال: وكان ابن عمر إذا نظر إلى ما أحدث الحاج من الزوامل والمحامل يقول: الحاج قليل والركب كثير، ثم نظر إلى رجل مسكين رثّ الهيئة تحته جوالق فقال: هذا نعم الحاج، فينبغي أن يكون رثّ الهيئة، خفيف المؤونة، متقلّلاً من كل شيء، لا يحمل معه من الزاد إلاّ ما لا بدّ له منه مما يحتاج إليه، ولا يسرف في المبالغة والتناهي فيه، ولا يقتر، ولا يضيق على نفسه ورفيقه، بل يستعمل الاقتصار في كل شيء والكفاية، ويجتنب من الزي الحمرة فإن ذلك مكروه.(2/39)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في سفر، فنزل أصحابه منزلاً، فسرحت الإبل، فنظر إلى أكسية حمر على الأقتاب فقال: أرى هذه الحمرة قد غلبت عليكم، قال: فقمنا نتساعى حتى نزعناها عن ظهورها حتى شرد بعض الإبل، ثم ليجتنب من الزي الشهرة، وكل منظور إليه من الأثاث، ولا يتشبّه بالمترفين ولا بأهل الدنيا من أهل التفاخر والتكاثر فيكتب من المتكبرين، ولا يكثر التنعّم والرفاهة فإن ذلك غير مستحبّ في سبيل اللّه تعالى، لأن المشقّة والظمأ والمخمصة والأواء كلما كثر في سبيل اللّّه كان أفضل وأثوب، حجّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على راحلة وكان تحته رحل رثّ وقطيفة خلقة قيمته أربعة دراهم، وطاف على الراحلة لينظر الناس إليه ويهتدوا بشمائله، وقال عليه الصلاة والسلام خذوا عني مناسككم، وكان يقول: لبيك اللهم لبيك، حجّاً لا رياء فيه ولا سمعة، وقال: لبيك، أنّ العيش عيش الآخرة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالشعث والاختفاء، ونهى عن التنعّم والرفاهة، في حديث فضالة بن عبيد، وفي الخبر: إنما الحاج الشعث التفل، يقول اللّه تعالى لملائكته: انظروا إلى زوّار بيتي قد جاؤوني شعثاً غبراً من كل فجّ عميق، وقال اللّه عزّ وجلّ: (ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ) الحج:29، التفث الشعث والأغبار، وقضاؤه حلق الرأس وقص الأظافر، وكتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: اخلولقوا واخشوشنوا أي البسوا الخلقان واستعملوا الخشونة من الأشياء، وبعض أصحاب الحديث يصف هذه الحروف يقول: احلقوا من الحلق، ولا يجوز أن يأمرهم بإسقاط سنة كيف، وقد قال لصبيغ حين توسّم في مذهب الخوارج: اكشف رأسك، فرآه ذا ضفيرتين فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك، ولينح مثال أهل اليمن في الزي والأثاث، فإن الاقتداء بهم والاتباع لشمائلهم في الحجّ طريقة السلف على ذلك الهدى والوصف، كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما عدا وصفهم وخالف هديهم، فهو محدث ومبتدع، ولهذا المعنى قيل: زين الحجيج أهل اليمن لأنهم على منهاج الصحابة وطريقة السلف، وقيل في مدحهم بالتقلّل والانفراد: لا يغلون سعراً ولا يضيقون طريقاً، وقد كان العلماء قديماً إذا نظروا إلى المترفين قد خرجوا إلى مكة يقولون: لا تقولوا خرج فلان حاجّاً، ولكن قولوا: خرج مسافراً، ويقال: إنّ هذه المحامل والقباب أحدثها الحجاج بن يوسف، فركب الناس سنتّه، وقد كان العلماء في وقته ينكرونها ويكرهون الركوب فيها، وأخاف أنّ بعض ما يكون من تماوت الإبل يكون ذلك سببه لثقل ما يحمل، ولعله عدل أربعة أنفس وزيادة مع طول الشقة وقلة الطعم، وينبغي أن يقلّل من نومه على الدابة، فإنه يقال: إنّ النائم يثقل على البعير، وقد كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلاّ من قعود يغفون غفوة بعد غفوة، وكانوا أيضاً لا يقفون عليها الوقوف الطويل لأن ذلك يشق عليها.(2/40)
وفي الحديث: لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي، ولا يحمل على الدابة المكتراة إلاّ ما قاضى عليه الجمال أو ما أعلمه به، وقال رجل لابن المبارك: احمل لي هذا الكتاب معك، فقال: حتى أستأمر الجمال، فإني قد اكتريت، ولينزل عن دابته غدوة وعشية يروحها بذلك، ففيه سنّة وآثار عن السلف، وقد كان بعض السلف يكتري لازماً ويشترط أن لا ينزل، ثم إنه ينزل للرواح ليكون ما رفه عن الدابة من حسناته محتسباً له في ميزانه، وبعض علماء الظاهر يقول: إنّ الحج راكباً أفضل لما فيه من الإنفاق والمؤونة، ولأنه أبعد لضجر النفس، وأقل لأذاه وأقرب لسلامته وتمام حجه، فهذا عندي بمنزلة الإفطار يكون أفضل إذا ساء عليه خلقه، وضاق به ذرعه، وكثر عليه ضجره، لأن حسن الخلق وانشراح الصدر أفضل، وقد يكون كذلك لبعض الناس دون بعض ممن يكون حاله الضجر ووصفه التسخط وقلة الصبر، أو لم يمكن المشي، وسألت بعض فقهائنا بمكة وكان ورعاً عن تلك العمر التي تعتمر من مكة إلى التنعيم، وهو الذي يقال له مسجد عائشة، وهو ميقاتنا للعمرة في طول السنة أي ذلك أفضل المشي في العمرة، أو يكتري حماراً بدرهم يعتمر عليه فيقال: يختلف ذلك على قدر شدته على الناس، فإن كان إنفاق الدرهم أشدّ عليه من المشي فالاكتراء أفضل لما فيه من إكراه النفس عليه وشدته عليها، ومن كان المشي عليه أشق فالمشي أفضل لما فيه من المشقة،ثم قال: هذا يختلف لاختلاف أحوال الناس من أهل الرفاهية والنعمة، فيكون المشي عليهما أشد، وعندي أنّ الاعتمار ماشياً أفضل، وكذلك الحج ماشياً لمن أطاق المشي ولم يتضجر به وكان له همة وقلب، وقد روينا في خبر من طريق أهل البيت: إذا كان في آخر الزمان خرج الناس للحج أربعة أصناف؛ سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمعة، ويكره أخذ الأجرة على الحجّ فيجعل نصيبه وعناه لغيره ملتمساً عرض الدنيا، وقد كره ذلك بعض العلماء، ولأنه من أعمال الآخرة ويتقرّب به إلى اللّه، يجري مجرى الصلاة والأذان والجهاد فلا يأخذ على ذلك أجراً إلاّ في الآخرة، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: واتخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً، وسئل عن رجل خرج مجاهد فأخذ ثلاثة دنانير فقال: ليس له من دنياه وآخرته إلاّ ما أخذ، فإن كان نية عبد الآخرة أو همته المجاورة واضطر إلى ذلك، فإن اللّه تعالى قد يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا، رجوت أن يسعه ذلك، وفي الخبر: يؤجر على الحجة الواحدة ثلاثة ويدخلون الجنة: الموصي بها، والمنفذ للوصية، والحاجّ الذي يقيمها لأنه ينوي خلاص أخيه المسلم والقيام بفرضه، وقد جاء مثل المجاهد الذي يأخذ أجراً على جهاده مثل أم موسى يحلّ أجرها وترضع ولدها، هذا إذا كانت نيته الجهاد واحتاج إلى معونة عليه، كذلك من كانت نيته في حجه الآخرة، والتقرّب إلى اللّه تعالى بالطواف والعمرة بعد قضاء ما عليه، لم يضره أخذ أجرة على حجه إن شاء اللّه تعالى.(2/41)
ومن فضائل الحجّ أن لا يقوي أعداء اللّه الصادين عن المسجد الحرام بالمال، فإن المعونة والتقوية بالمال تضاهي المعونة بالنفس، والصدّ عن المسجد الحرام يكون بالمنع والإحصار، ويكون بطلب المال، فليحتل في التخلص من ذلك فإن بعض علمائنا كان يقول: ترك التنقل بالحجّ الرجوع عنه أفضل من تقوية الظالمين بالمال، لأن ذلك عنده دخيلة في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، وإقامة وإظهار لبدعة أحدثت من الآخذ والمعطي؛ وهذا كما قال لأنه جعل بدعة سنة ودخولاً في صغار وذلة ومعاونة على وزر أعظم في الحرم من تكلّف حجّ نافلة قد سقط فرضه كيف، وفي ذلك إدخال ذلة وصغار على الإسلام والمسلمين مضاهاة للجزية، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كل واحد من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فإن ترك المسلمون فاشدد لئلا يؤتى الإسلام من قبلك، وفي الخبر المشهور: المسلمون كرجل واحد ومثل المسلم من المسلمين كمثل الرأس من الجسد، يألم الجسد لما يألم الرأس ويألم الرأس لما يألم الجسد، وقد يترخص القائل في ذلك بتأويل أنه مضطر إليه، وليس كما يظن، لأنه لو رجع لما أخذ منه شيء، ولو خرج في زيّ المترفين مما أحدث من المحامل لما أخذ منه شيء، فقد زال الاضطرار وحصل منه بالطوع والشهوة الاختيار، لعل هذا الذنب عقوبة ما حّملوا على الإبل فوق طاقتها من البيوت المسقفة التي علوها عليها، كان البعير يحمل الرجل ورحله فجعلوه يحمل مقدار أربعة وزيادة، فأدى ذلك إلى تلفها، فهم مطالبون بقتلها، لأن من حمّل بعيراً فوق طوقه حوسب بذلك وطولب، أو لعلّه ذنب ما خرجوا به من التجارات وفضول الأسباب وشبهات الأموال أو لسوء النيات وفساد المقاصد، وروينا أنّ أبا الدرداء قال لبعير له في الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أكن أحمّلك فوق طاقتك، وقد يعاقب اللّه على الذنب بذنب مثله أو فوقه، وينبغي أن يكون في المشاعر والمناسك أشعث أغبر فإنه سنّة، ويكثر ذكر اللّه في طريقه وجميع مناسكه، ويذكر به الغافلين ويقل ذكر الناس ويلزم الصمت فيما لا يعنيه، ولا يتكلّف ما قد كفى، ولا يدخل فيما لم يكلف، وإن رأى موضعاً للمعروف أمر به أو منكراً نهى عنه، فهذه المعاني تضاعف أمر الحجّ وتفضل الحجاج واستحبّ أن يقرن بين حجة وعمرة من ميقاته لأن فيه إيجاب هدى يقربه وليكون جامعاً بين نسكين من ميقات بلده، ويكون قد أتى بالعمرة لأنها مقرونة بالحجّ في الكتاب، ولأن مذهب كثير من العلماء أنها فريضة كالحجّ، وجماعة من السلف كانوا يستحسنون الابتداء بالعمرة وتقديمها على الحجّ، منهم: الحسن وعطاء وابن سيرين والنخعي.(2/42)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما وأهل بهما معاً في حديث أنس، وقد حدثت عن شقيق بن سلمة عن الضبي بن معبد قال: أردت الغزو فأشار عليّ رجل من أهل العلم أن أبدأ بالحجّ فاستشرت رجلاً من أهل الفقه فأمرني أن أجمع بين حجّ وعمرة جميعاً، ففعلت، فأنشأت إليّ بهما حتى قدمنا على عمر فأخبرته بالذي فعلت، فقال: هديت لسنّة نبيّك وإن قدم العمرة فحجّ متمتعاً ثم أفرد الحجّ بعدها من عامه فهو أفضل؛ وهذا اختيار جماعة من العلماء، وإن حجّ مفرداً كما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحجّ فيما روينا عن عائشة وجابر، وإذا فرغ من حجه رجع إلى ميقات بلده فاعتمر من هناك فحسن، وقد قال اللّه عزّ وجلّ: وأتموا الحجّ والعمرة للّه فإفرادهما من إتمامهما؛ وهذا قول عمر وعثمان في الإتمام، وليطف لقرانه ويسع طوافين وسعيين ليخرج بذلك من اختلاف العلماء جمعهما أو فرّقهما، وليكثر العبد من التلبية في حال إحرامه فهي من أفضل الأذكار فيه، وليرفع بها صوته وإن قال في تلبيته: لبيك يا ذا المعارج، لبيك حجّاً حقّاً، تعبّداً ورقّاً، والرغباء إليك والعمل، فقد روي هذا عن الصحابة وإن اقتصر على تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحسن، وفيها كفاية وبلاغ وأحبّ أنّ يذبح وإن لم يجب عليه ويجتنب الأكل من يذبح ما كان واجباً عليه مثل نسك قران أو متعة أو كفارة، واستحب أن يأكل مما لم يكن عليه واجباً وليجتنب المعايب الثمانية في ذبيحته التي وردت بها الآثار، وكذلك في الأضحية فقد نهي أن يضحي بالجدعاء والعضباء والجرباء، ونهى عن الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة والعجفاء، التي لا تنقي، يعني المهزولة؛ وهذا جميع ما جاء في عيوب الأضاحي بأخبار متفرقة، فالجدع في الأنف والأذن، والقطع فيهما، والعضب الكسر في القرن، وفي نقصان القوائم، والجرباء من الجرب، والشرقاء المشقوقة الأذن من فوق، والخرقاء المشقوقة من أسفل، والمقابلة المخروقة الأذن من قدام، والمدابرة المخروقة من خلف، والتي لا تنقي المهزولة التي لا نقي لها؛ والنقي هو المخ وقد روينا في تفسير قوله تعالى ذلك: (وَمَنْ يُعظِّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) الحج: 32، قيل: تسمين الهدي وتحسينه، وأفضل الهدي بدنة، ثم بقرة، ثم كبش أقرن أبيض، ثم الثني من المعز، وإن ساق هديه من الميقات فهو أفضل من حيث لا يجهده ولا يكدّه، وقد كانوا يغالون بثلاث ويكرهون المكاس، فيهن الهدي والأضحية والرقبة، فإن أفضل ذلك أغلاه ثمناً وأنفسه عندأهله، وفي حديث ابن عمر أنّ عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً، فنهاه عن ذلك وقال: بل أهدها فهذه سنّة في تخيّر الهدى، وحسن الأدب في المعاملة، وترك الاستبدال بها طلباً للكثرة، لأن القليل الجيد خير من الكثير الدون، إنّ في ثلاثمائة دينار قيمة ثلاثين، فكان الخالص الحسن كافياً من الكثير المتقارب، وفي حديث ابن المنكدر عن جابر سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما برّ الحج؟ قال: العج والثج، فالعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج هو نحر البدن.(2/43)
وفي حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما عمل آدمي يوم النحر عملاً أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من إهراق دم، وأنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها فإن الدم ليقع من اللّه بمكان قبل أن يقع بالأرض، طيبوا بها نفساً، وفي الخبر: لكم بكل صوفة من شعرها وبكل قطرة من دمها حسنة، وأنها لتوضع في الميزان فأبشروا ولا يضحى بجذع إلا من الضأن فقط،وهو ما كان في آخر حوله، وبالثني من المعز والبقر والإبل، فالثني من المعز ما دخل في السنة الثانية، والثني من البقر ما دخل في الثالثة، والثني من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، وإن أحرم من بلده فقد قيل إنه من إتمام الحج والعمرة ومن عزائم الأعمال، روينا عن عمر وعلي وابن مسعود رضي اللّه عنهما: وأتموا الحج والعمرة للّه، قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولتكن حاضر القلب، مشاهد القرب عند المواطن المرجوّ فيها الإجابة، وفي المشاهد المبتغي منها المنفعة، كما قال اللّه سبحانه وتعالى: ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم اللّه على ما رزقهم، واستحبّ له أن يمشي في المشاعر من حين يخرج من مكة إلى أن يقف بعرفة، وإلى أن يرجع من طواف الزيارة إلى منى، ومن استحبّ للحاجّ الركوب فإنه يستحبّ له المشي إلى مكة في المناسك إلى انقضاء حجّه، ولأن عبد اللّه بن عباس أوصى بنيه عند موته فقال: يا بنيّ حجوا مشاة، فإن للحاج الماشي بكل قدم يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال الحسنة بمائة ألف وأوكد ما مشي فيه من المناسك وأفضله، من مسجد إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى الموقف، ومن الموقف إلى المزدلفة في الإفاضة، ومن المشعر الحرام غداة النحر إلى منى، وفي أيام رميه الجمار وصومه يوم عرفة فيه فضل إن قوي معه على الدعاء والتلبية ولم يقطعه الصوم عن ذلك، فإن أضعفه فالفطر أفضل، ولم يصمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعرفة ولا أبو بكر ولا عمر وصامه عثمان رضي اللّه عنه وعنهم، وليعتبر في طريقه وسيره بالآيات وما يرى من الحكمة والقدرة من تصريف الخلق، وما يحدث اللّه تبارك وتعالى في كل وقت فيكون له في كل شيء عبرة، ومن كل شيء موعظة، فإنه على مثال طريق الآخرة، وليكن له بكل شيء تذكرة، وفي كل شيء فطنة وتبصرة، ترده إلى اللّه تعالى، وتدله عليه، وتذكره به، ويشهده منها فيتفكر في أمره، ويستدلّ به على حكمته، ويشهد منه قدرته.
وسئل الحسن ما علامة الحجّ المبرور؟ فقال: أن يرجع العبد زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، وقيل في وصف الحج المبرور: هو كفّ الأذى، واحتمال الأذى، وحسن الصحبة، وبذل الزاد، ويقال: إنّ علامة قبول الحج ترك ما كان عليه العبد من المعاصي والاستبدال بإخوانه البطالين إخواناً صالحين وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة، فمن وفّق للعمل بما ذكرناه فهو علامة قبول حجه ودليل نظر اللّه إليه في قصده، ومن أصيب بمصيبة في نفسه وماله فهو من دلائل قبول حجه، فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل اللّه تعالى، الدرهم بسبعمائة، وبمثابة الشدائد في طريق الجهاد، وليستكثر من الطواف بالبيت، لأنه يستوعب بطواف أسبوع مائة وعشرين رحمة يكون بكل رحمة ما شاء اللّه، لأنه سبحانه يختصّ برحمته من يشاء، وأقل ماله بكل رحمة عشر حسنات، لأن في حديث عطاء عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ينزل اللّه على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرين رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين، وفي الحديث: استكثروا من الطواف بالبيت فإنه من أقل شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة، وأغبط عمل تجدونه، ولا تتحدث في طوافك، وعليك بكثرة ذكر اللّه سبحانه وتعالى من التسبيح والتهليل والحمد وتلاوة القرآن وامش بسكينة ووقار وخشوع وانكسار، ولا تزاحمنّ أحداً، واقرب من البيت ما أمكن، واستلم الركنين اليمانيين مع تقبيل الحجر في كل وتر من طوافك إن أمكن.(2/44)
وقد روينا في الخبر: من طاف بالبيت حافياً حاسراً كان له كعتق رقبة، ومن طاف أسبوعاً في المطر غفر له ما سلف من ذنوبه، روي ذلك عن الحسن بن علي قاله لأصحابه ورفعه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: واتق الهمة الردية والأفكار الدنية، فيقال: إنّ العبد يؤاخذ بالهمة في ذلك البلد، وعن ابن مسعود: ما من بلد يؤاخذ العبد فيه بالإرادة قبل العمل إلاّ بمكة، وقال أيضاً: لو همّ العبد أن يعمل سوءاً بمكة عاقبه اللّه تعالى، ثم تلا: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)؛ يعني أنه علق العذاب بالإرادة دون الفعل، ويقال: إنّ السيّئات تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، وإنّ السيّئات التي تكتسب هنالك لا تكفر إلاّ هناك، وكان ابن عباس يقول: الاحتكار بمكة من الإلحاد في الحرم، وقيل: الكذب فيه من الإلحاد، وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه، لأن أذنب سبعين ذنباً بركية أحبّ إليّ من أن أذنب ذنباً واحداً بمكة؛ وركية منزلة بين مكة والطائف، وقد كان الورعون من السلف منهم عبد اللّه بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما يضرب أحدهم فسطاطاً في الحرم وفسطاطاً في الحلّ، فإذا أراد أن يصلي أو يعمل شيئاً من الطاعات دخل فسطاط الحرم ليدرك فضل المسجد الحرام، لأن المسجد الحرام عندهم في جميع ما يذكر إنما هو الحرم كله، وإذا أراد أن يأكل أو يكلّم أهله أو يتغوّط خرج إلى فسطاط الحل، ويقال: إنّ آل الحجاج في سالف الدهر كانوا إذا قدموا مكة خلعوا نعالهم بذي طوي تعظيماً للحرم، وقد سمعنا من لم يكن يتغوّط ولا يبولّ في الحرم من المقيمين بمكة ورأينا بعضهم لا يتغوّط ولا يبول حتى يخرج إلى الحلّ تعظيماً لشعائر اللّه تعالى، وتنزيهاً لحرمه وأمنه، وأعمال البرّ كلها تضاعف بمكة، والحسنة بمائة ألف حسنة على مثال الصلاة في المسجد الحرام، روي معنى ذلك عن ابن عباس وأنس، وعن الحسن البصري: أنّ صوم يوم بمائة ألف وصدقة درهم بمائة ألف درهم، ويقال: إنّ طواف سبعة أسابيع يعدل عمرة، وإنّ ثلاث عمر تعدل حجة، وإنّ العمرة هي الحجة الصغرى؛ وهذا في دليل الخطاب من قوله تعالى: يوم الحج الأكبر، فدل أنّ الحج الأصغر هو العمرة، ومن العرب من يسمّي العمرة حجّاً، وفي الخبر: عمرة في رمضان تعدل حجة، فمن وفق للعمل بما ذكرناه فهو علامة قبول حجه ودليل نظر اللّه إليه في قصده.
ذكر فضائل الحج والحاجين لوجه اللّه(2/45)
روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفي حديث آخر: من خرج من بيته حاجاً أو معتمراً فمات أجري له أجر الحاج والمعتمر إلى يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين لم يعرض ولم يحاسب، وقيل له: أدخل الجنة، وروي في الخبر حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها، وحجة مبرورة ليس لها جزاء إلاّ الجنة، وفي الحديث: الحجاج والعمار وفد اللّه تعالى وزوّاره، إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوه استجيب لهم، وإن شفعوا شفعوا، وذكر بعضهم أنّ إبليس ظهر له في صورة شخص بعرفة، فإذا هو ناحل الجسم، مصفرّ اللون، باكي العين، مقصوم الظهر، فقال له: ما الذي أبكى عينك؟ فقال: خروج الحاج إليه بلا تجارة، أقول قصدوه أخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك، قال: فما الذي أنحل جسمك؟ قال: صهيل الخيل في سبيل اللّه تعالى، ولو كانت في سبيلي، كان أحبّ إليّ قال: فما الذي غيّر لونك؟ قال: تعاون الجماعة على الطاعة، ولو تعاونوا على المعصية كان أحبّ إليّ قال: فما الذي قصم ظهرك؟ قال: قول العبد أسألك حسن الخاتمة، أقول: يا ويلتي متى يعجب هذا بعمله؟ أخاف أن يكون قد، ولقي رجل ابن المبارك وقد أفاض من عرفة إلى مزدلفة فقال: من أعظم الناس جرماً يا أبا عبد الرحمن في هذا الوقت؟ فقال: من قال إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يغفر لهؤلاء، وقد روينا حديثاً مسنداً من طريق أهل البيت: أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة فظنّ أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يغفر له، ويقال إنّ من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها إلاّ الوقوف بعرفة، وقد رفعه جعفر بن محمد فاسنده، ويقال: إن اللّه عزّ وجلّ إذا غفر لعبد ذنباً في الموقف غفره لكل من أصابه في ذلك الموقف، وزعم بعض السلف: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف، وهو أفضل يوم في الدنيا، وفيه حجّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ولم يحج بعد نزول فرض الحج غيرها، وعليه نزلت هذه الآية وهو وافق بعرفة (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمْ الإسْلامَ ديناً) المائدة:3 وقال علماء أهل الكتاب: لو أنزلت علينا هذه الآية لجعلنا يومها عيداً، فقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: أشهد لقد أنزلت في يوم عيدين اثنين؛ يوم عرفة ويوم جمعة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة، وقد روينا في تفسير قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم؛ عن جماعة من السلف قال: غفر لهم وربّ الكعبة، وفي تفسير قوله تعالى: لأقعدن لهم صراطك المستقيم؛ قال: طريق مكة بصدهم عنه(2/46)
وروينا عن مجاهد وغيره من العلماء: دخل حديث أحدهما في الآخرة، كانوا يتلقون الحاج يدعون لهم قبل أن يتدنسوا ويقولون: تقبل اللّه منا ومنكم، وأنّ الحاج إذا قدموا مكة تلقتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل وصافحوا ركبان الحمير واعتنقوا المشاة اعتناقاً، وقال الحسن: من مات يعقب شهر رمضان، أو يعقب غرواً، أو يعقب حجّاً، مات شهيداً، وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه: الحاج مغفور له ولمن استغفر له شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول، وقد كان من سنة السلف أن يشيعوا الغزاة وأن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم، وفي الخبر: اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج. وحدثونا عن عليّ بن الموفق قال: حججت سنة فلما كان ليلة عرفة بتّ بمنى في مسجد الخيف، فرأيت في المنام كأنّ ملكين قد نزلا من السماء عليهما ثياب خضر فنادى أحدهما صاحبه: يا عبيد اللّه، فقال الآخر: لبيك يا عبد اللّه، قال: تدري كم حجّ بيت ربنا في هذه السنة؟ قال: لا أدري، قال: حجّ بيت ربنا ستمائة ألف، فتدري كم قبل منهم؟ قال: لا، قال: قبل منهم ستة أنفس، قال: ثم ارتفعا في الهواء فغابا عني فانتبهت فزعاً فاغتممت غمّاً شديداً وأهمني أمري فقلت: إذا قبل حجّ ست أنفس فأين أكون أنا في ستة أنفس؟ فلما أفضنا من عرفة وبت عند المشعر الحرام جعلت أفكر في كثرة الخلق وفي قلة من قبل منهم فحملني النوم، فإذا الشخصان قد نزلا من السماء على هيئتهما فنادى أحدهما: يا عبد اللّه، قال: لبيك يا عبد اللّه، قال: تدري كم حجّ بيت ربنا؟ قال: نعم ستمائة ألف، قال: فتدري كم قبل منهم؟ قال: نعم ستة أنفس، قال: فتدري ماذا حكم ربنا في هذه الليلة؟ قال: لا، قال: فإنه وهب لكل واحد من الستة مائة ألف، قال: فانتبهت وبي من السرور ما يجلّ من الوصف، ذكر في هذه القصة ستة ولم يذكر السابع؛ وهؤلاء هم الأبدال السبعة أوتاد الأرض المنظور إليهم كفاحاً، ثم ينظر إلى قلوب الأولياء من وراء قلوبهم، فأنوار هؤلاء عن نور الجلال وأنوار الأولياء من أنوارهم، وأنصبتهم وعلومهم من أنصبة هؤلاء وعلومهم، فلم يذكر السابع وهو قطب الأرض، والأبدال كلهم في ميزانه، ويقال إنه هو الذي يضاهي الخضر من هذه الأمة في الحال ويجاريه في العلم، وإنهما يتفاوضان العلم ويجد أحدهما المزيد من الآخرة، فإنما لم يذكر واللّه أعلم لأنه يوهب له من مات، ولم يحجّ من هذه الأمة لأنه أوسع جاهاً من جميعهم وأنفذ قولاً في الشفاعة من الجملة.
وقد روينا عن ابن الموفق قال: حججت سنة، فلما قضيت مناسكي تفكّرت فيمن لا يتقبل حجّه، فقلت: اللهم إني قد وهبت حجتي هذه وجعلت ثوابها لمن لا يتقبل حجّه، قال: فرأيت ربّ العزة في النوم، قال لي: يا علي تتسخّى عليّ وأنا خلقت السخاء وخلقت الأسخياء، وأنا أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحقّ بالجود والكرم من العالمين، وقد وهبت كل من لم يقبل حجّه لمن قبلته، وكان ابن الموفق هذا قد حجّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حججاً وقال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن الموفق حججت عني؟ قلت: نعم يارسول اللّه، قال: ولبيت عني؟ قلت: نعم، قال: فهذه يد لك عندي أكافئك بها يوم القيامة آخذ بيدك في الموقف فأدخلك الجنة والخلائق في كرب الحساب.
ذكر فضائل البيت الحرام وما جاء فيه(2/47)
في الخبر: أنّ اللّه تعالى وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا كملهم اللّه تعالى بالملائكة، وأنّ الكعبة تحشر كالعروس المزفوف وكل من حجّها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخون معها، وفي الخبر: أن الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة، وأنه يبعث يوم القيامة، وله عينان، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحقّ وصدق، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبه كثيراً، وروينا أنه سجد عليه وكان يطوف على الراحلة فيجعل المحجن عليه، ثم يقبل طرف المحجن، وقبله عمر ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك، ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت إلى ورائه فإذا عليّ، فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين بل هو يضرّ وينفع، قال: وكيف؟ قال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً، ثم ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء، ويشهد على الكافر بالجحود، قيل: فذلك معنى قول الناس عند الاستلام: اللّهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك يعنون هذا الكتاب والعهد، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول من تنشقّ عنه الأرض ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم آتي أهل مكة فأحشر بين الحرمين، وفي الخبر: أنّ آدم لما قضى مناسكه لقيته الملائكة فقالوا: برجحك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، وجاء في الخبر: أنّ اللّه تعالى ينظر في كل ليلة إلى أهل الأرض، فأول من ينظر إليه أهل الحرم وأول من ينظر إليه من أهل الحرم أهل المسجد الحرام، فمن رآه طائفاً غفر له، ومن رآه منهم مصلياً غفر له، ومن رآه نائماً مستقبل القبلة غفر له، وذكرت الصلاة بعبادان لأبي تراب النخشي فقال: نومة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة بعبادان، وكوشف بعض الأولياء قال: رأيت الثغور كلها تسجد لعبادان، ورأيت عبادان ساجدة لجدة، لأنها خزانة الحرم، وفرضة أهل المسجد الحرام، وكنت أنا بمكة سنة فأهمني الغلاء بها حتى ضقت ذرعاً به، فرأيت في النوم شخصين بين يديّ، يقول أحدهما للآخر: كل شيء في هذا البلد عزيز كأنه يعني الغلاء، فقال الآخر: الموضع عزيز فكل شيء فيه عزيز، فإن أردت أن ترخص الأشياء عليك فضّحها إلى شرف الموضع حتى ترخص.
ذكر من كره المقام بمكة(2/48)
كان سفيان الثوري يقول: واللّه ما أدري أي البلاد أسكن، فقيل له: خراسان، قال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة، قيل: الشام، قال يشار إليك بالأصابع، قيل: فالعراق، قال: بلدة الجبابرة، قيل: مكة، قال: تذيب الكيس والبدن، وقال رجل للثوري: قد عزمت على المجاورة بمكة فأوصني، قال: أوصيك بثلاث؛ لا تصلّين في الصف الأول، ولا تصبحن قرشياً، ولا تظهرن صدقة، إنما كره له الصلاة في الصف الأول لأنه يفتقد فيسأل عنه إذا غاب فيشتهر ويعرف إذا واظب، فيجب أن يرب الحال بلزوم الموضع، فيذهب الإخلاص ويحصل التزيّن والتصنّع، وجاء رجل إلى سفيان بمكة فسأله فقال: أرسل معي رجل بمال فقال: ضعه في سدانة الكعبة، أو قال: في سدنة الكعبة، فما ترى؟ قال سفيان: قد جهل فيما أمرك به، وإنّ الكعبة لغنية عن ذلك، قال: فما ترى؟ قال: أصرفه للفقراء والأرامل، وإياك وبني فلان فإنهم سراق الحاج، وقد كان بعض السلف يكره المجاورة بمكة ويحبّ قصد البيت للحجّ والخروج منه، إما لأجل الشوق إليه أو خشية الخطايا فيه، أو حبّاً للعود، وقد قال اللّه تعالى: (وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) البقرة:125، أي يثوبون إليه يعودون مرة بعد مرة ولا يقضون منه وطراً وكان بعضهم يقول تكون في بلد وقلبك مشتاق متعلق بهذا البيت، خير لك من أن تكون فيه وأنت متبرم بمقامك أو قلبك متعلّق إلى بلد غيره، وروى ابن عيينة عن الشعبي: لأن أقيم بحمام أعين أحب إلي من أن أقيم بمكة، قال سفيان يعني إعظاماً لها وتوقيتاً عن الذنب فيها وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه يضرب الحجاج إذا حجوا ويقول: يا أهل اليمن يمنكم ويا أهل الشام شامكم ويا أهل العراق عراقكم، وكان ابن عباس يقول: أجور بيوت مكة حرام ولا تقوم الساعة حتى يستحل الناس اثنتين إتيان النساء في أدبارهن وأجور بيوت مكة، وكان الثوري وبشر وجماعة من الفقهاء وأهل الورع يكرهون أن يدفع الرجل كراء بيت مكة، حتى قال الثوري: إذا طالبوك ولم يكن لك بدّ من أن تعطيهم فخذ لهم من البيت قيمة ما أخذوا منك، وقال بعض السلف من رجل بأرض خراسان أقرب إلى هذا البيت ممن يطوف به ويقال إن للّه عباداً تطوف هم الكعبة تقرّباً إلى اللّه عزّ وجلّ، وحدثني شيخ لنا عن أبي علي الكرماني شيخنا بمكة وكان من الأبدال إلا أني سمعت هذه الحكاية منه، قال: سمعته يقول: رأيت الكعبة ذات ليلة تطوف بشخص من المؤمنين، وقال لي هذا الشيخ: ربما نظرت إلى السماء واقعة على سطح الكعبة قد ماستها الكعبة ولزقت بها وأكثر الأبدال في أرض الهند والزنج وبلاد الكفرة، ويقال لا تغرب الشمس من يوم إلا يطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ولا يرون لها أثراً وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ثم يرفع القرآن من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا تذكر منه كلمة ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية ثم يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب يتوقع ولادتها.
روينا عن وهيب بن الورد المكي قال كنت ذات ليلة أصلي في الحجر فسمعت كلاماً بين الكعبة والأستار يقول إلى اللّه تعالى أشكو ثم إليك يا جبريل ما ألقى من الطائفين حولي تفكههم في الحديث ولغوهم ولهوهم لئن لم ينتهوا من ذلك لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر مني إلى الجبل الذي قطع منه، وفي الخبر لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والمقام، وروي أن الحبشة يغزون الكعبة فيكون أولهم عند الحجر الأسود وآخرهم على ساحل البحر بجدة فينقضونها حجراً حجراً يناول بعضهم بعضاً حتى يرمونها في البحر وكذلك يذكر عن بعض الصحابة وقراء الكتب السالفة كأني أنظر حبشياً أصلع أجدع قائماً عليها يعني الكعبة هدمها بمعوله حجراً حجراً، وفي الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة ورفعه الذي ذكرناه يكون بعد هدمه لأنه بيني من ذي قبل حتى يعود إلى مثل حاله ويحج مراراً ثم يرفع بعد ذلك.(2/49)
وروينا في حديث أبي رافع عن عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللّه تعالى: إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتي فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره، وليس بعد مكة مكان أفضل من مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأعمال فيها مضاعفة، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام، وكذلك قيل: إنّ فضل الأعمال بالمدينة كفضل الصلاة، كل عمل بألف عمل، وبعد ذلك الأرض المقدسة فإن فضل الصلاة فيها بخمسمائة صلاة، وكل عمل يضاعف بخمسمائة مثله، روينا عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجد المدينة بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة، ثم يستوي الأرض بعد ذلك فلا يبقى مندوب إليه مقصود لفضل دلّ الشرع عليه، كما جاء في الخبر: لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى، وبعد ذلك فأي موضع صلح فيه قلبك، وسلم لك دينك، واستقام فيه حالك؛ فهو أفضل المواضع لك، وقد جاء في الخبر: البلاد بلاد اللّه تعالى، والخلق عباده، فأي موضع رأيت فيه رفقاً، فأقم واحمد اللّه تعالى، وفي الخبر المشهور من حضر له في شيء فليلزمه ومن جعلت معيشته في شيء فلا ينتقل عنه حتى يتغير عليه، وقال نعيم: رأيت الثوري قد جعل جرابه على كتفه وأخذ قلته بيده، فقلت: إلى أين يا أبا عبد اللّه؟ فقال: إلى بلد أملأ فيه جرابي بدرهم، وفي حكاية أخرى: بلغني أنّ قرية فيها رخص فأخرج إليها، فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد اللّه؟ فقال: نعم، إذا سمعت في بلد برخص فاقصده فإنه أسلم لدينك، وأقلّ لهمّك، وكان يقول: هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين فكيف بالمشهورين، هذا زمان تنقل الرجل ينتقل من قرية إلى قرية يفرّ بدينه من الفتن، وقد كان الفقراء والمريدون يقصدون الأمصار للقاء العلماء والصالحين، للنظر إليهم والتبرّك والتأدب بهم، وكان العلماء ينتقلون في البلاد، ليعلموا، ويردوا الخلق إلى اللّه تعالى، ويعرفوا الطريق إليه، فإذا فقد العالمون وعدم المريدون فالزم موضعاً ترى فيه أدنى سلامة دين وأقرب صلاح قلب وأيسر سكون نفس ولا تنزعج إلى غيره فإنك لا تأمن أن تقع في شرّ منه وتطلب المكان الأول فلا تقدر عليه، واللّه غالب على أمره ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.
الفصل الرابع والثلاثون
تفصيل الإسلام والإيمان
وعقود شرح معاملة القلب من مذاهب أهل الجماعة(2/50)
قال اللّه تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ) المائدة:1، وقال سبحانه وتعالى: (وَلكنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) المائدة:89، وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الأحزاب:5، وقال جلّ ثناؤه: (وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) البقرة:225، فعمد القلوب وكسبها هو عقودها وأعمالها، وعقود القلب التي هي السنّة المجتمع عليها نقلها الخلف عن السلف، ولم يختلف فيه اثنان من المؤمنين، فيها ست عشرة خصلة؛ ثمان واجبات في الدنيا، وثمان واقعات في الآخرة، فأما اللاتي هنّ في الدنيا أن يعتقد العبد أنّ الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويقوى بالعلم، ويضعف بالجهل، وأنّ القرآن كلام اللّه عزّ وجلّ غير مخلوق، وعلمه القديم صفة من صفاته، وهو متكلم به بذاته، وفي الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما تقرب العبد إلى اللّه عزّ وجلّ بأفضل من شيء خرج منه وهو كلامه، وروينا عن ابن عباس: أنّ علياً رضي اللّه تعالى عنهما دعا عند قتال صفين يا كهيعص أعوذ بك من الذنوب التي توجب النقمة، وأعوذ بك من الذنوب التي تغيّر النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتك الحرم، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء، وأعوذ بك من الذنوب التي تديل الأعداء، انصرنا على من ظلمنا، قال الضحاك بن مزاحم: فكان عليّ رضي اللّه عنه يقدم هذه بين يدي كل شديدة، وفيما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: أعوذ بكلمات اللّه وأسمائه كلها، كما قال أعوذ بعزة اللّه وقدرته، دليل أنّ الكلام والأسماء صفات، وعن عليّ رضي اللّه تعالى عنه حين حكم الحكمين فنقم عليه الخوارج ذلك فقالوا: حكم في دين اللّه من المخلوقين، فقال: واللّه ما حكمت مخلوقاً،ما حكمت إلاّ القرآن، وقال أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه حين سمع قرآن مسيلمة الكذاب الذي افتعله وتخرصه يضاهي به كلام اللّه تعالى، واللّه ما خرج هذا من آل ولا من تقي، قال أبو عبيدة: يعني ما خرج من اللّه تعالى، قال: وفيه دليل أنّ القرآن غير مخلوق، وأنه خرج من اللّه تعالى تكلم به، قال ومن هذا قوله تعالى: (لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤمِنٍ إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) التوبة: 10معناه اللّه عزّ وجلّ لا يرقبونه.(2/51)
وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمعنى ذلك في قوله: فضل كلام اللّه عزّ وجلّ على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه، وذلك أنه خرج منه، وقرأت في مصحف ابن مسعود قال: يا موسى قد فضّلتك برسالاتي وبكلامي على الناس، وهذا لا يجوز فيه إلاّ التكلم بالذات مع قوله سبحانه وتعالى: (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكُلِيماً) النساء:164، قال أهل اللغة: المصدر إذا أدخل في الفعل فهو للمواجهة والوصف لا للأمر بالفعل، ولا على المجاز، ثم تسليم أخيار الصفات فيما ثبتت به الروايات وصحّ النقل، ولا يتأول ذلك ولايشبه بالقياس والعقل، ولكن يعتقد إثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها للّه تعالى، وينفي التشبيه والتكييف عنها إذ لا كُفُؤَ للموصوف فيشبه، ولا مثل له فيجنس منه، ولا نشبه ونصف، ولا نمثل ونعرف، ولا نكيف، وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أنّ الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان، فإن كانوا عدولاً فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقله، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذاب مردود القول في كل ما جاء به، والكذب على اللّه كفر، فكيف تقبل شهادة كافر؟ وإذ جاز أن يجترِئُوا على اللّه عزّ وجلّ بأن يزيدوا في صفاته ما لم يسمعوه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهم إلى أن يكذبوا على الرسول فيما من الأحكام أولى، ففي ذلك إبطال الشريعة، وتكفير النقلة من الصحابة والتابعين بإحسان، فلذلك كفر أصحاب الحديث من نفي أخبار الصفات، ويعتقد تفضيل أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته رضي اللّه عنهم ورضوا عنه كافة، ويسكت عمّا شجر بينهم، وينشر محاسنهم وفضائلهم لتأتلف القلوب بذلك، ونسلم لكل واحد منهم ما فعله، لأنهم أوفر وأعلى عقولاً منا، فقد علم كل واحد بعلمه ومنتهى عقله فيما أدى إليه اجتهاده، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، كما أن بعضهم أفضل من بعض، إلاّ أنّ علومنا وعقولنا تضعف وتنقص عن علم أدناهم علماً، كما فضّلوا علينا بالسوابق سبقاً وتقدّم من قدم اللّه ورسوله وأجمعِ المسلمون الذين تولى اللّه إجماعهم على الهداية، وضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم تفضيلاً لهم وتشريفاً لهم أن لا يجتمعوا على ضلالة، وقد قال عليّ لما قيل له: ألا تستخلف علينا؟ فقال: لا أستخلف عليكم بل أكلكم إلى اللّه عزّ وجلّ، فإن يرد بكم خيراً جمعكم بعد نبيكم على خيركم.(2/52)
قال إبراهيم النخعي: فلما سلم الحسن بن عليّ رضي اللّه تعالى عنهما الأمر إلى معاوية سمّيت سنّة الجماعة، وقال له رجل من الشيعة: يا مذلّ المؤمنين، فقال: بل أنا معز المؤمنين، سمعت أبي عليه السلام يقول: لا تكرهوا إمارة معاوية فإنه سيلي هذا الأمر بعدي، وإن فقدتموه رأيتم السيوف تبدر عن كواهلها كأنها الحنظل، فليعتقد بقلبه من رضي الصحابة بإمامته، وأجمعوا على خلافته واتفق الأئمة من أهل الشورى على تقدمته على حديث ابن عمر في التفضيل، قال: كنا نقول على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلا ينكر وعلى حديث سفينة مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً، فهؤلاء الأربعة خلفاء النبوة؛ وهم أئمة الأئمة من العشرة، وعيون أهل الهجرة والنصرة، وخيار الخيار من الأصحاب، كما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ اللّه عزّ وجلّ اختار أصحابي على العالمين، واختار من أصحابي أربعة فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على الأمم، واختار من أمتي أربعة قرن، فكل قرن سبعون سنة فإنّا نحن قوم متبعون نقفو الأثر غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخبر، إذ لا مدخل للقياس والرأي في التفضيل، كما لا مدخل لهما في الصفات وأصول العبادات، وإنما يؤخذ التفضيل توقيفاً وتسليماً ومن طريق الاجماع والإتباع خشية الشذوذ والابتداع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ، ومن شذ ففي النار، وقال تعالى في تصديق ذلك: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) النساء:115، وإنما جاء الترتيب في التفضيل والخلافة مخالفاً للقياس، والمعقول توكيداً للنبوة وتأكيداً للرسالة، لئلا تلتبس النبوة بالملك ولا ينحو النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة نحو الأكاسرة والأقاصرة في المملكة كما، كانت النبوة مخالفة للملك جاءت الخلافة على غير سيرة الملوك من استخلاف أبنائهم وأهل بيتهم، ولو كان للمعقول والقياس مدخل في التفضيل لكان أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحسن ابنه، لأنّ فيه النبوّة والعبّاس عمّه إذ فيه الأبوّة، وقد أجمعوا على خلاف ذلك وبمعنى هذا من إخراج الخلق من المألوف ورفع سكونهم عن المعهود، أنّ أبا قحافة وأبا سفيان ماتا مؤمنين، وأنّ أبا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعمه ماتا كافرين، أجمع أهل النقل والتواريخ على ذلك، وقال أبو بكر الصدّيق رضي اللّه تعالى عنه لما أسلم أبوه بين يدي رسول اللّه عام فتح مكة: واللّه يا رسول اللّه لإسلام أبي طالب كان أحبّ إليّ لو أسلم من إسلام أبي ليقرّ اللّه به عينك، فبكى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأيضاً، فلما سبق في علم اللّه تعالى أن يجعل هؤلاء الأربعة خلفاء النبوة بما قدّر اللّه من أعمارهم، فلم يكن يتم ذلك إلاّ بترتيبهم على ما رتبوا في الخلافة، فكان آخرهم استخلافاً هو آخرهم موتاً، فدبر خلافتهم على ما علم من آجالهم، ووفى لهم بما وعدهم من استخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من خلائف أنبيائه السوالف، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبدلهم أمناء بعد خوفهم، كما قال الصادق فيما عهد، ومن أوفى بعهده من اللّه، فذلك تأويل قوله عزّ وجلّ: (وَعَدَ اللّه الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ ليستَخلفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) النور:55 الآية، وأن يعتقد أنّ الإمامة في قريش خاصة دون سائر العرب كافة إلى يوم القيامة، وأن لا يخرج على الأئمة بالسيف، ويصبر على جورهم إن كان منهم، ويشكر على المعروف والعدل، ويطيع إذا أمر بالتقوى والبر حتى تأتيه يد خاطئة أو منية قاضية، كذلك السنّة، قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه اللّه تعالى: هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان، وسئل أي الناس خير؟ فقال: السلطان، قيل: كنا نرى أنّ شرّ الناس السلطان، فقال: مهلاً إن للّه تعالى في كل يوم نظرتين، نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ودمائهم، ونظرة(2/53)
إلى سلامة أفكارهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له ذنوبه، وقال أبو محمد الخليفة إذا كان غير صالح فهو من الأبدال، وإذا كان صالحاً فهو القطب الذي تدور عليه الدنيا، قوله من الأبدال يعني أبدال الملك، كما حدثنا عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: أبدال الدنيا سبعة، على مقاديرهم يكون الناس في كل زمان من العباد، والعلماء، والتجار، والخليفة، وزير، وأمير الجيش، وصاحب الشرطة، والقاضي وشهوده، روينا في الخبر: عدل ساعة من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، ويقال: إن الإمام العادل يوضع في ميزانه جميع أعمال رعيته، وكان عمرو بن العاص يقول: إمام غشوم خير من فتنة تدوم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح اللّه تعالى بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وفي الخبر الآخر، يليكم أمراء يقولون ما لا يعرفوه ويفعلون ما ينكرون، وفي لفظ يفعلون ما لم يؤمروا، قلنا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا.لى سلامة أفكارهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له ذنوبه، وقال أبو محمد الخليفة إذا كان غير صالح فهو من الأبدال، وإذا كان صالحاً فهو القطب الذي تدور عليه الدنيا، قوله من الأبدال يعني أبدال الملك، كما حدثنا عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: أبدال الدنيا سبعة، على مقاديرهم يكون الناس في كل زمان من العباد، والعلماء، والتجار، والخليفة، وزير، وأمير الجيش، وصاحب الشرطة، والقاضي وشهوده، روينا في الخبر: عدل ساعة من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، ويقال: إن الإمام العادل يوضع في ميزانه جميع أعمال رعيته، وكان عمرو بن العاص يقول: إمام غشوم خير من فتنة تدوم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح اللّه تعالى بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وفي الخبر الآخر، يليكم أمراء يقولون ما لا يعرفوه ويفعلون ما ينكرون، وفي لفظ يفعلون ما لم يؤمروا، قلنا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا.(2/54)
وفي الحديث الآخر: ما أقاموا الصلاة، وكان سهل رحمه اللّه تعالى يقول: من أنكر إمامة لسطان فهو زنديق، ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع، ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل، وكان يقول: الخشيبات السود المعلقة على أبوابهم أنفع للمسلمين من سبعين قاضياً يقضون في المسجد، وقد كان أحمد بن حنبل رحمه اللّه تعالى يقول: إذا كان السلطان صالحاً فهو خير من صالحيّ الأمة، وإذا كان فاسقاً فصالحو الأمة خير منه؛ وهذا قول عدل، ولا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن عظم، ولا ينزله جنة ولا ناراً بل يرجو له ويخاف عليه، وإن من مات مصرّاً على الكبائر عن غير توبة منها في مشيئة اللّه تعالى، إن أثبت وعيده عليه كان عدلاً، وإن عفا عنه وسمح له بحقه كان ذلك منه فضلاً، ولا نحكم ولا نقطع على اللّه تعالى بشيء، ولا نوجب لنا عليه شيئاً إنما نحن بين عدله وفضله وبمشيئته واختياره، إن حقّق علينا وعيده فنحن أهل ذلك، وإن غفر لنا فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، كيف وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من وعده اللّه تعالى على عمل ثواباً فهو ينجزه له، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار، والحديث الآخر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها) النساء:93 فقال: جزاؤه جهنم إن جازاه، ففي كل قضاء اللّه تعالى حكمة بالغة وعدل، وحكم صادق وحق، وإن يصدق بجميع أقدار اللّه تعالى خيرها وشرها أنها من اللّه تعالى سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه، وأنهم لا حول لهم عن معصيته إلاّ بعصمته، ولا قوّة لهم على طاعته إلاّ برحمته، وأنهم لا يطيقون ما حملهم إلاّ به، ولا يستطيعون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بمشيئته، ونؤمن بقدرة اللّه وآياته في ملكه وغيب ملكوته مما ذكر في الأخبار من كرامته لأوليائه، وإجاباته لأحبائه، وإظهار القدرة للصدّيقين والصالحين، مزيداً لإيمانهم وتثبيتاً ليقينهم وتكرمة وتشريفاً لهم، وأنه ليس في ذلك إبطال لنبوّة الأنبياء ولا إدحاض حججهم من قبل أنّ هؤلاء غير مثبتين ولا مخالفين للأنبياء، ولا ادّعوا ما ظهر لهم بحولهم وقوّتهم، ولا أظهروا دعوة إلى أنفسهم، ولا تظاهراً به، ولا اجتلاباً للدنيا، ولا طلباً للرياسة على أهلها، وإنما هو شيء كشفه اللّه تعالى لهم من سرّ ملكوته كيف شاء، وأظهرهم عليه من غيب قدرته أين شاء كما شاء، تخصيصاً لهم وتعريفاً، وهم للأنبياء متبعون، وعلى آثارهم مقتفون، ولسنّتهم مقتدون، فآتاهم اللّه تعالى ذلك ببركة الأنبياء وبحسن اتباعهم لهم، ولأنهم إخوانهم أبدالاً لا أشكالاً وعنهم أمثالاً، وقد تواترت الأخبار من الصحابة والتابعين الأخيار بما ذكرنا فغنينا بالتواتر عن التناظر.(2/55)
وأما الثماني الواقعات في الآخرة فأن يعتقد العبد مساءلة منكر ونكير يقعدان العبد في قبره سوياً ذا روح وجسد، فيسألانه عن التوحيد وعن الرسالة؛ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، وهما فتانا القبر، كذلك روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قول اللّه عزّ وجلّ:(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخرة) إبراهيم: 27، قيل: عند مساءلة منكر ونكير، ويضلّ اللّه الظالمين ويفعل اللّه ما يشاء، وعذاب القبر حقّ وحكمة وعدل على الجسم والروح و النفس، يشتركون في ذلك حسب اشتراكهم في المعصية، وإن كان نعيماً كان ذلك على الجسم والروح والنفس، يشتركون في النعيم كما اشتركوا في الطاعة؛ وهذا من أحكام الآخرة، يكون بمجاري القدرة ليس على ترتيب المعقول ولا عرف العقول، يوصل اللّه العذاب والنعيم إلى الأرواح والأجسام وهي متفرقة فيتصل ذلك بهما كأنهما متفقان، وليس في القدرة مسافة ولا ترتيب ولا بعد ولا توقيت، ويؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان أنه حق وعدل وحكمة وفضل، كما جاء وصفه في العظم، من أنّ طبقات السماوات والأرض توزن فيه الأعمال بقدرة اللّه تعالى، والصنج يومئذ مثاقيل الذرّ والخردل بحقيقة العدل، وقد خاب من حمل ظلماً فتكون الحسنات في صورة حسنة تطرح في كفة النور فيثقل بها الميزان برحمة اللّه تعالى، وتكون السيّئات في صورة سيئة تطرح في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل اللّه تعالى، ويعتقد أنّ الصراط حقّ على ما جاء وصفه في الآثار كدقة الشعرة وحدّ السيف؛ وهو طريق الفريقين إلى الجنة أو النار، دحض مزلة يثبت عليه أقدام المؤمنين بقدرة اللّه عزّ وجلّ، فيحملهم إلى الجنة بفضل اللّه تعالى، وتزل عنه أقدام المنافقين فتهوي بهم في النار بحكم اللّه عزّ وجلّ، وهو على متن جهنم بإذن اللّه تعالى، من قطعه نجا منها برحمة اللّه، ومن زلّ عنه وقع فيها بحكمة اللّه تعالى، ويؤمن بوقوع الحساب وتفاوت الخلق فيه، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يدخل النار بغير حساب؛ وهم الكافرون، وكان إمامنا أبو محمد رحمه اللّه تعالى يقول: يسأل الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ويسأل الكفّار عن تكذيب المرسلين، ويسأل المبتدعة عن السنّة، ويسأل المسلمون عن الأعمال، فقولنا لقوله تبع، ويؤمن بالنظر إلى اللّه جلّ جلاله عياناً بالأبصار كفاحاً مواجهة تكشف الحجب والأستار بقدرة اللّه ومشيئته ونوره ورحمته كيف شاء؛ وهو معنى قول اللّه تعالى: (لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيَادَةَ) يونس:26، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى اللّه تبارك وتعالى، وكذلك فسّره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويعتقد إخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحّد بفضل اللّه بشفاعة الشافعين من النبيّين والصدّيقين، وأنّ لكل مؤمن شفاعة بإذن اللّه، فيشفع النبيوّن والصديقون والعلماء والشهداء وسائر المؤمنين كل واحد وسع جاهه وقدر منزلته، أجمعت الرواة بذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة وفي إخراج الموحدين من النار؛ وهم الجهنميون من أهل الطبقة العليا من النار؛ وهو معنى قول اللّه تعالى: (رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمينَ) الحجر:2، قال أهل التفسير ذلك عند إخراج الموحدين من النار، ويبقى الباقي لرحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار بمشيئته، وسعة رحمته، وفضل فضله، من لم يشفع لهم الشافعون ولم يقدم في الشفاعة لهم المرسلون، هكذا روينا معناه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فهذه عقود السنّة الهادية وطريقة الأمة الراضية، وقد أجمع السلف من المؤمنين على ما ذكرناه من قبل أنه لم ينقل عن أحد منهم خلافه، ولا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضدّه، بل قد روي في كل ما ذكرناه أخبار توجب إيجابه ومعانٍ تشهد لإثباته وتولى اللّه تعالى إجماعهم على سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما تولى إظهار دينه على الدين كلّه.(2/56)
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ اللّه عزّ وجلّ ضمن لي، وفي لفظ آخر: أعطاني أن لا تجتمع أمتي على ضلالة، فإذا رأيتم خلافاً فكونوا مع السواد الأعظم؛ والسواد الأعظم يعبّر به عن الكثرة، فالمختلفون متفقون على أنّ السواد الأعظم ما عليه العامة من المسلمين والكافة من العموم، وأنّ المبتدعة والمخالفة لما ذكرناه إنما هم فرق وشراذم قليلون وشيع وأحزاب متفرقون، لأن كل مبتدعة منهم فرقة، وكل شرذمة منهم مختلفة، وليس السواد الأعظم والجمّ الغفير الدهماء إلاّ أهل السنة والجماعة؛ وهم السواد والعامة، ولذلك كان عمر ابن عبد العزيز وغيره من الصالحين يقولون: ديننا دين العجائز وصبيان المكاتب ودين الأعراب أي هو القوي السليم العام، فسّر ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر فقال: من كان على ما أنتم عليه اليوم، فأجمعت الأمة على أنّ ما أحدثت الفرق المختلفة لم تكن عليه الصحابة ولا تكلموا فيه ولا نقل عنهم، وأنهم كانوا على ما ذكرناه آنفاً، لأنه لم يرو عن أحد منهم خلافه، بل قد نقل عنهم وفاقه في القرن الأول والثاني، ثم حدث ما ذكرناه من الخلاف في بعض القرن الثالث، وفي القرن الرابع، وقد كان عمرو بن دينار وأيوب وحماد بن زيد إذا ذكر أحدهم الأرجاء ومذهب جهم يقول: لعن اللّه ديناً أنا أكبر منه؛ يعني أنه سبق حدوث هذه المذاهب التي تدين بها المبتدعون فللّه الحمد؛ ربّ السموات وربّ الأرض؛ العالمين على حسن توفيقه وجميل هدايته، وما كنا لنهتدي لولا أنْ هدانا اللّه، فنعمة اللّه تعالى علينا بالسنّة كنعمتة علينا بالإسلام إذ نعمته علينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم كنعمته علينا بمعرفته لاقتران طاعته بطاعته ولحاجة الكتاب العزيز إلى تفسير سنّته.(2/57)
وقد روينا في حديث عمر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الشيطان مع الواحد وهو من اثنين أبعد، ذئب أحدكم كذئب الشاة، يتبع الشاذة والقاصية، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن شذّ ففي النار، وروينا عن أبي غالب عن أبي أمامة: أنه نظر إلى رؤوس الحرورية جيء بها من البصرة فنصبت على الخشب بدمشق، قال: شر قتلى تحت ظل السماء وخير قتلى من قتلوه، ثم قال: كلاب النار، ثم قرأ: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءِ الفتنة) آل عمران:7، ثم قرأ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجوُهٌ وَتَسْوَدُّ) آل عمران:160، فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم، ويشير بإصبعه إليهم، ثم بكى، فقلت: يا أبا أمامة تقول فيهم ما تقول؟ ثم بكى، فقال: قاتل اللّه إبليس ما صنع بهؤلاء الناس يا أبا غالب، إنهم كانوا على ديننا فأبكي مما هم لاقون، هؤلاء بأرضك كثير فأعيذك باللّه منهم ثلاث مرات، فقلت: آمين يا أبا أمامة أشيء سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو شيء تقوله من قبل رأيك؟ قال: إني إذاً لجريء ثلاث مرات، لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع يقول: تفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، تزيد أمتي عليها فرقة، كلها في النار إلاّ السواد الأعظم فقال رجل كان معنا: يا أبا أمامة إنّ في السواد الأعظم بني فلان قال: وإن فعلوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، والجماعة خير من الفرقة، والطاعة خير من المعصية، ثم نظر إلى الرؤوس فقال: أيغضبون لنا ويقتلوننا هذه رؤوس الخوارج وهم الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه بالنهروان؛ وهم أوّل قرن نبغ من المبتدعة وأوّل بدعة ابتدعت في الإسلام، وكانوا قرّاء المصاحف في أعناقهم والسجادات كركب المعزى في جباههم، فأنكروا عليه تحكيم الحكمين وسألوه أن ينقض حكمه فيرجع عنه وقالوا: لا حكم إلاّ للّه، وأنكروا أمر السلطان ورأوا الخروج على الإمام، وكفروا عثمان وصوّبوا قتل غوغاء المصريين له، وطالبوا عليًّا عليه السلام أنّ يوافقهم على رأيهم ويتابعهم على أهوائهم على أن قاتلوا معه المسلمين إن رجع عن تحكيم الحكمين، وكفّروا أهل الكبائر بالمعاصي، فرأى على ما أراه اللّه تعالى وبما عهد إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من قتل المارقين فقتلهم فهؤلاء في النار، وقاتلوهم عليّ وأصحابه خير أهل الأرض عليّ يبغضه ويسبّه قبل أن يظهر منه ما ظهر، فخرج عليه عبد اللّه بن الكوافي ستة آلاف، فأرسل عليّ عليه السلام عبد اللّّه بن عباس إليهم يناظرهم ويحاجّهم، فسبّوه وبطشوا به، وجرأهم عليه ابن الكوافي هذا فقام خطيباً فيهم فقال: أتعرفوني بهذا أنا أعرفكموه: هذا من القوم الذين قال اللّه فيهم: ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون، ثم تراجع بعضهم إلى ابن عباس فسأله فكشف له عن الحقّ واستتاب منهم ألفين، وقاتل عليّ كرّم اللّه وجهه أربعة آلاف؛ فهذه أوّل فرقة مرقت من الدين واتبعت غير سبيل المؤمنين، ثم افترقت الفرقة الثانية بالمدائن فرأوا دين الأرجاء، وأنّ الإيمان قول وعمل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وكتب بذلك إلى أمير الشام فهمّ بقتالهم، ثم شغل عنهم بقتال الروم ثم افترقت الفرقة الثالثة بالبصرة وهم القدرية إمامهم معبد الجهني، وتابعه عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهم، ثم خرجت الفرقة الرابعة من الكوفة سموا بذلك لما رفضوا زيد ابن علي بن الحسين حين خرج يقاتل هشاماً فقالوا له: أتبرأ من أبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما؟ قال: هما جداي إماما عدل لا أتبرأ منهما فرفضوه، ثم افترقت كل فرقة ثمان عشر فرقة، فتمت اثنتان وسبعون فرقة، وكلها نبع بأرض العراق، ومنه طلع قرن الشيطان، وظهرت الفتن نعوذ باللّه منها، ما ظهر منها وما بطن، وقد روينا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ للّه عزّ وجلّ ثلاث أملاك؛ ملك على ظهر بيت اللّه تعالى، وملك على مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وملك على ظهر بيت المقدس، ينادون في كل يوم، يقول الملك الذي على ظهر بيت اللّه تعالى: من ضيّع فرائض اللّه خرج من أمان اللّه، ويقول الملك الذي على ظهر مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من خالف سنّة رسول اللّه(2/58)
صلى الله عليه وسلم لم تنله شفاعة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويقول الملك الذي على ظهر بيت المقدس: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل.لى الله عليه وسلم لم تنله شفاعة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويقول الملك الذي على ظهر بيت المقدس: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل.
شرح معاملة القلب من العلم الظاهر
ذكر مباني الإسلام وأركان الإيمان
قال اللّه تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أََنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا) الأعراف:172، وقال عزّ وجلّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ وَميثَاقَهُ الَّذي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) المائدة:7، وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) الحديد:8، فمباني الإسلام خمسة: أوّلها شهادة أنّ لا إله إلاّ اللّه وحده وأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله؛ وهما كواحدة لاتصال إحداهما بالأخرى في الوجوب والحكم، وإقام الصلوات الخمس وهنّ كواحدة منها لتعلق كل واحدة بصاحبتها، وإيتاء الزكاة وهي كالصلاة، لاقترانها بها والإشتراط بها، وصوم رمضان، وحجّ البيت؛ وهما كشيء واحد من الفرض، فهذه الخمس كواحدة منهن في إيجاب العقد واعتقاد الوجوب، وإن اختلف الحكم في سقوط فعل بعضها بشرط، روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، وأركان الإيمان سبعة: الإيمان بأسماء اللّه وصفاته، والإيمان بكتب اللّه تعالى وأنبيائه، والإيمان بالملائكة والشياطين، والإيمان بالجنة والنار، وأنهما قد خلقتا قبل آدم صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بجميع أقدار اللّه خيرها وشرّها، حلوها ومرّها أنها من اللّه تعالى قضاءَ وقدراً أو مشيئةً وحكماً، وأنّ ذلك عدل منه، وحكمة بالغة، استأثر بعلم غيبها ومعنى حقائقها، لا يسأل عمّا يفعل، ولا تضرب له الأمثال بملزمات العقول وتميثلات المعقول، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، وقد شهد اللّه سبحانه وتعالى بالضلالة على من ضرب لعبده الأمثال فقال تعالى جده: (أُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا) الإسراء:48، فكيف بمن ضرب المثل للسيد الأجلّ بعد نهيه عن ذلك وإخباره بعلم غيب ذلك، إذ يقول: فلا تضربوا للّه الأمثال، إنّ اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون، والإيمان بما صحّ من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقبول جميعه، وافتراض طاعته وأمره على العباد، والتزام ذلك، إذ قد جعل اللّه تعالى طاعة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من شرط الإيمان وقرنها بطاعته، فقال تعالى: (وَأَطيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) الأنفال:1، واشترط للرحمة طاعة الرسول كما اشترط لها تقواه فقال: (وَأَطيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) النور:56، وحذّر من مخالفة أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الإستجابة له مقامه، وجعله في المبالغة في الوصف والمدح بدلاً عنه، فقال تعالى: (فَليْحَذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمْ) النور: 63، كما قال سبحانه وتعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ) آل عمران:28، وقال تعالى: (اسْتَجيبُوا اللّه وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لمَا يُحْييكُمْ) الأنفال:42، لأنه قال: (إنَّ الَّذينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايَعُونَ اللّه) الفتح:1،، وهذه أمدح آية في كتاب اللّه تعالى وأبلغ فضيلة فيه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، وفي الحكم مقامه، ولم يدخل بينه وبينه كاف التشبيه كإنما ولا لام الملك فيقول للّه تعالى وليس هذا المقام من الربوبية لخلق غير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
الفصل الخامس والثلاثون
ذكر اتصال الإيمان بالإسلام في المعنى والحكم
وافتراقهما في التفصيل والاسم(2/59)
وأنّ كل مؤمن مسلم، وتحقيق القول بالعمل، وإبطال مذهب الجهمية والكرامية والحرورية، وبيان مذهب أهل السنّة والجماعة، وفقنا اللّه تعالى لذلك، قال قائلون: الإيمان هو الإسلام وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات، وهذا يقرب من مذهب المرجئة وقال آخرون: إنّ الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير وهذا قريب من قول الإباضية، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة التوحيد؛ فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى؛ فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحّ إسلامه، ولا بدّ للمسلم من إيمان به يحقّ إيمانه، من حيث اشترط اللّه سبحانه وتعالى للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) الأنبياء:94، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: (وَمَنْ يَأتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى) طه:75، ومن كان ظاهره أعمال الإسلام لا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملّة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب لا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام؛ فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمناً بالغيب مما أخبر به الرسول عن اللّه سبحانه عاملاً بما أمر به فهو مؤمن مسلم، ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز أن لا يسمى مسلماً، ولجاز أن لا يسمّى كل مسلم مؤمناً باللّه تعالى ورسله وكتبه، ومثل الإيمان من الأعمال كمثل القلب من الجسم،لا ينفك أحدهما من الآخر، لا يكون ذو جسم حيّ لا قلب له، ولا ذو قلب لا جسم له؛ فهما سببان منفردان، وفي المعنى والحكم متصلان، ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة لا يقال حبتان لتقارب وصفيهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإيمان، الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو أعمال القلوب.(2/60)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام علانية والإيمان سرّ، وفي لفظ آخر: والإيمان في القلب، فالإسلام أعمال الإيمان والإيمان، عقود الإسلام، فلا إيمان إلاّ بعمل ولا عمل إلاّ بعقد، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن؛ أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ومثله قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية؛ أي لا عمل إلاّ بعقد وقصد، لأنّ قوله صلى الله عليه وسلم: إنما تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وأعمال القلوب من النيات، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصحّ الكلام إلاّ بهما، لأنّ الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، كذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك عدد اللّه تعالى في نعمته على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) البلد:8 - 9، المعنى: ألم نجعله ناظراً متكلّماً؟ فعبّر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له، وذكره الشفتين لأنّ الكلام الذي جرت النعمة به لا يتمّ إلاّ بهما، ومثل الإيمان والإسلام أيضاً كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر متجاف وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في باطن الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلاّ به، فقد احتاج الفسطاط إليهما، إذ لا استقامة له ولا قوة إلاّ بهما، كذلك الإسلام من أعمال الجوارح، ولا قوام له إلاّ بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلاّ بالإسلام؛ وهو صالح الأعمال، وقد عبّر اللّه تعالى عن الإيمان بالإسلام، فلولا أنهما كشيء واحد ما عبّر عن أحدهما بالآخر، فقال سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِِينَ) الذاريات:35 - 36، ولم يكونا بيتين إنما هم أهل بيت واحد لوط وبناته، وقال عزّ وجلّ في مثله: (إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس:84 فعطف بقوله: إن كنتم مسلمين على قوله: إن كنتم آمنتم، فدلّ على أنهما اسمان بمعنى واحد؛ وهذا كقوله تعالى فيما عبر عن الأيام بالليالي، لأن اليوم مرتبط بالليلة وأنت تعلم أنهما شيئان، فقال في قصة واحدة: (قَالَ آيَتُكَ أَلاًَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) آل عمران:41 وقال أيضاً سبحانه: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) مريم:1،، وأيضاً فإن اللّه تعالى قد جعل ضدّ الإسلام والإيمان واحد، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعنى ما كان ضدهما واحد، فقال سبحانه: (كَيْفَ يَهدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) آل عمران:86، وقال: (يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران:8،، فجعل ضدهما الكفر، وعلى مثل هذا خبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام بوصف واحد، فقال في حديث ابن عمر: بني الإسلام على خمس: شهادة أنّ لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، صوم رمضان، وحجّ البيت، وفي حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف فدلّ بذلك أنه لا إيمان باطن إلاّ بإسلام ظاهر، ولا إسلام على نية إلاّ بالإيمان سرّاً، وأنّ الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بغير صاحبه، ولا يصحّ أحدهما إلاّ بالآخر، كما لا يصحان ولا يوجدان معاً إلاّ بنفي ضدهما وهو الكفر، كما روي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكفر أحد إلا بجحود ما أقرّ به، وأظهر من حديث ابن عباس آنفاً أنّ في نفس حديث ابن عمر ذكر الإيمان أيضاً بدلاً من لفظ الإسلام.(2/61)
ورواه جرير عن سالم بن أبي الجعد عن عطية مولى بني عامر عن يزيد بن بشر قال: أتيت ابن عمر فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه بن عمر ما لك تحجّ وتعتمر وقد تركت الغزو؟ قال: ويلك إن الإيمان بني على خمس تعبد اللّه تعالى، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، كذلك حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد اشترط اللّه تعالى للإيمان العمل الصالح، ونفى النفع بالإيمان إلاّ بوجود العمل، كما شرط للإيمان الإسلام فقال تعالى: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأوُلئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سيّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان:7،، إجماع من أهل التفسير؛ إلاّ من تاب من الشرك كقوله تعالى: (فَإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة:5، بعد قوله وخذوهم واحصروهم، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بِالتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً) سبأ:37، وقال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس:63، كما قال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا بِآيَاتِنا وَكَانُوا مُسْلِمينَ) الزخرف:69، فاشترط للإيمان الأعمال والتقوى، كما اشترط للأعمال الصالحة الإيمان، فكما لو عمل العبد بالصالحات كلها لم تنفعه إلاّ بالإيمان، كذلك لو آمن من الإيمان كله لم ينفعه إلاّ بالأعمال، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني كما لا يصلح الزرع إلاّ بالماء والتراب فكذلك لا يصلح الإيمان إلاّ بالعمل والعلم، فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام لما سأله ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبهِ ورسله بالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره، ثم قال: ما الإسلام؟ فذكر الخصال الخمس؛ فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها، أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، فيما توجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، إلاّ أنّ ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضادّ، وليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، إذ قد يجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف ظاهر جسمه، والدليل على ذلك أنه جعل وصف الاسمين معنى واحداً في حديث ابن عمرو في حديث وفد عبد القيس الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس، وقد روى ذلك مفصّلاً في حديث عليّ رضي اللّه تعالى عنه: الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان، فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وأيضاً فإن الأمة مجمعة أنّ العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح لا يسمّى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وليس فيه دليل على أنّ الإسلام غير الإيمان، أو أنّ المسلمين سويّ المؤمنين، أو أنّ الإيمان ضدّ الإسلام، والوجه الثاني من تأويل الخبر أنّ معنى قوله أو مسلم يعني به أو مستسلم، فإذا جمع بين عقود القلب وبين أعمال الجوارح كان مسلماً مؤمناً، ومن لم يقل بهذا الذي ذكرناه فقد كفّر أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه وجهله في قتال أهل الردة وادّعى عليه أنه قتل المؤمنين، لأن القوم جاؤوا بعقود الإيمان ولم يجحدوا التوحيد ولا أكثر الأعمال وإنما أنكروا الزكاة فاستحلّ قتلهم، وواطأه الصحابة على ذلك حتى استتاب من رجع منهم.(2/62)
وأما الحديث الآخر الذي جاء ظاهره أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين المؤمن والمسلم في أنه أعطى رجلاً ولم يعط الآخر، فقال له سعد: يا رسول اللّه تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن فقال: أو مسلم؟ فأعاد عليه، فأعاده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟ فإنما في هذا دليل على تفرقة الإيمان والإسلام في التفاضل والمقامات؛ أي ليس هو من خصوص المؤمنين ولا أفاضلهم، فكشف مقامه الذي خفي على سعد كما كشف مقام حارثة عن حقيقة إيمانه، إذ كان خاملاً لا يؤبه له فقال: كيف أصبحت؟ فنطق بوجده عن مشاهدته، فقال: عرفت فالزم؛ فهذا دليل لنا في تفضيل مقام الإيمان على مقام الإسلام، وأنّ المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وإن تساووا في أعمال الجوارح من الإسلام، وأنّ الإيمان لا حدّ له وإن كانت صحته بمحدود الإسلام، فآثر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الذي آمن طوعاً على المكره، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنما يعطي من المؤلفة الرؤساء، ومن لا يؤمن عاديته، وجمعه على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتحريضه المشركين كما أكرم الرجل بعد أنّ تكلم فيه فقيل له في ذلك، فقال: هذا أحمق مطاع، أو من يكثر عشيرته وأتباعه فيكون ظهيراً على المؤمنين، أو من فيه غنى للمسليمن ومنفعة وعزة للمسلمين، فأما الأتباع والسفلة من المؤلفة فلم يكن يؤثرهم بالعطاء، بل كان يؤثر المؤمنين، يقدّمهم على أراذل المؤلفة وضعفائهم، كما فعل بالقسم الذي قسمه بين المؤمنين فأعطاهم، إلا رجلاً من الغزاة له سجادة محلوق الرأس فإنه لم يعطه وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه تعالى، واللّه ما عدل فقال صلى الله عليه وسلم إن لم أعدل فمن يعدل؟ وكان ذلك أول قرن نبغ من الخوارج، أفلا تراه لم يعط هذا شيئاً ولم يستمله لأنه لم يكن من خصوص المؤمنين، ولا ممن يتقي بأسه أو يظهر في الإسلام غناه فيتألف بالعطاء؛ وهذا مثل قول فرعون حين ألجمه اللّه الغرق فاضطره إلى الإسلام بقوله: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين، أجمع أهل التفسير أنّ معناه من المستسلمين فإن قيل، فقد روي في آخر هذا الخبر في بعض الروايات ما يدل على ضدّ هذا التأويل، وأنّ الرجل كان فاضلاً لا أنه كان مستسلماً، وهو أنّ في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأعطي قوماً وأمنع آخرين أكلهم إلى ما جعل اللّه تعالى في قلوبهم من الإيمان: منهم فلان، قيل: إنّ هذا كلام مستأنف من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفاده القائل لأنه بعث بجوامع الكلم، وكان يسأل عن الشيء فيخبر به ويزيد عليه للبيان والهداية الذي أعطي فكأنه أراد أن يخبر بتنويع عطائه وبضروب المعطين من الناس؛ هذا للحاجة، وهذا للفضل، وهذا للتآلف؛ لأن الذي منعه كان أفضل من الذي أعطاه، إذ لو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان الإسلام أفضل من الإيمان، ولكان المسلمون أفضل من المؤمنين، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، إلاّ أنّ الإيمان خاص فيه التفاوت والمقامات؛ فهو يشتمل على الإسلام، والإسلام داخل فيه، والمؤمنين هم خصوص المسلمين، منهم المقربون والصديقون والشهداء، والإسلام عام محدود يوصف به عموم المؤمنين، ويدخل فيه أهل الكبائر والإجرام، ولا يخرج منه من فارق الكفر ووقع عليه اسم الإيمان، كما قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ الكَذِب) آل عمران:94 وأخبر عنه بالفسوق، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إَِلَى الإِسْلاَمِ وَ اللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمً الظَّالِمينَ) الصف:7، فعلى إجماعهم أنّ الإيمان أعلى اسقاط وهم من توهّم أنّ الرجل كان أفضل، كيف وقد روينا تخصيص الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم نصّاً أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإسلام، قيل: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، فجعل الإيمان مقاماً في الإسلام، ففي هذا الحديث أيضاً تخصيص للإيمان على الإسلام لا تفرقة بينهما، بمعنى قوله في وصف الرجل أو مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الرجل: أو مسلم، فدلّ على بطلان ما ناوله القائل لأن هذه اللفظة بألف الإستفهام لا تستعمل في عرف الكلام إلاّ في الوصف الأنقص والحال الأدنى فافهم.(2/63)
وأما قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) الحجرات:14، فإن هذا أيضاً من هذا النوع معناه: قولوا: استسلمنا حذر القتل؛ وهؤلاء ضعفاء المؤلفة وأراذلهم كانوا ينقمون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إيثاره وتقديمه المؤمنين بالعطاء عليهم، وإرجاءه إياهم فقالوا: لم لا يعطينا كما يعطي المؤمنين؟ فإنّا مؤمنون كهم، فأخبر اللّه تعالى بذلك عنهم وأكذبهم في دعواهم وهم الذين قصّ اللّه تعالى أخبارهم في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقاَتِ فَإِنْ أُعطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُون) التوبة:58، ففي هذه الآية دليل على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعطي هذا الضرب من المؤلفة، وليس في الآية تفرقة بين الإيمان والإسلام بدليل قوله تعالى في الآية التي بعدها: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمَانِ) الجرات:17، فسمّى إسلامهم إيماناً لأنه عطف ببعض الكلام على بعض، وردّ أوله إلى آخره، وإنما أسقط المنة به على رسوله، وأثبت المنّ عليهم بنفسه، وعطف بآخر الإسم على أوله، وغاير بين اللفظين، فلم يرد أحدهما على الآخر، فيقول: أن هداكم للإسلام لاتساع لسان العرب وليفيدنا فضل بيان، وإنّ الإسلام والإيمان اسمان بمعنى واحد، كما قال تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ) فاطر:3، ولم يقل: يخلقكم، ليبيّن أنّ الرازق هو الخالق وليفيد وصفاً ثانياً وصف به نفسه تعالى فهو كقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فيهَا مِنَ المٌُؤْمِنينَ ففَمَا وَجَدْنَا فيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمينَ) الذاريات:35 - 36، وهكذا قراءتها في مصحف ابن مسعود قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المسلمين، فلولا أنهما بمعنى لم يجز أن يقرأا بخلاف المعنى، فأما ما روي عن أبي جعفر بن عليّ: الإيمان مقصور في الإسلام؛ فمعناه هو باطنه، قال: وأدار دائرة كبيرة فقال: هذا الإسلام، ثم، أدار في وسطها دارة صغيرة فقال: وهذا الإيمان في الإسلام، فإذا فعل وفعل خرج من الإيمان وصار في الإسلام، يريد أنه خرج من حقيقة الإيمان وكماله ولم يكن من الموصوفين الممدوحين بالخوف والورع من المؤمنين، لأنه خرج من الإسم والمعنى حتى لا يكون مؤمناً باللّه مصدقاً برسله وكتبه، ألا ترى إلى الدارة الصغيرة غير خارجة من الدارة الكبيرة التي أدارها حولها فجعلها فيها وضرب المثل بها، لكنها خالصها وليها ومخصومة فيها، ولو أراد أنه يخرج من الإيمان لجعلها دائرتين منفردتين ولم يجعل إحداهما جوف الأخرى، وكذلك جاء الخبر: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخر وهو مؤمن، معناه كامل الإيمان أو مؤمن حقّاً، لأن حقيقة الإيمان وكماله بالخوف والورع، إذ الأمة مجمعة أنّ أهل الكبائر ليسوا بكافرين، وإذا فسق بالزنا وشرب الخمر خرج من حقيقة الإيمان، هو الخوف والورع، ولم يخرج من اسمه ومعناه؛ وهو التصديق والتزام الشريعة، وفيه معنى لطيف كأنه يرتفع عنه إيمان الحياء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحياء من الإيمان، والمستحي لا يكشف عورته على حرام، ويبقى إيمان الإسلام والتوحيد وإيجاب الأحكام، وقد روينا عن الحسن بيان ذلك أنه قال: الإيمان حقيقة الإسلام، وقيل لحذيفة: من المنافق؟ فقال: الذي يتكلّم بالإسلام ولا يعمل به فسمِي علم الإيمان إسلاماً وقرن القول، بالعمل وقال الثوري رحمه اللّه: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في حدودهم، وفرائضهم، وفي النكاح، وفي المواريث، وفي الصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، لا يحاسب الأحياء ولا يقضي على الأموات، ونكل ما لم نعلم من سرائرهم إلى اللّه تعالى، ونسمع بالتشديد فنخافه ونسمع اللين فنرجوه لأهل القبلة، ونتهم رأينا لرأي السلف قبلنا، وما ذكرناه من أنّ الإسلام والإيمان قرينان لا يفترقان؛ هذا مذهب فقهاء أصحاب الحديث وطريقة أئمة السلف رضي اللّه عنهم أجمعين.
باب ذكر تفضيل بيان ما نقل عن المحدثين من التفرقة بينهما وما جاء في معناه(2/64)
فأما ما حكي عن بعض أصحاب الحديث، أنه فرّق بين الإيمان والإسلام فقال الزهري: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، وقال عبد الرحمن بن مهدي وقد سئل عن الإيمان والإسلام فقال: هما شيئان، وقال حمّاد بن زيد: الإسلام عام، والإيمان خاص، فإن قول هؤلاء على جملة قولنا، وهو دليل له وشاهد عليه، وأنهم لم يفرّقوا بين الإيمان والإسلام تفرقة اختلاف ولا تضادّ، ولم يريدوا أنّ أحدهما يوجد ويصحّ بعدم الآخر ليواطئوا مذهب المرجئة، لأنهم أبعد شيء منهم، إذ هم أصحاب أثر وتوقيف، وإنما فرّقوا بينهما تفريق تفاوت وتخصيص؛ أي أنّ الإيمان أخصّ وأعلى، لأن الزيادة والنقصان فيه، والفضائل والمقامات عنه، والإستثناء واجب فيه، وأنّ الاسلام عام لا يخرج منه إلاّ الكافرون، إذ ليس وراءه شيء، وعند جماعة من العلماء أنّ الإستثناء غير واجب في الإسلام، لأنه محدود معلوم، فهذا كان قصد من فرّق بين الإسلام والإيمان، وهي طريقة بعض السلف، وعبارة القدماء؛ وهو على نحو ما فصلناه وبمعنى ما بيناه، وإن كنا نحن أظهر تفصيلاً وأبين ترتيباً، وهذا مثل الخبر الذي روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الإيمان أفضل؟ قال: الإسلام قيل: فأي الإسلام خير؟ قال الإيمان، فلم يفّرق بينهما، ولكنه خصّص فجعل الإيمان حقيقة الإسلام وخالصه لأنه أخبر أنه منه فهذا من قوله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، أي من تحقّقه بالإسلام ومن أعلى إسلامه؛ هذا الوصف، وهذا هو نعت المؤمن الموقن الزاهد وهذا يشبه ما مثله أبو جعفر محمد بن علي في أنه أدار دائرة كبيرة وأدار فيها دارة صغيرة تخصيصاً، وجميع ما شرحناه وذكرناه عن السلف يبطل قول المرجئة والكرامية الإباضية ويدحض دعواهم، في أنّ الإيمان قول أو معرفة وعقد بلا عمل، وهو أيضاً ردّ على المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، الذين يقولون: مؤمن، وفاسق، وكافر؛ فلا يجعلون الفاسق مؤمناً وهو ردّ على الحشبية والجرمية والقطعية والحرورية، أصناف من الخوارج يقولون: من أتى كبيرة خرج من الإيمان، وأن أهل الكبائر كفّار يحلّ قتلهم، ويقولون إنّ أهل البغي من الأئمة كفرة يجب على الرعية قتالهم، ومنهم من يقول: إنّ من بغى على الإمام فقد كفر بخلاف قول اللّه تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه) الحجرات:9، فأمر بقتال أهل البغي بتسميته إياهم مؤمنين ولم يجعل لهم منزلة ثالثة، وقد ابتلينا بطائقتين مبتدعتين متضادتين في المقالة المرجئة والمعتزلة، قال المرجئة: إنّ الموحدين لا يدخلون النار، وإن عملوا بالكبائر والفسوق كله لأن ذلك لا ينقص إيمانهم، وقالت المعتزلة: إن ليس الفاسق بمؤمن وإن مات على صغيرة من الصغائر من غير توبة دخل النار لا محالة ولم يخرج منها خالداً من الكفار، والصواب من ذلك أنّ الفاسق مؤمن لا يخرجه فسقه من اسم الاسمان وحكمه، ولكن لا يدخله في المؤمنين حقّاً من الصديقين والشهداء، وأنّ أهل الكبائر قد استوجبوا الوعيد ودخول النار، وجائز أن يعفو اللّه تعالى عنهم بكرمه ويسمح لهم بجوده، كما روينا عن عليّ أنه قال: عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه الغالي ويرتفع عنه القالي.(2/65)
وقد قال صلى الله عليه وسلم في وصف علماء السنة ومدحهم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ فالغالون هم المجاوزون للسنن والآثار، والمبطلون هم المدعون بالرأي والقياس، والجاهلون هم الشاطحون من المتصوّفة الضلال، وعدول كل خلق من اتبّع سنّة صالح من سلف،ولم يبتدع في الدين، ولا اتخد وليجة دون طريق المؤمنين؛ وهم رواة الأخبار وجملة الآثار من المحدثين وفقهاء المسلمين، ويوضح قولنا ويصححه قول اللّه تعالى: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة:3، إجماعاً من المسلمين، وأنها نزلت بعد نزول الفرائض وإتمام الشرائع وفي حجة الوداع؛ وهي آخر حجة حجّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول فرض الحج، لأنّ سورة المائدة مدنية بإجماع من القراء، وهي من آخر ما نزل من القرآن باتفاق من الفقهاء، ولم يلبث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلاّ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام اتفق عليه أهل التاريخ، لأنها نزلت يوم التاسع من ذي الحجة من آخر يوم عرفة وقبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لاثنتي عشرة خلون من ربيع الأول، فقال اللّه تعالى بعد نزول الأحكام وأحكام الحلال والحرام: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة:3، والإكمال هو إتمام الشيء الذي بعضه متعلق ببعض، فلا يقال أكمل لما كان بعضه قبل بعض، فإذا وجد جميعه قيل: قد أكمل وتمّم؛ هذا هو حقيقة هذه الكلمة، فلما كان الإيمان قد تقدم بمكة، وأنزل الله تعالى الفرائض والدين شيئاً بعد شيء، وكان الإكمال من الدين دلّ أنّ بعضه متعلّق ببعض إلى أكمله، فصارت الأعمال متعلقة بالإيمان؛ وهما الدين المكمل.(2/66)
وقال بعض السلف: من لم يقل من المرجئة أن إبليس مؤمن لأنه قد أقرّ بالإيمان وقال به انكسر عليه مذهبه، ولعمري أنّ إبليس لعنه اللّه موحد للّه تعالى عارف به إلاّ أنه لم يعمل بالتوحيد ولم يطع من عرفه وآمن به فكفر، فأما تعلقهم بقول اللّه تعال: (فَأَثَابَهُمْ اللّه بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار) المائدة:85، فإنه شرط القول للجنات أو علق الجنات بالقول فإنما ذلك إثبات منه تعالى لتحقيق القول، وأنه قول إيمان ويقين، وأنهم غير متعوّذين بالقول، ولا متخّذوه جنة كالمنافقين، إذ المنافقون قد قالوا كقولهم إلاّ أنه أخبر عن سرائرهم بضده فقال: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) آل عمران:761، فأراد سبحانه بأنّ قول هؤلاء قول المؤمنين، وأنّ قولهم إيمان من أعمالهم لأنهم منفردون بالقول دون العمل وفيه أيضاً دليل أنّ القول بالحقّ من الإيمان، وأنه يستحق عليه ثواباً، لأنه من أعمال البرّ بمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأما أن يكون فيه دليل أنّ القول حسب هو الإيمان كله وأنّ الإيمان يكون قولاً لا يحتاج إلى عمل، فهذا باطل بالأدلة التي قدمنا ذكرها من الآي التي شرط اللّه تعالى فيها الأعمال، ومن قوله في الكفار: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا بالزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة:5 وأيضاً فإن في نفس هذه الأية بطلان دعوى المرجئة لأن اللّه تعالى لم يقل فلم يثبهم اللّه إلاّ بما قالوا جنات وإنما قال عزّ وجلّ: (فَأَثَابَهُمُ اللّه بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ) المائة:85، فأخبر أنه أجرهم على قولهم بالحق، كما قال فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا، ثم أحكام ذلك وقيده بقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) البينة:5، ولكن هؤلاء كما قال اللّه تعالى: (فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْويِلهِ) آل عمران:7، وكما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن فهم الذين عنى اللّه تعالى فاحذروهم؛ وذلك أنّ اللّه تعالى قرن الأعمال بالإيمان في كل المواضع، فلم تقف المرجئة مع شيء من هذا البيان والأحكام، فلما أجمل القول في موضع واحد لما ذكرناه من السبب تعلقوا به ووقفوا معه، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: صنفان لا نصيب لهما في الإسلام، وفي لفظ آخر: لا تنالهم شفاعتي: القدرية والمرجئة، وفي الحديث الغربي: طائفتان لا يدخلون الجنة: من قال أنّ الإيمان كلام، ورواه حذيفة فقال: إني لأعلم أهل دينين في النار قوم شرار بلا علم، وقوم في آخر الزمان يقولون كانوا ألوفاً ضلالاً، نسأل اللّه تعالى أنّ لا يصرفنا عن فهم آياته ولا يبلونا بالكبر، وإن يرينا سبيل الرشد ويوفقنا لاتخاذه سبيلاً، وإن يرينا سبيل الغيّ ويعصمنا من اتخاذه سبيلاً، كما أخبر بذلك عمن بلاه به فقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الَحقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُّشْدِ لاََ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) الأعراف: 146 الآية.
ذكر الاستثناء في الإيمان والإشفاق من النفاق وطريقة السلف في ذلك(2/67)
فأما الاستثناء في الإيمان فإنه سنة ماضية وفعل الأئمة الراضية، على معنى الخوف والتقصير، وكراهية التزكية للنفس، لا على وجه الارتياب في اليقين، ولا بمعنى الشك في التصديق، إذ الإيمان مقامات والمؤمنون فيه درجات، ولذلك قال اللّه تعالى لقوم موصوفين بأعيانهم: (أُولئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حقَّاً) الأنفال:4، فهذا وصفهم بالكمال ومدحهم بخصال الأعمال، ففي دليل خطابه أنّ ثم مؤمنين غير حق كيف وقد قال تعالى: (وأنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين) الأنفال:5 - 6، وقال سبحانه وتعالى في وصف آخرين: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلونَ) الصف:2، وقال في نعت الصادقين: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا باللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبيلِ اللّه أولئِكَ هُمْ الصَّادِقُونََ) الحجرات:51، وقال في مثل وصفهم: (وَلكِنَّ البرَّ مَنْ آمَنَ باللّه والْيَومِ الآخر وَالمَلائِكَةِ) البقرة:177، الآية، فذكر عشرين وصفاً إلى قوله: (أُولئِكَ الّذينَ صَدّقوا وَأولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) البقرة:177، منها الإيثار بالمال على حبه، والوفاء بالعهد، والصبر في الأمراض والجوع والشدائد، فبعد ذلك شهد لهم بالصدق والتقوى وقال في وصف المحبوبين من الموقنين: (إنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ) التوبة:111، وقال في نعت عموم المؤمنين: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسأَلكُمْ أَمْوَالَكُمْ إنْ يَسْأَلَكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخِْرجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد:36 - 37، فشتان بين من وصف بالمجاهدة و الصدق وبين من نعت بالخلف وعرض للمقت، وبين من وصف بالحقّ وبين من يجادل في الحق، وكم بين من قبل منه المال والنفس وبين من ردّ عليه المال ولم يسأله لما علم منه من البخل والضغن، واسم الإيمان يجمعهم ومعناه يجتمع عليهم، إلاّ أنّ مقامات الإيمان ترفع بعضهم على بعض وتفاوت بين بعضهم وبعض، كما قال تعالى: (يَرْفَعِ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ) المجادلة:11، وكقوله: (لاَ يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجةً منَ الَّذين أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللّه الحُسْنى) الحديد:1،، يعني الجنة على تفاوت الدرجات فيها، فجمع بينهم في الدار كما جمع بينهم في اسم الإيمان، ورفعهم في الدرجات علوّاً في المقامات، كما قال تعالى: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه وَاللّه بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) آل عمران:163، وقد روينا في خبر: الإيمان عريان ولباسه التقوى وحليته الورع وثمرته العلم، ففيه دليل أنّ من لا تقوى له فلا لبس لإيمانه ومن لا ورع له فلا زينة لإيمانه ومن لا علم له فلا ثمرة لإيمانه فإن اتفق فاسق ظالم جاهل كان بالمنافقين أشبه منه بالمؤمنين وكان إيمانه إلى النفاق أقرب ويقينه إلى الشك أميل ولم يخرجه من اسم الإيمان إلا أنّ إيمانه عريان لا لبسة له، معطّل لا كسب له، كما قال: (أَوْ كَسبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْراً) الأنعام:158، والنفاق مقامات قيل سبعون باباً والشرك مثل ذلك فيها طبقات.(2/68)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أربع من كنّ فيه فهو منافق خالص، وإن صام وصلّى وزعم أنه مؤمن؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وفي بعض هذا الحديث: وإذا عاهد غدر؛ فصارت خمساً، فإن كانت فيه واحدة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدّها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ آخر: أيهما غلبت عليه ذهب به، وفي الخبر: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أنّ لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ففي تبعيض أخلاق الإيمان وفي وجود دقائق الشرك وشعب النفاق ما يوجب الاستثناء في كمال الإيمان لجواز اجتماع الإيمان والنفاق في القلب ولوجود شعب النفاق وعدم بعض شعب الإيمان من القلب، كيف وقد جاء في الخبر: أكثر منافقي أمتي قراؤها، والحديث الآخر: الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا، وقال حذيفة: كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً إلى أن يموت: إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات، وفي حديث عليّ كرّم اللّه وجهه: أنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء؛ فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله، وأنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهكت الحرمات نمت وزادت حتى يسوّد القلب فيطبع عليه؛ فذلك الختم، ثم قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين: 41؛ فهذا كله موجب للاستثناء في الإيمان خشية خفايا الشرك ووجود دقائق النفاق وخوفاً من الدعوى للحقيقة والكمال، لأن من قال: إني مؤمن حقّاً فقد زكى نفسه وعصى ربه، لأن اللّه تعالى نهى عن الزكية للنفس، وعرض المزكي نفسه للكذاب في قوله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) النجم:32، وبقوله: (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشَاءُ) النساء:49، ثم قال تعالى: (اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الكَذِبَ) النساء:5،، وقد قال إبراهيم عليه السلام في تفسير أحد الوجهين من قوله تعالى: (وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً) الأنعام:8،، ومثله قال شعيب: وما يكون لنا أن نعود فيها، يعني ملة الكفر، إلاّ إن يشاء اللّه ربنا، ثم علّلا جميعاً بسعة العلم وسبق المشيئة به فلم يأمنا أن يكونا في سعة علم اللّه عزّ وجلّ وفي خفيّ مشيئته؛ وهذا هو خوف المكر، وحقيقة المكر معنيان؛ أحدهما أن يظهر شيئاً ويخفي ضده، والثاني أن يكشف ما كان ستره ويفشي ما كان أسره بعد الطمأنينة والعزة، والأنبياء مع فضلهم ومكانهم يستثنون في الكفر خيفة المكر، ولا يستثني الضعيف الجاهل في الإيمان ويغترّ بظاهر أمره، بل ينبغي أن يستثني في الإسلام أيضاً وفي جميع أعمال البرّ، لأن القبول غير العمل والسابقة غير ما ظهر من المعاملة، ولا ينبغي أن يدع الاستثناء في شيء من الأحوال.(2/69)
وقال بعض العلماء في معنى قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ) ق:19، قال: بالسابقة، وقال بعض السلف: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وكان أبو الدرداء يحلف باللّه عزّ وجلّ: ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلاّ سلبه، ويقال: من الذنوب ذنوب تؤخر عقوبتها إلى سوء الخاتمة؛ وهذا من أخوف ما خافه العاملون من قوله تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون:63، وقيل: من الذنوب ذنوب لا عقوبة لها إلاّ سلب التوحيد في آخر نفس نعوذ باللّه تعالى من ذلك، وقيل: هذا يكون عقوبة الدعوى للولاية والكرامات للافتراء على اللّه تعالى، وكان سهل رحمه اللّه تعالى يقول: من علامة الأولياء أنهم يستثنون في كل شيء، وقال من قال: أفعل كذا، ولم يقل إن شاء اللّه تعالى، سئل عن هذا القول يوم القيامة فإن شاء عذبه وإنْ شاء غفر له، وقد نهى اللّه تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يقول شيئاً حتى يستثني، وأمره بالاستثناء إذا نسي فقال تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لشَيءٍ إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه) الكهف:23 - 24، ثم قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف:24، أي الاستثناء، أي فاستثن إذا ذكرت فتأدب صلى الله عليه وسلم بذلك أحسن الأدب فكان يستثني في الشيء يقع لا محالة،.
فروي أنه دخل المقابر فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، وقال سبحانه معلماً لعباده الاستثناء ورادّهم إليه بمشيئته؛ وهو أصدق القائلين وأعلم العالمين: (لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنّ شَاءَ اللّه آمِنينَ) الفتح:27، والاستثناء أصل يرد إليه من عرفه ولم ينكر الاستثناء، والأصل هو أن يزيد وينقص فأما زيادته فقد ثبت بنص الكتاب من قوله تعالى: (وَيَزيدُ اللّه الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدْىً) مريم:76، ومن قوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إيمَاناً) آل عمران:173، إلى نظائرها وما يزيد فهو ينقص لأن معناه موجود في الكتاب بدليل الخطاب من قوله تعالى: (وَلاَ يَزيدُ الظَّالِمينَ إلاَّ خَسَاراً) الإسراء:82، وقوله: (وَلَيَزَيدّنَ كَثيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) المائدة:64، ومن قوله تعالى: (وَفي آذَانِهِمْ وَقْراً) الأنعام:25، وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ) التوبة:125، فما يزيد الظالمين إلا خساراً ينقصهم رجحاناً وربحاً، وما يزيدهم إلاّ كفراً ينقصهم إيماناً، وما يكون عليهم عمى ينقصهم بصيرة، وما يكون لهم رجساً يكون لهم من الطهارة نقصاً، من قبل أنّ مزيد الشرّ نقصان الخير، كما أنّ مزيد الخير نقصان الشرّ،، فإذا ثبت أنّ الإيمان يزيد بالصالحات وينقص بالسيّئات وجب الاستثناء فيه، لأن الصالحات درجات يعلو فيها المؤمنون بحسن الولايات والمجاهدات، قال اللّه تعالى في المجمل من الخطاب: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) آل عمران:139، وقال: (وَاللّه وَلِيُّ المُؤْمِنينَ) آل عمران:68، وقال في المفسّر: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأحقاف:19، وقال في مثله: (وَهُوَ وَليُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام:127، وقال: (لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولى الضَّرَرِ وَ المُجَاهِدُونَ في سَبيلِ اللّه) إلى قوله:(وَفَضَّلَ اللّه المُجَاهِدينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْراًعَظيماً) النساء:95.(2/70)
وروينا في حديث وائلة بن الأسقع: الإيمان يزيد وينقص، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة ومن لا يحصى من التابعين، وقيل لأحمد بن حنبل رضي اللّه عنهما: ما معنى الاستثناء في الإيمان؟ قال: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قيل: نعم، قال: فالتصديق بالقول والاستثناء بالعمل، وقال بعض العلماء: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه منه بريء، وقال مرة: آمنهم له، وقال عمر مولى عفرة: أقرب الناس إلى النفاق الذي إذا زكّى بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وأبعد الناس منه من يتخوّف أنه لا ينجيه حقيقة ما هو فيه، وقال بشر بن الحرث: سكون القلب إلى قبول المدح أضرّ عليه من المعاصي، وكان سهل يقول: غفلة العالم السكون إلى الشيء، وغفلة الجاهل الافتخار بالشيء، والسكون عندهم من الدعوى، والدعوى من المعاصي، وقال حذيفة اليوم المنافقون أكثر منهم على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه، وقيل للحسن: إنّ قوماً يقولون لانفاق اليوم، فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرقات، وعنه وعن غيره: لو نبت للمنافقين أذناب ما قدرنا أنّ نطأ على الأرض، وسمع ابن عمر رجلاً يطعن على الحجاج فقال: أرأيت لو كان حاضراً بين يديك أكنت تتكلم فيه بما تكلمت الآن؟ قال: لا، قال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل له لسانان من نار في الآخرة، وفي خبر آخر: شرّ الناس ذو الوجهين يأتي هولاء بوجه وهؤلاء بوجه، وقيل للحسن إنّ قوماً يقولون: لا نخاف النفاق، فقال: واللّه لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من تلاع الأرض ذهباً، وقال الحسن: إنّ من النفاق اختلاف اللسان والقلب والسرّ والعلانية والمدخل والمخرج، وقال رجل لحذيفة: إني أخاف أنْ أكون منافقاً، فقال: لو كنت منافقاً ما خفت أن تكون منافقاً، إنّ المنافق قد أمن النفاق لأن النفاق على ضربين؛ نفاق ينقل عن الملة وهو الشك في دين اللّه تعالى والردّ لشرع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونفاق لا ينقل عن الملة ولا يخرج عن الإسلام، ولكنه ينقص الإيمان ويذهب حقيقته، ويطفئ أنواره، ويحرم مزيده، ويحبط الأعمال، ويوجب المقت والإعراض؛ وهو الرياء والمداهنة والتصنّع للخلق و التزيّن بالحق وائتلاف الألسنة واختلاف القلوب وتفاوت القول والعمل ومخالفة الأمر إلى ما ينهي عنه واختلاف السرّ والعلانية وزيادة الظواهر على السرائر، وهذا المعنى من النفاق الذي خالفه السلف وكانوا منه على إشفاق، وكان سهل يقول: المرائي حقّاً الذي يحسن ظاهره، حتى لا تنكر العامة والعلماء من ظاهره شيئاً وباطنه خراب، وقد كان الحسن وأصحابه يسمون أهل البدع منافقين، وكان ابن سيرين وأصحابه يسمونهم خوارج، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين ومائة، وفي رواية خمسمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقال مرة: ما منهم أحد يقول أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقد روينا عن عليّ وأبي سعيد قال: الأرجاء بدعة وقال أبو أيوب: أنا أكبر من الأرجاء، أول من أحدث الأرجاء رجل من أهل المدينة ذكره، وقال قتادة: لعن الله ديناً أنا أكبر منه، وإنما ظهر الأرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث يعني في ولاية الحجاج، وقال سفيان الثوري: من قال أنا مؤمن عند اللّه فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقّاً فهو بدعة، قيل: فما يقول؟ قال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبْرَاهِيمَ) البقرة:136 الآية، فقيل للحسن: أمؤمن أنت؟ قال إن شاء اللّه، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أنْ أقول نعم فيقول اللّه تعالى: كذبت يا حسن فيحق علي الكلمة، وكان يقول ما يؤمنني أن يكون اللّه عزّ وجلّ قد اطلع عليّ في بعض ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا قبلت لك عملاً أبداً فأنا أعمل في غير معمل، وكان جماعة من أهل العلم يرون السؤال عن قوله أمؤمن أنت؟ بدعة، ويقول بعضهم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت باللّه وكتبه ورسله، وقال إبراهيم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: ما أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة.(2/71)
وروينا عن الثوري عن الحسن بن عبيد اللّه عن إبراهيم النخعي: إذا سئلت أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلاّ اللّه، ومنصور عن إبراهيم قال: سئل علقمة فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو ذاك إن شاء اللّه، وكان الثوري يقول: نحن مؤمنون باللّه وملائكته ورسله وما ندري ما نحن عند اللّه، وقال بعض العلماء: أنا مؤمن بالإيمان غير شاكّ فيه ولا أدري أناممن قال اللّه سبحانه أولئك هم المؤمنون حقّاً أم لا.
وقال بعض العارفين: لو عرضت عليّ الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة، قيل: ولِمَ؟ قال: لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغير عن التوحيد من باب الحجرة إلى باب الدار، وقال أبو سليمان الداراني: سمعت فلاناً - يعني بعض الأمراء - يتكلم على المنبر بكلام أردت أن أقوم فأنكر عليه فخشيت أن يأمر بقتلي، فلم يكن بي أن أموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق بأني أمرت بالمعروف على الإمام وقتلت في اللّه عزّ وجلّ عند خروج روحي فكففت عن ذلك.
وقال بعض العارفين: لو عرفت أحداً على التوحيد خمسين سنة ثم حالت بيني وبينه سارية ثم مات، لم أحكم أنه مات على التوحيد لعلمي بسرعة تقليب القلوب، وقال منصور بن زاد: إن كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل قال: أنا مؤمن إن شاء اللّه، وقال أبو وائل: قال رجل لابن مسعود: لقيت ركباً فقالوا: نحن المؤمنون فقال: ألا قالوا نحن من أهل الجنة؟ وقال بعض أصحاب عبد اللّه لرجل: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فذكر ذلك لابن مسعود فقال: سلوه أمن أهل الجنة أنت؟ فقال: أرجو، فقال: ألا رجيت الأولى كما رجيت الثانية، ونقش ابن لبعض التابعين على خاتمه: فلان لا يشرك باللّه تعالى شيئاً فقال أبوه: هذا أقبح من الشرك.(2/72)
وقال بعض السلف: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه أبعدهم منه عند نفسه، وفي الخبر: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً ومدحوه وأحسنوا الثناء عليه، فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الرجل يقطر وجهه ماء من أثر الوضوء قد علق نعليه بيديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول اللّه هذا هو الرجل الذي وصفنا لك آنفاً، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: أرى على وجهه سفعة من الشيطان، يعني ظلمة، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نشدتك اللّه هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟ فقال: اللهم نعم، في الحديث: من قال إني مؤمن فهو كافر، ومن قال إني عالم فهو جاهل، ومن قال إني في الجنة فهو في النار، وعلّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى دعاء قال: قل فيه: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، وجاء في الخبر: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا، وكان من دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إني أستغفرك لما علمت وما لم أعلم، فقيل له: أتخاف يا رسول اللّه؟ قال: وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقال اللّّه تعالى: (وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر:74، قيل: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات، فلما كان عند الحساب والميزان وجدوها سيّئات، وقيل كانت هذه الآية مبكاة العابدين، وقيل في معنى قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) الأنعام:115، وقيل: صِدْقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك كقوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) يونس:96 - 97، وقال سبحانه: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذِلكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون:63، وقال: (يَنَالُهُمْ نَصيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ) الأعراف:37، وقال:(وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) هود:9،1، وقال: (وَللّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) الحج:41، وقال: (لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الأَرْضِ الْغَيْبَ إلاَّ للّهُ) النمل:65، فالاستثناء في الإيمان هو من الإيمان، والاستثناء في كل شيء من علامة الأولياء، والإشفاق من الشرك والنفاق، هو من مزيد الإيمان لئلا يسكن العبد إلى شيء ولا يزكي نفسه بشيء، وقال سري السقطي: لو أنّ رجلاً دخل إلى بستان فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الأطيار فخاطبه كل طير منها بلغة فقال السلام عليك يا ولي اللّه فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في أيديها.
الفصل السادس والثلاثون
فضائل أهل السنّة والطريقة
وطرق السلف من الأئمة(2/73)
السنّة اسم من أسماء الطريق، وهو اسم للطريق الأقوم، يقال: طريق وطريقة وسنن وسنّة وحجّة ومحجّة، فمن فضائل السنّة وطريق أهلها التقلّل من الدنيا في كل شيء، والقناعة من اللّه تعالى بأدنى شيء، والتواضع للّه بكل شيء، وفي الخبر فضل العبادة التواضع، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أربع لا يوجدن إلاّ بعجب التواضع؛ وهو أوّل العبادة، والصمت، وذكر اللّه تعالى، وقلة الشيء، واعلم أنّ التواضع يظهر بمعان خمسة: بالقول، والفعل، والزيّ، والأثاث، والمنزل، يكون في المؤمن بعضها، فمن كملت فيه فهو متواضع، والكبر ضد التواضع وهو يظهرأيضاً بأضداد هذه الخمسة يبتلي المؤمن ببعضها ويعافى من البعض، فمن كملت فيه فهو متكبر، وحقيقتها في القلب وظاهرها بالأفعال والأقوال ثم الورع عن الشبهات والمشكلات من العلوم والأعمال أن يقدم عليها بنطق أو عمل ولا يعتقد نفيها ولا إثباتها خشية أن يكون معتقد الباطل أو نافياً لحق، بل يكون اعتقاده فيها تسليماً للّه عزّ وجلّ، ويقول: آمنت بحقائقها عند اللّه تعالى فذلك تعبّد من اللّه عزّ وجلّ للمؤمنين فيما تشابه من الأمور، أن يسكتوا ويسلموا، وبذلك وصف الراسخين في العلم وأقسم بنفسه على نفي إيمان من لم يسلم تسليماً وجعل التسليم مزيد الإيمان في قوله تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وَتَسْلِيماً) الأحزاب:22، وفي الخبر: إنما الأمور ثلاثة أمر استبان رشده فاتبعه، وأمر استبان غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليه فكله إلى عالمه، وكذلك ابن مسعود يقول: إن لهذا القرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه، وكان أيضاً يقول: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع، وسيأتي عليكم زمان يكون خيركم فيه المتبين يعني لوضوح الحق في القرن الأوّل ولدخول الشبهات في زماننا هذا، فصار الحق غامضاً فكان خير الناس اليوم المتثبت بالورع، كما أخبر أنّ خيرهم يومئذ المسارع بالفضل ومما يدلك أنّ الإيمان هو التسليم، كما أنّ الإيمان هو التصديق، أنّ في قراءة بعض التابعين منهم جعفر بن محمد، وقد رويناه عن أبي جعفر ومحمد بن عليّ أنهما قرأا: (واجعلنا مسلمين لك) البقرة:128 وقرأا أيضاً: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف:69 فلولا أنهما بمعنى واحد لم يجز أن يخالفوا المعنى في المقروء.(2/74)
وكذلك قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، في الأمر المتشابه الذي يشبه الحق من جهة ويشبه الباطل من جهة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ولكن قولوا: آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، هذا لأن اللّه سبحانه وتعالى أنزل التوراة؛ فهي حق، ثم أخبر أنهم قد حرّفوها فاحتمل أن يكون ما يخبرون به المؤمنين مما أنزل اللّه تعالى فلا يحلّ التكذيب به ولا اعتقاد نفيه، واحتمل ما يخبرون به المؤمنين أنهم حرّفوا فلا يحلّ قبوله ولا اعتقاد ثبوته، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإيقاف ذلك والإيمان بما أنزل اللّه تعالى جملة، فإن كان ما أخبروهم حقّاً دخل فيه، وإن كان باطلاً لم يضرّه، فالمسلم هو الذي يسلم ما لم يظهر دليله في العقل لأجل القدرة والسنّة والنقل، كما أنّ المؤمن هو الذي يصدّق بما لم يظهر بمشاهدة العين الإيمان بالغيب، لأن العقل بصره القلب كالعين بصر الجسم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن المجنون حتى يعقل، كما قال اللّه تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعمى حَرَجٌ) النور:61، ثم ترك ما لا يعني مما قد كفي ومما لم يكل إليه من القول والفعل، لأن الدخول فيما لا يعني هو التكلّف المنهي عنه الذي أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ الأتقياء من أمته براء منه، وهو يشغل ويقطع عمّا يعني، وفيما يعني شغل عمّا لا يعني لكل فطن عاقل، وهو أصل الحكمة فيما أخبر به لقمان لما سئل: أنّى أوتي الحكمة؟ قال: بشيئين لا أتكلّف ما كفيت ولا أضيع ما كلّفت فهذا شيء لا يضرّ جهله ولا ينفع فعله، ولأنه شيء كتب عليه لم يكن له فيه فضل وإن سمع منه وظهر به، ولم يكن له فيه مزيد ولا لغيره نفع، ثم كفّ الأذى؛ فإن ذلك من الورع، وكان سهل رحمه اللّه تعالى يقول: كفّ الأذى كسب العقل واحتمال الأذى كسب العلم، والنصيحة للخلق والرحمة لهم كسب الإيمان من العمل في قطع ما قد اعتاد من عاجل حظوظ النفس مما يقطعه عن العمل لأجل الآخرة وأعمال النفس وإجهادها، وأن لا يكون لها معتاد من شهوة تعود على النفس منه منازعة، فإن العادة جند غالب لأجلها تعذرت التوبة ولغلبتها رجع العبد عن الاستقامة؛ وهي باب من أبواب الهوى، إلاّ فيما أمر به العبد أو ندب إليه، قال أبو سليمان الداراني: إن قدرت أنّ لا يكون لك وقت معتاد في الأكل تنازعك نفسك إليه فافعل، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة، أي لنقص النفس من المعتاد والتقلل أيضاً، وقال أيضاً، ترك شهوة من شهوات النفس أنفع للقلب من صيام سنة، وقيامها هذا كله خشية إيلاف العادات، فتنازع النفس إلى الألف فلا يمكنك ضبطها لغلبة الوصف، ثم حسن الصبر على ما أمر به، وحسن الصبر عمّا نهى عنه؛ فإن ذلك من أفضل الأعمال وله فضائل المزيد والكمال.(2/75)
وفي حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: اتقّ المحارم تكن من أعبد الناس، وفي لفظ آخر: تكن من أورع الناس، ومن أحسن ما سمعته من عظيم المثوبة في الصبر عن المعصية ما حدثونا في الإسرائيليات: أنّ رجلاً تزوّج امرأة من بلدة، وكان بينهما مسيرة شهر، فأرسل إلى غلام له من تلك البلدة ليحملها إليه فسار بها يوماً، فلما جنّه الليل أتاه الشيطان فقال له: إنّ بينك وبين زوجها مسيرة شهر فلو تمتعت بها ليالي هذا الشهر إلى أن تصل إلى زوجها، فإنها لا تكره ذلك وتثني عليك عند سيدك فتكون أحظى لك عنده، فقام الغلام يصلي فقال: يا رب، إنّ عدوك هذا جاءني فسوّل لي معصيتك، وإنه لا طاقة لي به في مدة شهر وأنا أستعيذك عليه يا رب فأعذني عليه، واكفني مؤونته، فلم تزل نفسه تراوده ليلته أجمع وهو يجاهدها حتى أسحر فشّد على دابة المرأة وحملها وسار بها، قال: فرحمه اللّه تعالى، فطوى له مسيرة شهر فما برق الفجر حتى أشرف على مدينة مولاه، قال: وشكر اللّه تعالى له هربه إليه من معصيته فنبأه، فكان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل، ثم إعداد العدة لما يستقبل إذا كان ذلك من مريديّ السعي للآخرة والشغل بالنفس والإقبال عليها دون الناس فقد وجب ذلك، والزهد في فضول الشهوات واجتناب كثير من الشبهات فقد افترض ذلك، وقلة الذكر للناس ولأمور الدنيا فقد حسن ذلك، ومنه غفلة وقسوة للقلب وكثرة الذكر للّه تعالى والتذكير به وذكر آلائه ونعمائه وحسن الثناء عليه والمدح له، وقد كان بعض العلماء يقول: من جالسنا فليجتنب ذكر ثلاث خصال وليقض فيما يشاء: يجتنب ذكر الناس فإنهم داء، ويجتنب ذكر الدنيا فإنها قسوة، ويجتنب كثرة الطعام فإنها شره، وقال عالم آخر: من جالسنا فلا يذكر إلاّ اللّه وحده، فإن كان لا بدّ من ذكر غيره فليذكر الآخرة وليذكر الصالحين، وكان سهل رحمه اللّه تعالى ورضي عنه يقول: السنّة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأول السنة الزهد في الدنيا لأنهم كانوا زاهدين، وكذلك جاء الخبر في وصف الفرقة الناجية: من كان على ما أنا عليه وأصحابي فقد كانوا على هذه الأوصاف التي ذكرناها، فمن كان على ذلك فهو على السنّة فهذه فضائل السنّة وهو مزيد الإيمان وحسن اليقين.
ذكر عري الإيمان وجمل الشريعة
قال اللّه جلّ ثناؤه وصدقت أنباؤه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) الجاثية:18، فالشريعة اسم من أسماء الطريق، وهو اسم الطريق الواضح المستقيم الواسع، وهو وصف لطريق جامع لجوامع المحاج كلّها، كأنه طريق يستوعب ويجمع سائر الطرق، وللطريق أسماء كثيرة منها الصراط المستقيم والسبيل والمنهاج والمحجّة والمنسك، وجاء من اشتقاق هذا اللفظ أربعة أسماء: شارع، ومشرعة، وشرعة، وشريعة؛ وهو اسم لأوسعها وأوعبها لجميع الطرق، فالشريعة تشتمل على اثنتي عشرة خصلة هي جامعة لأوصاف الإيمان؛ أول ذلك الشهادتان وهي الفطرة، والصلوات الخمس وهي الملة، والزكاة وهي الطهرة، والصيام وهو الجنة، والحج وهو الكمال، والجهاد وهو النصر، والأمر بالمعروف وهو الحجة، والنهي عن المنكر وهو الوقاية، والجماعة وهي الألفة، والاستقامة وهي العصمة، وأكل الحلال وهو الورع، والحبّ والبغض في اللّه وهو الوثيقة، وقد روينا بعض هذه الخصال عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد جاء نحوها عن ابن عباس وابن مسعود رضي اللّه عنهما.
ذكر شرط المسلم الذي يكون به مسلماً(2/76)
لا يكون معتقد البدعة، ولا مقيماً على كبيرة، ولا آكل الحرام، ولا طاعناً على صالح السلف، ويكون كافّ اللسان واليد عن أعراض المسلمين وأموالهم، ويكون ناصحاً لجميع المسلمين مشفقاً عليهم، يسرّه ما يسرّهم ويسوءه ما يسوءهم، سيما لأئمتهم، داعياً لجملتهم، ويكون مخلصاً لأعماله كلها للّه تعالى، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، وروي عنه: ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العلم للّه تعالى، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا فهو من أولياء اللّه عزّ وجلّ؛ وهذا أول ولاية وأول نظرة من اللّه تعالى حامية عاصمة راحمة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد اللّه: اكتب إليّ بسيرة عمر رضي اللّه تعالى عنه في الناس فإني أحب أنّ أسير بها فكتب إليه: أما بعد فإنك لست في زمان عمر، ولا لك رجال كرجال عمر؛ فإن عملت في زمانك هذا ورجالك هؤلاء بسيرة عمر فأنت خير من عمر رضي اللّه عنه.
ذكر حسن إسلام المرء وعلامات محبة اللّه تعالى له
يكون محباً للخير وأهله، مجانباً للشرّ وأهله، مسارعاً إلى ما ندب إليه أو أمر به إذا قدر عليه، حزيناً على ما فات من ذلك إذا أعجزه، تاركاً لما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، بريئاً من التكلّف؛ وهو اجتناب ما لم يؤمر به ولم يندب إليه من ترك وفعل مصلّياً للخمس في جماعة إذا أمن الفتنة وسلم له دينه، ومجتنباً للغيبة ولذكر الناس، يحبّ للكافة ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ومسارعاً إلى الخيرات، مسابقاً إلى أعمال البرّ والقربات، طويل الصمت، لينّ الجانب، ذليلاً للمؤمنين، عزيزاً على المتكبرين، لا يماري في الباطل ولا يداهن في الدين، ولا يبغض على شيء من الحق وإن كان عليه، أو من أبعد الناس منه، ولا يحبّ على شيء من الباطل وإن كان له أو من أقرب الناس إليه، كارهاً للمدح ممن يحبه، قابلاً للنصح ممن يبغضه، يكون المدح والذم يجريان من قلبه مجرى واحد، صدوقاً فيما يضرّه، غير متصنّع بما يستعجل نفعه، سريرته أفضل من علانيته، محتملاً لأذى الخلق، صابراً على بلائهم، منفرداً بحاله عنهم، تاركاً الكثير من مجالسهم واجتماعهم خشية دخول الشبهات عليه، وخوفاً من تغيّر قلبه له، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا فهو من المريدين للآخرة، وهذه ولاية ثانية ونظرة ثانية، ويقال إنّ أبدال كل قرن على قدر زمانهم وفي كل قرن سابقون ومقربون.
وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) الإنشقاق: 19، قال: لتركبنّ في كل قرن في طبقة من الناس على حال لم يكونوا عليه، وأكثر ما قيل في القرن مائة سنة، وأقل ما قيل فيه أربعون، وأوسط ذلك وأعدله وأشبهه بحمل الأحاديث والأخبار فيه أنّ القرن سبعون سنة؛ وهو قول عليّ رضي اللّه عنه، لأن رأس المائتين تمام ثلاثة قرون من المبعث، ونحن الآن في القرن السادس من أول سنة أربعين وثلاثمائة وآخره سنة عشر وأربعمائة، ويقال: إن الشمس تطلع من المغرب بعد القرن السابع وهو رأس الثمانين وأربعمائة وعلى قول من قال: القرن مائة سنة تطلع بعد سبعمائة سنة، وفي الخبر: أنّ ملك الموت إذا جاء لقبض روح المؤمن قال له ملكاه: أنظرنا حتى نملأ مسامعه من الثناء الحسن، فيقولان: جزاك اللّه عنّا خيراً فإنك كنت ما علمنا سريعاً في طاعة اللّه تعالى بطيئاً عن معاصية تحبّ الخير وأهله وتعمل بما استطعت منه، فربّ كلام حسن قد أسمعتنا ومجلس كريم قد أجلستنا فأبشر بالموعود الصدق بيننا وبينك الوقوف بين يدي اللّه تعالى بالشهادة لك عنده غداً.
ذكر حق المسلم على المسلم وهو وجوب حرمة الإسلام على المسلمين(2/77)
وذلك عشر خصال مجموعة من ستة أحاديث؛ حديث عليّ رضي اللّه عنه: للمسلم على المسلم ست خصال واجبة، وحديث أبي أيوب الأنصاري: حق المسلم على المسلم ستّ خصال إن ترك منها شيئاً ترك حقّاً واجباً عليه، وحديث البراء بن عازب: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، وحديث ابن مسعود: للمسلم على المسلم أربع خلال واجبات، وحديث سعد وأبي هريرة في معنى ذلك، وحديث أنس: أربع من حق المسلم عليك إلاّ أنه ذكر غير ذلك، فاختلفت الألفاظ في الخصال وأنفقت المعاني، وذكر بعضهم في حديث ما لم يذكره الآخر، فجمعنا اختلافهم وعدد جمل الخصال فكانت عشرة إلاّ ما رواه أنس بن مالك رضي اللّه عنه؛ فإنه حديث غريب مؤكد للخصال وزائد عليها في الألفاظ نذكره بعدها، فأما الخصال العشر التي كثرت الأخبار بها فهي أن يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويبرّ قسمه إذا أقسم عليه، وينصح له إذا استنصحه، ويحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنه، ويحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فأما حديث أنس: فروينا عن إسماعيل بن أبي زياد عن أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أربع من حق المسلم أن تعين محسنهم وأن تستغفر لمذنبهم وأن تدعو لمدبرهم وأن تحب تائبهم؛ فهذه الخصال داخلة في تلك الخصال وجامعة لها في معنى النصيحة لأخيك، وفي أن تحب له ما تحبّ لنفسك، وقد كان ابن عباس يؤكد هذا المعنى خاصة للمسلم على المسلم، ويفرضه فرض الحلال والحرام، ويفسّر به قوله: رحماء بينهم، فحدثناه في رواية جبير عن الضحاك عنه في قول اللّه عزّ وجلّ: رحماء بينهم؛ يعني متوادّين بينهم، يدعو صالحهم لطالحهم، إذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير، وثبته عليه، وانفعنا به؛ وإذا نظر الصالح إلى الطالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اهده، وتب عليه، واغفر له، قال ابن عباس هذه الآية من حلالكم وحرامكم؛ فهذه الخصال المذكورة جامعة مختصرة في حرمة المسلمين ووجوب حق بعضهم على بعض لا عذر لأحد منهم في تركها إلاّ من عذرته السنّة، ويشهد له العلم، وبعضها أوكد من بعض وأكمل المؤمنين إيماناً لقومهم بها وأسرعهم إليها قد كثرت بها الروايات، وقد كان بعض السلف تركوا منها ثلاثة: إجابة الدعوة، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، إلاّ أنّ هؤلاء اعتزلوا الناس أصلاً وكانوا أحلاس بيوتهم لم يخرجوا إلاّ إلى الجمعات، ومنهم من ترك الجماعات وكان منهم من تبوأ الجبانات وفارق الأمصار والإخوان، وقال سهل: ما أعلم شيئاً أشدّ من حقوق الناس وكان يقول من كفّ أذاه عن الخلق مشى على الماء، وقال أبو يزيد وغيره بغية العقلاء السلامة من اللّه تعالى، ومن أراد السلامة من اللّه فليسلم الناس منه، فمن أراد أن يسلم الناس منه فليبعد منهم، فقد أنشدت لبعضهم في معناه:
الناس بحر عميق ... والبعد منهم سلامه
وقد نصحتك فانظر ... لا تدركنك ندامه
وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه: اتقوا اللّه واتقوا الناس، وعن ابن عباس مثلها: لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس، وقال مرة: لدخلت بلاداً لا أنيس بها وهل يفسد الناس إلاّ الناس؟ وقال بعض السلف: كلما كثرت المعارف كثرت الغرماء وكلما أطالت الصحبة توكدت الحقوق، وقال بعض العلماء: من عرف نفسه استراح، ومن عرف الناس تعنى، وقال بشر بن الحرث في ضده: من عرف الناس استراح، وقد قيل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: مداراة الناس صدقة، قال: مداراتهم في العلوم ومفارقتهم في العقول وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (إدْفَعْ بِالَّتي هيَ أَحْسَنُ) المؤمنون:96، قال هي المداراة، وفي الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن منع حظه من الرفق منع حظه من الدنيا والآخرة.
ذكر سنن الجسد(2/78)
وفي الجسد اثنا عشرة سنة، وذلك مأخوذ من ثلاثة أحاديث متفرقة: منها حديث جبريل عليه السلام حين استبطأه النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ خمس منها في الرأس وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقصّ الشارب، وفرق شعر الرأس؛ ومنها سبع في الجسد: وهي الختان، والاستحداد، وانتفاض الماء وهو الاستنجاء ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وغسل البراجم، وتنظيف الرواجب، فأما البراجم فهي معاطف ظهور الأنامل لم تكن العرب تكثر غسل ذلك لتركها غسل أيديها عقيب الطعام، فكان يجتمع في تلك المكاسر الوسخ فأمروا بغسلها، قال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة: كنا نأكل الشواء ثم تقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصباء، ثم نفركها في التراب ونكبّر، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما كنا نعرف الأشنان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا بواطن أرجلنا، كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها، ويقال: أول ما ظهر من البدع بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أربع: المناخل، والأشنان، والموائد، والشبع؛ فهذه كلها في شأن الجوف وهو شر وعاء مجوّف، وأما الرواجب فهي جمع راجبة وهي واحدة الأنامل لم تكن العرب يتفق لها الجلمان في كل وقت فيقصون أظفارهم فوقت لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقصّ الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوماً، إلاّ أنه أمر بتنظيف ما تحت الأظافر لأنه مجمع النفث؛ وهي الرواجب إلى أن يقصوا أظفارهم، وجاء في الأثر: أن النبي صلى الله عليه وسلم استبطأ الوحي فلما هبط جبريل عليه السلام قال له: كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم، وقلحاً لا تستاكون؟ مر أمتك بذلك.
ويقال لما تحت الأظافر من الوسخ الأف، وهو الذي يقال أف وتف؛ فالأف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن، وقيل: بل التف كلمة اتباع للمبالغة في التأذي بالقذر المؤذي؛ ومن ذلك قولهم في الإتباع جائع نائع وعطشان نطشان ولا أثر له ولاعنبر، وقيل من هذا قول اللّه تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) الإسراء:23، أي لا تعبهما بما تحت الظفر من الوسخ، وقيل: لا تؤذهما تأذيك بما تحت ظفرك من الأذى أو لا تؤذهما بمقدار ذلك.
ذكر ما في اللحية من المعاصي والبدع المحدثة(2/79)
قد ذكر في بعض الأخبار: أنّ للّه تعالى ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحي، ويقال: إنّ اللحية من تمام خلق الرجل وبها تميّز الرجال من النساء في ظاهر الخلق، في وصف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنه كان كثّ اللحية، وكذلك كان أبو بكر وكان عثمان طويل اللحية دقيقها، وكان علي رضي اللّه تعالى عنه عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه، ويقال: إنّ أهل الجنة مرد إلا هارون أخا موسى عليهما السلام فإن له لحية إلى صدره تخصيصاً له وتفضيلاً، ووصف بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس قال: وددنا أنا اشترينا للأحنف اللحية بعشرين ألفاً فلم يذكر حنفه في رجله ولا عوره في عينه وذكر كراهية عدم لحيته وكان عاقلاً حليماً، وقد روينا من غريب تأويل قوله تعالى: (يَزيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ) فاطر:1، قال اللحي وفيه وجوه كثيرة، وذكر عن شريح القاضي قال: وددت لو أنّ لي لحية بعشرة آلاف، وقال بعض الأدباء في اللحية خصال نافعة منها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار، ومنها رفعه في المجالس والإقبال عليه، ومنها تقديمه على الجماعة وتعقيله وفيها وقاية للعرض؛ يعني إذا أرادوا شتمه عرضوا له بها فوقت عرضه، وقال أبو يوسف القاضي: من عظمت لحيته جلت معرفته، ففي اللحية من خفايا الهوى ودقائق آفات النفوس، ومن البدع المحدثة اثنتا عشرة خصلة بعضها أعظم من بعض وكلّها مكروهة، قد كنا أجملنا ذلك عدداً في باب آفات النفوس، فأما تفسيره فإن من ذلك خضابها بالسواد لأجل الهوى وتدليس الشيبة، وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبيهاً بالصالحين والقراء من السنّة، وتبييضها بالكبريت وغيره استعجالاً لإظهار علو السنّ وستر الحداثة لأجل الرياسة والتعظيم ليشهد عند الحكام أو لينفق بذلك حديثه ويدعي بالسنّ مشاهدة من لم يره، فعل ذلك بعض المحدثين وبعض الشهود، ومن ذلك نتفها أو نتف الشيب منها تغطية للتكهل، ومنها تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقة للتزين والتصنع، ومن ذلك النقصان منها والزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغ من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وذلك هو حدّ اللحية، أو ينقص من العظمين إلى نصف الخد وذلك مثله وهو نقصان من اللحية، ومن ذلك تسريحها لأجل الناس تصنّعاً أو تركها لأجل الناس شعثة مفتلة مغبرة إظهاراً للزهد أو التهاون بالقيام على النفس لأنه قد عرف بذلك، ومن ذلك النظر إلى سوادها عجباً بها وخيلاء وغرة بالشباب وفخراً؛ ومن ذلك النظر إلى بياضها تكبّراً بكبر السنّ وتطاولاً على الشبان فيحجبه نظره إليها عن النظر إلى نفسه من تعلّم العلم وتعلّم القرآن الذي لا يسعه جهله والسؤال عمّا يجهله استصغاراً لغيره من الشباب، أو حياء من شيبه، أو استنكافاً منه، فيظن بجهله أنّ كثرة الأيام التي بيّضت شعر لحيته أعطته فضلاً أو جعلت فيه علماً، ولا يعلم أنّ العقل غرائز في القلوب وأنّ العلم مواهب من علاّم الغيوب، ومن كانت غريزته الحمق وطبيعته الجهل كثرت حماقته كلما كبر وعظمت هالته إذا أسنّ، وقد روينا جميع ذلك في كثير من الناس وهذا كله محدث وهو ضاهي سنن الجسد الاثنتي عشرة في العدد، ومما جاء في جمل معاني ما ذكرناه من الكراهة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: حفوا الشوارب واعفوا اللحى، فقوله: حفوا أي اجعلوها حفافي الشفة أي حولها، لأنّ حفاف الشيء حوله، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرشِ) الزمر:75، وكان بعض العلماء يكره حلق الشارب حتى تظهر البشرة ويراه بدعة، وقد كان مالك بن أنس وبعض علماء المدينة يقولون: حلق الشارب مثله إنما هو الأخذ منه حتى يبدو الإطار والإطار حروف الشفة من فوق.(2/80)
وفي الحديث لفظة أخرى: أحفوا الشوارب، والإحفاء هو الاستئصال والاستقصاء؛ وهو أبلغ من قوله: حفوا، ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (إنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) محمد:37 أي يستقصي عليكم، وقد كان كثير من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحفي شاربه، ونظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه، فقال: ذكرتني أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: فقلت هكذا كانوا يحفون شواربهم، فقال: نعم وأشد من هذا كالحلق، وليس الإحفاء حلقاً إلاِ أنه شبيه به، وقد روينا في هذا الحديث ثلاثة ألفاظ أخر وهو: خذوا من الشوارب فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من شاربه، وروي قصوا الشوارب، وجزوا الشوارب؛ فهذه الثلاثة بمعنى واحد وهو يقتضي أخذ بعضه وترك البعض ليست كالإحفاء، وقال المغيرة بن شعبة: نظر إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد عفا شاربي فقال تعال: فقصه لي على سواك فهذا نص من فعله في أخذ الشارب، وقد رويت لفظة غريبة طروا الشوارب طراً؛ والطرّ أن يؤخذ من فوق الشارب ومن تحته يستدق،والطرّ الدقيق المستطيل المستخرج من شيء أكثر منه حتى يحمل على وصف دونه أو أصغر منه؛ ومن هذا سميت الطرة كأنها مستخرجة من شيء كثير مجعولة على وصف لطيف، وكان بعض السلف يترك سباليه وهما طرفا الشارب ويحفي وسط شاربه، وروي هذا عن عمر وغيره، وكذلك رأيت أبا الحسن بن سالم رحمه اللّه تعالى يفعل فأما قوله: وأعفوا اللحى يعني كثروها، ومن هذا قول اللّه عزّ وجلّ (حَتّى عَفَوْا) الأعراف:95، أي كثروا، وفي الخبر أنّ اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم، فخالفوهم وردّ عمر بن الخطاب وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة رجل كان ينتف لحيته ونتف الفينكين بدعة؛ وهما جنبتا العنفقة، شهد رجل عند عمر بن عبد العزيز بشهادة وكان ينتف فينكيه فردّ شهادته.
وورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: النهي عن نتف الشيب وقال: هو نور المؤمن ونهى عليه السلام عن الخضاب بالسواد قال: هو خضاب أهل النار، وفي لفظ آخر: الخضاب بالسواد خضاب الكفّار، وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يغير شيب أبيه، وقال: جنبه السواد وقال: هو خضاب أهل النار، وتزوج رجل على عهد عمر رضي اللّه عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر فردّ نكاحه وأوجعه ضرباً، وقال: غررت القوم بالشباب ودلست عليهم شيبتك، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الصفرة خضاب المسلمين، والحمرة خضاب المؤمنين، وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة، ويقال: أوّل من خضب بالسواد فرعون لعنه اللّه، وقال سري بن المغلس السقطي: في اللحية شركان: تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد، وقال أيضاً لو دخل عليّ داخل فمسحت لحيتي لأجله ظننت أني مشرك، وعن كعب وأبي الجلد وصفا قوماً يكونون في آخر الزمان يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقفون نعالهم كالمناجل أولئك لا آخلاق لهم، وذكر أيضاً عن جماعة أنّ هذا من أشراط الساعة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة، وروي أبو المهزم عن أبي هريرة أنّ أصحاب الدجال عليهم السيجان شواربهم كالصياصي ونعالهم مخرطة؛ يعني شواربهم ملس تلوح، وأصل الصياصي القرون وهو جمع صيصة ومنه صيصة الديك الظفر الثاني الأملس مؤخر رجله كأنه عظم، وقوله عليهم السيجان يعني الطيالسة وهو جمع ساج، وقوله: نعالهم مخرطة أي لها أعناق طوال معرقفة كالخراطيم وهي أكمام الأباريق، وكان ابن عمر يقول للحلاق أبلغ العظمين فإنهما منتهى اللحية؛ يعني حدّها، ولذلك سميت لحية لأن حدّها للحي فالزيادة على ذلك الحد والنقصان منه محدث.
ذكر ما جاء في فعل بعض ذلك واستحبابه(2/81)
إنّ من العلماء من كان يأخذ من لحيته في المناسك وغيرها وإن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما تحت القبضة فلا بأس، قد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وتركها عافية على خلقتها أحبّ إليّ، وقد روينا خبراً من سعادة المرء خفة لحيته، إلاّ أنّ بعض الرواة رواه على معنى آخر فإن لم يكن صحفه فهو غريب، كان يقول فيه خفة لحيته أي بتلاوة القرآن ولا أراه محفوظاً، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم الصالحون بعده يسرّحون لحاهم لأجل الدين والسنّة وتنظيفاً للطهارةونزع التفث من القمل وغيره ولإسقاط شعر ميت إن كان هناك، وقد كان من الزّهاد من يترك لحيته متفتلة لا يسرّحها شغلاً عن نفسه، والصدق بعينه حسن والصدق في كل شيء حسن، قال بعضهم: رأيت داود الطائي منفتل اللحية، فقلت: يا أبا سليمان لو سرّحت لحيتك، فقال: إني إذاً لفارغ، إلاّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يدهن شعره ويرجله غبّاً، وأمر بذلك فقال: وادهنوا غبّاً، وقال: من كانت له شهرة فليكرمه ودخل رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال: أما كان لهذا دهن يسكن به شعره؟ ثم قال: يدخل أحدكم كأنه شيطان.
وقد روينا في خبر غريب: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسرّح لحيته في كل يوم مرتين، وفي خبر أغرب منه قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها: اجتمع قوم بباب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم فرأيته يطلع في الحب ليسوي من رأسه ولحيته، وفي الخبر المشهور أنه كان يمشط لحيته في كل يوم، وأنّ المشط والمدرى لم يكن يفارقه في سفر ولا حضر؛ فهذه سنّة العرب المعروفة فيهم وكان عليه الصلاة والسلام عليها، وكانت من أخلاقه، وقد كان الشباب يتشبهون بالكهول تفضيلاً للكهول غير عجب بالشباب ولا فخر بالحداثة.
وفي الخبر: خير شبابكم من تشبّه بشيوخكم وشرّ شيوخكم من تشبّه بشبابكم، وفي الحديث: أنّ من إجلال اللّه تعالى إجلال ذي الشيبة لمسلم، وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب ويرون فضلهم بالعلم والدين تواضعاً وإخباتاً لا تكبّراً بالكبر ولا غلّواً، كان عمر رضي اللّه تعالى عنه يقدم ابن عباس وهو حدث السنّ على أكابر الصحابة ويسأله دونهم.
وروي عن ابن عباس وغيره: ما آتى اللّه تعالى عبداً العلم قط إلاّ شاباً والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبراهيمُ) الأنبياء:60 وتلا قوله سبحانه: (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) الكهف:13، وقوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً) مريم:12، وقد كان أنس بن مالك إذا ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: قبض، وليس في شعر رأسه وشعر لحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل ولِمَ يا أبا حمزة وقد أسنّ؟ قال: لم يشنه اللّه تعالى بالشيب، قيل: أو شين هو؟ قال: كلكم يكرهه، ويقال إنّ يحيى بن أكثم ولي القضاء وسنّه إحدى عشرون سنة فقال له رجل ذات يوم وهو في مجلسه يريد أن يحشمه بذلك كم سنّ القاضي أيده اللّه تعالى؟ فقال مثل سن عتاب بن أسيد حيث ولاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إمارة مكة وقضاءها فأفحمه، وروينا عن مالك بن معول قال: قرأت في بعض كتب اللّه عزّ وجل: لا تغرّنكم اللحى فإن التيس له لحية، وقال بعض الأدباء كلما طالت اللحية تشمّر العقل وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيته طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق، ولو كان أمية بن عبد شمس، وقال معاوية رحمه اللّه تعالى: يتبين حمق الرجل من طول قامته وعظم لحيته، وفي كنيته ونقش خاتمه، وكان إبراهيم النخعي ومثله من السلف يقول: عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته فيجعلها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن وأنشدت لبعض الظرفاء:
لا تعجبنّ بلحية ... كبرت منابتها طويله
يهوى بها عصف الريا ... ح كأنها ذنب الحسيله
قد يدرك الشرف الفتى ... يوماً ولحيته قليله
وأنشد لبعض العرب:
لعمرك ما الفتيان ... إن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان ... كل فتى ندي(2/82)
ولم يكن الأشياخ يستنكفون أن يتعلموا من الشباب ما جهلوا ولا يزرون عليهم لصغر سنهم إذ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء لا مانع لما أعطى اللّه من صبي أو غيره ولا معطي لما منع اللّه من كبير أو غيره، وقال أبو أيوب السجستاني: إني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه فيقال له تتعلم من هذا؟ فيقول: نعم، أنا عبده ما دمت أتعلم منه، وقال عليّ بن الحسن من سبق إليه العلم فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سنّاً منك، وقيل لأبي عمرو بن العلاء: أيحسن للشيخ الكبير أن يتعلم من الصغير؟ فقال: إن كانت الحياة تحسن به فإن التعلّم يحسن، فإنه يحتاج إلى العلم ما دام حيّاً، وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي رضي اللّه تعالى عنه: يا أبا عبد اللّه تترك حديث سفيان بعلوّ وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟ فقال أحمد: لو عرفت منه ما أعرف لكنت تمشي من الجانب الآخر، إن علم سفيان إن فاتني بعلوّ أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلوّ ولا نزول، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول، إني لأرى الصبي يعمل الشيء فأستحسنه فأقتدي به فيكون إمامي فيه وما رأيت أشد تواضعاً منه على علمه وزهده، فأما معنى الخبر الذي روي لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم عن أكابرهم، فإذا أتاهم عن أصاغرهم هلكوا، فإن ابن المبارك سئل عن معنى ذلك فقال: أصاغرهم أهل البدع لأنه لا صغير من أهل السنّة ممن عنده علم، ثم قال: كم من صغير السن حملنا عنه كبير علم، وقد قيل: إنّ قوله عن أكابرهم يعني أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا مواطئ للخبر الآخر: لا تزال أمتي بخير ما دام فيهم من رآني وليأتين عليهم زمان يطلب في أقطار الأرض فلا يوجد أحد رآني، كيف وقد جاء بذلك لفظة ذكرتها لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعن أكابرهم، فإذا أتاهم عن أصاغرهم استعصى الكبير على الصغير فهلكوا أي فذلك خشية أن لا يتعلم منه لما ذكرناه من الحياء والتكبّر والاستنكاف ووجه آخر هذا مجازه عندي على الخبر والكون لا على الذم لأنه قد جاء في الأثر وصف هذه الأمة في أوّل الزمان بتعلم صغارها من كبارها، فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم، فإذا كان كذلك فهذا تفضيل الأصاغر وتشريف هذه الأمة على سالف الأمم لأنهم لم يكونوا يحملون العلم إلاّ عن القسيسين والرهبان والأشياخ العباد والزهاد، وأخبر أنّ هذه الأمة في آخر الزمان تفضل سالف الأمم في أوّل أزمنتهم بأن يتعلم الكبير من الصغير كما فضلهم اللّه تعالى به فذلك أشدّ وطأ للخبر الآخر: أمتي كالمطر لا يدري أوّله خير أم آخره، ولمثله من الشاهد: كيف تهلك أمة أنا في أولها والمسيح ابن مريم صلى الله عليه وسلم في آخرها.
وقد روينا في الخبر: لا تحقروا عبداً آتاه اللّه تعالى علماً فإن اللّه تعالى لم يحقره إن جعل العلم عنده وكان شعبة يقول: من كتبت عنه حديثاً أو تعلمت منه علماً فأنا عبده، وقال مرة: إذا كتبت عن الرجل سبعة أحاديث فقد استرقني، فأما الخضاب بالسواد فقد يروى أن بعض العلماء ممن كان يقاتل في سبيل اللّه تعالى كان يخضب بالسواد ولكن لم يكن هذا يخضب به لأجل الهوى وتدليس الشيب إنما كان يعدّ هذا من أعداد القوة من العدة لأعداء اللّه تعالى بمعنى قول اللّه عزّ وجلّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الأنفال:60 وإظهار الشباب من القوة وقد رمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واضطبع هو وأصحابه ليراهم الكفار فيعلموا أنّ فيهم جلداً وقوة، ومن صنع شيئاً بنية خالصة صالحة يريد بذلك وجه اللّه تعالى وكان عالماً بمذهب له ذهب إليه فهو فاضل في علمه وفعله وإن كان ذلك من دون أعماله لم يتبع أن يستن به فيه لأنّا روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من شرّ الناس منزلة عند اللّه يقتدي بسيئة المؤمن ويترك حسنته، فأخبر أنّ للمؤمن سيئة وأنّ من شرّ الناس من تأسى بها معذرة لنفسه في هواها.
باب ما ذكر من نوافل الركوع وما يكره من النقصان منه(2/83)
قال اللّه سبحانه وتعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) الطور:49، روينا عن عليّ رضي اللّه تعالى عنه أنه فسره قال: ركعتا الفجر، وكذلك فسّر قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ق:40، قال: ركعتا المغرب، وهذا على قراءة من كسر الألف، فأما من نصبها فإن معناه إدبار الصلوات أي أعقابها وأواخرها، والتسبيح اسم الصلاة النافلة لكون التسبيح فيها، وتسمى النافلة سبحة، فمن سنن الركوع واستحبابه إدبار الصلوات وقبلها الذي لا أستحبّ ترك شيء منه، وبعضه أوكد من بعض سبع عشرة ركعة مجموع من خمسة أحاديث: حديث عليّ رضي اللّه تعالى عنه أنه سئل عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالنهار فقال: ست عشرة ركعة، وحديث ابن عمر: حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، وحديث أبي أيوب الأنصاري في الصلاة قبل الظهر، وحديث أنس بن مالك وعائشة في الصلاة بعد العشاء الآخرة، وفي الوتر وخبر أم حبيبة الوارد بالفضل من العدد: من صلّى في يوم اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة بنى اللّه تعالى له بيتاً في الجنة، وخبر غريب رواه أهل البيت مواطئ لبعض ما ذكرناه أنّ اللّه تعالى فرض عليكم في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة وسننت لكم مثلها؛ أول ذلك ركعتا الفجر وهما سنّة مؤكدة، وأربع قبل الظهر وهن مستحبات مؤثرة في الاستحباب، وركعتان بعدها وهما سنّة، وأربع قبل العصر رجاء أن يدخل في دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وركعتان بعد المغرب وهما سنّة مؤكدة، وثلاث ركعات الوتر مؤكدة، فأما حديث عليّ رضي اللّه عنه فإنه ذكر من صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يذكره غيره: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضحى ست ركعات في وقتين، إذا أشرقت الشمس وارتفعت قام فصلّى ركعتين وهذا هو الإشراق وهو الورد الثاني من النهار، وإذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء من المشرق، ومثلها حين تكون في ثلاثة أرباع السماء، من صلاة العصر صلّى أربعاً وهذا هو الضحى الأعلى والورد الثالث من النهار، والمواظبة على هذه الصلاة بمراعاة هذين الوقتين من عزائم الأعمال وفواضلها، وذكرت أم هانئ أخت عليّ رضي اللّه عنه أنه صلّى الضحى ثماني ركعات أطالهن وحسّنهن ولم ينقل هذا العدد غيرها، وأما عائشة رضي اللّه تعالى عنها فإنها ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء للّه فلم تحد.
وقد روينا في حديث منفرد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضحى ست ركعات، وقد روى أبو أيوب الأنصاري عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً تفرّد به: أنه لم يكن يدع أن يصلي أربعاً الزوال وقبل صلاة الظهر يقرأ فيهن بمقدار سورة البقرة، قال: فسألته عن هذه الصلاة فقال: إنّ أبواب السماء تفتح هذه الساعة ويستجاب الدعاء فأنا أحبّ أن يرفع لي فيها عمل صالح، وقد جاء في حديث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مفسّراً: من صلّى في يوم اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة بنى اللّه له بيتاً في الجنة، ركعتين قبل الفجر، وأربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، ورواه ابن عمر في حديثه: حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كل يوم عشر ركعات فذكرها إلاّ قوله: وركعتين قبل الفجر، فإنه قال: تلك الساعة لم تكن تدخل فيها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولكن حدثتني أختي حفصة أنه كان يصلّي ركعتين في بيتها ثم يخرج، وقال في حديث: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد العشاء، وقالت عائشة: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّى بعد العشاء الأخيرة أربع ركعات ثم ينام.
وقال أنس بن مالك: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوتر بعد العشاء بثلاث ركعات، يقرأ الأولى: بسبِّح اسم ربِّك الأعلى وفي الثانية: قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: قل هو اللّه أحد، وقد جاء في خبر أنه كان يصلّي بعد الوتر ركعتين جالساً وفي بعضها متربّعاً، وفي بعض الخبر إذا أراد أن يدخل في فراشه زحف إليه وصلّى فوقه ركعتين قبل أن يرقد، يقرأ فيهما: إذا زلزلت الأرض، وسورة ألهاكم التكاثر.(2/84)
وفي رواية أخرى: وقل يا أيها الكافرون، فإن أضعف العبد هذه السبع عشرة ركعة فجعلها أربعاً وثلاثين يداوم عليها ويجعلها ورده من الصلاة فهو أفضل؛ وهذا مذهب أهل البيت واحتجوا فيه بخبر رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فرض اللّه تعالى على أمتي في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة وسننت لهم مثلهما وإن كان الحفاظ من أهل النقل يضعغون هذا الحديث إلاّ أنه قال عليه الصلاة والسلام: الصلاة خير موضوع، فمن شاء أكثر ومن شاء أقلّ، وقال: بين كل أذان وإقامة صلاة لمن شاء، فإن فعل ذلك وراعاها على ما يرتبه فهو مقارب لما ذكرناه آنفاً من السنن والاستحباب قبل الصلوات الخمس وبعدها ركعتان قبل الفجر، وأربع من الضحى، وأربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وست بعد المغرب، وأربع قبل العشاء وست بعدها، ثم يوتر بواحدة؛ فهذا حينئذ نحو ما رسمناه وهو مشبه لما نقلناه من الآثار، وليستند إلى الخبر المأثور وإلى فعل أهل البيت، وأكثر ما روي من صلاته بين العشاءين مما نقل عدده ست ركعات، وأكثر ما روي من صلاة الضحى ثمان ركعات، ومن صلاته بالليل ثلاث عشرة ركعة، إلاّ حديثاً مقطوعاً موقوفاً على طاووس رواه ابن المبارك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من الليل سبع عشرة ركعة، فهو حديث شاذ ذو سائر الأخبار المسندة عن ابن عباس، وعائشة، وميمونة، وأم حبيبة؛ إنما هي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة، واستحب أن يصلّي العبد قبل كل صلاة أربعاً وبعدها أربعاً إلا ما لا صلاة قبلها ولا صلاة بعدها، ثم يزيد بعد ذلك ما قسم اللّه تعالى له، وأن يصلّي الضحى ثماني ركعات ويواظب عليهن إذا أنشط أطالهن وإذا فتر قصرهن، فإنّ المداومة على العمل عمل ثان، وهو من أفضل الأعمال وأحبّه إلى اللّه تعالى، وإلاّ اقتصر على أربع يديمهن، ولا أكره أن يصلّي قبل المغرب ركعتين بعد غروب الشمس، فقد قال أنس بن مالك: كان اللباب من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّون ركعتين قبل المغرب، وكان أبيّ بن كعب، وعبادة بن الصامت، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وغيرهم من أكابر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّونها، وقال عبادة أو غيره: كان المؤذن إذا أذن لصلاة المغرب ابتدر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السواري يصلّون ركعتين، وقال أيضاً بعضهم: كنّا نصلّي ركعتين قبل المغرب وذاك داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة لمن شاء، وقد كان أحمد بن حنبل رحمه اللّه تعالى يصلّيهما فعليهما الناس عليه، وقال مرة: لم أرَ الناس يصلّونهما فتركتهما، وقال: إن صلاّهما الرجل في بيته أو حيث يراه الناس فحسن وذلك استحب.
الفصل السابع والثلاثون
شرح الكبائر التي تحبط الأعمال
وتوبق العمال وتفصيل ذلك ومنازل أهلها فيها ومسألة محاسبة الكفار:(2/85)
قال اللّه تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء:31، فاشترط لتكفير الصغائر من السيئات اجتناب الكبائر الموبقات، وقال صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن لمن اجتنب الكبائر، وفي لفظ آخر: كفّارات لما بينهن إلاّ الكبائر، فاستثنى من كفّارات الذنوب الكبائر، فاختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك، فكان ابن مسعود يقول: هنّ أربع، وكان ابن عمر يقول: الكبائر سبع، وقال عبد اللّه بن عمر وهنّ تسع، وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر إنّ الكبائر سبع يقول: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع، وقال مرة: كل ما نهى اللّه تعالى عنه فهو من الكبائر، وقال هو وغيره: كل ما توعد اللّه تعالى عليه بالنار فهو من الكبائر، وقال بعض السلف: كلما أوجب الحد في الدنيا فهو كبيرة، والصغائر عندهم من اللمم وهو ما لا حدّ فيه وما لم يتهدد بالنار عليه، فقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره، وكان عبد الرزاق يقول: الكبائر إحدى عشرة وهذا أكثر ما قيل في جملة عددها مجملاً، وقيل: إنها مبهمة لا يعرف حقيقة عددها كإبهام ليلة القدر وساعة يوم الجمعة والصلاة الوسطى ليكون الناس على خوف ورجاء فلا يقطعون بشيء ولا يسكنون إلى شيء، وقد قال ابن مسعود فيها قولاً حسناً من طريق الاستنباط، وقد سئل عن الكبائر فقال: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عِنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء:31، فكل ما نهى اللّه تعالى عنه من أول السورة إلى ها هنا فهو من الكبائر، فأشبه هذا استدلال قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر أنها ليلة سبع وعشرين، أنه عد كلمات سورة القدر حتى انتهى إلى قوله هي فكان سبعاً وعشرين كلمة، واللّه أعلم بحقيقة هذين القولين والذي عندي في جملة ذلك مجتمعاً من المتفرق سبع عشرة تفصيلها: أربعة من أعمال القلوب وهنّ: الشرك باللّه تعالى والإصرار على معصية اللّه تعالى والقنوط من رحمة اللّه تعالى والأمن من مكر اللّه تعالى، وأربعة في اللسان وهنّ شهادة الزور وقذف المحصن وهو الحرّ البالغ المسلم واليمين الغموس، وهي التي تبطل بها حقّاً وتحقُّ بها باطلاً، وقيل: هي التي يقطع بها مال مسلم ظلماً ولو سواكاً من أراك، وسميت غموساً لأنها تغمسه في غضب اللّه تعالى، وقيل: لأنها تغمس صاحبها في النار، والسحر وهو ما كان من كلام أو فعل يقلب الأعيان أو يغير الإنسان وينقل المعاني عن موضوعات خلقها، والسحرة هم النفاثات في العقد الذين أمر اللّه تعالى بالإستعاذة منهم، وثلاثة في البطن وهي: شرب الخمر، والسكر من الأشربة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم، واثنتان في الفرج: وهما الزنا، وأن يعمل قوم عمل لوط في الادبار واثنتان في اليدين وهما: القتل والسرقة، وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنين، غير متحرف إلى الأمام، ولا متحيزاً إلى فئة، ولا معتقد الكرة، وواحدة في جميع الجسد هي: عقوق الوالدين وتفسير العقوق جملة أن يقسما عليه في حق فلا يبرّ قسمهما، وأن يسألاه في حاجة فلا يعطيهما، وأن يأمناه فيخونهما، وأن يجوعا فيشبع ولا تطعمهما، وأن يستبّاه فيضربهما، وذكر وهب بن منبه اليماني: أصل البرّ بالوالدين في التوراة أن تقي مالهما بمالك وتؤخر مالهما وتطعمها من مالك، وأصل العقوق أن تقي مالك بمالهما وتوفر مالك وتأكل مالهما، وفي حديث أبي هريرة: الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلاّ من ثلاثة: إشراك باللّه، وترك السنّة، ونكث الصفقة، أن تبايع الرجل ثم تخرج عليه بالسيف تقاتله.(2/86)
وقد روينا عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق، ومن الكبائر السبّتان بالسبّة، وأما عبادة بن الصامت وأبو سعد الخدري وغيرهما من الصحابة فكانوا يقولون: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الكبائر، وهي في بعض الألفاظ من الموبقات، وقالت طائفة كل عمد فهو كبيرة، وقال بعض السلف: أربعة أشياء مبهمة لا يعلم حقائقها: الصلاة الوسطى، وليلة القدر، وساعة يوم الجمعة المرجّو فيها الإجابة، والكبائر ذلك ليكون الناس على خوف من الوعيد في الإتقاء، وعلى رجاء من الوعود في الابتغاء، لئلا يقطعوا بشيء ولا يسكنوا إلى شيء وللّه عاقبة الأمور، فالذي ذكرناه من الخصائل هو من أوسط الأقوال وأعدلها وهو ما اتفقوا عليه، وكثرت الأخبار فيه، فهذه الكبائر الموبقات التي من اجتنبها كفرت عنه السيّئات وثبتت له النوافل من الفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام، وذلك أنّ دعائم الإسلام وهذه الكبائر قرينان يعتلجان ويتقاومان في العظم والمعنى بالتضاد، فالكبائر كبرت فكفّر اجتنابها ما دونها من الصغائر، والفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام إذا تممت كفّرت ما بعدها من السيّئات وثبت للعبد نوافله وتبدل سيّئاته حسنات فيكون له فضل عظيم يرجى له الجنة ومنازل العاملين وهو السابق بالخيرات.(2/87)
قال اللّه تعالى: (إنْ تَجْتِنَبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء: 31 وقال من بعد الكبائر: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ عَمَلاً صَالِحًا فَأوُلئكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهمْ حََسنَاتٍ) الفرقان:7، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس كفّارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، فالفرائض الأربع التي هي أبنية الإسلام منوطة بالصلوات الخمس، لا تصّح إلاّ بها كالشيء الواحد بمنزلة الأربع، فالصلوات مرتبطة بالشهادتين، إن ترك خصلة منها كان كترك الخمس لأنها أسّ الإسلام وأبنية الإيمان، واجتناب الكبائر منوط بالشهادتين لا يقع جميع ذلك إلاّ بهما، فإذا انتهكت الكبائر أحبطت الأعمال الفرائض الخمس، أحبطت ما بينها من السيّئات إلاّ الكبائر، فإنهاكبرت فلا تكفرها فلا يبقى للعبد يوم القيامة مع ارتكاب الكبائر من الأعمال إلاّ الفرائض الخمس، وقد أكل سائر نوافله ارتكاب الكبائر فيخاف عليه النار ومنازل المسرفين وهذا هو ظالم لنفسه وهو الذي حذر اللّه تعالى المؤمنين عنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُول وَلا تُبْطِلوا أعْمَالَكُمْ) محمد:33، ومنه قوله تعالى:(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيّئةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطَيئَتُهُ) البقرة: 81 قيل: هي الكبائر أحاطت بجميع حسناته فمحقتها، وعلى هذا اختيارنا هذا الحرف من مقرانا وعلى الوجه الآخر وأحاطت به خطيئة هي الشرك الذي ختم له به فلم ينفعه عمل كان قبله، فإن قصر في الفرائض الخمس التي هي مباني الإسلام إلاّ أنه مجتنب الكبائر كفرّت عنه سيّئاته كلها، وتممت فرائضه بسائر نوافله لأنها ثابتة له بعد أن يحصل له صحة التوحيد ويسلم من كبائر البدع التي تنقل عن الملة؛ وهذا ممن استوت حسناته وسيئاته فيطول وقوفه للحساب ويشاهد الزلازل والأهوال ليكون ذلك رجحان حسناته ويجعل من أصحاب الأعراف على أعراف السور هي شرفه التي بين الجنة والنار هو الحجاب الذي بين أهل النار وأهل الجنة إلى أن يتفضل اللّه تعالى عليه بفضل رحمته، فإن سمح له مولاه فعفا عنه سقط عنه هذا كله وأدخل الجنة في أصحاب اليمين؛ وهذا هو المقصد المتوسط بين الظالم لنفسه والسابق إلى ربه، فإن لم يكن له نوافل مع نقصان فرائضه لم يبق له من أعماله إلاّ اجتناب الكبائر فيوزن ما بقي من عمله وهو اجتنابه الكبائر بفرائضه النواقص، فإن رحج اجتناب الكبائر مثقال ذرة أو فضلت له حسنة واحدة، ضاعفها اللّه تعالى بالمزيد وتجاوز عن سيّئاته في أصحاب الجنة ولم تكن له مقامات المقربين ولا درجات السابقين وهو ممن قال اللّه سبحانه وتعالى: (إنَّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ منْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء:40، يعني الجنة وإن خف أضاعته الفرائض لسنّته كان من الموقنين للحساب الطويل واحتاج إلى شفاعة الشافعين، فإن كان فرائضه الخمس ناقصة، وكان مرتكباً للكبائر فهو من الهالكين، لأنه ممن خفت موازينه من المؤمنين، وهذا من المسرفين هم أصحاب النار، فيدخل النار لنقص إسلامه ولوفور سيّئاته عليه إذ لم تمحها حسناته ولتطول نوافله بانتهاكه الكبائر، ولأن هذا نقص من مثقال دينار إلاّ أنه لا يكون من المخلدين لصحة توحيده، وعلى أنه أول من يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينارمن إيمان فهو في أول طبقة يخرج هذا إلى زنة شعيرة إلى ذرة من إيمان؛ وهؤلاء آخر الطبقات خروجًا إلى أن يبدو لبعضهم من اللّه تعالى ما لا يحتسبه ويظهر له غدًا ما لا يعلمه، فيعفي عن البعض ولا يجعل ممن حق عليه الوعيد لما سبق له من الكلمة الحسنى، ويتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنة.
وقد جاء في الخبر: يؤتى بالرجل من هذه الأمة فيسدّ به ركن من أركان جهنم، وقد جاء في الخبر: أنّ العبد ليوقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة، فيقوم أصحاب المظالم فيوجد قد سبّ عرض هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيقص من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فيقول الملائكة: يا ربنا قد فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير، فيقال: ألقوا من سيّئاتهم على سيّئاته وصكّوا له صكًّا إلى النار، وقد جاء في العلم أنّ آخر من يبقى في جهنم من الموحدين سبعة آلاف سنة.(2/88)
وروينا عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة: وفيه شدة، وقال: واللّه لا يخرج عبد من النار بعد أن دخلها حتى يقيم فيها سبعة آلاف سنة، وهذا واللّه أعلم آخر من يخرج من النار لأنهم يخرجون زمراً متفاوتون من اليوم والجمعة والشهر والسنّة إلى ستة آلاف سنة فأكثرهم إيماناً أقلهم مقاماً وأقلهم مكثاً أولهم خروجاً، أما أول زمرة تخرج من في قلبه مثقال من الإيمان فهذا أقلهم لبثًا وأسرعهم خروجًا إلى شعيرة إلى ذرة؛ فهؤلاء أقلهم إيماناً وأنقصهم توحيداً وأعظمهم جرماً وأشدّهم على اللّه عتياً وهم أكثرهم مقاماً وقد اشتهر خبر من يخرج من النار بعد ألف عام ينادي: ياحنّان يا منّان، فقال الحسن لما روى هذا الحديث يا ليتني كنت ذلك الرجل لشدة خوفه خاف أن يدخلها ثم عظم خوفه فخاف أن لا يخرج منها فتمنى أن يخرج منها بعد ألف عام.
وقد جاء في الخبر: آخر من يخرج من النار وهو أيضاً آخر من يدخل الجنة، فلعله واللّه أعلم بعد سبعة آلاف سنة فيعطى من الجنة مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف، رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي اللّه تعالى عنهم عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ومعنى الحكمة في إدخال البشر إلى النار على ترتيب الكون أنهم خلقوا من ماء ثم خالطه ما امتزج به من الأهواء فلا يستخرج ذلك إلاّ بالنار، فإنها تخرج الماء مما مازجه حتى يخلص، وأنهم أيضاً خلقوا من تراب الأرض بمنزلة الخشب المعوجّ يقوم بالنار حتى يستقيم، ثم يقطع عنه النار ويستقيم ذلك فعندها يصلح لغير النار وموضع الحكمة في تخليد الكافرين والشياطين في النار أنّ أرواحهم خلقت من جوهر النار فرجعت إلى معدنها، وهي أيضاً سوداء مظلمة نارية، وهم أيضاً خلقوا لها لا يصلحون لغيرها بمنزلة الحطب والشوك والحراق الذي لا يصلح إلاّ للنار، فتبارك اللّه تعالى حكمته معتدلة في الأشياء وحكمه غامض فيها، ينظر بعين التعديل فيقسم بها المقادير بمعاني التنقيص والتفضيل، ومجمل ما ذكرناه أنّ كل وصف يكون للعبد من الخير كفر عنه سيّئاته، فإن نوافله ساقطة وكل وصف يكون له من الشرّ لا يحبط نوافله، فإن نوافله موفرة ثابتة ومن كان عاملاً للحسنات وهو في ذلك يرتكب بعض الكبائر فإن أعمال برّه وفضائله موقوفة إلى التوبة، فإن تاب واستقام كفرت توبته ما سلف من كبائره وبدلت استقامته على الطاعة سيّئاته حسنات، وأكثر ما يوبق الناس من الكبائر المظالم، وأكثر ما يدخلهم النار ذنوب غيرهم إذا طرحت عليهم وكثير يدخلون الجنة بحسنات غيرهم إذا طرحت عليهم لأنها صحيحة ثابتة، وقد تبطل حسناتهم لدخول الآفات عليها، بلغني عن أبي عبد اللّه بن الجلاء أنّ بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه ليستحلّه فقال: لا أفعل، ليس في صحيفتي حسنة أفضل من حسناته، أريد أن أزين صحيفتي بها، وفي الحديث: ذنب يغفر وذنب لا يترك؛ فالذنب الذي يغفر ظلمك نفسك، والذنب الذي لا يترك مظالم العباد؛ والتوبة طريق الكل، والرحمة تسعهم، وباب التوبة مفتوح للكافة إلى طلوع الشمس من مغربها، وكل عبد توبته متقبلة ما لم تبلغ الروح الحلقوم ولم يعاين الملائكة فإذا بلغت الروح التراقي وعاينت الأملاك غلق عليه باب التوبة ومات على الإصرار، وقيل: من راق أي من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وظن أنه الفراق أيقن أنه قد فارق الدنيا بمعاينة الآخرة وفارق الناس والأهل بمعاينة الملائكة، فإن مات عن غير توبة كان ممن قال اللّه عزّ وجلّ: (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 قيل: التوبة كما فعل بأشياعهم من قبل.(2/89)
ولما قال تعالى:(وََلَيْسَتِ التَّوْبةُ لِلَّدينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئات حتّى إذا حضرأحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنّى تُبْتُ الآن) النساء:18 وحضور الموت يكون عند معاينة ملك الموت إذا خرجت الروح من جميع الجسم فلم يبق إلاّ ما بين القلب والعينين فهو الوقت الذي قال اللّه عزّ وجلة: (يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرى يَومَئِذٍ لِلمُجْرِمينَ) الفرقان: 22 وهو الذي خوف منه في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ تأتيَهُمُ المَلائِكَةُ) الأنعام:158 يعني عند الموت؛ وهذا لأهل المعاينة أو يأتي ربك، يعني يوم القيامة؛ وهذا لأهل البرزخ يوم يأتي بعض آيات ربك وهو اليأس الذي يقع عنده من الدنيا؛ اليأس من طلوع الشمس من مغربها وهو آخر التوبة ويؤمن معه كل كافر، فقال سبحانه: (يَوْمَ يَأْت بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ منْ قَبْلُ) الأنعام:158 أي من قبل المعاينة: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا) الأنعام: 158 قيل التوبة، وهوالوقت الذي قال اللّّه تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) غافر:84 يعني كشف الغطاء قالوا: آمنا باللّه وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنّة اللّه التي قد خلت في عباده يعني طريقته وشأنه الذي مضى في الخلق لا تبديل له ولن تجد لسنّة اللّه تبديلاً، وحكم العباد كلهم في المعاد إلى اللّه عزّ وجلّ إن عذبهم فبما اكتسبوا، ويعفو عن كثير، وإن شاء أن يغفر لهم وهو الغفور الرحيم، وقد يتفاوت الناس في جميع ما ذكرناه من أداء الفرائض ومن ارتكاب المعاصي والعرف، والتخلق بأخلاق النفس من عادات أبناء الدنيا وعرف معاشرتهم فيما بينهم؛ فإنّ ذلك حال الغافلين ومقام الجاهلين غير محمود العاقبة، ولامغبوط الخاتمة، ولا يترك العمل الصالح أيضاً خشية دخول الآفة، ولايدعه إن كان داخلاً فيه لما يعتريه فيه؛ ذلك بغية عدّوه منه لكن يكون على نيته الأولى من جهة القصد، فإن دخلت عليه علّة وضع عليها دواءها فعمل في نفيها وإزالتها وثبت على حسن نيته وصالح معاملته، ولا يدع عملاً لأجل الخلق حياء منهم وكراهة واعتقادهم فضله، لأن العمل لأجل الناس شرك، وتركه لأجلهم رياء، وترك العمل لأجل دخول الآفة فيه جهل، وتركه عند دخول العلّة عليه ضعف ووهن، ومن دخل في العمل للّّه تعالى وخرج منه للّه تعالى لم يضرّه ما كان بين ذلك بعد أن ينفيه ولا يساكنه، وقد يضرّه ما يكون بعد ذلك: مثل إن كان سرّاً فأظهره بعد زمان فصار علانية فنقل من ديوان السرّ إلى ديوان العلانية، ومثل أن يتظاهر به ويفتخر ويدل به ويتكبر فيحبط ذلك عمله لأنه قد أفسده، واللّه لا يصلح عمل المفسدين، ومن دخل في العمل للّه تعالى ودخل عليه في وسط العمل علة فخرج من العمل بها بطل عمله، ومن دخل في العلم بآفة وخرج منه بصحة سلم له عمله وجبر بآخره أوّله، وأفضل الأعمال ما دخل في أوّله للّه تعالى وخرج منه باللّه تعالى، ولما تطرقه فيما بينهما آفة فيكون اللّه تعالى هوالأول فالآخر معه وعنده، ثم يظهره بعد ذلك ولا يتظاهر به، وأفضل النيات أن لا تريد بعملك إلاّ وجه اللّه تعالى وحده تعظيمًا لحق الربوبية وإلزامًا للنفس وصفُ العبودية، فإن لم يكن هذا المقام عن مشاهدة وجه ذي الجلال والإكرام فمشاهدة ما رغب فيه وشوق إليه من الآخرة عن مقام الرجاء، ولا ينبغي للعبد أن يدخل في شيء حتى يعلم علمه فيكون داخلاً في علم يعلم مثله، لأن للّه سبحانه وتعالى في كل شيء حكمًا، فما علم من ذلك حمد اللّه تعالى عليه وعمله، وما جهل سأل عنه من هو أعلم به، وما أشكل عليه أمسك عنه حتى يستبين له وجهه فيقدم عليه أو يتركه، وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة اللّه تعالى تقريباً إليه لأجل اللّه تعالى، فهذا أعلى النيات وهو غاية الإخلاص.(2/90)
ومن أراد بأعماله ما عند اللّه تعالى من ثواب الآخرة من حظوظ نفسه ومعاني شهواته ولذته من النعيم في الجنان، واتخاذ الحور الحسان، مما وصف اللّه تعالى وندب، لم يقدح ذلك في إخلاصه ولم يغير صحة نيته من قبل أنّ اللّه تعالى مدحه ورغب فيه ووصفه، وكان ذلك مزيد مثله، إلاً أنّ هذا نقص في مقام المحبين وعيب عندهم كعيب من عمل لعاجل حظه من دنياه، وهو شرك في إخلاص الموحدين الذي اختصوا بالعبودية، فعتقوا من أسر الهوى بالحرية، فلم يسترقهم سوى الوحدانية لما شهدوا من خالص الربوبية، وإخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة ضرورة، إلاّ أنّ من رزق المقام منها دخل بحقيقة لإخلاص المعاملة ضرورة، فلا ينقيه ولا يصفيه عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين؛ وهذا مقام المحبين، وإنما أتعب المريدين بالتنقية والتصفية للمعاملة لما بقي عليهم من الشرك الخفي والشهوة الخفية، كما أتعب خدام الدنيا بالجمع لها لما استرقهم من الهوى فأما الأحرار فهم من خدمة الخلق برآء؛ وهذا يذهب الإخلاص ويفسد النية ويدخل الانتقاص، وما تلف له من شيء أو ظلم من حقه فلينوِ بذلك لذخر عند اللّه تعالى وليجعله في سبيل اللّّه بحسن ظنه باللّه تعالى وصدق يقينه فإن له من ذلك ما نوى.
حدثونا عن رجل رؤي بعد وفاته فسئل منه كيف رأيت أعمالك؟ فقال كل شيء عملته للّه تعالى وجدته، حتى حبة رمان التقطتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا، رأيت ذلك كله في كفة الحسنات، قال: وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيّئات، قال: وكان قد نفق لي حمار قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً، فقلت: موت سنور في الحسنات وهذا حمار قيمته مائة دينار ولا أدري له ثواباً؟ فقيل: إنه وجّه حيث بعثت به لأنك قلت لما قيل لك مات الحمار فقلت: في لعنة اللّه تعالى، أما بطل أجرك؟ ولو قلت في سبيل اللّه لوجدته في حسناتك.(2/91)
وفي رواية أخرى قال: وتصدقت يوماً بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إليّ فوجدته لا علي ولا لي، قال سفيان: وقد رووا هذا ما أحسن حاله حيث وجدها لا له ولا عليه قد أحسن إليه،ومن أوذي أو اغتيب فليحتسب عرضه عند اللّه تعالى، فلعل ذلك يكون سبيًا لنجاته، فقد روي أنّ العبد ليحاسب على أعماله كلها فتبطل بدخول الآفات فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له أعمال من الحسنات لم يكن عملها فيستوجب به الجنة، فيعجب من ذلك فيقول: يارب هذه أعمال ما عملتها؟ فيقال: هي أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك جعلت حسناتهم لك، ولا تحقرن شيئًا من الأعمال وإن قل فتخليه من النية أو تصغره فربما كان هلاكه وعطبه فيه وهو لا يعلم، وقد روي ابن المبارك عن الحسن:أنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك اللّه تعالى: فيقول: واللّه ما أعرفك، فيقول: بلى أنت أخذت من حائطي تبنة وأنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: هذا أخذ من ثوبي زبيرة، ومات حماد بن أبي سليمان وكان أحد علماء أهل الكوفة، فقيل للثوري: ألا تشهد جنازنه؟ فقال: لو كانت لي نية لفعلت، ومات الحسن البصري فلم يحضر ابن سيرين جنازته فسئل عن ذلك فقال: لم يكن لي نية، وقد كان العلماء إذا سئلوا عن عمل شيء أو سعي فيه يقولون: إن رزقنا اللّه نية فعلنا ذلك، وقال يحيى بن كثير: حسن النية في العمل أبلغ من العمل، وقال بعض السلف كانوا يستحبون أن يكون لهم في كل شيء نية، وقال الفضيل بن عياض: لا تتحدّث إلاّ بنية، وكان بعضهم يقول: الخوف على فساد النية وتغيرها أشد من ترك الأعمال، وقال الثوري: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له نية في أن يأكل فإن أجابه فأكل فعليه وزران، وإن لم يجبه فعليه وزر واحد فصيّر عليه وزرين مع أكل طعامه بغير نية، لتعرضه للمقت وحمله أخاه على ما يكره، إذ لو علم لما أجابه، فمن أفهمه اللّه تعالى إخلاص النية وزاده معرفة الإخلاص أخرجه ذلك إلى الهرب من الناس ليخلص له معاملته لأنه ينظر بعين اليقين، وإذا لا ينفعه شيء إلاّ شيء بينه وبين اللّه عزّ وجلّ لا شرك فيه لسواه؛ وهذا المعنى هو الذي أخرج طائفة الأبدال إلى الكهوف تخليًا من أبناء الدنيا لخلاص أعمالهم إلى النظر إليهم، فهم وإن فارقوا فضائل الأعمال من صلاة الجماعة وغيرها فقد تقرر عندهم أنّ اجتناب معصية واحدة خير من عمل سبعين طاعة، فلذلك فارقوا فضول النوافل خشية دخول معصية واحدة عليهم، والجاهل باللّه عزّ وجلّ يعمل في طلب الفضائل ولا يبالي بيسير الذنوب وفيها بعد من اللّه تعالى، وليس ذلك طريق المقربين، وقد تختلف النيات لاختلاف المقاصد فيصير ما كان بعداً قربًا بحسن النية وما كان حسنًا سيئًا لسوء النية به، من ذلك أنّ داود المحبر لما صنف كتاب العمل جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحًا ثم رده إليه فقال: ما لك؟ فقال فيه أسانيد ضعفاء فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد فانظر فيه بعين الخبر، إنما نظرت بعين العمل فانتفعت به، قال أحمد: رّده عليّ حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت بها، فردّه عليه فمكث الكتاب عنده طويلاً حتى اقتضاه إياه ابن المحبر، ثم رده عليه وقال: جزاك اللّه خيرًا، قد انتفعت به منفعة بينة، وقال الحسن: النية أبلغ من العمل، وقال: ابن آدم لا يهم بخير الآثار في قلبه منه نوران: فإن كانت الأولى للّه عزّ وجلّ فلا تضرّ هذا الآخرة؛ يعني إن كان عنده الإخلاص في الخير في الهمة الأولى فلا تضرّه الوسوسة التي تخالجه بعد ذلك فإنها ضعيفة لا تحل قوة العقد ولا تحلّ محكم مبرمه، وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.(2/92)
وحدثونا عن بعض الصوفية قال: كنت قائمًا مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمرّ به بعض إخوانه من الأبدال فساره بشيء، فقال أبو عبيد: لا، فمرّ كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أنْ أحج معه فقلت لا، فقال: ألا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية، وقد نويت أنّ أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله أتعرض لمقت اللّه تعالى لأني أدخل في عمل اللّه تعالى شيئًا غيره فيكون هذا عندي أعظم من سبعين حجة، ومن كان له في مباح نية ولم تكن له نية في فضيلة فالأفضل هو المباح، حينئذ وقد انتقل المعنى فصار المباح هو الفضيلة وصارت الفضيلة هي النقيصة لعدم النية، وهذا لا يعلمه إلاّ العلماء بباطن العلم وهو غوامض التصريف: مثل أن يكون رجل قد ظلم فله أن ينتصر وإن عفا كان أفضل إلاّ أنه له نية في الانتصار وليس له نية في العفو، فالانتصار هو الأفضل، ومثل أن تكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليتقوى بها على الطاعة ويريح بها نفسه لوقت آخر وليس له في الصوم ولا في القيام نية، فقد صار الأكل والنوم حينئذ هو الأفضل، وقد كان أبو الدرداء يقول: إني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونًا لي على الحق، وكل عمل مباح للعبد فيه نية فهو مأجور عليه، وكل عمل فاضل لا نية للعبد فيه فأحسن حاله السلامة منه لا له ولا عليه وربما كان مأزورًا فيه إذا دخلت عليه نية دنيا، وكان عمل مباح أو فضل ليس للعبد فيه نية فهو عقل لا شيء له فيه، ولكنه يسأل عن فراغ وقته، وكل عمل فاضل للعبد فيه نية؛ فالعمل باطل ونيته هوى، وإنما وجد النية فيه القصور واختفاء لشهرته،فإن أراد به وجه اللّه تعالى سلم من عاقبته ولا فضيلة له به، وإن كان قد خفي عليه الهوى أو دق عليه لطيف حبّ الدنيا لجهله بالعلم فهو مأثوم فيه لتقصيره في طلب العلم الذي يعرف به الإخلاص وسكوته على الجهل الذي يدخل منه الانتقاص، ولا عذر له في ذلك، وقد جاء في الخبر: أنّ اللّه تعالى لا يعذر على الجهل ولا يحلّ للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت عن علمه، وقد قال اللّه سبحانه تعالى: (فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل:43.
وقد كان سهل رحمه اللّه تعالى سئل: ما عصي اللّه تعالى بمعصية أعظم من الجهل؟ قال: نعم، قيل: ماهو؟ قال: الجهل بالجهل يعني أن يكون العبد جاهلاً وهو لا يعلم أنه جاهل، أو يحسب بجهله أنه عالم، فيسكت عن جهله ويرضى به فلا يتعلم فيضيع فرض الفرائض وأصل الفرائض كلها وهو طلب العلم، ولعله أن يفتي الجهل أو يتكلم بالشبهات وهو يظن أنه علم؛ فهذا أعظم من سكوته، وكذلك أيضاً ما أطيع اللّّه تعالى بمثل العلم، ومن العلم العلم بالعلم أي شيء هو؟ وذلك أيضًا واجب من حيث كان العلم واجباً ليكون على بصيرة من تعلّم العلم، لأنه قد دخل مذهب المتكلمين وأقوال الغالطين من الصوفية والقصاص في شبهات العلم، فصار زخرفًا من القول غروواً يشبه العلم وليس بعلم لالتباس المعنى بعضه ببعض ولإشكال دقائق العلوم وغرائبه وخفاء السنّة من طريقة علماء السلف، فاختلط لذلك القصاص والمتكلمون بالعلماء فصار معرفة العلم أي شيء هو والعلم بالعالم من هو علم آخر، وصار العالم بالعلم ما هو دون الزخرف من القول كأنه عالم فكان أيضًا العلم بالمعلم بمنزلة فضل العلم ووجب وجوبه، كما كان الجهل بالجهل أعظم من الجهل، وقد كان سهل رحمه اللّه تعالى يقول: قسوة القلب بالجهل من قسوته بالمعاصي لأن الجهل ظلمة لا ينفع البصر فيه شيئاً ونور العلم يهتدي به القاصد وإن لم يمش.(2/93)
وقد قيل في تفسير وقوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه مَا لَمْ يَكُونُوا يََحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 قال: عملوا أعمالاً لجهلهم ظنوا أنها حسنات فوجدوها سيئات وقيل: ذنوب غيرهم طرحت عليهم فعذبوا بها ولم يكونوا يحتسبون بها في الدنيا؛ يعني هذا مثل ما روي في الخبر: أنّ العبد ليرى من أعماله الحسنات مما يرجو به المنازل في الجنة فتلقى عليه سيّئات لم يعملها فترجح بحسناته كلها فيستوجب النار فيول: يارب هذه سيّئات ما عملتها هلكت بها، فيقول: هذه ذنوب القوم الذي اغتبتهم وآذيتهم وظلمتهم ألقيت عليك وتخلصوا منها، وقد روينا في معناه حديثًا مسندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ العبد ليوافي القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له دخل الجنة، ويأتي قد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد فنيت حسناته وقد بقي طالبون كثير، فيقول اللّه تعالى: ألقوا عليه من سيّئاتهم ثم صكّوا له صكًّا إلى النار، وينبغي للعبد إن أراد أن يعمل عملاً أن يثبت له فيجدد له نية حسنة، ثم يقف وقفة فيتفقد هل يدخل عليه في ذلك آفة واحدة أو أكثر، فيخرج ما دخل عليه من الآفات بمشاهدة اليقين، ثم يعمل ذلك العمل للّّه وحده لا شريك له في قصده ووجده وطلبه وثوابه ثم يستقيم على ذلك العمل؛ فإن دخلت عليه آفة في خلله نفاها حتى يكون قائمًا بشهادته؛ فهذا هو الإخلاص لأن المخلص يحتاج في إخلاصه إلى شيئين ليس أحدهما أولى به من الآخر صحة القصد لوجه اللّه تعالى وطلبه ما عنده من الآخرة، ثم إخراج الآفات والحذر على ذلك العمل من دخولها عليه إلى فراغه منه، فبذلك يتم إخلاصه ويصفو من كدرة الهوى ويخلص من الشهوة الخفية فيكون خالصًا من الرياء بالإخلاص، صافيًا من الشهوة، يتفقد دخول الآفة، كما روي في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية، قيل: حبّ الدنيا وقيل: العمل؛ لأنه يؤجر العبد ويحمد ثم إذا همّ العبد بعمل وقف قبله وقفة فتبدبره وتفكّر كم فيه من نية، فربما وجد في العمل الواحد عشر نيّات أو خمسًا وما بين ذلك لما يحتمل ذلك العمل من وجوه البرّ ومعاني القربات المندوب إليه ا، فيكون له بكل نية عمل، فيؤجر على العمل الواحد عشرة أجور لأنه عشرة أعمال أو خمسة، يكون لكل نية عمل وبكل عمل أجر؛ وهو من فضائل الأعمال وتضاعيف الحسنات، ولا يعلمه إلاّ العلماء باللّه تعالى وأحكامه؛ وهو طريق الأبدال من صالحيّ أهل الأحوال؛ فبذلك زكت أعمالهم وارتفعت مقاماتهم وكثرت أجورهم وحسنت حالاتهم لا بكثرة الأعمال لكن بتحسينها ووجود النيات الكثيرة فيها، وقد جاء في الأثر: من عمل عملاً لا يريد به وجه اللّه لم يزل في مقت من اللّه حتى يفرغ، وقد قال بعض الأدباء: من لم يشكر لك حسن النية فيه لم يشكر لك حسن الصنيعة إليه وأنشدوا في معناه:
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إذا لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المكتوب مصروف(2/94)
ولو لم يكن في تجديد النية الحسنة وتفقد الهمة العالية إلاّ أنّ صاحبها لايزال عاملاً من عمال اللّه تعالى بقلبه وهمه، وإن لم يساعده القدر على الأفعال بجوارحه، فيكون أبداً مأجوراً، ولو لم يكن في نية الشر والهمة الدنية إلاّ أنّ صاحبها في بطالة وخسارة وإن لم يساعده المقدور على الأفعال السيئة بجوارحه فيكون خاسرًا أبدًا مأزورًا، ونعوذ باللّه من ذلك، وقال بعضهم: إني لأستعد النية في كل شيء قبل الدخول فيه حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء، والنية في هذا التقوي على الطاعة والاستعانة به على الخدمة لأنّ النفس مطيتك إن قطعت بها قطعت بك ونية التطهر من التحلي لأجل الدين فكان الناس لشدة تفقدهم وحسن رعايتهم صادقين في ترك كثير من أعمال البرّ لضعف النية ويعملون في أحكام الأصل، قال ابن عيينة: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول، والنية أصل الأصول لأنها فرض الفرائض، وقال بعضهم: إنما أبعد القلب من اللّه عزّ وجلّ مظاهر أعمال الجوارح بغير مواطأة من القلب بصحة القصد؛ يعني بذلك نقص الإخلاص بها لأجل اللّه تبارك وتعالى، فالنكاح من معظم شأن الدين فنيته فيه أن لا يتزوج المرأة لجمالها ولا لمالها ولا لحسنها بل لدينها وعقلها، ثم ينوي السنّة لها والعفة والتحصين لهما، ويقنع بالمرأة الدون عن غيرها.
وفي الخبر: من نكح للّه عزّ وجلّ وأنكح للّه تعالى استحق ولاية اللّه تعالى، وأفضل الأعمال ما دخل فيه للّّه عزّ وجلّ وخرج منه للّه ولم يعتوره بعد ذلك علة، وأعلى من هذا من دخل في الأعمال باللّه عزّ وجلّ وثبت فيها مع اللّه وخرج منها باللّه تعالى، وهذا مقام الموحدين من الموقنين والعارفين، فأصح الأعمال وأخلصها ما كان للّه تبارك وتعالى هو الأوّل في أولها، ومع العامل في أوسطها، وللعبد عنده فيها، واللّه تعالى هو الآخرة عند آخرها، ثم لايظهرها بعد ذلك ولايتظاهر بها ولايطالع عوضًا عنها من الكبر الأكبر، بل ينساها ويشتغل بذكر مولاه عنها، والقعود في المساجد من أفضل شأن الدين وفضائل أعمال المتقين، فليكن له فيه عشر نيّات منها زيارة مولاه عزّ وجلّ في بيته، كما روي: من قعد في المسجد فقد زار اللّه تعالى وحق على المزور إكرام زائره، ومنها انتظار الصلاة بعد الصلاة، كما روي في معنى قوله تعالى: ورابطوا وهي المرابطة ومنها كفّ سمعه وبصره وترهبه في تألهه، كما روي: رهبانية أمتي القعود في المساجد، ومنها العكوف وحقيقته عكوف الهمّ على القلب، وعكوف السرّ بالتأله إلى اللّّه عزّ وجلّ، ومنها ذكر اللّه تعالى واستماع ذكره والتذكير به، كما روي: من غدا إلى المسجد يذكر اللّه تعالى ويذكر به كان كالمجاهد في سبيل اللّه، ومثل ذلك إذا جلس ليعلم علمًا أو يتعلّمه كان أيضًا كالمجاهد، أو جلس لاستفادة أخ في اللّه عزّ وجلّ أو لتنزل رحمه اللّه أو لترك الذنوب للخشية والحياء، كما روينا في حديث الحسن بن عليّ عليهما السلام: من أدمن الاختلاف إلى المساجد رزقه اللّه تعالى إحدى سبع خصال: أخًا مستفادًا في اللّّه تعالى، أو رحمة مستنزلة، أو علمًا مستظرفًا، أو كلمة تدلّه على هدى أو تصرفه عن ردى، أو ترك الذنوب خشية أو حياء منه، فإخلاص النية هو بخروج أضدادها من القلب وعن القصد والهمة وإن كثر أعداده لتنفرد النية بقصدها، ويخلص العمل بانفراد النية لوجه الواحد الفرد المقصود بها، يروى عن بعضهم قال: غزوت في البحرفعرض بعضنا مخلاة فقلت: اشتريها وانتفع بها في غزاتي، فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها، فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأنّ شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: أكتب الغزاة فأملي عليه، أكتب: خرج فلان متنزهًا وفلان مرائيًا وفلان تاجرًا وفلان في سبيل اللّه، ثم نظر إليّ فقال: أكتب: خرج فلان تاجرًا، فقلت: اللّّه اللّه فيّ واللّّه ما خرجت أتجر ولا معي تجارة أتجر فيها، ما خرجت إلاّ للغزو، فقال لي: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح فيها فبكيت وقلت لا تكتبوني تاجرًا فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى؟ فقال:أكتب: خرج فلان غازيًا إلاّ أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم اللّه عزّ وجلّ فيه ما يرى.
فصل(2/95)
ومن المناقص المشبهة للفضائل الملتبسة على الأفاضل، لشهرة فضلها وروعة الهموم للدخول فيها، والتصبر عليها، وهي منكشفة للعلماء باللّه تعالى: ما روي أنّ رجلين تآخيا في اللّه عزّ وجلّ بعد رفع عيسى بن مريم إلى السماء فترهب أحدهما وهو سرجس ولزم أخوه الآخر الجماعة والمساجد ومخالطة الناس، وكان أعلم منه باللّه عزّ وجلّ، وكان يلقى آخاه سرجس فيقول:يا أخي إنّ هذا الأمر الذي دخلت فيه بدعة، وإنّ عليك فيه رعاية لا تقوم بحقها، وإنه ليس للّه فيه رضا، فلو دخلت معي في الجماعة والإلفة كان ذلك للّه تعالى رضًا وأصبت السنّة، فكان المترهب يعرض عنه ولا يعبأ برأيه ويقول له: إنك قد ركنت إلى الدنيا وأنست بالخلق، فلما أعياه قال له: فاجعل فطرك عندي الليلة حتى يتبين ذلك ففعل فقدم إليه فرخين شواهما وقال له: تعال حتى نجعل هذين الفرخين قاضيين بيننا قال: حتى يدعو اللّه كل واحد منا، فمن كان سيرته وهديه أحبّ إلى اللّه ورسوله يبعث بدعائه هذين الفرخين حتى يطيرا حييّن، قال: نعم فادع أنت، فدعا الراهب فقال: اللّهم إنْ كان هذا الأمر الذي دخلت فيه أريد به رضاك أقرب إلى الحق مما يدعوني إليه أخي هذا فابعث هذين الفرخين إليّ قال: فلم يجب، فقال الآخر: اللّهم إن كان هذا الأمر الذي تمسكت به وخالفت فيه هذا وأصحابه أقرب إلى الحق وأرضاهما عندك مما يدعوني إليه، أخي هذا من الاعتزال والفرقة للجماعة، فابعث لي هذين الفرخين قال: فصارا حييّن فطارا بإذن اللّه تعالى فعلم الأخ أنّ ذلك ليس للّه رضا فرجع إلى الجماعة والمساجد، ومن التباس الفضائل العالية ترك العبد حاله في مقامه طلبًا للفضيلة ليزداد بها قربًا إلى اللّه عزّ وجلّ فينقلب عليه فيهلك ما أدخل العدو على برصيصًا العابد في تعليم الاسم الأعظم وقصته مشهورة، فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين فسبق إليه قبل فوته وعلم شرّ الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منها، وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به، وعلم شرّ الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وهذا من دقائق العلوم.
فصل(2/96)
وقد تلتبس النية بالأمنية فتخفي والهمة وبالوسوسة فتشتبه، والنية ما كان يراد به وجه اللّه عزّ وجلّ ويطلب به ما عنده، والأمنية ما تعلق بالخلق وطلب منه عاجل الحظ من الملك الفاني، وقد تلتبس الإرادة بالمحبة والحاجة بالشهوة؛ فالإرادة أن يريد وقوع الأمر وقد لا يحبّ كونه أو يريد أيضاً وجود ضده، والمحبة ما قهر العقل وغلب الوجد وحلّ في مجامع القلب وكره وجود غيره ولم يرد فقده، والحاجة ما اضطررت إليه، ولم يكن منه بداً ولا يستغني عنه بغيره، والشهوة مزيد لذّة واستدعاء فضل فآفة واجتلاب تقدم عادة، وقد يختلط الذكر بالقلب بالفكر في معاني القرب؛ فالذكر ما أظهر النسيّ وكشف الغيّ وأذكر الشكر، والفكر ما صوّر الأمر وأظهر الخبر، وقد يلتبس الرجاء بالمحبة والهوى بالنية، فالرجاء ما طمعت فيه بسبب ما والمحبة ما تطمعت ذوقه وجدته بغير تسبب تستخرجه وقد يلتبس ذل القلب بضعفه وموته للطمع في الخلق بذل النفس لمشاهدة عز الخالق سبحانه وتعالى، وقد يتداخل ذلّ الطمع لدناءة الهمة والنفس بذل العقل للاعتراف بالحق وخضوع العلم له، وقد يلتبس ذلّ النفس لغلبة الهوى وقهره للعقل بذل القلب لسرعة الانقياد للعالم المحقّ، وقد يختلط عزة القلب بمقلبه بدوام النظر إليه وعزة العقل بعمله الذي كبر عنده، وقد تلتبس عزة النفس بوصفها المتسلّط بعزة الإيمان، المعزز بغيبة اليقين؛ فهذه فروق ظاهرة للعارفين وخروق متسعة ترهب الغافلين، وقد تلتبس العبادة بالعادة مثل أن يكون للعبد نية في علم أو عمل أو صدقة أو نفقة الشهر والسنة ثم تعزب نيته فيبقى على عادته يرب حاله الذي قد عرف به، لا يحبّ أن يخرج من عرف الناس فيتعمل لاستقامة الحال على التكلّف بتلك الأعمال فتذهب النية وتبقى العادة فيخرج بذلك من إرادة الآخرة والسعي لها، ويدخل في إرادة الدنيا بالشهوات على جريان العادة بها، وقد يشهد شهادة الدنيا من طلب الرياسة لوجود الهوى بطرقات الآخرة في معنى العلوم والأعمال فما طلب من أعمال السلف وأريد به تأديب النفس ويعلم به الزهد في الدنيا؛ فهذه طرقات الآخرة، وما كان على ضده فهو طرقات الدنيا؛ إذ هو ضدها، وقالوا: كان الناس إذا علموا عملوا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا هربوا، وقالوا: تفقه ثم اعتزل، وقد يلتبس إظهار الأعمال وكشف ما كتم من الأحوال لأجل التأديب به والابتاع عليه، أو لاظهار قدرة اللّّه عزّ وجل وآياته لمزيد السامع من المعرفة به بفعل مثل ذلك للتزين والفخر أو للمدح به وطلب الذكر، وسئل أبو سليمان عن الرجل يخبر بالشيء عن نفسه فقالوا: إذا كان إمامًا يقتدى به فنعم، وقال مرة هو أو غيره: يختلف ذلك على قدر الإرادة به إذا أراد التأديب للنفس حسن ذلك فهذا يلتبس بمداخلة النفس أو بفنائها بقيومية شاهد اليقين للرب عزّ وجلّ.
فصل
ترك العمل عمل كثير يحتاج التارك للنهي أو المكروه فرضًا أو ورعًا إلى نية حسنة أن يتركه للّه عزّ وجلّ طلب مأمنه أو رغبة فيما عنده، لا لوجود الخلق، ولا ليرب به حاله أو يقيم به عند العبيد جاهه، لأنّ ترك المعصية من أفضل الأعمال فيحتاج إلى أحسن النيات، إذ عليها من اللّه تعالى أجزل المثوبات لبلوى النفس بهاواضطراب الوصف إليها، وقال بعضهم: من أحبّ أن يعرف ورعه غير اللّه تعالى فليس من اللّه في شيء، وروي عن زكريا عليه السلام: أنّ قومًا دخلوا عليه وكان يعمل في حائط القوم بالطين، وكان صانعًا يأكل من كدّ يديه، فقدم إليه عندهم رغيفيه وجعل يأكل ولم يدعهم حتى فرغ، فسألوه عن ذلك لعلمهم بزهده وكرمه فقال: إني أعمل لقوم بأجرة، وقربوا إليّ هذين الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم؛ فهذا ممن ترك فضلاً لفرض، وممن كانت له نية في الترك، كما تكون له في الفعل وقال بعضهم: دخلت على سفيان بن أبي عاصم وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه، ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه.(2/97)
وقد روينا في الخبر: أنّ أعجميّاً مرّ بنفر قعود يتكلمون بكلام فيه استهزاء ولهو فظن أنهم يدعون اللّه عزّ وجلّ فقال: مثل ما يقولون بحسن نيته، قال: فغفر اللّه لهم بحسن نيته وقال الحسن:من علامة المسلم أن لا يبدره لسانه ولا يسبقه بصره،ولا تقصر به نيته؛ يعني لا يضعف ولا تقعد به عن المسارعة إلى القربات هي أبد في قوة وزيادة وإن قصرت أعماله فيها وعجزت قوّى جوارحه وقال: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل اللّه عزّ وجلّ، وقال الحواريون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: ياروح اللّه ما الإخلاص للّه عزّ وجلّ؟ قال: الذي يعمل العمل للّه تعالى لا يحبّ أن يحمده عليه أحد من الناس، قالوا: فمن الناصح للّه عزّ وجلّ؟ قال: الذي يبدأ بحق اللّه تعالى قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران؛ أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر اللّّه تعالى قبل أمر الدنيا، فحبّ المحمدة من الناس أصل هو فرعها، وهو يحبّ أن يعرف مكانه، ويريد الاشتهار، وينوي بقلبه محبة الإعظام له من وجوه الأنام، فلا ينفعه، مع هذه النية اختفاؤه في الآجام وعمله غير مقبول،كما روي أنّ عابداً من بني إسرائيل عبد اللّّه تعالى في سرب أربعين سنة، فكانت الملائكة ترفع عمله في السماء فلا يقبل، فقالت: ربنا وعزتك ما رفعنا إليك إلاّ حقّاً فقال عزّ وجلّ: صدقتم ملائكتي ولكنه يحبّ أن يعرف مكانه، فلذلك قال بعض السلف: من نجا من الكبر والرياء وحبّ الشهرة فقد سلم، وقال الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تفلت عليّ يعني تشرد أو تضعف، فتحتاج إلى مداواة لها، كما قال المنصور: المداومة على العمل حتى يخلص أشد من العمل، وقال الثوري: ما أعتد بما ظهر من عملي، وقال عليّ رضي اللّه تعالى عنه: كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، فإنه لا يقلّ عمل مع تقوى وكيف يقلّ عمل يتقبل؟ وقال بعضهم: من استوحش من الوحدة وأنس بالجماعة لم يسلم من الرياء، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العلم الصالح فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ أيتقبل منهم أم لا.
وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل، وقال ابن عجلان: العمل لا يصلح إلاّ بثلاث؛ التقوى للّه عزّ وجلّ، والنية الحسنة، والإصابة وقد فسر الفضيل قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) هود:7، قال: أخلصه وأصوبه قيل: وما ذاك؟ قال: العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وقال التياحي: للعمل أربع خصال لا يتم إلاً بهنّ: معرفة اللّه عزّ وجلّ،ومعرفة الحق، والإخلاص به والعمل على السنّة، فأي عمل كان قبل هذه الأربع لا ينفع فمنهم من يكون حسن الأداء لفرضه، كثير الندم والإشفاق من معاصيه، فيكون هذا أحسن حالاً، ومنهم من يكون سيء الأداء، قليل الحزن والندم على ذنوبه، فيكون هذا أسوأ حالاً وليس يجدون في ذلك على قياس واحد، واللّه تغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، لما سبق لهما في علمه، ولما نفذ لهما من مشيئته وحكمه، وقد يشترك الإثنان في معصية ويتفاوتان في حكم المشيئة ويتوب اللّه على من أحبّ ويتقبل ممن يحبّ، والقبول غير العمل، على العبد العمل وإلى المولى القبول، يقبل ممن يحبّ ويرد ما يشاء ممن يشاء، والسابقة غير المعصية؛ السابقة في المشيئة يغفر لمن سبقت له الحسنى جميع معاصيه السوأى ويعذب من حقّت عليه كلمة العذاب ويحبط أعماله الحسنى، والخلق مردودن إلى السابقة ومحكوم عليهم بعلم اللّه تعالى فيهم، وفي الخبر: هلك المصرون قدمًا إلى النار؛ والإصرار يكون بمعنى أن يعتقد بقلبه متى قدر على الذنب فعله أو لا يعقد الندم عليه ولا التوبة منه وأكبر الإصرار العسي في طلب الأوزار، وفي الخبر: سبق المفردون المستهترون بذكر اللّه تعالى وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافًا؛ فهؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى من المقرّبين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ لهم أوزارًا وضعتها الأذكار.(2/98)
وقال تعالى: (وَالسَّابقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ) الواقعة:10 - 11، هذا ما علمناه من أدلة العلوم وتأوى التنزيل وعفو اللّه تعالى وإرادته من وراء ذلك كله وعلم القديم وللهّّ عاقبة الأمور.
مسألة محاسبة الكفّار
فأما محاسبة الكفّار فهذه مسألة اختلف الناس فيها، فمنهم من ذهب إلى أنهم يحاسبون، ومنهم من أنكر حسابهم، وقد اختلف الآثار في ذلك، فقد جاء في بعضها ما يدل على حسابهم وبه تعلق من قال به، وجاء في كثير منها ما يدل على أنهم لا يحاسبون، وبه احتجّ من أنكر حسابهم، وإنما يرجع عند الاختلاف إلى كتاب اللّه تعالى، ففيه الشفاء وبه الغنى، فيفصل ما أجمل القائلون ونعدل في القول الشديد فيما تأوّله المتأولون، فنقول: واللّّه أعلم أنّ اللّه سبحانه ذكر في كتابه آيتين تدل على مسألة الكفّار عن الشرك الذي أدخلوا في التوحيد، وعن إجابة المرسلين وتكذيبهم قال اللّه تعالى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكَائي الَّذينَ كُنْتمْ تَزْعمون) القصص:62 ثم قال في الآية الأخرى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ مَاذَاَ أجَبْتُمُ المُرْسَلينَ) القصص:65 فنقول أنهم على هذا يسألون عن التوحيد فقط وعن تكذيب المرسلين هاتين الآيتين، وقال في الآيتين الآخرتين: (وَلا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمون) القصص:78 وقال في الأخرى: (فَيَوْمَئِدٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جان) الرحمن:39 ثم قال: (يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنَّوَاصي وَالأقْدَام) الرحمن: 41 فهذا نصّ في ترك المسألة على الذنوب والأعمال، فنقول بهاتين الآيتين: إنهم لا يسألون عن الأعمال، وإنما يحاسب على العمل من كانت بينه وبينه معاملة ومن ثبتت له حسنات يقع بها ترجيح وموازنة.
وقد روينا عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه في قوله تعالى: (وَفِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) الصافات:42، قال عن قول لا إله إلاّ اللّه، وقد رويناه مرفوعًا إلى النبي فهذ على معنى ماذكرناه أنهم يسألون عن التوحيد، فالناس من أهل الجنة والنار يحشرون يوم القيامة على ست طبقات؛ طائفة تدخل الجنة بغير حساب وهم السابقون المقرّبون، وطائفة تدخل الجنة بعد الحساب اليسير وهم خصوص المؤمنين والصالحين، ومنهم من يدخل بعد الحساب الطويل والمناقشة وهم أصحاب اليمين وعموم المؤمنين وكذلك أهل النار ثلاث طبقات؛ طائفة تدخل النار بغير سؤال ولا حساب، عالمان من عبدة الأوثان من ولد يافث بن نوح وهم يأجوج ومأجوج خلق خلقوا للنار، وطائفة تدخل النار بعد الحساب الطويل والمناقشة، وهم أهل الكبائر والمنافقون، وطائفة بسؤال وتوقيف من غير محابة على الأعمال وهم، أمم الأنبياء المرسل إليه م المرسلون لقوله تعالى: (فَلَنَسْألَنَّ الَّذين أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) الأعراف:6.(2/99)
وقد روينا في الخبر المشهور: من نوقش الحساب عذّب فقيل: يا رسول اللّه أليس اللّّه تعالى يقول: فسوف يحاسب حسابًايسيراً؟ فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذّب، وقد كان إمامنا سهل بن عبد اللّه يقول: يسأل الكفّار عن التوحيد ولا يسألون عن السنّة،ويسأل المبتدعون عن السنّة، ويسأل المسلمون عن الأعمال، فأما قوله تعالى: (إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية:25 - 26 ففيها وجهان: أحد الوجهين أن يكون هذا كلامًا منفصلاً عما قبله يراد به المسلمون لأنه ذكر خبر الكفّار فختمه بالعذاب، فقال في أول الكلام:( إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه اللّّه العذاب الأكبر) الغاشية:23 - 24 هذا آخر خبرهم، ثم استأنف مخبرًا عن غيرهم فقال إنّ إلينا إيابهم ثم إنَّ علينا حسابهم، والوجه الآخر أن يكون قوله تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية:25 أي جزاءهم، فالحساب أيما ذكر للكفّار يكون بمعنى المجازاة على أعمالهم السيئة وكذلك قوله تعالى:(ووَجَدَ اللّه عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ) النور:39 يعني جزاءه، إلاّ إنّ الفراء وغيره من أهل اللسان خالفونا في هذا فاعتبروه بما بعده فجعلوه دليلاً على المحاسبة قالوا: احتمل أن يكون قوله فوفاه حسابه أن يكون جزاءه كما قلنا واحتمل أن يريد محاسبته، فلما قيل: واللّه سريع الحساب كشف التنزيل التأويل بذلك أنّ حسابه يعني محاسبته، وكذلك قال الزجاج في تأويل ما ذكرناه آنفًا من قوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهمُ المُجْرِمونَ) القصص:78 فقال معناه لا يسألون لتوجه من قبلهم أو ليرجع إليه م من علم ذلك وسبقه عليهم، أي قد فرغ اللّه عزّ وجلّ من ذلك فأحكمه بما سبق من علمه، وواطأه مقاتل بن سليمان على هذا التأويل باختلاف معنى بمعنى صنعته التفسير، لأنه لم يكن له في اللغة تمكين، فقال: معنى ذلك: ولا يسأل هؤلاء المجرمون عن ذنوب السالفين؛ فجعل الهاء والميم على من تقدم ذكره من قارون وأصحابه والقرون السالفة، لأنّ ذكرهم كان سياق هذا الخطاب في قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّه قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هو أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) القصص:78، ثم قال: ولايسأل عن ذنوبهم؛ يعني هؤلاء المجرمون؛ يعني مشركي هذه الأمة، وقال أيضاً هو وغيره: إنّ الكفّار سألوا فقالوا: ترى ماذا فعل اللّه تعالى بالقرون الأولى الذين يقص علينا نبأهم؟ قال: فنزلت هذه الآية فهي بمنزلة قول فرعون، قال: فما بال القرون الأولى؟ فقال موسى عليه السلام: علمها عند ربي، إلاّ أنّ اللّه عزّ وجلّ قد قال في ذكر الحساب بمعنى الجزاء دعطاء حسابًا يعني مجازاة، وقيل: كفاية بمعنى كفاهم وأحسبهم ذلك، كما قال تعالى: (حَسْبُهمْ جَهَنَّمُ) المجادلة:8، أي كافيهم ذلك.
الفصل الثامن والثلاثون
الإخلاص وشرح النيّات
والأمر بتحسينها في تصريف الأحوال والتحذير من دخول الآفات عليها في الأفعال:(2/100)
قال اللّه الكبير المتعال:(وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ) البينة:5 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب رجل مسلم: إخلاص العمل للّه تعالى، وقال: إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى، وقد روينا في الحديث من طريق أهل البيت عليهم السلام: لايقبل اللّه تعالى قولاً إلاّ بعمل ولا قولاً وعملاً إلاً بنية، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض اللّه تعالى والورع عمّا حرم اللّه تعالى وصدق النية فيما عند اللّه عزّ رجلّ، فينبغي أن يكون للعبد في كل شيء نية حتى في مطعمه ومشربه وملبسه ونومه ونكاحه؛ فإن ذلك كله من أعماله التي يسأل عنها؛ فإن كانت للّه تعالى وفيه كانت في ميزان حسناته، وإن كانت في سبيل الهوى ولغير المولى كانت في ميزان سيّئاته، إذ لكل عبد ما نوى وإن كان ذلك غفلة وسهواً من غير نية ولا عقد طوبة ولا حسبة، لم يكن له في ذلك شيء، ولم يجد عمله في الآخرة شيئًا، وكان فيه لا له ولا عليه، وكان ذلك في الدنيا على مثال الأنعام التي تتصرف عن غير مقول ولا تكليف ولكن بإلهام وتوفيق، وأخاف أن يدخل في وصف من قال اللّه تعالى: (أَغْفلنا قَلْبَه عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَبعَ هَواه وَكَانَ أَمْرُهُ فَرُطًا) الكهف: 28، أي غفلة وسهوًا، وقيل: تفريطًا وتضييعاً، وقيل: مقدماً إلى الهلاك، فالنية الصالحة هي أول العمل الصالح وأول العطاء من اللّه تعالى وهو مكان الجزاء، وإنما يكون للعبد من ثواب الأعمال على حسب ما يهب اللّه تعالى له من النيّات، فربما اتفق في العمل الواحد نيّات كثيرة على مقدار ما يحتمل العبد من النية، وعلى مقدار علم العامل، فيكون له بكل نية حسنة، ثم يضاعف كل حسنة عشر أمثالها، لأنها أعمال تجتمع في عملٍ، وصورة النية معنيان، أحدهما: صحة قصد القلب إلى العمل بحسن التيقظ فيه والإخلاص به لوجه اللّه تعالى ابتغاء ما عنده من الأجر، فكل عمل كان على علم بهذه النية فهو صالح متقبل بفضل اللّه تعالى وبرحمته، لأن صاحبه قد اتقى الشرك والجهل والهوى، فعمله مرفوع في الخزائن مدّخر له الجزاء وحقيقة الإخلاص سلامته من وصفين؛ وهما: الرياء والهوى، ليكون خالصًا كماوصف اللّه تعالى الخالص من اللبن، فكان بذلك تمام النعمة علينا، فقال: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لبََناً خَالصاً) النحل: 66، فلو وجد فيه أحد الوصفين من فرث أو دم لم يكن خالصًا، ولم تتم النعمة به علينا ولم تقبله نفوسنا، فكذلك معاملتنا للّه عزّ وجلّ إذا شابها رياء بخلق أو هوى من شهوة نفس، ولم تكن خالصة لم يتم بها الصدق والأدب في المعاملة ولم يقبلها اللّه تعالى منّا فاعتبروا.(2/101)
وروينا عن سعيد بن أبي بردة عن كتاب عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: أنه من خلصت نيته كفاه اللّه تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن للناس بما يعلم اللّه تعالى منه غير ذلك شانه اللّه تعالى، فما ظنك؟ وكتب سالم بن عبد اللّه إلى عمر بن عبد العزير: اعلم يا عمر أن ّ اللّه تعالى عون للعبد بقدر النية، فمن تمّت نيته تم عون اللّه تعالى إياه، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه من عون اللّه تعالى بقدر ذلك، وقد قال اللّه تعالى في تصديق ذلك: (إنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفّّقِ اللّه بَيْنَهُمَا) النساء: 35، فجعل سبب التوفيق إرادة الإصلاح؛ فذلك هو أول التوفيق من الموفق المصلح للعامل الصالح، وقال بعض السلف: رأيت الخير إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم ينصب ربّ عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبر تصغره النية، وكتب بعض الأدباء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل، وقال داود الطائي: من أكبر همه التقوى لو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة، فكذلك الجاهل باللّه تعالى وأيامه همه الدنيا والهوى، ولو تعلقت جوارحه بكل أعمال الصالحات لكان مرجوعًا إلى إرادة الدنيا وموافقة الهوى، لأن سرّها كان همه النفس لعاجل عرض الدنيا، وقال محمد بن الحسين: ينبغي للرجل أن تكون نيته بين يدي عمله، وقال أيوب السجستاني وغيره: تخلص النيّات على العمّال أشدّ عليهم من جميع الأعمال، وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العلم، وقال بعض العلماء: طلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير، وقال زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك تصبح ولا تهيّم للّه تعالى بمعصية وتمسي ولا تهيّم للّه تعالى بمعصية، وكذلك قال بعض السلف في معناه: إنّ نعمة اللّه تعالى أكثر من أن تحصوها وإنّ ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توّابين وأمسوا توّابين يغفر لكم ما بين ذلك.
وروينا في الخبر عن بعض المريدين: أنه كان يطوف على العلماء يقول: من يدلّني على عمل لا أزال فيه عاملاً للّه تعالى فإني أحبّ أن لاتجيء عليّ ساعة من ليلٍ أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال اللّه تعالى، فقيل له: قد وجدت صاحبك اعمل الخير ما استطعت، فإذا أقترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهامّ بعمل الخير كعامله.
وروينا عن عيسى عليه الصلاة والسلام: طوبى لعين نامت ولا تهمّ بمعصية وانتهت إلى غير إثم.
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وقد جاء في الخبر المشهور نية المرء خير من عمله.
تفسير قوله نية المرء خير من عمله(2/102)
فيه عشرة أوجه؛ قيل: إنّ النية سرّ وأعمال السرّ تضاعف، وقيل: لأنها غيب لا يطلع عليها غير اللّه تعالى، والظواهر مشتركة، وأيضاً فإن اللّه عزّ وجل يهبها للعبد خالصة لا يشوبها شيء إذا وهبها، ولا يدخل عليها الآفات؛ فهذا عطاء مهيأ وسائر الأعمال مدخر له، وأيضاً لأنها من شرط العمل حتى لا يصحّ عمل إلاّ بها وهي تصحّ بمجردها، وكان عبد الرحيم بن يحىى الأسود يقول: معنى قوله نية المرء خير من عمله يعني إخلاصه في العمل خير من العمل، قال: فالإخلاص بغير عمل خير من عمل غير مخلص والنية عنده: هو الإخلاص نفسه، وعند غيره: هو الصدق في الحال باستواء السريرة والعلانية، وقد قال الجنيد رحمه اللّه تعالى في الفرق بين الإخلاص والصدق معنى لطيفًا لم يفسره ويحتاج إلى تفسير، حدثنا بعض الأشياخ عنه قال: شهد جماعة على رجل بشهادة فلم تضرّه وكانوا مخلصين، ولو كانوا صادقين لعوقب؛ يعني أنّ صدقهم أن لا يعملوا عمله أومثل عمله الذي شهدوا به عليه؛ فهذا صدق الحال، وهو حقيقة النية وإخلاصها عند المحققين، وقد قيل في معنى قوله: نية المرء خير من عمله لأن نية المؤمن دائمة متصلة، والأعمال منقطعة، وبالنية خلد أهل التوحيد في الجنة، وخلد أهل الشرك في النار لدوام نياتهم على التوحيد ودوام نيات الآخرين على الشرك مدة الدهر؛ فهذه المعاني كلها على هذا الوجه الذي يقول فيه: إنّ معناه أنّ النية خير من العمل، وفيه وجه آخر يكون الكلام فيه على التقديم والتأخير أي نية المؤمن هي من عمله خير، كأنه قال: هي بعض أعماله الخير، فهذا كقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) البقرة:160، معناه نأتِ منها بخير، وكما قال: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حفي عَنْها) الأعراف:781، معناه: يسألونك عنها كأنك حفي بهم، فآخر قوله عنها ومعناه التقديم فيكون هذا على التأويل أنّ النية من أعمال القلوب، وأنها من أعمال العبد خير كثير، وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي موجودة في النية ففضلت النية العمل، لأن هذه المعاني من صفتها، وقال بعض التابعين: قلوب الأبرار تغلي بالبرّ وقلوب الفجّار تغلي بالفجور واللّه تعالى مطلع على نيّاتهم فيثيبهم بقدر ذلك فانظر ما همك وما نيتك.
وروينا عن اللّه سبحانه وتعالى في بعض الكتب أنه قال: ليس كل كلام الحكيم أتقبل، ولكني أنظر إلى همه وهواه، فمن كان همه وهواه لي جعلت صمته ذكرًا ونظره عبرًا؛ وهذا داخل في عموم الخبرالذي رويناه عن نبيناصلى الله عليه وسلم: أنّ اللّه تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وسئل سفيان الثوري: هل يؤاخذ العبد بالنية؟ قال: نعم إذا كانت عزماً أخذ بها، وفي الخبر: أنّ العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي اللّه تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد بذلك وجهي، ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا واكتبوا له كذا، فيقولون: ربنا إنه لم يعمل شيئًا من ذلك، فيقال إنه نواه، وفي حديث أبي كبشة الأنماري: الناس أربعة: رجل آتاه اللّه عزّ وجلّ ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله،فيقول رجل: لو آتاني اللّه تعالى ما آتاه لعملت كما يعمل؛ فهما في الخير سواء، ورجل آتاه اللّه مالاً ولم يؤته علمًا فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني اللّه مثل ما آتاه عملت كما يعمل؛ فهما في الوزر سواء، ألا ترى كيف شركه بحسن النية في محاسن عمله وشرك الآخر بسوء النية بنيته في مساوئ عمله؟ وكذلك في حديث أنس بن مالك لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال: إنّ بالمدينة أقواماً، ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفّار ولا أنفقنا نفقة ولا نصبنا نصبًا ولا أصابتنا مخمصة، إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة، قالوا: وكيف ذلك يارسول اللّه وليسوا معنا؟ قال: حبسهم العذر فشركونا بحسن النية.(2/103)
وقال بعض السلف: صلاح الأعمال وفسادها بصلاح النيّات وفسادها، وكان مطرف يقول: صلاح عمل بصلاح قلب، وصلاح قلب بصلاح نية، ومن صفا صفي له، ومن خلط خلط عليه، وكذلك جاء في الخبر وهو أصل من أصول الدين قولهصلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوج بها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أنّ لا عمل إلاّ بالنيّة، ثم جعل لكل عبد نية ثم ردّ طالبي الدنيا والأزواج إلى نياتهم، وحكم عليهم بها، وجعلها نصيبهم من اللّه تعالى، وفّق ذلك لهم أو لم يوفقه، فبطلت هجرتهم بفساد نيّاتهم وصارت همتهم بدنياهم وهواهم سبب حرمان ثواب المخلصين للّه بحسن نياتهم، وطلب آخرتهم؛ وكان ذلك في الآخرة حسرة عليهم في الدنيا وشيئًا لهم.
وفي حديث ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئًا فهو له فهاجر رجل فتزوّج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس، وقال أبو داود: هذا الحديث ربع العلم، وذلك أنه قال: جمعت السنن الصحاح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أربعة آلاف حديث، ثم قال: قد أمررتها على أربعة أحاديث؛كل حديث ربع العلم، قال: وهذا الحديث أوّلها، وإنما قال ذلك لأنه فرض الفروض لا يتمّ فرض إلاّ به، وكذلك جاء في الخبر: أنّ رجلاً قتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ فكان يدعى قتيل الحمار، وذلك أنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته، وفي حديث أبي عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من غزا وهو لا ينوي إلاّ عقالاً فله ما نوى، وقال: إني استعنت رجلاً يغزو معي، فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً: فجعلت له فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ليس له من ديناه وآخرته إلا ما جعلت له.
وروينا في الإسرائيليات أنّ رجلاً مرّ بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان لي هذا الرمل طعامًا لقسمته بين الناس، قال: فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّهم أن قل له: إنّ اللّه تعالى قد قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به، وفي أخبار كثيرة: من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وفي حديث عبد اللّه بن عمر: من تكن الدنيا نيّته جعل اللّه فقره بين عينيه وفارقها أرغب مايكون فيها، ومن تكن الآخرة نيته جعل للّه غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها، وحديث أم سلمة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا يخسف بهم في البيداء فقلت: يا رسول اللّه يكون فيهم المكره والأجير، فقال: يحشرون على نياتهم، وفي حديث عمر مثله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما يقتتل المقتتلون على النيّات، وفي حديث فضالة: من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها، وكذلك قال في الخبر: إذا التقى الصفّات نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا، فلان يقاتل عصبية إلاّ فلانًا يقولون قتل فلان في سبيل اللّه فمن قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّّه تعالى.(2/104)
وعن جابر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يبعث كل عبد على ما مات عليه، وفي حديث الأحنف بن قيس عن أبي بكرة: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه، والنية عند قوم الإخلاص بعينه، وعند آخرين الصدق، وعند الجملة أنها صحة العقد وحسن القصد، وهي عند الجماعة من أعمال القلوب مقدمة في الأعمال وأوّل كل عمل، وقد قال اللّه تعالى: (واذْكُروا اللّه ذِكْرًا كَثيرًا) الأحزاب:41 قيل: في التفسير خالصاً فسمي الخالص كثيرًا، وهو ما خلصت فيه النية لوجه اللّه تعالى، ووصف ذكر المنافقين بالقلة فقال: (يراءون الناس ولا يذكرون اللّه إلا قليلاً) النساء:142 يعني غير خالص، وسمّيت سورة:(قُلْ هُوْ اللّه ُ أحدْ) سورة الإخلاص لأنها خالصة في ذكر صفات اللّه تعالى وحده، لا يختلط بذكره جنة ولا نار ولا وعد ولا وعيد ولا أمر ولانهي و كذلك قيل سورة التوحيد إذ لا شريك فيها من سواه فأول سلطان العدو على القلب عند فساد النية فإذا تغيرت من العبد طمع فيه فيتسلط عليه وأوّل ارتداد العبد عن الاستقامة ضعف النية، فإذا ضعفت النية قويت النفس فتمكن الهوى، فإذا قويت النية صحّ العزم وضعفت صفات النفس، ولأنه ينتقل العبد من معصية إلى معصية دونها فيكون تاركًا للأولى بنية الترك للّه تعالى كان أنفع له وأحمد عاقبة وأصلح لقلبه وأقرب إلى توبته من افتعال الطاعات مشوبة بالهوى وفساد النيّات، لأنه يكون حينئذ متقلبًا في المعاصي بفساد نيته، وخالط عملاً سيِئًا بسيء مثله، ودرأ بالسيّئة لسيّئة قبلها، وهذا بخلاف وصف اللّه تعالى من قوله: (خَلَطُوا عَملاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) التوبة:102 وقوله: (وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد:22، ومخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: اتبع السيّئة الحسنة تمحها، وفي حديث أبي هريرة: من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان، ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق، وفي حديث ابن مسعود ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء فقال: إنّ أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين اللّه أعلم بنيته، وقال ثابت البناني: نية المؤمن أبلغ من عمله، إنّ المؤمن ينوي أن يصوم النهار ويقوم الليل ويخرج من ماله فلا تتابعه نفسه على ذلك فنيته أبلغ من عمله، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل القلب بالملك والجوارح جنوده، قال: فإذا صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسد فسد الجسد؛ معناه إذا صلحت للعبد نيته دامت للعبد استقامته، وإذا خلص وصفا من شوب الكدر والهوى خلصت الأعمال من الرياء وصفت من الشهوات والأهواء، وإذا فسدت نيته بحبّ الدنيا فسدت أعمال الجوارح بحبّ المدح والرياء.(2/105)
وقد حدثونا في الإسرائيليات أنّ عابداً عبد اللّه تعالى دهرًا طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إنّ ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون اللّه تعالى، فغضب لذلك، فأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك اللّه؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون اللّه، قال:وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك والاشتغال بنفسك وتفرّغت لغير ذلك؟ فقال: إنّ هذا من عبادتي، فقال له: إني لا أتركك تقطعها، قال: فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره، فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه فقال له إبليس: يا هذا إنّ اللّه تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، أنبيّ أنت؟ قال: لا، قال: فلا عليك ممن كان يعبدها، فلو اشتغلت بعبادتك وتركتها فإن للّه تعالى في أرضه أنبياء لو شاء بعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها فقال العابد: لا بدّ لي من قطعها، قال: فنابذه إبليس للقتال فغلبه العابد فأخذه وصرعه وقعد على صدره، فلما رأى إبليس أنه لا طاقة له به ولاسلطان له عليه قال: يا هذا هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع من هذا الأمر الذي جئت تطلبه قال: وما هو؟ قال: قم عني أخبرك به، فأطلقه العابد فقال له إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك، ولعلك تحبّ أن تفضل على إخوانك، وتواسي جيرانك، وتتسع في حالك وتستغني عن الناس،قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر الذي جئت فيه ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين، فإذا أصبحت أخذتهما فصنعت بهما ما شئت، وأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك، فيكون لك أفضل من ذلك وأنفع للمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانه، ولا يضرّهم قطعها شيئًا ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك لها، قال: فتفكر العابد فيما قال له وقال: صدق الشيخ، لست بني فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني اللّه تعالى أن أقطعها فأكون قد عصيت بتركها، وإنما هو شيء تفضّلت به، وماذا يضرّالموحدين من بقائها وهذا الذي ذكره أكثرمنفعة لعموم الناس، قال: فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له فرجع العابد إلى متعبده فبات ليلته فأصبح فإذا ديناران عند رأسه فأخذهما، ثم كذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث فلم يرَ شيئًا، ثم أصبح بعد ذلك فلم يجد فغضب وأخذ فأسه على عاتقه وخرج يؤم الشجرة ليقطعها وقال: إن فاتني أمر الدنيا لا أتركنّ أمر الآخرة، قال: فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد؟ قال: أقطع تلك الشجرة، قال: كذبت واللّه ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليه ا، قال: فتناوله العابد ليأخذه كما فعل أول مرة فقال: هيهات قال: فأخذه إبليس فصرعه فإذا هو كالعصفور بين يديه، قال: وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهينَ عن هذا الأمر أو لأذبحنك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا قد غلبتني فحلّ عني وأخبرني عنك كيف قد غلبتك أول مرة فصرعتك والآن غلبتني فصرعتني؟ فكيف ذلك؟ قال له إبليس: لأنك أول مرة غضبت للّه تعالى وكانت نيتك الآخرة فسخرني اللّه لك فغلبتني، وهذه المرة جئت مغاضباً لنفسك وكانت نيتك الدنيا فسلطني اللّه تعالى عليك فصرعتك، وهكذا حدثونا في قصة تطول أنّ ملكة من بني إسرائيل راودت عابدًا عن نفسه فقال: اجعلوا لي ماء في الخلاء أتنظف، قال، ثم صعد على موضع في القصر فرمى بنفسه فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى ملك الهوى: الزم عبدي قال: فلزمه حتى وضعه بالأرض على قدميه رويدًا، فقيل لإبليس: ألا أغويته؟ فقال: ليس لي سلطان على من خالف هواه وبذل نفسه للّه تعالى.
وفي حديث معاذ بن جبل أنّ العبد يوم القيامة ليسأل عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بأصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه، وروينا في خبر مقطوع من تطّيب للّه تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطّيب لغير اللّه تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة، وليس الطيب من أكبر المأمور به ولا من الإثم المنهى عنه، وإنما لصاحبه منه نيته، فإن كان نيته اتباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار النعمة للّه تعالى، كان بذلك مطيعًا وكان له ثواب ما نواه، وإن تطيّب لغير ذلك كان به عاصياً لاتباعه هواه.(2/106)
وعن بعض السلف الصالح قال: كتبت كتابًا وأردت أنّ أتربه في منزل جاري فتحرجت من ذلك ثم قلت: تراب وما تراب؟ فترتبه فهتف بي هاتف سيعلم من استخف بتراب ما يلقى غداً من سوء الحساب، وقال بعض العلماء: إن لأستحبّ أن يكون لي في لك شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي، وحدثت أنّ رجلاً صلّى مع سفيان صلاة العيد وكان قد خرج معه بغلس، فلمّا أصبح نظر وإذ إزار سفيان مقلوب فقال له: يا أبا محمد قد لبست ثوبك مقلوبًا فأصلحه قال: فمد سفيان يده ليسوّي إزاره ثم قبضها فلم يسوّه فقا له الرجل: ما منعك أن تسوّيه عليك؟ قال: إني لبسته للّه عزّ وجلّ فلا أريد أن أسويه لغير ذلك ونادى رجل امرأته وكان فوق سطح يسرّح شعره فقال: هاتي المدري ليفرق به شعره فقالت امرأته: وأجيء بالمرآة فسكت هنيّة ثم قال: نعم، فقال له من سمعه لأي شيء سكتَّ عن المرآة؟ فقال له: إني قلت لها: هاتي المدري بينة، فلما قالت والمرآة؟ فلم يكن لي في لمرآة نية، فتوفقت حتى هيأ اللّه لي نية فقلت نعم جيئي بها.
وحدثونا عن بعض أصحاب بشر أن فتحًا الموصلي دخل عليه فقام له بشر، قال: وما رأيته قام لغيره، فقمت فأجلسني، فلما انصرف قلت له: قمت أنت إليه فلما قمت أنا أجلستني، فقال: أنا قمت إليه لأجل اللّه تعالى وأنت قمت لأجلي فأجلستك، وحدثونا أنّ بعض الفقراء كان يصحب أبا سعيد الخراز فكان يخف بين يديه في حوائجه، ويخدم الفقراء، ويسارع في قضاء حوائج أبي سعيد وأصحابه، قال: فتكلم أبو سعيد يوماً في إخلاص الحركة فوقر ذلك قي قلب الشاب فكأنه أخذ الإخلاص التفقد لحركته وخدمته فترك ما كان يعمله من قضاء حوائج أبي سعيد في الخفة بين يدي إخوانه حتى أضّر ذلك بأبي سعيد فقال له: يا بني قد كنت تسعى في حوائج إخوانك ثم قطعت ذلك فما السبب؟ فقال يا أستاذ إنك تكلمت في الإخلاص وأني خشيت أن تكون أفعالي مدخولة فتركتها، قال أبو سعيد:لا تغفل إنّ الإخلاص لايقطع المعاملة ولا ينبغي للعاقل أن يترك العمل لأجل الإخلاص فيفوته الإخلاص والعمل، ولم أقل لك: اترك ما أنت عليه إنما قلت لك: أخلص فيه فإنّ طلبك للإخلاص قد قطعك عن عمل البرّ وقد أضرّ ذلك بنا فارجع إلى ما كنت فيه وأخلص فيه للّه تعالى، فينبغي للعبد أن يكون له نية خالصة في جميع تصرفه في حركته وسكونه وسعيه وتركه، فإن الحركة والسكون اللذين هما أصلاً الأعمال من أعماله التي يسأل عنها فيحتاج إلى النية والإخلاص فيهما، فليجعل جميع ذلك للّه تعالى وفيه بعقد واحد على مراتب من المقامات عنده، إما حبًا له وإجلالاً له، وإما خوفًا منه أو رجاء له، أو لأجل ما أمره به، فينوي أداء الفرائض، أو لما ندبه فينوي المسارعة إلى الخير، وفيما أبيح له فتكون نيته في ذلك صلاحاً لقلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله، وذلك كله لأجل الدين وعدة الآخرة، وشكرًا لربّه تعالى، ودخولاً فيما أحلّ له، واعترافاً بما أنعم عليه، واتباعاً لسنّة نبيّه فيه ولا يكون واقفًا مع طبع ولا جاريًا على العادة، وقال أبو عبدة بن عقبة: من سرّه أن يكمل عمله فليحسن نيته، فإن اللّه عزّ وجلّ يأجرالعبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة، فأحسن تفسير النية بما فسرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان فقال: تعبد اللّه كأنك تراه فهذه شهادة العارفين ومعرفة الموقنين، فهم مخلصو المخلصين، وقال ابن المبارك: ربّ عمل صغير تعظمه النية، وقال بعضهم: القصد إلى اللّه تعالى بالقلوب أبلغ من حركات الأعمال بالصلاة والصيام ونحوه، وقال الأنطاكي: إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح، وروي عن عليّ عليه السلام: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة، وقال داود الطائي: رأيت الخير كله يجمعه حسن النية فكفاك به خيرًا، وإن لم ينصب، وروي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: (وَآتيّنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْياَ) العنكبوت:27، قال: نيته الصادقة اكتسب بها الأجر في الآخرة.(2/107)
وروي عن عبد الرحمن بن مربح قال: من قام إلى شيء من الخير لا يريد به إلاّ اللّه عزّ وجلّ، ثم عرض له من يريد أن يرائيه بذلك أعطاه اللّه عزّ وجلّ بالأصل، ووضع عنه الفرع، ومن قام إلى شيء من الخير لا يريد إلاّ المراءاة ثم فكر وبدا له فجعل آخر ذلك للّه عزّ وجلّ أعطاه اللّه تعالى بالفرع ووضع عنه الأصل، كأنه حسب ذلك توبة؛ والتوبة مكفرة لماسلف واللّه أعلم، وقد تلتبس الفضائل بالمناقص لدقة معانيها وخفيّ علومها كصلاة العبد النفل وهو يحسب أنه الأوجب، من ذلك أن رجلاً كان يصلّي فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فظن أنّ وقوفه بين يدي اللّه تعالى بالغيب أفضل له، فلما سلم جاءه فقال له صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني حين دعوتك؟ فقال: كنت أصلّي، فقال: ألم تسمع قول اللّّه تعالى: (اسْتجيبوُا للّه وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحييكُمْ) الأنفال:24؟ فكان إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل له، لأن صلاته نافلة وإجابة الرسولصلى الله عليه وسلم فرض عليه، قال بعضهم: من كان طلب الفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع، ومن شغل بغيره عن نفسه فقد مكر به، وقال سفيان: إنماحرموا الوصول بتضييع الأصول: فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه، ثم وقوفه على حده، ثم إحكامه لحاله التي أقيم فيها، ثم قيامه بعلمه الذي فتح له، فيبتدئ العمل بما افترض عليه بعد اجتنابه مانهى عنه مبلغ علمه ووسع وجده، لا يشتغل بطلب فضل حتى يحكم عمل فرض، لأن الفضل ربح لا يصحّ إلا بعد رأس المال، ولكل فضل آفة قاطعة، فمن سلم منها حاز فضله، ولكل أمر نفيس مؤونة ثقيلة، فمن تحملها أدرك نفيسها، ومن تعذرت عليه السلامة فهيهات أن يصير إلى فضل كرامة، ومن لم يصبر على تحمل غرامة لم يدرك علوّ مقامه، وقد يلتبس التكلف بالإخلاص وإظهار العلم بظهور التزيّن به، قال الثوري رحمه اللّه: زيّن نفسك بالعلم لولا تزيّن به؛ أي أدبها للّه عزّ وجلّ فتكون زينًا في أوليائه، ولا تتزين به عند الناس ليمدحوك عليه ويلتبس الاختبار بالاختيار ما كان عن حاجة وتطرقت به إلى اللّه عزّ وجلّ، والاختيار ما زاد في الشهوة وكان سلماً إلى الخلق كالتباس ستر العورة من الثياب بالفاخر منها للنعمة والتكثر من الأسباب، و وقد يتطوع العبد بعمل يضيع به فرضًا وأحكام الفرض لجواز السلامة هو الفضل.
وقد روي: إذا دعي أحدكم للطعام فإن كان مفطرًا فليجب وإن كن صائمًا فليقل إني صائم، فأمره بإظهار عمله وهو يعلم أنّ الإخفاء أفضل، ولكن إظهار عمله من حيث لا يؤثر في قلب أخيه وجدًا أفضل من إخفائه لنفسه مع تأثير ذلك في قلب أخيه لتفضيل العمال على الأعمال، إذ الأعمال موقوفة على العامل، فإنما يعطي الثواب على قدر العامل لا على قدر العمل لتضعيف الجزاء لمن يشاء عزّ وجلّ على غيره في العمل لواحد، فدلّ ذلك أنّ المؤمن أفضل من العمل فقيل له: ارفع التأثير والكراهة عن قلب أخيك بإظهار عملك؛ فهو خير من إخفاء العمل مع وجد أخيك عليك، لأن أخاك إذا دعاك إلى طعام صنعه لك فلم تجبه ولم تعتذر إليه عذراً بيّناً يقبله منك ويعرفه شقّ عليه ذلك إن كان صادقًا في دعائك، قال ابن شبرمة: سأل كرز بن وبرة ربه عزّ وجلّ أن يعطيه الاسم الأعظم على أن لا يسأله شيئاً من أمر الدنيا، فأعطاه اللّه تعالى ذلك فسأل أن يقوي أن يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات،فقيل لكرز: أتعبت نفسك في العبادة، فقال: كم مقدار الدنيا قيل سبعة آلاف سنة؟ قال: أما يرضى عبد أن يعمل سبعة آلاف سنة وينجو من يوم مقداره خمسين ألف سنة؟ وقال سري السقطي: ركعتان تخلصهماخير لك من أن تكتب سبعين حديثا أو قال سبعمائة حديث.
الفصل التاسع والثلاثون
ترتيب الأقوات
بالنقصان منها أو بزيادة الأوقات(2/108)
أما الأقوات فقد كان بعض السلف ينقص منها حتى يرد النفس إلى أقل قوامها،، فمن أراد هذا الطريق فلينقص في كل أكلة ربع سبع رغيف فيكون تاركاً لرغيف في شهر برياضة وتمهل، فلا يؤثر النقصان عليه شيئاً حتى تقف النفس على الأكل في ثلث بطنها وهو ثلث أكله المعتاد، وهذا طريق المريدين، ومن العلماء من لم يكن يعرض للأقوات ولكن يعمل في زيادة الأوقات فيؤخر أكله وقتًا بعد وقت حتى ينتهي إلى أكثر طاقة النفس لحمل الجوع بضعف الجسم عن الفرض أو خشية اضطراب العقل، فمن أراد هذا الطريق أخّر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل حتى يكون قد طوى ليلة في نصف شهر؛ وهذا طريق من أراد الطي السبع والعشر والخمس عشرة يومًا إلى الأربعين، لأنه يعمل في تجوعه على مزيد الأيام ولا يعمل في نقصان الطعام فلا يؤثر ذلك نقصًا في عقله ولا ضعفًا عن أداء الفرائض، إذا كان على صحة قصد وحسن نية وصدق عقد، فإنه يعان على ذلك ويحفظ فيه ويكون طعمه إذا أكل عند كل وقت يزيد فيه النقص ضرورة عن غيرتعمل لنقصانه، لأن معاه تضيق لا محالة، فكلما زاد جوعه نقص أكله على هذا إلى أن ينتهي في الجوع، وينتهي في قلة الطعم، ولا ينال فضيلة الجوع التي وردت به الأخبار إلاّ بالطي، ومن الناس من يقول: حدّ الجوع الأول من الوقت إلى مثله كالغد أربعة وعشرون ساعة، وحدّه الآخر اثنان وسبعون ساعة؛ فهذا حدّ الجوع من الأوقات فأما حدّه في الأقوات فكان بعضهم يقول: حدّ الجوع أن لا تطلب نفسك الأدم، فمتى طلبت نفسك الأدم مع الخبز فلست جائعًا؛ فهذا حدّ الأوّل، وقيل: حدّه الجوع أن تطلب الخبز فلا تميز بينه وبين غيره، فمتى تاقت النفس إلى الخبز بعينه فليست بجائعة لأن لها شهوة في التخير، ومتى لم تميز بين خبز وغيره من مأكول؛ فهذا حدّ الجوع وهو الفاقة والحاجة إلى الطعام الذي جعله اللّه تبارك وتعالى غذاء للأجسام؛ وهذا يكون في آخر الحدّين من الأوقات بعد الثلاث إلى خمس وسبع، ويكون طلب العبد عند هذا الجوع القوام من العيش والضرورة من القوت وهو ما سدّ الجوعة وأعان على أداء الفريضة؛ وهذا حال الصديقين وقد سمعت بعض هذه الطائفة يقول: حدّ الجوع أن يبزق العبد، فإذا لم يقع على بزاقه ذباب فقد خلت معدته من الطعام يريد أنّ بزاقه قد خلا من الدسومة والدهنية وصار صافيًا مثل الماء فلا يسقط عليه الذباب مع نطق حاسته التي ركبت فيه وخفيّ إدراكه لما يقع عليه، فأما أكل العادات والتنقل في الشهوات والأكل حتى يشبع، فهذا عند العلماء مكروه، وأهله عندهم بمنزلة البهائم وأما الأكل على شبع والامتلاء حتى يتخم فهذا فسق عند العلماء وقد قاله لي بعض العارفين.
وروينا أنه قيل لأبي بكر: إنّ ابنك أكل البارحة حتى بشم، فقال: لو مات ما صلّيت عليه، فأما الصوم فليس هو عندهم الجوع المقصود لإسكان النفس وإخماد الطبع لأن الصوم يصير عادة ويرجع الصائم إلى قوة طبعه إذا أفطر، فأما إذا كان يصوم ويفطر على الشهوت ويمتلئ من الأكل فإن صوم هذا لا يزيده إلاّ قوة طبع وظهور نفس، وتفتق عليه الشهوات، ويدخل عليه الفتور عن الطاعات، ويجلب عليه الكسل والسبات، وربما قوي طبعه جملة واحدة فظهرت عليه نفسه بقوة مجملة إلاّ إنه لا يجري في نهاره إلاّ فيما أجريت عادته عليه وجعل حاله فيه من أبواب الدنيا والتنقل في الهوى، وإن كان ظاهر حاله أسباب الآخرة عنده لقصور علمه، فإن شهودها دنيا، فالتقلل وأخذ البلغة من القوت في الأوقات مع الإفطار أصلح لقلب هذا، وأدوم لعمله، وأبلغ في آخرته من مثل هذا الصوم، لأن هذا الذي وصفناه هو صوم أبناء الدنيا المترفين ليس بصوم أهل الآخرة الزاهدين ولكن بالتقلل والطي وترك الشهوات واجتناب الشبهات تنكسر النفس وتذلّ، ويخمد الطبع، وتضعف الصفة عن العادة، وتقوي إرادة الآخرة، ويعمل المريد في سعيها وتخرج حلاوة الدنيا من القلب فيصير العبد مع التجوع والطي وترك النزهات كأنه زاهد.(2/109)
وروينا في حديث أسامة بن زيد وأبي يزيد الطويل اختصرته: إنّ أقرب الناس من اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحفّ بهم ملائكة السماء، نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة اللّه عزّ وجلّ، افترش الناس الفرش وافترشوا الجباه والركب، ضيّع الناس فعل النبيّين وأخلاقهم وحفظوهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط اللّه تعالى على كل بلدة ليس فيها منهم، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا الفلق ولبسوا الخرق، شعثًا غبرًا، يراهم الناس يظنون أنّ بهم داء، يقال: قد خولطوا وقد ذهبت عقولهم، ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أن ذهبت الدنيا عنهم، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول، عقلوا حيث ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لتلك البلدة، لا يعذّب اللّه عزّ وجلّ قومًا هم فيهم، الأرض بهم رحيمة، والجبّار عنهم راض، اتخذهم لنفسك أخداناً عسى أن تنجو بهم، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحلّ مع النبيّين، وتفرح بقدوم روحك الملائكة، ويصلّي عليك الجبّار عزّ وجلّ، وممن اشتهر بالطيّ وكثر النقل عنه بذلك الخمس عشرة يومًا إلى عشرين إلى شهر، جماعة من العلماء يكثر عددهم؛ منهم: ابن عمرو العوفي،وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وإبراهيم التميمي، وحجاج بن قرافصة، وحفص بن العابد المصيصي، والمسلم بن سعد، وزهير البنائي، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد اللّه، وإبراهيم الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه يطوي ستًا، وكان عبد اللّه بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً، وروي أن الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثًا ثلاثًا، وقد رأينا من كان يطوي تسعًا وخمسًا، وكثيرًا ممن يطوي ثلاثًا ثلاثًا.(2/110)
وقد قال بعض العلماء: من طوى أربعين يوماً من الطعام ظهرت له قدرة من الملكوت، وكان يقول: لا يزهد العبد حقيقة الزهد الذي لا مشوبة فيه إلاّ بمشاهدة قدرة من غيب الملكوت، وبعضهم يقول: لا يوقن العبد يقيناً ثابتاً بحكم عليه لاستقامة فيه، ولبسة حال لازمة، وعلم نافذ في الملكوت،إلاّ بمشاهدة قدرة من قدرة الغيب، برأي عين تظهر له بشهادة دائمة، يقوم بها ويضطره؛ فعند هذا يعرف من اللّه تعالى، ومنه المخصوص القيوم به، ويصحّ لعبد مراد بهذا الطريق المنهج أربعين في سنة وأربعة أشهر، على ما نزلنا من تأخير الأوقات وقتًا بعد وقت، ورتبنا من رياضة النفس في الأوقات حتى تندرج الليالي في الأيام، وتدخل الأيام في الليالي، فتكون الأربعون بمنزلة يوم واحد وليلة واحدة، وهذا طريق بعض المقربين، لا يقدر عليه إلاّ مراد به، محمول فيه، مكاشف بشهادة تشغله عن نفسه، وتقطعه عن طبعه وعادته، وتنسيه جوعه، ويكشف له حقيقته ومرجوعه، وقد عرفنا من كان فعل ذلك، وظهرت له آيات من الملكوت، وكشف له عن معاني قدرة من الجبروت، تجلى اللّه له عزّ وجلّ بها ومنها كيف شاء، وقد وقف بعض هذه الطائفة على راهب فذاكره بحاله، وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: فإن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وأن معتقد إعجاز هذا وأنه لا يكون إلاّ النبي، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يومًا ما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام، وتعلم أنّ ما نحن عليه حقّ وأنك على باطل؟ قال: نعم فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلاّ من حيث يراه الراهب إلى أن طوى خمسين يومًا، فقال: أزيدك أيضًا، فطوى إلى تمام الستين فعجب الراهب منه واعتقد فضله وفضل دينه، وقال: ما كنت أظن أنّ أحداً يجاوز فعل المسيح عليه السلام ولكن هذه أمة تشبه الأنبياء في العلم والفضل، فكان سبب إسلامه، وممن كان يطوي أربعين يومًا إبراهيم التميمي وحجاج بن قرافصة، فأما الثلاثين والعشرين فقد حكي عن عدد كثير منهم: سهل بن عبد اللّه وجماعة من البصريين، وأما من يأكل في الشهر أكلتين وثلاثة وأربعة فهم كثير من الشاميين والجزريين، وإن أحبّ المريد أن يقسم فطره قسمين فيأكل رغيفاً عند إفطاره في أول الليل فيسكن بذلك جوعه، ويأكل رغيفًا عند السحر يستعين به على صومه فحسن، وإن أحب عمل في تأخير الإفطار على رياضة، ووقف عند السحر فلم يجاوزه، فيكون أكله سحراً فيحصل له بذلك خمسة أشياء جوع النهار للصائم، وجوع الليل للقائم، وخلوّ القلب لفراغ المعدة، ورقة الفكر واجتماع الهمّ لخلوّ القلب، وسكون النفس للمعلوم فلا ينازعه قبل وقته؛ وهذا أوسط الطرقات وأحبها إليّ وهو طريق السائرين.
وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: ما قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تزلع رجلاه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر.(2/111)
وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر، فإن كان المريد يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ وهو أعدل طرقات الصيام أيضًا، أكل يوم فطره بعد الظهر وليلة صومه عند الفجر، فإن لم يفعل فليأكل يوم فطره نصف أكله بالأمس فكأنه صائم، فإن لم يفعل اضطراب جسمه وداخله الفتور في حاله، ومن لم يكن له معلوم فلا بأس أن يأكل شبعه ثم يتربص حتى ينتهي جوعه؛ فعلامة جوعه،أن لا تختار نفسه الخبز دون غيره من المأكولات، فإن اختارت نفسه الخبز ففيه بقية من الشبع، وعلامة شبعه بعد الأكل أن يأكل الخبر البحت على شهوة، فإذا تاقت نفسه إلى الأدم فقد ابتدأ شبعه، فإن تخيرت الأدام فهو شبعان، وترك المعلوم في الطعام طريق صوفية البغداديين، والوقوف مع المعلوم طريقة البصريين، ولما قدم صوفية أهل البصرة على أبي القاسم الجنيد بعد وفاة سهل رحمه اللّّه تعالى قال لهم:كيف تعملون في الصوم؟ فقالوا: نصوم بالنهار فإذا أمسينا قمنا إلى قفافنا، فقال: آه آه لو كنتم تصومون بلا قفاف كان أتم لحالكم؛ أي لا تسكنون إلى معلوم، فقالوا: لا نقوى على هذا ولعمري أنّ طريق البغداديين بترك المعلوم من المطعوم أعلى؛ وهو طريق المتوكلين من الأقوياء وطريقة البصريين بالمعلوم، والتوقيت أسلم من آفات النفوس وأقطع للتشرف والتطلع؛ وهو طريق المريدين والعاملين.
ذكر رياضة المريدين في المأكول وفضل الجوع وطريقة السلف في التقلّل والأكل
كان أبو ذر يقول في بعض إنكاره: قد غيرتم بنخلكم الشعير ولم يكن منخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين أدمين، واختلف عليكم بألوان الطعام وغداً أحدكم في ثوب، ورجع في آخر، ولم يكونوا هكذا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: قوتي في كل جمعة صاع من شعير واللّه العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه، فإني سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: أحبّكم إلىّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من مات على مثل ما تركته عليه، وقد كان قوت جماعة من الصحابة صاع من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا صاعًا ونصفًا، وكان قوت أهل الصفة مدّ من تمر بين اثنين في كل يوم، والمدّ رطل وثلث، وكان الحسن يقول: المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف، والقبضة من السويق، والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع سرطًا سرطًا وبلعًا بلعًا، لا يطوي بطنه لجاره، ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: إذا وجد الفقير الماء سقط عنك فرضه.(2/112)
وفي الحديث المشهور العام: المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء، هذا على التمثيل في الاتساع والكثرة ؛ أي يأكل أضعاف أكل المؤمن، فكان المؤمن يأكل سبع أكل المنافق، والعرب ترفع في ذكر ضعف الشيء وإضعافه إلى سبعة، وقد فسّر ذلك عالمنا أبومحمد سهل فقال: معنى يأكل في سبعة أمعاء؛ أحدها شره، وطمع، وحرص، ورغبة، وغفلة، وعادة، أي فالمنافق يأكل بهذه المعاني، والمؤمن يأكل بمعنى الفاقة، والزهد، ولهذا كان يقول: لو كانت الدنيا دمًا غبيطًا كان قوت المؤمن منها حلالاً، لأنّ أكل المؤمن عنده ضرورة للقوام، ومن الناس من يضيف هذا الكلام إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو مخطئ في ذلك، إنما هو كلام إمامنا سهل بن عبد اللّه التستري رحمه اللّه، وقد سئل عن قوت المؤمن فقال: قوته اللّه تعالى، قال: سألت عن قوامه، فقال: الذكر فقال: إنما سألت عن غذائه، فقال: غذاؤه العلم، قلت: سألت عن طعمة الجسم، فقال: ما لك والجسم، دع الجسم على من تولاه قديماً يتولاه الآن، ثم قال: الجسد صنعة إذا عابت ردّها إلى صانعها، وسئل أيضًا عن الحلال، فقال: ما لم يعص اللّه في أوله ولم ينس في آخره، وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان يقول: القوت للمؤمنين والقوام للصالحين، والضرورة للصدّيقين، ومن كان ذا معلوم فالمستحبّ له أن لا يزيد على رغيفين في يوم وليلة، وليجعل بينهما وقتاً طويلاً مرة وقصيرًا أخرى على حسب الحاجة وتوقان النفس إلى الغذاء، لاعلى طرد العادة والشهوة، والرغيف ستة وثلاثون لقمة يكون قوام النفس في كل ساعة ثلاث لقمات، فإذا أراد أن يأكل الرغيف على هذا التقسيم فليجرع بعد كل ثلاث لقم جرعة ماء، فذلك اثنا عشر جرعة في تضاعيف ستة وثلاثين لقمة، ففي ذلك قوام الجسم وصلاحه في كل يوم وليلة على هذا الترتيب.
وقد روينا في مجمل هذا أثرًا، كان أبوذر يقول: كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا في كل جمعة، واللّّه العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه؛ فهذا يكون في كل يوم رطل أو نحوه، والأصل في جمل ما ذكرناه من التنزل في القوت ما رويناه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين فأومأ إلى بطنه بأصبعه، فقال: لو كان هذا في غير ها كان خيراً لك؛ يعني لو قدمته لآخرتك وآثرت به إخوانك فكان في غير جوفك لكان ذلك خيراً لك، ويعني قلة الطعم خير من كثرته وتجشاً أبو جحيفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثريد ولحم، قال: كنت أكلته، فقال: اكفف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في الدنيا أطولكم جوعًا يوم القيامة، قال: فواللّه ما ملأت بطني من طعام بعدها إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني اللّه فيما بقي، وقد روينا عن الحسن عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال البسوا الصوف وشمروا وكلوا في إنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء.
وروينا عن عيسى عليه السلام: أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعلّ قلوبكم ترى اللّّه عزّ وجلّ، وقد رواه عبد الرحمن بن يحيى الأسود عن طاوس رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقيل لأبي يزيد البسطامي وهو أعلى هذه الطائفة إشارة بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ قال: ببطن جائع وجسد عارٍ، وفي التوراة مكتوب: أن اللّه تبارك وتعالى ليبغض الحبر السمين، وفي بعض الكتب: ويمقت أهل بيت لحمين، وقد جاءا مسندين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من طريق، وقد روينا عن ابن مسعود أنّ اللّه عزّ وجلّ يبغض القارئ السمين، وفي خبر مرسل: أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، فإذا جعل العبد شبعه بين جوعين كان جوعه أكثر من شبعه وسلم من حديث أبي خحيفة، ومن كانت له جوعة بعد كل شبعة اعتدل جوعه وشبعه، ومن أكل يوم في كل مرتين فقد تابع الشبع وتحقق بخبر أبي جحيفة وشبعه، حينئذ أكثر من جوعه؛ وليس ذلك من السنّة وهو من فعل المترفين وقد كانوا يعدونه سرفًا.(2/113)
وقد روينا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تغدى لم يتعشَّ، وإذا تعشّى لم يتغدَّ، وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي اللّه عنها: إياك والإسراف، فإن أكلتين في يوم من الإسراف، وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلمْ يَقْتُرُوا) الفرقان: 67 فكأنّ أكلتين في يوم إسراف، وأكلة في يومين إقتار وأكلة في يوم قواماً بين ذلك، وأقول على هذا إنّ أكل أربعة أرغفة سرف، وزغيفين قتر، وثلاثة أرغفة قوام حسن؛ وهذا أعدل الأقوات ولا يعجبني أكل أربعة أرغفة في مقام واحد لأني لا آمن به ازديادًا فيصير ذلك مقتاً، وقد يروى في خبر الأكل على الشبع يورث البرص، وقال بعض السلف: إنّ من السرف أن يأكل العبد كلما يشتهيه، وقد كان للصحابة أكلتان وشربتان، فالأكلتان الوجبة والغبوق، فالوجبة من الوقت إلى الوقت، وكقولك الوقعة، ومنه قوله: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها؛ أي إذا وقعت جنوب البدن على الأرض، والغبوق أن يشرب مذقه لبن، أو يأكل كفّ تمر عند النوم، أو بعد عتمة، أو يكون عند الظهيرة، وقد يكون ذلك سحرًا، والشربتان العلل والنهل، فالنهل الشربة الأولى من اللبن بمنزلة الوجبة، والعلل الشربة الثانية بمنزلة الغبوق من نقيع تمر أو زبيب يقوم مقام الأكلتين فهنّ تمام الري، والأولى علالة النفس من العطش فسمي عللاً، وكان من أخلاف السلف ترك الشبع اختيارًا لأنفسهم لخفة الجسم، أو مواساة الفقراء، أو مساواة لهم في الحال لئلا يفضل عليهم في حالهم؛ ولهذا قالت عائشة رضي اللّه عنها: أوّل بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع،إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا.
وروينا في خبر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوع لا من عوز أي مختارًا له مع الإمكان في الأوقات، وقال بعض العلماء: أبغض الأشياء إلى اللّه عزّ وجلّ بطن مليء ولو من حلال.
وقد روينا معناه مسندًا وفي الخبر الإسرائيلي أنّ يحيى عليه السلام ظهر له إبليس فرأى عليه معاليق من ألوان الأصباغ من كل شيء، فقال له: ما هذه المعاليق؟ قال: شهوات بني آدم، قال: فهل لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: هل غير ذلك؟ قال: لا، قال للّه تبارك وتعالى على أن لا أملا بطني من طعام أبداً، قال إبليس: وللّه علي أن لا أنصح مسلماً أبداً، وقد كان من أخلاق التابعين الصبر على الطعم إلى أحد حدّي الجوع؛ الأول منها وهو أربعة وعشرون ساعة، ولم يكن من أخلاقهم الأكل للعادة ولا تخيّر الأطعمة، ولا تعمّد الخبر خاصة دون غيره من المأكولات إذا سدّ الجوعة وقامت به البلغة، وكان أبو سليمان الداراني يقول: إذا عرضت لك حاجة من حوائج الآخرة فاقضها قبل أن تأكل، فما من أحد شبع إلاّ نقص من عقله، أو قال: تغير تقله عماً كان عليه، وكان يقول لأن أترك من عشائي لقمة أحبّ إليّ من قيام ليلة، هذا لإيثاره الجوع والتقلل على العباد مع التكثر.(2/114)
وروينا عن وهب بن منبه وغيره أنّ عابداً دعا بعض إخوانه فقرّب إليه رغيفان فجعل أخوه يقلب بعض الأرغفة ليختار أجودها، فقال له العابد: من أي شيء تصنع؟ أما علمت أنّ هذا الرغيف الذي رغبت عنه ولم تقنع به قد عمل فيه كذا وكذا صانع، وظهرت فيه كذا وكذا صنعة؛ منها السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض، والأرض التي أنبتتت، والرياح، والبهائم، وبنو آدم حتى صار إلىك، ثم أنت بعد هذا تقلبه لا ترضى به؟ وقال الآخر زيادة في الخبر: إنّ الرغيف لا يستدير فيوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعاً وصنعة؛ أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس القمر والأفلاك وملكوت الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز، (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تَحْصُوها) إبراهيم: 34 والخبر المشهور: ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّّا من بطن فدل أنّ ما نقص من ملء البطن فذلك خير، ثم قال: حسب ابن آدم لقيمات يشددن صلبه، ففي قوله: لقيمات معنيان؛ التقلل والتصغير، لأن التاء تدخل للجمع القليل وهو ما دون العشرة من العدد، والمعنى الآخر هو التصغير لأن لقيمة تصغير لقمة، ثم قال: فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس، وفي لفظ آخر: وثلث للذكر، فدل أيضًا أنّ ملء البطن يمنع من الذكر وما منع من الذكر فهو شرّ، قال اللّه سبحانه وتعالى: (وَاللّه خيْرٌ وَأبْقى) طه:73، وقال: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى:17 ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ثلث طعام أن يأكل شبعه المعتاد فيصير ثلث الشبع قوام الجسد باعتياد ثان، كما كان ملء البطن من الشبع هو العادة الأولى، وثلث الشبع هو ثمان أواق؛ فهذا على معنى الخبر الآخر: طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الانين يكفي الأربعة، ففي هذا خمسة أوجه، قال بعض علمائنا البصريين: طعام الواحد شبعاً يكفي الاثنين قوتاً، وطعام الاثنين شبعاً يكفي الأربعة قوتاً، ومنهم من قال: طعام المسلم يكفي مؤمنين، وطعام مسلمين يكفي أربعة من خصوص المؤمنين، ويجوز أيضًا أن يكون طعام الواحد من المنافقين يكفي مسلمين على معنى قوله: المؤمن يأكل في مِعًى واحد والمنافق في سبعة أمعاء، ويصلح أن يكون معناه طعام الواحد من الصناع المتصرفين في المعايش يكفي اثنين ممن هو قاعد لا يتصرف، ويصلح أيضاً طعام الواحد من المفطرين يكفي طعام صائمين من الخصوص، وفي خبر عمر رضي اللّه عنه حين قال لابن مسعود وأبي موسى في قصة المرتد الذي قتلاه قبل أن يستتيباه ويحكما: ألا طينتم عليه بيتًا وألقيتم إليه كل يوم رغيفًا ثلاثة أيام، فلعله أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، اللهم إني لم آمر ولم أعلم ولم أرض إذ بلغني فدل هذا أنّ في كل رغيف كفاية يوم وثلاثة أرغفة عندنا بالحجاز رطل، لأن الرطل المكي عدد ستة أقراص مذ ذاك إلى يومنا، هذا فيكون كل رغيف ثمان أواق؛ فهذا كما قلناه: إنّ ثمانيَ أواق ثلث الشبع لقوله ثلث طعام بعد قوله لقيمات جمع لما دون العشرة، وهذا مواطئ لما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان يأكل سبع لقم، وحدثونا في أخبار الخلفاء أنّ الرشيد جمع أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي، فقال لهم: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه، فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الاهليلج الأسود، وقال الرومي: الدواء الذي لا داء فيه حبّ الرشاد الأبيض، وقال العراقي: الدواء الذي لا داء فيه الماء الحار، فقال السوادي، وكان أعلمهم: إنّ الاهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وإنّ حبّ الرشاد يرق المعدة وهذا داء، وإنّ الماء الحار يرخي المعدة وهذا داء، قالوا: فما عندك؟ قال: الدواء الذي لا داء فيه أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، فقالوا: صدق.(2/115)
وحدثني بعض العلماء قال: ذكرت لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فتعجب منه واستحسنه وقال: ما سمعت كلامًا في قلّة الأكل أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جهدت الأطباء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلل من الأكل فلم يهتدوا إليه فأكثر ما قالوا: لا تقعد على طعامك حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع ويرفع قبل الشبع، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع المفرط ولا يشبع شديداً، وإنما كان مراده هذا الذي ذكره نبيّكم، وقد كان بعض علمائنا يقول: من أكل خبز الحنطة بحتًا بأدب لم يعتلّ إلاّ علّة الموت، قيل له: وما الأدب قال: يأكل بعد الجوع، ويرفع قبل الشبع، والأصل في هذا أنّ العلل داخلة على الأجسام من اختلاف نبات الأرض، لأن المعدة مركبة على طبائع أربع: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وكذلك منابت الأرض على هذه الطبائع فإذا أكثر من اختلاف منابتها أمالت الحرارة والبرودة من النبات غرائز الطبائع من الحرارة والبرودة من المعدة، وأمالت الرطوبة واليبوسة من النبات غرائز الطبائع من الرطوبة واليبوسة، فزاد بعض على بعض وقوي وصف على مثله فكانت الأمراض من مثل ذلك، لأن كل مأكول من نبات الأكل يعمل في وصف من معاني الجسم، وأنّ الحنطة مخالفة لسائر نبات الأرض المعتدلة في الطبائع الأربع كاعتدال الماء في سائر الأشربة، وقد شبّهوا لحم الدراج في خفته وقلة دهنه من سائر اللحوم بطبع الحنطة في سائر الحبوب.
وقال بعض الأطباء: كل من الخبز بحتًا ما شئت، فإن لا يضرّك، وقال غيره: أكل الخبز وحده خير من الأدم المردي، وقال بعضهم: لم يدخل الإنسان إلى معدته أنفع من الرمان، ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان، وقد مثل الأترج من سائر الفاكهة على سائر المعدة في الطبائع الأربع، وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بالأترجة طعمها طيب وريحها طيب؛ فهذه لطيفة من اللطيف، وحكمة من الحكيم تعالى، إذا أراد صحة جسم عبد أوحى إلى المعدة أن يأخذ كل طبع منها ضده من نبات الأرض الذي وقع في المعدة، فيأخذ طبع الحرارة طبع البرودة، ويأخذ طبع الرطوبة طبع اليبوسة من المأكول، فتعتدل الطبائع، فاستوى المزاج فيكون ذلك سببًا لصحة الجسم من علله، فإذا أراد أسقام جسم أمر كل طبيعة أن تأخذ جنسها ومثلها من المأكولات من نبات الأرض مثله، فتضرب المزاجات، ثم يدور ذلك في الجسد بمجاري العروق ومصباته إلى الأعضاء المتفاوتة الأدوات، فتقع كل أداة في عضو ضدها فتثقل بها، ويغشي كل آلة من جارحة ما لا يلائمها من طبعها فيسقم الجسم وتتفاوت العلل، فيكون هذا سبب الأمراض والعوارض، نعوذ باللّه ذلك تقدير العزيز العليم.(2/116)
وقد روينا: أصل بنية الإنسان عن اللّه تعالى في صفة خلق آدم عليه السلام، حدثنا عن البراء قال: حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال: حدثني أبي عن ابن منبه اليماني أنه وجد في التوراة صفة آدم عليه السلام حين خلقه اللّه عزّ وجلّ وابتدعه، فقال: إني خلقت آدم ركّبت جسده من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده تنمي في أجسادهم، وينمون عليها ركّبت جسده من رطب ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من التراب، ورطوبته من الماء وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم جعلت في الروح بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هنّ ملاك الجسم بإذني وقوامه لا يقوم الجسم إلاّ بهن، ولا يقوم منهن واحدة إلاّ بأخرى منهن المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم، ثم أسكت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه فكانت كل واحدة منهن ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته؛ فإن زاد منهن واحدة عليهن قهرتهن ومالت بهن، ودخل عليه السقم من ناحيته بقدر غلبتها حتى تضعف عن طاعتهن، وتعجز عن مقاربتهن، ثم ذكر الحديث بطوله: وقد تغلب الحرارة على بعض المريدين من قبل قوة المزاج وحدّة الشبهات، فيظهر الطبع فيتسع المني على العزب، كما تقوى الحرارة فينبع الدم؛ لأن أصل المني هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب وهناك مسكنه فتنضجه الحرارة فيستحيل أبيض، فإذا امتلأت منه خرزات الصلب وهو الفقار طلب الخروج من مسلكه فقويت الصحة بذلك، فهذا حين هيجان الإنسان إلى النكاح، ولا يصلح لمثل هذا أن يأكل الحرارات من الأطعمة، وليطفئ ذلك بأكل البرودات والأشياء القاطعة، وليجتنب أكل كل حار يابس أو بارد رطب؛ فإنه يهيّج الطبع ويقوي العضو.
وقد روينا عن قتادة في تفسير قوله تعالىك (وَلا تُحَمِّلْنامَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) البقرة: 286، قال الغلمة وقال فياض بن نجيح: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلث عقله.
وقد روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) الفلق:3 قال: قيام الذكر، وقد أسند بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنه قال: الذكر إذا دخل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري ولساني وقلب ومَنِيي وروينا عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهن أجمعين السلام أنهن كنّ يأكلن الخلّ والبرودات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطعن به الشهوة، وروى بعض أشياخ الصوفية قال: اشتدت علي صفتي في بدء إرادتي بما لم أطق فكنت أضج إلى اللّّه تعالى في كل وقت فرأيت شخصًا في النوم فقال لي: ما لك؟ فشكوت إليه، فقال: تقدم إليّ فتقدمت فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤداي وجميع جسدي، قال: فأصبحت وقد انكشف مابي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك بمثله أو أشد فأكثرت الضجيج إلى اللّه عزّ وجلّ فجاءني شخص في المنام قال: تحبّ أن يذهب ما تجد وأضرب عنقك؟ فقلت: نعم، فقال: مدّ رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي، قال: فأصبحت وقد انكشف ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني بمثله من الاغتلام وأشدّ فرأيت شخصًا يخاطبني فيما بين صدري وثوبي: فقال ويحك كم تسأل اللّّه تعالى رفع ما لم يحبّ رفعه؟ قال: فتزوجت فانقطع عني ولم يعاودني، فكان ذلك سبب ذريته وولد له، فإذا كان العبد ناسيًا لجوعه ذاكرًا لربّه عزّ وجلّ فهو يشبه الملائكة، وإذا كان شبعان مهمومًا في طلب الشهوات فهو أشبه بالبهائم.
ويقال إنّ الجوع ملك والشبع مملوك، إنّ الجائع عزيز والشبعان ذليل، وقيل: الجوع عزّ كله، والشبع ذلّ كله، وقال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة.
وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لكل شيء باباً، وباب العبادة الصوم، والخبر المشهور: صوموا تصحوا فصحة القلوب من علل الرؤوس أعلى وأحسن من صحة الأجسام من علل الأسقام.(2/117)
وقد روينا عن عائشة رضي اللّه عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم، قلت: وكيف نديم قرع باب الجنة يا رسول اللّه؟ قال: بالجوع والظمأ، وقد نوّع أبو سعيد الخراز مقامات أهل الجوع في مقاصدهم عن مواجيدهم وهممهم، فحدثني الجهضمي عن أحمد بن شاكر قال: سمعت أبا سعيد يقول: سمعت الثقة من علمائنا يقول عن عبد الواحد بن زيد: إنه كان يقسم باللّه ما صافى أحد إلاّ بالجوع، ولا مشوا على الماء إلاّ بالجوع، ولا طويت لهم الأرض إلاّ بالجوع.
وكان يعد الأخلاق السنية الشريفة المحمودة ويحلف أنهم ما نالوها إلاّ بالجوع، قال أبو سعيد: معنى الجوع اسم معلق على الخلق افترقوا في الدخول فيه والعمل به لعلل كثيرة، فمنهم من يجوع ورعًا إذا لم يصب الشيء الصافي، ومنهم من وجد الشيء الصافي فتركه زهدًا فيه من مخافة طول الحساب والوقوف والسؤال، ومنهم من استلذ العبادة والنشاط بها والخفة فرأى النيل من الطعام والشراب قاطعاً له وشغلاً عن الخدمة والخلوة، ومنهم من قرب من اللّه عزّ وجلّ فلزم قلبه حقيقة الحياء حين علم أنّ اللّه تبارك وتعالى مشاهده، وكان الحياء مقامه لا غير، فتوهم أنّ اللّه تعالى يراه وهو يمضغ بين يديه ويأكل ويشرب فيؤديه ذلك إلى الكنيف فيجوع من هذه العين، وهكذا كان أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، ومنهم من أدركه السهو عن حاجاته فسلا عن نيل مصلحتين حتى يذكر في الغيب أو يذكر.
وقال أبو سعيد الخراز أيضاً: قال جماعة من الحكماء: إنّ اللّه تعالى لا يكلم أحدًا، وفي بطنه شيء من الدنيا؛ فهذا يدل على أمره لموسى عليه السلام، يقول: النيل ليلقاه خالياً من الدنيا، وبنفس ساكنة عن المنازعة إلى شيء من الملك، وروح روحانية قد أحياها الحي لحياته فعند ذلك يصلح هذا الشخص لمخاطبته مثلاً بلا ترجمان.
وحدثني الحسن بن يحيى البستي عن ابن مسروق قال: لقيت سهل بن عبد اللّه، فلما دخلت عليه وبشرني وقبلني وكان في إرادة وتذلل فقلت له: أحبّ أن تصف لي بدايتك وما كنت تقوت به، فقال: في كل سنة ثلاثة دراهم؛ كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم سمنًا، وبدرهم دقيق الرز، وأشوبه مخلصًا ثلاثمائة وستين أكرة آخذ ليلة أكرة أفطر عليها، فقلت: الساعة كيف تعمل؟ فقال: أكلاً بلا حدّ ولا توقيف.
وحدثونا في أخبار الملوك أنّ ملك الهند أهدى إلى المنصور تحفًا منها أنه وجه إليه بفيلسوف طبيب قال: فأنزله المنصور وأحسن إليه، فلما دخل عليه قال الفيلسوف: قد جئتك يا أمير المؤمنين بثلاث خصال يتنافس الملوك فيها لا نصنعها إلاّ لهم قال: وماهي؟ قال: أخضب لحيتك بسواد لا تنصل أبدًا ولا تتغير عن حالها، قال: وما الخصلة الثانية؟ قال: أعالجك بعلاج تتسع به في المأكل فتأكل أي شيء شئت فلا تتخم ولا يؤذيك الطعام، قال: وما الثالثة؟ قال: أقوّي صلبك بقوة تبسط إلى الجماع فتجامع ما شئت لا تملّ من ذلك ولا يضعف بصرك ولا ينقص من قوتك، قال: فأطرق المنصور ثم رفع رأسه إليه فقال: قد كنت أظن أنك أعقل مما أنت، أما السواد فلا حاجة لي به؛ فإن ذلك غرور وزور، والشيب هيبة ووقار، ولم أكن لأغير نورًا جعله اللّه تبارك وتعالى في وجهي بطلمة السواد، وأما ما ذكرت من الأكل فواللّه ما أنا بشره، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة، لأنه يثقل الجسم ويشغل عن النوائب وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء فأرى ما أكره وأسمع ما لا أحب، وأما ماذكرت من النساء فإن النكاح شعبة من الجنون، وما أقبح بخليفة مثلي يجثو بين يدي صبية، ارجع إلى صاحبك مذمومًا مدحورًا فلا حاجة لي بما جئت به.(2/118)
وحدثونا عن بعض هذه الطائفة قال: أتيت قاسمًا الجوعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال لي: أي شيء فيه؟ فقلت: قالوا الزهد قصر الأمل، فقال: وأي شيء سمعت فيه؟ فقلت: قالوا الزهد ترك الادخار، فقال: حسن؛ حتى عددت عليه أقوالاً فسكت، فقلت: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أعلم أنّ البطن دنياً العبد وبمقدار ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبمقدار ما يملكه بطنه تملكه الدنيا، وعلى هذا المعنى قال وهب بن منبه حكيم هذه الأمة: لكل شيء وسط وطرفان، فإذا أمسكت أحد الطرفين مال الآخر، وإن أمسكت الوسط اعتدل الطرفان، فكذلك البطن وسطاً بين الجوارح إن امسكتها اعتدلت الأطراف السمع والبصر واللسان والفرج والرجلان، وكذلك كان شيخنا ابن سالم يقول: إذا أعطيت البطن حظه من الشبع طلبت كل جارحة حظها من اللهو فجمحت بك النفس إلى الهلكة، وإذا منعت البطن حظه قصرت عنك كل جارحة عن حظها فاستقام القلب لذلك.
وكان بشر بن الحارث قد اعتل فسأل عبد الرحمن المتطبب عن شيء يوافقه من المأكول فقال له عبد الرحمن: تسألني؟ فإذا وصفت لك لم تقبل مني، فقا له بشر: صف لي حتى أسمع، فقال: تحتاج تستعمل ثلاثة أشياء، فإن فيهنّ صلاح جسمك، قال: ما هنّ؟ قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك إسفيذاجًا، فقال له بشر: تعلم شيئًا أقل شيء من السكنجبين يقوم مقامه؟ قال: لا، قال: فأنا أعرف، قال: وما هو؟ قال: الهندبا بالخل يقوم مقامه فتعرف شيئاً أقل ثمناً من السفرجل يقوم مقامه قال: لا قال: فأنا أعرف قال: ما هو؟ الخرنوب الشامي؟قال: تعرف شيئاً أقل ثمنًا من الاسفيذاج يقوم مقامه؟ قال: أما هذا فلا، قال: بلى، قال: ما هو؟ قال: ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: فأنت أعلم مني بالطب فلِمَ تسألني؟.
ويستحبّ للعبد إذا كان جائعًا فتاقت نفسه إلى الجماع أن لا يأكل لئلا يجمع لنفسه بين حظين فيطلبهما، فربما طلبت الجماع للتعفف وهي تريد الأكل لتنبسط به إلى الجماع، وفي الجمع بين شهوتين تقوية النفس واجراء عادة لها، ويستحبّ للعبد إذا أكل أن لا ينام على أكله فيجمع بين غفلتين، فيعتاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصلِ أو يجلس فيذكر اللّه تعالى، فإنه أقرب إلى الشكر، وفي الحديث: أذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر لا تناموا فتقسو قلوبكم، فأقل ذلك أن يصلّي أربع ركعات، ويسبح مائة تسبيحة، ويقرأ أجزاء من القرآن عقيب كل أكلة، وقد كان سفيان الثوري إذا شبع في ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يتمثل فيقول: أشبع الزنجي وكده، ومرة يقول: أشبع الحمار وكده، وكان إذا جاع كأنه يتراخى في ذلك، وينبغي للمتقشف أن يأكل اللحم والدسم في الشهر مرتين، فإن أكله أربعًا فلا بأس قد كان السلف يفعلون ذلك، وفي خبر عن عليّ عليه السلام: من ترك أكل اللحم أربعين يومًا ساء خلقه، ومن داوم عليه أربعين يومًا قسا قلبه، وقد نهى عن مداومة اللحم، وقيل:إنّ له ضراوة كضراوة الخمرة، وقد كان أبو محمد سهل رحمه اللّه يقول للمتقللين من أهل عبادان: احفظوا عقولكم وتعاهدوها بالأدهان والدسم، فإنه ما كان وليّ للّّه عزّ وجلّ ناقص العقل، وإن أحبه المريد أن يأكل شيئاً من الطيّبات والفاكهة فليجعل ذلك بدلاً من الخبز ويقطع به جوعه؛ فيكون ذلك له قوتًا عند الحاجة إلى طعم ولا يكون تفكّهًا لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة، فإنه أسرع لِمَلَلهِ لأنه إذا شبع من الطِيبات غير الخبز شبعة أو شبعتين كان أقرب إلى تركه وانقطاع شهوته، ونظر أبو محمد سهل إلى ابن سالم شيخنا رحمه اللّه وفي يده خبز وتمر فقال له: ابتدئ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلاً أخذت من الخبز بعده حاجتك، قال: إن التمر مبارك، والخبز شؤم؛ يعني أنه كان سبب إخراج آدم من الجنة، وأما بركة التمر فإن اللّه تعالى ضرب النخلة مثلاً لكلمة التوحيد في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتُ وَفَرْعُهَا في السًّماء) إبراهيم: 24.(2/119)
قال ابن عباس: كلمة التوحيد لاشيء أحلى منها كشجرة طيبة وهي النخلة، وليس في الثمار أحلى من الرطب، ولذلك شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن في حلاوته ولينه وقوته وثبات أصله بالنخلة، فقال: لا يسقط ورقها مثلها كمثل المؤمن، يقول سهل رحمه اللّه: إذا استغنيت عن الخبز بغيره من الطعم كان خيرًا لك؛ يريد أن أتوقف نفسك مع عادة فتنازعك إليه ا، وقد ذكرت هذه الحكاية لأبي بكر بن الجلاء فأعجبته، وقال: هذا كلام الحكماء، وكان هذا يلائم حاله، وإن خشي المريد أن يكون شيء من المآكل والطيبات له عادة ولم يأمن تألّه قلبه وتوقان نفسه إليه ومنازعتها إياه، وكان العبد مبتدئًا غرّاً لا يعرف خبء النفس ودواهيها ولايفطن لمكرها وآفاتها؛ فإن ترك ذلك أفضل.
فليتركه حينئذ لأجل اللّه خوفًا أن يشتهيه فيحرص على مثله، ويدخل مداخل السوء من أجله، ويبيع دينه فيه أو خشية تمكّن العادة فيه، فتعذر عليه التوبة لدخوله في الشبهات عند اعتياد الشهوات لأنّ العادة جند اللّه تغلب العقل، والابتلاء سلطان من سلطان اللّه تعالى يقهر العلم، لأجله تعذرت الاستقامة، ولولا العداوة لكان الناس تائبين، ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين، فليترك حينئذ أكل الطيّبات إذا صارت شهوات، وخشي منها مطالبة العادات، ودعاوي النفس بالآفات، ناويًا بذلك ما ذكرناه لصلاح قلبه، وتسكين نفسه، ليملك بذلك نفسه قبل أن تملكه، ويفطم عادتها قبل أن تهلكه، ويغلب بالترك طبعه وهواه قبل أن يكونا بالشهوة يغلبانه، كما قال بعض الحكماء: إن لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون أروح لنفسي، وكما قال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي، فيصير الترك حينئذ والمنع للنفس غذاء وعادة، كما كان الأخذ والأكل عادة، ففي هذا عون له على صلاح قلبه ودوام حاله، وكان إبراهيم بن أدهم يسأل أصحابه عن الشيء من المأكول فيقال: إنه غال، فيقول له: أرخصو ه بتركه، وقال بعض الأدباء في معناه:
وإذا غلا شيء على تركه ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا(2/120)
وهو حينئذ تارك للشهوات لأجل اللّه تعالى وعامل من عمال اللّه؛ وقد كان هذا طريق طائفة من السلف إلى اللّه تعالى، ثم انقرضوا فانمحى طريقهم وخلف بعدهم خلف من العلماء ابتغوا الشهوات؛ ولم يقاموا في هذه المقامات ولاسلك بهم هذه الطرقات، فلم يتكلموا في ترك الشهوات؛ فلذلك درس هذا الطريق وعفا أثره لفقد سالكه وعدم كاشفه، فمن عمل به وسلكه فقد أظهره، ومن أظهر فقد أحيا أهله، حدثني بعض علمائنا عن بعض المريدين من أهل البصرة قال: نازعتني نفسي خبز أرزة وسمكاً فمنعتها فقويت مطالبتها فاشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، قال: فمات، فرأيته في النوم فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فقال: لا أحسن، أصف إليك ما يلقاني به ربي من النعيم والكرامة؟ وكان أول شيء استقبلني به خبز أرزة وسمكاً، فقال: كل شهوتك اليوم هنيئاً بغير حساب، وقد قال اللّه تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبَوُا هَنِيئًا بِمَا أَسْلُفْتُمْ في الأيَّامِ الخَالِيَة) الحاقة:24، فكأنهم أسلفوا ترك الشهوات لما تركوها، وقدموا الجوع والعطش في خلو أيامهم فاستقبلهم بالأكل والشرب، ويقال: لكل عمل جزاء في الآخرة من جنسه وبمعناه، وقال سري القطي: منذ ثلاثين سنة أشتهي أن أغمس جزرة في دبس وأنا أمنع نفسي، وكان أبو سليمان الداراني يقول: ترك شهوة من شهوات النفس أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة ذلك إيثاراً للتقلل وخفة للعدة من الطعام أو خشية الاعتياد للشبع، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول: أنا أعرف إنساناً تقول له نفسه: أنا أصبر لك على طيّ عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تصبري على طيّ عشرة أيام، ولكن اتركي هذه الشهوة التي تشتهيها، وقال لي رجل: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأخذ بجلد ذراعه وجعل يقول: جعت هذا الجوع كله؟ ولم يقل لي أترك الجوع، ولو قال لي: أتركه لعله كان يتركه، وقد كان رحمه اللّه قد ترك أكل الشهوات وأكل الخبز أيضًا ثلاثين سنة، وكان الجنيد رحمه اللّه يقول: يقوم أحدهم في صلاته فيجعل بينه وبين اللّه تعالى زنبيل طعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة، أو يسمع فهم الخطاب، ومثل البطن مثل الزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار، إنما حسن صوته لخفته ورقته، ولأنه أجوف غير ممتلئ، ولو كان ثقيلاً جالساً ممتلئاً لم يكن له صوت، وكذلك الجوف إذا خلا من الامتلاء كان أرقّ للقلب وأعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام، وروي عنه أنّ عتبة الغلام قل لعبد الواحد بن زيد: إنّ فلانًا يصف من قلبه منزلة لا أعرفها، قال: إن فلانًا لا يأكل التمر وأنت تأكله، قال: فأنا إنْ تركت التمر وأكله عرفت تلك المنزلة، قال: نعم وغيرها، فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه أبكى اللّه عنك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه عرفت صدق عزمه في الترك، هو إذا ترك شيئًا لم يعاود فيه أبدًا، وكان بعض أشياخنا ترك أكل الخبز الحار لأن كان يحبه ويشتهيه سنين كثيرة فعوتب في ذلك فقال: لو طمعت نفس في أكل الخبز عشرين سنة ما أطعمتها الساعة، وكان ربما يبكي من شدة شهوة نفسه وشدة عزم مجاهدته لاستشعار نفسه صدقه وحسن وفائه، فتيأس من شهوتها آخر الدهر، فكذلك كان يقع عليه البكاء للإياس من المشتهي، واعلم أنّ الشهوت لا حّد لها، ومثل القوة مثل العلم ذو حدود، فكم من شهوة دنية منعت رتبة علية، فإن لم تقطع الشهوات وتحسمها أحبّ ما كانت إليك أعطتك أرغب ما تكون فيها، فلا تقعد عن التوبة تنتظر آخرها، فإن النفس لا آخر لشهواتها إلى أن ترى الملائكة فعند ذلك تمحي صفاتها فتغيب الشهوات لأنها من أوصافها، فإن لم تترك الشهوات المعتادة فلا تعمل في مثلها من الزيادة بل يكون عملك في النقصان؛ فهو أقرب إلى أخلاق الإيمان، وقد كان بعضهم يقول لأصحابه:لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها، فإن طلبتموها فلا تحبوها، وكانوا يقولون ما زاد على الخبز فهو شهوة حتى الملح، وقال بعضهم: الخبز من أكبر الشهوات واعلم أنّ مازاد على الخبز فهو فاكهة يتفكّه به.(2/121)
وقد روينا عن ابن عمر أنه قال ما تأتينا من العراق فاكهة أحبّ إلينا من الخبز، فإن كان لابد من تفكّه بفاكهة مع الخبز الذي هو قوت النفس فكما أطعم اللّه عز وجلّ الفقراء في الكفّارة وهو التوسط في الأدام الذي أمر به وأحبه لفقرائه مثل الخبز واللبن، لأن أعلى الأدام اللحم والحلو، وأدناه الملح والخلّ،فلم يأمر سبحانه وتعالى بأعلاه لأن يشقّ على الأغنياء، ولم يأمر بالأدنى لأنه يشقّ على الفقراء، وتوسط الأمر بينهما، فقال عزّ من قائل: (مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْليكُمْ) المائدة:89 فهو ما ذكرناه، وعلى ذلك فإن ابتلى العبد كل الشهوات وحبّها فليظهر ذلك ولايخفيه وليشترها بنفسه ولا يسترها؛ فإن هذا من صدق الحال؛ وهو طريق السلف إن فاته المجاهدة في الأعمال فلا يفوتّنه الصدق في الحال، وإن لم يكن صديقًا فليصدق في كذبه؛ فإنّ الصدق في الكذب أحد الصدقين، وإن خفاء الكذب والنقص وإظهار ضده من الإخلاص والتمام هو كذبان لأنه نقص، وأظهر حال الكاملين واعتل وأبدى شعار المعصومين فكذب من طريقين، واستحق المقت من وجهين؛ فلذلك غضب اللّه عزّ وجلّ على المنافقين ومقتهم مقتين ثم لم يرض منهم إلاّ بتوبتين واشترط علهيم شرطين فقال تعالى: (إِنَّ المُناَفِقينَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ منَ النَّارِ) النساء:145 يعني أسفل من الكفّار؛ لأنّ الكافر أخلص في كفره فسوي بين باطنه وظاهره، والمنافق كفر وأشرك في إيمانه فخالف بين باطنه وظاهره واستخف بنظر اللّه عزّ وجلّ إلى قلبه وعظم عين المخلوق، فزاد اللّّه عزّ وجلّ في هوانه وشدد في توبه بما وكد من شرطه فقال تعالى: (إلاَّ الَّذين تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا باللّه وَأخْلصُوا دَيَنهُمْ للّّه) النساء:146 الآية، وهذا الضرب من الرياء مما لا يمتحن به عالم باللّه عزّ وجلّ ولا عاقل عن اللّه عزّ وجلّ وللّه الحمد، وإن ابتلى بأكل الشهوات وببعض المعاصي، كما تجري الذنوب على العارفين، ولايبتلون برياء المخلوقين وليس للسلف في هذا الباب إلاّ طريقان؛ طريق هو المجاهدة للنفس وترك الشهوات، فمنهم من كان يخفيه لأنه أسلم له، ومنهم من كان يظهره لأنه مؤمن قوي نيته في ذلك القدوة والتأسي، وطريق آخر كان فيه طائفة من العلماء والعاملين وكانوا يأكلون الطيّبات ويتسعون في المآكل إذا وجدوها، إلاّ إنهم كانوا يظهرون ذلك ويكسفون نفوسهم به، فإن فاتك الطريق الأعلى فاسلك الطريق الأوسط الأسلم، فإما أن يكون عبدًا يأكل الشهوات في السرّ ويخفيها في العلانية، أو يظهر شعار ضدها من الترك لها والزهد فيها؛ فليس هذا طريق الموقنين ولامسلك الصادقين هذا وقد عرج طريق المسالك وسلك سبيل المهالك فإياك أن تترك محجّة الطريق فتقع في حيرة المضيق.(2/122)
حدثنا أنّ عابدًا من بني إسرائيل انتهى في سياحته إلى أرض لقوم رأى في وسطها طريقًا مستطرقًا يسلك فيه السابلة فقال: هذه أرض لقوم كيف أسلكها؟ وشقّ عليه أن يجاوز الأرض فيبعد عليه طريقه فتفكر وقال: هذا طريق مسلوك لا بأس عليّ أن أسلكه فسلكه، فلما خرج من تلك الأرض عوقب على ذلك ونسي ذنبه فجعل يستكشف فقيل له: لأنك سلكت إلى غير طريق ودخلت في حرث قوم بغير إذنهم، فقال: يارب معذرة إلىك إني رأيته قد جعل طريقًا فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه، وكلما اتخذ الظالمون طريقًا جعلته إليّ سبيلاً، فمن سلك طريق ظالم بغرور لم يكن في ذلك معذورًا وأوقعه في الحيرة والغرور فهلك وأهلك من اقتدى به؛ وهذا طريق متصنّع جاهل متطرف بذلك إلى الدنيا، متشوف عند الناس بترك الشهوات، مظلم التوحيد في الوجد، ضعيف اليقين في غيبة عن العيون، وقد كان من شأن الصادقين من السلف اشتراء الشهوات بأنفسهم وتعليقها في منازلهم يظهرون للناس شعار الراغبين وهم فيها عند اللّه عزّ وجلّ من الزاهدين، لا يأكلونها، إنمايريدون بذلك إسقاط منزلتهم من قلوب الجاهلين، وإخفاء حالهم عن الناظرين وليصرفوا عنهم قلوب الغافلين، يقطعون بذلك المقامات ويشترون به المعاملات، لأن هذا مقام من زهد في الأشياء وأخفى زهده، فمن نهاية إخفاء الزهد إظهار ضده واستشعار المزهود فيه، ثم لا يتناول ولايتمتع به فيكون هذا أشدّ على النفس من المجاهدة، لأنه حمل عليها ثقلين: ثقل المنع من الحظ وثقل سقوط المنزلة عنه، فعدمت النفس لذة المتعة به، وفقدت أسباب المنزلة بتركه فجرعها كأس الصبر مرتين؛ فهذا حال الصادقين في تلك الشهوات، وطريق الأقوياء من أهل الإرادات، وهو يشبه فعل الزاهدين في باب العطاء، إنّ منهم من كان يأخذ العطاء علانية ثم يخرجه سرّاً فيكون له في الأخذ سقوط الجاه بظهور الرغبة، ويكون له في الإخراج معاملة السر بحقيقة الزهد فلا هو متّع نفسه بالجاه مع الرّد ولا هو أنالها حظها بتناوله مع الأخذ، فهذا أشد شيء على النفس، وهو طريق علماء الزهد، ومن سلكه أخرجه إلى مقام الصدّيقين، وهذان طريقان قد درسا وقد عفا أثرهما في وقتنا هذا لا يسلكه إلاّ من عرفه الفرد بعد الفرد والسابلة من القرّاء على طرقات التصنع والتزين.
وروي عن جعفر الصادق رضوان اللّه عليه: إذا قدمت إليّ شهوة نظرت إلى نفسي، فإن أظهرت شهوتها لها أطعمتها منها، وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوف عنه عاقتبها بالترك ولم أنلها منها شيئًا؛ تفسير ذلك أنّ إظهار النفس الشهوة أن لا تبالي أن تعرف بأكل الشهوات، وأن تحبّ أن يظهر على ذلك من يعرف من أهل الديانات، وإخفاء النفس الشهوة أن تشتهي وتحبّ أن لا يعلم أنها تشتهي، وتكره أن تعرف بأنها ممن تشتهى، فقال: هذه هي المعاقبة بترك أكلها لأنه إذا ترك أكل شهوة لأجل الشهوات ثم اشتهى أن لا يعرف بتركها؛ فهذا شهوة الشهوات، فقد وقع في أعظم مما كره، وتمتعه بشهوة النظر إليه ا والمدح له أكثر من تمتعه بترك شهوته المأكولة؛ وهذا من الشهوة الخفية، التي جاء في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء، والشهوة الخفية، والرياء بالمعاملات، وخفيّ الشهوة أنْ تشتهي أن تعرف وتوصف بترك الشهوات.(2/123)
وسئل بعض العلماء عن بعض الزّاد فسكت عنه فقال: تعلم به بأساً؟ فقال: ما أعلم به بأساً إلاّ في شيء واحد مكروه يأكل في الخلوة ما لا يأكله في الجماعة، فأعلّه بذلك، ولعمري أنه موضع علّة؛ لأن الصادقين قد كانوا يأكلون في الجماعة ما لا يأكلون في الخلوة، فهذا ضد حالهم، فإن اتفق للعبد لونان أحدهما ألطف من الآخر ابتدأ فأكل الألطف منهما، فلعل كفايته تتّم به فيستريح من الآخرة، فإنما قدم أهل الدنيا غليظ الألوان على رقيقه ليتسعوا في الأكل وتنفتق شهواتهم فيكون لكل لون لطيف مكان آخر، وشبّه بعضهم المعدة بمنزلة جراب ملأته جوزاً حتى لم يبقَ فيه فضل للجوز، فجئت بسمسم فصببته عليه، فأخذ لنفسه موضعاً في خلال الجوز، فوسّع الجراب السمسم للطفه مع الجوز؛ فكذلك المعدة إذا ألقيت فيها طعامًا رقيقاً لطيفًا بعد طعام غليظ خشن أخذته الشهوات في أماكنها فتمكن فيها بعد الشبع مما قبله والعرب تعيب ذلك ولا تفعله إذ من سنتها أن تبتدئ باللحم قبل الثريد، قال رجل لبعض الأنباط: أنت من الذي يبتدئون بالثريد قبل الشواء، يذم أهل العراق بذلك هذا إذا استوى اللونان في الحكم أو لم يكن للمريد في ترك الأفضل منهما نية، فأما إن كان قد ترك الشهوات ثم قدمت إليه وكان على عقد نيته وقوة عزمه فلا بأس بأكل الأدون، وقد كان بعض الصادقين ممن ترك أكل الشهوات في الانفراد إذا قدمت إليه نال منها شيئاً يسيراً ليستر عن نفسه أبصار الناظرين ويصرف عنه قلوب المادحين، وقال أبو سليمان: إذا قدمت إلىك شهوة وقد كنت تاركًا لها فَأصِبْ منها يسيرًا ولاتعط نفسك منتهاها فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة، وتكون قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم(2/124)
قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم يعتل بالنظر فيتداوى بالتناول للبعض، فأما إن كان قد اعتقد ترك شهوة لمعنى دخل علىه منها يخرجه من الورع، أو يعزم على المجاهدة، ثم أتى بها؛ فهذا اختبار من اللّه سبحانه وتعالى لينظر كيف يعمل في الوفاء بالعقد، فأحبّ إليّ أن لا ينال منها شيئاً وليتعلّل ويدافع عن نفسه بالمعاريض والمعاني حتى لا يفطن به أنه قد تركها للمجاهدة، فيكون قد فعل الوصفين معًا؛ الوفاء لعقد في تركها، والتورية بلطيف الحيلة من الفطنة له في قصده؛ وهذا طريق المريدين وصفات المتّقين؛ وهو الطريق الأدنى الذي ذكراه أولاً، فإن ظهر قرب اللّه تعالى منه وغلب نظره إليه أغناه عن الحيلة والاحتىال لقربه وشهادته ذا الجلال والإكرام؛ وهو الطريق الأعلى الذي ذكرناه آخراً، وهذا للموقنين، فأما إنْ كان الغليظ الخشن هو الأحل في الحكم وأبعد من الشبهة فهو الأطيب والأفضل في العلم فلا يأكل إلاّ منه، يقال: أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنبه، فلعل اللّه تعالى أن يشر له ترك لقمة شبهة لذيذة في الطعم إن كانت كريهة في الحكم، يتركها لأجله فيغفر له ما سلف من ذنبه، إنه غفور شكور، قيل: غفور لذنوب كثيرة، شكور لعمل يسير، كيف وقد صف المؤمنين أولي الهدى والتوحيد وذوي الرحمة والرشد بحسن التفقد في الطعمة فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِِّّهمْ وَزِدْنَاهمْ هُدًى) الكهف:13،(وَرَبطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقَالُوا) الكهف: 14 يعني بشهادتهم بالتوحيد، فكان من قيامهم حسن تفقدهم في المأكول، ومراقبتهم للواحد في قولهم: (فَابْعَثَوا أَحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلى المدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكِى طَعَامًا فَْليأْتِكُمْ بِرِزقٍ منهُ) الكهف:19 يعني أيها أحلّ وأفضل فأمروا رسولهم يتحرى الحلال إذ قاموا لذي الجلال والإكرام لما أمرهم بأكله إذ قدمه على الأعمال الصالحة في قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون:51، ورعًا منهم وتقوى، وكذلك فافعل لتتبع سبيل المؤمنين فتكون معهم ولا تتبع سبيل المجرمين الظالمين فتحشر معهم.(2/125)
هذه رياضة المريدين وطريق المجاهدين، فأما العارفون فليس لهم في الأكل تجربة وتقسيم إذا أطعموا تقلّلوا وشكروا، فإن رأوا له مكانًا آثروا، وإن جوعوا عملوا وصبروا، قالت عائشة: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء فإن قالوا نعم أكل، وإن قالوا لا قال إني صائم، وكان يقدم إليه الشيء فيقول: أما إني كنت أردت الصوم ثم يأكل، وفي الخبر: أنه خرج صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني صائم ثم دخل فقالت عائشة: قد أهدي لنا حيس فقال: قد كنت أردت الصوم ولكن قرّبيه وكانت بينه وبين اللّه علامة في فطره وصومه، كان الوجود علامة فطرة يكون مرادًا به وكان العدم علامة صومه يكون معه مرادًا، وعلى المعنى تصريف قلوب العارفين ومن هذه المشكاة تضيء بصائر الشاهدين ولا يوكلون إلى حال، ولا يوقفون مع مقام، ولا تصحّ هذه الثلاث إلاّ بثلاث خلال: أحدها عدم الهوى وتوقان النفس بالعادة، والثانية: أن يكون له في أكله نية كما له في صومه نية فيكون أكله للّه فيستوي أكله وصومه إذ كان العامل فيهما واحدًا، والثالثة أن يحفظ الجوارح الست بحسن الرعاية فيكون صائماً بما هو فرض علىه وأفضل له؛ وهنّ البصر، والسمع، واللسان، والقلب، واليد، والرجل، ويكون مفطراً بالبطن والفرج فيكون ما حفظ أكثر وأبلغ وأحب إلى اللّه عزّ وجلّ، ويكون أفضل ممن صام بجارحتىن؛ فإن لم يكن من أصبح صائمًا ثم أفطر بهذه الأوصاف الثلاث دخلت علىه الشهوة الخفيّة التي فسّرها رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم، فقد روينا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: أخاف علىكم الرياء والشهوة الخفيّة فقال: أن يصبح أحدكم صائمًا ثم يعرض له الطعام يشتهيه فيفطر لأجله فالأفضل لمن عقد للّه صومًا أن يتمه، فإن فسخه لغير اللّه تعالى عوقب على ذلك من عقوبات القلوب أو عقوبات الجوارح في طرقات الآخرة؛ فتلك عقوبة ترك فضائل الأعمال، وفي خبر: نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح، هكذا رويناه، وقيل لبشر بن الحارث: إنّ فلاناً الغني يصوم الدهر، فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، إنما حاله أن يطعم الجياع، ويكسو العراة، ويواسي المحتاجين؛ فهذا أفضل له من صيامه الدهر،ثم قال بشر: عبادة الغني كروضة على مزبلة، وعبادة الفقير كعقد الجوهر في جيد الحسناء، ودخل سفيان الثوري يوماً على أبي إسحاق الفزاري فقدم إليه قصعة فيها خبيص، فقل: لولا أني صائم لأكلت معك، فقال الفزاري: دخل عليّ أخوك إبراهيم بن أدهم فقعد في موضعك هذا فقدمت إليه خبيصاً في هذه القصعة فأكل، فلما أراد الانصراف قال: إني كنت صائمًا إلاّ إني أحببت أن آكل معك أسرّك بذلك، قال: فوضع الثور ي يده وجعل يأكل وتأدب بإبراهيم، وحدثونا عن سهل رحمه اللّه أنه سئل كيف كان في بدايته فأخبر بضروب من الرياضيات منها أنه كان يقتات ورق النبق مدة، ومنها أنه أكل دقاق التبن ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات ثلاثة دراهم في ثلاث سنين، قيل: وما هو؟ قال: كنت أشتري في كل سنة بدانقين تمراً وأربعة دوانق كسباً، ثم أعجنها عجنة ثم أجزئها ثلاثمائة وستين كبة أفطر في كل ليلة على كبة قال فقلت له فكيف أنت في وقتك هذا قال آكل بلا حدّ ولا توقيت.(2/126)
وقد كان معروف الكرخي يهدي إليه طيّبات الطعام فيأكل فيقال له: إنّ أخاك بشرًا لا يأكل من هذا، فيقول: أخي بشر قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، ما لي والاعتراض والتخّير؟ وقال بعض إخوان بشر الحافي: دخلت عليه وهو يأكل فقال لي: كل، فقلت: إني صائم، فناولني كسرة وقال لي: كل، فأكلتها، فقال: سلمت من آفة الصوم وأدخلت عليّ السرور، وكان بشر رحمه اللّه قد أصبح ذات يوم صائماً فزاره فتح الموصلي، قال حسين المغازلي: فدفع إليّ كفّاً من دراهم فقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام وأطيب ما تجد من الحلاوة وأطيب ما تجد من الطيب، قال: وما قال لي مثل ذلك قط، ففعلت فوضعت الطعام بين أيديهم فجعل يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، وكان بعض هذه الطائفة يقول: إذ أعطاك مولاك بقطعة فقد شهاك أن تشتري ما تشاء وتشتهي، وإن أعطاك مأكولاً بعينه فكل ذاك ولا تتخير سواه، ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض أخوانه دراهم فقال: خذ لنا بهذه زبدًا وعسلاً وخبزاً حورانياً، فقلت: يا أبا إسحاق بهذا كله؟ فقال: ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال، وأصلح ذات يوم طعامًا فأكثر ودعا نفرًا يسيرًا منهم الثوري والأوزاعي فقال له: أما تخاف أن يكون هذا إسرافًا؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الأثاث واللباس، وهكذا حكي عن سيرة السلف، قال: كانوا في الرجال مخاصيب وكان في الزي والثياب تقصير، وفي الخبر أنّ رجلاً صنع طعامًا فدعا إليه بعض أخوانه فقال: إني صائم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: صنع لك أخوك طعامًا فلم تأكل ألا أفطرت يومًا مكانه.
وحدثونا عن بعض العلماء أنه كان قاضيًا بصنعاء فدخل على أمير صنعاء فحضر وقت غدائه فعرض عليه الأكل فقال: إني صائم، فلما أخذ الأمير في الأكل وهو يحدثه إذ نظر القاضي فإذا قد جاؤوا بجمل مشوي، فجعل القاضي يزحف ويتقدم إلى المائدة، ثم مدّ يده يأكل، فقال له الأمير: ألم تقل إني صائم، فقال: أيها الأمير أنا على قضاء يوم أصومه أقدر مني على قضاء مثل هذا الجمل، وكان أبو سليمان الداراني يقول: لا تضرّ الشهوات من لم يتكلفها إنما تضرّ من حرص عليها، وكان يدعو أصحابه فيقدم إليه م الطيبات فيقولون له تنهانا عنها وتقدمها إلىنا؟ فال: لأني أعلم أنكم تشتهونها فتأكلونها عندي خيرًا، ولو جاءني من يزهد ما زدته على الملح شيئاً، وكان يقول: أكل الطيبات يورث الرضا عن اللّه تعالى، وقال بعض الخلفاء: شرب الماء بثلج يخلص الشكر للّه تعالى وأوحى اللّه سبحانه إلى بعض أوليائه: أدرك لي لطف الفطنة وخفيّ اللطف فإني أحبّ ذلك، قال: ياربّ وما ألطف الفطنة؟ قال: إذا وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني حتى أدفعها، قال: وما خفيّ اللطف؟ قال: إذا أتاك فولة مسوسة فأعلم إني ذكرتك بها فاشكرني عليها وأوحي إلى بعض الأنبياء: لا تنظر إلى قلّة الهدية، وانظر إلى عظمة مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها؛ فإذا أصابك فقر وضرّ فلا تشكني إلى خلقي كما إذا صعدت مساوئك لم أشكك إلى ملائكتي.
الفصل الأربعون
كتاب الأطعمة
وذكر ما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهة والاستحباب:(2/127)
قال اللّه الجليل جلّ جلاله: (يَا أَيُهَا الذَّي آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقنْاكُمْ واشْكُرُوا اللّه) البقرة:172، فقدم الأمر بالأكل على الأمر بالشكر، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لا تَأكُلُوا أمْوَاَلكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ) النساء: 29، فقدم النهي عن الأكل للحرام على القتل للنفس تفضيلاً للأكل الحلال وتعظيمًا للأكل بالباطل، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنّ الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه أو إلى في امرأته وروي عنه صلى الله عليه وسلم ما أطعم المسلم نفسه وأهل بيته فهو صدقة له، وسئل صلى الله عليه وسلم: الإيمان؟ فقال: إطعام الطعام وبذل السلام، وقال عليه السلام في الكفّارات والدرجات: إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وسئل عن الحجّ المبرور فقال: إطعام الطعام ولين الكلام، وكان ابن عمر يقول: من كرم الرجل طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه، وروينا عن عليّ عليه السلام لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة.
ورينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا وضع الطعام وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء قبل الصلاة، قال: فكان ابن عمر ربما سمع الإقامة وقراءة الإمام فلا يقوم من عشائه، وعن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم: أفضل الطعام ما كثرت عليه الأيدي، وقال عليه السلام: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام، وقال صلى الله عليه وسلم: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويصحّ البصر يعني به غسل اليد، وقال أحمد بن حنبل: الأكل من الطيب قدمه اللّه عزّ وجلّ على العمل، فقال عزّ وجلّ: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، وكان سهل يقول: من لم يحسن أدب الأكل لم يحسن أدب العمل، قال: والذي يتصنّع في الأكل هو الذي يتصنع في العمل، وقل مرة الذي يؤدي في الأكل هو الذي يؤدي في الصلاة، وكان بعض السلف يقول: إني لأحبّ أن يكون لي نية في كل شيء حتى في الأكل والنوم، وقد كان السلف الصالح يكون لأحدهم في الأكل نية صالحة كما يكون له في الجوع نية صالحة، والذي يأكل بغير نية الآخرة للعادة والشهوة والمتعة قد يجوع لغيره الآخرة للعادة والشهوة أيضًا والتزين للخلق، وهذا من دقيق آفات النفوس، فحسن من يأكل بنية الآخرة ولأجل اللّه سبحانه وتعالى كحسن من جاع للّه تعالى وبنية الآخرة، وإلا كان من أبواب الدنيا، فالطعام والأكل يشتمل على مائة وسبعين خصلة ما بين فرض، وسنّة، وأدب، وفضيلة، واستحباب، وكراهة، ومروءة، وفتوة من طريق السلف وصنائع العرب؛ أول ذلك أن يكون المأكول حلالاً، وعلامة الحلال ثلاث: تكون عينه معروفة لم يخالطها عين ذمها العلم من ظلم وخيانة، ويكون سببه مباحًا لم تحتوه بسبب محظور في الشرع لأجل هوى أو مداهنة في دين ودنيا، ويكون قد وافق فيه حكم السنّة لا يكون على وصف مكروه، ثم ينوي بالأكل التقوى على البرّ والتقوى والاستعانة على خدمة المولى، ويعرف النعمة فيها أنها من المنعم وحده لا شريك له فيها، ويعتقد الشكر له عليها، ويؤثر التقلل على الاتساع، والقناعة على الحرص، والأدب فيه على الشره، ثم غسل اليد في أوله للاستحباب، وفي آخره للنظافة والتسمية في أوله، والحمد في آخره، والأكل باليمين، ويبتدئ بالملح ويختم به وأن لا يذم مأكولاً ولا يعيبه إن أعجبه أكل وإلا تركه والقناعة بالمأكول من القسم والرضا بالموجود من الرزق وأن تكثر الأيدي على الطعام.(2/128)
وفي الخبر: اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه وتصغير اللقمة وتجويد المضغ، وأن لا ينظر في وجوه الآكلين، ولا يفقد مأكلهم، وأن يقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ولا يأكل متكئًا ولا مضطجعاً، ولا يكون أول من يبتدئ بالأكل حتى يسبق صاحب المنزل، والأكبر فالأكبر إلاّ أن يكون إماماً يقتدى به، أو يكون القوم منقبضين فيبسطهم بالابتداء، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق ولا يجمعهما في كفه، وليضع النواة على ظهر كفه من فيه، ثم يلقيها كذلك وما كان في معناه مما له عجم أو ثفل، ويستحبّ أنّ يأكل من التمر وترًا سبعًا أو إحدى عشرة وإحدى وعشرين، وأن يفطر على رطب إن وجده، وإلاّ فتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وكان وهب بن منبه يقول: الصائم يزيغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة رجع بصره، ولايقرن بين تمرتين في الجماعة إلاّ أنْ يفعلوا ذلك أو يستأذنهم، وأنْ يأكل بعد الجوع، ويرفع يده قبل الامتلاء بمقدار ثلث بطنه أو نصفه، كذلك سنّة السلف وهو أصحح للجسم، وقال حكيم من أهل الطبّ: إن الدواء الذي لا داء فيه هو أنْ لاتأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يديك عنه وأنت تشتهيه، وفي الخبر: أصل كل داء البردة، يقال: هي التخمة، ويقال في اختيار الحكماء: إنّ خادماً لأرسطاطاليس استقضى رجلاً من أهل السواد حاجة له فلم يفعل، فقال له: لعلك تحتاج إليه، فقال: ما لي إليه من حاجة، فأخبر الخادم الحكيم بذلك، فقال: إن كان يأكل بعد الجوع ويرفع قبل الشبع ويتقلل بين ذلك فقد صدق ما له إلىنا من حاجة، وقد أحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن حسب ابن آدم لقيمات يشد بهّن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس والطعام، إنما وضع دواء من داء الجوع، إذا وجدته عالجته به، فإذا لم تجده صار الأكل داء، لأنّ التأذّي بالأكل مثل التأذّي بالجوع أو أشد، وليأكل ما يليه إلاّ الفاكهة له أن يجيل يده فيها ويأكل بثلاثة أصابع، إلا الثريد فليأكل بأصابعه كلها، وأن لا يأكل من ذروة القصعة ولا وسط الطعام، وليأكل من نواحيه، وأن لايصمتوا على الطعام فإنه من سيرة العجم فليتكلموا بالمعروف، ولا يقطع اللحم بالسكين، فقد نهى عن ذلك، ولكن انهشوه نهشًا، ولا يقطع الخبر بالسكين ويأكل من استدارة الرغيف، إلاّ أن يكون في الخبز قلة وفي الآكلين كثرة، فيستعان بتكسير الخبز على التفرقة، ولا يكثر قول: كل على، أخيه فإن ذلك يحشمه وربما قطعه، ولا ينبغي لأخيه أن يحوجه إلى تفقده في الأكل وتكرير قوله له:كل.(2/129)
وقال بعض الأدباء: أحسن الآكلين أكلاً من لم يحوج صاحبه إلى تفقده في الأكل، ومن حمل على أخيه مؤونة القول، ولايدع شيئًا من المأكول يشتهيه لأجل نظر الغير إليه، فإنه من التصنّع، فإن تركه إيثارًا لإخوانه أو قدمه إلى أخيه فحسن، ولا ينقص من أكله المعتاد في الوحدة، وإن زاد لأجل مساعدة الجماعة أو بنية فضل الأكل مع الإخوان فلا بأس بذلك، والشرب في تضاعيف الأكل متسحبّ من جهة الطب مما لم يبتدئ به أو يكثر منه، يقال: إنه دباغ المعدة، والشرب متكئًا مكروه للمعدة أيضًا من جهة الطب، والأكل متكئاً ونائماً ليس من السنّة إلاّ ما يتناول أو يتنقل به من الحبوب وما في معناها، وقد رؤي علي رضي اللّه عنه وهو يأكل على ترس مضطجعًا كعكًا، ويقال: منبطحًا على بطنه، والعرب تفعله، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه، واملكوا العجين فإنه أعظم للبركة، وما ردّ له من المأكول مع الجماعة فلا يرده في القصعة مع الثقل، فيأكله غيره، إن وقع بيده أكله وإلاّ تركه مع الثقل، ولا نتمم الخلّ بالدسم ليطبع بالخل قبل اللحم، ويقال: إنّ الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل، وفي الخبر: أن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل من السماء كان عليها من كل البقول إلاّ الكرّاث، وكان فيها سمكة عند رأسها خلّ وعند ذنبها ملح، وكان عليها سبعة أرغفة على كل رغيف زيتونتان وحبّ رمان، فهذا من أحسن الطعام إذا اتفق، فإن لم يكن فكما قال بعض الأدباء: إذا دعوت إخوانك فقدمت إليه م حصرمية وبورانية وسقيتهم ماء بارداً فقد أكملت الضيافة، ودعا بعض الرؤساء إخوانه فأنفق مائتي درهم، فقال له بعض الحكماء: لم تكن تحتاج إلى هذا كله إذا كان خبزك جيداً وخلك حامضاً وماؤك بارداً فهو كفاية، وقال بعضهم: الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان، والتمكن على المائدة خير من زيادة لونين، وقال آخر: شرب الماء البارد على الطعام خيرمن زيادة الألوان، وقال أبو سليمان الداراني: أكل الطيّبات يورث الرضا عن اللّه عزّ وجلّ، وقال المأمون رحمه اللّه: شرب الماء بثلج يخلص الشكر للّه عزّو جلّ.
وقال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن إكرام الضيف تعجيل الطعام لهم، وأفضل ما قدم إليهم اللحم، وخير اللحم السمين النضيج؛ فإن كان بعد اللحم حلاوة فقد جمع لهم الطيّبات، ينتظم هذه المعاني قوله عزّ وجلّ: (هَلْ أَتَاكَ حديثُ ضَيْفِ إبْراهيمَ المُكْرَمَينَ) الذاريات: 24، قيل في المكرمين قولان؛ أحدهما: خدمته إياهم بنفسه، والثاني أكرمهم بتعجيل الطعام إليه م، قوله تعالى: (فَمَا لَبثَ أنْ جَاءَ بِعْجِلٍ حنيذ) هود: 69 أي فما احتبس ولا أقام والحنيذ النضيج، وقال تعالى: (فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعْجِلٍ سمين) الذاريات: 26، الروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: الذهاب بخفية،وقيل: إنه جاء بفخذ من لحم فسمى عجلاً لأنه عجله ولم يلبث به، ثم وصف بأنه سمين نضيج، يقال: حنيذ ومحنوذ أيضًا، قال: كان نضيجًا، وقال في وصف الطيّبات:(وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى) البقرة:57 المن: العسل، والسلوى: اللحم، سمي سلوى لأنه يسلى به عن جميع الأدام، إنّ فيه غنية عن جميعها، وليس في كلها مقامه، ثم قال تعالى:(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رزقْناكُمْ) البقرة:57، فاللحم والحلاوة من طيّبات الرزق، وليأكل الرجل في منزل أخيه سجية أكله في منزله بغير تكلّف ولاتزين، لأنه قد يدخل من الرياء والتزين في الطعام مثل ما يدخل في سائر الأعمال من الصلاة والصيام؛ والأكل عمل وكل عمل يحتاج إلى نية وإخلاص، فلتكن نيته في أكله الاستعانة على الطاعة، ولتكن نيته مع إخوانه إكرامهم بذلك وإدخال السرور عليهم والتبرك بالجماعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الجماعة بركة، وينوي إقامة السنّة في إجابة الدعوة ليكون مأجورًا في أكله، عاملاً في جميع ذلك بسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا كله داخل في حسن الخلق، وهو في معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وقد قال بعضهم: هو الرجل يسأل إخوانه أنْ يفطر معهم نهارًا، أو يسهر معهم ليلاً، ويكون من عادته الصيام والقيام، فيساعدهم تخلقًا معهم فيدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم.(2/130)
وقال بعض العلماء من أهل الأدب: ليس من السنّة والمروءة أن يزور الرجل إخوانه فيتشاغل عنهم بالصلاة النافلة، أو يستزيره إخوانه فيقدمون إليه الطعام فلا يساعدهم عليه لأجل الصيام ولايقصر عن بغيته من الأكول فيترك الأكل مع حاجته إليه، فإنه غير محمود ولا مأجور عليه إن لم يكن سبب أوجب عليه ذلك، وقال جعفربن محمد عليه السلام: أحبّ إخوان إلىّ أكثرهم أكلاً وأعظمهم لقمة وأثقلهم عليّ من يحوجني إلى تعاهده في الأكل، وقال أيضاً: يتبيّن محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله، فإن قلل الأكل مع الفقراء إيثارًا لهم أو لقلة الطعام فحسن.
وروينا أنّ سفيان الثوري دعا إبراهيم بن أدهم وأصحابه إلى طعام فقصروا في الأكل، فلما رفعوا الطعام قال له الثوري: إنك قصرت في الأكل فقال إبراهيم: لأنك قصرت في الطعام فقصرنا في الأكل، قال: ودعا إبراهيم الثوري وأصحابه إلى طعام فأكثر منه فقال له: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف، وليلعق أصابعه قبل أنْ يمسحها بالخرقة، وليأكل ما سقط من فتات الطعام،يقال: إنه مهور الحور العين يقال: من لعق الصحفة وشرب ماءها، كان له عتق رقبة، وإنْ أكل حلالاً فليقل: الحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات وتنزل البركات، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وأطعمنا طيبًا، واستعملنا صالحًا، وليكثر شكر اللّه تعالى على ذلك، وإنْ أكل شبهة فليقل: الحمد للّه على كل حال، اللّهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سينا محمد، ولا تجعله قوّة لنا على معصيتك، وليكثر الحزن والاستغفار، وفي خبر: إذا دعي أحدكم إلى طعام فلم يجب فلا يقل: كل هنيئًا، فلعله يكون أخذه من غير حله، ولكن ليقل: أطعمك اللّه طيبًا وليقل إذا أكل لبناً: اللّهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، وبارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيراً منه.
كذلك روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: لأن اللبن أعمّ نفعًا من غيره، وليقل في أول لقمة: بسم اللّه، وفي الثانية: بسم اللّه الرحمن، وفي الثالثة: بسم اللّه الرحمن الرحيم، وليشرب الكوز في ثلاثة أنفاس يقطعه، وليقل في أول جرعة: الحمد للّه وفي الثانية: الحمد لله رب العالمين، وفي الثالثة يزيد: الرحمن الرحيم، وإن سمى في أول كل لقمة فحسن، وليقرأ بعد فراغه من الطعام: قل هو اللّه أحد ولإيلاف قريش وتقديم الفاكهة قبل الطعام أوفق، وفي كتاب اللّه عزّ وجلّ ترتيب ذلك من قوله سبحانه وتعالى: (وفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرون) الواقعة:2، (ولَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) الواقعة:21، ولا يرفع يده قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون أو يحتاجون إلى بسط، فإن كان قليل الأكل تربّص حتى يضعوا أيديهم فيأكلوا صدراً من الطعام، ثم يقعد بعدهم ليستوي أكله مع أكلهم، فإن كانوا علماء لم يكرهوا ذلك منه، وقد فعله كثير من الصحابة، ولا يتكلف لإخوانه من المأكول ما يثقل عليه ثمنه أو يأخذه بدين أو يكتسبه بمشقة أو من شبهة ولا يدّخر عنهم ما بحضرته ولا يستأثر بشيء دونهم ولا يضرّ بعياله.(2/131)
وروينا أنّ رجلاً دعا عليّاً رضي اللّه عنه إلى منزله فقال:أجيبك على شرائط ثلاث؛لا تدخل من السوق شيئًا، ولاتدّخر ما في البيت، ولاتجحف بعيالك، وقد كان من سيرة السلف إذا دعا أحدهم أخاه قدم جميع ما بحضرته أو أخرج من كل شيء عنده شيئاً، وكان بعض الرؤساء من الأجواد إذا دعا الناس إلى طعامه يدعو الخباز فيقول: أعلم الناس بما عندك من الألوان، قال: ثم يدعهم يأكلون حتى إذا قاربوا الفراغ جثاً على ركبتيه ومدّ يده إلى الطعام فأكل، وقال: ساعدوني بارك اللّه عليكم، فكان السلف يسحسنون ذلك منه وليس من السنّة أن يقصد الرجل قومًا يتحيّن حضور طعامهم ليصادفه؛ فإن ذلك من المفاجأة، فقد نهى عنه قال اللّه سبحانه تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرين إناهُ) لأحزاب:53 يعني منتظرين حينه ونضجه، وفي الخبر: من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقًا وأكل حراماً، ولكن إن صادفهم يأكلون فسألوه أن يأكل معهم، وعلم أنهم يحبون أكله معهم فلا بأس، وليس ذلك داخلاً في المفاجأة، فإن لم يعلم أنهم يحبون أن يأكل معهم وإنما قالوه تعزيزاً وحياء كرهت له الأكل معهم، وإن كان جائعاً فقصد بعض إخوانه ليطعمه ولم يتحيّن وقت أكله فلا بأس بذلك، قد قصد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي اللّه عنهم منزل أبي الهيثم بن التيهان وأبا أيوب الأنصاريين لأجل طعام يأكلونه وكانوا جياعًا، ومن السنّة أن يخرج الرجل مع ضيفه إذا انصرف إلى باب الدار، وليس من السنّة أن يخرج الضيف من النزل عن غير إذن صاحبه ولا أن يقيم للضيافة فوق ثلاثة أيام حتى يخرجه أويتبّرم به يتأثر في ذلك.
وقال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدّم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبقَ ولا تذر، وفي الخبر: دخلناعلى جابر بن عبد للّه فقدم إلىنا خبزًا وخلاة وقال: لولا أنّا نهينا عن التكلّف لتكلفت لكم، وفي حديث يونس عليه السلام أنه زاره إخوانه فقدّم إليهم كسراً من شعير، وخبز لهم بقلاً كان يزرعه ثم قال: كلوا لولا أنّ اللّه تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم، وروينا عن أنس بن مالك وغيره من الصحابة: كانوا يقدمون إلى إخوانهم ما حضر من الكسر اليابسة والحشف من التمر والدقل ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزرًا الذي يحتقر ما يقدّم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدّمه.
وقد روينا في معناه خبراً مسنداً وقد كان أنس وغيره يقدمون ما عندهم إلى إخوانهم ويقولون إنّ الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق، وفي الخبر: أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون على قراءة القران ولاذكر ولا يفطرون إلاّ عن ذواق ولا ينبغي للمدعو أن يقترح على الداعي شيئًا بعينه فيقول: أريد كذا، فليس ذلك من القناعة، فإن خيّره أخوه بين طعامين فليختر أقربهما منه وأيسرهما عليه كذلك السنة، وفي الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، وحدثونا عن الأعمش عن أبي وائل قال: مضيت مع صاحب لي إلى سلمان نزره فقدم إلىنا خبز شعير وملحًا جريشًا، فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح سعتر لكان أطيب، فخرج سلمان فرهن مطهرته وأخذ سعترًا، فما أكلنا قال صاحبي: الحمد للّه الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة، فإن كان أخوه ممن يأنس به وعلم أنّ اقتراحه عليه مما يحبّه فلا بأس بذلك، قد فعله الشافعي مع الزعفراني رحمها اللّه تعالى، كن نازلاً عليه ببغداد فكانا يخرجان يوم الجمعة إلى الصلاة، فكان الزعفراني يكتب في رقعة للجارية ما تصلح من الألوان، فدعا الشافعي ذات يوم الجارية فنظر فيها ثم زاد لوناً اشتهاه، فلما جاء الزعفراني وقدّمت الجارية ذلك اللون أنكره، إذ لم يأمرها به فسألها عنه فأخبرته أنّ الشافعي زاد ذلك في الرقعة، فقال: أريني الرقعة، فلما نظر إلى خط الشافعي في الرقعة بذلك اللون فرح بذلك وأعجبه، فقال: أنت حرة لوجه اللّه تعالى فأعتقها سروراً منه بفعل الشافعي ذلك، وإليه نسب درب الزعفراني بباب الشعير في الجانب الغربي من بغداد، فإن شهاه أخوه وسأله فلا بأس أن يذكر له شهوة ليصنعها فيعينه على فضيلتها.(2/132)
فقد روينا في فضل ذلك غير حديث، منها الحديث المشهور: من صادف من أخيه شهوة غفر له، ومن سرّ أخاه الممؤمن فقد سرّ اللّه عزّ وجلّ، وروينا عن ابن الزبير عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من لذذ أخاه بما يشتهي كتب اللّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف درجة، وأطعمه اللّه تعالى من ثلاث جنات؛ جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة الخلد، والخلال بعد الأكل حسن فلا يبين عنه، ولا بأس بغسل اليد في الطست وليس من الأدب التنخم فيه.
وروينا أنّ أنس بن مالك اجتمع هو وثابت البناني على طعام فقدّم الطست إلى ثابت ليغسل يده فامتنع، فقال أنس: إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته ولاتردّه فإنه إنما يكرم اللّه عزّ وجلّ، وروى أنّ هارون الرشيد دعا أبا معاوية الضرير فصبّ الرجل على يده في الطست، فلما فرغ قال له: يا أبا معاوية تدري من صب على يدك؟ قال: لا، قال أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين، إنما أكرمت العلم وأجللته فأجلّك اللّه عزّ وجلّ وأكرمك، كما أجلت العم وأكرمته، وأكره قيام الخادم أحبّ إلى أن يصبّ على يده جالسًا، واجتماع الاثنين أو الثلاثة في غسل اليد وجمع مائهم المستعمل في مرة واحدة في الطست حسن؛ وهو من التواضع، ومن انفرد بغسل يده وحده فلا بأس أن يتنخم في الطست، ومن بزق فيه بعد أن يرفع ويفرغ من غسل يده فلا بأس.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: لا يرفع الطست من بين يدي القوم إلاّ مملوءاً ولا تشبّهوا بالعجم، وقد رويناه عن ابن مسعود أنه قال: اجتمعوا على غسل اليد في طست واحد ولا تستسنوا بسنّة العجم، ولا يزدردن ما أخرج الخلال من أسنانه فإنه داء ومكروه، وما لاكه بأسنانه فلا بأس أن يزدرد وليتمضمض بعد الخلال ففيه أثر عن بعض أهل البيت عليهم السلام، وليقل عند فراغه من الطعام: الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأوانا سيدنا ومولانا، ياكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، أطعمت من جوع وأمنت من خوف، لك الحمد، أويت من يتم، وهديت من ضلالة، وأغنيت من عيلة، لك الحمد حمداً كثيراً دائماً طيباً نافعاً مباركاً فيه، كما أنت أهله ومستحقّه، اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً لجعله عونًا لنا على طاعتك ونعوذ بك أن نستعين به على معاصيك.
وفي الأكل مع الإخوان ثلاث فضائل: روي عن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قعدتم مع الإخوان على المائدة فأطيلوا الجلوس فإنها ساعة لا تحتسب عليكم من أعماركم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال الملائكة تصلّي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة بين يديه حتى ترفع.
وروي عن الحسن البصري رحمه اللّه: كل نفقة ينفقها الرجل على نفسه وأبويه فمن دونهم يحاسب عليها إلا نفقة الرجل إذا دعا إخوانه إلى طعام، فإن اللّه سبحانه وتعالى يستحي أن يسأله عن ذلك، وقد روي عن بعض علماء خراسان أنه كان إذا دعا إخوانه قدّم إليه م نحو القفيز من صوف الأطعمة والحبوب والفواكه اليابسة فسئل عن ذلك فقال: بلغنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن الإخوان إذا رفعوا أيديهم عن الطعام لم يحاسب من أكل فضل ذلك الطعام، فأنا أحبّ أن أستكثر مما أقدّم إلىكم لنأكل فضل ذلك، وفي خبر عن بعض السلف: لا يحاسب العبد على ما يأكله مع إخوانه، فكان بعضهم يكثر من الأكل في الجماعة ويتقلّل إذا أكل وحده، وفي الخبر: ثلاث لا يحاسب عليها العبد، أكلة السحور وما أفطر عليه والأكل مع الإخوان، ومن لم يكن له نية في تقديم فضول الأطعم بهذا الخبر، فإني أكره أن يقدّم من الطعام إلاّ ما يريد أن يؤكل، ولا يترك منه شيء ولا يستثنى هو ولا أهل البيت في أنفسهم رجوع شيء منه، وإلاّ كان ما يقدمه مما ينوي رجوع بعضه، ولا يحبّ أكل كله تصنّعًا ومباهاة، فإن علم بذلك من قدم إليه لم استحب له في الورع في أن يأكل منه لأن المأكول إذا قدّم ليؤكل بعضه فهو تصنّع وتزيّن،لا يصنع الورعون ذلك ولا يأكل المتّقون من هذا، لأنه لا يدري كم مقدار ما يحبون أن يأكلوا منه.(2/133)
وروينا عن ابن مسعود قال: نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه، وقد كره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة والمباداة، وهذا مكروه لم يقدمه بهذه النية إلى إخوانه لأنه قد عرضهم لتناول ما يكرهون، وقد دلس عليهم ما لا يعلمون، وأيضًا فإنه شيء قد قدّم لأجل اللّه تعالى فلا يصلح أن يستثنى ارتجاع شيء منه بمنزلة من يخرج الرغيف أو الشيء إلى السائل فيجده قد انصرف فكره أن يرجع فيه فيأكله، وقال: يعزله حتى يأتي سائل آخر فيدفعه إليه.
وكان بعض أهل الحديث إذا أكل مع إخوانه ترك من الطعام على رغيف يعزله معه وكان سيّار بن حاتم إذا حضر على مائدة أكل لقيمات، ثم يقول: اعزلوا نصيبي، وأكل ذات يوم على مائدة في جماعة فلما جاءت الحلوى نزع قلنسوته، ثم قال: اجعلوا نصيبي في هذه، فينبغي أن يعزل أنصبة أهل البيت قبل تقديم الطعام إلى إخوانه كيلا يحدثوا نفوسهم برجوع شيء منه فإنه مكروه لهم، ولعله لا يرجع شيء منه فيكون ذلك إحراجًا من الآكلين ومنقصة لهم؛ وهذا عليهم أشدّ من إكرامهم بالطعام، أن يكون ذلك مضرّاً بالأهل فيكون مضيعًا للأصل، ولا ينبغي له أن يقدّم إلاّ ما يحبّ أن يأكلوه من كل شيء أيضاً ومقدار الحاجة والكفاية من المأكول فيجمع بين السنّة والفضيلة.(2/134)
روي في الخبر: ما رفع من بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضلة طعام قط؛ هذا لأنهم كانوا مخلصين في كل شيء فلا يقومون إلا كفايتهم، ولا يأكلون إلاّ بعد جوعهم، ولا يتركون الأكل وفي نفوسهم منه شيء وللاقتصار الذي كان فيهم، ففيما ذكرناه من تقديم الكفاية لئلا يرد فضول الأطعمة موافقة للسنّة، وفي تقديم المأكول ليرجع أكثره نية حسنة، لما جاء فيه: أن من أكل ما فضل من الإخوان لم يحاسب عليه، ومن كان في جماعة فلا يأمر بتأخير الطعام فلعل فيهم من يحتاج إلى تقديمه إلا أن يتفقوا على تأخيره فلا يأمر حينئذ بتقديمه لأجل نفسه، وإذا حضر الطعام والصلاة فإنْ كانت نفوسهم تتوق إليه وفي الوقت سعة قدموا الأكل وإن كانت نفوسهم ساكنة أو ضاق الوقت أو خشوا أن يتطاول بهم الأكل صلّوا أوّلاً واستحبّ الأكل على الأرض، كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام وضعه على الأرض وكان يأكل مقعياً على قدميه ويقول: لا آكل متكئاً، إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، وربماجثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدمه، ونصب وجله اليمنى وهي جلسة العرب للأكل إلى اليوم، وإن أكلو على السفر فهو سنّة فيتزود لسفره، وخير الزاد التقوي، وأكره الأكل على الموائد العالية لأنهم كانوا يكرهون أن يعلون الطعام على الأيدي؛ وهذا محدث وليس من التواضع، قال أنس بن مالك: ما أكل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على حوان ولا في سكرجة قط، قيل: فعلى ما كنتم تأكلون؟ قال: على السفر، وقيل: أول ما أحدثت الأمة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الأربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، ومن غسل بأشنان ابتدأ بغسل فيه بعد غسل يده اليمنى، ويجعل الأشنان في بطن كفه اليسرى يابسًا، ثم يغسل فاه حتى ينقيه بأصابعه، ثم يبل الأشنان فيغسل يديه ولايعيد يغسل كفيه وهو فعل ذوي المروءة، وينغي إذا حضرت الألوان أن يبتدئ بتقدمة الألطف فالألطف والأطيب فالأطيب والأمثل أن يبتدئ بالشواء قبل اليريد ويقدم الطباهج قبل السكباج؛ فذلك سنّة العرب ليصادف جوعهم أطيب الطعام فيستوفوا من ذلك أوفر النصيب فيكون أثوب لصاحبه وأقل لأكلهم، فإن احتاجوا إلى مابعده من غليط الألوان والطعام تناولوا منه قليلاً، فإنما قدم أهل الدنيا اللون الغليظ على اللطيف ليتسع أكفهم وتنفتق شهوتهم، فيكون اللون اللطيف في موضع آخر، وليكونوا قد أكلوا من اللون الأجود الأطيب أقلّ؛ وهذا غير مستحبّ عند أبناء الآخرة، وقد كان من سنّة المتقدمين أن يقدّموا جملة الألوان في مكان واحد مما يشتهي، وليكون ماتقدّم معلومًا لهم وقال لهم إذ لم يكن عنده إلاّ لون واحد: ليس يحضر إلاّ هذا ليستوفوا منه ولايتطلعوا إلى غيره كان صوابًا، حدثني بعض شيوخنا عن شيخ له قال: قدم إلى بعض أهل الشام لونًا من طبيخ فقلت له عندنا بالعراق يقدم هذا اللون آخر الآلوان فقال لي: هكذا هو عندنا بالشام، قال: فاستحييت إذ لم يكن عنده غير ذلك اللون، وقال لي آخر: كنا في جماعة عند رجل فجعل يقدّم إلينا ألوان الرؤوس منها طبيخًا وقديدًا فجعلنا نقصر في الأكل نتوقع بعده الألوان وجملاً أو جدياً، قال: فجاءنا بالطست ولم يقدّم غيرها، فقال لي بعض الشيوخ من أهل التصوّف وكان مزّاحاً: وهو تعالى يقدر أن يخلق رؤوساً بلا أبدان، قال: فبتنا تلك الليلة جياعاً فطلب بعضنا في آخر الليل خبزًا أو فتيتاً لسحوره وينبغي أن يمكنهم من بقية الألوان ولا يرفعهاحتى يرفعوا أيديهم، فإنه من الأدب، ولعل فيهم ما يكون عنده ما قدّم أشهى إليه مما يقدم بعد، وقد يكون فيهم من به حاجة إلى فضل أكل فينقص عليه برفعه قبل أن يستوفي ما في نفسه.(2/135)
حدثني بعض أصحابنا عن الستوري وكان صوفياً أنه حضر على مائدة أبناء الدنيا وكان فيه بخل، قال: فقدم جملاً فجعلوا يأكلون فلما رآهم يمزقون كل ممزق ضاق صدره فقال: يا غلام ارفع إلى الصبيان قال: فرفع الجمل إلى داخل الدار، فقام الستوري بعد وخلف الجمل فقال صاحب المنزل: إلى أين يا أبا عبد اللّه فقال: آكل مع الصبيان، فاستحيا الرجل وأمر برد الجمل حتى استوفوا منه، وكان سفيان الثوري يقول: من دعا رجلاً إلى طعامه وهويحبّ أن لا يجيبه فإن لم يجب كتبت عليه خطيئة، وإن أجاب كتبت عليه خطيئتان؛ فالمعنى في الخطيئة الأولى لأنه أظهر بلسانه خلاف ما في قلبه فتصنّع بالكلام وهذا من السمعة وداخل في محبة أن يحمد بما لم يفعل، والمعنى في الخطيئتين أنه أجابه أخوه، فالخطيئة الثانية لأنه حمل أخاه على ما لم يعلم حقيقته منه وعرضه لما يكره فلم ينصحه فيما أظهر له من نفسه، لأن أخاه لو علم غير محبّ لإجابته لم يأكل من طعامه، ولأنه قد أدخله في السمعة، فلذلك كانت عليه خطيئة ثانية، وقد كان من المتقدمين من إذا دخل عليه وهو يأكل قوته لم يعرض على إخوانه الأكل إذا لم يحب أن يأكل معه خشية التزين بالقول أو لئلا يعرضهم لما يكرهون.
دخل قوم على سمير أبي عاصم، وكان زاهدًا، وهو يأكل فقال: لولا أني أخذته بدين لأطعمتكم منه، وكان بعض السلف يقول في تفسير التكلف: أن تطعم أخاك ما لا تأكله أنت أي لا يكون من مأكلك في الجودة ومما له قيمة فتشق على نفسك بذلك.
وكان الفضيل يقول: إنما تقاطع الناس بالتكّلف، يدعو أحدهم أخاه فيكلف له فيقطعه عن الرجوع إليه، وكان بعض السلف يأمر بتقديم ما حضر فإنه أدوم للرجوع، وأذهب لكراهة صاحب المنزل، وقال بعضهم: ما أبالي من أتاني من إخواني فإني لا أتكلف له إنما أقرّب ما عندي، ولو أني تكلّفت ماليس حاضرًا لمللته وكرهت دوام مجيئه، وقال لي بعض الشيوخ: كنت آنس بعض إخواني فكنت أكثر زيارته، فكان يتكلف الأشياء الطيبة فقلت له يومًا: حدثني عن شيء أسألك عنه: إذا كنت وحدك تأكل مثل هذا الذي تقدّمه إليّ؟ قال: لا، قلت: وكذلك أنا في منزلي إذا كنت وحدي لا آكل مثل هذا فلِمَ إذا اجتمعنا نأكله ونحن لا نأكل مثله على الانفراد هذا من التكلف فأما أن تقطع هذا وتقدّم إلىّ ما تأكله على الانفراد أو أقطع مجيئي إلىك، قال: فقطع ذلك، وكان يقدّم ماعنده وما يأكل مثله فدامت معاشرتنا، ومن دعي إلى طعام وعنده إنسان أو جماعة من حيث يعملون فليستثن الواحد أو الجماعة معه، فإنه من السنّة والأدب، فإن دعي وحده أو مع نفر بأعيانهم أو أعدادهم فتبعهم واحد لم يكن في العدد فليذكر للداعي قبل دخولهم إليه ليأذن له معهم، كذلك السنّة ومن دعي في جماعة وفوّض إليه الأمر فيهم فليعرف صاحب المنزل عدتهم قبل مجيئهم ليستعدّ لهم بعد أن يعرض عددهم، من دعا رجلاً في غير دعوة عامة وعنده قوم أو رجل بعينه فليعلمه بمن عنده ليدخل على بصيرة، فلعلّ أن يكون عنده من يكره هذا المدعو لاجتماع معه، أو لعله أن يجيبه لأنه يحسب أن ليس عنده غيره لأن الأكل معاشرة وليس كل إنسان يحبّ أن يعاشر كل أحد خاصة الرؤساء، ومن أكل مع رجل من طعامه فوقف عليه سائل فلا يعطينّ شيئاً إلاّ بأذنه أو يسأل صاحب الطعام حتى يكون هو الذي يعطيه، فإن أعطاه بغير إذن كان الأجر لصاحب الطعام والوزر عليه، روي ذلك عن أبي الدرداء قال لإنسان كان يأكل معه فأعطى سائلا بغير أمره: لقد كنت غنياً أن يكن الأجر لي والوزر عليك، ومثله لا يدعو إلى طعام غيره أحداً بغير إذن صاحبه ومن دعا خصوص إخوانه فدخل عليه داخل فلا يقعده معهم للأكل وليصرفه أو يفرده عنهم.(2/136)
حدثني بعض أشياخنا عن بعض الخلف الصالح أنه دعا إخوانه من الصوفية على طعام فدخل رجل من العامة فجلس يأكل معهم فقبض على يده ونحاه وقال: هذا عملناه لهؤلاء خاصة لا يصلح أن يكون معهم غيرهم، ثم أفرده بطعام خصّه به وعمله لأجله عوضاً مما فعل ومن دخل عليه داخل وهو يأكل فلا يرفع الطعام فليس ذلك من السنّة ولا من فعل المروءة ولعل الداخل أحوج إليه منه وقد بعث إليه اختباراً له، وإذا عرضت على أخيك الطعام مرة أو مرتين فلا تلحن عليه، وكذلك إذا دعوته فكره فقد قالوا لا تكرم أخاك بما يشقّ عليه ولا تزيدن على ثلاث مرات فإن إلالحاح واللجاج مازاد على ثلاث مرات وليس ذلك من الأدب، قالوا: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خوطب في شيء ثلاثاً لم يراجع بعد ثلاث.
وكان الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وقال مرة: من أنْ يدعى إليه ذلك لعظيم حق، وكان الثوري يقول: إذا زارك أخوك فلا تقل له تأكل أو أقدم إليك ولكن قدّم ما عندك، فإن أكل وإلا فارفعه، وكان الحسن وابن المبارك إذا أرادا الغداء أو العشاء فتحابا بهما فمن دخل عرضاً عليه الأكل، وقد كان هذا من سيرة السلف أنهم يفتحون الباب عند حضور الطعام ومن صادف دخوله أكل معهم، ومنهم من كان يقعد في دهليز داره ويفتح الباب فكل من مرّ عليه في الطريق دعاه إلى طعامه من غني أو فقير، وقال بعض التابعين: إلاّ إنّ خياركم آكلكم في الأفنية وأوسعكم آنية وأحلاكم أطلية إلاّ إنّ شراركم آكلكم في الأخبية وأصغركم أطلية، ومن دعا رجلاً إلى طعامه وهويعلم أنّ الأحبّ إليه أن لا يأكل فمكروه له أن يأكل ولا يعبأ بقوله إذا علم منه خلافه، فإن لم يعلم حقيقة ذلك فله أن يجيبه على ظاهر قوله وليس له أن يسيء الظن به، دعا رجل الأحنف بن قيس في سفر إلى طعامه فقال له الأحنف: لعلك من العارضين، قال: وما العارضون؟ قال: الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فسكت الرجل فلم يجبه الأحنف إلى الطعام، وكان الثوري يمشي مع رجل فمّر بباب منزله فعرض عليه الدخول ليأكل عنده فقال له الثوري: أصدقني عن شيء أسألك: أيما أحبّ إليك أدخل أو أنصرف؟ فسكت، فانصرف الثوري، ومن علم من أخيه أنه يحبّ أن يأكل من طعامه فلا بأس أن يأكل بغير إذن لأن علمه بحقيقة حاله ينوب عن إذنه له في الأكل.(2/137)
وقد كان محمد بن واسع وأصحابه يدخلون منزل الحسن فيأكلون مايجدون بغير إذن، وكان الحسن ربما دخل فيجدهم كذلك فيسرّ ويقول هكذا كنا، وروي عنه أنه كان يأكل من متاع بقال يأخذ من هذه الجونة تينة ومن هذه فستقة فقال له هاشم الأوقص: يا أبا سعيد تأكل من متاع الرجل بغير إذنه؟ فقال: يالكع أما قرآت آية الأكل؟ثم تلا عليه: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) النور:61، إلى قوله تعالى: (أوْ صَدىقِكُمْ) النور:61، ثم قال الحسن الصديق: من استروحت إليه النفس واطمأن إليه القلب فإذا كان كذلك فلا يأذن له في ماله، وجاء قوم إلى منزل سفيان الثوري فلم يجدوه ففتحوا الباب وأنزلوا السفرة فجعلوا يأكلون ما فيها فدخل الثوري فجعل يقول: ذكرتموني أخلاق السلف، هكذا كانوا، وزار قوم بعض التابعين ولم يكن عنده ما يقدمه إليهم، فذهب إلى منزل بعض إخوانه فلم يصادفه في المنزل فدخل فنظر إلى قدر قد طبخها وإلى خبز قد خبزه وغير ذلك فحمله كله فقدّمه إلى أصحابه وقال: كلوا، فجاء رب المنزل فلم ير الطعام، فسأل عنه فقيل له: قد جاء فلان فأخذه، فقال: قد أحسن، فلما لقيه قال: يا أخي إن عادوا فعد، وقد أكل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحماً تصدق به على بريرة من غير أن يستأذنها، ولم تكن حاضرة، لعلمه أنها تسرّ بذلك، وقال: إنّ الصدقة قد بلغت محلها هو عليها صدقة ولنا هدية، وقال صلى الله عليه وسلم: رسول الرجل إلى الرجل إذنه أي قد علم بإذنه له في الدخول عليه فأغناه عن الاستئذان، ففي تدبر فعله عليه السلام أنّ من علمت كراهته لأكلك من طعامه أن لا تأكل وإن أذن لك بقوله، فتدبر عمل بعض السلف صنيعاً، فدعا رجلاً فلم يصادفه الرسول، ثم أعلم وقد انصرف الناس من عنده فقصد منزله، فدقّ عليه الباب، فخرج إليه الرجل فقال: هل من حاجة؟ قال: إنك دعوتني فلم يتفق ذلك فقد جئت الآن لماعلمت، فقال: قد انصرف الناس، قال: فهل بقي منه بقية؟ قال لا، قال: فكسرة، إنْ بقيت، قال: فلم يبقَ شيء، قال: فالقدور أمسحها، قال: قد غسلناه فانصرف بحمد اللّه تعالى فقيل له في مسألته عن ذلك فقال: وقد أحسن الرجل دعانا بنية فنفس؛ هذا في الضعة والذلة وسقوطها من مراتب الأنفة والعزة تشبه نفس ابن الكديني، وهو أستاذ أبي القاسم الجنيد دعاه صبي إلى دعوة أبيه فردّه الأب أربع مرات في دعوة واحدة وهو يرجع في كل مرة وهو يرده؛ فهذه نفوس مطمئنة بالتوحيد، مشاهدة بالبلوى من المولى المبلى للعبيد، مذللة بالذلة، موضوعة على الضعة؛ وهذا طريق مفرد لأفراد وحال مجرد لآحاد، والمتكبرون لا يجيبون الدعوات ؛ وهم عند بعضهم من أنفة النفوس، قال قائلهم: أنا لا أجيب دعوة، قيل: ولِمَ؟ قال: انتظار المرقة ذلّ، وقال آخر: إذا وضعت يدي في قصعة غيري ذلّت له رقبتي، ومنهم من لم يكن يجيب الفقير لكبر في نفسه ويجيب الأغنياء لعظمهم في عينه، ومن أبناء الدنيا الموصوفين بها من لايجيب إلاّ نظراءه وأشكاله من مثل طبقته ومرتبته في الرياضة في الدنيا؛ وهذا على خلاف سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أفعاله أنه كان يجيب دعوة المسكين ويجيب دعوة العبد، ومن قوله: بئس الطعام وشرّ الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ثم قال: من لا يجيب الدعوة فقد عصى اللّه تعالى، ومرّ الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على قارعة الطريق، وقد نثروا كسراً على الأرض في الرمل وهم يأكلون، وكان على بغلته، فلما مرّ بهم سلّم عليهم فردوا عليه وقالوا: هلمّ إلى الغداء يا ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: نعم إن اللّه لا يحبّ المستكبرين ثم ثنى وركه فنزل عن دابته وقعد معهم على الأرض وأقبل يأكل ثم سلم عليهم وركب، وفي خبر آخر - زيادة - فقال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم فوعدهم المجيء في وقت من النهار فجاؤوا فرحّب بهم ورفع مجلسهم، ثم قال: يا واذات هاتي ما كنت تدّخرين، فأخرجت الجارية فاخر ما عندها من الطعام فأقبل يأكل معهم، وكان ابن المبارك يقدم إلى إخوانه فاخر الرطب ويقول: من أكل أكثر أعطيته بكل نواة درهماً فكان يعد النوى فيعطي من كان له فضل نوى بعددها دراهم.(2/138)
وقال بعض أهل الاعتبار: ما أجبت إلاّ لأتذكر بها نعيم الجنة، طعام ينقل بغير كلفة ولا مؤونة، ولذلك قيل: إنّ اجتماع الإخوان في وجود الكفاية على الأنس والأُلفة ليس هو من الدنيا، وقد كان بعض الصوفية يقول: لا تجب دعوة إلاّ من يرى لك أنك أكلت رزقك وأنه سلمه إليك وديعة كانت لك عنده، ويرى لك الفضل عليه في قبولها منه؛ فهذه شهادة العارف من الداعين، كذلك شهادة المدعوين من الموحدين؛ أن يشهدوا الداعي الأول، والمجيب الآخر، والمعطي الباطن، والرازق الظاهر، كما امتحن أصحابه بذلك بعض الصوفيين: بلغني أنّ رجلاً دعا إماماً من الصوفية في أصحابه إلى طعام، فلما أخذ القوم مجلسهم ينتظرون فضل الطعام إليهم، خرج إليهم شيخهم فقال: إنّ هذا الرجل زعم أنه دعاكم وأنكم تأكلون طعامه ففي حرج، أو قال: حرام على من لم يشهده في فعله أن يأكل، قال: فقاموا كلهم فخرجوا ولم يستحلوا الأكل، إذ كانوا لا يرونه في الفعل إلاّ غلاماً حدثاً، فإنه قعد إذ لم تثبت شهادته ولم ينفذ نظره العبارة والمعنى لقائله مثله أو نحوه: وإن دعاك أخوك وأنت صائم فعلمت أنه يسرّ بأكلك فلا بأس أن تفطر لأجله، فإن لم تعلم ذلك منه وقال لك: أنا أسرّ بأكلك فصدقه وأحسن به الظنّ، وإن لم تعلم ذلك منه ولم يلفظ به لساني فإني أكره خروجك من عقد الصوم لغير نية، هي أبلغ منه أو مثله، فصومك حينئذ أفضل، وإنْ أكلت مع أخيك تريد إكرامه بذلك فهذه نية صالحة، قد كان بعضهم إذا أكل يوم فطره أكل مع إخوانه ويحتسب في أكله ما يحتسب في صو مه.
وروينا عن ابن عباس أنه قال: من أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومن لم يرد أن يطعم قوماً من طعام فلا يظهرهم عليه ولا يصفه لهم سواء كان هو قد أكله أو لم يأكله، وكان الثوري يقول: إذا أردت أن لاتطعم عيالك من شيء تأكله فلا تحدثهم به ولا يرونه معك، وينبغي أن يكون للمجيب إلى الدعوة نيّات سبع؛ إذ الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى، إذ الإجابة من الأعمال، فمن نواها دنيا كانت له دنيا لعاجل حظه، ومن أراد بها آخرة فهي له آخرة بحسب نيته، وإنْ لم تحضر نية أو أعتلّ بفسادها توقف حتى يهيئ اللّه عزّ وجلّ له نية صالحة تكون الإجابة عليها أو ترك الإجابة إذا كانت بغير نية، لأنها من أفاضل الأعمال، فتحتاج إلى أحسن النيّات لوجود العالم فيها فتكثر بها الحسنات، ولفقد الهوى منها فيسلم فيها من السيئات وإلاّ كانت إجابته هزواً، وكان عاملاً في باب من أبواب الدنيا، وساعياً ف حظّ نفسه وملء جوفه وقد قال الرسول عليه السلام: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيصير مأزوراً بفساد النية، أو يكون غير مأجور لعدمها.
فأول النيات طاعة اللّه تعالى وطاعة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقوله عليه السلام: من لم يجب الدعوة فقد عصى اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثانية إقامة سنته لقوله عليه السلام: لو دعيت إلى كراع لأجبت وهو موضع على أميال من المدينة أفطر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان لما بلغه وقصر عنده في سفره، وقال في الخبر الآخر: لو دعيت إلى ذراع لأجبت؛ فهذا ظاهر في الإجابة عن القليل، والأول محتمل في الإجابة إلى الموضع البعيد، فقد نقل أنّ في التوراة أو في بعض الكتب سر ميلاً عد مريضاً، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخاً في اللّه عزّ وجلّ، فبعد في إجابة الدعوة وفضّلها على العبادة وشهود الجنازة لأن فيها قضاء حق الحي، وفيها إجابة داعٍ.
والنية الثالثة إكرام أخيه، وفي الخبر: من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم اللّه تعالى، وفي حديث الحسن وعطاء: من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يرده على اللّه تعالى، فترك الإجابة ردّ العطاء، وفي تأويل الخبر عن اللّه تعالى بمعناه أنه يقول للعبد يوم القيامة: جعت فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول: جاع أخوك المسلم فلم تطعمه، ولو أطعمته كنت قد أطعمتني، فمن ظاهره تعظيم حرمة المسلم لأنه أقامه مقامه، وفي باطنه في الفهم أنه إذا أجابه فقد عاونه على إطعام نفسه، فكأنه أطعمها، فإذا لم يجب دعوته فقد ترك معاونته على إطعامه فدخل تحت التفريع بأنه لم يطعم نفسه وهو المسلم إذا لم يجب الدعوة فتفكّروا.(2/139)
والنية الرابعة إدخال السرور على أخيك المؤمن، والخبر الآخر: من سرّ مؤمناً فقد سرّ اللّه عزّ وجلّ.
والنية الخامسة رفع الغمّ عن قلبه ووضع الهمّ عن نفسه في ترك إجابته من ترجيم الظنون به وتوقيع الرجم بالغيب فيه لما لم يجب ولعله يجيب، وإلا كان يجيب فيرفع عنه ذلك ويسقط عنه مؤونته سوء الظن به وتنزيل الشك فيه باليقين به.
والنية السادسة أن ينوي زيارته فيصير ذلك نافلة له تماماً على الذي أحسن، فقد جاء في فضل الزيارة في اللّه تعالى وأنّ بها يستحق ولاية اللّه تعالى، وأنها علامة ولاية المتحابين في اللّه فاشترط لذلك شيئان: التباذل للّه والتزاور فيه، فقد حصل البذل من أحدهما بقيت الزيارة من الآخر على الخبر السائر أنّ الإجابة من التواضع، كما ذكرنا قبل: أنّ المتكبرين لا يجيبون الداعي فهذه سبعة أعمال نيّات لمن وفّق لعملها والعمل بها، ومن طرقته فاقة من الفقراء فقصد بعض إخوانه يتصدى للأكل عنده فجائز له ذلك بشرطين: لا يكون عنده موجود من طعام ونيته أن يؤجر أخاه ويكون هو الجالب لأجره لأنه عرضه للمثوبة؛ فهذا داخل في التعاون على البرّ والتقوى وداخل في التحاض على طعام المسكين ونفسه كغيره من الفقراء، ولأن أخاه لا يعلم بصورة حاله ولو علمه لسرّه ذلك ففيه إدخال السرور عليه من حيث يعلم، وقد فعل هذا جماعة من السلف، وقد روى بمعناه أثر من ثلاثة طرق للسلف الصالح منهم: عون بن عبد اللّه المسعودي، كان له ثلاثمائة وستون صديقاً، وكان يكون عند كل واحد يوماً وآخر كان له ثلاثون صديقاً كان يكون عند كل واحد يوماً وليلة وكانوا يقدمون هذه الأخلاق السنيّة مع إخوانهم فيؤثرونها على المكاسب والمعلوم، فكان إخوانهم معلومهم، ولم يكن هؤلاء يكتسبون ولا يدّخرون، وكان لإخوانهم فيهم نية صالحة يسألونهم ذلك ويقسمون عليهم فيه ويرونه من أفضل أعمالهم، وكان هؤلاء للإنصاف يكرمون إخوانهم بإجابتهم وكونهم عندهم، ولم يكن سعيد بن أبي عروبة يعرض على إخوانه الطعام، ولكنه كان يظهره ويعرض به فكان اللحم مسلوخاً مصلقاً والخبز موجوداً ظاهراً، وكذلك كان يفعل بالثياب والأثاث، كان جميع ما في منزله مظهراً مسبلاً، فكل من دخل عليه من إخوانه إن شاء قطع من المسلوخ فشوى وطبخ، وإن شاء أكل من الخبز بما وجد من الأدم، ومن شاء لبس من الثياب ما شاء فكان ذلك مشاعاً في منزله لمن أراد تناوله، ومنهم من كان منقطعاً في منزل أخيه قد أفرده بمكان يقوم بكفايته ولا يبرح من منزله على الدوام يحكم فيه ويتحكم كما يكون في منزل نفسه، وقال بعض العلماء: أكلتان لا يحاسب العبد عليهما: ما أكله في سحوره وما أكله عند إخوانه إكراماً لهم بذلك، ومن أكل عند قوم فليقل عند فراغه أفطر عندك الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة وقد روينا أيضاً: أن يقول عليكم صلاة قوم أبرار لسوا بآثمين ولا فجّار يصلّون الليل ويصومون النهار فقد كان الصحابة يقولون ذلك.
ذكر غسل اليد ليس كل أحد يحسن أدب الغسل كما ليس كل إنسان يعرف سنّة الأكل، فمن غسل يده بأشنان ابتدأ بغسل أصابعه الثلاث أوّلاً، ثم جعل الأشنان في راحته اليسرى يابساً، ثم أمره على شفتيه جسّاً وأنعم غسل فيه بأصبعيه وظاهر أسنانه وباطنه وحنكه ولسانه، ثم غسل أصابعه من ذلك بالماء، ثم دلك ببقية الأشنان اليابس أصابعه وظهراً وبطناً، ثم لم يدخل الأشنان ثانياً إلى فيه لئلا يعود بالغمر إليه من يديه؛ وهذا يكفيه من تثنية الغسل، ومن غسل يد إخوانه بعد أكلهم من طعامه فمن الأدب أن يصبّ على أيدهم بالماء العذب، فبمثل هذه اللطيفة ونحوها يعرف حسن تفقد الدعاة وليستبين تعاهد الرعاة كأنّ بعضهم يقول: يدعو الرجل إخوان ينفق في الطّيبات جملة ويحليهم بعدها بالحلاوة، ثم يمرر أفواهم بالماء الملح؛ فهذا يكون من نقص التعاهد وقلة التفقد.
ذكر أخبار جاءت في الآثار رويناها منثورة في الأطعمة والأكل من بين نقص وفضل(2/140)
هي من طرائق السلف وصنائع العرب أدخلناها في تضاعيف كلامنا لأنها منقولة من كلام القدماء من حديث إسحاق بن نجيح عن عطاء بن ميسرة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده، وفي خبر سعيد بن لقمان عن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: الأكل في السوق دناءة هذا غريب مسند أو ليس بذاك الصحيح أنه من قول التابعين؛ إبراهيم النخعي ومن دونه، وعن جويبر عن الضحّاك عن النزّال بن سيرة عن عليّ عليه السلام قال: من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب اللّه عنه سبعين نوعاً من البلاء، ومن أكل يوماً سبع تمرات عجوة قتلت كل دابة في بطنه، ومن أكل في كل يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم يرَ في جسده شيئاً يكرهه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، والسارحات تعظم البطن وترخي الأليتين، ولحم البقر داء ولبنها شفاء،وسمنها دواء، والشحم يخرج مثله من الدواء ولن تستشفي النفساء بشيء أفضل من الرطب والسمك يذيب الجسد، وقراءة القرآن، والسواك يذهب البلغم، ومن أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليقلّ غشيان النساء، وليخفف الرداء وهو الدين، في أخبار الأمراء أن الحجاج قال لبنادق المطيب: صف لي صفة آخذ بها ولا أعددها، قال له: لا تنكح من النساء إلاّ فتاة، ولا تأكل من اللحم إلاّ فتيتاً، ولا تأكل المطبوخ حتى ينعم نضجه، ولا تشربّ دواء إلاّ من علّة، ولاتأكل من الفاكهة إلاّ نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلاّ أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام ولا تشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل عليه شيئاً ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة، وفيما قاله الفلسوف حكمة، قد ورد ببعضها آثار، قد يروى في خبر مقطوع ذكره أبو الخطاب بن عبد اللّه بن بكر يرفعه: من استقل بدائه فلا يتداوى فربّ دواء يورث داء، وكانت الحكماء تقول: دافع بالدواء ما حملت قوتك الداء، وقال بعضهم: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه ولكن يخلقه.(2/141)
وقال أبقراط الفيلسوف: الدواء من فوق والداء من تحت، فمن كان داؤه في بطنه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن، ومن لم يكن به داء من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء، فإن سقى عمل في الصحة داء إذا لم يجد داء يعمل فيه، وفي الخبر: قطع العروق مقة وترك العشاء مهرمة، والعرب تقول: ترك الغداء يذهب بشحم البكاذة يعني الألية، وقال بعضهم: نهاني الأطباء عن الشرب في تضاعيف الطعام، والعرب تقول: تعشّ وتمشَّ وتغدَّْ وتمدَّ؛ يريدون تمدد فأبدلوا الألف من الدال الثانية كراهية التكرار ولازدواج الكلام، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) القيامة:33 أي يتمطط، فأبدل من الثانية ألفاً بمعنى يمدّ مطاه يرفع ظهره، وأما في حبس الغائط: فقد قال بعض الفلاسفة: الطعام إذا خرج نجوه قبل ست ساعات فهو مكروه من المعدة، وإذا بقي فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو ضرر على المعدة، ويقال: إنّ حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سدّ مجراه ففاض من جوانبه، ويقال: إنّ أرواح المفاصل ميراث حبس الريح، قال الشيخ أبو طالب: قرأت في الحكمة مدار صلاح الأمور في أربعة: الطعام لا يؤكل إلاّ على شهوة، والمرأة لا تنظر إلاّ إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلاّ الطاعة، والرعية لا يصلحها إلاّ العدل، وقيل لبعض حكماء الروم: أيّ وقت الطعام فيه أصلح فقال: إما لمن قدر فإذا جاع وإما لمن لم يقدر فإذا وجد، ويقال: إذا كثرت المقدرة نقصت الشهوة، وقال كسرى لجلسائه: أي خصلة في الإنسان أضرّ؟ فقالوا: الفقر، فقال: البخل أشدّ من الفقر، لأنّ الفقير لا يجد ولابخيل يجد ولا يأكل، وقيل لرجل رؤي سميناً ما أسمنك؟ فقال: أكل الحار وشرب القار والاتكاء على شمالي والأكل من غير مالي، وقيل لأخر رؤي حسن الجسم: ما أحسن جسمك؟ قال: قلة الفكر وطول الدعة والنوم على الكمطة، وقيل لآخر رآه حكيم سميناً: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك فما هي؟ قال: آكل اللباب وصغار المعز وأدهن بجام بنفسج وألبس الكتان، والعرب تقول:العاشية تهيج الآبية؛ يعني أنّ الذي لا يشتهي الطعام إذا نظر إلى من يأكل هاجه ذلك على الأكل الذي يأباه لما رأى الآخر تعشى، وذكر الأصمعي أنّ بعض الحكماء أوصى ابنه فقال: يا بني لا تخرج من منزلك حتى تأخذ حلمك؛ يعني تتغذى وكذلك يقال في تناول الشيء قبل الخروج إلى السوق وقبل لقاء الناس أنه أقلّ للشهوة في الأسواق وأقطع للطعام بلقاء الناس، وأنشد هلال بن مجشم شعراً:
وأنّ قراب البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
ورؤي بعض الصوفية يمشي في السوق وهو يأكل وكان ممن يشار إليه قال: فقلت له: تأكل في السوق؟ فقال: عافاك اللّه إذا جعت في السوق آكل في البيت، قلت فلو دخلت بعض المساجد؟ فقال: أستحي منه أن أدخل بيته للأكل، هذا لأنه رأى الأكل من أبواب الدنيا، فدخل في طريقها كما قيل: الأسواق موائد الآباق أبقوا من الخدمة فجلسوا في الأسواق، وفي خبر ابن عمر قال: كنا نأكل في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام، وقال بعض أهل الطب: لحمية أحد العلّتين، ويقال: الحمية للصحيح ضارة كما أنها للعليل نافعة، والدواء إذا لم يجد ما يعمل فيه وجد الصحة فعمل فيها وأنشد بعض العرب شعراً:
وربة حام كان للعبد علّة ... وعلّة جرّ الداء حفظ التقلل
وقال لقمان: من احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك مما يأكل من العوافي، وكان يقال: ليس الطبيب من أحمى الملوك ومنعهم من الشهوات، إنما الطبيب من خلاهم وما يريدون، ثم دبر سياستهم على ذلك حتى تستقيم أجسادهم، وقال مدني عندنا بالحجاز لبعض الأعراب: أخبرني بما تأكلون وما تدعون، فقال: نأكل ما أدب ودرج إلاّ أم حنين فقال المدني: ليهن أم حنين منكم العافية، وفي الخبر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد فقال له:تأكل التمر وأنت رمد؟ فقال: يا رسول اللّّه إنما آكل بهذا الشق الآخر يعني جانب العين السليمة، فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
ذكر أخبار جاءت في التقلل والحمية وذم البطنة(2/142)
في حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: قال أبو الدرداء: بئس العون على الدين قلب نجيب وبطن رغيب ونعظ شديد نجيب، يعني خفيفاً ضعيفاً، ورغيب يعني واسعة طامعة، قيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟ فال: الجوع أعلم، أي به يطيب الطعام: كما قيل: نعم الإدام الجوع ما ألقيت إليه قبله، قال العتبي: قال عبيد اللّه لرجل من أهل الدمينة: يا أخي إني لأعجب أنّ فقهاءكم أظرف من فقهائنا، وعوامكم أظرف من عوامنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: فتدري لِمَ ذاك؟ قلت: لا، قال: الجوع ألا ترى أنّ العود إنما صفي صوته من خلوّ جوفه؟ يقال دعا عبد اللّه بن الزبير الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهم فحضر هو وأصحابه فأكلوا ولم يأكل هو فقيل له في ذلك، قال: إني صائم، ولكن تحفة الصائم قال: وماهي؟ قال: الدهن والمجمرة، وكذلك يقال: الكحل والدهن أحد القرابين واللبن أحد اللحمين والفاكهة، والحديث للضيف أحد الضيافتين، فيستحب لمن كان صائماً فحضر ولم يأكل أن يطيب ويحيي فذاك زاده، روي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر كان على خوان معاوية فرأى معاوىة لقم عبد الرحمن، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة وحده فقال له: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتلّ، قال معاوية: مثله لا يعدم العلّة، وقيل لأبي بكرة: إنّ ابنك أكل حتى بشم، قال: لو مات ما صلّيت عليه، ويقال للبشم سكر كسكر الخمر، وسئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ما الدواد الذي لا داء فيه، فقال: هو اللازم؛ يعني الحمية، وقيل لجالينوس: إنك تقلّ من الطعام فقال: غرضي من الطعام أن آكل لأحيا وغرض غيري من الطعام أن يحيا ليأكل، ويقال: ما أدخل الإنسان جوفه أنفع من الرمان ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلّل من المالح خير من أن يستكثر من الرمان، هذا لذّم الاستكثار وإن كان مما ينفع، ومدح القلّة وإن كان ما يضرّ، حدثت عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه قال: قال لابنه: يا بني إن طول الجلوس على الخلاء يرفع الحرارة إلى الرأس ويورث الباسور ويبجبع له الكبد، اجلس هويناً وقم، قال: حكمه على باب الحش، ويقال: سأل الحجاج جلساءه: ما أذهب الأشياء للإعياء؟ قالوا: أكل التمر، وقال بعضهم: الحمام، وقال بعضهم: الجماع، وقال آخر: الصمائخ، فقال يتاذوق: أذهب الأشياء للإعياء قضاء الحاجة، حدثت عن بعض الأطباء أنّ رجلاً شرب خبث الحديد المعجون فبقي في جوفه واشتّد به وجعه، قال: فسحقت له قطنة مغناطيس وسقيته إياه فتعلق بالخبث وخرج مع الغائط.(2/143)
وروى الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال: قال يتاذوق الفيلسوف: إنّ اللحم على اللحم يقتل السباع في البرية، قال: ثم قال أبو جعفر: قالت جارية لنا: كان لنا ظبي فمرّ بعجين قد هيّئ فأكل منه حتى حبط؛والحبط انتفاخ الجنينين فسلخ فوجد قد شرق بالدم، فقال يونس الطبيب: هكذا يصيب الإنسان إذا بشم يشرق قلبه بدمه، وقال الأصمعي عن جعفر والي البصرة إنه قال لأنسان أكول يقيء إذا أكل: لا تفعل، فإن المعدة تضغن إلى القيء كما تضغن الدابة العلف ولا ينضج الطعام؛ معنى تضغن أي تألف وتعتاد، وقال بعضهم: سئل يتاذوق عن البخر فقال، دواؤه الزبيب يعجن بالشعير، ثم يؤكل أسبوعين أو ثلاثاً، وقال الأطباء: معرفة خفّة الماء أن يكون سريع الغليان سريع البرد، ويكون قبالة الشمس مجراه على الشمال ومروره على الطين الأحمر وعلى الرمل، ذكر أبو طالب أنّ هذا آخر الزيادة من الأقوال، وروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أكرموا الخبز فإن اللّه قد أنزله من السماء، فمن بركات الخبز أنه لا ينتظر به أدام وىؤكل مع ما حضر معه من الملح والخلّ والبقل وغيره، وأنْ لا يجعل تحت شيء من آلة المائدة ولا تحت غضارة، مثل أن يسند به شيء ولا يتّخذ طبقاً لشيء، فإن وضع عليه ما يؤكل فلا بأس، ومن السنّة والأدب أن لا ينتظر بالطعام غائب إذا حضر جماعة، ولكن يأكل من حضر؛ فإن حرمة الحاضر مع حضور الطعام أوجب من انتظار الغائب إلا أن يكون الغائب فقيراً فلا بأس أن ينتظر ليرفع من شأنه ولئلا ينكسر قلبه، وإن كان الغائب غنياً لم ينتظر مع حضور الفقراء فإن انتظار الغني معصية لما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، فسمي الطعام شريراً لأجل الأغنياء، والطعام لا تعبد عليه، وإنما الشر اسم لأهل الطعام الداعين الأغنياء عليه التاركين للفقراء، فأما طعام المآتم فهو على ضربين؛ نوع منه يصنعه أهل الميت للنوائح والبواكي ومن يينيهم على الجزع، فإن أكل هذا مكروه منهيّ عنه، ونوع يحمل إليهم لشغلهم عن أنفسهم وإصلاح طعامهم بميتهم؛ فهذا لا بأس به وبحمله إليهم، ويجوز الأكل منه إن أطعموه غيرهم لأنه من البرّ والمعروف إن لم يرد به النوائح ولا المجالسسة على القبور للجزع والأسى.(2/144)
وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب: إنّ آل جعفر شغلوا بميتهم عن صنيع طعامهم فاحملوا إليهم ما يأكلون؛ فهذا سنّة في حمل الطعام إلى أهل الميت، ومن دعي إلى طعام وكان في بيت الداعي إحدى خمس خصال فلا يجبب دعوته ولا حرج في ترك إجابته إن كانت مائدته يشرب بعدها مسكر، وإن لم يعاينه في الحال، أو كان في الأثاث فراش حرير، أو ديباج، أو كان في الآنية ذهب، أو فضة، أو كان متخذ الحيطان مستراً بالثياب كما تستّر الكعبة، أو كان صورة ذات روح في ستر منصوب أو في حائط، ومن أجاب الدعوة فرأى إحدى هذه الخمس فعليه أن يخرج أو يخرج ذلك، فإن قعد فقد شركهم في فعلهم، دعي أحمد بن حنبل رحمه اللّه إلى طعام فأجاب في جماعة من أصحابه، فلما استقر في المنزل رأى إناء من فضة في البيت فخرج وخرج أصحابه معه ولم يطعموا، ويقال: إنه خرج من أشنانة رآها كان رأسها المغطاة به فضة لم يصبر فخرج لذلك، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يدعى إلى الوليمة من أي شيء يخرج؟ قال: خرج أبو أيوب حين دعي فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فرأى شيئاً من زيّ العجم فخرج وقال: من تزيا بزيّ قوم فهو منهم، قلت لأبي عبد اللّه: فإن رأى شيئاً من فضة ترى أن يخرج؟ قال: نعم أرى أن يخرج، قال: وسمعته يقول: دعانا رجل من أصحابنا قبل المحسنة وكنا نختلف إلى عفان، فإذا إناء من فضة فخرجت فأتبعني جماعة، فنزل بصاحب البيت أمر عظيم فقلت لأبي عبد اللّه:الرجل يدعي فيرى المكحلة رأسها مفضضة قال: هذا يستعمل كل ما لا يستعمل، فأخرج منه، إنما رخّص في الضبة أو نحوها فهو أسهل، وسألته عن الكلة فكرهها، قلت: فألقيه أو أخليها؟ فلم يرّ بها بأساً، قلت لأبي عبد اللّه: إنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره هل يجوز كسره؟ قال: نعم، قال أبو بكر المروزي: سألته عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج ترى أن يقعد عليه أو يعقد في بيت آخر؟ قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة.(2/145)
وقد روي عن ابن مسعود الخروج قلت: ترى أنْ يأمرهم؟ قال: نعم، يقول: هذا لا يجوز، قلت لأبي عبد اللّه: الرجل يكون في بيت ديباج يدعي إليه للشيء؟ قال: لا تدخل عليه ولا تجلس معه، قلت: الرجل يدعى فيرى الكلة فكرهها وقال: هو رياء لا تردّ من حرّ ولا تردّ من برد، قلت: الرجل يدعى فيرى ستراً فيه تصاوير، قال: لا تنظر إليه قلت: قد أنظر إليه، قال: إنْ أمكنك خلعه خلعته، قال: سألت أبا عبد اللّه عن الستر يكتب فيه القرآن فكره ذلك قال: ولا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره، قلت: الرجل يكتري البيت فيه التصاوير تري أن يحكه؟ قال: نعم، قلت لأبي عبد اللّه: دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس؟ قال: نعم، وسألته عن الجوز ينثر إسناده جيد أبو حصين عن خالد بن مسعود قال أبوبكر المروزي: دخلت على أبي عبد اللّه وقد حذق ابنه قد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال:هذه نهبة، وقال هاشم بن القاسم: حدثنا محمد قال: كان طلحة والزبير يكرهان النثر في كل شيئ في العرس وفي الحذاق وغيرهما من الجوز والسكر، قال: وسألت أبا عبد اللّه عن قرض الرغيف والخمير فلم يرَ به بأساً آخر الزيادة في الجديد، ومن الأصل الأول خمسة لا تجاب دعوتهم وإن دعي رجل ولم يعلم ثم علم فلا حرج عليه، أن يخرج من بيته المبتدع، وأعوان الظلمة، وآكل الربا، والفاسق المعلن بفسقه، ومن كان الأغلب على ماله الحرام ولم يكن يردع عن الآثام في معاملته الأنام لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تأكل إلاّ طعام تقي وذاك لأن التقي قد كفاك الاجتهاد في المأكول للتقوى فأغناك عن السؤال عنه، لأن التقي إذا أطعمته استعان على الطعمة على البرّ والتقوى فتصير معاوناً له عليها، كما قال تعالى، فيشركه في برّه والفاجر والظالم إن أكلت طعامهما صرت من أعوان الظلمة بمشاركتك لهما في الطمعة، كما سأل خياط ابن المبارك فقال: إني أخيط لبعض وكلاء هؤلاء يعني الأمراء فهل يخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة، أعوان الظلمة من يبيع منك الخيوط والإبر، وقد عمل ذو النون المصري أغمض من هذا الورع، وما سمعت أدق منه، إن السلطان لما سجنه في كلام أنكره عليه العامّة من العلم الغامض كانت المائدة من قبل السلطان تختلف إليه فلم يكن يطعم منها شيئاً، ولم يأكل أياماً كثيرة مدة مقامه في السجن، فكانت له أخت قد آخته في اللّه تعالى تبعث إليه من مغزلها وتدفعه إلى السجّان فيحمله إليه ويعرفه أنه من قبل تلك العجوز الصالحة، فلم يأكل أيضاً منه، فلما خرج لقيته العجوز فعاتبته على ردّ الطعام وقالت: قد علمت أنه كان من مغزلي؟ فقال: نعم، إلا أنه جاءني على طبق ظالم فرددته لأجل الظرف يعني بهذا يد السجان،ولعمري أنّا روينا عن عليّ عليه السلام أنه أهدى له دهقان بالكوفة في يوم عيد لهم خبيصاً على جام من ذهب يكرمه بذلك، فردّه ولم يأكل منه، قال: رددته لأجل ظرفه الذي كان فيه، وقيل: من أكل لقمة من حرام قسا قلبه أربعين يوماً، ويقال: أظلم قلبه، ومن أكل الحلال أربعين يوماً زهد في الدنيا وأدخل اللّه تعالى في قلبه وأجرى الحكمة على لسانه، وقال بعض السلف: أوّل لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر اللّه تعالى له بها ما تقدم من ذنبه، وقال الآخر: من أقام نفسه مقام ذلّ في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء، وكان سهل يقول في السائحين في الأمصار والمنقطعين بالأسفار: إنّ الرجل ليدخل قرية فيجوع، ولا يقدر على الشبهات فلا يأكل، ويبيت تلك الليلة جائعاً، فيجعل في ميزانه جميع أعمال أهل تلك القرية، ومن أجبره سلطان على طعام أو قدم إليه شبهة أكرهه على أكلها، فليتعلل بعلالة منه، وليتغيّر تغيّراً، ولا يقصد طيباً ولا يكبر اللقمة، ولا يستكثر في الطعمة وليأكل ما يسدّ رمقه، وما يخاف التلف بنفسه، إن هو فارقه، حدثني بعض الشهود: إنّ مزكياً من بعض أهل العلم بخراسان ردّ شهادة شاهد أكل من طعام سلطان كان أجبره فقال: إنه كان أجبرني على الأكل، فقال: قد علمت ذلك ولم أردّ شهادتك لأنك أكلت، ولكنك رأيتك تقصد الطّيب وتكبر اللقمة فهل كان أجبرك على هذا؟ فلهذا جرحتك عند الحاكم، قال لنا الشيخ وأجبر السطان هذا المذكي على الأكل من ماله فقال: اختاروا إحدى(2/146)
خصلتين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب واللّه أعلم.ين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب واللّه أعلم.
الفصل الحادي والأربعون
ذكر فضائل الفقر
وفرائضه ونعت عموم الفقراء وخصوصهم وتفصيل قبول العطاء ورده وطريقة السلف فيه:
قال اللّه الكبير المتعال: (لِلُُقُقَرَاء المُهَاجرِينَ الذَّينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم) الحشر:8، وقال تبارك وتعالى: (لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سبيل اللّه لاَ يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً في الأَرْضِ) البقرة:273 فقدّم وصف أوليائه بالفقر على مدحهم بالهجرة والحصر، واللّه تعالى لا يصف من يحبّ إلاّ بما يحبّ، فلولا أنّ الفقر أحبّ الأوصاف إليه ما مدح به أحباءه وشرّفهم به، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالفقر وأخبر بفضله في غير حديث؛ منها حديث إسماعيل بن عياش عن عبد اللّه بن دينار عن ابن عمران عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: أي الناس خير؟ فقالوا: موسر من المال يعطي حق اللّه عزّ وجلّ في نفسه وماله، فقال: نعم الرجل هذا وليس به، قالوا: من خير الناس يارسول اللّه؟ قال: فقير يعطي جهده؛ ومنها حديث بلال أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: إلقَ اللّه عزّ وجلّ فقيراً ولا تلقه غنياً، وفي الحديث الذي روي عن ابن الأعرابي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا أفضل من الفقير إذا كان راضياً، وفي الحديث الآخر: أنّ اللّه تبارك وتعالى يحبّ الفقير المتعفّف أبا العيال، وفي الخبرين المشهورين: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، والحديث الآخر: اللّهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين؛ فهذا منه صلى الله عليه وسلم تفضيل الفقراء وإكرام لهم وتنبيه وحثّ على فضل الفقر، وروينا عنه صلى الله عليه وسلم: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجيعاً في الجنة ضعفاؤها.(2/147)
وروينا في خبر إسماعيل النبي عليه السلام المفسّر لخبر موسى عليه السلام: أنّ إسماعيل قال: يارب أين أطلبك؟ فقال اللّه عزّ وجلّ: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، قال: ومن هم؟ فقال تعالى: الفقراء الصادقون، وقال أبو سليمان الدارني: الأعمال كلها في الخزائن مطروحة إلاّ شيئين، فإنه مخزون مختوم عليه لا يعطيه إلاّ من طبعه بطابع الشهداء، الفقر مع المعرفة، وكان يقول: تنفّس الفقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنيّ عمره كله، وقد كان بشر يقول: مثل الغني المتعبّد مثل روضة على مزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد جوهر في جيد الحسناء، وقال: العبادة لا تليق بالأغنياء، وكان يقول: التقوى لا تحسن إلاّ في فقر، وقال له رجل فقير: يا أبا نصر ادع اللّه عزّ وجلّ لي فقد أضرّ بي الفقر والعيال، فقال له بشر: إذا قال لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع اللّه تبارك وتعالى أنت في ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي، وقال بعض السلف: أي أهل المعرفة باللّه عزّ وجلّ أنْ يقبلوا هذا العلم وكرهوا أن يسمعوه من الأغنياء وزعموا أنه لا يليق بهم، وقد كان بعض الفقراء يقول: هذا العلم يعني علم المعرفة عوضه اللّه سبحانه وتعالى الفقراء بدلاً من الدنيا لا يظهره إلا هم ولا يوجد إلاّ عندهم، روحهم اللّه عزّ وجلّ به في الدنيا وجعله عوضاً لهم مما تركوه له اليوم، فإذا كان غداً فهم الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين وهو المزيد، وقد روينا في تفسير قوله تعالى: (وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) الرعد:23 قال: الفقر في الدنيا.
فمن فرائض الفقر عند الفقراء: الصبر عليه بترك المسألة قبل ورود الفاقة، وقطع الهمّ عن التشرّف إلى الخلق، وأن لا يتناول عند الحاجة ما حظره عليه العلم، ولا يجاوز حدّاً من حدود الأحكام، وإن سأل عند حاجة لم يستكثر ولم يدّخر، فإن أعطى فوق كفايته فاقتناه ليكف عن المسألة فلا بأس به، ويتوخّى في مسألته المتّقين: ومن يعلم أنه يتحرّى في مكسبه فإن مسألته عمل له يلزمه التورع فيها، كما يلزمه الورع في مكسبه، ولا يسأل من يعلم أنه لا يبالي من أين يأكل، ومن لا يردع عن الحرام في مكسبه والعبد بنفس الحاجة والجوع يستحق على إخوانه شبعة يقيم بها صلبه ويسكن بها نفسه، وبنفس العري والعدم يستحق عليهم ثوباً يواري به عورته، وذلك لازم للمسلمين وواجب له، فإن قام به بعضهم سقط عن بعض وجوبه، وإن سأل ذلك فلا شيء عليه، ويقال إنّ كفّارة المسألة صدق السائل في مسألته وصدقه أن لا يسأل إلاّ بعد فاقته ومع خوف التقصير في أداء فرائضه من اختلاف عقله وتشتّت قلبه، وأن يكفّ مع أول الكفاية، ولا يدخر بعد الشبع ليستكثر، ولا يجعل المسألة إن دفع إليها له عادة وكداً ولا حرفة، ومهما استغنى عن السؤال فليكن ذلك أحبّ إليه، فإنه أفضل له، وقد سأل ثلاثة من الأنبياء عند فاقتهم سليمان عليه السلام لما سلب ملكه أربعين يوماً، وموسى والخضر عليهما السلام لما استطعما أهل القرية.
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: للسائل حقّ وإن جاء على فرس، وفي الحديث: ردوا السائل ولو بظلف محرق، فلو كانت المسألة إثماً وعدواناً لم يحثّ على الإعطاء فيكون معاوناً على الإثم والاعتداء، ولكن ذلك من البرّ والتقوى، لأنه سبب منه ودالّ عليه، فعاون بالأمر به لحرمة الإسلام، ولأن المواساة من المعروف والإحسان، وسمع عمر رضي اللّه عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال: يا يرفا عشِّ الرجل، فعشّاه، ثم سمعه ثانية يسأل فقال: ألم أقل لك عشِّ الرجل؟ فقال: قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يدة مخلاة مملوءة خبزاً فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم نثر المخلاة بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال: لست سائلاً، أنت تاجر.(2/148)
وروينا عن عليّ عليه السلام أنّ للّه عزّ وجلّ في خلقه مثوبات فقر وعقوبات فقر، فمن علامة الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن خلقه، ويطيع به ربّه، ولا يشكو حاله، ويشكر اللّه تعالى على فقره، ومن علامات الفقر إذا كان عقوبة أن يسوء عليه خلقه ويعصي به ربّه ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء؛ فهذا كما قال عليه السلام، وهذا النوع الذي هو عقوبة من الفقر هو الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو فقر النفس، لأن الفقر من المال إنما هو الافتقار إلى الخلق والفقر إلى الأشياء مع عدم صدق الحال.
وقد روينا في الخبر: مسألة الناس من الفواحش ماأحلّ من الفواحش غيرها، وبايع رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة، ثم قال كلمة خفيفة: ولا تسألوا الناس شيئاً فكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالتعفّف والكفّ عن المسألة ويقول: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه عزّ وجلّ، وقال: من لم يسألنا فهو أحبّ إلينا، وقال عليه السلام: استغنوا عن الناس، وما قلّ من السؤال فهو خير، قالوا: ومنك يارسول اللّه قال: ومني، فلو لم يكن في ترك المسألة لادعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع ليس عليه لحم، وفي خبر آخر: كانت مسألته خدوجاً وكدوحاً في وجهه، وفي الحديث: استغنوا بغنى اللّه عزّ وجلّ، قالوا: وما هو؟ قال: غداء يوم أو عشاء ليلة، وفي الخبر: من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب، فقد سأل إلحافاً، ومن كان معه هذا القدر من الدنيا لم يخرجه من عموم الفقراء، فإن سأل مع ذلك أخرجه من عمومهم، ومن سأل قبل الجوع أو بعد الشبع أو سأل ليدّخر أو سأل وله غداء يوم أو عشاء ليلة أخرجه ذلك من خصوص الفقراء، وسئل سفيان الثوري عن أفضل الأعمال فقال: التجمّل عند المحنة، وعلى الفقير أن لا يزكي غنياً لأجل عطائه، ولا يذمّه ولا يمقته لأجل منعه، ولا يعظم أهل الدنيا، ولا يكرّمهم لأجل دنياهم، وقال ابن المبارك: من تواضع الفقير أن يتكبر على الأغنياء، وعن عليّ عليه السلام في حكاية المنام: ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب اللّه عزّ وجلّ، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة باللّه عزّ وجلّ، ومن فرائض الفقر أن لا يسكت الفقير عن حقّ، ولا يتكلم بهوى لأجل دوام العطاء من أحد، ولا لاجتلاب نفع؛ فإن ذلك وليجة في الدين ومداهنة للمؤمنين، ومن فضائل الفقر أن لا يدّخر لأكثر من أربعين يوماً، ولا يكون المدّخر أكثر من أربعين درهماً، والأصل في ذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى قال عزّ من قائل: (وَإِذْ وَاعَدنَا مُوسى أرْبعينَ لَيْلَةً) البقرة:51 فإذا فسح له في تأميل أربعين فالادخّار من الأمل؛ فإن أمل حياة أربعين يوماً جاز له أن يدّخر لأربعين، ومن قصر أمله إلى يوم وليلة لم يدّخر إلاّ ليومه وليلته، فترك الادخّار مقتضى قصر الأمل، وقد جعل غنى الفقير في أربعين درهماً فهذا لعموم الفقراء، فأما خصوصهم فإن غناءهم غداء يوم أو عشاء ليلة لقصر أملهم، كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: استغنوا بغنى اللّه عزّ وجلّ، قيل: وما غنى اللّه تبارك وتعالى؟ قال: غداء يوم أو عشاء ليلة، ومن فضل الفقير أن لا يهتم برزق غد كما إن اللّه تبارك وتعالى لا يطالبه بعمل غد قبل مجيئه، ولأنّ الرزق معلوم مقسوم والوكيل حفيظ قيوم، وأن يكون راضياً بفقره شاكراً عليه ويغتبط بالفقر لعظيم نعمة اللّه عزّ وجلّ عليه فيه، ويخاف أن يسلب فقره أشد من خوف الغني أن يسلب غناه لشدة اغتباطه به.(2/149)
وفي الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر الفقراء أعطوا اللّه عزّ وجلّ الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلاّ فلا، وروى عبد الرحمن بن سابط عن عليّ عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: أحب العباد إلى اللّه عزّ وجلّ الفقير القانع برزقه، الراضي عن اللّه عزّ وجلّ، وينبغي أن يغتمّ بالاتّساع ويفرج بالضيقة والمصيبة، ويحبّ المساكين ويفضّلهم على أبناء الدنيا، ويرحم الأغنياء ولا يذمّهم لأجل غناهم، ويؤثر الفقراء ويقربهم ويحسن على الفقير خلقه، ويحمل معه صبره، ويستر بالتعفف فقره، ويظهر الغنيّ ولا يكشف فقره بالتكرّه له والشكوى، في الخبر عن اللّه عزّ وجلّ: إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنيّ مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وقال موسى: يا رب مَنْ أحباؤك من خلقك حتى أحبّهم لأجلك؟ فقال: كل فقير فقير التكرار فيه لمعنيين؛ أحدهما المتحقق بالفقر، والثاني الشديد الحاجة والضرّ، وقال عيسى صلى الله عليه وسلم إني لأحب المسكنة وأبغض الغنى، وقيل: كان من أحبّ أسمائه إليه أن يقال له: يامسكين، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي تلقاه من ربه وأمره به: أسألك الطيّبات، وفعل الخيرات، وحبّ المساكين؛ ومما يعتبر به فضل الفقر على الغنى أنّ أفضل الخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فمن شاركه وقارنه بمعنى وصفه فهو الأفضل لأنه الأمثل فالأمثل وهم الفقراء، وصفهم اللّه عزّ وجلّ بوصفه فقال تعالى: (وَلاَ عَلَى الَّذينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) التوبة:92 الآية - فلما شاركوه في العدم وكان حال الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأفضل والأتمّ دلّ على فضل حالهم على غيرهم.(2/150)
وقد قال اللّه عزّ وجلّ:(إنَّمَا السَّبيلُ عَلَى الَّذينَ يَسْتأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) التوبة: 39، وقال تعالى:(كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: 6 - 7، فوصف الأغنياء بالطفو وأوقع عليهم الحجة، وقال في وصف الفقراء: (يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ) البقرة:372، فلولا أنّ الغنى مفضول ما نسب من وصفهم به إلى النقص، والغنى باب الدنيا وأصل التفاخر والتكاثر المذموم، والفقر باب الآخرة وأصل الزهد والتواضع المحمود، وعند أهل المعرفة: إنّ الغنى من الصفات التي لا ينبغي أن ينازع فيها ومكروهة لمن ابتلي بمعانيها، وأنه مثل العزّ والكبر وحبّ المدح والذكر، فمن أحبّ شيئاً من ذلك وطلبه فقد نازع اللّه تعالى لبسته، وتركوا ذلك لأجل اللّه عزّ وجلّ لأنه من صفات الربو بية، وسلّموه له خوفاً منه أو حبّاً له، وإن الفقر من صفات العبودية مثل الرجاء والخوف والتواضع والذلّ، فمن طلب ذلك وأحبّه فقد تحقّق بوصف العبودية، واللّه سبحانه وتعالى يحبّ أن يتحقق العبد بأوصافه لأنه عبد ذليل، ويكره أن ينازعه معنى صفاته لأنه ملك جليل، ومن أحبّ الغنى دلّ على حبه البقاء، وكان سهل يقول: حبّ الغنى شرك في الربوبية؛ أي لأنّ البقاء من صفات الباقي، ومن فضل الغنى على الفقر دلّ على حبه للغنى فظهر بذلك محبة الأغنياء لأنّ حبّ الوصف دليل حبّ الموصوف، وحبّ الشيء أيضاً دليل على بغض ضده، فإذا أبغض الفقراء أبغض الفقر، وبغض الفقر لحبّ الغنى، فقد اختار الرغبة على الزهد، والكثرة على القلة، والعزّ في الدنيا على الذلّ، وفي هذا إيثار الدنيا على الآخرة، وهدم الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين في تفضيل الفقر وتشريف الأغنياء، ويقال: كان الفقر شرف المؤمن وكان الفقراء فيما سلف في المؤمنين بمنزلة الأشراف فيكم اليوم ولا خفاء بفساد هذا القول ونقصه عند العلماء باللّه تعالى، ثم إنّ الفقراء على منازل ثلاث؛ فقراء الأغنياء وهم السؤال عند الفاقات، الكافون نفوسهم مع الكفاية، القانعون بالكفاف؛ وهم طهرة الأغنياء، ومزيدهم من اللّه تعالى، وهم الذين جعل اللّه لهم في أموال الأغنياء سهماً، لأنّ منهم السائل والمحروم، ومنهم القانع والمعتر، والطبقة الثانية فقراء الفقراء وهم المتحققون بالفقر، المختارون له، المؤثرون إياه على الغنى، لعظم معرفتهم بعظيم فضيلة أهل التعفّف والصيانة، لا يبتذلون للسؤال ولا يعرضون في المقال، راضون بالميسور من مولاهم، تعرفهم إذا رأيتهم سيماهم: يحسبهم الجاهل أغنياء لترك المسألة والشكوى، ومنهم المحروم حرم السعي للدنيا، ومنهم المحارف انحرفت عنه الأسباب، ومنهم القانع قنع بما يصل إليه من غير امتهان وتبذل فيه، ومنهم المعتر رضي عن اللّه عزّ وجلّ بما يعتريه، وقيل: إنه ما أعطى أحد شيئاً من الدنيا إلاّ قيل له خذه على ثلاثة لثلاث؛ شغل، وهمّ، وطول حساب، وأما الطبقة الثالثة فهم أغنياء الفقراء وهم الأجواد الأسخياء أهل البذل والعطاء، يأخذون ويخرجون، ولا يستكثرون ولا يدّخرون، إن منعوا شكروا المانع لأنه هو المعطي فصار منعه وإنْ ضيّق عليهم حمدوا الواسع لأنه هو المحمود فصار ضيقه رخاء، وإنْ أعطوا بذلوا وآثروا فهم الزاهدون في الدنيا لأنهم موقنون فكفاهم اليقين غنى.(2/151)
وقال إبراهيم بن أدهم لشقيق بن إبراهيم حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك؟ فقال: تركتهم إن أعطوا شكروا، وإن أعطوا آثروا فقّبل رأسه وقال: صدقت ياأستاذ وقد كان بشر يقول: الفقراء ثلاثة؛ فقير لايسأل وإن أعطى لم يأخذ؛ فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطى أخذ فهو مع المقربين في حظيرة القدس، وفقير يسأل عند فاقته؛ فهذا مع الصادقين، وصدقه في حاله كفّارة مسألته، ودفع إلى إبراهيم بن أدهم ستون ألفاً وكان عليه دين وبه حاجات إليها فردّها فعوتب في ذلك فقال: كرهت أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء لستين ألفاً، وقد كانت عائشة رضي اللّه عنها تفرق مائة ألف وإنّ درعها لمرقوع فقالت لها الخادمة: لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه فقالت: لو ذكرتني لفعلت، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أوصاها فقال: إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تنزعي ثوباً حتى ترقعيه فأما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء فلعل متوهماً لم يتدبر أول الكلام فظن أنّ هذا تفضيل للأغنياء على الفقراء وإنما هو تحقيق لقوله الأول: قولوا كذا وكذا، فإنه لا يسبقكم أحد قبلكم، ولا يدرككم أحد بعدكم، فقالوه، فلما سمع الأغنياء بذلك فقالوا كقولهم هجس في قلوب الفقراء منه شيء، فاستفتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليتثبتوا في قوله فقال: الأمر كما قلت لكم لا يسبقكم أحد قبلكم إذ قد صحّ منه هذا القول في الأول وهو معصوم فيه، فلو لم يكن كذلك لنقض آخر قوله أوله، ولا يجوز ذلك، وأيضاً فإن حمل على ظاهره كما تأوله، فإنه فضل اللّه تعالى في الدنيا، لا تفضيل لهم به في الآخرة على مقامات الفقراء، إلاّ إنّ الأولى قد قامت بفضلهم، ويصلح بمعناهم فضل أعطاهم اللّه تعالى بهذا القول الذي قلتموه، زادهم اللّه به، لا أنه أفضل من مقامكم وحالكم بغيره، إذ قد ثبت فضلكم عليهم بوصف الفقر وحال الصبر بغير هذا الذكر؛ وهذا التسبيح رجحان لكم تماماً على فضلكم بغيره، وهذا القول للأغنياء تفضيل من اللّه عليكم ورحمة، إلاّ إنهم يفضّلون به عليكم، ونحن فلم نقل: ليس الغنى طريقاً للأغنياء إلى اللّه وإنما فضّلنا طريق الفقراء لأنهم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، وعن الحسن في قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَسْتوِي الأحْياءُ ولاَ الأمْوَاتُ) فاطر:22، قال: الفقراء والأغنياء، فجعل الفقراء أحياء بمولاهم، وجعل الأغنياء موتى بدنياهم، وقال الثوري رحمه اللّه: إذا رأيت الفقير يداخل الأغنياء فاعلم أنه مراء، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لصّ، وقال بعض العارفين: إذا مال الفقير إلى بعض الأغنياء نحلت عروته، فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته، فإذا سكن إليهم ضلّ، فمن فضل الغنى على الفقر بعد الأخبار التي وردت في تفضيل الفقر والفقراء والغنى والأغنياء فأحسن حاله الجهل بالسنن لإيثار الرأي والهوى على ما فيه أثر وسنّة، لأن الأثر إذا جاء في شيء لم يكن للرأي فيه مدخل، وكان في مخالفته مع العلم به عناد ومحادة، نعوذ باللّه من الجهل والهوى ونسأله التوفيق للعلم والتقوى.
ذكر حكم من لا معلوم له من الأسباب(2/152)
فإن لم يكن للفقير معلوم من الدنيا وكان رزقه قد أجرى على أيدى العباد من غير تعويض منه لهم من صنائع الدنيا معتاد، فقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إن هذا المال مال اللّه فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه: فكان كالآكل ولا يشبع، وروينا من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه، وفي لفظ آخر فلا يرده فإن كان محتاجاً إليه وإلاّ فليصرفه إلى من هو إليه أحوج منه، وروينا عن الحسن وعطاء حديثاً مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتاه رزقه من غير مسألة فردّه فإنما هو يرده على اللّه، وروينا عن عابد بن شريح عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما لمعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً، وقال بعض العلماء: لو هرب العبد من رزقه لطلبه حتى يصل إليه كما لو هرب من الموت لأدركه، وقال أبو محمد رحمه اللّه: لو أنّ العبد سأل ربه فقال: لا ترزقني لما استجاب له وكان عاصياً، ويقال له: يا جاهل لا بدّ أن أرزقك كما خلقتك، وقد حدثنا بعض العارفين أنه زهد في الدنيا فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار، وقال: لا أسأل أحد أشياء حتى يأتيني رزقي إن كان لي رزق، قال: فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد أن يتلف، قال: يارب إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلاّ فاقبضني إليك فأوحى اللّه تعالى إليه: وعزتي لا أرزقنّك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس، فدخل المصر للأمر، وأقام بين ظهراني الناس، فجاءه هذا بطعام، وهذا بأدام، وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى اللّه إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا أما علمت أني أرزق عبد بأيدي عبادي أحبّ إليّ من أن أرزقه بيد القدرة.
وقال بعض المنقطعين إلى اللّه من العارفين: كنت ذا صنعة جليلة، فأريد مني تركها، فحاك في صدري: من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه، تنقطع إليّ وتتهمني في رزقك على أن أخدمك وليّاً من أوليائي، أو أسخر لك منافقاً من أعدائي، وفي خبر عن بعض السلف: أوحى اللّه تبارك وتعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني واتعبي من خدمك، وقال بعض المجاورين بمكة: كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل اللّه، فرأيت ذات لية فقيراً يطوف بالكعبة في طلمة الليل، حسن الهدى والسمت، قال: فكنت أتتبع آثار قدمه وأمشي خلفه من حيث لا يشعر، فلما قضى أسبوعه وقف في الملتزم بين الباب والحجر، فسمعته يدعو دعاء خفياً، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول: جائع كما ترى، عريان كما ترى، فما نرى فيما ترى يا من يرى ولا يرى، قال: فنظرت فإذا عليه خلقان رثاث، لا تكاد أن تواريه فقلت في نفسي: لا أجد لتلك الدراهم موضعاً خير من هذا، قال: فتبعته حتى انصرف إلى ناحية قبة زمزم يصلّي ركعتي الطواف، وذهبت إلى منزلي فجئت بالدراهم فدفعتها إليه وقلت: رحمك اللّه أنت في مثل هذا الموضع، وعلى مثل هذه الحالة، فخذ هذه تنفقها، قال: وصببتها في طرف إزاره بين يديه على الأرض، فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم فقال: أربعة ثمن مئزرين ودرهم أتفوّت به ثلاثاً، ثم قال: لاحاجة لي بسائرها، قال: فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان قد لبسهما، قال: فهجس في نفسي من أمره شيء، فقبض على يدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوط منها في جوهر من معادن الأرض تتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين، منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر، لم يظهر للناس، فقال: هذا كله قد أعطيناه فزهدنا فيه، ونأخذ من أيدي الخلق أحبّ إلينا لأنه أحبّ إلى اللّه، وأخف علينا في المطالبة؛ وهذه أثقال وفتنة، وذاك للعباد فيه رحمة ونعمة، وروينا في خبر: البلاد بلاد اللّه والخلق عباده، فأينما وجدت رزقاً فأقم واحمد اللّه.(2/153)
وروينا عن ابن عباس: اختلف الناس في كل شيء إلاّ في الرزق والأجل، أجمعوا على أنّ لا رازق إلاّ اللّه ولا مميت إلاّ اللّه، وقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لما خلق الأرزاق أمر الرياح أن تمزقها في أقطار الأرض ففرقها، فمن الناس من وقع رزقه في مائة ألف موضع، ومنهم من وقع رزقه في عشرة آلاف موضع، ومنهم من ألف موضع، ومنهم من مائة موضع، ومنهم في موضع وأقل وأكثر، ومنهم من وقع رزقه على باب منزله يغدو ويروم إليه، وكل عبد يسعى بأثره الذي كتب له حتى يستوفي رزقه الذي قسم له، فإذا فني أثره واستوفى رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه، واعلم أنّ العبد لا ينقطع رزقه أبداً منذ أظهرت خلقته كان في بطن أمه، غذاؤه مما تفيض الأرحام من دم الحيض، يعيش بذلك جسمه من ظاهره، ومعاه المستطيل من سرّته متصل بمعي أمه، يصل من بطنها مخ الطعام إلى بطنه، فيعيش بذلك؛ فإذا أذن اللّه عزّ وجلّ بخروجه بعث إليه الملك، فقطع ذلك المعي من موضع اتصاله بمعي أمه؛ فإذا دخل إلى الدنيا جعل رزقه من الدنيا؛ فإذا خرج منها فآخر رزقه من الدنيا أول رزقه من الآخرة؛ فإذا دخل في الآخرة كان رزقه من البرزخ كما كان في الدنيا بتلك المعاني لمعاينته المختلفة المحتملة؛ لذلك فإذا خرج من البرزخ ودخل في القيامة كان رزقه في الموقف على قدر حاله هناك؛ فإذا خرج من الموقف دخل أحد الدارين انتقل رزقه إليها فكان منها إلى أبد الأبد؛ فإذا شهد العبد هذا بيقين إيمانه اطمأن قلبه فاستوى عنده الرزق والأجل فعلم يقيناً أنّ لا بدّ من رزق كما لابدّ من أجل، فلم يكن عليه إلاّ مراعاة الأحكام فيه، وشهد من هذه الشهادة أنّ خلقاً لا يقدر أن يزيد في عمره ساعة ولا ينقص منه ساعة؛ فإذا أيقن بهذا كان مشغولاً بالمخالصة لمولاه فيما تعبده به وولاه، ثم أنّ الرزق على وجهين؛ عن معان لا تحصى وبأسباب لا تعدّ ولا تضبط، فمن الرزق ما يأتي العبد بسكونه وقعوده فيكون الرزق هو الذي تحرك إليه ويأتيه، ومنه ما يأتي العبد بحركته وقيامه فيكون يتسبب إليه ويطلبه، والرزق فيهما واحد والرازق بهما واحد، الحكمة والقدرة في المتحرّك القائم وفي الساكن القاعد واحد، إلاّ إنّ الأحكام فيهما متفاوتة، ثم إنّ الأشياء كلها على ضربين: مسخّر لك ومسلّط عليك، فما سخر لك سلطت عليه وهو نعمة عليك وعليك الشكر عليه؛ وهذا مقام الشكر على معنى الرزق، وما سلط عليك فقد سخرت له أنت وهو بلاء عليك وعليك الصبر فيه؛ وهذا مقام الصبر عن معنى الابتلاء، فمن شهد ما ذكرناه عرف حاله من مقامه فقام بحكم ما عرف، ومن لم يشهده جهل حاله ولم يدر مقامه فاضطرب فيه فضيّع حكم اللّه عليه والمستحبّ لمن لا معلوم له أن لا يأخذ مما آتاه إلاّ قدر الحاجة، وعلامة حاجته هو أن لا يأخذ إلاّ ما يحتاج أن يشتريه فهو حاجته في وقته؛ فذاك رزق من اللّه تعالى ومعونة له، فأخذ هذا أفضل وما آتاه مما لا يحتاج أن يشتريه أو عنده مثله فهو اختبار له وابتلاء لينظر كيف زهده في فضول حاجته، وكيف رغبته في الاستكثار، لأنه إذا ملك الشيء فكأنه قد كان له فيعلم الآن بمعرفته أنّ هذا ابتلاء من اللّه، وفيه حكمان؛ أحدهما أن يأخذه في العلانية ويخرجه في السرّ إلى من هو أحوج إليه منه؛ هذا طريق الأقوياء، ومن أشد الأشياء على النفس وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عمر وغيره؛ وهذا حال علماء الزاهدين، والحكم الآخر أن لا يأخذه ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج إليه منه لأن اللّه تعالى له عليه فيه أحكام؛ وهذا هو الطريق الأوسط من طرق الزهاد، فإما أن يأخذه من غير حاجة ليتكثر به ويدّخره فلا أعلم في هذا طريقاً إلى اللّه تعالى، وما لم يكن طريقاً إلى اللّه فهو من طرقات الهوى إلى العدوّ، ثم ينظر الآخذ فيما آتاه من اللّه إلى أحكامه فيه، فإن كان ما يأتيه من الزكاة المفروضة على أربابها المشترط له الأوصاف الستة المنصوص عليها في الكتاب؛ فذلك أضيق عليه وألزم له في الاحتياط لأخيه أن يضعه في حقيقة موضعه عند أخيه نصحاً للّه تعالى في دينه ونصحاً لإخوانه في ربه فإنّ الأفضل في ذلك أن لا يضعه إلاّ في أربعة أشياء: مطعم، وملبس، ومسكن، ودين في قضائه عنه؛ فهذا من أفضل ما صرفت فيه الواجبات.(2/154)
وقد روينا عن ابن عباس: من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه، وفضول الدنيا وهو الزيادة على الكفاية لا يحتاج إليه، والدين يحتاج إليه، فلا ينبغي للعاقل أن يبيع ما يحتاج إليه من دينه بشراء ما لا يحتاج إليه من دنياه، فتكون صفقته خاسرة وتجارته بائرة، والشهوات لا حدّ لها لأنه لا غاية ينتهي إليها فيها، والقوت له حدّ وغاية ينتهي إليه فيها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا حقّ لابن آدم إلاّ في ثلاث؛ طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنّه، فما زاد فهو حساب؛ وهذه الثلاث مع ابن آدم في بطن أمه، وفي قبره، وبين ذلك في دنياه، وبعد ذلك في عقباه، فالأخذ لمصالح هذه الثلاث مأجور عليه العبد والردّ لما زاد عليها هو أفضل من الأخذ، وينبغي أن يكون العبد الذي لا معلوم له عارفاً بأحكام العطاء؛ فإن العطاء من اللّه لعبده على أربعة أنواع: نوعان محمودان، ونوعان مكروهان، فالمحمودان ما كان بمعنى الرفق والمعونة، والمكروهان ما يكون بمعنى الاختبار والابتلاء، وبين الرفق والمعونة فتفصيل ذلك أنّ الابتلاء ما جاءه من الأسباب قبل الحاجة إليه أو جاءه وله غنية عنه أو عنده مثله؛ فهذا ابتلاء من اللّه تعالى له لينظر عمله فيه، فالأفضل في هذا أن يخرجه فيكون معاملاً للّه تعالى به في السرّ مسقطاً لمنزلته عند الناس في العلانية، فإن لم يقوَ على هذا الثقل وحمله على النفس فالأفضل بعده أن لا يأخذه ليحكم اللّه فيه ما يشاء ونصحاً لأخيه في ما له - سيما إن كان من الواجب والاختيار - أن يكون الفقير قد نوى ترك أكل شيء أو اعتقد التقلّل في شيء قربه إلى ربّه تعالى لمخالفة هوى نفسه وعملاً في صلاح قلبه يتباعد به مما يدخله في الكثرة ويحلّ عليه عقده، فردّ هذا أفضل وهو من الزهد والرعاية للعهد، فإن أخذه ثم أخرجه إلى محتاج؛ فهذا هو زهد الزهد، وله في هذا معاملات؛ منها أنّ العبد مندوب إلى الإيثار، فإذا كان فقيراً وملك شيئاً فأخرجه كان في ميزانه، ومنها موافقة السنّة في أنه قد أمر بأخذه أو دفعه إلى من هو أحوج إليه منه، ومنها إنّ أخذ هذا في العلانية من الناس وردّه في السرّ إلى اللّه تعالى كبيرة على النفوس إلاّ على الخاشعين لأنّ النفس تسقط في منزلتها، ثم لا ينال به سعتها فلا يصبر على هذا إلاّ الموقنون؛ وهذا مقام الزاهدين في النفس؛ وهو حال أغنياء الفقراء، وعلماء الزهاد، وهم أهل الطبقة العليا الذين قدمنا ذكرهم: والوجهان الآخران من العطاء هو الرفق وصورته أن يأتيه الرزق عند حاجته أو مع شهوته للشيء الذي لا يقدر عليه، فيعلم اللّه ذلك منه فيبعث به إليه من غير طمع في خلق، أو يأتيه ما يصلح أن يشتريه ليرتفق بمنافعه، فهذا النوع من العطاء رفق اللّه سبحانه، الأفضل للعبد أن يأخذه وربما خيف من ردّ مثل هذا عقوبة من زوال عقل أو رد إلى غلبة طبع أو ابتلاء بطمع خلق أو دخول في دنيء من مكسب.(2/155)
وقال بعض العلماء: من أعطى ولم يأخذ سأل ولم يعط، وهذا من النوع الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً، فأخذ هذا مشاركة لمعطيه في الأجر من حيث استويا على المعاونة في التقوى والبرّ المأمور بهما، ولا يضرّ هذا العطاء آخذه، وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد ابن حنبل شيئاً فيرده فقال له سري: يا أحمد إحذر آفة الردّ فإنها أشدّ من آفة الأخذ، فقال له أحمد: أعد علي ما قلت فأعاده، فقال أحمد: ما رددت عليك إلاّ لأن عندي قوت شهر فأحبسه لي عندك، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلىّ، والرابع من العطاء هو المعونة؛ وهذا يكون مخصوصاً لأهله هو أن يكون في خلق هذا الفقير البذل والإفضال وفي غريزته السخاء والاتساع من إطعام الطعام وإيثار الفقراء، فلا يتسع لذلك حاله وتضيق عنه يده فيبعث اللّه إليه بالعطاء معونة له على أخلاقه ليبلغه به مراده، وينفذ له من المعروف والبرّ عادته، ويعينه على خلقه ومروءته؛ فهذا النوع من العطاء هو الاختبار عند العارفين والأفضل أخذه وإمضاؤه في سبله من المروءات والأخلاق؛ وهذا كان طريقة كثير من السلف، وقد غلط في هذا الطريق قوم لم يكن لهم زهد وقد كانت فيهم رغبة وهمم دنيئة، فاقتنعوا في قبول هذا العطاء لنفوسهم وتملكوه واستأثروا به وزعموا أنّ هذا هو الاختبار، فخالفوا السلف في معرفة الابتلاء من الاختبار لأن هذا عند العارفين، إذا لم ينفذ ويؤثر به ابتلاء ووافقوا أهواءهم في التوسع منه والتكثر به، وتملكوه بالدعوى فأخطؤوا في العلم لإحالة المعنى وغلطوا في طريق الحال لوجود الهوى، وقد كان بعض القاعدين من الصادقين يدان على اللّه لحسن ظنه به، فإذا رزقه قضاه، فإن مات هذا على هذه النية فلا تبعة عليه فيه في دينه، على مولاه قضاؤه، وأن يرضى عنه غرماءه، وقد كان فيما سلف يقضي دين مثل هذا من بيت مال المسلمين، وكان آخرون لا يقترضون حتى يبيع أحدهم أحد ثوبيه أو فضل ما يحتاج إليه؛ وهذا أحد الوجوه في قوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّه) الطلاق:7، قال: من ضيقّ عليه معاشه فليبع أحد ثوبيه، وقد قيل: فليستقرض بجاهه فذلك آتاه اللّه عزّ وجلّ.
وقال بعضهم: للّه عباد ينفقون على قدر بضائعهم، وله عباد ينفقون على قدر حسن الظن به، ومات بعض السلف فأوصى بماله أن يفرّق على ثلاث طوائف: الأقوياء والأسخياء والأغنياء فقيل: من هؤلاء؟ قال: أما الأقوياء فهم أهل التوكل على اللّه، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن باللّه، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله، وينبغي لمن لامعلوم له من الأسباب أن يتورع في أخذها ويتحرّى المعطين لها، كما يتحرى أهل المكاسب في الاكتساب؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى له في كل شيء حكم، والقعود عن المكاسب لا يسقط أحكامها، والقاعد عن الطلب لا تسقط عنه أحكام الطالب، لأنّ ترك العمل عمل يحتاج إلى عمل، ولم تكن سيرة الفقراء الصالحين أن يأخذوا من كل أحد، ولا في كل وقت، ولا يأخذون كلما يعطون مما زاد على كفايتهم إلاّ أنْ يكونوا ممن يخرجه إلى غيرهم، وإنما كانوا يقبلون ممن يخف على قلوبهم القبول منه وممن يرتفع الوحشة والحشمة فيما بينهم وبينه؛ لأنّ ذلك هو الذي يفرح بقولك ويرى نعمة اللّه تعالى عليه في أخذك ومن يثقل على قلبك معروفه فهو الذي يثقل على قلبه إخراج ما في يده ولا يغتم بردك عليه.(2/156)
وقال بعض العارفين ما تواخى اثنان في اللّه عزّ وجلّ فاحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش منه إلاّ من علّة في أحدهما، فلا يستحبّ للفقير أن يأخذ إلاّ من صديق، ولا يقبل إلاّ ممن يحبّ لأن لأهل المعرفة باللّه عزّ وجلّ أن يحكموا في الأسباب بما أراهم اللّه تعالى من الردّ أو من القبول، فإن اعتلّ معتلّ بما رويناه آنفاً من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يردّه على اللّه تعالى، وبأن أهل المعرفة يشهدون أن العطاء من اللّه سبحانه وتعالى فلا يصلح أن يردوا عليه، قيل له: إنّ من يشهد العطاء من اللّه تعالى هو الذي يشهد الردّ أيضاً منه، فإن يردّ إليه له أو ردّ إليه به لمعرفته باختباره وابتلاء حسن الردّ منه وشكر الفعل له، فهو أيضاً إذا شهد تصريف الخلق بالعطاء فعل اللّه عزّ وجلّ، كان يشهد فعل نفسه بالردّ، فعل اللّه تبارك وتعالى بالمنح؛ فالحالان سواء عند من علم الأحكام، ولم يتّبع الهوى، وقام بحكم ما منه يقتضي، فليس في هذا حجة إلاّ لعالم مستكثر، أو لعابد جاهل غير مستبصر، على أنّ في القبول من بعض الناس دون بعض، وفي ردّ بعض الهدية سنّة، أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمن وإقط وكبش فقبل السمن والإقط وردّ الكبش، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من بعض الناس ويردّ على بعض، وقال: لقد هممت مراراً أن لا أتهب إلاّ من قرشي أو ثقفي أو دوسي وفعل هذا جماعة من التابعين.
جاءت صرّة إلى فتح الموصلي فيها خمسون درهماً فقال: حدثنا عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتاه رزق من غير مسألة فردّه، فإنما يردّه على اللّه عزّ وجلّ، ثم فتح الصرّة فأخذ منها درهماً وردّ سائرها، وقد كان الحسن البصري يروي هذا الحديث أيضاً، ثم حدثنا عنه أنّ رجلاً أهدى إليه كيساً فيه مال ورزمة فيها من دق خراسان، فردّ ذلك، فقال له بعض أصحابه في ذلك فقال: من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، وليس له عند اللّه عزّ وجلّ خلاق، وقد كان الحسن يقبل من أصحابه، وكان إبراهيم التيمي يسأل أصحابه الدرهم ونحوه، ويعرض عليه غيرهم المائتين فلا يأخذ، وقد كان بشر بن الحارث لا يقبل من الناس شيئاً، وكان بعضهم يقول: أحبّ أن أعلم من أين يأكل؟ فقال له: من يخبر أمره؟ أنا أدري من أين يأكل، له صديق عاقل يعني نظيره في العقل والدين، لأنّ بعضهم كان لا يقبل إلاّ من نظرائه، لا من الأتباع، وهذا الصديق العاقل الذي كان يقوم بكفايته، ولم يكن يظهر أمره، ولا يلتقي معه؛ هو سري بن المغلس السقطي، لأنّا حدثنا عن بشر أنه قال: ما سألت أحد قط شيئاً من الدنيا إلاّ سريّاً السقطي، لأنه قد صحّ عندي زهده في الدنيا، فهو يفرح بخروج الشيء من يده، ويتبرم ببقائه عنده، فأكون أعينه على ما يحبّ.(2/157)
وقد كان سري يوجه إلى أحمد بن حنبل في حاجاته فيقبل منه، وكان إذا ذكر عند أحمد يقول: ذاك الغني المعروف بطيب الغنى أنه ليعجبني أمره، وكان بعض العباد إذا دفع إليه بعض أبناء الدنيا الشيء يقول: دعه عندك، وأعرض على قلبك كيف أنا عندك بعد الأخذ أفضل أو دون ذلك وأصدقني، فإن قال له: أنت عندي الآن أفضل منك قبل ذلك قبل، وإن أخبره بنقصانه في قلبه لم يقبل منه، وكان بعضهم يردّ على أكثر الناس صلته فعوتب في ذلك فقال: ماأردّ إلاّ إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم، يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم، وممن ذهب إلى هذا سفيان الثوري، وقد كان يشترط على بعض من يأخذ منه أن لا يذكره إشفاقاً عليه من ذهاب أجره، لأنه قيل في معنى قوله عزّ وجلّ: (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى) البقرة:264 قال: المنّ أن يذكره والأذى أن يظهره، وقال الجنيد للخراساني الذي جاءه بمال وسأله أن يأكله فقال الجنيد: بل أفرقه على الفقراء، فقال: أنا أعلم بالفقراء منك ولم أختر هذا، فقال الجنيد: أنا أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا، فقال: إني لم أقل لك أنفقه في الخل والكامخ والبقل، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوة فكل ما نفد أسرع كان أحب إلي فقال الجنيد مثلك لا يحل أنْ يرد عليه، فقبله، فقال الرجل: ما ببغداد أحد أعطم منة عليّ منك، فقال الجنيد: وما ينبغي لأحد أن يقبل منه إلاّ من كان مثلك؛ فهذه كانت طرائق أهل الحقائق، ولا ينبغي للقاعد عن المكاسب إلاّ أن يكون تاركاً ذلك لأجل اللّه سبحانه، عالماً في قعوده بأحكام اللّه عزّ وجلّ، قائماً بعلم حاله، فيحسن يومئذ قعوده عن الأسباب ثقة منه بالمسبّب الوهاب، ويحلّ تركه للمعلوم يقيناً منه بالعالم.
وقد كان بعض العلماء يقول: لا تأكل إلاّ عند من يعلم أنك أكلت رزقك، ولا تشكر عليه إلاّ ربك، ودعا بعض الناس شقيقاً البلخي وكان في طبقة من أصحابه نحو الخمسين رجلاً، فوضع الرجل طعاماً واسعاً وأنفق نفقة كثيرة، فلما قعدوا قال لهم شقيق: إنّ هذا الرجل يقول: من لم يرني صنعت هذا الطعام وأنا أقدمه إليه فطعامي عليه حرام، قال: فقاموا كلهم خرجوا إلاّ شاباً كان فيهم نقصت مشاهدته عنهم، فقال صاحب المنزل لشقيق: رحمك اللّه ماأردت إليّ هذا؟ فقال: أردت أن أجرّب توحيد أصحابي أي كلهم، لا يراه فيما صنع ولا ينظرون إليه فيما قدّم إلاّ ذلك الغلام وحده.
وحدثونا عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ياربّ جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني يوماً هذا ويعشّيني هذا الليلة، فأوحى اللّه إليه: هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي الطالبين من عبادي ليؤجروا فيهم، والعالم القاعد عندهم أفضل من الجاهل المتصرف، والعالم المتكسّب أفضل من القاعد الجاهد، والقوي التارك للتصرف أفضل عندهم من الضعيف المتصرف، والقوي المتصرّف أفضل من الضعيف التارك للتصرف.(2/158)
وقد جعل اللّه المستحقين للعطاء ستة، ذكرهم في آيات ثلاث، فقال عزّ وجلّ في الآية الأولى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) التوبة:60 وقال في الثانية: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) الذاريات:19، وقال في الثالثة: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج:36، فمن لامعلوم له من تكسّب أو تصرّف فهو أدخل شيء في هذه الآيات وأحوج أحد إلى الإعطاء، ومن كان ذا معلوم يحتاج إلى أكثر منه لفضل عيلة أو كثرة نفقة فإنه يدخل بمعنى من أوصافهم، وكان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول في الآية: إنما الصدقات للفقراء والمساكين نزلت في أهل الصفة، ومن كان في معناهم إلى يوم القيامة، وكانوا أربعمائة وخمسين رجلاً لم تكن لهم عشائر بالمدينة ولا أموال كالمهاجرين والأنصار، وكانوا نزاع القبائل، أسكنهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفّة المسجد، وقسم اللّّه عزّ وجلّ لهم الأموال، ثم إنّ اللّه سبحانه وتعالى أفرد طبقة سابعة عن جمل هؤلاء الستة، ووصفهم بأحسن الصفات، وفضّل أجور المتّقين بطيب الاكتساب عليهم الطالبين وجه اللّه عزّ وجلّ فقال:(يَاأَيُّهَا الذَّينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ) البقرة:267 وقال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إليْكُمْ) البقرة:272، وكل هذا متصل متعلق بقوله عزّ وجلّ:(للفُقَراءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ اللّه لاَ يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً في الأَرْضِ) البقرة: 372، إلى آخر أوصافهم، فوصفهم بالإحصار في سبيله وبالعفة عن الدنيا وأبنائها، وأنهم لا يلتحفونها التحافاً لزهدهم فيها وسمى من لا يعرف أوصافهم جاهلاً؛ فهذه الطائفة فوق الطبقات الموسومة بالصدقات المقسوم عليها الزكوات، بل أمر المؤمنين بالإنفاق عليهم من الاكتساب للطيّبات من بعد وصف أحسن الخالقين لهم، واللّه تبارك وتعالى لا يحبّ عبداً إلاّ وصفه، فإذا مدحه بوصف وأثنى عليه ثبتت محبته له في المدح والوصف، دليل على الحبّ والمحبّة، تدل على الفضل العظيم، كما قال تعالى في آخر وصف المحبين: (ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) المائدة:54 وقد قال بعض الصوفية في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: يد المعطي هي العليا ويد المعطى هي السفلى، إنّ المعطى هو الفقير وإنّ المعطي هو الغني، ويصلح أن يستدلّ له بأن حقيقة الإعطاء هو النصيب من الآخرة وعطاؤه منها، فصار هو المعطى وصار الغني هو المعطي، ويكون دليل هذا القول الخبرين الآخرين قوله: إنّ الصدقة تقع بيد اللّه سبحانه وتعالى قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، فقد صارت يد الفقير هي العليا، والخبر الآخر: يد اللّه العليا ويد المعطي الوسطى فهذا يصحح أنّ الفقير هو المعطى إذا كان يد اللّه تبارك وتعالى فوقه لأنها هي التي تضع في يده العطاء فكانت يده هي الوسطى.(2/159)
فإن قيل: قد رتب الأيدي بقوله تعالى: يد اللّه هي العليا ويد المعطي هي الوسطى ويد المعطى هي السفلى، فينبغي أن يكون المعطي هو الغني إذا كان العطاء يظهر عندنا على الترتيب، قيل له: إنّ يد اللّه تبارك وتعالى فوقهما معاً وهي لا تدخل تحت الترتيب، فيده سبحانه وتعالى العليا عليهما جميعاً، قال تبارك وتعالى: يد اللّه فوق أيديهم وقد علمنا أنّ أيديهم بعضها فوق بعض، ثم أخبر مع ذلك أنها فوق الكل ولأنه هو المعطي الأوّل لهما جميعاً، فكما لا أول؛ أول منه في العطاء، فكذلك لا يد فوق يده في الإعطاء، وإنما الترتيب بين الغني والفقير أيهما المعطي بعد يد اللّه تعالى فقلنا: إنّ المعطي في الحقيقة إذ كان العطاء الحقيقي هو ما يبقى ويدوم لا ما يفنى ويزول؛ وذلك هو العطاء من الآخرة الباقية، فصار الفقير هو المعطي للغني في الدنيا نصيبه من الآخرة لأنه عمارة منازله فيها، والغني رفق بالفقير من الدنيا وعمارة دنياه الفانية، والدنيا موصوفة بلا شيء، فأي شيء يعطي منها؟ فأما يد اللّه تعالى فإنها فوقهما، والذي أعطاهما جميعاً، لأنّ يده فوق الفوق وفوق التحت لا يوصف بتحت ولا بأسفل، تعالت أوصافه العليا عن نعوت الخلق السفلى، وهو لا يدخل تحت القياس والتشبيه، فقد حدثنا بعض إخواننا عن شيخ له فقال: رأيت أبا الحسن النوري يمد يده ويسأل الناس في بعض المواطن قال: فأعظمت ذلك واستقبحته، فأتيت الجنيد فأخبرته فقال: لا يعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلاّ ليعطيهم إنماسأل لهم ليثيبهم من الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرّه، ثم قال: هات الميزان قال: فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة، ثم قال: احملها إليه، قال: قلت في نفسي إنمايوزن الشيء ليعرف مقداره فهذا قد خلط منه شيئاً آخر فصار مجهولاً وهو رجل حكيم فاستحييت أن أسأله عن ذلك، قال: فذهبت بالصرّة إلى النوري فقال: هات الميزان، قال: فوزن مائة درهم وقال: ردّها عليه، وقل آه: أنا لا أقبل منك أنت شيئاً، وأخذ مازاد على المائة، قال: فقلت هذا أعجب فسألته: لم فعلت هذا؟ فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن هذه المائة لنفسه للثواب من الآخرة، وطرح عليها قبضة بلا وزن للّه عزّ وجلّ، فأخذت ماكانت للّه عزّ وجلّ، ورردت ما كان جعله لنفسه، قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى، وقا حلب أخذ ماله ورد مالنا واللّه أعلم.
ذكر اختلافهم في إخفاء العطاء وإظهاره ومن رأى أنّ الإظهار أفضل وتفضيل ذلك:(2/160)
قد اختلف فعل المخلصين في ذلك فرأى بعضهم أن يخفي ما يأخذ من العطاء، لأنه أدخل في التعفف وأقرب إلى التصوّن، وأنه أسلم لقلوب الغير وأصلح لنفوس العامة، وأنّ فيه النصرة لإخوانه من الغيبة والتهمة بمثل ذلك أو بأكثر منه، وفيه الاحتياط لأخيه وعون له على البرّ والتقوى في قوله عزّ وجلّ:(إنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة: 271، وللخير الذي جاء: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، ولأنّ عمل السرّ يفضّل على عمل العلانية بسبعين ضعفاً فإذا لم يعاونه هذا على إخفاء عطائه، ولم يساعده على كتم معروفه فلم يتم له ذلك بنفسه، لأنه سرّ بين اثنين إن أفشاه أحدهما أو لم يتفقا على كتمه فقد ظهر من أيها كان الخبر كيف، وقدروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: استعينوا على أموركم بالكتمان، فإنّ كل ذي نعمة محسود، وهذا مذهب القرّاء من العابدين، وقال أيوب السجستاني: إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسد، وقال بعض الزاهدين: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين، هذا وحدثونا عن إبراهيم التيمي أنّه رأى صاحباً له عليه قميص جديد فقال:من أ ين للك هذا؟ قال: كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أنّ أهله علموا به ما قبلته، ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فردّه ودفع إليه آخر شيئاً في السرّ فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إنّ هذا أخفى معروفه وعمل بالأدب في معاملته فقبلنا عمله، والذي أظهر معروفه أساء في الأدب في المعاملة فرددنا عمله عليه، ودفع بعض الناس إلى بعض الصوفية شيئاً بين الملاء فردّه فقيل له: لم تردّ على اللّه عزّ وجلّ ما أعطاك؟ فقال: إنك أشركت غير اللّه سبحانه وتعالى فيما للّه، ولم تقنع بعين اللّه عزّ وجلّ فرددت عليك شركك، وقد كان بعض العلماء لا يقبل في العلانية ويأخذ في السرّ سئل عن ذلك فقال: إنّ في إظهار الصدقة إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله وما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله، وكذلك حدثنا أنّ رجلاً دفع إلى بعض العارفين شيئاً علانية فردّه ثم دفعه إليه في السرّ فقبله، فقيل له: رددت في الجهر وقبلت في السرّ؟ فقال: لأنك أطعت اللّه تعالى في السرّ فأعنتك على برّك بقبوله، وعصيته بالجهر فلم أكن عوناً لك على المصية، وقد كان سفيان الثوري يقول لو علمت أنّ أحدهم لا يذكر صلته ولا يتحدث بها لقبلت صلته،وفي هذا لعمري مواطأة لما ندب اللّه تعالى إليه من الإخفاء ولما أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفضله من أعمال السرّ، وهو أيضاً لا يدخل الآخذ في نهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من قوله: من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها، وقال في الحديث الآخر: أفضل ما أهدى الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً، فجعل الورق هدية كالهدايا، وهو من أفضلها، كما قال: لأنه قيّم الأشياء، فهذا الآخذ للهدية جهراً يلزمه الإشراك للحاضرين فيها إلاّ أنْ يهبوا ذلك له، فإن لم يفعل لم يعجبني ذلك.(2/161)
وذهب آخرون من أهل المعرفة الموصوفين بالتوحيد إلى أنّ الإظهار للآخذ أفضل، لأنه أسلم له، وأدخل في الإخلاص والصدق، وأخرج من الثبات والقدر والمنزلة والجاه بالردّ والزهد، وقد قال اللّه سبحانه:( لاَتُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ) النساء: 84، قالوا: فليس علينا إذ علمنا في سلامتنا وحكم حالنا من إسقاط جاهنا بالأخذ علانية ما وراء ذلك من أقوال الناس، بتولى اللّه عزّ وجلّ من ذلك من به ابتلاه، وقالوا: ولأن في التوحيد أنّ الظاهر والباطن هو المعطي فلا معنى للردّ عليه في الظاهر، وقد قال بعضهم: سرّ العارف وعلانيته واحد، لأن المعبود فيهما واحد، فاختلاف فعل أحدهما شرك في التوحيد،وقال بعض العارفين: كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السرّ فرفع يده به علانية، ثم قال: هذا من الدنيا والعلانية في أمور الدنيا أفضل والسرّ في أمور الآخرة أفضل، وقال بعض المريدين: سألت أستاذي وكان أحد العارفين عن إظهار السبب أو إخفائه فقال: أظهر الأخذ على كل حال إنْ كنت آخذاً، فإنك لا تخلو من أحد رجلين، رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو الذي تريد، لأنه أسلم لدينك وأقلّ لآفات نفسك، وينبغي أن تعمل في ذلك، فقد جاءك بلا تكلّف، ورجل تزداد وترتفع في قلبه فذاك هو الذي يريد أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيده، وينبغي أن تعمل في ذلك، وقال بعض العارفين: إذا أخذت فأظهر فإنها نعمة من اللّه إظهارها أفضل، وإذا رددت فأخف فإنه عمل لك وإسراره أفضل، وهذا لعمري قول فصل، وهو طريق العارفين، وقال بعض علمائنا: إظهار العطاء من الآخذ آخرة وكتمانه دنيا وإظهار الأعمال من الدنيا وكتمها آخرة، وكان هذا لا يكره الإظهار، وهذاكما قال اللّه تعالى: (وَأَمَّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى: 11 وقد ذمّ اللّه تبارك وتعالى من كتم ما أتاه اللّه من فضله وقرنه بالبُخْلِ؛ والبخل باب كبير من الدنيا فقال تعالى: (الَّذينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمونَ مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ) النساء:37، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أنعم اللّه عزّ وجلّ على عبد نعمة أحبّ أن ترى عليه، وهذا هو الأقرب إلى قلوب الموحدين من العارفين، لأنه مقتضى حالهم وموجب مشاهدتهم لاستواء ظروف الأيدي عندهم من العبيد ونفاد نظرهم إلى المعطي الأول، فاستوى سرهم وعلانيتهم في الأخذ من يده، وفصل الخطاب في هذا الباب عندي أنه يحتاج إلى تفصيل فنقول واللّه أعلم: إنّ الخلق مبتلي بعضه ببعض، وفرض كل عبد القيام بحكم حاله ليفضل بقيامه ويسلم في حاله، فعلى المعطي أن يخفي ويسرّ جهده، فإن أظهر ترك علم حاله فنقص بذلك، فكانت هذه آفة من آفات نفسه وباباً من أبواب دنياه، وعلى المعطي أن يذكر وينشر، فإن أخفى وكتم فقد ترك الإخلاص في عمله ونقص لذلك،وكانت آفة من آفات نفسه وباباً من دنياه مثله.(2/162)
وروينا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيل له: إنّ فلاناً أعطيته ديناراً فأثنى بذلك وشكر، فقال: لكن فلان أعطيته ما بين الثلاثة إلى العشرة فما أثنى ولا شكر، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مريداً أن يشكره أو يثني عليه وهو يقول لابن الحمامة الشاعر وغيره: أما ما مدحتني به فألقه عنك، وأما مامدحت به ربك عزّ وجلّ فهاته، فإنه يحبّ المدح لكنه أراد منه القيام بحكم حاله لعلمه أنّ في الشكر والثناء حضّاً وتحريضاً على المعروف والعطاء، وأنه خلق من أخلاق الربوبية، أحبه اللّه عزّ وجلّ من نفسه فشكره للمنفقين وهو الرازق، وأحبّ من أوليائه أن يشكروا للأواسط ويثنوا به عليهم، وإنْ شهدوا فيه الأول، وكذلك لما قالت المهاجرون: يا رسول اللّه ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عليهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه، فقال كلاماً شكرتم لهم وأثنيتم به عليهم، ولذلك أمر به صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر فقال: من أسدي إليه معروف فيلكافئ به، فإن لم يستطع فليثن به، وفي لفظ آخر: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فأثنوا به خيراً وادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه، والخبر العام بمعنى ذلك: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه، وقد روينا في معنى الحدث لفظة غريبة جاءت من طريقين، وهو: من لم يذكر الناس لم يذكر اللّه عزّ وجلّ أن يذكرهم في العطاء ويثني عليهم به، والنوع الثاني من التفضيل أنّ على المعطي أن لا يحبّ أن يذكر معروفه ولا يشكر فإن علمت من يقصد ذلك ويحبه منك فهذا يدل على نقصان علمه وقوة آفات نفسه، فترك الثناء على مثل هذا والكتم من الفقير أفضل، فإن شكر له فأظهر عطاءه فقد ظلمه لإعانته إياه على ظلم نفسه، وقد قوى آفات نفسه، وهذا إذا فعله به من المعاونة على الإثم والعدوان فقد كان ينبغي للمعطي أن ينصره إذا كان ظالماً من حيث لا يعلم بأن يخفي عليه ما يعمل واللّه أعلم بالصواب.
نوع آخر من التفضيل في الآخذ للفقير:
إنّ من الناس من يستوي عنده إظهاره للعطاء وإخفاؤه لصحة يقينه بذلك وإخلاص نيته فيه ونفاد مشاهدته بدوام نظره إلى المنعم الأول، فهذا إن قبلت منه علانيته صلح وإن أثنيت عليه بذلك جاز لقوة معرفته وكمال عقله وسبق نظره إلى مولاه فيما وفقه به وتولاه، فيشكر له ذلك ويراه نعمة منه، ولمثل هذا جاء الخبر المشهور: إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه،، وقال بعض العارفين: يمدح الرجل علي قدر عقله، وقال الثوري: من عرف نفسه لم يضرّه مدح الناس له.
النوع الرابع من التفضيل(2/163)
من الناس من إذا أظهر معروفه فسد قصده بذلك واعتورته الآفات من التزين والتصنع، فمثل هذا لايصلح أن يقبل منه ما أعلن به لأنه يكون معيناً له على معصيته، وهذا أيضاً لا يصلح أن يثني عليه، فإن ذكر بمعروفه أو مدح به، كان ذلك مفسدة له واغتراراً منه لقوة نظره إلى نفسه ونقصان معرفته بربه، فمن مدح هذا فقد قبله ومن ذكره بمعروفه فقد أعانه على شركه، ومدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضربت عنقه، لو سمعها ما أفلح وقد كان هو صلى الله عليه وسلم يثني على قوم في وجوههم ومن حيث يسمعون لثقته بيقينهم وعلمه أنّ ذلك مزيداً لهم، وقال لرجل أقبل إليه: هذا سيّد أهل الوبر، وقال لآخر من حيث يسمع: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وتكلم رجل بكلام فصل فأعجبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ من البيان سحراً، وقد كان يخفي الثناء على آخرين إذا علم أنّ ذلك خير لهم، وقال الثوري ليوسف بن أسباط: إذا أوليتك معروفاً فكنت أنا أسرّ به منك ورأيت ذلك نعمة من اللّه تعالى عليّ وكنت أشدّ حياء منك فاشكر، وإلاّ فلا، فجملة ذلك أنّ المعطي حاله الإخفاء وأنّ الآخذ حلاه الإظهار، فمن خالف ذلك فارق حاله، وإن فرض المعطي أن يكره المدح ولا يحبّ الثناء والذكر، فمن علمت منه ذلك فعليك أن تثني وتشكر وتنشر، ومن علمت منه بحبِ الإظهار ويقتضي منك الاشتهار فحالك أن تعاونه على ظلمه لنفسه، فترك الثناء لمثل هذا أفضل له وأسلم لك فهذا تفصيل ما أجمله الصادقون ثم اختلفوا في الأخذ من الواجب أفضل أم التطوع؟ فرأى بعضهم أن يأخذ من الواجب ولا يقبل من التطوع، أي لأنّ الواجب يؤخذ بإذن اللّه تعالى عن قسمه، وإنّ اللّه تعالى أوجب عليه أن يأخذه من حيث أوجب الزكاة، لأن الفقراء والمساكين لو تواطؤوا على أن لايقبلوا الزكوات أثموا أجمعون ولعصوا كلهم بذلك لإسقاطهم فرض اللّه عزّ وجلّ من الأموال بالزكوات، قالوا: ولأنّ هذا أدخل له في جملة الضعفاء والمساكين وأقرب إلى التواضع والذلة، قالوا: ولا منّة لأحد علينا فيه ولا حق يلزمنا عليه إذ كنا نستحق ذلك منه، قالوا: ولأنه أسلم لديننا لئلايدخل علينا الأكل بالدين لأنّا إنما نستوجبه بالحاجة وحرمة الإسلام فقط، ونخاف أن يكون أخذنا التطوع أكلاً بديننا أو أنّا أعطينا لصلاحنا واعتقاد فضلنا فلا نحبّ أن نخصّ بشيء دون الفقراء، وهذا مذهب القراء من العابدين، ومن ينظر إلى صلاحه ونفسه في الدين هو مقتضى حالهم وموجب شهادتهم، واختارت طائفة أن يأخذوا من النوافل دون الفرائض أجروه مجرى الهدية وقالوا: قد أمر بقبولها وندب إلى التهادي للتآلف والتحبّب، قالوا: ولانزاحم المساكين في حقوقهم ولعلنا لانكمل أوصافهم، ونخاف أن لايوجد فينا ما شرط اللّه عزّ وجلّ لواجبه، ولانضعه في حقيقة موضعه، أو لا نحتاط لمن يسقط عنه الواجب به، فالتطوع أوسع علينا، ومع هذا فإنهم يشهدون النعمة من اللّه تعالى وأنّ الدين إنما هو للّه عزّ وجلّ، كا قال: (ألاّ للّه الدين الخالص) الزمن:3، وأنهم مستعملون بأنفسهم من حيث كانوا منعماً عليهم لا منعمين على أنفسهم، وهذه طريقة بعض أهل المعرفة، وممن ذهب إلى هذا إبراهيم الخواص وأبو القاسم الجنيد ومن وافقهما، والأمر في ذلك عندي أنّ من لم يأخذ من كلا إنسان ولا في كل أوان، ولم يقبل إلاّ عند الحاجة، وما لابدّ له منه، ثم قام بحكم اللّه تعالى في الواجب وحكمه في التطوع أنّ الحالين يتقاربان، لأنّ الواجب أمر اللّه تبارك وتعالى فيه حكم،والتطوع ندب، وله عزّ وجلّ فيه حكم، فعلى العبد أن ينظر لدينه ويحتاط لأخيه فيعمل بما يوجب الوقت من الحكم من أيهما كان فسواء ذلك، ولا ينظر بظلمة في هوى الحظ ففي ذلك سلامته.
الفصل الثاني والأربعون
كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار(2/164)
فإن سنح لهذا المريد سفر ففي الحديث: البلاد بلاد اللّه عزّ وجلّ والخلق عباده، فحيث ما وجدت رزقاً فأقم واحمد اللّه عزّ وجلّ، والخبر المشهور: سافروا تغنموا، فغنيمة أبناء الآخرة ريح تجارة الآخرة، وقد قال اللّه تعالى وهو أصدق القائلين: (أَلمْ تَكُنَ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء:97، وقال عزّ وجلّ: (قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فَانْظَرُوا) العنكبوت:20 وقال تعالى:(وَفي الأرْضِ آيَاتٌ للمُوقِنينَ) الذاريات:20 وقال جلّ وعلا:(وَفي أَنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21، فمن جعلت آياته في نفسه تبصر ففطن، ومن جعلت له الآيات في الآفاق سرب وسري، وكذلك قال اللّه عزّ وجلّ: (وَإنَّكُمْ لَتَمُروُّنَ عَلَيْهِمْ مُصبْحِينَ وَبالَّليْلِ أَفلا تَعْقِلُونَ) الصافات: 137 - 138 ومثله:(وَكأَيِّنْ مِنْ آيَة فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعرِضُونَ) يوسف: 105 فمن سار فكانت له بصيرة اعتبر وعقل، ومن مرّ على الآيات فنظر إليها منها تذكر وأقبل، ومن أمر اللّه عزّ وجلّ بالمشي في مناكب بساطه والأكل من رزقه بعد إظهار نعمته بتذليل مهاده فقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) الملك: 15، قيل: في أسواقها، وقيل: قراها، وقيل: جبالها، وهو أحبّ إلى أحداب الأرض قراها ومناكبها جبالها لأنها أعاليها، وكان بشر الحافي يقول: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا كثر مقامه في موضع تغيّر، وقيل: إنما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق النفس، وأيضاً يسفر عن آيات اللّه سبحانه وقدره وحكمه في أرضه، فإذا عزم على السفر فليصلّ ركعتي الاستخارة وليعقد التوكّل على اللّه عزّ وجلّ، فكفى ناظراً وساكناً إليه تبارك وتعالى واثقاً به ومعتمداً عليه مستوراً حاله راضياً عنه عزّ وجلّ في تقلّبه ومثواه، ولينو في سفره الاعتبار بالآثار والنظر إلى الآيات بالاستبصار والابتغاء من فضل اللّه سبحانه فيما ندبه إليه من الأسباب، ويقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى وكّل بالمسافرين ملائكة ينظرون إلى مقاصدهم فيعطي كل واحد على نحو نيته، فمن كانت نيته طلب الدنيا أعطي منها ونقص من آخرته أضعافه وفرق عليه همه وكثر بالحرص والرغبة شغله، ومن كانت نيته طلب الآخرة وأهلها أعطي من البصيرة والفطنة، وفتح له من التذكرة والعبرة بقدر نيته،وجمع له همه وملك من الدنيا بالقناعة والزهد شغله، ودعت له الملائكة واستغفرت له، فلتكن نية هذا المسافر استصلاح قلبه ورياضة نفسه واستكشاف حاله وامتحان أوصافه، لأنّ النفس إنما أظهرت الإذعان والانقياد في الحضر، وربما استكانت وأجابت في السفر، فإذا وقعت علها أثقال الأسفار ولزمتها حقائق الاستخبار خرجت عن معتاد ذلك المعيار فأسفرت حقيقتها وانكشفت دواعيها، فيكون المسافر في علوم وبصائر يعرف بها خفايا نفسه ومكامنها، ويكون هذا من خبء الأرض الذي يخرجه اللّه عزّ وجلّ لمحبيه متى شاء، كما قال جلّ وعلا: (يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ) النمل: 25، فإن خرج سائحاً في طلب العلم فقد جاء ذلك في تفسير قوله عزّ وجلّ السائحون قيل: في طلب العلم، وقيل: هم طلبة العلم، وقد كان سعيد بن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد، وقال الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدل على هدى، ما رأيت أنّ سفره كان ضائعاً، ورحل جابر بن عبد اللّه من المدينة وغيره من الصحابة إلى مصر فساروا شهراً في حديث بلغه عن عبد اللّه بن أنيس الأنصاري يحدثه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوه، ومن سافر في طلب العلم من عهد الصحابة إلى يومنا هذا أكثر من أنْ يحصى، وفي الخبر: من خرج من بيته في طلب العلم، فهو في سبيل اللّه عزّ وجلّ حتى يرجع.(2/165)
وفي خبر آخر: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل اللّه عزّ وجلّ له طريقاً إلى الجنة، ويقال: إنّ النفقة في العلم كالنفقة في سبيل اللّه، الدرهم بسبعمائة، وإن سافر في لقاء الصالحين فقد جاء في الأثر: كانوا يحجون للقاء، والحجّ من أفضل الأسفار فجعلوه سبباً للقاء الأخيار، فإن نوى القرب من الأمصار طمعاً في سلامة دينه وبعداً من تعلّق النفس بما في الحضر من حظّ دنياه فحسن، وربما خرج طلباً للخمول والذلة، خشية الفتنة بالشهرة، ورجاء صلاح قلبه،واستقامة حاله في البعد من الناس، ورياضة بالتفرق والتوحّد إلى أن يقوّي يقينه ويطمئن قلبه،فيستوي عنده الحضر والسفر، ويعتدل عنده وجود الخلق وعدمهم بإسقاط الاهتمام بهم، وقد قال الثوري: هذا زمان سوء لايؤمن فيه على الخامل فكيف بالمشهورين، وهذا زمان رجل ينتقل من بلد إلى بلد كلما عرف في موضع تحول إلى غيره، وقال أبو نعيم:رأيت الثوي وقد علق قلّته بيده، ووضع جرابه على ظهره، فقلت له: إلى أين يا أبا عبد اللّه ؟ فقال: قد بلغني عن قرية فيها رخص، فأنا أريد أن أقيم بها، فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد اللّه؟ قال: نعم إذا بلغك عن قرية فيها رخص فأقم بها، فإنه أسلم لدينك، وأقلّ لهمّك، وقد كان سري السقطي يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار، ومن أفضل الأسفار ما خرج له في سبيل اللّه عزّ وجلّ من الجهاد والحجّ والرباط وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم زيارة أصحابه، محتسباً بذلك ما عند اللّه عزّ وجلّ، والسفر في زيارة الأخ في اللهّ عزّ وجلّ مستحبّ مندوب إليه، روينا في خبر عن بعض أهل البيت عليهم السلام وقيل: مكتوب في التوراة سرْ ميلاً عد مريضاً، سرْ ميلين شيّع جنازة، سرْ ثلاثة أميال أجب دعوة، سرْ أربعة أميال زر أخاً في اللّه تعالى، وفي الخبر: أنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد اللّه عزّ وجلّ على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد؟ فقال: أخاً لي في هذه القرية أزوره، قال: أبينك وبينه رحم تصلها؟ قال: لا، قال: فله عليك نعمة تردها، قال:لا إلا ّ أني أحببته في اللّه عزّ وجلّ، قال: فإني رسول اللّه إليك يبشرك بالجنة ويخبرك أنه قد غفر لك بزيارة أخيك، وإن سافر إلى بعض الثغور ناوياً رباط أربعين يوماً أو ثلاثة أيام فحسن، وإن قصد عبادان فرابط فيها ثلاثاً فقد أسابها ثلاثمائة من العلماء والعباد للرباط فيها ما يجله وصفه.
روي عن عليّ عليه السلام أنه سأل رجلاً بالبصرة أن يرابط بعبادان ثلاثاًِ ويشركه في صحبته، وقال بعض العارفين: كوشفت بالأمصار فرأيت الثغور كلها تسجد لعبادان، ومن قصد في سفره أحد المساجد الثلاث المندوب إليها لشدّ الرحال فهو أفضل، أولاها المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس، فيقال: من جمع الصلاة في هذه المساجد الثلاث من سنته غفرت له ذنوبه كلها، ومن أهل بحج أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخرج ابن عمر من المدينة قاصداً إلى بيت المقدس حتى صلّى فيه الصلوا ت الخمس، ثم كرّ راجعاً من الغد إلى المدينة، وسأل سليمان عليه السلام ربه تعالى: إنّ من قصد هذا المسجد لا يهمه إلاّ الصلاة فيه أن لا تصرف نظرك عنه ما دام مقيماً فيه حتى يخرج منه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه فأعطاه اللّه تعالى ذلك، وأما فضائل المسجدين في الحرمين حرم اللّه عزّ وجلّ وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم فأكثر من أن نذكرها،وإن سافر طلباً للحلال وهويأمن طعمة الحرام فذانك له قربتان، وقد فعله صالحو السلف في كل زمان، وليكن العبد في سفره مراعياً لهمه، حافطاً لقلبه من التشتّت والطمع في الخلق، والتعرّض للمسألة، فإن لم يكن ذا معلوم معهود كان معلومه العلام الودود، وكان طريقه إليه صدق التوكّل، وزاده في طريقه حسن التقوى له بصحة الأياس من الناس، وعليه حينئذ الصبر على بلائه، والرضا بتصريفه في قضائه، ولاشكر على لطائف نعمائه من منع أو عطاء أو شدة أو رخاء، لأنه في يد الوكيل يقلبه كيف يشاء، والتوكّل عند المتوكّلين هو في الصبر للصبور وتسليم الحكم للحاكم، ومنه قوله تعالى:(الَّذينَ صبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 59 وقوله: (إنْ الحُكْمُ إلاَّ للّه علَيْهِ تَوَكَّلتُ) يوسف: 67.(2/166)
وقال رجل لبشر بن الحارث: إني أريد سفراً ولكني منعني أنه ليس عندي شيء، فقال: لا يمنعك العدم من سفرك واخرج لقصدك، فإن لم يعطك ما لغيرك لم يمنعك ما لك، وكان إبراهيم الخواص يقول: كفّ فارغ وقلب طيب ومرّ حيث شئت،ومن طرقته فاقة أو رهقته حاجة لم يخرجه من التوكّل أن يسأل إذا عدم القوة والصبر،لأنه حينئذ يسأل لربه لا لنفسه، يحركه العلم لا الهوى لإقامة فرضه وحفظ عقله الذي هو مكان تكليفه، وفي الأثر: من جاع فلم يسأل فمات دخل النار، لأن ّ ترك السؤال عند خوف رهق الموت،ومع عدم الصبر سبب التلف، إن كان الجوع أحد الحنوف القاتلة، وقد تأوّل بعض متأخّري الصوفية قول النبي صلى الله عليه وسلم: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده قال: المسألة عند الفاقة وأنا بريء من عهدة هذا التأويل، وقد كان جعفر الخلدي يحكي هذا عن شيخ من الصوفية وكان هو يستحسنه، ولكن قد كان أبو سعيد الخراز يمدّ يده عند الفاقة ويقول: ثم شيء للّه.
وحدثونا عن أبي جعفر الحداد، وكان شيخاً للجنيد، له علم في التوكلّ وحال من الزهد، كان يقتات بخروجه بين العشاءين فيسأل من باب أو بابين،فيكون ذلك معلومة إلى بعض حاجاته من يوم أو يومين، ولم يعب هذا عليه أحد من الخصوص، وقد رأى بعض الناس رجلاً من الصوفية دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتاً في يده بعد عشاء الآخرة فعاتبه على ذلك وقال: دفع إليك شيء أخرجته كله،فلو تركت منه لعشائك شيئاً؟ فقال: ما ظننت أني أعيش إلى المساء، ولو علمت ذلك فعلت، وكان هذا زاهد قصير الأمل إلاّ أنّ السؤال للمتوكّل عند الخواص يخرجه من التوكّل، وقد كان سهل يقول: المتوكّل لا يسأل ولا يردّ ولا يحتكر، وليس يخرجه عندي من التوكّل المسألة عند الفاقة، بل عدم الصبر والقوة، ففقد ذينك وجود الإذن من اللّه له في السؤال إذا كان ناظراً إلى تصريف والوكيل في كل حال، ولأنّ الوليّ الحميد يقلب وليّه في جميع الأحوال، ألم ترَ إلى إمامي أهل الظاهر والكتاب وأهل الباطن والقلوب، استطعما أهلها، لأن المسلم يستحقّ على إخوانه سدّ جوعته لحرمة الإسلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف واجبة، وقال عليه الصلاة والسلام: الضيافة حقّ، وفي الخبر: ولك أن تأخذ من ماله مقدار ليلة، وفي الحديث: أيما أهل عرضة أو قرية بات فيهم رجل من المسليمين جائعاً فقد برئت منهم الذمة، وكان الثوري يسأل في البوادي من الحجاز إلى صنعاء اليمن، فقال: كنت أذكرهم حديث عبد اللّه هذا في الضيافة، قال: فيخرجون إليّ طعاماً فآكل شبعي وأترك ما بقي، والمسافر هو ابن السبيل الذي أوجب اللّه حقه في الأموال، لأن السبيل هو الطريق، وراكبها ابنها، لأنه صاحب طريق وسالكه، وليس عليه أيضاً في الثواء عن أخيه المسلم ثلاثة أيام شيء، لأنه مقيم على ما أبيح له.(2/167)
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الضيافة ثلاثة، فما زاد فهو صدقة، فلا يقيمنّ فوق ثلاث، فقد نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ولايقم فوق ثلاث فيحوجه أن يضيق عليه، وتأويل قوله عندي فما زاد فهو صدقة، أي مروه لامندوب إليه، ولا مأمور به، فإن اختار الصدقة ولم ينزّه نفسه عنها فهو أعلم، أي وما كان في الثلاث فهو حقّ له وواجب على مضيفه، فإن سألوه الأقامة فوق ثلاث أو علم أنهم يحبون الإقامة فلا بأس بذلك، وقد تأول بعض الصوفية قول النبي صلى الله عليه وسلم: فما زاد فوق ثلاث فهوصدقة، إنه صدقة على أصحاب المنزل من الضيف، تصدّق عليهم لإقامته، لأنه مثوبة لهم، ولا يعجبني هذا التأويل، وليحافظ على صلاته في أوقاتها بحسن طهارة وجميل أداء، وليحفظ قلبه أن يتشتت، فإن السفر قد يشتّت همّ المريد، ويجمع همّ العارفين، ويشغل قلوب الضعفاء، ويروح قلوب الأقوياء، وهو محنة وكشف لأخلاق العبد، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه للرجل الذي زكّى عنده رجلاً لما سأله عنه ليقبل شهادته فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا، قال: ما أراك تعرفه، وعن بعض السلف: إذا أثنى على الرجل معاملوه في الحضر ورفقاؤه في السفر فلا تشكّوا في صلاحه إذ ذاك، لأنّ السفر يسيء الأخلاق، ويكثر الضحر، ويخرج مكامن النفس من الشحّ والشره، وكل من صلحت صحبته في السفر صلحت صحبته في الحضر، وليس كل من صحب في الحضر صلح أن يصحب في السفر، وقال بعض السلف: ثلاثة لا يلامون على الضجر، الصائم، والمريض والمسافر، ولا ينبغي أن يفارقه من الأسباب أربعة، الركوة، والحبل، والإبرة بخيوطها والمقراض، وكان الخواص من المتوكلين، ولم تكن هذه الأربعة تفارقه، وكان يقول: ليست من الدنيا،وبعض الصوفية كان يقول: إذا لم يكن مع الفقير ركوة وحبل دلّ ذلك على نقصان دينه، وكان جماعة من أرباب القلوب وأهل المعاينة بالأحوال إذا استوطنت نفوسهم مصر أو سكنت إلى موضع عملوا في الغربة لرفع العادة وإيثاراً للقلة والذلة، وقالوا: لا يخلو المؤمن من قلّة أو علّة أو ذلّة، وكانوا إذا خافوا الاستشراف إلى الخلق خرجوا في الأسفار لقطع ذلك وحسمه من الأذكار، وقد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يوماً ويرى إنّ ذلك علّة في توكله فيعمل في اختبار نفسه وكشف حاله.
وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: لبثت في البرية أحد عشر يوماً لم أطعم شيئاً،، وتطّلعت نفسي أن تعرّج على حشيش البرية، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي فهربت منه، فلما ولّيت عنه هارباً التفتّ إليه، فإذا هو قد رجع عني،فانظروا إلى وليّ اللّه عزّ وجلّ كيف لم يفسد على توكلّي، فقيل له: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوّفت نفسي أن يقيتني، وعلى المسافر من أهل القلوب أن يفرّق بين سكون القلب إلى الوطن والسفر، وبين سكون النفس إليهما، فإنّ ذلك قد يلتبس فيحسب من لا بصيرة له، ولا تفتيش لحاله، ولا صدق في أحواله، أنّ سكون النفس هو سكون القلب فينقص بذلك ولا يفطن لنقصانه، فإن كان قلبه يسكن إلى أحدهما وفيه صلاح دينه وعمارة آخرته ومحبة ربه، فهذا سكون القلب لأنه يسكن إلى أخلاق الإيمان وماورد العلم به وإن كانت نفسه تسكن إلى أحدهما مما فيه عاجل حظوظ وعمارة دنياه وموافقة هواه، فهذا سكون نفس، لأنها تسكن إلى معاني الهوى، فليتحوّل من الوطن إلى الغربة، وليرجع من الغربة إلى المصر، ومن كان في سفر على غير هذا النعت من التفقد لحاله وحسن القيام بأحكامه فهو على هوى وفتنة، وسفره بلاء عليه ومحنة، وفصل الخطاب أنّ من لم يكن له في سفره حال يشغله، وهمّ يجمعه، ووقت يحبسه، ومأوى يظلّه، ومسكن يؤنسه، وزاد من باطنه، وعلم من عالمه، فإنّ الحضر أرفق لحاله، وأصلح لقلبه، وأسكن لنفسه من السفر، لأنه يكون في السفر مشتّت السرّ، مفرق الهمّ، تارة بوجود معلوم يخاف عليه، ومرة بفقد معتاد يحنّ إليه، مرة باستشراف إلى خلق يطمع فيه، فمرة يضعف قلبه مع العدم، وتارة يقوى بالاستطلاع إلى البشر، ومرة يفزع بفقد ما عنده قد حضر، فمثل هذا يكون في السفر نقصان ما ادعى، والسفر يجمع همّ الأقوياء، ويشتّت قلوب الضعفاء، ويذهب أحوال أهل الابتداء، ثم إن لم يصلح قلبه ولم يستقم حاله في الحضر فإنه لايصلح حاله ولا يستقيم قلبه في السفر، وأنشدوا لبعض السائحين في التغرّب:(2/168)
ألفت التفرّد والغربه ... ففي كل يوم أطي تربه
فيوم مقيم على نعمه ... ويوم مطلّ على نكبه
ومما يطلب نفس الغري ... ب حبيب تطيب به الصحبه
وقد نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده فقال: الثلاثة نفر، وقال: إذا كنتم في سفر ثلاثة فأمروا أحدكم، قال: فكانوا يفعلون ذلك، ويقولون ذاك أمير أمر رسو ل اللّه صلى الله عليه وسلم وكذلك يستحبّ.
وقد جاء في الخبر: خير الأصحاب أربعة، والأسفار، والنزه لا تطيب إلاّ في جماعة، وأقل الجماعة اثنان، والثلاثة والأربعة أفضل، والسياحة لا تحسن إلا على الانفراد والوحدة، فإن اتفق ثلاثة في سياحة بقلب واحد، وهمّ واحد، على حال واحد، فهم كعبد واحد، فهو حسن وفيه معاونة على البرّ والتقوى، قال اللّه عزّ وجلّ فيمن منعه النصرة وحرمه منه الصحبة:(لاَ يَسْتَطيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبْونَ) الأنبياء: 43، فمن نصره اللّه على نفسه فقد صحبه، ومن لم يصحبه سلَّط عليه نفسه وسخّره لها، وجمله الأمر أنّ السفر عمل من الأعمال يحتاج إلى نية وإخلاص، فمنه فرض وهو ما هرب به من معصية، ومنه فضل وهو ما طلب به طاعة، ومنه مباح وهو ما ضرب به في تجارة، ومنه معصية وهو ما سعى به في فساد.
لفصل الثالث والأربعون
كتاب حكم الإمام ووصف الإمام والمأموم(2/169)
فإن كان هذا المريد إماماً لحيّه كان عليه أن يقوم بحكم الإمامة حتى يتمّها، فيستحق الإمام بأن يكون له مثل أجر من صلّى خلفه بأن يكون داعياً إلى اللّه عزّ وجلّ، قائماً بين اللّه تعالى وبين عباده هو وجهتهم وطريقتهم إليه، وفي الخبر: إنما الإمام أمير، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا، وفي الحديث فإن تمّ فله ولهم، وإن نقص فعليه ولا عليهم، وفي الخبر: أئمتكم وفدكم إلى اللّه عزّ وجلّ، فإن أردتم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم، وفي الخبر المشهور: الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللّهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين، وفي الحديث: ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، وفي لفظ آخر: لا تجاورصلاتهم رؤوسهم: العبد الآبق، وامرأة زوجها عليهاساخط، وإمام قوم وهم له كارهون، فأوّل ما عليه من الشروط أن يكون مجتنباً للفسوق والكبائر وغير مصرِّ على الصغائر، قارئاً لكتاب اللّه عزّ وجلّ، أو لما يحسن منه بغير لحن ولا إحالة معنى، عالماً بفرائض الصلاة وسننها، وما يفسدها وما يوجب السهو وما لا يوجبه منها، وإنْ حدثت عليه حادثة في الصلاة، أو ذكر أنه على غير وضوء ورع واتقى اللهّ عزّ وجلّ، وخرج من صلاته وأخذ بيد أقرب الناس منه، فاستخلفه في مقامه، وقد أصاب ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إمام الأمة في الصلاة فخرج منها، وذلك أنه ذكر أنه كان جنباً فاغتسل، ثم رجع فدخل في الصلاة، فإن كانت الحادثة في الصلاة فعل ذلك، وإن كان ذكر أنه دخل في الصلاة على غير طهارة خرج ولم يستخلف وابتدأ القوم صلاتهم، فليكن الإمام مأموناً على طهارته بإكمالها، مأموناً في صلاته بإقامتها، مخلصاً بالإمامة، يريد بها وجه اللّه تعالى وما عنده، ولايحلّ له أن يأخذ على الصلاة أجراً ولا على الأذان الذي هوطريق إليها، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص الثقفي فقال: واتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً، فهذا الداعي إلى الصلاة لا يحلّ له أن يأخذ على دعائه أجراً فكيف المصلّي القائم بين اللّه وبين عباده؟ وقد كان بعض السلف يقول: ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء، ولا بعد العلماء أفضل من أئمة المصلّين، لأنّ هؤلاء قاموا بين اللّه تبارك وتعالى وبين خلقه، هذا بالنبوّة، وهذا بالعلم، وهذا بعماد الدين، وهي الصلاة، وبهذه الحجة احتّج على عليّ رضي اللّه عنه في تقدمة أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه للخلافة لما أهله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لديننا قال: فنظرنا فإذا الصلاة عماد الدين، فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لديننا، وقال ورجل: يارسول اللّه دلّني على عمل يدخلني الجنة، فقال: كن مؤذناً، قال: لا أستطيع، قال: كن إماماً، قال: لا أستطيع، قال: فصلِّ بإزاء الإمام، وقد كان بعض الورعين يتورع عن الإمامة لما فيها ولما على الإمام من ثقلها وتحملها، وكانوا يختارون الأذان على الإمامة ويفضلونه عليها، منهم كثير من الصحابة، وعليه أن يراعي أوقات الصلوات ليصلّي في أوائلها، فيدرك رضوان اللّه عزّ وجلّ، وبيّن فضل الصلاة في أول وقتها على الصلاة في آخر وقتها كفضل الآخرة على الدنيا، كذلك روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر: أنّ العبد ليصلِي الصلاة في آخر وقتها ولم يفته ولما فاته من أول وقتها خير له من الدنيا وما فيها،وليتمّ الركوع والسجود والاعتدال والقعود بنيهما، فيكون ذلك قريباً من السواء، معتدلاً كله، حتى يدرك مَنْ وراءه من الضعفاء والمرضى،فتلك كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون له ثلاث سكتات.(2/170)
كذلك روى سمرة بن جندب وعمران بن حصين عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أولهن: إذا كبر وهي الطولى منها مقدار ما يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب لئلا يقرؤوا في قراءته، فيكون عليه ما نقص من صلاتهم، فإن لم يقرؤوا فاتحة الكتاب في سكوته واشتغلوا بغيرها، فذلك حينئذ عليهم، وقد فعل هو ما عليه، والسكتة الثانية إذا فرغ هو من قراءة الحمد ليتمم من بقى علي شيء من فاتحة الكتاب في هذه السكتة وهي على النصف من السكتة الأولى، والسكتة الثالثة إذا فرغ من قراءة السورة قبل أن يركع وهي أخفهّن على النصف من السكتة الثانية لئلا يكون مواصلاً في صلاته بأن يصل التكبيرة بالقراءة ويصل القراءة بالركوع فقد نهى عن ذلك، وعلى المأموم أيضاً أن لا يصل تكبيره الإحرام ولا تسليمه بتسليم الإمام، وعليهما أن لا يصلا التسليمتين ليفصلا بينهما، فقد نهى عن المواصلة في الصلاة وهي في هذه الخمس، وعلى المأموم أن يكبر ويركع ويسجد ويرفع ويضع بعد الإمام ولا يخرّون سجّداً حتى تقع جبهة الإمام على الأرض وهم قيام ثم يخرّون بعده، كذلك كانت صلاة الصحابة خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يكبر حتى يعتدل الصف وراءه، وليلتفت يميناً وشمالاً، فإن كان أعوج أشار بيده، وإن رأى خللاً أمر بسدّه فإن تسوية الصف من تمام الصلاة، وكانوا يحذون بين المناكب ويتضامون في الكعاب، وقد قيل: إنّ الناس يخرجون من الصلاة على ثلاثة أقسام، طائفة بخمس وعشرين صلاة وهم الذي يتمون صلاتهم بعد ركوع الإمام وسجوده، وطائفة بصلاة واحدة وهم الذين يكبرون ويركعون ويسجدون معه مواصلة له ومبادرة، وطائفة تخرج بغير صلاة وهم الذين يرفعون ويضعون قبله فيسابقون إمامهم، وليقرأ في صلاة الغداة بسورتين من المثاني وهي مادون المائة، فإن الإطالة في قراءة الفجر والتغليس سنّة، ولا يضرّه خروجه منها مسفراً إذا كان قد دخل فيها مغلساً، ولا أكره أن يقرأ في الركعة الثانية منها بأواخر السور من نحو الثلاثين أو العشرين إلى أن يختمها لأن في ذلك مزيد تذكرة وفضل تبصرة، لأنه يبعد طروقه على الأسماع لكثرة الاعتياد لتلاوة السور القصار فهي أدنى إلى الانقطاع والتفكّر، وإنما كره أن يقرأ من أوّلها كذلك، ثم يقطع أو يقرأ من وسطها، ثم يركع قبل أن يختمها هذا الذي كرهه بعض العلماء.
وقد روينا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعض سوررة يونس فلما انتهى إلى ذكر موسى وفرعون قطع فركع،وروينا حديثاً أشهر منه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر مائة مرة من سورة البقرة قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللّه) البقرة:136 الآية، وفي الثانية: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ) آل عمران: 53، وفي رواية أنه قرأ فيهما:(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ) آل عمران: 18، وأنه سمع بلالاً يقرأ من ههنا وههنا فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت أو أًصبت، والخبر المشهور عن أبي بكر الصديق قال الصنابحي: صلّيت خلفه المغرب فأصغيت إليه في الركعة الثالثة، فإذا هو يقرأ هذه الآية:( رَبَّنَا لاَ تُزِغ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا ) آل عمران: 8 الآية، فكذلك يستحبّ أن يقرأ بهذه الآية خاصة في الثالثة من صلاة المغرب،وروينا عن ابن مسعود أنه أمّ الناس في صلاة العشاء الآخرة فقرأ في الركعة الثانية بالعشر الأواخر من سورة آل عمران، وأنه قرأ أيضاً في هذه الصلاة بآخر سورة الفرقان من قوله تبارك وتعالى:(تبارك الذي جعل في السماء بُرُوجاً) الفرقان: 61 وقد قال الفقهاء في المستحبّ من القراءة بعد سورة الحمد من الزيادة عليها أن يقرأ ثلاث آيات من سورة، وبعضهم يقول: آيتين من سورة، فإن اكتفى بسور الحمد أجزأه.(2/171)
وقد روينا عن جابر بن زيد فقيه أهل البصرة وكان ابن عباس يستخلفه في الفتيا ويأمر أن يستفتي أنه افتتح الصلاة ثم قرأ الحمد ثم قال: (مدهامتان) الرحمن:64 وركع، وهذه أقصر آىة في كتاب اللّه عزّ وجلّ وبعدها، ثم نظر وقد رأيت بعض الأئمة في جامع عظيم من جوامع المسلمين قرأ في الركعة الثانية من صلاة العشاء الاخرة بآخر سورة يونس وخلفه العلماء والأشهاد، فما أنكر عليه أحد، وليقرأ في صلاة الظهر بطوال المفصل إلى الثلاثين آية، في صلاة العصر بوسط المفصل على نصف صلاة الظهر، في المغرب بأواخر المفصل وآخر صلاة صلاّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المغرب قرأ فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة والمرسلات ما صلِّى بعدها حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وقال أنس: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أخفّ الناس صلاة في تمام ثم قال أيضاً: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمر بالتخفيف في الصلاة وإن كان ليؤمنّا بسورة والصافات.
وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الرخص إذا صلّى أحدكم بالناس فليخفّف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء، وقد كان معاذ بن جبل يصلِي بقومه صلاة عشاء الآخرة فافتتح بسورة البقرة، فخرج رجل من الصلاة وأتّم لنفسه، ثم انصرف فقالوا: نافق الرجل، ثم تشاكيا إلى رسول اللّه ّ صلى الله عليه وسلم فأشكى الرجل وزر معاذ وقال: أفتّان أنت؟ اقرأ بسورة سبّح والسماء والطارق والشمس وضحاها، وليسبّح في ركوعه وسجوده سبعاً أو خمساً ليدرك من وراءه ثلاثاً ثلاثاً لأنهم يركعون ويسجدون بعده.
وروينا أنّ أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيزكان أميراً بالمدينة قال: ما صلِت بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل صلاة هذا الشاب قال: وكنا نسبّح وراءه في الركوع والسجود عشراً عشراً، وقد روينا مجهلاً عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: كنا نسبح وراءه في الركوع والسجود عشراً عشراًً، فإن قرأ في الأخيرتين من الظهر والعصر وعشاء الاخرة بعد الحمد بسورة قصيرة أو آيتين من سورة فحسن ليدرك مَنْ وراءه قراءة الحمد على مهل، وقد اختلف مذهب السلف في الإمام يكون راكعاً فيسمع خفق النعال هل ينتظر في ركوعه ويتوقّف حتى يدخلوا في الركعة أو لا يباليهم؟ فقال بعضهم: ينتظر حتى يلحقوا معه وممن اختاره الشعبي، وقال آخرون: لا ينتظرهم فإن حرمة من معه في الصلاة أعظم من حرمة من تأخر عنها، وقال بهذا إبراهيم النخعي، وكذلك قال فقهاء الحجاز: لا ينتظرهم فإنه زيادة في الصلاة، ومن الإخلاص بها ترك التوقف بها لأجلهم، وقال بعض فقهاء الكوفة إن انتظرهم فحسن ليدركوا معه الجماعة فيكون له فضل إدراكهم، وقد قدم عثمان القنوت قبل الركوع في صلاة الغداة ليدركوا الناس الركوع، والذي عندي في هذا التوسط وهو أنه ينتظر فإن سمع خفق نعالهم في أوّل ركوعه فلا بأس أن يمدّ حتى يلحقوا،وإن سمعها في آخر ركوعه عند رفع رأسه لم أحبّ أن لا يزيد في الصلاة لأجلهم فليرفع ولا يبالي، وأفضل التشهد عندي الذي رواه ابن مسعود وجابر، وقد اختلفت الروايات في ألفاظ التشهد والذي اختاره، وأقوله ما رويناه عن عبد اللهّ بإثبات الواوات، وبتقديم اسم اللّه عزّ وجلّ في أوله، وبزيادة المباركات، فأكون بذلك جامعاً بين جميع الروايات لأن في حديث عمر ذكر المباركات وتأخير قوله للّه عزّ وجلّ، ومن رواية ابن عمر ذكر التسمية.(2/172)
وقد روينا ذلك في حديث الثوري عن أيمن بن وائل عن أبي الزبير عن جابر أنّ رسول الّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: بسم اللّه، وباللّه، التحيّات للّه، والصلوات والطّيبات للّه عزّ وجلّ، فهذا هو الأفضل عندي لأنه هو الأحوط ولدخول روايات الجماعات فيه، ثم اختلفوا في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالإشارة إليه في السلام،أو تركها، فالذي اختاره السلام على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللهّ الصالحين لأنه قد جاء في بعض الأخبار كالتفسير لما ذكرناه، قال: كنا نقول إذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، فلما قبض صلى الله عليه وسلم صرنا نقول: السلام على النبي، وفي كل الروايات قوله: وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، فكذلك اختار إلا في رواية عمر، فإنه ذكره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وحدثني بعض العلماء عن بعض الصالحين قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول اللّه قد اختلف العلماء علينا في التشهد فيم نأخذ فقال: التشهد هو الذي رواه ابن أم عبد، ولا يدع أن يستعيذ في تشهده بالكلمات الخمس فيقول: أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيّا،والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قد فعله رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وأمر به، والمسيح بنصب الميم مع التخفيف لأنه قيل سمّي كذلك معدول به من ماسح، أي يمسح الأرض مسحاً،لأنه قيل: تطوى له الأرض، وبعض أهل اللغة يقول: عدل به عن ممسوح العين أي مطموسها، والتكبير والتسليم جزم والأذان جزم، قد قيل ذلك واستحبّ أنْ يكون المؤذن غير الإمام.
وقد روينا في الخبر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كره أن يكون الإمام مؤذناً، وقد كان عمر رضي اللّه عنه إذا ذكر فضل الأذان يقول لولا الإمامة لأذنت.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأذان إلى المؤذن والإقامة إلى الإمام؛ أي هو أملك بها، وللمؤذن أنْ ينتظر الإمام، وليس على الإمام والمأموم انتظار المؤذن إذا دخل الوقت، ولا على المؤذن انتظار أحد إذا انتظر الإمام ودخل الوقت، والصلاة في أول وقتها أفضل من انتظار الجماعة لها، وأفضل من قراءة طوال السور فيها، وقيل: قد كانوا إذا حضر اثنان في الصلاة لم ينتظروا الثالث، وإذا حضر أربعة في الجنازة لم ينتظروا الخامس، وقيل: انتظار المأموم مع شهود الإمام مكروه والنعي بالميت والإيذان به بدعة، وقد تأخر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من صلاة الفجر وكانوا في سفر، وإنما تأخر لطهارة، فلم ينتظر، وقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلّى بهم حتى فاتت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعة فقام يقضيها، قال: فأشفقنا من ذلك فقال: أحسنتم هكذا فافعلوا، وقد تأخر في صلاة الظهر فقدموا أبا بكر رضي اللّه عنه حتى جاء وهم في الصلاة، فقام إلى جانبه، ليدخل في الصلاة مكبّراً إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، ويكون الناس قد قاموا إذا قال المؤذن: حيّ على الصلاة، كذلك السنة وعليه كان السلف.(2/173)
وروينا عن عليّ عليه السلام وعبد اللّه وكانوا إذا قال المؤذن: حيّ على الصلاة قام الناس للدعوة، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبّر الإمام، ويبقى المؤذن وحده يتم الإقامة، ثم يدخل في الصلاة والإمام يقرأ سورة الحمد، لأنّ حقيقة قوله قد قامت الصلاة أي قد قام الناس للصلاة، وقد قام المصلّون لأنّ الصلاة لا تقوم، فإذا قاموا عند قوله: قد قامت الصلاة كان المؤذن صادقاً في قوله، وإن كان جائزاً على المجاز لقرب الوقت وظهور سبب القيام، ولذلك كره أن يكون الإمام مؤذناً لأنه حينئذ يحتاج أن يكبّر ويدخل الناس في الصلاة عند قوله: قد قامت الصلاة، وكذلك جاء عن السلف من السنّة أن يكون الأذان في المنارة والإقامة في المسجد ليقرب على المؤذن الدخول في الصلاة، وكذلك قال بلال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تسبقني بآمين؛ أي تمهّل حتى أدرك النامين معك لفضله إذ قد علم أنه يسبقه بافتتاح الحمد، وفي هذا دليل على صحة اختيارنا فيما ذكرنا من انتظار الإمام لمن سمع خفق نعله إذا كان في أول الركوع لقول بلال: لا تسبقني بآمين ولم يقل: لا تسبقني بالحمد ولا أستحبّ للإمام الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وإن كانت آية من سورة الحمد فأكثر الروايات وأثبتها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك الجهير بها، وأنه الآخر من فعله فقد كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولأنه مذهب أكثر العلماء.
وروينا عن ابن مسعود أنه قال: من السنّة أن لا يخفي الإمام أربعاً؛ سبحانك اللّهم، والاستعاذة، وقراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم، والتأمين، وقد روينا عن عليّ كرّم اللّه وجهه: الجهر بها، وعن ابن عباس: ليس من السنّة الجهر بها ولا أكره القنوت في صلاة الغداة بالكلمات الثمانية التي رويت عن الحسن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يقولها سرّاً ولا يرفع يديه، لأنها تجري مجرى الدعاء، وإن ترك ذلك فحسن، قد تركه أكثر الفقهاء واستحبّ أن يقرأ في ليلة الجمعة وغداتها من السور ما روينا عن رسول اللّه في حديثين؛ المشهور منهما: أنه كان يقر في صلاة الغداة يوم الجمعة بسورة السجدة (هَل أَتى) الدهر:1، والحديث الآخر، أنه كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللّه أحَدٌ) الكافرون:1، الإخلاص:1، وفي عشاء الآخرة بسورة الجمعة وسورة المنافقين، واستحبّ أن يقول في تشهّده من الدعاء ما علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عائشة من الجوامع والكوامل: اللّهم إني سألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، أسألك مما سألك منه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك ما استعاذك منه محمد صلى الله عليه وسلم، أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللّهم ما قضيت لي من أمر فاجعل عاقبته رشداً، ثم يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ويقول: (رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا) آل عمران:8 الآية، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقنا عذاب النار، وليس بعد هذا دعاء مفضل ولا كلام مأثور سوى ما ذكرناه آنفاً من الاستعاذة بالكلمات الخمس، وإنْ اقتصر عليها أجزأته ويكره للإمام أن يخصّ نفسه بدعاء دون من خلفه فإن دعا في صلاته فليجمع بالنون فيقول نسألك ونستعيذك وهو ينوي بذلك نفسه ومن خلفه.(2/174)
وفي الخبر: من أمّ قوماً فلا يخصّ نفسه بدعوة دونهم فإن اختار المريد التأذين على الإمامة فقد قال بعض السلف من العلماء: إنّ الأذان أفضل من الإمامة، وإنّ المؤذن أعظم أجراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الإمام أمير، ولقوله: الإمام ضامن، فشبهها بالإمارة والضمان، ثم قال: فإن نقص فعليه لا عليهم، فالأذان أسلم، ولعله لا يقوم بحكم الإمامة، ولا يتمّ وصف الإمام فيكون عليه بعض صلاة المصلّين كما يكون له أيضاً في الإتمام أجورهم، وأيضاً فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا للمؤذنين دعاء هو أمدح من دعائه للإمام بقوله: اللّهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين وبقوله: يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس، ووصفه أيضاً بوصف هو أبلغ فقال: المؤذن مؤتمن، وفي لفظ آخر: مؤذنوكم وأئمتكم ضمناؤكم، فالأمين أرفع حالاً من الضامن لأنّ الضامن غارم، وقد لا يكون أميناً، والأمين مكيناً، ولا ضمان عليه؛ ومن هذا كره سهل بن سعد الساعدي الإمامة، قال أبو حازم: قلت لسهل بن سعد وكان يقدم فيتان قومه يصلّون به، فقلت: أنت صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولك من السابقة والفضل لو تقدّمت فصلّيت بقومك، فقال: يا ابن أخي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: الإمام ضامن فأكره أنْ أكون ضامناً، وفي الخبر: من أذّن في مسجد سبع سنين وجبت له الجنة، ومن أذّن أربعين عاماً دخل الجنة بغير حساب، وفي الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك يفزع الناس ولا يفزعون حتى يقضي بين الخلائق؛ رجل قرأ القرآن فأدّاه إلى اللّه سبحانه وتعالى بما فيه، ورجل أذّن في مسجد ابتغاء وجه اللّه تعالىى، ورجل ابتلى بالرق في الدنيا فأطاع اللّه عزّ وجلّ وأطاع مواليه.
وروينا في تفسير قوله تعالى:(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه) فصلت:33؟ قال: نزلت في المؤذنين وعمل صالحاً قال: الصلاة بين الأذان والإقامة يستجب إذا فرغ المؤذن من الأذان أن يقول: وأنا من المسلمين الحمد للّه رب العالمين، وتلا قوله وعمل صالحاً، وقال: إنني من المسلمين، وقوله مخلصين له الدين الحمد للّه رب العالمين، فاستحب أنْ يصلّي المؤذن بين الأذان والإقامة أربعاً، وأنْ يجهد في الدعاء، قال: وكان السلف يكرهون أربعاً ويتدافعونها عنهم: الإمامة والفتيا والوصية والوديعة، وقال بعضهم: ما شيء أحب إليّ من الصلاة في جماعة، وأكون مأموماً فأكفى سهوهاً ويتحمل غيري ثقلها، ولكن إذا أقمت الصلاة فليتقدم من أمر بالتقدم ولا يتدافعونها، فقد جاء في العلم أنّ قوماً تدافعوا الإمامة بعد إقامة الصلاة فخسف بهم، ولكن لا يقيم المؤذن حتى يحضر الإمام، ولا ينتظروا الإمام قياماً فإنه مكروه، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تقوموا حتى تروني، وكان بشر بن الحارث يقول: من أراد سلامة الدنيا وعزّ الآخرة فليجتنب أربعاً: لا يحدث ولا يشهد ولا يؤم ولا يفتي، وفي بعضها ولا يجيب دعوة، وقال مرة: ولا يقبل هدية وهذا من تشديده، والذي اختار من التأذين والإقامة مذهب أهل الحجاز بتثنية الأذان، بالترجيع وإفراد الإقامة، وأنْ يزيد في أذان الفجر الصلاة خير من النوم مرتين، وأنْ يؤذن لها قبل دخول الوقت، خاصة ليتأهب لها المصلّون وإنما هي الصلاة الوسطى إلاّ أنْ يتفقوا على صحة الحديث شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، فليدع الاختيار للآثار، وإنْ يمدّ المؤذن صوته ويرفعه جهده ويترسل أذانه، وقيل كانوا يستحبون خفض الصوت في كل موطن إلاّ في موضعين: في الأذان وعند التلبية.(2/175)
وفي الخبر: يتمهل المؤذن بين أذانه وإقامته قدر ما يفرغ الأكل من طعامه، والمعتصر من اعتصاره، فهذا توقيت من مقدار المصلّين بين الأذانين، فمن كانت به حاجة إلى هذين فليقدم ذلك قبل دخوله في الصلاة لئلا يشغله شيء عن صلاته، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن مدافعة الأخبثين في الصلاة، وأمر بتبدئة العشاء في قوله: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ذلك ليكون القلب فارغاً لربه خالياً من نوائبه، فذلك من إقامة الصلاة وتمامها، وأكره الإمامة لمن كثر سهوه في الصلاة، أو دام اشتغال قلبه عن فهم المناجاة، أو لمن علم أنّ وراءه من هو أقرأ منه أو أفقه في الدين والعلم وإنْ كان هو عابداً صالحاً، أو لفقيه بالعلم إذا كان وراءه أتقى منه وأصلح وأروع بعد أنْ يكون مؤدّياً لفرض التلاوة، ولا يؤم الأمي القراء ولا الأعجمي الفصحاء ولا المتيممون المتوضئين، وإنْ اتّفق أميّون قدم أقرؤهم وإنْ حضر أئمة قرّاء فليتقدم بالعلم، وإنْ اتّفق رجلان أحدهما قد جمع كل القرآن إلاّ أنّ الآخر أحسن تجويداً وتثقيفاً لما يقرأ منه، وليس يحفظ جميعه فليقدم أقومهم قراءة إذا كان عالماً بالصلاة، وفي الخبر: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه عزّ وجلّ، فإن كانوا في القراءة سواء فأفقههم في الدين، فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنّاً، فلذلك الأمر الرجل أحق بالإمامة إذا كان في منزله إلاّ أنْ يأذن، واستحب للإمام إذا سلم أنْ يسرع الانفتال بوجهه إلى الناس، وأكره للمأموم القيام قبل انفتال إمامه، فقد روينا في ذلك سنّة حسنة عن طلحة والزبير، أنهما صلّيا في البصرة خلف إمام، فلما سلّما قالا للإمام: ما أحسن صلاتك وأتمّها، كما كنا نصلّي الأشياء، واحداً أنك لما سلمت لم تنفتل بوجهك، ثم قالوا للناس: ما أحسن ما صلّيتم إلاّ أنكم انصرفتم قبل أنْ ينفتل إمامكم، ومن كرهه جيرانه أو كرهه مَنْ وراءه من المأمومين فلا يحل له أنْ يتقدم، فإن اختلفوا فكرهه قوم وأحبه آخرون، نظر إلى أهل الدين والعلم منهم فحكم بقولهم ولا يعتبر الأكثر إذا كان الأقلون هو الأخير، ولا يصلّي خلف مبتدع، فمن صلّى خلف مبتدع ولا يعلم فليعد، ومن سمع الأذان من مسجد وهو في طريق يمشي فليدخل فليصلِّ، ولا يؤخر إلى مسجد آخر إلاّ لأحد معنيين: أنْ يكون على يقين من لحوق إمام آخر أفضل من هذا، أو يكون يعرف هذا ببدعة أو فسوق، وإلاّ فالصلاة مع أوّل من قام بها من المسلمين أفضل.
وفي الخبر: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وفي جار المسجد قولان: أحدهما من سمع الأذان وروي هذا عن عليّ عليه السلام، والثاني من كان بينه وبين المسجد ثلاث دور وهو الرابع، والتشديد في ترك الجماعة على من سمع التأذين، ومن كان في جنبه مسجدان فأولاهما بالصلاة فيه أقربهما منه، وهذا مذهب الحسن إلاّ أنْ يكون له نية في كثرة الخطا إلى الأبعد، أو يكون إمام الأبعد هو الأفضل، وقيل: أقدمهما، وروي هذا عن أنس بن مالك وبعض الصحابة، أنهم كانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى العتق، ومن كان مأموماً فلا يقرأ سورة مع الحمد فيما يجهر به الإمام أصلاً ولا يقرأ الحمد أيضاً إلاّ في سكتات الإمام وإنْ قطعها، فإن لم يكن للإمام سكتات قرأ الحمد فقط فيما يجهر به الإمام، وكان ما عليه من وزر قراءته في قراءة الإمام على إمامه، لأنه قد نقص صلاته وترك ما عليه، فاللّه عزّ وجلّ حسيبه، فإذا أسر الإمام فليقرأ الحمد وسورة إذا أمكنه ولا بدّ من قراءة الحمد وحدها، واستحب للإمام أنْ يتحول إذا صلّى المكتوبة فلا يصلّي في موضعه نافلة، ففي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم وثب، وكان أبو بكر رضي اللّه عنه إذا سلم وثب، وكان عمر رضي اللّه عنه إذا سلم وثب، وفي الخبر المشهور أنه لم يكن يقعد إلاّ قدر قوله: اللّهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ينصرف، وإنْ تحول المأموم فصلّى النافلة في غير مكان الفريضة ولو بقدم فحسن، ففي ذلك أثر، فإن جلسا قليلاً للتسبيح والدعاء فلا بأس، وهذا آخر كتاب الإمامة.
الفصل الرابع والأربعون
كتاب الأخوة في اللّه
تبارك وتعالى، والصحبة والمحبة للإخوان فيه، وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين:(2/176)
ذكر اللّه عزّ وجلّ عباده المؤمنين نعمته عليهم في الدين، إذ ألف بين قلوبهم بعد أن كانوا متفرقين، فأصبحوا بنعمته إخواناً بالألفة متفقين، وعلى البرّ والتقوى مضطجعين، ثم ضم التذكرة بالنعمة عليهم إلى تقواه، وأمر بالاعتصام بحبله وهداه، ونهى عن التفرق إذ جمعتهم الدار، وقرن ذلك بالمنة منه عليهم، إذا أنقذهم من شفا حفرة النار، وقد جعل ذلك كله من آياته الدالة عليه سبحانه وتعالى وسيله الواصلة بالهداية إليه، فقال في جمل ما شرحناه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران:102 (ولا تفرقوا) (ولعلكم تهتدون) آل عمران103 وقد كانت المؤاخاة في اللّه تعالى والصحبة لأجله والمحبة له في الحضر والسفر طرائق للعاملين، في كل طريق فريق، لما في ذلك من الفضل، ولما جاء فيه من الأمر والندب، إذ كان الحبّ في اللّه عزّ وجلّ من أوثق عرى الإيمان، وكانت الألفة والصحبة لأجله والمحبة والتزاور من أحسن أسباب المتّقين، وقد كثرت الأخبار في تفضيل ذلك والحث عليه، وليس قصدنا الجمع لما روي لميلنا إلى الإيجاز في كل فن، ولكن نذكر الأفعال المستحسنة وما تعلّق بها مما لا بد منه، على أنّ رأي التابعين قد اختلف في التعريف، فمنهم من كان يقول أقلل من المعارف، فإنه أسلم لدينك وأقل غدا لفضيحتك، وأخف لسقوط الحقوق عنك، لأنه يقال: كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق، وكلما طالت الصحبة توكدت المراعاة، وقال بعضهم: هل رأيت شرّاً إلا ممن تعرف، فكلما نقص من هذا فهو خير، وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف، وممن مال إلى هذا الرأي: سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي والفضيل بن عياض، وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي وبشر الحافي، وقال أكثر التابعين باستحباب كثرة الإخوان في اللّه عزّ وجلّ، بالتأليف والتحبب إلى المؤمنين، لأن ذلك زين في الرخاء، وعون في الشدائد، وتعاون على البرّ والتقوى، وألفة في الدين، وقال بعضهم: استكثر من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك، وكانوا يأمرون بالأخوة ويتحاضون على الألفة، ويقال: إذا غفر للعبد شفع في إخوانه، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثاً غريباً في تفسير قوله تعالى: (وَيَسْتَجيبُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى:26، قال: يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم، وممن مال إلى هذا الطريق: ابن المسيب والشعبي، وابن أبي ليلى وهشام بن عروة، وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد اللّه، وابن عيينة وابن المبارك، والشافعي وأحمد بن حنبل، ومن وافقهم، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنّ أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون.(2/177)
وروينا عنه صلى الله عليه وسلم: المؤمن مألوف ولا خير فيمن يألف ولا يؤلف، وقد قيل: أول ما يرفع من هذه الأمة، الخشوع ثم الورع ثم الأمانة ثم الألفة، وفي الخبر: من أراد اللّه به خيراً رزقه خليلاً صالحاً، إنْ نسي ذكره وإنْ ذكر أعانه، وروينا في خبر مثل الأخوين: إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان إلاّ أفاد اللّه عزّ وجلّ أحدهما من صاحبه خيراً، وروينا في خبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من آخى أخاً في اللّه عزّ وجلّ، رفعه اللّه عزّ وجلّ درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله، ويقال إنّ الأخوين في اللّه عزّ وجلّ إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر، رفع الآخر معه إلى مقامه، وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض، لأن الأخوة عمل كالولادة، وقد قال اللّه سبحانه بعد قوله: (أَلَحقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَمَا ألتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) الطور:21، أي وما نقصناهم، وقال تعالى مخبراً عمن لا صديق له حميم تنفعه شفاعته: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعينَ وَلاَ صَديقٍ حَمِيمٍ) الشعراء:100 - 101 ومعنى حميم أي هميم، أبدلت الحاء هاء لتقاربهما، مأخوذ من الاهتمام أي مهتم بأمره، ففيه دليل أنّ الصديق لك هو المهتم بك، وإنّ الاهتمام حقيقة الصداقة، وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن كثير بأخيه، وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما أعطى عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، وقال أيضاً: إذا رأى أحدكم ودّاً من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك، وقد قال بعض الحكماء في معناه كلاماً منظوماً شعراً:
ما نالت النفس على بغية ... ألذّ من ودّ صديق أمين
مَنْ فاتَه ودّ أخ صالح ... فذلك المقطوع منه الوتين(2/178)
وقد يروي هذا المصراع الثاني فذلك المغبون حقّاً يقين، وروينا في الأخبار السابقة إنّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظان وارتد لنفسك إخواناً، وكل خدن وصاحب لا يوازرك على مسرتي فهو لك عدو، وفي خبر غيره عن داود عليه السلام أنّ اللّه سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحداناً، قال: إلهي قليت الخلق من أجلك، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا داود كن يقظان مرتاداً لنفسك إخواناً، فكل خذن لا يوافقك على مسرّتي فلا تصحبه، فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كونوا مؤلفين ولا تكونوا منفرين، وفي الحديث: إنّ أحبكم إلى اللّه عزّ وجلّ الذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إلى اللّه عزّ وجلّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، وفي أخبار داود صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ربّ كيف لي أنْ يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك، قال: خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك، وفي بعضها: خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا، وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة، قال الشعبي عن صعصعة بن صوجان أنه قال لابن أخيه زيد: أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من ابني، خصلتان أوصيك بهما فاحفظهما: خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن وأنه لحق عليك أنْ تخالص المؤمن، وقد قال أبو الدرداء قبله: إنّا لنشكر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم، فمعنى هذا على الثقة والمداراة ليدفع بذلك شره وأذاه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (إدْفَعْ بالتي هِيَ أَحْسَنُ) فصلت:34، قيل السلام: (فَإذَا الَّذي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداَوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ) فصلت:34 وكان ابن عباس يقول في معنى قوله عزّ وجلّ: (وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد:22، قال: يدفعون الفحش والأذى وهو السيّئة بالسلام، والمداراة وهو الحسنة، وقد كان أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومنه قوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) البقرة:251، قيل بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة، وكذلك معنى قولهم: خالص المؤمن وخالق الفاجر فالمخالصة بالقلوب من المودة واعتقاد المؤاخاة في اللّه عزّ وجلّ، والمخالفة المخالطة في المعاملة والمبايعة، وعند اللقاء، وكذلك جاء مفسراً: خالطوا الناس بأعمالهم وزايلوهم في القلوب، وقد قال محمد بن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهم: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً، حتى يجعل اللّه عزّ وجلّ له منه فرجاً، فمعاملة غير تقي ومكالمته من أحوال الإضطرار، ومعاشرة التقي ومصافاته من حسن الاختيار.
وفي أخبار موسى عليه السلام فيما أوحى اللّه عزّ وجلّ إليه، إنْ أطعتني فما أكثر إخوانك من المؤمنين، المعنى: إنْ واسيت الناس وأشفقت عليهم وسلم قلبك لهم ولم تحسدهم، كثر إخوانك، ويقال إنّ أحد الأخوين في اللّه عزّ وجلّ إذا مات قبل صاحبه.(2/179)
وقيل له: ادخل الجنة سأل عن منزل أخيه، فإن كان دونه لم يدخل الجنة حتى يعطي أخوه مثل منازله، قال: ولا يزال يسأل له من كذا وكذا، فيقال إنه لم يكن يعمل مثل عملك فيقول: إني كنت أعمل لي وله، قال: فيعطي جميع ما سأل له ويرفع أخوه إلى درجته معه، فقد كانوا يتواخون ويتعارفون المنافع الآخرة الباقية، لا لمرافقة الدنيا الفانية وأفضل الأخوة، كما قال بعض العلماء: المحبة الدائمة والألفة اللازمة من قبل، أنّ الأخوة والمحبة عمل، وكل عمل يحتاج إلى حسن خاتمة به ليتم العمل، فيكمل أجره، فإن لم يختم له بالآخرة ولم يحسن عاقبة الصحبة والمحبة، فقد أدركه سوء الخاتمة، بطل عنه ما كان قبل ذلك، فقد يصطحب الاثنان ويتواخى الرجلان عشرين سنة، ثم لا يختم لهما بحسن الأخوة فيحبط بذلك ما سلف من الصحبة، فلذلك شرط العالم المحبة الدائمة والألفة اللازمة إلى الوفاة ليختم له به، ويقال: ما حسد العدو ومتعاونين على برّ حسده، متواخيين في اللّه عزّ وجلّ ومتحابين فيه، فإنه يجهد نفسه ويحث قبيله على إفساد ما بينهما، وقد قال الصادق عزّ وجلّ: (وقل لعبادي يقولوا: التي هي أحسن إنّ الشيطان يَنْزَغُ بينهم) الإسراء:53 يعني يقولون الكلمة الحسنة بعد نزغ الشيطان، وقال عزّ وجلّ مخبراً عن يوسف عليه السلام من: (بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْني وَبَيْنَ إخْوتي) يوسف:100 وقد يقال: ما تواخى اثنان في اللّه عزّ وجلّ ففرق بينهما، إلاّ بذنب يرتكبه أحدهما، فقال بشر: إذا قصر العبد في طاعة اللّه تبارك وتعالى، سلبه اللّه عزّ وجلّ من يؤنسه، ويقال للعدو شيطان، قد وكله بالتفريق بين المتواخيين، ليس له عمل إلاّ ذلك، قد تفرغ له، ومن علامة التقى حسن المقال عند التفرق، وجميل البشر عند التقاطع، أنشدنا بعض العلماء الحكماء في معناه:
إنّ الكريم إذا تقضى وده ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تصرم حبله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا(2/180)
فوصف الكريم في هذا المعنى التخلق بخلق الربوبية، ألم تسمع إلى الدعاء المأثور عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أوله: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، فكذلك صفات المؤمنين على معاني أخلاق المؤمن الأعلى، وقد كان أبو الدرداء يقول: معاتبة الصديق خير من فقده، ومن لك بأخيك كله هن لأخيك، ولن له ولا تطع الشيطان في أمره، غداً يوافيه الموت فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله، وقد روينا عن عليّ عليه السلام: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أنْ يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما، وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه معناه: لا يكن حبك كلفاً وبغضك تلفاً، قال: اسلم، قلت: وكيف ذاك، قال: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أنْ يتلف صاحبك ويهلك، وفي وصية عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه التي رويناها عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر رضي اللّه عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكمافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يحبك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك من القوم إلاّ الأمين، ولا أمين إلاّ من خشي اللّه عزّ وجلّ، ولا تصحب الفاجر فتعلم فجوره، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون اللّه تبارك وتعالى، وحدثونا عن إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا يحيى بن أكثم قال: حدثت المأمون أمير المؤمنين فقلت له: حدثني سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن أبجر قال: لما حضرت علقمة العطاردي الوفاة دعا بابنه فقال: يا بني، إنْ عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإنْ قعدت بك مؤونة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدّها، وإنْ رأى منك حسنة عدّها، وإنْ رأى منك سيئّة سدّها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإنْ سكت ابتداك، وإنْ نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإذا حاولت أمراً أمرك، وإنْ تنازعتما آثرك، قال ابن أكثم: فقال المأمون: وأين هذا ؟، وقيل للأحنف بن قيس: أي إخوانك أحبّ إليك فقال: من يسد خللي، ويستر زللي، ويقبل عللي، وحدثونا عن الأصمعي قال: حدثنا العلاء بن جرير عن أبيه قال: قال الأحنف: من حقّ الصديق أنْ يحتمل له ثلاث: أنْ يجاوز عن ظلم الغضب وظلم الهفوة وظلم الدالة، وقال: الإخاء جوهرة رقيقة، فهي ما لم توق عليها وتحرسها كانت معرضة للآفات، فارض الإخاء بالذلة حتى تصل إلى فوقه، وبالكظم حتى تعتذر إلى مَنْ ظلمك، وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير، ويقال: مَنْ لم يظلم نفسه للناس ويتظالم لهم ويتغافل عنهم، لم يسلم منهم، وكان أسماء بن خارجة الفزاري يقول: ما سئمت أحداً قط لأنه إنما يسأمني أحد رجلين: كريم كانت منه زلة وهفوة، فأنا أحق من غفرها وآخذ عليها بالفضل فيها، أو لئيم فلم أكن أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل شعراً:
واغفر عوراء الكريم اصطناعه ... وأعرض عن ذات اللئيم تكرما
وأنشدونا لمحمد بن عامر في الإخوان شعراً:
فلا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم
ولا تفحش وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
ولكن داو عورته برقع ... كما قد يرقع الخلق القديم
ولا تجزع لريب الدهر واصبر ... فإن الصبر في العقبى سليم
وأنشدونا في معناه عن أحمد بن يحيى بن ثعلب، قال: أنشدني عبد الله بن شبيب:
إخاء الناس ممتزج ... وأكثر فعلهم سمج
فإنّ بدهتك مقطعة ... فليس وراءهم فرج
فقوّمهم بوصلهم ... فإن لم يوصلوا اعتوجوا
صروف الدهر دائبة ... تقطع دونها المهج(2/181)
وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق، وعن أبي نجيح عن مجاهد في قول اللّه عزّ وجلّ: خذ العفو وأمر بالعرف، قال: خذ من أخلاق الناس ومن أعمالهم ما ظهر من غير تحسس، وقد أنشدنا بعض الحكماء في ذلك:
خذ من خليلك ما صفا ... وذر الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا ... تبة الخليل على الغير
ومن عرف فضل الإخوة في اللّه عزّ وجلّ، وعلم درجة المحبة للّه تعالى، صبر لأخيه وشكر له وحلم عنه وإحتمل له، لينال ما أمله من مؤمله فيه ويبلغ ما طلبه من طالبه به، فإنّ الصبر يحتاج إليه ليتمْ العمل والشكر، لا بدّ له منه لدوام النعمة، ومن طلب نفيساً خاطر بنفيس ومن رغب في رغبة بذل لها مرغوباً، واللّه عزّ وجلّ الموفق من يحب لما يحب، وروينا في حديث ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: المتحابون في اللّه عزّ وجلّ على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة، مشرفون على أهل الجنة، يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، عليهم ثياب سندس خضر، مكتوب على جباههم: هؤلاء المتحابون في اللّه عزّ وجلّ، وروينا في حديث معاذ، وقد قال له أبو إدريس الخولاني: إني لأحبك في اللّه عزّ وجلّ، فقال له: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء اللّه عزّ وجلّ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من هؤلاء يا رسول اللّه، قال:هم المتحابون في اللّه عزّ وجلّ، ورواه أبو هريرة فقال فيه: إنّ حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء،فقالوا: يا رسول اللّه حلّهم لنا، فقال: هم المتحابون في اللّه عزّ وجلّ، والمتجالسون في اللّه تعالى، والمتزاورون في اللّه تعالى.
وروينا في حديث عبادة بن الصامت، يقول اللّه عزّ وجلّ: حقّت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ والمتباذلين والمتصادقين فيّ، وكان ابن مسعود يقول في قوله عزّ وجلّ: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأرض جمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلِكنَّ اللّه ألف بَيْنَهُمْ) الأنفال:63، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في اللّه عزّ وجلّ، وأبو بشر عن مجاهد قال: المتحابون في اللّه عزّ وجلّ إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض، تتحات عنهم الخطايا كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم اللّه عزّ وجلّ في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، منهم كذا، واثنان تواخيا في اللّه عزّ وجلّ، اجتمعا على ذلك وتفرّقا، وكان الفضيل بن عياض وغيره يقول: نظر الأخ إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة، فلا تصح المحبة في اللّه عزّ وجلّ إلاّ بما شرط فيها من الرحمة في الاجتماع، والخلطة عند الافتراق بظهور النصيحة، واجتناب الغيبة، وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء، وإرتفاع الوحشة، ووجد الانبساط، وزوال الاحتشام، وكان الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة، ارتفعت الأخوة وقال الجنيد: ما تواخى اثنان في اللّه عزّ وجلّ فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلاّ لعلّة في أحدهما، ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما تحاب اثنان في اللّه عزّ وجلّ إلاّ كان أحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ أشدهما حبَّا لصاحبه، وفي خبر: كان أفضلهما وفي الخبر الآخر أحب الإخوان إلى الله عزّ وجله أرفقهما بصاحبه.(2/182)
وفي الخبر المشهور: لا يذوق العبد طعم الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلاّ للّه، وقال ابن عباس في وصيته لمجاهد: ولا تذكر أخاك إذا تغيب عنك إلاّ بمثل ما تحب أنْ تذكر به إذا غبت، وأعفه بما تحب أنْ تعفى به، وكان بعضهم يقول: ما ذكر أخي عندي في غيب إلاّ تمثلته جالساً، فقلت فيه ما يحب أنْ يسمع في حضوره، وقال آخر: ما ذكر أخ لي في غيبة إلاّ تصورت نفسي في صورته، فقلت فيه ما أحب أنْ يقال فيّ، فهذا حقيقة في صدق الإسلام، لا يكون مسلماً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، وقال بعض الأدباء: من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضون منه ظلمهم، ومن اقتضى منهم ما يقتضون منه فقد أتعبهم، ومن لم يقتضهم فقد تفضل عليهم، وبمعناه روينا عن بعض الحكماء: من جعل نفسه فوق قدره عند الإخوان أثم وأثموا، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا، فلذلك عزز الناس الأخوة في اللّه عزّ وجلّ قديماً، لأن هذا حقيقتها، فروى في الأخبار، إثنان عزيزان ولا يزدادان، إلاّ عزة درهم من حلال وأخ تسكن إليه، وقيل تأنس به، وقال يحيى بن معاذ رحمه اللّه: ثلاثة عزيزة في وقتنا هذا، ذكر منها حسن الإخاء مع الوفاء، يعني بالوفاء أنْ يكون له في غيبته، ومن حيث لا يعلم ولا يبلغه، مثل ما كان له في شهوده ومعاشرته، ويكون له بعد موته ولأهلّه من بعده كما كان له في حياته، فهذا هو الوفاء، وهو الذي شرطه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤاخاة في قوله: اجتمعا على ذلك أو تفرّقا، وجعل جزاءه أظلال العرش يوم القيامة.
وكذلك قال بعض الأدباء: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، وكذلك كان السلف فيما ذكره الحسن وغيره، قالوا: كان أحدهم يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة، لا يفقدون إلاّ وجهه، ويقال إنّ مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهولا يعلم، وذهب خيثمة فقضي دين مسروق سرّاً وهو لا يعلم، فمن حقيقة المؤاخاة في اللّه عزّ وجلّ إخلاص المودة له بالغيب، والشهادة واستواء القلب مع اللسان، واعتدال السرّ مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة، وإنْ اختلف ذلك ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، ولا يكون ذلك مع حقيقة الإيمان، وقد سأل أبو رزين العقيلي النبي صلى الله عليه وسلم، فشرط له أشياء منها:أنْ يحب غير ذي نسب لا يحبه إلاّ للّه عزّ وجلّ، ومن شرط المحبة في اللّه تعالى أنْ لا يكون لرحم يصلها أو لنعمة يربها، كما جاء في الأثر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنّ رجلاً زار أخاً في اللّه تعالى في قرية أخرى، فأرصد اللّه تعالى على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد، قال: أردت أخاً لي في هذه القرية، قال: هل بينك وبينه رحم تصلها أو له عليك نعمة تربها، قال: لا، إلاّ أني أحببته في اللّه تعالى، قال: فإني رسول اللّه إليك، إنّ اللّه تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه.(2/183)
وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وعن ابنه عبد اللّه رضي اللهّ عنهما: لو أن رجلاً صام النهار لا يفطر، وقام الليل وجاهد، ولم يحب في اللّه عزّ وجلّ ويبغض في اللّه ما نفعه ذلك شيئاً، وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلمأنه قال لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الصلاة، قال: حسنة وليس به، قالوا: الحج والجهاد، قال حسنة وليس به، قالوا: فأخبرنا يا رسول اللّه، قال: أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه تعالى، والبغض فيه، وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ بحب أخاه في اللّه عزّ وجلّ، ثم ينقلب الآخر عمّا كان عليه ويتغير، هل يبغضه بعد ذلك أم لا؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عمّا كان عليه وتغير، فأبغضه من حيث أحببته، وروينا عن أبي الدرداء أنّ شاباً غلب على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأنّ الشاب وقع في كبيرة من الكبائر، فجاؤوا إلى أبي الدرداء فحدثوه، وقالوا له: لو أبعدته، قال: سبحان اللّه لا نترك صاحبنا لشيء من الأشياء، وروينا عن بعض التابعين وعن الصحابة في مثل ذلك، وقد قيل له فيه، فقال: إنما أبغض عمله وإلاّ فهو أخي، وكذلك قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه في عشيرته: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة كلحمة النسب، وقيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقاً، وكان الحسن يقول: كم من أخ لك لم تلده أمك، ولذلك قيل: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لما شتم القوم الرجل الذي أتى فاحشة فقال: مه وزبرهم لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، وفي أثر عن بعض العلماء في مثل زلات الإخوان، قال: ودّ الشيطان أنْ يلقي على أخيكم مثل هذا حتى تقطعوه وتهجروه، فماذا بغيتم من محبة عدوّكم؟ وقد كان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عمّا كان، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داوِ أخاك ولا تطع فيه حاسداً، فتكون مثله وقال الحسن:أي الرجال المهذب وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب، فإنه يركبه اليوم ويتركه غداً، وقال أيضاً: لا تحدثوا الناس بزلة العالم، فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها، وفي الخبر: اتّقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته، وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: شرار عباد اللّه المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء الغيب، وقال سعيد بن المسيب إني لأكره أنْ أفرق بين المتألفين وقال مرة بين المتحابين.(2/184)
وفي حديث عمر، وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه، فقال: ذاك أخو الشيطان قال: مه قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر فقال: إذا أردت الخروج فأذني قال: فكتب إليه بسم اللّه الرحمن الرحيم، حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله، فلما قرأ الكتاب قال: صدق اللّه ونصح لي عمر قال: فتاب ورجع، ومن أفضل فضيلة الحب في اللّه تعالى أنه جعل علماً لوجود الإيمان، وقرن بحب اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما في الخبر: لا يؤمن عبدي حتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ثم جاء مثله: لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء للّه عزّ وجلّ، فمن مقتضى الحب في اللّه تعالى ما ذكرناه آنفاً من التزاور والتباذل والتصافي للّه عزّ وجلّ، وفي حديث عبادة بن الصمامت وقال موسى بن عقبة: كنت ألقى الأخ من إخواني مرّة فأقيم عاقلاً بلقائه أياماً، وقال جعفر بن سليمان: كمن إذا وجدت في نفسي فترة، نظرت، إلى محمد بن واسع، فأعمل على ذلك جمعة، وكان محمد بن واسع يقول: ما بقي في الدنيا شيء ألذه إلاّ ثلاث: الصلاة في جماعة، والتهجد من الليل، ولقاء الإخوان، وكان بعضهم يقول: لقاء الإخوان مسلاة للهمّ ومذهبة للأحزان، وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا و أولادنا، لأن أهلينا يذكرونا الدنيا وأخواننا يذكرونا الآخرة، وقال أحدهما: لأن الأهل والولد من الدنيا والإخوان في اللّه عزّ وجلّ من آلة الآخرة، وقيل لسفيان بن عيينة: أي الأشياء ألذّ فقال: مجالسة الإخوان والانقلاب إلى كفاية، وفي الخبر: ما زار رجل أخاه في اللّه عزّ وجلّ شوقاً إليه ورغبة في لقائه، إلاّ ناداه ملك من خلفه: طبت وطابت لك الجنة، وقال الحسن: من شيّع أخاً له في اللّه عزّ وجلّ بعث اللّه ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة، وعن عطاء قال: كان يقول: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإنْ كانوا نسوا فذكروهم، وكان الشعبي يقول: في الرجل يجالس الرجل فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه ذلك معرفة التوكل.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى عمر يلتفت يميناً وشمالاً فسأله، فقال: يا رسول اللّه أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه، فقال: يا أبا عبد اللّه إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه، وعن منزله فإن كان مريضاًً عدته، وإنْ كان مشغولاً أعنته، وعن الضحاك عن ابن عباس قيل له: من أحب الناس إليك، قال: جليسي، وكان يقول: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة تكون له إليّ، فعلمت مكافأته من الدنيا.(2/185)
وكان سعيد بن العاص يقول: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحبت به وإذا حدث أقبلت عليه وإذا جلس أوسعت له، وقال الأحنف بن قيس: الإنصاف يثبت المودة، ومع كرم العشرة تطول الصحبة، وكان يقول: ثلاث خلال تجلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة والانطواء على المودة، وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني، تقاربوا في المودة ولا تتكلوا على القرابة، وقد قيل لأبي حازم: ما القرابة، قال: المودة، فأول ما تصح له المحبة في اللّه عزّ وجلّ أنْ لا يكون لضد ذلك من صحبة لأجل معصية، ولا على حظ من دنياه، ولا لسبب موافقته على هواه، ولا لأجل ارتفاقه به اليوم لمنافعه ومصالحه في أحواله، ولا يكون ذلك مكافأة على إحسان أحسن به إليه، ولا لنعمة ويد يجزيه عليها، فهذه ليس فيها طريق إلى اللّه عزّ وجلّ ولا للآخرة، لأنها طرقات الدينا ولأسباب الهوى، فإذا سلم من هذه المعاني، فهذه أول المحبة للّه عزّ وجلّ، ولا يقدح في الأخوة للّه تبارك وتعالى لأن هذه شبهة ثانية فيه مثل أنْ يحبه لحسن خلقه، وفضل أدبه، وحسن حلمه، وكمال عقله، وكثرة احتماله وصبره، أو لوجود الأنس به وارتفاع الوحشة منه، أو للألفة التي جعل اللّه بينه وبينه، وإنما يخرجه عن حقيقة الحب في اللّه عزّ وجلّ، أنْ يحبه لما يكون دخلا في الدين ووليجة في طرائق المؤمنين، ولما انفصل عنه ولم يكن متصلاً به، مثل الأنعام والأفضال ووجود الارتفاق، فهذا الحب لا يمنع القلب وجده، لما جبل الطبع عليه، ولبغض من كان بضده، ممن أساء إليه وليس يأثم ولا يعصى بوجود هذه المحبة لأجل هذه الأسباب المعروقة، كما أنه إذا أساء إليه ووجد بغضه لا يأثم ما لم يخرجه البغض إلى مجاوزة حد بإيجاب حكم، إلاّ أنْ هذه محبة النفس بالطبع، وإنما يفضل المرء بمحبة القلب لأجل اللّه عزّ وجلّ، والبغض فيه شيء، وإنْ كان مباحاً لأنها تحول وتزول، وكل محبة تكون عن عوض، إذا ذهب العوض زالت المحبة، وصحة الحب في اللّه عزّ وجلّ والبغض فيه لا ينقلب لسبب حب جعل في الطبع لمنافع الدنيا، ولا لأجل بغض في النفس لمضارها، وحقيقة الحب في اللّه عزّ وجلّ أنْ لا يحسده عى دين ولا دنيا، كما لا يحسد نفسه عليهما، وأن يؤثره بالدين والدنيا إذا كان محتاجاً إليهما كنفسه، وهذا شرطا الحب في اللّه عزّ وجلّ اللذان ذكرهما اللّه تعالى في قوله: (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر:9، ثم وصف محبتهم، إذ كان يصف حقًّا ويمدح محقًّا، فقال: (ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاَجةً مِمّا أُوتُوا) الحشر:9، يعين: من دين ودنيا، والحاجة في هذا الموضع: الحسد، أي كما لا يجدون في صدورهم حاجة لأنفسهم حسداً، ثم قال عزّ وجلّ في الشرط الثاني: (وَيُؤثِرُون على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر:9، فهذا فصل الخطاب، وجملة نعت الأحباب، فينبغي أنْ يؤثر أخاه بنفسه وماله إنْ إحتاج إلى ذلك، فإن لم يكن في هذه المنزلة وهو مقام الصدّيقين فيساويه في حاله، وهذا من مقام الصادقين، وهذا أقل منازل الأخوة، وهو من أخلاق المؤمنين، وإنما آخى رسول اللّه صلى الله عليه وسلمبين الغني والفقير ليساوي الغني الفقير فيعتدلان، وينبغي أنْ يقدمه على أهله وولده، وأنْ يحبه فوق محبتهم لأن محبة أولئك من الدنيا والنفس والهوى، ومحبة الإخوان من الآخرة وللّه تبارك وتعالى، وفي الدين وأمور الدين والآخرة مقدم عند المتّقين، وكان عبد اللّه بن الحسن البصري يصرف إخوان الحسن إذا جاؤوه، لطول لبثهم عنده ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملّوا الشيخ، فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع، فإنهم أحب إلي منكم، فؤلاء يحبوني للّه عزّ وجلّ وأنتم تريدوني للدنيا، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك قال كلهم يرى الفضل لي عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه، وكان الأعمش يقول: من أخفى عنا بدعته لم يخف عنا ألفته، أي ينظر إلى إخوانه الذين يألفهم، فيستدل عليه بهم، وقد روى الأصمعي عن مجاهد عن الشعبي قال: قال عليّ بن أبي طالب: كرم اللّه وجهه لرجل وكره له صحبة رجل رهق فقال شعراً:
لا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه(2/186)
فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هوّ ما شاه
وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وأنشد محمد بن جامع الفقيه شعراً:
تذلل لمن إن تذللت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله
وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له
وأنشدنا لبعض الأدباء:
كم من صديق عرفته بصديق ... صار حظي من الصديق العتيق
ورفيق رأيته في طريق ... صار عندي محض الصديق الحقيقي
وروينا عن الحسن بن عليّ عليهما السلام في وصف الأخ كلاماً رجزاً جامعاً مختصراً:
إن أخاك الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك(2/187)
ولا تصحّ مؤاخاة مبتدع في اللّه تعالى، ولا محبة فاسق يصحب على فسوقه، ولا محبة فقير أحب غنياًِ لأجل دنياه، ولا ما يناله من عاجل مهناه، وقد تصح المحبة بين الغني والفقي، وتوجد الأخوة إنْ لم يقم الغني بحقوق أخيه، إذا آثره أخوه بما يحب أنْ يؤثره به، فلم يفتضه، وقد تصح الأخوة بين العالم والجاهل، وبين الصالح والطالح لأجل التدين من أحدهما، والتقربة إلى اللّه عزّ وجلّ، ويكون من الأعلى منهما لنيات تكون له فيها لحسن خلقه، أو لجميل معاملته، أو لمعان محمودة تكون فيه، لأن لكل مؤمن سديداً من عمله يرجى له به، والمؤمن لا يهلك كله، ولا يذهب جملة واحدة، أو لإشفاقه عليه أو لتواضع العالم والصالح في نفسه، فيراه في كل حال فوقه، أو لأجل الستر عليه لئلا يلحقه النقص والشين من الغير، فهذه طرقات الإخوان، فيها حسن نيات، وينبغي على ذلك أنْ تعلمه ما جهل مما هو به أعلم، فيعينه بعلمه كما يعينه بماله، فإنّ فقر الجهل أشد من فقر المال، وإنّ الحاجة إلى العلم ليست بدون الحاجة إلى المال وكان الفضيل يقول: إنما سمّي الصديق لتصدقه والرقيق لترفقه، فإن كنت أغنى منه فأرفقه بمالك، وإنْ كنت أعلم منه فأرفقه بعلمك، وينبغي أنْ ينصح له فيما بينه وبينه، ولا يوبخه بين الملأ ولايطلع على غيبه أحداً، فقد قيل: إنّ نصائح المؤمنين في آذانهم، وقال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره، فإن كان أخوه الذي نصح له صادقاً في حاله، أحبه على نصحه، فإن لم يحبه وكره ذلك منه دلّ على كذب الحال، قال اللّه سبحانه وتعالى في وصف الكاذبين: (وَلكنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ) الأعراف:79 وقد كان بعض الصالحين يقول: أحب الناس إلي من أهدى عيوبي، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ويأمر الإخوان بذلك رحم اللّه امرءًا اهتدى إلى أخيه عيوب نفسه، ولكن قد قيل لمسعر بن كدام: تحب من يخبرك بعيوبك، فقال: إنْ نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإنْ قرعني في الملأ فلا، ومن أخلاق السلف قال: كان الرجل إذا كره من أخيه خلقاً عاتبه فيما بينه وبينه أو كاتبه في صحيفة، وهذا لعمري فرق بين النصيحة والفضيحة فما كان في السر فهو نصيحة، وما كان على العلانية فهو فضيحة، وقلما تصح فيه النية لوجه اللّه تعالى، لأن فيه شناعة، وكذلك الفرق بين العتاب والتوبيخ، فالعتاب ما كان في خلوة، والتوبيخ لا يكون إلاّ في جماعة، ولذلك يعاتب اللّه عزّ وجلّ رجلاً من المؤمنين يوم القيامة تحت كنفه، ويسبل عليه ستره فيوقفه على ذنوبه سرّاً، ومنهم من يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفرون به إلى الجنة، فإذا قاربوا دخول الجنة، دفعوا إليهم الكتب مختومة فيقرؤونها، وأما أهل التوبيخ فينادون على رؤوس الأشهاد، فلا يخفى على أهل الموقف فضيحتهم، فيزداد ذلك في عذابهم، وكذلك الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداراة ما أردت به وجه اللّه تعالى وطريق الآخرة، من دفع عن دين وقصدت به سلامة أخيك من الإثم وصلاح قلبه للّه تبارك وتعالى، والمداهنة ما اجتلبت به دنيا وأردت به حظ نفسك، وكذلك الفرق بين الغبطة والحسد، إن الغبطة أنْ تحب لنفسك ما رأيته من أخيك، ولا تحب زواله عنه بل تبقيته له وإتمامه عليه والحسد ما أردت أنْ يكون ذلك منه لك، وأحببت زواله عنه وكرهت تبقيته عليه، فهذا مكروه، فإن سعيت في ذلك بقول أو فعل فهو البغي زيادة على الحسد، وهو من كبائر المعاصي، وكذلك الفرق بين الفراسة وسوء الظن إنْ الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك أو شاهد يبدو منه أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه ولا تنطق به إنْ كان سوءاً، ولا تظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم، وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم، وهو غيبة القلب وذلك محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ اللّه تعالى حرم من المؤمن دمه وماله وعرضه، وإنْ تظن به ظن السوء وقوله عليه السلام: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، فهذه خمس معان وأضدادها بينها فرق عند العلماء، فاعرف ذلك، وينبغي أنْ ينصر أخاه ويعينه بماله ولسانه وقلبه وأفعاله، فإن(2/188)
النصرة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله.رة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله.
ويقال: ما من الناس أحد إلاّ له محاسن ومساوٍ، فمن ظهرت محاسنه فغلبت مساوئه فهو المؤمن المقتصد، فالأخ الشفيق الكريم يذكر أحسن ما يعلم في أخيه، والمنافق اللئيم يذكر أسوأ ما يعلم فيه، ومن هذا جاء في الخبر: أستعيذ باللّه من جار السوء الذي إن رأى خيراً ستره، وإنْ رأى شرّاً أظهره، وهذا المعنى هو سبب قول النبي صلى الله عليه وسلمإنْ من البيان سحراً، إذ لكل حديث يروي آخره سبب يكون أوله خرج الحديث عليه، وهو أنّ رجلاً أثنى على رجل عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد ذمه وعابه فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه، فقال: واللّه لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، إنه أرضاني بالأمس، فقلت أحسن ما أعلم فيه وأغضبني اليوم مفقلت أسوأ ما أعلم فيه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلمعند ذلك: إنّ من البيان سحراً كأنه كره ذلك إنْ شبهه بالسحر، لأن السحر حرام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الخبر الآخر البذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي الحديث الآخر أنّ اللّه تعالى كره لكم البيان، كل البيان، وقد قال الإمام الشافعي رحمه اللّه في وصف العدالة قولاً استحسنه العلماء، وحدثنا عن محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: ما أحد من المسلمين يطيع اللّه عزّ وجلّ حتى لايعصيه، ولا أحد يعصي اللّه عزّ وجلّ حتى لا يطيعه، فمن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فهو العدل، قال ابن عبد الحكم: وهذا كلام الحذاق، وقال أيضاً قولاً فصلاً في التوسط بين الانقباض والانبساط، حدثنا عنه قال: الانقباض عن الناس مكسبة لعداوتهم، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين الانقباض والانبساط، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بالصبر والرحمة في قوله عزّ وجلّ: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ) البلد:17، ونعتهم الذلة في قوله تعالى: (أذِلَّةٍ على المُؤْمِنينَ أَعِزَّةِ على الكافرينَ) المائدة:54، وقال تعالى: (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح:29، وهذا كله داخل في الاهتمام به، وهو حقيقة صدقه في الصداقة له كما قال، ولا صديق حميم أي هميم من الاهتمام به، وقد قال عيسى عليه السلام لأصحابه: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً فكشفت الريح عنه ثوبه، قالوا: نستره ونغطيه فقال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان اللّه من يفعل هذا، فقال: أحدكم يسمع في أخيه بالكلمة فيزيد عليه ويشيعها بأعظم منها، وهذا مخرجه من الحسد الكائن في النفس والغل المستكن في القلب، أنْ يزيد الرجل على الشيء مما يسمع أو يتبعه بمثله، فيظهر هذا غله، وهذا الذي استعاذ منه المؤمنون في قولهم: (ولا تَجْعَلْ في قُلُوبنا غِلاًّ) الحشر:10 الآية، وينبغي أنْ لا يخالفه في شيء ولا يعترض عليه في مراد، قال بعض العلماء: إذا قال الأخ لأخيه قم بنا، فقال: إلى أين، فلا تصحبه وقال الآخر: إذا قال: أعطني من مالك، فقال: كم تريد أو ماذا تصنع به لم يقم بحق الإخاء، قال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق، فكنت أجيئه في النوائب فأقول: أعطني من مالك شيئاً فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شي، فقال: كم تريد فخرج حلاوة أخاه من قلبي، وعن ابن عمر وأبي هريرة: لم يكن أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه.(2/189)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد اللّه إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله بحسب المرء من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم، وفي حديث عليّ عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته وحرمت غيبته، وفي حديث أبي أسامة الباهلي: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى فغضب ثم قال: ذروا المراء لقلّة خبره، ذروا المراء فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان، وقال بعض السلف: من لاص الإخوان وما رآهم، قلت: وذهبت كرامته، وقال عبد اللّه بن الحسن: إياك ومعاداة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم، وقال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيدك لطف الحقد إلاّ وحشة منه.
وقد روينا في الحقد على الإخوان لفظة شديدة، وهو ما حدثونا عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: كنت باليمن، وكان لي جار يهودي يخبرني عن التوراة، فقدم علينا يهودي من سفر فقلت: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد بعث فينا نبيًّا، فدعا إلى السلام فأسلمنا، وقد نزل علينا مصدقاً للتوراة فقال اليهودي: صدقت، ولكنكم لا تستطيعون أنْ تقوموا بما جاءكم به، إنّا نجد نعته ونعت أمته أنه لا يحل لامرئ يعلم منهم أنّ يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم، وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر منهم، وقال الحسن: لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل، وقال عمر بن عبد العزيز: إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك، فإذا قضيت حاجته انقضت مودته، ومن أخلاف السلف قال: لم يكن أحد منا يقول في رحله: هذا لي وهذا لك، بل كان كل من احتاج إلى شيء استعمله عن غير مؤامرة، وقد وصف اللّه عزّ وجلّ المؤمنين بهذا في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمّ يُنْفِقُونَ) الشورى:38، معنى أمرهم أي أمورهم ذكر جماعها كالشيء الواحد بينهم شورى أي مشاع غير مقسوم، ولا يستبد به واحدهم فيه سواء، ومما رزقناهم ينفقون، أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله من بعض أي شركاء، وجاء عتبة الغلام إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ ألفين فأعرض عنه وقال: آثرت الدنيا على اللّه عزّ وجلّ، أما استحيت أنْ تدعي الأخوة في اللّه عزّ وجلّ وتقول هذا، وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه فأخذ من كيسه حاجته، فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته فقال: إنْ كنت صادقة فأنت حرة لوجه اللّه تعالى سروراً بما فعل.(2/190)
وروي أنّ ابن أبي شبرمة قضى لبعض إخوانه حاجة كبيرة، فجاءه الرجل بهدية جليلة، فقال: ما هذا فقال: ما أسديت إلي، فقال: خذ مالك، عافاك اللّه إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى، وعلى ذلك قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك الحاجة فلم يقضها للّه فذكّره ثانية، فلعله يكون قد نسي، فإن لم يقضها فعاوده ثالثة فقد يكون شغل عنها بعذر، فإن لم يقضها فكبره عليه واقرأ عليه هذه الآية: (والموتْىَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ) الأنعام:36، وقال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخ أهل القبور، وجاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أنْ أؤاخيك في اللّه عزّ وجلّ، فقال: أتدري ما حق الإخاء قال: عرفني، قال: لا تكون بدرهمك ودينارك أحقّ مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: فاذهب عني، وقال عليّ بن الحسين رضي اللّه عنهما: الرجل هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه، فيأخد منه ما يريد من غير إذن قال: لا، قال: فلستم بإخوان، ودخل قوم على الحسن فقالوا له: أصلّيت يا أبا سعيد، قال: نعم قالوا: فإن أهل السوق لم يصلّوا بعد، فقال: ومن يأخذ دينه عن أهل السوق، بلغني أنّ أحدهم يمنع أخاه الدرهم، وقال محمد بن نصر: جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم وهو يريد بيت المقدس فقال له: إني أريد أنْ أرافقك فقال له إبراهيم: على أنْ أكون أملك بشيئك منك قال: لا، قال: فأعجبني صدقك، وقال موسى بن طريف: كان إبراهيم بن أدهم إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلاّ من يوافقه، وبلغني أنّ رجلاً شراًّ كأصحبه في سفر فأهدى إلى إبراهيم قصعة من ثريد في بعض المنازل،فأراد أنْ يرد القصعة فأخذ جراب رفيقه ففتحه، وأخذ حزمة من شرك فجعله في القصعة، ثم دفعها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشرك؟ قال: تلك القصعة الثريد التي أكلتها أي شيء كانت، قال: فكنت تعطيه شراكين ثلاثة قال: اسمح يسمح لك، وبلغني أنه أعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه لرجل رآه راجلاً، فلماء جاء رفيقه سكت فلم يكره ذلك، وقد روي عن عون بن عبد اللّه قال: قال ابن مسعود: لا تسأل امرءاً عن ودّه إياك، ولكن انظر ما في قلبك فإن في قلبه لك مثل ذلك، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: مروءة الحضر الإدمان إلى المساجد وكثرة الإخوان في اللّه عزّ وجلّ، ومروءة السفر بذل الزاد وقلّة الخلاف على إخوانك وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من طريق أهل البيت قال: ثلاثة من المروءة في الحضر: تلاوة كتاب اللّه عزّ وجلّ، وعمارة مساجد، واتّخاذ الإخوان في اللّه تعالى، فمن فضل المؤاخاة في الله تعالى أنه قرنها بتلاوة كتابه وعمارة بيوته، وقد جعل الاختلاف إلى المسجد سبب اجتلاب الإخاء، وفي حديث ابن عباس والحسن بن عليّ: من أدمن الاختلاف إلى المسجد، أصاب إحدى خمس خصال أخاً مستفاداً في اللّه عزّ وجلّ.
وقال أبو عيينة وقد أنشد هذا البيت:
وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الإخوان هينة الخطب
فقال: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة، ما تخيل لي أنّ حسرتهم ذهبت من قلبي، وقال بعضهم ما هدني شيء ما هدني موت الأقران، ويقال: إذا مات صديق الرجل فَقَدْ فَقَدَ عضواً من أعضائه وأنشدونا عن العتبي:
ولقد بلوت الناس ثم خبرتهم ... ووصلت ما قطعوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب(2/191)
وبلغني أنّ أخوين ابتلى أحدهما بهوى، فأظهر عليه أخاه وقال: إني قد اعتللت بالهوى، فإن شئت أنْ لا تعتقد عليّ محبتي للّه تعالى فافعل فقال: ما كنت لأحلّ عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبدًا، قال ثم عقد أخوه بينه وبين اللّه عزّ وجلّ أنْ لا يأكل ولا يشرب حتى يعافي اللّه عزّ وجلّ أخاه من هواه، قال فطوى أربعين يوماً في كلها يسأله عن هواه: كيف أنت منه فكان يقول: القلب مقيم على حاله قال: وما زال أخوه الآخر ينحل ويسقم من الغمّ عليه، ومن تركه الطعام والشراب قال: فأزال اللّه الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين، فأخبره بذلك، فأكل وشرب بعد أنْ كاد يتلف هزلاً وضرًّا، وبمعناه حدثت عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخية التقي: ألا تقطعه وتهجره فقال: هو أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته، أنْ آخذ بيده، وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه، وفيما رويناه من الإسرائيليات أنّ أخوين عابدين في جبل، نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم، فبصر ببغي عند اللحام، فهويها فواقعها، ثم أقام عندها ثلاثاً واستحى أنْ يرجع إلى أخيه من جنايته، قال: فافتقده أخوه واهتم بشأنه، فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه، فدخل عليه وهو جالس مع البغي، فاعتنقه وجعل يقلبه ويلزمه، وأنكر الآخر أنه يعرفه لفرط استحيائه منه، فقال: قم يا أخي فقد علمت بشأنك وقصتك، وما كنت أعزّ علي وأحبّ منك في يومك هذا وساعتك هذه، فلما رأى ذلك لا يسقطه عنده، قام فانصرف معه، فهذا من أحسن النيات وهو طريق العارفين من ذوي الآداب والمروءات، فإن أحب هذا الأخ أنْ يؤثر أخاه بما آثره به، ولا يقتضيه حق إخائه، فحسن، قد فعل ذلك عبد الرحمن بن عوف لما آثره سعد بن الربيع بالمال والنفس، فقال: بارك اللّه لك فيهما، فآثره بما به آثره، فكأنه أستأنف هبته له لأنه قد كان ملكه إياه لسخاوة نفسه، وحقيقة زهده، وصدق مودته، فكانت المساواة لسعد، والإيثار لعبد الرحمن، فزاد عليه، وهذا من فضل المهاجرين على الأنصار إذ كانت المساواة دون الإيثار، وقد كان مضر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحبّ رجلاً ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه، وكان أبو سليمان الداراني يقول: هو صادق في حبه مفرط في حقّه، ثم قال: لو أنّ الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له، وقال: إني لألقم الأخ من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي، وأعلم أنّ إطعام الطعام والإنفاق على الإخوان مضاعف على الصدقات وعلى العطاء للأجانب، بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات.
وروي عن عليّ عليه السلام: لعشرون درهماً أعطيها أخي في اللّه عزّ وجلّ أحّب إلي من أنْ أتصدق بمائة درهم على المساكين، وقال أيضاً: لأن أصنع من طعام وأجمع عليه إخواني في اللّه عزّ وجلّ أحبّ إلى من أنْ أعتق رقبة، وأوصى بعض الحكماء ابنه فقال: يا بني ادخل بين الأعداء ولا تدخلن بين الأصدقاء، قال: وكيف ذلك قال: الدخول بين الأعداء يكسب الصداقة والدخول بين الأصدقاء يورث العداوة، ولا ينبغي للأخ أنْ يخون أخاه في غيبه بما يكره إنْ كان ذلك في شيء مباح إذا كرهه، ولا ينكر عليه ما لا يقوم في علمه إذا فعله إنْ كان أخوه أعلم منه، أو كان له وجه يخرج عليه، ولا ينبغي أنْ يكذبه في أمره ولا يفشين له سرّاً، ولا يعرضنه لغيبة ولا نميمة، ولا يحوجه إلى مداراة، ولا يلجأ إلى اعتذار، ولا يتكلفن له ما يشق عليه أو ما لا يحبه هو منه، وقال العباس لابنه عبد اللّه: إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، يقدمك على الأشياخ ويقربك دونهم فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سرّاً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذبة، وفي بعض الروايات: ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، قال: فقلت للشعبي وقد رواه: كل كلمة خير من ألف قال: كل كلمة خير من عشرة آلاف، وأفشى بعضهم إلى أخيه سرًّا ثم قال له: حفظت قال: بل نسيت وقيل لبعض الأدباء كيف حفظك السرّ قال: أنا قبره وقيل لآخر كيف تحفظ السرّ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، ومن أحسن ما سمعت في حفظ السر ما حدثني بعض أشياخنا عن إخوان له، دخلوا على عبد اللّه بن المعتز فاستنشدوه شيئاً من شعره في حفظ السرّ، فأنشدهم على البديهة:(2/192)
ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأود عته صدري فصار له قبرا
قال فخرجنا من عنده، فاستقبلنا محمد بن داود الأصبهاني فسألنا من أين جئنا فأخبرناه بما أنشدنا ابن المعتز في السرّ، فاستوقفنا ثم أطرق مليًّا ثم قال سمعوا قولي:
وما السرّ في صدري كثاوٍ بقبره ... لأني أرى المقبور ينتظر النشرا
ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
ولو جاز كتم السرّ بيني وبينه ... عن السرّ والأحشا لم يعلم السرّا
وقال عليّ عليه السلام: شر الأصدقاء من أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار، وقال أيضاً: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له ما لا يفعله كل واحد منهما في منزله، فيحشمه ذلك من الرجوع إليه، وروينا عن عائشة رضي اللّه عنها: المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحشمه، وروينا في الانبساط إلى الإخوان شيئاً استظرفته ولولا أنه جاء عن إمام ما ذكرته، حدثنا الحرث بن محمد عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: أهدي لهشام فرو كثير الثمن فقال: اذهب بها إلى سعيد الجوهري فقل له: هذه فرو جاء به هشيم اشترها له قال: فذهب بها إليه فاشتراها، ثم بعت بها إلى هشيم فصارت له ودراهمها، وقال عليّ بن المديني: قال أحمد بن حنبل: إني أحبّ أن أصحبك إلى مكة وما يمنعني من ذلك إلاّ أني أخاف أنْ أملك أو تملني، لأنه يقال إنّ ملل الإخوان ليس من أخلاق الكرام وقال مكحول: قلت للحسن إني أريد الخروج إلى مكة فقال: لا تصحبن رجلاً يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: يستحسن الصبر عن كل شيء إلاّ عن الصديق، وقال: أستحب للمتواخين في اللّه عزّ وجلّّ أنْ يلتقيا في كل يوم مرتين وقال أنس بن مالك: كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتماشون، فإذا استقبلهم صخرة أو أكمة فرقت بينهم فالتقوا من ورائها، سلم بعضهم على بعض، وقال الحسن وأبو قلابة: ليس من المروءة أنْ يريح الرجل على صديقه، وقال ابن سيرين لا تكرم أخاك بما يشق عليه.(2/193)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره، وخرج ابن المبارك في سفر، فصحبه قوم فقال لهم: إنْ أنكر أحد منكم شيئاً فليخبرني، فلما أرادوا أنْ يتفرقوا قال لهم: هل أنكرتم مني شيئاً فقال شاب منهم: أنا قال: وما أنكرت قال: لم أرك تستاك فقال: ويحك وهل يستاك الرجل بين يدي صديقه، وكان بشر بن الحارث يقول: لا تخالط من الناس إلاّ حسن الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بخير، ولا تخالط سئّ الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بشر، وقال الشافعي رحمه اللّه: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان، وقال عمرو بن دينار: زهدك في راغب فيك نقص حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس، وكان ابن سيرين يقول: يحتمل الرجل لأخيه إلى سبعين زلة ويطلب له المعاذير، فإن أغناه ذلك وإلاّ قال: لعل لأخي عذراً غاب عني، وقال الثوري: إذا أردت أنْ تؤاخي رجلا ًفأغضبه ثم دسّ عليه من يسأله عنك، فإن قال خيراً فاصحبه وقال غيره: لا تؤاخين أحداً حتى تبلوه وتفشي إليه سرّاً، ثم إجفه واستغضبه وانظر، فإن أفشاه عليك فأجتنبه، وقيل لأبي يزيد: من أصحب من الناس قال: من يعلم منك ما يعلم اللّه عزّ وجلّ، ويستر عليك ما يستر اللّه تعالى،وكان ذو النون يقول: لا خير لك في صحبة من لا يحب أنْ يراك إلاّ معصوماً، وقيل لبعض العلماء: من يصحب من الناس قال: من يرفع عنك ثقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مؤونة التحفظ، وقد كان جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يقول: أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي، يريدون بهذا كله أنّ من لم يكن على هذه الأوصاف دخل عليه التصنع والتزين، فأخرجاه إلى الرياء والتكلف، فذهبت بركة الصحبة وبطلت منفعة الأخوة، وقال بعض الصوفية: لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببرّ ولا تنقص بإثم، ومن يتوب عنك إذا أذنبت، ويعتذر إليك إذا أسأت، ويحمل عنك مؤونة نفسه ويكفيك مؤونة نفسك، وهذه من أعز الأوصاف في هذا الوقت، كما قال رجل للجنيد: قد عزّ في هذا الزمان أخ في اللّه تعالى قال: فسكت عنه، ثم عاد ذلك فقال له الجنيد: إذا أردت أخاً في اللّه عزّ وجلّ يكفيك مؤونتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإنْ أردت أخاً في الله تتحمل أنت مؤونته وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلك عليهم إنْ أحببت، فهذا لعمري يكون محبّاً لنفسه إذا أقتضى هذا من أخيه لا محبّاً لأخ في اللّه تعالى، وليس الإخاء كف الأذى لأن هذا واجب، ولكن الإخاء الصبر على الأذى، وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلاّ على استواء أربع معان، لا يترجح بعضها على بعض، ولا يكون فيها اعتراض من بعض إنْ أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه صم، وإنْ صلّى الليل أجمع لم يقل له أحد نم بعضه، وتستوي حالاه عنده، فلا مزيد لأجل صيامه وقيامه، ولا نقصان لأجل إفطاره ونومه، فإذا كان عنده يزيد بالعمل وينتقص بترك العمل، فالفرقة أسلم للدين وأبعد من المراءاة من قبل إنّ النفس مجبولة على حب المدح وكراهة الذم، ومبتلاة بأن ترب حالها التي عرفت به، وأنْ تظهر أحسن ما يحسن عند الناس منها، فإن صحب من يعمل معه هذا فليس ذلك بطريق الصادقين ولا بغية المخلصين، فمجانبة هؤلاء الناس أصلح للقلب وأخلص للعمل، وفي معاشرتهم وصحبة أمثالهم فساد القلوب ونقصان الحال، لأن هذه أسباب الرياء، وفي الرياء حبط الأعمال وحسن رأس المال، والسقوط من عين ذي الجلال نعوذ به سبحانه وتعالى من ذلك، وكان الثوري رحمه اللّه تعالى يقول: من عاشر الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وكان بعض الناس يقول: لا تؤاخِ من الناس إلاّ من لا يتغير عليك في أربع: عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه، لأن هذه المعاني تتغير لها الطباع لدخول الضرر منها على النفس وفقد الانتفاع، وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلاّ من كان على هذا الوصف: يكتم سرّك وينشر برّك ويطوي عيبك ويكون في النوائب معك وفي الرغائب يؤثر، فإن لم تجده فلا تصحب إلاّ نفسك، وقد أنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء في معنى هذه الأوصاف:
وندمان أخي ثقة ... كان حديثه خبره
يسرك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره(2/194)
فساعد خله كرما ... وفي أخلاقه أثره
ويطوى سوءَة أبداً ... وحسناً إن طوى نشره
ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره
وقال بعض العلماء: لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجلاً تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك، أو رجلاً تعلمه شيئاً من دينه فيقبل منك، والثالث هرب منه، وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجل ترتفق به في دنياك، أو رجل تزيد معه وتنتفع به في آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير.
وكان المأمون يقول: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه فالعبد مبتلي بهذا الثالث وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع عنده، والأول نعمة من اللهّ سبحانه وتعالى على العبد، فيه أُلفة وأنس ومعه غنيمة ونفع.
وكان أبو ذر يقول: الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وقال بشر بن الحارث: يكون للرجل ثلاثة إخوان: أخ لآخرته، وأخ لدنياه، وأخ يأنس به، فأخبر أنّ أخ المؤانسة قد لا يكون متقرّباً عابداً، وأنّ الأنس مخصوص يقال: لا يوجد إلاّ في كريم، وكان يوسف بن أسباط يعزز من فيه أنس من الإخوان، فكان يقول ما في المصيصة ثلاثة يؤنس بهم، واعلم أنّ الأنس لايوجد في كل عالم، ولا في كل عاقل، ولا في كل عابد زاهد، ويحتاج الأنس ألى وجود معان تكون في الولي، فإذا اجتمعت فيه كمل فيه الأنس، وارتفعت عنه الوحشة والحشمة، ومن لم تكن فيه لم يوجد فيه أنس، ومن لم تكمل فيه وجد فيه بعض الأنس، وإذا حصل الأنس ففيه الروح من الكروب والاستراحة من الغمّ والسكون وطمأنينة القلب، فكذلك عزّ من يوجد فيه الأنس لعزة خصاله وهي سبع: علم وعقل وأدب وحسن خلق وسخاء نفس وسلامة قلب وتواضع، فإن فقد بعضها لم يجد خلاً يأنس بكماله، من قبل أن أضّدادها وحشة كلها لأن الجاهل لا أنس فيه، والأحمق لا أنس به، والبخيل سئ الخلق لا أنس عنده، والخبيث والمتكبر لا أنس معه فاعرف هذا.
وروينا عن الأصمعي أنه ذكر عن بعض الحكماء قال: عاملوا أحرار الناس بمحض المودة، وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة، وسوسوا السفلة بالمخافة، ومثل جملة الناس كمثل جملة الشجر، منهم من له ظل ليس فيه ثمر وهذا الذي فيه نفع من الدنيا ولا ثمرة له في العقبى، ويحتاج إليه في وقت، ومنهم من فيه ثمر وليس له ظل وهذا يصلح للآخرة ولا يصلح للدنيا، ومنهم من فيه ظل وثمر، فهذا الذي يصلح للدين والدنيا وهو أعزها، ومنهم من لا ظل له ولا ثمر وهذا هو الذي لا يحتاج إليه، فمثله في الشجر مثل شجر الغضا وهو شوك البرية التي تسميه العامة أم غيلان، تمزق الثياب لا طعام فيه ولا شراب، فهؤلاء من الناس من يضرّ ولا ينفع ويكثر ولا يدفع، مثله كما قال الله تبارك وتعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبْئِس المَوْلى وَلَبِئسَ العشيرُ) الحج:13، ومثله في الدواب مثل الفأرة والعقرب، وقد قيل في وصفهم:
الناس شيء إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر
ذارب ظلّ وهذا عنده ثمر ... وذاك ليس له ظل ولا ثمر
وقد أنشدنا في مثل وصف هذا لبعض الأدباء:
إذا كنت لا ترجى لدفع مهمة ... ولم تك يوم الحشر ممن يشفع
ولا أنت ذا مال يجود بماله ... فعود خلال من إخائك أنفع
قال بعض السلف: إذا ولى أخوك ولاية فثبت على نصف مودتك فكثير، وحدثنا محمد بن القاسم القرشي عن الربيع بن سليمان، عن الإمام الشافعي رحمه اللّه، أنه آخى رجلاً ببغداد ثم إنّ أخاه ولي السيبين فتغير للشافعي كما كان يعهده منه فكتب إليه الشافعي رضي اللّه عنه هذه الأبيات:
اذهب فودك من ودادي طالق ... مني وليس طلاق ذات البين
فإن ارعويت فإنها تطليقة ... ويدوم ودك لي على ثنتين
وإذا امتنعت شفتها بمثالها ... فتكون تطليقتين في حيضين
فإذا الثلاث أتتك مني بتة ... لم تغنِ عنك ولاية السيبين(2/195)
فذكر هذا الكلام لبعض الفقهاء فاستحسنه وقال: هذا الطلاق فقهي، إلاّ أنه طلق قبل النكاح، وقد كان الشافعي عليه السلام آخى محمد بن عبد الحكم المصري وكان يحبه ويقربه، ويقول: ما يقيمني بمصر غيره، واعتل محمد فعاده الشافعي، فحدثني القرشي عن الربيع قال: سمعت الشافعي ينشد وقد عاد محمدّاً:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرأت من نظري إليه
وما شك أهل مصر أنّ الشافعي يفوض أمر حلقته إليه، وأنه يستخلفه بعد موته ويأمر الناس بالحضور عنده، حتى سئل عن ذلك في علّته فقيل له: يا أبا عبد اللّه إلى من نجلس بعدك، ومن يكون صاحب الحلقة، وهم يظنون أنه يشير إلى محمد فاستشرف لذلك محمد وتطاول لها، وكان جالساً عند رأسه فقال: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد ووجد في نفسه ومال أصحابه إلى أبي يعقوب البويطي، وقد كان محمد حمل علم الشافعي ومذهبه وفارق مذهب مالك، إلا أنّ البويطي كان أزهد وأورع، فحمل الشافعي نصحه للدين والنصيحة للمسلمين، ولم يداهن في ذلك بأن وجه الأمر إلى أبي يعقوب، وآثره لأنه كان أولى، فلما قبض الشافعي رضي اللّه عنه إنتقل محمد ابن عبد الحكم مذهبه، وفارق أصحابه ورجع إلى مالك، وروى كتب أبيه عن مالك، وتفقه فيها، فهو اليوم من كبار أصحاب مالك رضى اللّه عنه، وأخمل البويطي رحمه اللّه نفسه واعتزل عن الناس بالبويطة من سواد مصر، وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع ابن سليمان ويعرف به، وإنما هو جمع البويطي لم يذكر نفسه فيه، وأخرجه إلى الربيع فزاد فيه، وأظهره وسمعه منه وقد كان البويطي حمل في المحلة ورفع من مصر إلى السلطان، وحبس في شأن القرآن، فحدثنا عن الربيع قال: كتب إليّ البويطي من السجن يحثني على المجالس، ويأمرني بالمواظبة على العلم والرفق بالمتعلمين والإقبال عليهم، وأنْ أتواضع لهم وقال: كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي اللّه عنه يقول:
أهين لهم نفس لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا تصحب من الناس إلاّ من إنْ افترقت قرب منك، وإذا استغنيت لم يطمع فيك، وإنْ علت مرتبته لم يرتفع عليك، إنْ تذللت له صانك، وإنْ احتجت له مانك، وإنْ اجتمعت معه زانك، فإن لم تجد هذا فلا تصحبن أحداً، ومن حق الأخوّة في اللّه عزّ وجلّ ما نقل إلينا من سيرة السلف قال: كان الرجل يجيء إلى منزل أخيه من حيث لا يعلم، فيقول لأهله: هل عندكم دقيق، ألكم زيت تحتاجون إلى كذا، فإن قالوا ليس عندنا اشترى لهم مصالحهم، قال: ولم يكن الأخ يفرق بين عياله وعيال أخيه، يقاسمهم المؤونة قال: ويلقى أخاه فلا يعلمه بشيء من ذلك، وأما سعيد بن أبي عروبة، فكان يعلق كل ثوب عنده على الحبل، ويظهر كل صنف من طعام فيصفه، وربما اشترى المسلوخ فيعلقه، ويفتح بابه ويدخل عليه إخوانه في اللّه عزّ وجلّ، فكان من أراد طعاماً أكل، ومن اشتهى لحماً قطع وشوى أو طبخ، ومن احتاج إلى ثوب لبس من غير إذن ولا مؤامرة، قد عرفوا ذلك من أخلاقه، وكان مثله جماعة متخلّقين بهذه الأخلاق، وقد جعل اللّه تبارك وتعالى الألفة بين المؤمنين من آياته، وتمدح بوصفها ولم يكلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عزّ وجلّ: (وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولو أنْفَقْتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفْتَ بين قُلُوبهِمْ وَلِكنَّ اللّه ألَّف بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌٌ) الأنفال:63، أي عزيز لا يؤلف غيره ما فرق، ولا يفرق سواه ما ألف، حكيم تفرد بالحكم في التأليف، كما توحد بالتوحيد بالتعريف، ومعنى آخر: عزيز عزز الألفة وعظمها عند المؤمنين، حكيم جعلها في الحكمة مع الحكماء من الصالحين،ونظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان، فوقف أحدهما يحك جسده فوقف الآخر فبكى أبو الدرداء فقال له: هكذا الإخوان في اللّه عزّ وجلّ، يعملان للّه تبارك وتعالى ويتعاونان على أمر اللّه، فإذا وقف أحدهما وقف الآخر لوقوفه، وكان أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر، وكان يقول: إني لأدعو لأربعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم.(2/196)
وقد جاء في الحديث: دعاء الأخ لأخيه بالغيب لا يرد، ويقول الملك: ولك مثل هذا، وفي لفظ آخر يقول اللّه تبارك وتعالى: بك أبدأ، والحديث المشهور: يستجاب للمرء في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه، فمن واجب الأخوة تخصيصه وإفراده بالدعاء، والاستغفار له في الغيب، فلو لم يكن من بركة الأخوة إلاّ هذا كان كثير، وكان محمد بن يوسف الأصبهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح، أهلك يقتسمون ميراثك وهو منفرد بحسرتك، مهتم بما قدمت، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى، فقد أشبه الأخ الصالح الملائكة: لأنه جاء في الخبر: إذا مات العبد قال الناس: ما خلف وقالت الملائكة: ما قدم، يفرحون بما قدم من خير ويشفقون عليه، وقال بعض العلماء: لو لم يكن في اتخاذ الإخوان إلاّ أنّ أحدهم يبلغه موت أخيه فيترحم عليه ويدعو له، فلعله يغفر له بحسن نيته له ويقال: مَنْ بلغه موت أخيه فترحم عليه واستغفر له، كأنه شهد جنازته وصلّى عليه، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء، ينتظر دعوة من ولد أو والد أو أخ، وإنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء، من الأنوار أمثال الجبال ويقال: الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء في الدنيا، قال: فيدخل الملك على الميت معه طبق من نور، عليه منديل من نور فيقول: هذه هدية من عند أخيك فلان، من عند قرينك فلان قال: فيفرح بذلك، كما يفرح الحي بالهدية، فقد كان الإخوان يوصون إخوانهم بعدهم بدوام الدعاء لهم، ويرغبون في ذلك لحسن يقينهم وصدق نياتهم، وإن أعظم الحسرة من خرج من الدنيا ولم يؤاخ أخاً في الله عزّ وجلّ، فيدرك بذلك فضائل المؤاخاة وينال به منازل المحبين عند اللّه تعالى، ومن أشد الناس وحشة في الدنيا من لم يكن له خليل يأنس به وصديق صدق يسكن إليه، كما قال عليّ عليه السلام: وغريب من لم يكن له حبيب ولا يوحشنك من صديق سوء ظن، وأنشد بعض الشيوخ لبعضهم:
وليس غريبًا من تناءت دياره ... ولكن من يجفي فذاك غريب
ومن كان ذا عهد قديم وذا وفا ... فلو جاوز السدين فهو قريب(2/197)
وقيل لسفيان الثوري: بمن تأنس فقال: بقيس بن الربيع، وما رأيته منذ سنتين، وكان بعضهم يقول: أنا بمودة من غاب عني من بعض إخواني أوثق مني بمودة من يغدو علي ويروح في كل يوم مرتين، وقال محمد بن داود: قرب القلوب على بعد المزار خير من قرب الديار من الديار، وليتّقِ أنْ يعاشر أخاه بخمس خصال، فليست من الأدب ولا المروءة: أولها أنْ لا يلزمه بما يكره مما يشق عليه، والثانية أن لا يسمع فيه بلاغة ولا يصدق عليه مقالة، والثالثة أن لا يكثر مسألته من أين تجيء وإلى أين تذهب، وأنْ لا يتجسس عليه ولا يتحسس عنه، والفرق بينهما أنّ التجسس يكون في قفو الآثار، والتحسس يكون في تطلع الأخبار، فقد روينا كراهة هذه الخمس في سيرة السلف، وقال محمد بن سيرين: لا تلزم أخاك بما يشق عليه، وقال مجاهد إذا رأيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين تذهب فلعله أنْ يصدقك في ذلك أو يكذبك، فتكون قد حملته على الكذب، وروينا أنّ حكيماً جاء إلى حكيم فقال: جئتك خاطباً إليك مودتك فقال: إنْ جعلت مهرهاً ثلاثاً فعلت قال: وما هن قال: لا تخالفني في أمر، ولا تقبل عليّ بلاغة، ولا تعطين فيّ رشوة فقال: قد فعلت قال: قد آخيتك، وأما التجسس والتحسس فقد نهى اللّه ورسوله عنهما، وجعلهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من شرط الأخوة مع ترك التدابر والتقاطع، فقد روينا في الخبر السائر: لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخواناً، المقاطعة في الشهادة أن تقطع مواصلته، وتنحرف عن جريان عادته، والتدابر في الغيب مأخوذ منه إذا ولاك الدبر أي لا تدابره إلاّ بما يحب، كما تكون له في المقابلة كما أخذت الغيبة من الغيب أي لا تخلفه في غيبه بما يكره، وقد كان الإخوان يتبايتون على العلوم والأعمال، وعلى التلاوة والأذكار وبهذه المعاني تحسن الصحبة، وتحق المحبة، وكانوا يجدون من المزيد من ذلك والنفع به في العاجل والآجل، ما لا يجدونه في التخلي والانفراد من تحسين الأخلاق، وتلقيح العقول، ومذاكرة العلوم، وهذا لا يصح إلاّ لأهله، وهم أهل سلامة الصدور والرضا بالميسور مع وجود الرحمة، وفقد الحسد، ووجد التناصر، وعدم التظاهر، وسقوط التكلف، ودوام التآلف، فإذا عدمت هذه الخصال ففي وجود أضدادها تقل المباينة، وقد قيل: من سقطت كلفته دامت صحبته وألفته، ومن قلّت مؤونته دامت مودته، وقال علي عليه السلام: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال يونس النبي عليه السلام لما زاره إخوانه، فقدم إليهم خبز شعير وجزلهم من بقل كان زرعه وقال: لولا أنّ اللّه تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم.(2/198)
وروينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف، فجملة التكلف هو عمل ما لا نية للعبد فيه، ودخول العبد فيما لا يعنيه وتعاطيه ما قد كفيه، ومع وجود الحسد وكمون الغل، وهو ثبوت الحقد تكون المباينة، وفي التطاول والتظاهر تقع المجانية، ومع الخبث والمكر تكون المنافرة، وهذا كله يذهب الألفة وينقص المحبة ويبطل فضيلة الأخوة، وقال بعض أهل البيت: أثقل إخواني عليّ من أحتشمه ويحتشمني، وقال بعض السلف: كانوا لا يغتنمون ولا يحتشمون، وسئل الحسن عن الصديق الذي أكل ماله بغير إذن منه فقال: من استراحت إليه النفس وسكن إليه القلب، فإذا كان كذلك فلا إذن له في ماله، وسئل ذو النون عن الأنس فقال: أنْ تأنس بكل وجه صبيح وكل صوت فصيح، واللّه تبارك وتعالى فيما بينك وبين ذلك، وإذا علمت أنّ أخاك يسر بأخذك من رحله وملكه، أو علمت أنه لا يكره ذلك إنْ فعلته، حل لك أنْ تأخذ، وإنْ كان لم يأذن لك لأن علمك يقوم مقام إذنه، وعلامة هذا منك انشراح صدرك بذلك، وخفته على قلبك، فذلك دليل على سروره به، وعلى قياسه من علمت من الناس أنه يكره تناولك من ماله شيئاً، أو عرفته يبخل ضنانة بما في يديه، فإني أكره لك أنْ تأكل من ماله شيئاً وإنْ أذن لك بعد أنْ تعلم أنّ الأحب إليه أنْ لا تأخذ، ففي الورع وإنْ أعطاك أنْ لا تقبل فإن بذله مع علمك بأمره لغو لا حقيقة له، ودليل ذلك ضيق صدرك به، ووجود الحشمة والوحشة في القلب، فقد جاء في الأثر الإثم حواز القلب، وجاء الإثم ما حاك في صدرك، والبر حسن الخلق، والبر ما سكنت إليه النفس واطمأن به القلب، فقد جاءت هذه الألفاظ في أحاديث متفرقة، وعلى ما ذكرناه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكل من لحم بريرة تصدق به عليها وكانت غائبة لما علم أنه يسرها، فلم ينتظر إذنها فعلى ضد ذلك في القياس ما ذكرناه، ونظر هاشم الأوقص إلى الحسن وهو يأكل من جون لبقال، من هذه بسرة ومن هذه تينة، فقال له: يا أبا سعيد، تأكل من مال الرجل بغير إذنه فقال: يا لكع، اتل عليّ آية الأكل، ثم قرأ الحسن (ولا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُم) النور:61 إلى قوله تعالى:(أوْ صَدِيِقِكُمْ) النور:61، وقد كان أصحاب محمد بن واسع وفرقد السنجي يدخلون منزله فيأكلون من غير أنْ يؤذن لهم ويقول: ذكرتموني أخلاق قوم مضوا هكذا كنا، قال: وكنا ندخل على أبي سليمان الداراني، فيقدم إلينا الطيّبات ولا يأكل معنا ويقول: إنما خبأته لكم فقلنا: تطعمنا الشهوات ولا تأكلها فقال: لا آكلها لأني قد تركت أكلها، وأقدمها إليكم لأني أعلم أنكم تشتهونها وقال: كنا نبايت إبراهيم بن أدهم في المصيصة.(2/199)
وفي قرى السواحل، فكان يكسر لنا الصنوبر والبندق واللوز ليله أجمع ويقول: كلوا فقلنا: لو أقبلت على صلاتك وتركت هذا فيقول: هذا أفضل، وكان بعض الناس يفجؤه الضيف، فلا يكون عنده ما يقدمه إليه، فيذهب إلى منزل أخيه، فيأخذ خبزاً وقدراً قد كان طبخها، فيحمله إلى ضيفه، فيلقاه أخوه بعد ذلك فيستحسنه منه ويأمره بفعل مثل ذلك في كل نائبة، وقال بعض العلماء: إذا عمل الرجل في منزل أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده، ودخل الخلاء ونام وصلّى، فذكرت هذه الحكاية لبعض أشياخنا فقال: صدق، بقيت خصلة قلت: ما هي قال: معها وجامع فإذا فعل هذا فقد تم أنسه به، لأن هذه الخمس لأجلها يتخذ البيوت، ويقع الاستخفاء لما فيها من التبذل والعورة، ولولاها كانت بيوت اللّه سبحانه أروح وأطيب، ففي الأنس بالأخ وارتفاع الحشمة من هذه الخمس، مثال حال الأنس في الوحدة بالنفس من غير عيب من عائب ولا ضد لكن من اتفاق جنس، وهذا لعمري نهاية الأنس ذاتاً، فأما الخامسة، وهو قول شيخنا وجامع، فعلى ذلك يصلح أنْ يستدل له بقول العرب في تسليمهم وترحيبهم: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أي لك عندنا مرحب، وهو السعة في القلب والمكان، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة منا، وسهلاً أي لك عندنا سهولة، ذلك يسهل علينا ولا يشتد فهو سهولة اللقاء وسهولته من الأخلاق في الالتقاء، واعلم أنّ للناس في التعارف سبع مقامات بعضها فوق بعض، فأوّل ذلك المعرفة عن الرؤية أو السمع فقط، فلهذا حرمة الإسلام وحق العامة، ثم المجاورة وله حق الجوار، وهو ثاني حقوق الإسلام، وهذا هو الجار الجنب، ثم المرافقة في طريق أو سفر وهذا هو الصاحب بالجنب في أحد الوجهين من الآية، فلهذا ثلاثة حقوق لأنه قد جمع حرمة الإسلام وحرمة الجوار وزاد عليها بأنه ابن سبيل، ثم الصحبة وهي الملازمة والاتباع، فهذا فوق ذلك، ثم الصداقة وهي حقيقة الأخوة، ومعها تكون المعاشرة وهو اسم تكون معه المخالطة، وتوجد فيه المؤانسة، وهو يحكم بالمزاورة والمبايتة والمؤاكلة وهذا جملة العشرة، فالمعاشرة مأخوذة من العشير، وهو الخليط المقارب، ولذلك سمي الزوج عشيراً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويكفرن العشير، وقد قال اللّه عزّ وجلّ في تسمية المعاشر وفي قربه: (لَبِئسَ الَوْلى وَلًَبِئسَ العَشيرُ) الحج:13، يعني ابن العم المختلط به، فقيل منه معاشرة على زنة مفاعلة لأنه شيء يقع بين اثنين لا محالة، كان كل واحد قد فعل مثله أي يفعل هذا مثل ما يفعل هذا، مثل المضاربة والمقاتلة والمشاتمة، إذا فعل كل واحد بصاحبه كفعله به، ثم الأخوة فوق الصداقة، وهذا لا يكاد يكون إلاّ بين النظراء في الحال، والمتقاربين في الحسن، والمعاني بأن يوجد في أحدهما من القلب والهمة والعلم والخلق، ما يوجد في الآخر وإنْ تفاوتا كما قال تبارك وتعالى: (إنَّ المُبذِّرينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّيَاطينَ) الأسراء:27، وليسوا من جنسهم ولا على وصفهم في الخلقة، ولكن لما تشابهت قلوبهم وأحوالهم آخى بينهم، فهذه أخوة الحال وهي حقيقة الصداقة، ثم المحبة وهي خاصية الأخوة، وهذا يجعله اللّه تبارك وتعالى من الألفة ويوجده من الأنس في القلوب، يتولاه بصنعه ولا يوليه غيره، وهذا ارتياح القلوب وانشراح الصدور ووجد السرور، وفقد الوحشة، وزوال الحشمة، ثم الخليل وهذا فوق الحبيب، ولا يكون هذا إلاّ في عاقلين عالمين عارفين على معيار واحد، وطريق واحد، وهذا أعز موجود وأغرب معهود، والخلة مأخوذة من تخلل الأسرار، ومعها تكون حقيقة الحب والإيثار، فكل خليل حبيب، وليس كل حبيب خليلاً، لأن الخلة تحتاج إلى فضل عقل، ومزيد علم، وقوّة تمكين، وقد لا يوجد ذلك في كل محبوب، فلذلك عزّ طلبه وجلّ وصفه، وقد رفع اللّه عزّ وجلّ نبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم في مقام المحبة، فأعطاه الخلة ليلحقه بمقام إبراهيم، فكانت الخلة مزيد المحبة، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً من الخلق خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه عزّ وجلّ، فلما أتخذه خليلاً لم يصلح أنْ يشرك في خلة الخالق خلة الخلق، ثم قال: ولكن أخوّة الإسلام فأوقفه مع الأخوّة، لأن فيها مشاركة في الحال كما فعل بعليّ عليه السلام، وعدل به عن النبوّة كما عدل بأبي بكر عن الخلة.(2/200)
وفي الحديث الآخر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فرحاً مستبشراً فقال:ألا إنّ اللّه تبارك وتعالى، قد اتخذني خليلاً كما أتخذ إبراهيم خليلاً، فأنا حبيب اللّه عزّ وجلّ، وأنا خليل اللّه، وليس قبل المعرفة اسم يوجب حكماً إلاّ ظاهر الإسلام، ولا بعد الخليل وصف يعرف إلاّ نعت محب، ثم تتزايد الحرمات في الأخوات ما بين المعرفة والخلة، وتعظم الحقوق بطول الصحبة وجميل العشرة، ويقال صحبة سنة أخوة ومعرفة عشر سنين قرابة، قد ضم اللّه عزّ وجلّ الصديق إلى الأهل ووصله بهم، ثم رفع الأخ وقدمه على الصديق، وهو قوله عزّ وجلّ: (أو مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور:61، كان الأخ يدفع مفاتح خزائنه إلى أخيه، ويتصرف في الحضر ويتقلب في السفر، ويقول لأخيه: حكمك فيما أملك كحكمي، وملكي له كملكك، فكان أخوه يتضايق ويتحرج فيقتر على نفسه لأجل غيبة أخيه، ويقول: لو كان حاضراً لاتّسعت وأكلت رغداً للورع الذي فيه، والنصح والإيثار لأخيه فرحم اللّه عزّ وجلّ تضايقهم وشكر تورعهم، فأطلق لهم الإذن ووسع عليهم في الأكل فقال عزّ وجلّ: (ولا على أَنْفُسِكُمْ) النور:61، أي لا إثم ولا ضيق أن ْ تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، ثم نسق الأقارب على ترتيب الأحكام، وضمّ إليهم الأخ لما وصفه بتمليكه مفاتحه أخاه، فأقام ذلك مقام ملك أخيه، لأنه أقام أخاه مقامه فقال تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور:61، ثم أخر الصديق بعده إذ لم يكن بحقيقة وصفه، ثم قال عزّ وجلّ: (لَيْسَ عَليْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَأكُلُوا جَمِيعاً) النور:61، بحضرة الإخوان أو أشتاتاً في حال تفرقهم، فسوى بين غيبتهم وشهودهم لتسوية إخوانهم بينهم وبين أملاكهم، واستواء قلوبهم مع ألسنتهم في البذل و المحبة، لتناول المبذول وهذا تحقيق وصفه عزّ وجلّ لهم في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى:38، وقال بعض الأدباء: إذا ائتلف الإخوان جماعة، ثم اجتمع بعضهم على لذّة وفقد البعض نقص من اللذة بمقدار من نقص منهم، وهذا يكون بوجود الأنس بهم ومواصلة الذكر، وروينا أنّ مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت السرير فجعل يأكل، فدخل الحسن فقال: هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض واعلم أنه ليس بين الأخوين والصاحبين رياء في أعمالهما، وإنْ تراءى برأي العين أعمالهم لهم ثواب السرّ والخلوة، لأنهما كالأهل في الحضر وكالصحابة في السفر، وليس بين الرجل وأهل بيته ولا بين المسافر ورفقائه رياء ولا سمعة، ولا عليه منهم اختفاء ولا خلوة، فإن صحبه أخوه هذا في سفر كانت حرمته عليه ألزم وحقه أوجب، فينبغي أنْ لا يخالفه ولا يعترض عليه إنْ أحب النزول في منزل لم يكره أخوه ذلك، وإنْ اختار أحدهما الرحيل لم يحب الآخر المقام، وإنْ سار أحدهما لم يقف صاحبه، وإنْ استراح الآخر وقف له رفيقه، وإنْ اشترى شيئاً لم ينهه عنه، ولا يستأثر بمطعوم ولا مشروب بل يؤثره بذينك، وفي الخبر: ما اصطحب اثنان قط إلاّ كان أحبهما إلى اللّه عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه.(2/201)
وروينا أيضاً عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه دخل غيضة مع بعض أصحابه، فاجتنى منها سواكين من أراك، أحدهما معوج والآخر مستقيم، فحبس المعوج لنفسه ودفع المستقيم إلى صاحبه فقال: يار سول اللّه أنت كنت أحق بالمستقيم فقال: ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من نهار، إلاّ سأله اللّه عن صحبته هل أقام فيه حق اللّه تعالى أو أضاعه، ومن كان ناظراً في أخوة أخيه أو في صحبته إلى كثرة أعماله، أو واقفاً مع أكمل أحواله، دل على جهله بهذا الطريق الذي ينفذ إلى التحقيق لأنها تحول، وإنّما المعول على حقائق القلوب وسلامة العقول لأن إليها الأمر مردود، فإن اقترن إلى جهله نقص معرفة الآخر دل علىه التزين له والتصنع عنده لتعلو منزلته ويحسن عنده أثره فيدخله ذلك في الشرك ويخرجه الشرك عن حقيقة التوحيد، فتزل قدم بعد ثبوتها ويسقط من عين مولاه، فلا يتولاه لأن النفس مبتلاة بحب الثناء والمدح وإثبات المنزلة بإظهار الوصف، فيكون هذا الصاحب حينئذ من أشأم الناس عليه وأضرّهم له، ويصير أحدهما بلاء على صاحبه، فليفارقه حينئذ لأنّه جاهل ولا يصحبه، فإنه يجد النقصان وتدخل عليه الآفات بمقارنته، فلينفرد بنفسه فيصدق في حاله عالية كانت أو دنيئة، وضيعة كانت أم رفيعة، من غير مقارنة أحد ولا مباينة فهو خير له وأحمد عاقبة، وهذا باب لطيف قد هلك فيه خلق كثير على ضربين منهم، من صاحب وآخى وبايت على هذه العلل فساكنها، ومن هذه الآفات فقارنها الضعف يقينه وقوة هواه، وكبر الناس في عينه وعظم قدر الدنيا مما يناله منهم في قلبه، فهلك بالتزين والتصنع وأهلك أخاه بنحو ذلك، والضرب الثاني من المتعبدين المعروفين بالستر والصلاح، خافوا ولم يحبوا أن يظهروا على حالهم كراهة الذم وخيفة النقص لهم، فلم يحبوا أنْ يختبروا بالمباينة ولا ينكشفوا في المصاحبة، ولا تعرف أحوالهم بطول الممارسة،وأحبوا مع ذلك أنْ يشار إليهم من بعيد ويتوهم فيهم العبادة من غير طول ملاقاة، فأظهروا التفرد والعزلة، وتركوا المباينة والصحبة، وأنكروا هذا وعابوه، يريدون أنْ يبينوا بذلك عن نظرائهم وينفردوا به عن جملة الخلق بدعوى الحال، ليختصوا بغيرها عندهم من غير حال، ولا انقطاع إلى الله سبحانه، ولا اشتغال، ولقلة معرفة العامة بأحوال الصادقين، فهلك أيضاً بالمباينة وغربة الحال وترك السنة من إجابة الدعوى، ومخالطة الأمة كبراً وتطاولاً على العامة، وتمويهاً منهم على من لا يعرف سيرة الأمة، وأوهم بذلك أنه مشغول عنه بسلوك الطريق، لعلمه أنهم لا يعرفون محجة التحقيق، ولعلّه مشغول بهم وأنهم وساوس قلبه، وهو في ذلك منكشف للصادقين ظاهر جلي للعارفين، وقد جاء في مخالطة المسلمين، وفي الأكل مع الإخوان والاختلاط بالعامة، والمشي في الأسواق واشتراء الحوائج، وحملها للتواضع ما يكثر رسمه ويطول وصفه وكذلك كان سيرة الصحابة وشيمة التابعين بإحسان منهم، عمر رضي اللّه عنه، كان يحمل القربة على ظهره لأهله، وعليّ رضي اللّه عنه كان يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول:
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جرّ من نفع إلى عياله(2/202)
ومنهم أبي وابن مسعود وحذيفة وأبو هريرة، كانوا يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم وظهورهم، وسيد المرسلين وإمام المتّقين، ورسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم كان يشتري الشيء فيحمله بنفسه، فيقول له صاحبه: أعطني أحمله عنك فيقول: صاحب الشيء أحقّ بحمله، وكان الحسن بن علي عليهما السلام يمر على السؤال في الطريق، وبين أيديهن كسر ملقاة في الأرض، فيسلم عليهم فيقولون: هلمّ الغداء يا بن بنت رسول اللّه، فيثني رجله عن بغلته وينزل، فيقعد معهم على الأرض ويأكل، ثم يركب ويقول: إنْ اللّه تبارك وتعالى لا يحب المستكبرين ثم يدعوهم بعد ذلك إلى منزله فيقول للخادم: هلمي ما كنت تدخرين فيأكلون معه، وروينا في الإسرائيليات أنْ حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصنفاً في الحكمة، حتى ظن أنه نال منزلة عند اللّه تعالى، فأوحى اللّه إلى نبيه: قل لفلان أنك قد ملأت الأرض نفاقاً، وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً، قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: قد بلغت محبة ربي فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى النبي، قل له إنك لم تبلغ رضاي قال: فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم، وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم، فأوحى اللّه تبارك وتعالى الآن حين بلغت رضاي، فلو أيقن اليائس المتصنع للخلق، الأسير في أيديهم، الرهين لنظرهم، أنّ الخلق لا ينقصون من رزق، ولا يزيدون في عمر، ولا يرفعون عند اللّه، ولا يضعون لديه، وأنّ هذا كله بيد اللّه عزّ وجلّ، لا يملكه سواه، ولو سمع خطاب المولى لاستراح من جهد البلاء، إذ يقول اللّه عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه) الأعراف:194، لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللّه الرزق واعبدوه، مع قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون اللّه عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف:194 فلو عقل ذلك لطرح، الخلق عن قلبه اشتغالاً بمقلبه، ولأعرض عن الناس بهمه نظراً منه إلى مهمه، وأظهر حاله وكشف أمره تقوياً بربه وغنية بعلمه، فلم يبال أنْ يراه الناس على كل حال يراه فيه مولاه، إذا كان لا يعبد إلاّ إياه ولا يضره ولا ينفعه سواه، فعمل ما يصلحه وإنْ كان عند الناس يضعه، وسعى فيما يحتاج إليه وإنْ كان عند المولى يزري عليه، ولكن ضعف يقينه فقوى إلى الخلق نظره، وأحب أنْ يستر عنهم خبره لإثبات المنزلة عندهم، ولاستخراج الجاه لنفسه، فيفخر بالخيلاء والعجب، فموه بحال على من لا حال له، ووهم بمقام عند من ليس له مقام، واعتقدوا فضله بذلك لنقصهم، وتوهموا به علمه لجهلهم، ولو صدقوا اللّه لكان خيراً لهم، حدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رضي اللّه عنه: واللّه ما أقول لك إلاّ نصحاً، أنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما يصلحك فافعله، وحدثونا عن الثوري قال: رضا الناس غاية لا تدرك، فأحمق الناس من طلب من لا يدرك وقد قال بعض الحكماء في معناه قولاً منظوماً:
من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجسور(2/203)
ونظر أبو محمد سهل إلى رجل من الفقراء فقال له: اعمل كذا وكذا فقال: يا أستاذ لا أقدر على هذا لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه فقال: لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد يسقط الناس عن عينه فلا يرى في الدار إلاّ هو وخالقه، وأنّ أحد لا يقدر أنْ يضره ولاينفعه، أو عبد أسقط الناس عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه، وحدثونا عن إمام الأئمة الحسن بن يسار البصري رحمه اللّه أنَّ رجلاً قال له: يا أبا سعيد إنّ قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم الفائدة منك، ولا الأخذ عنك، إنما همهم تتبع سقط كلامك وتعنتك في السؤال ليعيبوك بذلك، فتبسم الحسن ثم قال: هوّن عليك يا ابن أخي فإني حدثت نفسي بسكنى الحنان، فطمعت وحدثت نفسي بمعانقة الحور الحسان، فطمعت وحدثت نفسي بمجاورة الرحمن، فطمعت وما حدثت نفسي قط بالسلامة من الناس، لأني قد علمت أنّ خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم، فكيف أحدث نفسي بالسلامة منهم، وبمعناه ما روي عن موسىصلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ربّ احبس عني ألسنة الناس، فقال اللّّه تبارك وتعالى: يا موسى هذا شيء لم أفعله لنفسي، فكيف أفعله بك، وفي لفظ آخر: لو خصصت بهذا أحداً لخصصت به نفسي، وقد كان أبو الدرداء رضي اللّه عنه يقول: ما من يوم أصبح فيه حيًّا وأمسي ولا يرميني فيه الناس بداهية إلاّ عددته نعمة من اللّه تعالى عليّ وأنشد:
وإن امرًءا يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلاّ ما جنا لسعيد
وأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى عزير: إنْ لم تطب نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين، ومثله روينا عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول يا معشر الحواريين، إنْ أردتم أنْ تكونوا إخواناً فوطنوا نفوسكم عند العداوة والبغضاء من الناس، وقد جعل اللّه تبارك وتعالى في المخالطة للمؤمنين من البركة، ما لو لم يجيء فيه الأثر إلا هذا، كان فيه كفاية، وروينا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت عدل إلى زمزم ليشرب منها، فإذا التمر المنقع في الحياض الآدم قد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه يشربون فاستسقى منه فقال: اسقوني فقال العباس: يا رسول اللّه إنّ هذا النبيذ شراب قد مغث وحيض بالأيدي، أفلا آتيك أنظف من هذا في جرّ مخمر في البيت فقال: لا اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، ألتمس بركة أيدي المسلمين فشرب، وروينا في خبر آخر قيل: يا رسول اللّه، الوضوء من جرّ مخمر أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس فقال: بل من هذه المطاهر إلتماس بركة أيدي المسلمين، وروينا في الخبر: إذا التقى المسلمان فتصافحا، فتبسم أحدهما إلى صاحبه تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر، وفي لفظ الحديث الآخر: قسمت بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون لآنسهما بصاحبه وأحسنهما بشرًا، وروينا في الخبر: خير الأصحاب عند اللّه عزّ وجلّ أرفقهم بصاحبه، وخير الجيران أرفقهم بجاره، وإياك أنْ تصحب جاهلاً فتجهل بصحبته، أو غافلاً عن مولاه متبعاً لهواه فيصدك عن سبيله فتردى، كما قال سبحانه وتعالى: (فاسْتَقيما ولا تَتَّبِعَانِّ سَبيلَ الَّذينَ لا يَعْلَمُونَ) يونس:89، فأول الاستقامة صحبة العلماء باللّه عزّ وجلّ وقال تعالى: (ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرنَا وَاتَّبَعَ هَواهُ) الكهف:28، وقال تعالى: (فلا يَصُدَّنَّك عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بها واتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) طه:16، أي فتكون ردياً وقيل فتهلك وقال تعالى: (فأعْرِضَ عَمَنْ تَوَلّى عنْ ذِكْرِنا) النجم:29، ففي دليله الإقبال بالصحبة على من أقبل إلى ذكره تعالى، والإعراض عمن أعرض عن وجهه، فلا تصحبن إلاّ مقبلاً عليه كما قال اللّه عزّ وجلّ: (واتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أنابَ إِليَّ) لقمان:15، وإياك أنْ تصحب من الناس خمسة: المبتدع والفاسق والجاهل والحريص على الدنيا والكثير الغيبة للناس، فإن هؤلاء مفسدة للقلوب مذهبة للأحوال، مضرة في الحال والمآل.(2/204)
وقد كان سفيان الثوري رحمه اللهّ يقول: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة وقال سعيد بن المسيب: لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة، ولكن قد كان صعصعة بن صوحان يقول: إذا لقيت المؤمن فخالطه مخالطة، وإذا لقيت المنافق فخالفه مخالفة، وقد قال: أحسن الواصفين في وصف أوليائه المتّقين، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً أي سلامة، الألف بدل من الهاء لازدواج الكلم، والمعنى، أي سلمنا من إثمكم وسلمتم من شرنا، وقد كان أبو الدرداء يقول في زمانه: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه، إنْ ناقدتهم ناقدوك، وإنْ تركتهم لم يتركوك، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك، وكان يقول: كل يوم أصبح لا يرميني الناس فيه بداهية أعده نعمة من اللّه تعالى عليّ، وقال حكيم الحكماء صلى الله عليه وسلم: من خالط الناس وصبر على أذاهم، أفضل ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم، وقال العلام ذو الجلال والإكرام:(أُولَئِكَ يُؤْتْونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسنَةِ السَّيئةِ) القصص:45، إي يدفعون بالكلام الحسن السيء وقال عزّ وجلّ في الكلام المفسر:(ادْفَعْ بالتي هي أَحْسَنُ) فصلت:34، يعني بالكلمة الحسنى: (فإذا الَّذي بَيْنكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليُّ حَميمٌ) فصلت:34 ثم قال عزّ وجلّ وما يلقاها يعني الكلمة: (إلاّ الَّذينَ صبَرُوا) فصلت:35، أي على أمر اللّه تعالى وعلى الغيظ، وعن الغضب:(وما يُلَقّاها إلاَّ ذُو حظٍّ عَظيمٍ) فصلت:35، أي من الحلم والعلم وقيل ذو حظ عظيم عند اللّه عزّ وجلّ من النصيب والجزاء وقد قال لقمان الحكيم قولاً متوسطاً: يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مرّاً فتلفظ، المعنى: لا تمكن الناس من نفسك ولا تتابعهم في كل شيء فلا يبقوا عليك وينبسطوا إليك، ولا تنافرهم وتخالفهم في كل شيء فيجانبوك ويرفضوك فيقعوا فيك، وقال بعض السلف: لا تصحب إلاّ مريداً، وكل خليل لا يريد ما تريد فانبذ عنك صحبته، وقال بعض علماء العرب: الصاحب كالرقعة في الثوب إنْ لم تكن من جنسه شانته، وقال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أنّ كل طير مع جنسه، وقد كان مالك بن دينار يقول مثل هذا، وقد لا يتفق اثنان في عشرة ودوام صحبة، إلاّ وفي أحدهما وصف من الآخر وإنّ أشكال الناس كأجناس الطير، قال ورأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك وقال: كيف اتفقا وليسا من شكل قال: ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا ويقال: إذا اصطحب اثنان برهة من الزمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بدّ أنْ يفترقا، وقد أنشدنا بعض العرب لبعض الحكماء في معناه:
وقائل لما تفرقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وآلاف(2/205)
وقد روينا في حديث أنّ الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، تلتقي فتشام في الهواء، قيل معناه في المذهب والخلق، وفي هذا الخبر زيادة ولو أنّ مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق وفيه مؤمن واحد، لجاء حتى يجلس إليه، ولوأنّ منافقاً دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن وفيه منافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه، وقد ذكر لهذا الحديث سبب على ما ذكرناه، وهو أنّ امرأة عطّارة كانت بالمدينة من أحد فقدمت امرأة من مكة عطّارة وكانت مزاحة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: على من نزلت قيل: على فلانة فقال: الأرواح جنود مجندة، وبعض العلماء يقول: إنّ اللّه خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً، وقدر بعضها قدراً، ثم أطافها حول عرشه، فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا ههنا في الدنيا وترافقا، وأي روحين من قدرتين أو فلقة وقدرة أختلفا ثم وتناكرا هناك فاختلفا في الجولان، فإن هذين إذا ظهرا اليوم تباينا وتنافرا، فهذا تأويل الخبر عنده، فما تعارف منها أي في الطواف فتقابلا تعارفا ههنا وترافقا ائتلفا، وما تناكرا ثم في الجولان فتدابرا تناكرا ههنا اليوم في الخلق والحال لما ظهرا فاختلفا، وليس الائتلاف يقع بنفس الاجتماع ووقت الاتفاق، فإنما الائتلاف يكون بمجانسة الحال ومشاكلة الأخلاق، لأنهم شبهوا أجناس الناس بأجناس الطير، وقد يتفق الطيران من جنسين ويتجامعان في مكان، فلا يكون ذلك ائتلافاً في الحقيقة ولا اتفاقاً في الخليقة لتباينهما في التشاكل، ولا يتبين ذلك في الاجتماع وإنما يتبين في الطيران إذا طارا معاً، فأما إذا ارتفع أحدهما ووقع الآخر وعلا أحدهما وقصر الآخر، فلا بدّ من افتراق حينئذ لفقد التشاكل، ولا بدّ من مباينة لعدم التجانس عند الطيران، فهذا مثال ما ذكرناه من الافتراق لعدم حقيقة تشاكل الحال والوصف بعد الاتفاق، واعلم أنّ الائتلاف والاختلاف يقع بين اثنين إذا اشتركا وافترقا في أربعة معان، إذا استويا في العقود، واشتركا في الحال، وتقاربا في العلم واتفقا في الأخلاق، فإن اجتمعا في هذه الأربع فهي: التشاكل والتجانس ومعه يكون الائتلاف والاتفاق، وإن اختلفا في جميعها فهو التباعد والتضاد وعنده يكون التباين والإفتراق، وإنْ اتفقا في بعضها واختلفا في البعض كان بعض الاتفاق وبعض الاختلاف فيوجد من الائتلاف بمقدار ما وجد من التعارف، ويوجد من الإختلاف نحو ما فقد من الاتفاق، وهذا هو تناكر الأرواح لتباعد نشأتها وتشامها في الهواء، وذلك الأو ل هو تعارف الأرواح بقرب التشام باجتماع الأوصاف.(2/206)
حدثت عن يعقوب ابن أخي معروف رحمهما اللّه قال: جاء الأسود بن سالم إلى عمي معروف، وكان مؤاخياً له فقال: إنّ بشر بن الحارث رحمه اللّه يحب مؤاخاتك، وهو يستحي أنْ يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أنْ تعقد له فيما بينك وبينه أخوّة يحتسبها ويعتد بها، إلاّ أنه يشترط فيها شروطاً لا يحب أنْ يشتهر بذلك، ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فإنه يكره كثرة الالتقاء، فقال معروف رحمه اللّه: أما أنا، فلو أحببت واحداً لم أحب أنْ أفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولزرته في كل وقت ولآثرته على نفسي في كل حال، ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في اللّه عزّ وجلّ أحاديث كثيرة، ثم قال فيها وقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين عليّ عليه السلام، فشاركه في العلم وقاسمه في البدن وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه، وخصه بذلك لمؤاخاته: وإني أشهدك أني قد عقدت له أخوّ ة بيني وبينه وأعتقده أخاً في اللّه عزّ وجلّ لرسالته ولمسألتك، على أنْ لا يزورني إنْ كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها، وآمره أنْ لا يخفي علي شيئاً من شأنه، وأنْ يطلعني على جميع أحواله، قال: فأنصرف بذلك أسود بن سالم فأخبر به بشراً، فرضي بذلك وسرّبه، فهذا أسود بن سالم أحد عقلاء الناس وفضلائهم، فكان فيه اتساع للأصحاب وصبر عليهم، وهو الذي أشار معروف به على الرجل الذي سأله مستشيراً فقال: يا أبا محفوظ، هذان الرجلان إماما هذا البلد، فأشر علي أيهما أصحب، فإني أريد أنْ أتأدب به أحمد بن حنبل أو بشر بن الحارث رضي اللّه عنهما قال له معروف: لا تصحب أحدهما، فإن أحمد صاحب حديث، وفي الحديث: اشتغال بالناس فإن صحبته ذهب ما تجد في قلبك من حلاوة الذكر وحب الخلوة، وأما بشر فلا يتفرغ لك ولا يقبل عليك شغلاً بحاله، ولكن اصحب أسود بن سالم، فإنه يصلح لك ويقبل عليك، ففعل الرجل ذلك فانتفع به وإنما ضمه معروف رضي اللّه عنه إلى الأسود دونهما، لأنه كان أليق بحاله وأشبه بوصفه، وكذلك روينا في حديث المؤاخاة الذي آخى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فآخى بين إثنين شكلين في العلم والحال آخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وهما نظيران، وآخى بين سلمان وأبي الدرداء وهما شكلان في العلم والزهد، وآخى بين عمار وسعد وكانا نظيرين، وآخى بين عليّ وبينه رضي اللّه عنهم أجمعين،و صلّى اللّه على سيدنا محمد وآله أجمعين، وهذا من أعلى فضائله لأن علمه من علمه، وحاله من وصفه، ثم آخى بين الغني والفقير ليعتدلا في الحال، وليعود الغني على أخيه الفقير بالمال، قال أبوسليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: إذا آخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على أمر تكرهه منه، فإنك لا تأمن أنْ يعنيك بشر من الأمر الأول، قال أحمد: فجربته فوجدته كما قال، وقال بعض العلماء: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، ومعاتبته خير من القطيعة، والقطيعة أحسن من الوقيعة، وقال بعضهم: كدر الجماعة خير من صفو الفرقة، ومثل الأخوة مثل الزجاجة الرقيقة ما لم تحفظها وتوقها كانت معرضة للآفات، واستتمام الإخاء إلى خير الوفاة أشد من ابتدائها في حال الحياة، وقال بعض الأدباء: الناس أربعة: فواحد حلو كله فهذا لا يشبع منه، وآخر كله مر وهذا لا يؤكل منه، واحد فيه حموضة فخذ من هذا قبل أنْ يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه إذ احتجت إليه،وقال بعض الأئمة: الناس أربعة فاصحب ثلاثة ولا تصحب واحداً، رجل يدري ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهذا نائم فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا منافق فاجتنبوه، ومثل هذا الرابع قول سهل: ما عصي اللّه عزّ وجلّ بمعصية شر من الجهل، وأعظم من الجهل الجهل بالجهل، وقال بعض الأدباء: الناس ثلاثة: فاصحب رجلين وأهرب من الثالث: رجل أعلم منك فاصحبه تتعلم منه، ورجل أنت أعلم منه يقبل منك فاصحبه تعلمه، ورجل معجب بنفسه لا علم عنده ولا تعلم فاهرب من هذا، وقال محمد بن الحنفية رضي اللّه عنه: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل اللّه له منه فرجًا، فمعاملته عني يتقي ومخالطته إخوان الأضطرار ومعاشرة التقي ومصافاته من أحس الإحسان، وكان أبو مهران(2/207)
يقول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع.قول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع.
روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ رجلاً صحبه في طريق فدخل النبي صلى الله عليه وسلم غيضة، فاجتنى سواكين من أراك أحدهما معوج والآخر مستقيم، فأخذ المعوج وأعطى صاحبه المستقيم، فقال الرجل: أنت أحق بالمستقيم مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب يصحب رجلاً ولو ساعة من نهار إلاّ سأله اللّه عن صحبته، هل أدّى فيها حق اللّه عزّ وجلّ أم لا، فكرهت أنْ يكون لك علي حق لم أرده، واعلم أنّ الأخوة في اللّه عزّ وجلّ، والمحبة في اللّه تعالى وحسن الصحبة كانت طرائق السلف الصالح، قد درست اليوم محاجها وعفت آثارها، فمن عمل بها فقد أحياها، ومن أحياها كان له مثل أجر من عمل بها، فمن رزقه اللّه أخاً صالحاً تطمئن به نفسه، ويصلح معه قلبه فهي نعمة من اللّه عزّ وجلّ مضافة إلى محاسن نعمه، والحمد للّه وحده وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله.
الفصل الخامس والأربعون
ذكر التزويج
وتركه أيهما أفضل ومختصر أحكام النساء في ذلك
قال سبحانه وتعالى: (وَأنْكِحوا الأَيَامى مِنْكُمْ) النور:32 الآية، فأمر المحتاجين وندب المعصومين، فالنكاح فرض مع الحاجة وسنّة على الكفاية، ثم وعدهم تعالى الغنى على الفقر، فالغنى على الغني يجعله على نحو الفقر من الفقير، فقد يكون فقيراً من الأجر فيغنيه بالأجر، ويكون فقيراً من عدم الحكم فيغنيه بإيجاب الحكم عليه، ويكون فقيراً بالضيعة والشتات وفقد المنزل والأثاث فيغنيه بوجود ذلك، وأحكمه عزّ وجلّ بما عقبه من قوله تعالى وهو الحكيم: (واللّه وَاسِعٌ عَليمٌ) البقرة:247، فهو واسع لغناهم عن معاني فقرهم عليهم بحالهم وما يصلحهم فيما لا يعلمون على مقادير رتبهم، وروى الحسن عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا، وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فأنكحوه ألاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.(2/208)
وفي الخبر: من نكح للّه عزّ وجلّ وأنكح للّه تبارك وتعالى استحق ولاية اللّه تعالى، وهذا أدنى حال تنال به الولاية لأنها مقامات لكل مقام عمل من الصالحات، إلاّ أنا روينا أنّ بشر بن الحارث قيل له إنّ الناس يتكلمون فيك، فقال: وما عسى يقولون؟ قيل: يقولون إنك تارك لسنّة يعنون النكاح، فقال: قل لهم: إني مشغول بالفرض عن السنّة، وقال مرة: ما يمنعني من ذلك إلا آية في كتاب اللّه تعالى قوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ) البقرة:228، ولعسى أن لا أقوم بذلك، وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أكون جلاّداً على الجسر، هذا يقوله في سنة عشرين ومائتين، والحلال والنساء أحمد عاقبة، فكيف بوقتنا هذا؟ فالأفضل للمريد في مثل زماننا هذا ترك التزويج إذا أمن الفتنة وعود العصمة، ولم تنازعه نفسه إلى معصية، ولم يترادف خواطر النساء على قلبه حتى يتشتت همه أو يقطعه عن حسن الإقبال على الخدمة من مسامرة الفكر ومحادثة النفس بأمر النساء، وما لم يجمح بصره إلى محظور ولم يخالط ذكره شهوة تستولي عليه، لأنّ أول خطايا الفرج شهوة القلب بمسامرة الفكر وهو معقول الخطيئة الثانية: إنعاظ الفرج عن شهوة القلب وهذا عمل، وقبض الرجل على فرجه متعظاً معصية ثالثة، فإن ظهرت الشهوة من الفرج فهو معصية رابعة، ومسّ الفرج باليمين مكروه، فمتى وقعت هذه المعاني فإنها تغيّر القلب عن الخشوع، وتدخل عليه النقصان، ومتى لم يبتل العبد بها، فإن الخلوة أفضل المعاني، وفيها يجد لذة الوجود وحلاوة المعاملة، ويقبل على نفسه ويشتغل بحاله ولا يهتم بحال غيره، فيحمل حاله على حال غيره فيقصر، أو يقوم بحكم آخر فيعجز، ويعالج شيطاناً آخر مع شيطانه، وتنضم نفس أخرى إلى نفسه، وله في مجاهدة نفسه ومصابرة هواه وعدوه أكبر الأشغال، ومنها أنّ المكاسب قد فسدت فليس ينال أكثرها إلاّ يمعصية وهو مسؤول من أين اكتسبه وفيم أنفقه، فإن كان كسب من غير حلّه حسب ذلك عليه، وإن أنفق على هواه لم يحسب ذلك له، ومنها أن أكثر النساء قليلات الدين والصلاح، والأغلب عليهن الجهل والهوى، فلا يأمن أن ينقاد لهنّ لأجل هواه فيخسر آخرته، أو يمانعهن فيغالطهن، فلا ينقدن له فيتنغص عليه عيش دنياه، وقال الحسن رحمه اللّه: واللّه ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلاّ أكبه اللّه في النار، ومنها أنّ الأغنياء في مقام الظالمين للفقراء لبخس حقوقهم عنهم، وتقصيرهم عمّا أوجب اللّه عزّ وجلّ عليهم لهم، فإن كان المتأهل فقيراً لقي شدةً وجهداً وعنتاً وكداً ولم يأمن دخول الآفات عليه لأجل عيلته، وقد سئل ابن عمر رضي اللّه عنه عن جهد البلاء فقال: كثرة العيال، وقلة المال، وقال بعض السلف: قلة العيال أحد اليسارين، وكثرة العيال أحد الفقرين، ويقال: إنّ العيال عقوبة شهوة الحلال وإنّ الحرص عقوبة طلب فوق الكفاية فهو عقوبة الموحدين.
وقد جاء في الأثر: الوحدة خير من قرين السوء وهو من القرين الصالح على غير يقين، فلا يزال اليقين بالشك، فإن أكثر النساء من لا صلاح فيه لغلبة الهوى وحبّ الدنيا عليهن، وفي الخبر: مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم من مائة غراب، يعني الأبيض البطن، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اتّقِ المرأة السوء فإنها تشيبك قبل المشيب، واتّقِ شرار النساء فإنهنّ لا يدعون إلى خير، وكان من خيارهن على حذر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خيرات النساء: إنكن صواحبات يوسف عليه السلام، إن صرفكنّ أبا بكر رضي اللّه عنه عن الإمامة ميل منكنّ إلى الهوى وتزيين وإغواء، كما أنّ زليخا حين راودت يوسف عليه السلام كان ذلك منها غواية وتسويلاً، ففيه اعتذار ليوسف عليه السلام وإيقاع اللوم عليها وتشبّه لهنّ بها، وقال اللّه فيهن حين أفشين سرّ النبي صلى الله عليه وسلم: (إنْ تَتُوبا إلى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) التحريم:4، يعن مالت إلى الهوى فأمرهما بالتوبة للميل إلى الهوى، ثم قال: وإن تظاهرا عليه يعني تعاونا وهما من خير الأزواج فماظنك بمن شاكلته الجهالة ووصف الهوى والضلالة؟.(2/209)
وفي الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما أفلح قوم تملكهم امرأة، وقال اللّه تعالى مخبرًا بعداوة بعض الأزواج والأولاد: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ) التغابن:41، يعني في الآخرة لانحطاطكم في أهوائهم وميلكم إلى وهن آرائهن، فصاروا عدوّاً غداً، كيف وقد تكون المرأة والولد أعدى عدو للرجل اليوم بل يوم القيامة إذا خالفهم في أهوائهم وعمل بالعلم في أحوالهم وقد كان إبراهيم بن أدهم يقول: من تعوّد أفخاذ النساء لم يفلح، وكان بشر رحمه اللّه يقول: لوكان لي عيال لخشيت أنْ أكون جلاّداً على الجسر، فالوحدة أروح للقلب وأقلّ للهمّ لخفة المؤونة وقلة المطالبة وأمن المنازعة وسقوط حكم من أحكام الشرع عنه، وقد كان السلف يعملون في إسقاط الحكم عنهم للعجز عن القيام بها، ويغتنمون ذلك، وفي التخلي قلّة الاهتمام بالأدخار والجمع، وترك المراعاة، والتحفظ للمبيت في البيت، وسقوط المسألة والاستخبار، وترك التجسس للآثار التي نهى اللّه ورسوله عنها إذ لا يأمن ذلك مع الزوجة السوء، وإنما زهد الزاهدون في الدنيا لراحة القلب واطّراح الهمّ وسقوط المطالبة، وقد أبيحت العزبة وفضل التعزب لهذه الأمة في آخر الزمان، بعد المائتين أبيحت العزبة لأمتي، ولأن يربي أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدًا، والخبر المشهور: خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاد الذي لا أهل له ولا ولد، وفي خبر آخر: يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يدي زوجته وأبويه وولده، يعيّرونه بالفقر ويحمّلونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك وربما كانت المرأة عقوبة للعبد.
وقد حدثونا في أخبار الأنبياء عليهم السلام أنّ قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت، فعجبوا من ذلك، وهابوه أنْ يسألوه فقال: لا تعجبوا من هذا، فإني سألت اللّه عزّ وجلّ فقلت: يا ربّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال: إنّ عقوبتك ابنة فلان فتزوّج بها، فتزوّجت بها وأنا صابر على ما ترون منها، وهذا كله لمن لم يخشَ العنت، فأما من خاف العنت وهو الزنا، وأصل العنت في اللغة هو الكسر بعد جبر، يقال للدابة إذا كسرت بعد ما جبرت قد عنتت، فكأنه كان مجبوراً بالعصمة وبالتوبة ثم كسر بالزلل أو العادة السوداء فنكاح الأمة حينئذ خير له من العنت، والصبر عن نكاح الأمة خير من نكاحها، وهذا معنى قوله عزّ وجلّ في نكاح الأمة: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِي َ العَنَتَ مِنْكُمْ) النساء: 25، وكذلك إنْ كثرت الخواطر الردية والوساوس الدنية في قلبه بذكر النكاح فشغله ذلك عن فرضه أو شتت ذلك همه، فإن نكاح الأمة أيضاً خير له على أنّ نكاح الأمة محرم على من وجد طولاً بحرة، انصرف الناس ذات يوم من مجلس ابن عباس وبقي شاب لم يبرح، فأطال القعود فقال له ابن عباس: هل لك من حاجة فقال: نعم، لي حاجة استحيت أنْ أسألك عنها بحضرة الملأ قال: سلني عمّا شئت قال: إني أهابك وأجلك فقال ابن عباس: إنما العالم بمنزلة الوالد لا حشمة على السائل منه، فمهما أفضيت به إلى أبيك فأفض به إليّ فإنه لا عيب عليك عندي فقال: رحمك اللّه إني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنت على نفسي، وربما استمنيت بذكري فهل لي في ذلك معصية، فأعرض عنه ابن عباس رضي اللّه عنهما ثم قال: أف وتف، نكاح الأمة خير من هذا، وهذا خير من الزنا، ونكاح الأمة عند علماء العراق حرام على من وجد عشرة دراهم، وعند بعض علماء الحجاز إذا كان واجداً ثلاثة دراهم لم يحل له نكاح الأمة، وعن بعض أصحاب ابن المسيب إنْ وجد الرجل درهمين حرم عليه الأمة، وقال بعض الناس: أحمق الناس حرّ تزوّج بأمة، وأعقل الناس عبد تزوّج بحرّة، لأن هذا يعتق بعضه وذلك يرق بعضه، لأنه يرق ولده وقد جاء في كراهة الاستمناء وتحريمه والتغليظ فيه أخبار شديدة.(2/210)
روينا أنّ اللّه عزّ وجلّ أهلك أمة من الأمم كانوا يعبثون بمذاكيرهم، وقد أسنده إسماعيل بن أبان عن أنس بن مالك، وسئل أبو محمد عن النساء فقال: الصبر عنهن ولا الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار، وكذلك قال بعض العلماء قبله: معالجة العزبة خير من معالجة النساء وقال بعض علمائنا البصريين من أهل الورع واليقين، وقد سئل عن التزويج في مثل زماننا، فذكر ضيق المكاسب وقلة الحلال وكثرة فساد النساء، فكرهه للورع وأمره بالمدافعة فأعيد عليه في ذلك، فقال إنه يدخل في المعاصي لدخول الإنسان في الآفات وفي المكاسب المحرمات ومن أكله بدينه وتصنعه للخلق، فلا يصلح التزويج في هذالوقت إلاّ لرجل يدركه من الشبق ما يدرك الحمار إذا نظر إلى أتان، لم يملك نفسه أنْ يثب عليها حتى يضرب رأسه، وهو لا ينثني،فإن كان الإنسان على مثل هذا الوصف كان التزويج له أفضل، وقد روينا عن قتادة في قوله عزّ وجلّ: (ولا تُحمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ) البقرة:286، قال الغلمة وعن عكرمة ومجاهد رضي اللّه عنهما وخلق الإنسان ضعيفاً قال: لا يصبر عن النساء.
وروينا عن فياض بن نجيح إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، وبعضهم يقول: ذهب ثلث دينه، وروينا في نوادر التفسير عن ابن عباس ومن شرّ غاسق إذا وقب قال: قيام الذكر وقد أسنده بعض الرواة، إلاّ أنه قال فيه: الذكر إذا دخل ولم يذكر قام، وفي الخبر: إذا تزوج الرجل فقد أحرز نصف دينه، فليتّقِ اللّه في الشطر الآخر، وفي دعاء البراء بن عازب: أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري وقلبي ومني، فكان المني إذا امتلأ به خرز الصلب، فطلب الخروج فخيف منه فساد القلب ومرضه بمنزلة الدم إذا كان في العروق، فإذا تصاعد من الصلب طبخه وغيره فابيضّ وصار منياً بإذن اللّه عزّ وجلّ، وذكر النساء في مجلس معاوية فذمهن قوم فقال: لا تفعلوا، فما علل المريض ولا ندب الميت ولا عمر البيوت مثلهن، ولا احتاجت الرجال إلى مثلهن وفي بعض التفسير قال: (أنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها) الكهف:7 قال: النساء، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوّج، وكان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريب وغيرهما فيقول: إنْ أردتم النكاح أنكحتكم، فإن العبد إذا زنا نزع نور الإيمان من قلبه، وقد قال عمر رضي اللّه عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجوز أو فجور، وحدثنا بعض علماء خراسان عن شيخ له من الصالحين، كان يصحب عبدان صاحب ابن المبارك ووصف من صلاحه وعلمه قال: فكان يكثر التزويج حتى لم يكن يخلو من اثنتين أو ثلاثة فعوتب في ذلك فقال: هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي اللّه عزّ وجلّ مجلساً، أو وقف بين يدي اللّه موقفاً في معاملته، فخطر على قلبه خاطر شهوة، وأفكر في ذلك فقيل: قد يصيبنا هذا كثير فقال: لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوّجت ثم قال، لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلاّ نفذته لأستريح منه، وأرجع إلى شغلي ثم قال: منذ أربعين سنة ما خطر على قلبي خاطر معصية، وسمع بعض العلماء بعض الجهال يطعن على الصوفية فقال: يا هذا ما الذي نقصهم عندك فقال: يأكلون كثيراً فقال: وأنت أيضاً، لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون ثم قال: ماذ؟ قال: ويتزوّجون كثيراً فقال: وأنت أيضاً، لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوّجت كما يتزوّجون وأي شيء أيضاً قال: ويسمعون القول قال: وأنت أيضاً، لو نظرت كما ينظرون لسمعت كما يسمعون، وقد سئل بعض العلماء عن القراء: لِمَ يكثرون الأكل ويكثرون الجماع وتعجبهم الحلاوة فقال: لأنه يطول جوعهم ويتعذر عليهم موجود الطعام، فإذا وجدوا استكثروا منه، وأما الحلاوة فإنهم تركوا شرب الخمر وكثرة لذات النفوس فاجتمعت لذتهم في الحلاوة، فهم يأكلونها، وأما الجماع فإنهم غضّوا أبصارهم في الظاهر، فضيقوا على قلوبهم في الخواطر، فاتسعوا في النكاح فأكثروا منه لما ضيقوا على جوارحهم عن الانتشار في الأبصار، وقد كان الجنيد رحمه اللّه يقول: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت، وكان ابن عمر رضي اللّه عنه من زهاد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، وكان يصوم كثيرًا، وكان يفطر على الجماع قبل الأكل، وربما جامع قبل أنْ يصلي بالمغرب ثم يغتسل ويصلّي.(2/211)
وروينا عنه أنه جامع أربعًا من جواريه في رمضان قبل صلاة عشاء الآخر، وقد كان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول: خير هذه الأمة أكثرها نكاحاً، وكان سفيان بن عيينة يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليًّا رضي اللّه تعالى عنه كان أزهد أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان له أربع نسوة وسبعة عشر سرية، فالنكاح سنّة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء صلوات اللّه عليهم، وقد روينا في أخيار الأنبياء أنّ عابداً تبتل وبلغ من العبادة ما فاق على أهل زمانه، ووصف بذلك فقال: فذكر ذلك لنبي ذلك الزمان، فأثنى عليه بحسن الثناء فقال: نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة قال: فنمى ذلك إلى العابد فأهمه فقال: ما ينفعني عبادتي ليلاً ونهاراً وأنا تارك للسنة، فجاء إلى ذلك النبي فسأله فقال: نعم أنت تارك للتزوّج فقال: ما تركته أنني حرمته ومنعني منه إلاّ أني فقيرلا شيء عندي وأنا عيال على الناس، يطعمني هذا مرة وهذا مرة، فكرهت أنْ أتزوّج امرأة أعضلها وأرهقها جهداً، فقال: ما يمنعك إلاّ هذا قال: نعم قال: فأنا أزوجك ابنتي قال: فزوجه النبي عليه السلام ابنته في قصة طويلة، وروينا في نوادر أخبارهم أيضاً: أنّ يحيى بن زكريا عليهما السلام تزوّج امرأة ولم يكن يقربها، قيل: لغض البصر وقيل: للفضل في ذلك، كأنه أراد أن يجمع الفضائل كلها، وقيل: للسنّة، وكان بشر بن الحارث رحمه اللّه يعتقد أحمد بن حنبل رحمه الله ويقول: فضل عليّ بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلب الحلال لنفسي واتساعه للنكاح وضيقي عنه وقد جعل إماماً للعامة، وأنا أطلب الوحدة لنفسي، ويقال إنّ أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه تزوّج اليوم الثاني من وفاة أم عبد اللّه ولده، ويقال إنه لم يبت عزباً بعد وفاتها إلاّ ليلة، ولكن قد كان بشر رحمه اللّه يحتج لنفسه بحجة، قيل له إنّ الناس يتكلمون فيك فقال: وما عسى أنْ يقولوا قال: يقولون هو تارك للسنّة في ترك النكاح فقال: قل لهم: هو مشغول بالفرض عن السنّة، وعوتب مرة أخرى في ترك التزوج فقال: ما يمنعني من ذلك إلاّ حرف في كتاب اللّه عزّ وجلّ: (ولهن مثل الذي عليهن) البقرة:228 قال: فذكر ذلك لأحمد بن حنبل فقال: وأين مثل بشر أنه قعد على مثل حد السنان، وعلى ذلك فقد بلغنا أنه رحمه اللّه رؤي في المنام بعد وفاته، فسئل عن حاله فقال: رفعت سبعين درجة في عليين، وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين، وبلغنا عنه أنه قال: وعاتبني ربي عزّ وجلّ وقال: يا بشر ما كنت أحب أنْ تلقاني عزباً قال: فقلت له ما فعل أبو نصر التمار فقال: رفع فوقي سبعين درجة فقلنا: بماذا، وقد كنا نراك فوقه فقال: بصبره على بناته والعيال.(2/212)
وقد كان ابن مسعود يقول: لو لم يبقَ من عمري إلا عشرة أيام أموت في آخرها لأحببت أنْ أتزوج، ولا ألقى اللّه عزّ وجلّ وأنا أعزب،وماتت امرأة معاذ بن جبل رضي اللّه عنه في الطاعون، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: زوجوني فإني أكره أنْ ألقى اللّه عزّ وجلّ عزبًا، وقد كان بعض الصحابة، انقطع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخدمه ويبيت عنده لحاجة إنْ طرقته فقال له: ألا تتزوج فقال: يا رسول اللّه، أنا فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك، فسكت عنه ثم أعاد عليه ثانية: ألا تتزوج، فقال له مثل ذلك، ثم تفكر الصحابي في نفسه فقال: واللّه لرسول اللّه أعلم بما يصلح في دنياي وآخرتي، وما يقربني إلى اللّه عزّ وجلّ مني لئن قال لي الثالثة لأفعلن فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج قال: فقلت: يا رسول الله زوجني قال: اذهب إلى بني فلان فقل لهم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أنْ تنكحوني فتاتكم قال: فقلت: يا رسول اللّه إنّه لا شيء لي فقال لأصحابه: اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب، فجمعوا له وذهب إلى القوم فأنكحوه، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أولِمْ فقال: يار سول اللّه لا شيء عندي فقال لأصحابه: اجمعوا لأخيكم ثمن شاة، فجمعوا له وأصلح طعاماً، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي الخبر المشهور: من كان ذا طول فيلتزوج، وفي لفظ آخر: من استطاع منكم الباءة يعني الجماع فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا فليصم، فإن الصوم له وجاء، وأصل الوجاء رض الخصيتين للفحل من الغنم لتذهب فحولته وضرابه، فكانت العرب تجأ بحجرين فتقطع ضرابه، فيسكن لذلك عهره ويسمن، ومن ذلك الخبر ضحى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين يعني أبيضين مرضوضي الخصية.(2/213)
روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تناكحوا، تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط والرضيع، وفي الخبر الآخر: من أحبني فليستن بسنتي يعني النكاح، وحديث أبي سعيد الخدري: من ترك النكاح مخافة العيلة فليس منا، وقد كان عمر يكثر النكاح ويقول: ما أتزوج إلاّ لأجل الولد، وقد كانت هذه نية جماعة من السلف، يتزجون لأجل أنْ يولد لهم فيعيش، فيوحد اللّه تعالى ويذكره أو يموت، فيكون فرطاً صالحاً يثقل به ميزانه كيف، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنّ الطفل يجر أبويه بسرره إلى الجنة وأنّ المولود يقال له: ادخل الجنة قال: فيقف على باب الجنة، فيظل محبنطئاً أي ممتلئاً غيظاً وغضباً فيقول: لا أدخل إلاّ وأبواي معي فيقال: أدخلوا أبويه معه الجنة، وقد روينا خبرًا غريباً: أنّ الأطفال يجمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة: اذهبوا بهؤلاء إلى الجنة قال: فيقفون على باب الجنة قال: فيقول لهم: مرحباً بذراري المسليمن، ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون: فأين آباؤنا وأمهاتنا قال: فتقول الخزنة: إنّ آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم، إنهم كانت لهم ذنوب وسيّئات، فهم يحاسبون عليها ويطالبون قال: فيتضاغون ويضجون على باب الجنة ضجة واحدة فيقول اللّه عزّ وجلّ للملائكة، وهو أعلم: ما هذه الضجة، فيقولون: يا ربّنا، أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة إلاّ مع آبائنا فيقول اللّه عزّ وجلّ: تخللوا الجمع، فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم معهم الجنة، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من مات له اثنان من الولد، فقد احتظر له بحظار من النار، وفي خبر آخر: من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله اللّه عزّ وجلّ الجنة، بفضل رحمته إياهم قيل: يا رسول اللّه، فاثنان قال: واثنان، وكان بعض الصالحين يعرض عليه التزويج فيأباه برهة من دهره قال: فانتبه من نومه ذات يوم فقال: زوجوني فسئل عن ذلك فقال: لعل اللّه يرزقني ولداً أو يقبضني، فيكون مقدمة لي في الآخرة، ثم حدث عن سبب ذلك فقال: رأيت في نومي كأن القيامة قد قامت، وكنت في جملة الخلائق في الموقف، وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي، وكذلك الخلائق في شدة العطش من الحر والشمس والكرب قال: فبينما نحن كذلك، إذا الولدان يتخللن الجمع، عليهم مناديل من نور وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب وهم يسقون الواحد بعد الواحد، ويتخللون الجمع ويجاوزون أكثر الناس قال: فمددت يدي إلى أحدهم فقلت: اسقني شربة فقد أجهدني العطش فقال: ليس لك فينا ولد إنما نسقي آباءنا فقلت: وما أنتم فقالوا: نحن من مات، من أطفال المسلمين.(2/214)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: خير نسائكم الودود الولود، وروي أيضاً: حصيرة في البيت خير من امرأة لا تلد، وروي أيضاً: سوداء ولود خير من حسناء لا تلد،هذا كله لأجل هذا، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من رغب عن سنتي فليس مني وإنّ من سنتي النكاح، ومن أحبني فليستن بسنتي ويقال: إنّ اللّه تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلاّ المتأهلين وهم خمس وثلاثون، وقد ذكرنا آنفًا أنّ يحيى عليه السلام قد تزوّج، وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل من السماء ويولد له، وقد قيل إنّ فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، وإنّ ركعتين من متأهل أفضل من سبعين ركعة من أعزب، وقال اللّه تعالى في وصف الرسل ومدحهم: (وَلَقدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) الرعد:38، فعدّ الأزواج والذرية من مدحهم وذكرها في وصفهم، وكذلك ألحق بهم أولياءه في المدح والفضل في قوله عزّ وجلّ:(وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الفرقان:74، فسألوا اللّه عزّ وجلّ من فضله، وكل ما ذكرناه من فضل النكاح يشترك في فضل ذلك النساء، بل هو لهن أفضل وأثوب لسقوط المكاسب عنهن، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بالتزوج وندبها إليه، وأخبر بفضل الرجل وفضل المتزوجة على العزباء في غير حديث، وقال صلى الله عليه وسلم: لعن اللّه المتبتلين من الرجال الذين يقولون: لا نتزوج، لعن اللّه المتبتلات من النساء اللاتي يقلن: لا نتزوج بعد ما ذكر من عظيم حق الرجل على المرأة وثقل واجبه حتى قالت المرأة إذاً لا أتزوج إذاً قال: بل تزوجي، فهو خير، والأخبار في فضل النكاح للزوجين معًا أكثر، وليس مذهبنا الإطالة والإكثار في الجمع، وقد ندب اللّه تعالى إلى النكاح في قوله تعالى: (فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ) البقرة:223، وفي أنّى ثلاث، معان: معنيان منها هنا يكون أنّى بمعنى كيف شئتم من ليل أو نهار، فكيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وبين ذلك بعد أنْ يكون في موضع الحرث، وقد يكون أنّى في موضع آخر بمعنى أين، ولا يصلح هذا الوجه ههنا ثم قال عزّ وجلّ (وقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ ) البقرة:223، قيل: النكاح معطوف به الإتيان، وهو أحد الوجوه الثلاثة: لما فيه من فضل الاغتسال من الجنابة، ولما فيه من فضل مباشرة المرأة وأنّ المرأة إذا لاعبها بعلها وقبلها كثرت له من الحسنات ما شاء اللّه، فإذا اغتسلا خلق اللّه من كل قطرة ملكًا يسبح اللّه تعالى إلى يوم القيامة، وجعل ثواب ذلك لهما، ولما في ذلك من التحصين لهما ووضع النطفة في محلها، وفي ذلك فضائل جمّة، وقد أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قوله: ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكراً، زوجة مؤمنة تعينه على آخرته.(2/215)
والوجه الثاني في قوله تعالى: (وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة:223، قيل: الولد قدموا لآخرتكم، لأنه عمل من أعمالكم، كما قال عزّ وجلّ: (أَلحقْنا بِهِمْ ذُريَّتَهُمْ وما أَلتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) الطور:21، أي ما نقصناهم أولادهم، أي جازيناهم بهم وجعلناهم مزيدًا في حسناتهم لأنهم من أعمالهم وأكسابهم، وكما قال عزّ وجلّ:(ما أغْنى عنْهُ مَالُهُ وما كسَبَ) المسد:2، يعني ولده، ففي تدبره أنّ الولد يغني المؤمن في الآخرة كما يغني المال عنه إذا أنفقه في سبيل اللّه تعالى، وفي الخبر: ولد الرجل من كسبه فأحل ما أكل من كسب ولده، والوجه الثالث في قوله عزّ وجلّ: (وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة:223، قيل التسمية عند الجماع أي اذكروا اسم اللّه تعالى عنده، فذلك تقدمة لكم، وأنه يستحب للمجامع أنْ يسمي اللّه عزّ وجلّ عند جماعه، ويقرأ (قل: هو اللّه أحد) الإخلاص:1 قبله، وكان بعض أصحاب الحديث إذا أراد الجماع، هَلّل وكبر حتى يسمع أهل الدار تكبيره، وإذا كانت المرأة معينة لزوجها على الطاعة، طالبة للتقلل والقناعة فهي نعمة من اللّه عليه يطالبه بشكرها قال اللّه عزّ وجلّ: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) الأنبياء:90 فعد ذلك من نعمة اللّه عليه وإحسانه إليه، وقيل في التفسير: كان خلقها سيّئًا فحسن، وقيل: كان في لسانها طول فقصر، وروينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: فضلت على آدم عليه السلام بخصلتين: كانت له زوجة عونًا له على المعصية وأزواجي عونًا لي على الطاعة، وكان شيطانه كافرًا وشيطاني مسلمًا لا يأمرني إلاّ بخير، فعدّ ذلك صلى الله عليه وسلم في فضائله، وإذا كانت المرأة حسنة الوجه خيّرة الأخلاق سوداء الحدقة والشعر، كبيرة العين بيضاء اللون، محبة لزوجها قاصرة الطرف فهذه على صورة الحور العين قال اللّه تعالى في ذلك: (فيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) الرحمن:7،، قيل: خيرات الأخلاق حسان الوجوه وقال تعالى: (وَحورٌ عينٌ كأمْثالِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ) الواقعة: 22 - 23، والحور البيض والعين، كبار الأعين هو جمع عيناء، والحوراء هي البيضاء شديدة بياض العين، شديدة سوادها وسواد الشعر وقال عزّ وجلّ: (عُُرباً) الواقعة: 157 العربة على معنيين: تكون العاشقة لزوجها، وتكون المشتهية للجماع، وذلك يكون من تمام اللّذة في الوقاع، لأنّ المرأة إذا لم تكن محبة لزوجها ولا مشتهية لإفضائه إليها، نقص ذلك من لذته فلذلك وصف اللّه عزّ وجلّ نساء أهل الجنة بتمام اللّذة، ويقال: رجل شبق وامرأة عربة يوصفان بشهوة الجماع كيف وقد روي: خير نسائكم الغلمة على زوجها وقال بعض الحكماء: ثلاث من اللّذات لا يؤبه لهن: المشي في الصيف بلا سراويل، والتبرز على الشط، ومجامعة الربوخ يعني المشتهية للجماع وقال عزّ وجلّ في تمام وصفهن:(قاصِراتُ الطَّرْفِ) الصافات:48، أي قد قصر طرفها على زوجها وحده، فليست ترى أحسن منه ولاتريد بدلاً غيره، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: خير نسائكم التي إذا نظر إليها الرجل سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسه وماله.(2/216)
وروينا عن محمد بن كعب القرظي رضي اللّه عنه في معنى قوله عزّ وجلّ:(رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةَ) البقرة:102 قال: المرأة الصالحة، وفي بعض التفسير: (فلنحيينه حياة طيبة) النحل 16قال: المرأة الصالحة وقد كان عمر رضي اللّه عنه يقول: المرأة الصالحة ليست من الدنيا لأنها تفرغك للآخرة، إلاّ أنه كان يقول: المنفرد يجد من حلاوة العبادة ما لا يجد المتزوّج، وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه يقول: ما أعطى عبد بعد إيمان باللّه عزّ وجلّ خيرًا من امرأة صالحة، ووصف النساء فقال: منهن غنم لا يجزأ منه، يعني غنيمة لا يعتاض منها بعطاء، الحديا هي العطاء، ومنهن غل لا يفدي منه أي لا قيمة له فيفدى منه ويجوز أنّ لا راحة منه كالغل،فصاحبها أسير بحبها لا يفتدى أبدًا إلاّ بموتها وقال أيضًا: قيل: كانت العرب من نهاية تعذيبها للأسير تسلخ جلد الشاة ثم تلبسه إياه لحماً طريًا، فيلتزق على جسده وينقبض، ثم لا تنزعه عنه حتى يقمل وينتثر منه الهوام، فذلك؛ هو الغل مثل المرأة المكربة، واعلم أنّ النساء على أوصاف النفس، من عرف صفات النفس عرف بها أوصاف النساء، وقاساهن بالتجربة، والخبر: عرف بذلك صفات النفس: فمنهن المسوّلة وهي أدناهن، ومنهن الأمارة بالسوء وهي شرهن لا تستر من الأذى ولا تني عن خلق السوء والبذاء، ومنهن بمنزلة النفس اللوّامة وهي من صالحي النساء، ومنهن المطمئنة المرضية وهذه هي الصالحة الخيّرة الساكنة الراضية، وفصل الخطاب: إنْ كان صلاح قلب العبد واستقامة حاله في بالعزبة فلا أعدل بالوحدة شيئاً، لأن أقل ما فيها السلامة، والسلامة في وقتنا هذا فضيلة وغنيمة، وإن تاقت نفسه إلى التزويج ولم يأمن دواعي الهوى فيتزوج إذا أدى إلى سلامة دينه، وإنْ لم تتم كفايته بواحدة ضم إليها أخرى فإن لم تكن بهما غنيمته وتمام حاله وتحصينه زاد ثالثة إلى أربع، فإن الأربعة مع توقان النفس إلى النكاح وقوة شهوتها في التنقل في المناكح بمنزلة الواحدة، وإنّ الواحدة مع وقوع الكفاية ووجود الاستغناء تنوب عن الأربع، كذلك خير اللّه عزّ وجلّ صورة النفس فيما عليه جبلها، وفاوت بين الطبائع فيما عليه جعلها، يقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ أباح الجمع بين الأربع لأجل الطبائع الأربع، لكل طبيعة واحدة على قدر حركاتها وتوقان النفس عندها، ولا نقص على العبد في ذلك إذا قام بما عليه لهن أو سمحن بحقوقهن من النفقة والمبيت له، بل ذلك مزيد له.(2/217)
ودلالة على قوته وتمكنه في الحال، وهذه طرائق الأقوياء والأئمة من الرجال، وأيضاً فإنّ اللّه عزّ وجلّ ما أنعم به من امتطاء الأربع من النساء من الحكمة، وتلوين الطبع في الصنعة مثل ما أنعم به من تكوين سيرة المطايا، التي جعلهن مراكب عباده، فجعل تفاوت تكوين وطء الأربعة بمنزلة تغاير مشي دواب البر الأربعة فقال عزّ وجلّ: (وَالخَيْلَ والبغالَ والحميرَ لِتَرْكَبُوها وَزينَةً) النحل:8، وقال عزّ وجلّ:(مِنَ الفُلْكِ والأنْعَامِ ما تَرْكَبُونَ) الزخرف:12، يعني الإبل، فسير الناقة غير سير الفرس، وسير البغل مخالف لمشي الحمار، وكذلك جعل لمن جمع الأربع بالوطء ما لا يجعل بالآحاد والمثنى والثلاث، فحسن ذلك وأباحه لمن جمع بنيهن أربعًا كإطلاقه لمن جعل له المطايا أربعة ينتقل على دابة بعد دابة، فكان له فرس وبغل وحمار إذا اتسع بذلك وأقام بمؤونتهن، وقد يكتفي الواحد بدابة واحدة فيكون فيها بلاغ إلى حين، ذلك تقدير العزيز العليم وإتقان صنع المنعم الحكيم، وقد شرط اللّه تعالى مع الزوجة ثلاثة شروط، إنْ وجدت تمّت بهن كفاية العبد وسكنت بها نفسه، وكان ذلك من آيات اللّه الدالة عليه، وإنْ لم توجد الشروط الثلاثة مع الإحدى، كان له المزيد عليها إلى الرباع، وكن في المعنى كالآحاد لعدم الشروط التي أخبر اللّه عزّ وجلّ بسكون النفس عندها، وعند الأربع توجد الشروط في قلوب المؤمنين لا محالة كما أخبر عزّ وجلّ، وكان ذلك أيضًا من آياته وحكمته الدالة عليه فقال سبحانه: (وَمنْ آياتِهِ أنّ خلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسًكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكنُوا إليْها وجعلَ بينْكمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) الروم:21، فإن وجد العبد سكون النفس ورحمة القلب ومودة المرأة في الواحدة، فهو من آيات اللّه عزّ وجلّ وهي كفايته وغنيته، وإنْ لم يجد السكون ولا الرحمة ولا المودة إلاّ في الأربع، فهن حينئذ كفايته وقنيته، واللّه تبارك وتعالى يغني بالواحدة ويقني بالأربع، أي يجعل غنيًا ويجعل قنية جماعة ومدخرًا، وذلك أيضًا من آيات اللّه تعالى واختياره لمن قوي عليه واستقام به، وقد شبه بعض الناس الأزواج بالقمص فقال: ليس من السرف أنْ يجمع الرجل أربعة أقمصة، وما زاد على ذلك كان سرفاً، كما إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بالجمع بين الأربع من النساء، ويصلح أنْ يستدل له بقوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ) البقرة:187، فجعلهن في معنى الملبوس ورفع فيهن إلى الأربع وفي قوله تعالى: (فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء:3، ثم ابتدأ فنص على مثنى ولم يقل: إحدى على الندب والاستحباب للجمع بين اثنين، وإنّ العدل قد يوجد ويقدر عليه معهما، ثم رد إلى الواحدة لمن خاف الجور فيهن فقال تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ أن لا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) النساء:3، ففي دليل الخطاب أشتراط العدل في الأربع، ثم ذكره بقوله: (ذَلكِ أدْنى أن لا تَعُولُوا) النساء:3، يعني أقرب أن لا تجوروا، وقد قال بعض الفقهاء من أهل الحجاز واللغة: لا تعولوا، أي لا تكثر عيالكم، والأول أحب إليّ، لأنه أشبه بالقرآن كأنه عطف على النص لما قال: أنْ لا تعولوا،قال: ذلك أدنى أنْ لا تجوروا، والأول أحب إليّ، ويصلح هذا الوجه أيضًا في اللغة من قال: عال يعول، بمعنى أعال يعيل، وأكثر العرب فرقت بين ذلك يقولون: عال يعول إذا جار، وأعال يعيل من العيلة إذا كثر عياله، وشاذ نادر من يجعلها لغتين بمعنى فليتوخّ العدل بين أزواجه، من جمع بينهن في النفقة والكسوة والمبيت، ولا يحيف على بعض فيقصر عن كفايتها وواجبها في ذلك.(2/218)
فقد جاء في الحديث: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى، وفي لفظ آخر، فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ولا عدل عليه في المحبة والجماع، لأن ذلك لا يملك إذاً سوى بين البيتوتة، ولا عليه أيضاً أنْ يجامع من بات عندها إنما عليه المبيت ليلة وليلة وفي تفسير قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتطيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساء ولوْ حرَصْتُمْ) النساء:129، قال: لا تقدروا على العدل بينهن في الحب والجماع، لأن ذلك فعل الله عزّ وجلّ في القلوب وفي شهوة النفس، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه في العطاء والمبيت، وكان يقول: اللّهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك، يعني في المحبة والجماع، فقد كان يحب بعضهن أكثر من بعض وكانت عائشة رضي اللّه عنها أحبهن، وكان يطاف به محمولاً في مرضه في كل يوم وليلة فيقول: أين أنا غدًا ففطنت امرأة منهن فقالت: إنما يسأل عن يوم عائشة رضي اللّه عنها فقلن: يا رسول اللّه إنّه ليشق عليك أنْ تحمل، فقد أذنا لك أنْ تكون في بيت عائشة رضي اللّه عنها فقال: قد رضيتن بذلك قلن: نعم قال: فحولوني إلى بيت عائشة، فلذلك كانت تقول: قبض في بيتي وبين سحري ونحري تفتخر بذلك، ثم قال اللّه تعالى عزّ وجلّ: (فلا تَميلوا كُلَّ المَيْلِ) النساء:129 يعني على واحدة دون الأخرى في التقصير والنفقة فتذروها كالمعلقة أي موقوفة غير مستقرة، كأنها لا ذات زوج ولا مطلقة، أي لا أيم فتتحمل لنفسها ولا ذات زوج ينفق عليها فتستغني بزوجها.
والعرب تقول: علقت الأمر إذا أوقفته، وقول معلق أي موقوف غير مطلق بحكم، فعليه أنْ يقسم بينهن أيامه ولياليه، فيكون عند كل واحدة يوماً وليلة، إلاّ أنْ تهب لصاحبتها ليلتها أو تسمح له بذلك، فكذلك كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فأراد أنّ يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت فوهبت ليلتها لعائشة، وسألته أنْ يقرها على الزوجية لتحشر في نسائه، فتركها ولم يكن يقسم لها، فكان يقسم لعائشة ليلتين ولسائر أزواجه ليلة ليلة، إلاّ أنه صلى الله عليه وسلم لشدة عدله كانت نفسه إذا تاقت إلى واحدة في غير ليلتها أو نهارًا في غير يومها تاه فجامعها، ثم طاف في ليلته على سائرهن، وكذلك كان يفعل في يومه، فمن ذلك ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها وغيرها، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة واحدة، وعن أنس، طاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على تسع نسوة في ضحوة ومن لم يكن له إلاّ واحدة استحب له أنْ يفضي إليها في كل ثلاث ليال بمنزلة من له أربع نسوة، ويكون يباشرها في الليلة الرابعة، وبهذا قضى عمر وكعب بن الأسود رضي اللّه عنهما للرجل أن يأتيها في كل أربع ليال ليلة، فإن علم أنّ حاجتها إلى أكثر من ذلك كان عليه أن يفعل ماهو أقرب إلى تحصينها وأثبت لعفافها، وإنْ علم منها كراهة ذلك وقلة همتها له لم يكن عليه الإفضاء إليها إلاّ في كل شهر مرة أو في كل سنة مرة، وعليها أنْ لا تمنعه ليلاً ولا نهارًا في كل وقت، وإن كانت صائمة فلا يحل لها أن تصوم إلاّ بإذنه، وتزوّج عليّ عليه السلام بعشر نسوة وتوفي عن أربع وسبع عشرة سرية، وكان بعض أمراء الشام إذا بلغه عنه كثرة نكاحه يقول: ليست بنكحة ولا طلقة يعرض له بذلك، ويقال أنه تزوّج بعد وفاة فاطمة صلوات اللّه عليها وعلى أبيها بتسع ليال، ونكح أُمامة ابنة زينب ابنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كانت فاطمة صلوات عليها أوصته بذلك، وتزوّج الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما مائتين وخمسين امرأة وقيل ثلاثمائة، وقد كان عليّ عليه السلام يضجر من ذلك ويكره حياء من أهليهن إذا طلقهن وكان يقول: إنّ حسناً مطلقاً فلا تنكحوه فقال له رجل من همدان: واللّه يا أمير المؤمنين، لننكحنه ما شاء فمن أحب أمسك ومن كره فارق، فسرّ عليّ رضي اللّه عنه بذلك وأنشأ يقول:
ولو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام(2/219)
وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان يشبهه في الخلق والخلق فقد قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أشبهت خلقي وخلقي، وقال حسن: مني وحسين: من عليّ، وكان الحسن ربما عقد على أربعة وربما طلق أربعاً فأرسل غلامه بطلاق امرأتين لهما وقال: قل لهما: اعتدا، وأمر له أنْ يدفع إلى كل واحدة عشرة آلاف درهم ففعل، فلما رجع إليه قال:ماذا قالتا فقال له الرسول: أما احداهما فنكست رأسها وسكتت، وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتها تقول:
متاع قليل من حبيب مفارق
فأطرق ورحم لها ثم قال: لو كنت مراجعاً امرأة لراجعتها، ودخل على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فخطب ابنته فقال: إنك لأحب الناس إلي، ولكنك مطلاق وأكره أنْ يتغير قلبي عليك، فإن ضمنت أنك لا تفارقها فعلت، فسكت ثم اتكأ على بعض أصحابه ثم قال: ما أراد عبد الرحمن إلاّ أنْ يجعل ابنته طوقاً في عنقي، وقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ اللّه عزّوجلّ يحب النكاح ويبغض الطلاق، فانكحوا ولا تطلقوا، وهذا لا يصلح لمن أراد أكثر من أربع، وتزوّ ج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة، وقد كان في الصحابة من له الثلاث والأربع،وكثير منهم لا يحصى كانت له اثنتان لا يخلو منهما، ويقال: إنّ كثرة النكاح من شدة غض البصر وقطع المشي في الأثر، إذا خشع الطرف وقصر عن الحرام وانقطع المشي على الأرض غاض البصر والنفس فاتسع في الحلال، وذلك أنّ للنفس استراحات إلى ما جانسها، هو فتورها عن الذكر، فاستراحات نفوس المتّقين إلى المباح من ذلك قوله عزّ وجلّ: (لِيَسْكُنَ إلَيْهاَ) الأعراف:189، وهذا سكون النفس إلى الجنس لما تلائمه من الصفات المجانسة، وهو أحد المعاني في قول عليّ عليه السلام: روحوا القلوب يعني، في الذكر قيل: روحوها باستراحة النفس إلى المباح، يعني ذكر الآخرة لأن الذكر أثقال وهو بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ لكل عالم شرهاً وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، والشره المكابدة والفترة الوقوف والاستراحة، وقد كان أبو الدرداء رضي اللّه عنه يقول: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فأقوى بذلك فيما بعد على الحق، وقد كان النساء قديماً على غير وصفهن الآن، كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته: يا هذا وتقول له ابنته: يا أبانا، لا تكسب اليوم شيئاً من غير حله فيدخلك النار، فنكون نحن سببه، فإنّا نصبر على الجوع والضر ولانكون عقوبة لك، وأراد رجل من السلف أنْ يغيب عن أهله في غزوة، فكره إخوانه ذلك لأنسهم به فجاؤوا إلى أهله فقالوا: لِمَ تتركين زوجك يسافر ولا يدع لك نفقة، ويغيب عنك ولا تدرين متى يقدم فقالت: زوجي منذ عرفته أكال وما عرفته قط رزّاقاً، يذهب الأكال ويبقى الرزّاق، ومع ذلك فلا أحب أنْ أكون مشؤومة عليه أقطعه عن سبيل الخير.(2/220)
قال أحمد بن عيسى الخراز لما تزوّج بامرأة عليّ: أي شيئ تزوّجت بي ورغبت فيّ قالت: على أنْ أقوم بحقك عليّ وأسقط حقّي عليكّ، وخطبت رابعة بنت إسماعيل بن أبي الحواري، فكره ذلك لما فيه من العبادة فألحت عليه وأكثرت فقال لها: يا هذه، مالي همة في النساء لشغلي بحالي فقالت يا هذا، إني لأشغل بحالي من شغلك بحالك، ومالي شهوة في الرجال، ولكني ورثت عن زوجي ثلاثمائة ألف دينار وهي حلال، وأردت أنْ أنفقها عليك وعلى إخوانك، وأعرف بك الصالحين فتكون طريقاً إلى اللّه عزّ وجلّ فقال: حتى أستأذن أستاذي قال: فجئت إلى أبي سليمان فذكرت قولها، وقد كان ينهاني عن التزويج ويقول: ما تزوج من أصحابنا إلاّ تغير، فلما ذكرت له ما قالت، أدخل رأسه في جيبه وسكت ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يا أحمد، تزوّج بها فإن هذه وليّة للّه تعالى، وهذا كلام الصديقين قال: فتزوّجت بها قال أحمد: فكان في منزلها كرّ من جص، فلم يبقَ منه شيء في غسل أيدي المستعجلين للخروج بعد الأكل سوى من كان يغسل يده بالأشنان في البيت قال: وتزوّجت عليها بثلاث نسوة، فكانت تطعمني من الطيبات وتطيبني وتقول: اذهب بقوتك ونشاطك إلى أزواجك، فكانت هذه من أرباب القلوب، وكان الصوفية يسألونها عن الأحوال، وكان أحمد يرجع إليها في بعض المسائل، وكانت فاضلة تشبه في أهل الشام برابعة العدوية في أهل البصرة، وقد كان أبو سليمان يقول في التزويج قولاً عدلاً: من صبر على الشدة فالتزويج له أفضل، والوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل، وقال مرة: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوّج وثبت على مرتبته الأولى، وروينا عنه أنه قال: ثلاث من طلبهن فقد رغب في الدنيا، من طلب معاشاً، أو تزوّج أو كتب الحديث، ولعمري أنّ المرأة تحتاج إلى فضل مداراة ولطيفة من الحكمة، وطرف من المواساة وباب من الملاطفة، واتساع صدر للنفقة وحسن خلق، ولطف لفظ وهو لا يحسنه إلاّ عالم حليم، ولا يقوم به إلاّ عارف حكيم، فمن لم يقم بذلك ولم يهتدِ إليه، ولم يعتد للنفقة ولم يألف الجماعة، وكان قد ألف وحدته وأعتاد الانفراد بأكلته، وكان ضيق القلب بخيل الكف، سيءّ الخلق غليظ القلب، فظ اللفظ فالوحدة لهذا أصلح، والبعد من النساء لقلبه أروح، فمتى تزوّج من هذا وصفه عذب وعذب، وآذى وتآذى، وأثم وآثم به لأن النساء يحتجن إلى فضل حلم يحمل سفههن، وإلى سعة علم يغمر جهلهن، وإلى حسن لطف وحكمة يداري أخلاقهن ويتغافل عن زللهن، فإذا كان الرجل جاهلاً سفيهاً، أو كان سيءّ الخلق فظاً غليظاً، اجتمع الجهل فافترق العقل وتقادح الجفاء، وغلظ القلب والأذى فسد أكثر مما يصلح، وتنافرا ولم يكن بينهما أبدًا صلح، وليس هو وصف العقلاء، واستحب للرجل إذا أراد التزويج أنْ يشرح حاله ويبين أخلاقه للمرأة، حتى تكون على بصيرة من أمره ويقين من حاله، ويدخل على إختيار منها، فذلك من الورع وقد فعله بعض السلف، وقد تزوج رجل على عهد عمر رضي اللّه عنه، وكان يخضب بالسواد فلما دخل بأمراته نصل خضابه فظهرت شيبته، فاستعدى أهل المرأة وقالوا: نحن حسبناه شابًا فأوجعه ضربًا وقال: غررت القوم وفرق بينهما.
وروينا عن شعيب بن حرب، لما أراد أنْ يتزوج قال للمرأة: إني سيّء الخلق فقالت: يا هذا، أسوأ خلق منك من يحوجك إلى سوء الخلق.(2/221)
وروي ضد هذا أنّ رجلاً أراد أنْ يتزوج فقال للمرأة: إنّ لي أخلاقًا أوقفك عليها فإن رضيت بها تزوّجتك فقالت: افعل فقال: أنا رجل ملول حقود، سيّء الظن غيور، ضيق الصدر واسع الضرب، إنْ كثرت عندي مللت، وإنْ أبعدت قلقت، وإنْ تكلمت أوغرت صدري، وإنْ سكت أشغلت قلبي، فقالت المرأة: أما بعد فقد ذكرت من نفسك أخلاقاً ماكنا نرضاها لبنات إبليس فكيف نرضاها لبنات آدم، انصرف راشداً لا حاجة لنا بك، ومن خشي على نفسه الآفات ووفق له امرأة فيها بعض الخصال المحمودة، فالتزويج له أفضل فليكن له حينئذ في التزويج نيّات، لأنه من أكبر الأعمال ولا يكون نكاحه لأجل هواه مجرداً فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه: إذا وافق الحق الهوى فذلك الزبد بالبرّ سيّان، فلتكن نيته إقامة سنّة وصلاح قلب، وسلامة دينه وغض بصره، وتحصين فرجه فقد أمر بذلك، ويحتسب في الكسب على العيال التوبة من اللّه عزّ وجلّ، ويحتسب مثل ذلك في نصحه لها في أمر الآخرة كما يحبه لنفسه، حتى يؤجر بسببها مثل ما يثاب لنفسه، فهو من النصيحة لها والإشفاق عليها، وليجعل ذلك لوجه اللّه سبحانه فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنفق الرجل على أهله فهو له صدقة، وإنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إليّ في إمرأته، ومنها إنه كالمجاهد في سبيل اللّه، وقال رجل لبعض العلماء وهو يعدد نعم اللّه عزّ وجلّ عليه: من كل عمل قد أعطاني اللّه تعالى نصيباً، حتى ذكر الحج والجهاد وصنوف العبادات فقال له العالم: فأين أنت من عمل الأبدال قال: وما هو قال: كسب الحلال والنفقة على العيال، وقال ابن المبارك لإخوانه وهم في الجهاد: تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه قالوا: ما نعلم، ذاك جهاد في سبيل اللّه وقتال لأعدائه، أيّ شيء أفضل منه قال: لكني أعلم قالوا: ما هو قال: رجل متعفف ذو عيلة، قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه، فعمله هذا أفضل من جهادنا في سبيل اللّه عزّ وجلّ وقال رجل لبشر: قد أضرّني الفقر والعيال فادعُ اللّه لي فقال له بشر: إذا قال لك عيالك: ليس عندنا خبز ولا دقيق ونحن جياع فادعُ اللّه لي أنت ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ حسنت صلاته وكثر عياله، وقلّ ماله ولم يغتب المسلمين، فهو معي في الجنة كهاتين.(2/222)
وفي حديث آخر: أنّ اللّه تعالى يحب الفقير المتعفف، أبا العيال ومن النية في ذلك أنّ الأهتمام بمصلحتهم، والغم على نوائبهم زيادة في حسناتهم، لأنه عمل من أعماله، وفي الخبر: إذا كثرت ذنوب العبد إاتلاه اللّه تعالى بالهم ليكفرها، وقال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الغم بالعيال، وقد روينا: أنّ من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش، وله في الصبر عليهن وجميل الاحتمال لأذاهن، وفي حسن العشرة لهن مثوبات وأعمال الصالحات، وربما كان موت العيال عقوبة للعبد ونقصان حظ، إذا كان الصبر عليم والإنفاق مقاماً له كان عدم ذلك مفارقة لحاله نقص به، وحدثنا بعض العلماء: أنّ بعض المتعبدين كان له زوجة، وكان حسن القيام عليها إلى أنْ توفيت، فعرض عليه إخوانه التزويج فامتنع وقال: إنّ الوحدة أروح لقلبي وأجمع لهمي قال: فرأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها، كأن أبواب السماء قد فتحت، وكان رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضًا، وكلما نزل واحد نظر إلي فقال: لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول: نعم ويقول الثالث: لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول الرابع: نعم قال: فراعني ذلك وعظم عليّ، وهبتهم أن أسألهم إلى أنّ مر بي آخرهم وكان غلامًا فقلت له: يا هذا، من المشؤوم الذي تومؤون إليه قال: أنت قلت: ولِمَ ذلك؟ قال: كنا نرفع أعمالك في أعمال المجاهدين في سبيل اللّه تعالى، فمنذ جمعة أمرنا أنْ نضعها في أعمال المخالفين، فما أدري ماذا أحدثت فقال لإخوانه: زوّجوني، زوّجوني فلم يكن يفارقه زوجة أو زوجتان أو ثلاث، وربما كانت النفس الأمارة أضر على العبد من أربع نسوة، وإنما كره من كره الأهل والولد لأجل الشغل بهم عن اللّه تعالى وما قرب إليه، فإذا كان من لا أهل له ولا ولد مشغولاً ببطالته عن اللّه عزّ وجلّ، منهمكاً في شهواته عن سبيل هؤلاء، كان أسوأ حالاً من ذي الأهل والولد وقد جعل من لا يطلب الأهل والمال للكفاف به والإفضال في المنزل المكروه.(2/223)
وقد روي في الخبر: أنّ من أهل النار الضعيف الذي لا دين له، هو فيكم تبع، لا يبغون أهلاً ولا مالاً، قيل: هم السؤال المنهومون في المسألة، الذي همه بطنه لا يبالي كيف طلب ولا على أي حال من الفحش تقلب، فمن لم يشغله أهله وماله عن اللّه عزّ وجلّ كان أفضل ممن لا أهل له ولا ولد، فهو عبد بطنه وفرجه، أسير هواه وشهوته، وقد أخبر اللّه تعالى أنّ للمؤمنين أموالاً وأولاداً، ثم أمرهم أن لا يشغلهم ذلك عن اللّه عزّ وجلّ، وقد وصف أقواماً بأن بيعهم وتجارتهم لا تشغلهم عن عبادته، وأنهم أهل خوف من يوم تنقلب فيه القلوب والأبصار، وقد مدح قومًا فسألوه الأزواج والذرية، وجعل ذلك في وصفهم في قوله عزّ وجلّ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبّ لنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ) الفرقان: 74، وقرّة أعين لا يشغل ولا يحجب عن قرّة العين بل يكشف عنه ويقرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث، الطيب، والنساء، وجعل قرّة عيني في الصلاة، وقد كان أبو سليمان يقول: إنما تركوا التزويج لتتفرغ قلوبهم لذكره، وروينا عن ابن أبي الحواري الحديث الذي رواه عن حبيش عن الحسن: إذا أراد اللّه بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال، قال أحمد رضي اللّه عنه: فناظرنا في الحديث جماعة من العلماء، وإذًا ليس معناه أنه لا يكون له امرأة ولا ولد ولكن يكونون له ولا يشغلونه، وإنما يحسّ النكاح بمشغول الهمّ عن الفكر، فيه ذي نفس مطمئنة وعين خاشعة لرب ذي سكينة وقلب ذي خشية، كما حدثونا عن داود الطائي أنه قال: منذ خمسين سنة ما خالط ذكري ريح، وقيل لبعضهم: هل دخل ذكرك ريح بشهوة؟ فقال: أما منذ قرأت القرآن فلا، وقال بعض العلماء: منذ عشرين سنة ما وقع نظري على فرجي قاما بطال ذو نفس أمارة ونظرة ثاقبة وشهوة قوية، فالنكاح من أحسن أعماله وأرفع أحواله، لأنّ المباح مقام من لا مقام له، فإن عزم العبد على النكاح فلا يكون همه من النساء إلاّ ذات دين وصلاح، والعقل والقناعة فليس تخلص له النيّات التي ذكرناها آنفاً إلاّ على هذه القواعد، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسنها ودينها فعليك بذات الدين، وفي لفظ آخر: من نكح المرأة لمالها وجمالها حرم مالها وجمالها، ومن نكحها لدينها رزقه اللّه عزّ وجلّ مالها وجمالها، وروينا أيضًا: لا تنكحوا المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديها، ولا لمالها فلعل مالها يطغيها، وانكحوا المرأة لدينها فنكاح المرأة للدين والصلاح طريق من الآخرة، والرغبة في المرأة الناقصة الخلق الدنيئة الصورة الكبيرة السن، السن باب من الزهد، وقد كان أبو سليمان يقول: الزهد في كل شيئ حتى يتزوّج الرجل العجوز أو غير ذات الهيئة إيثارًا للزهد في الدنيا، وكان مالك بن دينار يقول: يترك أحدهم أن يتزوّج يتيمة فيؤجر فيها إنْ أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤونة ترضى باليسير ويتزوّج بنت فلان وفلان، يعني أبناء الدنيا، فتشتهي الشهوات عليه وتقول: اكسني ثوب كذا واشتر لي مرط حرير فيتمرط دينه.(2/224)
وقد أختار أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه امرأة عوراء على أختها صحيحة جميلة، فسأل من أعقلهما؟ قيل: العوراء، فقال: زوّجوني إياها، وقد يكون في تزويج المرذولة المجذوعة فيه بأن يرفع قلبها إذ لا يرغب في مثلها، واستحبّ له أن ينظر إلى وجهها قبل التزويج بها وإلى ما يدعوه إليها، فإن ضمّ إلى الوجه والكفين فلا بأس بذلك عند علماء الحجاز، ففي النظر إلى الوجه أحاديث مأثورة، منها حديث محمد بن مسلمة قال: رأيته يتبع النظرة فتاة في الحي حتى توارت بالنخل فقلت له: تفعل هذا وأنت من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: فقال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بهذا، قال: إذا أوقع اللّه عزّ وجلّ في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها ليرى منها ما يدعوه إليها، وفي الحديث الآخر إن في أعين الأنصار شيئاً، فإذا أراد أحدكم أن يتزوّج منهن فلينظر إليهن، في لفظ آخر: إذا أوقع في نفس أحدكم من امرأة شيئ فلينظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدم بينهما، يعني يؤدم وقوع الأدمة على الأدمة، وهو أبلغ من البشرة لأنّ البشرة ظاهر الجلد والأدمة باطنه جاء، هذا في المبالغة على ضرب المثل، وقد كان الأعمش يقول: كل تزويج يقع عن غير نظر يكون آخره غمّاً وهمّاً ولا يغالي في المهر، فقد تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث البيت، وكان رحى يد، وجرة، ووسادة من أدم وحشوها ليف، وأولم على أحد نسائه بمدّين من شعير، وعلى أخرى بمدّي تمر، فالوليمة سنّة وترك الإجابة إليها معصية، وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ينهي عن المغالاة بمهور النساء ويقول: ما تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا زوج على أكثر من أربعمائة درهم.
وروينا عن عائشة رضي اللّه عنها: كانت مهور أزواج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اثني عشرة وقية ونصفًا، وقد كان يزوّج أصحابه على وزن نواة من ذهب، والنواة صغيرة وهي نواة التمر الصيحاني، يقال: قيمتها خمسة دراهم، وفي خبر: زوّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم وثلث، وقد زوّج سعيد بن المسيب، وهو من خيار التابعين وعلمائهم، ابنته من أبي هريرة على درهمين، ثم حملها هو إليه ليلاً، ولا أكره التزويج على عشرة دراهم، وهو أكثر الاستحباب في القلة ليخرج من اختلاف العلماء، ولا أستحبّ أن لا ينقص المهر عن ثلاثة دراهم، وهذا هو القول الأوسط من مذاهب الفقهاء وفي هذه القيمة تقطع يد السارق، وهذا مذهب بعض أهل الحجاز.(2/225)
وقد روينا: أبركهن أقلهن مهراً، وروينا أيضاً من بركة المرأة سرعة تزويجها وسرعة رحمها، يعني الولادة ويسر مهرها، قال عروة: وأقول فإن من شؤمها كثرة صداقها، ولا يصلح للمتزوّج أن يسأله أي شيئ للمرأة ولا يحل له أن يدفع شيئاً ليأخذ أكثر منه، ولا يحلّ لهم أن يهدوا إليه شيئاً ليضطروه أن يكافئ بأكثر منه، وليس عليه أن يزيد بأكثر من قيمته إن كافأ، وله أن لا يقبل هديتهم إن علم ذلك منهم، وهذا كله بدعة في النكاح، وهو كالتجارة في التزويج، وهو داخل في الربا، وهو يشبه القمار، ومن زوّج أو تزوّج على هذا بهذه النية فهي نية فاسدة وليس نكاحه هذا للدين ولا للآخرة، وكان الثوري يقول: إذا تزوّج الرجل وقال: أي شيء للمرأة فاعلم أنه لصّ، فلا تزوّجوه، ولا ينكح إلى مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم، ولا شارب خمر، ولا أكل الربا، فمن فعل ذلك فقد ثلم دينه، وقطع رحمه، ولم يحسن الولاية لكريمته، لأنه ترك الإحسان، وليس هؤلاء أكفاء للحرة المسلمة العفيفة، وقد قال بعض السلف: النكاح رقّ فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته، وقال بعضهم: لا تنكح إلاّ الأتقياء فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم، ولا نكاح إلاّ بولي وشاهدي عدل، وإن كانت ثيبًا فإن لم يكن ولّي فالسلطان ولي من لا ولي له أو من ولاه الحكم كذلك السنّة، وليتعلم المتزوّج علم الحيض واختلاف أوقاته وزيادته ونقصانه وأحكام الاستحاضة من ذلك، وعلم وقت الأطهار ليعلمها ذلك وليغنيها بذلك عن السؤال والظهور إلى الرجال، ثم ليعلم أهله علم ما لا يسعهم جهله من الفرائض وأحكام الصلاة وشرائع الإسلام واعتقادات المؤمنين من السنّة وما عليه من مذهب الجماعة، فإذ فعل ذلك لم يكن عليها أن تخرج إلى العلماء، وإن قصر عن علمها علم التوحيد ومباني الإسلام وعقود الإيمان ومذهب أهل السنّة فلها أن تخرج إلى السؤال عمّا لا يسعها جهله وليس لها أن تخرج بغير إذنه لطلب علم يرجى فضله، وليس للمرأة أنّ تحمل زوجها على المكاسب الحرام ولا تكلفه ما يقترف به الآثام، ولا للرجل أن يدخل في مداخل السواء ولا يبيع آخرته بدنياه، فإن صبرت معه على البرّ والتقوى أمسكها، وإن حملته على الإثم والعدوان فارقها، وإن يتفرقا يغنِ اللّه كلاً من سعته، ويقال: أول من يتعلق بالرجل يوم القيامة زوجته وولده، فيوقفونه بين يدي اللّه عزّ وجلّ فيقولون: يا ربنا خذ لنا حقّاً من هذا، فإنه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم، قال: فيقتصّ لهم منه، وفي خبر: أنّ العبد ليوقف للميزان وله من الحسنات أمثال الجبال، فيسأله عن رعاية عياله والقيام بهم، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، حتى تستفرغ تلك المطالبات جميع أعماله، فلا يبقى له حسنة، فينادي الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله، فلهذا قال بعض السلف: إذا أراد اللّه بعبد شرّاً سلط عليه في الدنيا أنيابًا تنهشه، يعني العيال.(2/226)
وروينا في الخبر: لا يلقى اللّه عبد بذنب أعظم من جهالة أهله، والخبر المشهور: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول، وروي أنّ الآبق من عياله كالعبد الآبق من سيده، لا يقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم، وقد قال عزّ وجلّ: (يا أَيُّها الَّذين آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ نَاراً) التحريم:6، فأضاف الأهل إلى النفس وأمرنا أن نقيهم النار بتعليم الأمر والنهي كما نقي أنفسنا النار باجتناب النهي، وجاء في تفسير ذلك: علّموهن وأدّبوهن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع ٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالمرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عنه، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول عنهم، ويقال: إذا أنفقت المرأة من مال زوجها بغير إذنه لم تزل في سخط اللّه عزّ وجلّ حتى يأذن لها، ولا يحلّ لها أن تطعم من منزله إلاّ الرطب الذي يخاف فساده، فإن أطعمت وأنفقت عن إذنه ورضاه كان لها مثل أجره، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر، وينبغي أن يعرفها أعظم حقه عليها في مقام الوالدة بقوله للمرأة: عليك بطاعة زوجك، فإنّة جنتك ونارك، وقال صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة، وكان رجل قد خرج في سفر وعهد إلى امرأته أن لا تنزل من العلو إلى سفل الدار، وكان أبوها في السفل، فمرض أبوها فأرسلت المرأة تسأذن أن تنزل إلى أبيها فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أطيعي زوجك، فمات أبوها فاستأذنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أن تنزل إليه فقال: أطيعي زوجك، فدفن أبوها، قال: فأرسل إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخبرها أنّ اللّه قد غفر لأبيها بطاعتها زوجها، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا صلّت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها، فأضاف: طاعة الزوج إلى أبنية الإسلام التي لا يدخل الجنة إلاّ بها، واشترط طاعته لدخولها، وذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النساء فقال: حاملات والدات مرضعات رحيمات بأولادهن، لولا ما تأتين إلى أزواجهن دخلت مصلياتهن الجنة وقال صلى الله عليه وسلم: أطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساد، وأطلعت في الجنة فرأيت أقل أهلها النساء فقلت: أين النساء فقيل: شغلهن الأحمران الذهب والزعفران يعني الحلي ولبس المصبغات كانت العرب مشتهرة بذلك وقال صلى الله عليه وسلم: تصدقن من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار قلن: لِمَ يا رسول اللّه قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير يعني الزوج المعاشر، تكفرن نعمته عليكن فلذلك قالت الفتاة: يا رسول الله فلا أتزوج.(2/227)
روينا عن أم عبد المغنية عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: أتت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إني فتاة أخطب وإني أكره التزويج فما حق الزوج على المرأة فقال: لو كان من فرقه إلى قدمه صديدًا فلحسته ما أدت شكره قالت: فلا أتزوج قال: بلى فتزوجي فإنه خير، فهذا مجمل خبر الخثعمية وقد فسر حقه في حديثها، وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني امرأة أيم، وإني أريد أنْ أتزوج فما حق الزوج فقال: إنّ من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها على نفسها وهي على ظهر بعير أنْ لا تمنعه، وفي الخبر الجامع لفضائل الزوج: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أمرت أحدًا أنْ يسجد لشيء سوى اللّه تعالى لأمرت المرأة تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها، ومن حقّه أنْ لا تعطي شيئاً من بيته لا بإذنه فإن فعلت ذلك كان الإثم عليها والأجر له، ومن حقه أنه لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولم يقبل منها، ومن حقه أنْ لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيتها أو تنوب، وينبغي أن تعرض نفسها عليه في كل ليلة، وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها عزّ وجلّ إذا كانت في قعر بيتها، وإنّ صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، والمخدع بيت في بيت وذلك إنها عورة فما كان أستر لها فهو أسلم، والأسلم هو الأفضل كيف وقد روي أنّ المرأة عوراء فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وفي حديث غريب أنّ للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر عشر عورات، فإن أمرها بما يصلحها مما أبيح لهما فخالفته وعظها وزجرها، فإن عادت لخالفه هجرها في المضجع فبعض العلماء يقول: يوليها ظهره وبعضهم يقول: يعتزل فراشها في ليلة إلى ثلاث إلى سبع ليال فإن لم ينجح فيها ذلك ولم تبال به ضربها والعلماء يقولن: ضربًا غير مبرح وتفسيره أن لا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسمًا، وله أنْ يغضب عليها في الأمر من أمور الدين من عشرة أيام إلى شهر، فقد غضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهرًا في كلام كلمه بعض أزواجه، فأرسل بهدية إلى بيت زينب فردتها عليه فقالت له التي هو في بيتها: لقد أقمتك إذا ردت عليك هديتك فقال صلى الله عليه وسلم: أنتن أهون على اللّه أنْ تقمينني، ثم غضب عليهن كلهن شهرًا ومعنى أقمتك استصغرتك وأذلتك فهذه كلمة من الاتباع، تقول العرب: أذللته وأقميته ويقولون: لتفعلن كذا صاغراً قميًا، وما زال كذلك حتى ذل وقمى فيبتغون بهذه الكلمة لسب بالتصغير والتذلل، للمبالغة في الوصف ولا ينبغي أن يفترِ على أهله من الإنفاق.(2/228)
وروينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله، وكان لعليّ عليه السلام أربع نسوة، وكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام بدرهم لحماً وقال الحسن:كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب تقارب وقال ابن سيرين: أستحب للرجل أنْ يعمل لأهله في كل شهر، فالوذجة وإنْ كانت من أهله زلة أو هفوة احتمل ذلك ورفق بها ولم يعسفها، وفي الحديث: خلقت المرأة من ضلع أعوج إنْ قومته كسرته وإنْ تركتها استمتعت بها على عوج، وفي لفظ حسن: وكسرها طلاقها، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه القول وتهجره إحداهن يوماً إلى الليل، ودفعت إحداهن في صدره فزجرتها أمها فقال: دعيها، فإنهن يصنعن أكثر من هذا، وجرى بينه وبين عائشة رضي اللّه عنها كلام حتى أدخل أبا بكر رضي اللّه عنه بينهما حكماً واستشهد فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تكلمين أو أتكلم قالت: بل تكلم أنت ولكن لا تقل إلاّ حقًا، فلطمها أبو بكر رضي اللّه عنه حتى دمي فوها وقال: أي عدوة نفسها، أو يقول غير الحق؟ بل أنت وأبوك تقولان الباطل ولا يقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ حقّاً، نصرة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وغضباً له حتى استجارت بالنبي صلى الله عليه وسلم وقعدت خلف ظهره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم ندعك لهذا ولم نرد هذا منك وقالت له مرة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي؟ فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حلماً وكرماً، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي اللّه عنها: إني لأعرف غضبك من رضاك قالت: وكيف تعرف ذلك؟ قال: إنْ رضيت قلت: لا وإله محمد وإذا غضبت قلت: لا وإله إبراهيم قالت: صدقت إنما أهجر اسمك وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أزواجه ويقاربهن في عقولهن في المعاملة والأخلاق، وفي الخبر: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع نسائه، وقد كان لقمان الحكيم يقول: العاقل في بيته ومع أهله كالصبي فإذا كان في القوم وجد رجلاً، وفي تفسير الخبر المروي أنّ اللّه يبغض الجعظري الجواظ قيل: هو الشديد على أهله المتكبر في نفسه، وفي أحد المعاني في قوله عزّ وجلّ: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذِلكَ زَنيمٍ) القلم:13، قيل: الفظّ اللسان الغليظ القلب على أهله وما ملكت يمينه، وروينا في في الخبر: غيرة يبغضها اللّه عزّ وجلّ، غيرة الرجل على أهله في غير رينة كأنه يكون من سوء الظن الذي نهى اللّه عزّ وجلّ ورسوله عنه.(2/229)
وروينا عن عليّ رضي اللهّ عنه: لا تكثر الغيرة على أهلك فترمي بالسوء من أجلك ولعمري إنّ الغيرة لها حدّ فإذا جاوزها الرجل قصر عن الواجب وزاد على الحق، وقد كان الحسن يقول: أتدعون نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق قبح اللّه من لا يغار، وقد قال ابن عمر رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه فقال بعض ولده:بلى واللّه نمنعهن فضربه وغضب عليه وقال: تسمعني أقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوهن وتقول: بلى تمنعهن وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (قَدْ جعلَ اللّه لِكُلِ شيءٍ قَدْرًا) الطلاق:3، وقال بعض الحكماء: من جاوز الشيئ فمذموم كمن قصر عنه، فلا بأس بالحرة العفيفة أن تخرج لشيئ لا بد لها منه من قضاء حوائجها قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إذن لكن أنْ تخرجن في حوائجكن كذلك تخرجن في الأعياد خاصة، أطلق ذلك لهن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولكن لا يخرجن إلا بأذن أزواجهن وعن رضاهم:ولا يخرجن أيضًا إلاّ فيما يعني مما لا بدّ منه ومهما استغنين عن الخروج، وأنْ لا يراهن رجل فهو أفضل لهن وأصلح لقلوبهن، وروينا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة عليها السلام: يا بنية، أي شيئ خير للمرأة فقالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إليها وقال: ذرية بعضها من بعض، وكان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسدون الثقب والكوى في الحيطان لئلا يطلع النسوان، وروينا إنّ معَّاذًا رأى امرأة تطلع من كوة في الجدار فضربها، وأنّ امرأته دفعت إلى غلام لها تفاحة قد أكلت بعضها فضربها. وقد كان عمر يقول: أعروا النساء يلزمن الحجال وقال أيضاً: عودوا نساءكم لا، وتكلم مرة في شيئ من الأمر فأخذت امرأته تراجعه في القول فزبرها وقال: ما أنت لهذا إنما أنت لعبة في جانب البيت إن كانت لنا إليك حاجة وإلاّ جلست كما أنت وهو مأجور على احتماله هفوات أهله وصبره على أذاهن ومثاب على حسن عشرتهن، وقد كان محمد بن الحنفية يقول ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً، حتى يجعل اللّه له منه فرجًا ومخرجًا، فإن كانت بذيئة اللسان قليلة القبول عظيمة الجهل كثيرة الأذى، فطلاقها أسلم لدينهما وأروح لقلوبهما في عاجل دنياه وآجل أخرته، وقد شكى رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذاء امرأته فقال له: طلّقها فقال: إني أحبها قال: أمسكها إذاً، فخشي عليه تشتت همه بفراقها مع المحبة وتشتت الهم أعظم من أذى الجسم.(2/230)
وفي معنى قوله عزّ وجلّ: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنّ يأتينَ بِفاحَشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الطلاق:1. قال ابن مسعود: إذا بذت على أهلها وآذت زرجها فهو فاحشة، وهذا يعني به في العدة لأن اللّه يقول: (أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيْثُ سَكَنْتُمْ مِنَ وُجْدِكُمْ) الطلاق:6. فهو متصل بقوله: (وأحْصُوا العِدَّةَ ولا تُخْرِجوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِن) الطلاق:1. أي في العدة، ومن الناس من يظن أنّ الطلاق محظور يتأول هذه الآية على غير تأويلها، فالطلاق مباح إلاّ أنه مكروه بغير سب لتفرقه الألفة. وقد يروى في خبر:ما أحل اللّه شيئًا أبغض إليه من الطلاق، ولا بأس أنْ تفتدي المرأة من زوجها إذا خافت أنْ لا تقيم حدود اللّه فيه ولا تقوم بواجب حقوقه عليها، وأكره أنْ يأخذ في الفدية أكثر مما أعطاها. وقد قال اللّه تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقيما حُدودَ اللّه فلا جُناحَ عليْهِما فيما افْتَدتْ بهِ) البقرة:229، وهذا هو الخلع الجائز عند أكثر العلماء، ولا يحل لامرأة أن تسأل زوجها طلاقها ولا أنْ تختلع منه بغير رضاه. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة، وقال: المختلعات هن المنافقات والنشوز، قد يكون من الزوجين معًا إلاّ أنه أبيح للزوج ضربها في النشوز وأبيح لها الصلح في نشوز الزوج قال اللّه عزّ وجلّ: (والصُّلحُ خَيْرٌ) النساء:128. وأصل النشوز أنْ يعلو أحدهما على صاحبه ويرتفع عنه، كان يجفو عليه ويجتنبه فيكون في نحو غير نحوه، فيكون من هذا الكلام الفاحش ويكون منه الأذى ويكون منه الهجر والانفراد، ويحكم الحكمان في هذا أحدهما من أهله والآخر من أهلها،يعدلون وينظرون فيما بينهما. وقد وعد اللّه عزّ وجلّ الغني مع الفرقة كما وعده مع النكاح فقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كَلاً مِنْ سَعَتِهٍ) النساء:130 كما قال: (وَأَنْكِحوا الأيامى مِنْكُمْ والصَّالِحينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمائِكُمْ إنْ يَكُونوا فُقَراءَ يُغنِهِمُ اللّه من فَضْلهِ) النور:32. فقد يكون الغني بالمال ويكون بأن يستغني كل واحد منهما عن صاحبه بما خصه اللّه عزّ وجلّ من خفي لطفه.(2/231)
وجاء في خبر: ثلاث لا يستجاب دعوتهم: رجل له امرأة سوء يقول أراحني اللّه منك وقد جعل اللّه الطلاق بيده إن شاء طلق، والآخر في المملوك السوء، وجار السوء، وليحسن الرجل عشرة أهله والقيام بهن. فقد قال اللّه تعالى: (فإِنْ أطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً) النساء:34. أي لا تطلبوا طريقاً إلى الفرقة ولا إلى خصومة ومكروه، وهذه حينئذ على صورة الأنفس المطمئنة إذا استجابت للإيمان وطوعت لك إلى أخلاق المؤمنين فتولها من الإرفاق وأرفق بها في منالها من المباح. وقد شبه اللّه عزّ وجلّ حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين فقال فيهما:(وَصاحِبْهُما في الدُّنْيا مَعْروفاً) لقمان:15. وقال في أمر النساء:(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) النساء:19 ثم أجمل في النساء ما فرقه من حق الزوج في كلمة واحدة فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة:228. وقال في عظيم حقهن: (وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَليظًا) النساء:21. وقال عزّ وجلّ: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْب) النساء:36. قيل: هي المرأة. وآخر ما أوصى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاث كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه جعل يقول: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، واللّه اللّه في النساء فإنهن عوار في أيديكم يعني أسرى أخذتموهن بعهد اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه. وسئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما حق المرأة على الرجل قال: يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى. ولا يقبح الوجه ولا يهجر إلا في البيت وينبغي أيضًا إذا أراد النكاح أنْ يتعلم ما تحتاج إليه المرأة من حسن العشرة والقيام بما لها عليه وجميل المداراة ولطف المفاوضة، ويعلمها حسن قيامها بما يجب له عليها ويعرفها ما أوجب اللّه له عليها من ذلك، ولا تملك المرأة شيئًا من أمرك فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد ملكك إياها فلا تقلب بهواك حكمة اللّه فينقلب الأمر عليك، فكأنك قد أطعت العدوّ ووافقته في قوله، ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (ولا تُؤْتُوا السُفَهَاءُ أمْوالَكُمُ الَّتي جَعلَ اللّه لَكُمْ قِيامًا) النساء:5 يعني النساء والصبيان ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الزوجة لأنه إذا أطاعها فيما تهوى دخل تحت التعس، فكأنه قد بدل نعمة اللّه كفراً لأن اللّه عزّ وجلّ جعله سيّدها في قوله عزّ وجلّ: (وَأَلَفيا سَيِّدَها لَدَى البابِ) يوسف:25. يعني زوجها. قال الحسن: ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلاّ أكبه اللّه في النار ولا يعودها عادة فتجترئ عليه وتطلب المعتاد منك، فهي على مثال أخلاق النفس سواء إن أرسلت عنانها جمحت بك، وإن أرخيت عنانها فترًا جذبتك ذراعًا، وإن شددت يدك عليها وكبحتها ملكتها فلعلها أن تطوع لك.
وكان الشافعي رضي اللّه عنه يقول ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك، المرأة والخادم والنبطي. وكان نساء العرب يعلمن أولادهن اختبار أزواجهن. كانت المرأة إن أنكحت ابنتها قال: يا بنية، اختبري حليلك قبل أن تقدمي عليه، انزعي زج رمحه فإن سكت لذلك فقطعي اللحم على ترسه، فإن أقرّ فكسّري العظام بسيفه، فإن صبر فاجعلي الأكاف على ظهره وامتطيه فإنما هو حمار.
وأوصى أسماء بن خارجة الفزاري، وكان من حكماء العرب، ابنته ليلة زفافها فقال: يا بنية، قد كانت والدتك أحق بتأديبك مني لو كانت باقية، وأما الآن فإني أحق بتأديبك من غيري افهمي عني ما أقول: إنك قد خرجت من العش الذي فيه درجت وصرت إلى فراش لا تعرفينه وقرين لم تألفيه، كوني له أرضًا يكون لك سماء وكوني له مهادًا يكون لك عمادًا فكوني له أمة يكون لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك ولا تتباعدي عنه فينساك، إذا دنى فاقربي منه وإن نأى فابعدي عنه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، لا يشم منك إلاّ طيباً ولا يسمع إلاّ حسنًا ولا ينظر إلاّ جميلاً وأنا الذي أقول لأمك ليلة ينائي بها:
خذي العفة مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تنقريني نقرك الدفّ مرة ... فإنك لا تدرين ماذا المغيب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب(2/232)
وأوصى بعض العرب بنيه فقال: لا تنكحوا من النساء ستة، أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا حداقة ولا براقة ولا شداقة، تفسير ذلك الأنانة وهي التي تعصب رأسها كثيرًا وتكثير الأنين والتوجع والتشكي والمنانة التي تمن على زوجها تقول: فعلت بك وفعلت فأنا أفعل وأفعل والحنانة تكون على وجهين، تكون ذات ولد من غيره فهي تحن إليه وقد تكون ذات زوج قبله فيحن قلبها إليه. وقوله حداقة هي التي تومئ بحدقتها فتشتري كل شيئ وتطالب زوجها بما تشتهيه من كل شيئ، وقد تلحظ الرجال كثيرًا كما يلاحظ بعض الرجال النساء، والبراقة تحتمل تأويلين، أحدهما أنّ تكون غضوبًا في الطعام فتبرق لقلته أو لسوء خلقها ولا تكاد البراقة للمأكول أن تأكل إلاّ وحدها لشرهها، وتكون أيضاً تستقل نصيبها من كل شيئ وهذه لغة يمانية نعرفها فأشبه عندهم يقال: قد برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عليه، والوجه الثاني من البراقة أنْ تكون من البريق أنْ تكثر صقال وجهها. وخضابه في بروقه أبدًا، وأما الشداقة فهي التي تشدق بكثرة الكلام وتكون ذربة اللسان مفوّهة في النطق.
ومن ذلك الخبر الذي جاء أنّ اللّه عزّ وجلّ يبغض الثرثارين من المتشدقين. وفي قصة الرجل السائح الأزدي أنه لقي إلياس عليه السلام في سياحته، فأمره بالتزويج وقال: هو خير لك، ونهاه عن التبتل وقال: لا تنكح من النساء أربعًا وأنكح من سواهن المختلعة والمبارية والعاهر والناشر، فالمختلعة هي التي تطلب الخلع من زوجها من غير ما بأس وهو مع ذلك يحبها. والمبارية المباهية لغيرها، المفاخرة بأسباب الدنيا التي تطلب من زوجها ما تباهي به غيرها وتفتخر به في نظائرها. والعاهر الفاجرة التي تعرف بحليل أو خدن وهو الذي قال اللّه عزّ وجلّ: (ولا مُتَّخِذاتِ أخْدَانٍ) النساء:25. والناشر التي تعلو على زوجها في الفعال والمقال.(2/233)
وقد كان عليّ عليه السام يقول: شرار خصال الرجل خيار خصال النساء، البخل والزهو والجبن. فإن المرأة إذا كانت مزهوة أي معجبة استنكفت إن تكلم الرجال، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيئ فلم تخرج من بيتها. وأكره العزل كراهية شديدة فإنه دقيقة من الشرك الخفي، وفيه نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وكرهه جماعة من السلف الصالح، ولم يكن خيار المتّقين يعزلون. وأقلّ ما فيه، الخروج من التوكل على الله عزّ وجلّ، وقلة الرضا بحكم اللّه تعالى. وكان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول العزل هي الموؤودة الصغرى فلقوله هذا استنباط حسن من السنّة، وذلك أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الجماع: أنّ الرجل ليجامع أهله فيكتب له من جماعة أجر ولد ذكر قاتل في سبيل اللّه عزّ وجلّ. فقيل له: وكيف ذلك يا رسول اللّه فقال: أنت خلقته، أنت رزقته، أنت هديته، إليك محياه إليك مماته. قالوا: بل اللّه خلقه، ورزقه، وهداه، وأحياه، وأماته. قال: فأنت تراه في هذا المعنى فيّ يقول: إذا جامعت فأمنيت في الفرج. وقد قال اللّه تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَءَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ) الواقعة:58. فإذا لم يخلق اللّه من منيك خلقاً حسب لك كأنه قد خلق منه ذكرًا على أتم أحواله وأكمل أوصافه بأن يقاتل في سبيل اللّه فيقتل، لأنك قد جئت بالسبب الذي عليك وليس عليك خلقه ولا هدايته، وإنما يقدر على ذلك اللّه عزّ وجلّ وهو فعله مجرّدًًا فكان لك أجر ما لو فعله اللّه تعالى إذا قد أتيت بما أمكنك عمله، فلذلك قال ابن عباس: هو الموؤودة الصغرى لأنه يوجد العزل بعدم هذا الفضل، إذا كان العبد سبب عدمه لأنه لم يفعل ما يتأتى منه الولد، فذهب فضله وحسب عليه فتله، وإنما قلنا أنّ العزل دقيقة من الشرك لأن أهل الجاهلية كان سبب قتلهم بناتهم معاني أحدها خشية العار بهن، ومنها كراهة الإنفاق عليهن ومنها الشح وخوف الفقر والإملاق. وكان العرب من ولد له بنون وبنات فمات البنون وعاش البنات سموه أبتر وذموه بذلك. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف الذي يكرهون مات ولده الذكر وعاش البنات، فلذلك كان يسمونه مذمّمًا أي مذمومًا عندهم. ومنه سبه العاص بن وائل حتى قال، إنك أبتر فرد اللّه عزّ وجلّ عليه فقال تعالى: (إنَّ شَانِئكَ هُوَ الأبْتَرُ) الكوثر:3. أي لا ذكر لك بعد موتك قد انقطع ذكرك بموت الذكور من ولدك فقال اللّه عزّ وجلّ بل: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) الكوثر:3. الذي ينقطع ذكره وثناؤه فلا يذكر بخير بعد موته، فأما أنت فقد رفعت لك ذكرك تذكر معي إذا ذكرت. وكانت العرب تقول: من كنَّ له أحد الحوبات الثلاث، لم يشرف عشيرته ولم يسد قومه يعنون بالحوب الأم والأخت والبنت، والحوبات جمع حوب وهي كبيرة قال اللّه تعالى: في أكلكم (أمْوالَ الْيتَامَى ظُلْمًا) (كان حُوبًا كَبيرًا) النساء:2 - 10. عندي ليس هذا الذي قلتم عندكم.(2/234)
وكان من خيار التابعين المؤمنين من يستحب له الجمع بين هؤلاء الثلاث: الأم والأخت والبنت، لما فيهن من عظيم المثوبة والفضل ليخالف بذلك سنة الجاهلية. فقد توجد هذه المعاني أو بعضها في العزل فلذلك سميناه شركًا وكرهناه، وهو مذهب الخوارج من النساء كأن فيهن تقزز وتعمق من استعمال كثرة الماء للطهارة، ودخول الحمامات ومجاوزة الحد في الطهور. وكنّ أيضاً يقضين الصلاة أيام الحيض ويصمن في حيضهن، ولا يصلّين في ثياب الحيض حتى يغلسنها، ولا تدخلن الخلاء إلاّ عراة، وكانوا يكرهون الولادة طلبًا للنظافة والتقرز خلاف السنة. نساء العرب ابتدعوا هذه البدع ففارقوا بها سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسنن نسائه من أنباط العراق وأهل النهر. وكان بعضهن دخل على عائشة رضي اللّه عنها لما قدمت البصرة، فلم تأذن لهن في الدخول عليها. وأيضًا فإن اللّه ورسوله ندبا إلى اتخاذ الولادة بقوله تعالى: (فأتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة:223. قيل: الولد وقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، وقوله صلى الله عليه وسلم: خير نسائكم الودود الولود وقوله صلى الله عليه وسلم: سوداء ولود خير من حسناد لا تلد، وحصير في البيت خير من امرأة لا تلد. ومن بركة المرأة أن تيسر رحمها أحوج ما يكون إلى الجماع إذا طهرت من الحيض. وفي هذا الوقت أكثر ما يعبر النساء بالحمل وأحمد ما يكون المولود عاقبة إذا علق به قبل الطهر. فلهذه المعاني عقب اللّه عزّ وجلّ الأمر بالجماع والولد بعد الطهر في قوله تعالى: (فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمرَكُمُ اللّه) البقرة:222، ولأضدادها في الكراهة والذم أمر اللّه تعالى باعتزال النساء في الحيض، ويقال إنّ كل مبذول كان أو مجنونًا أو مجذوبًا أو مختلاً، أو في حاله وعتلاً مخبلاً لأنه كان غرسه في سبخة من الأرض فلم يزرع ولم يزك، ومن زرع من حرث طيب زكا زرعه وهو الغشيان في الطهر فلذلك قال: من حيث أمركم اللّه، وقد رخص طائفة في العزل.
روينا في ذلك رخصة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد كان سعد يعزل وقد أنكر عليّ عليه السلام على ابن عباس رضي الله عنهم في قوله: إنّ العزل هي الموؤودة الصغرى وقال: إنها لا تكون موؤودة إلاّ بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ: (وإذا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) التكوير:8، أنها ذكرت بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ آية تنقيل الخلقة: (وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ سُلالَةِ مِنْ طينٍ) المؤمنون:12. ثم جعلناه نطفة إلى قوله ثم أنشأناه خلقًا آخر أي نفخ الروح فيه قال: فلا يكون موؤودة مقتولة إلاّ بعد هذه السبع الخصال، ولأن اللّه عزّ وجلّ ذكرها في كوّرت بعد سبع معان ثم جمع بينهما في الفهم فاستنبط ذلك، وهذا من دقيق العلم وغامض الفهم ولطيف الاستدلال الذي تفرد به عليه السلام لثقوب علمه ونفاذ فطنته وخفي استدلاله، فلا يجامعهن حتى يطهرن. فإذا تطهرن يعني بالماء ويكره الجماع مستقبل القبلة لحرمة القبلة. وفي الخبر، إذا جامع أحدكم أهله فلا يتجرّدا تجرد العيرين يعني الحمارين. وروينا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا جامع غطى رأسه وخفض صوته وقال للمرأة: عليك السكينة، ومن جامع مرة وأراد العود فليغسل فرجه قبل ذلك، فإن احتلم فلا يجامع حتى يغسل فرجه أو يبول، فإن جامع بعد الاحتلام من غير غسل خيف على ولده إن كان من جماعة أنْ يصيبه لمم من الشيطان.
ويكره له الجماع في ثلاث ليال من الشهر: في أول ليلة وفي آخر ليلة وفي ليلة النصف.(2/235)
يقال إنّ الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي وقيل إنّ الشياطين يجامعون فيها، وروي عن عليّ عليه السلام كراهة ذلك وأبي هريرة ومعاوية رضي اللّه عنهما. ومن العلماء من كان يستحب الجماع في يوم الجمعة لأحد التأويلين من قوله صلى الله عليه وسلم: من غسل واغتسل أي غسل أهله. ويكره الجماع في أول الليل لئلا ينام على غير طهارة، فإن الأرواح تعرج إلى العرش فما كان منها طاهرًا أذن له في السجود، وما كان جنبًا لم يؤذن له. والرؤيا أيضًا على طهارة من غير جنابة، وعلى وضوء أصح وأفضل إلاّ أنْ يغتسل ثم ينام فإن لم يغتسل وجامع فلا ينام ولايطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة. وقد جاء رخصة في النوم بعد الجماع من غير أنّ يمس ماء، فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا أكره أنْ يحلق الرجل رأسه أو يقلم ظفره أو يستحد أو يتورّى ويخرج دمًا وهو جنب، فإن العبد يرد إليه جميع شعره وظفره ودمه يوم القيامة، فما سقط منه من ذلك وهو جنب رجع إليه جنباً. وقيل: طالبته كل شعرة بجنابتها.
وقد روينا معنى هذا في حديث مقطوع موقوف عن الأوزاعي ويحيى بن كثير قال الأوزاعي: قد كنا نقول: لا بأس أن يطأ الجنب، حتى سمعنا بهذا الحديث والنص فيه على النهي أن يطأ الرجل جنبًا، ولا يحل للرجل من امرأته إلاّ الفرج لا غير على أي حال شاؤوا من جامع، فليتمهل على أهله وليتوقّف حتى تقضي هي نهمتها كما قضى هو نهمته. فربما أخر انزال المرأة بعد الرجل فيكون ذلك كريهًا إليها، فإن علم أنها قد سبقت بالشهوة لم يحتج إلى توقف وليس يخفي سبقها بالشهوة على فطن. وأوفق ما يكون الجماع بينهما إذا اتفقت الشهوتان منهما معًا، وأكثر ما يكون التباغض بين الزوجين لاختلافهما من طبع الإنزال أن يكون طبعه سابقًا لطبعها أيضًا.(2/236)
قود كان بعض العلماء من الأدباء لا يتأخر عن المرأة حتى يستأمرها في ذلك، وينبغي أن يعلمها لأن المرأة إذا بلغت واحتلمت يجب عليه الغسل كما يجب على الرجل، فإنّ في ذلك سنة لأن أم سليم سألت عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمر بذلك قال: نعم، النساء نساء الأنصار لا يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، وإذا كانت المرأة حائضاً ائتزرت بمئزر صغير من حقويها إلى أنصاف الفخذين وكان له المتعة بجميع جسدها كيف شاء إلاّ تحت المئزر، وهذا مذهب فقهاء الحجاز وهو أحب الوجهين إليّ، وبعض علماء أهل العراق يجوز من الحائض المباشرة لما تحت خلا الفرجين، ولا يعجبني هذا ولا حرج عليه من الاستمتاع ببدنها، وأستحب للرجل إذا دخل في لحافها أن يأتزر بحقو صغير يكون في وسطه وهو المئرز لئلا يتجرد عريانًا، فإنّ هذا من الأدب. ويضاجع الرجل الحائض كيف شاء وتناوله ما شاء، أو يؤاكلها ولا يجانبها في شيئ من الأشياء إلاّ الجماع في الفرج إتفقوا عليه واختلفوا فيما دونه. فذكر أهل الحجاز كما ذكرناه آنفًا وهو استحباب، واتفقوا على تجويز ما فوق المئزر من السرر إلى أنصاف الفخذين، فينبغي للمتزوّج أن يعرف حكم الطلاق، فإن عرض عليه طلاق طلق واحدة واحدة في طهر لا جماع فيه، لأن التطليقة الواحدة إذا انقضت عدة المرأة منها بحيض أو أشهر تعمل عمل التحريم بالثلاث سواء، إلاّ أنه يربح في التطليقة الواحدة أربع خصال: أحدها موافقة الكتاب والسنّة من قوله عزّ وجلّ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الطلاق:1، وفي قراءة عمر وابن عباس رضي اللّه عنهم بيان ذلك: فطلقوهن لقبل عدتهن فقد دل أنّ الأقراء هي الأطهار، وكذلك هو عندي. وإن تكافأ ذلك في اللغة و تساوى في المعاني بأن يكون الحيض أيضاً. والثانية تيسير العدة عليها وسرعة خروجها منها، فخروجها من الطلاق محتسب من الطهر الذي طلقها فيه من غير جماع قرأ، فتستعجل الخروج من العدة لأنها من حدود اللّه عزّ وجلّ، ويربح أيضاً هو أنه ندم على طلاقها كان له رجعتها في العدة من غير إحداث عقد ثان ولا مهر آخر، وإن أحب رجعتها بعد انقضاء العدة كان له تزويجها ثانية من غير زوج ثان تحدثه، وهذا كله معدوم مع الثلاث دفعة واحدة وموجود فيه التحريم، وإن ندم لم يجعل اللّه له مخرجاً لأنه لا تحل له إلاّ بعد، زوج ويخسر العبد خروج المرأة من يده فإن ابتلى بهواها يحتاج أن ينتظر فراغ الزوج الثاني أو التجأ أنْ يعمل في تزويجها لغيره، فيكون محلّلاً لنفسه ومفسد النكاح الثاني بالتحليل فيقع في ثلاث معان من المعاصي.(2/237)
وقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له. وقال بعض العلماء: إنّ نكاح الأول بعده على التحليل لا يجوز أيضاً، وهذا كله ثمرة الجهل ومخالفة السنة. وقد قال اللّه تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ) الطلاق:1، ثم قال: لا تدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرًا يعني ندمًا من المطلق فتعجب الزوجة، فإذا كان قد طلق تطليقة واحدة أو اثنتين حلت له من العدة من غير عقد وبعد انقضائها بغير زوج ثم قال: (ومَنْ يتّق اللّه يجعل له مخرجاً) أي يتّقي اللّه فيطلق في العدة يجعل له مخرجًا في جواز الرجعة كما ذكرناه ومن طلق ثلاثًا مرة واحدة أو طلق في الحيض، وقع الطلاق وحرمت المرأة ولم تحل له إلاّ بعد زوج إن كان قد خالف السنّة ووافق كراهة الأئمة بآثار، قد كثرت في ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعن عمر وابنه وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس وجملة من الصحابة والتابعين، والأصل فيما ذكرناه من العزيمة والرخصة في فعل النكاح وتركه قول اللّه عزّ وجلّ: (وَانْكِحُوا الأيامى مِنْكُمْ) النور:32، فأمر بالنكاح وهو أعلم بالخير والصلاح، والأيامى جمع أيم وهي التي لا بعل لها، وقد يسمى به الرجل الذي لا زوجة له أيضًا كما يقال ثيبًا وبكرًا ثم قال: (والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) النور:32. فلولا أنّ النكاح فاضل ما خص به الصالحين وضمه إلى فضلهم، وهم أهل ولايته لقوله عزّ وجلّ وهو يتولى الصالحين، ثم قال: (إن يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهمُ اللّه من فَضْلِهِ) النور:32، واللّه أعلم بالأغنياء كيف هم وقد يغنيهم بالأشياء كقوله:(أَغْنى وأَقْنى) النجم:48، وقد يغنيهم عن الأشياء وهي القناعة والزهد، وقد يغني نفوسهم عن الإعراض لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ليس الغني بكثرة العرض إنما الغني غني النفس، وقد يغنيهم باليقين كما قال أيضًا: كفى باليقين غنى. وقد يغنيهم بغض البصر وتحصين الفرج كما قال: من استطاع الباءة فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ثم إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في الخبر الثاني: من وعد الغني في التفرق وذلك أيضًا في قوله عزّ وجلّ: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كُلاً مِنْ سَعَتِهِ) النساء:3. فقد أجمل وجوه الإغناء كلها في هذا المعنى الآخر أيضًا، ويزيد عليه الغنية بالعصمة والاستغناء عن المكاسب وعن السؤال والمحاسبة على الاكتساب، والغنية عن حال النساء وأحكامهن. ثم قال في الأمر الثاني من البيان الثاني: (فانْكِحوا ما طابَ لَكُمْ مِنْ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) النساء:3. فهذا أدون من الأول لأنه علقه باختيارنا إنْ طاب لنا، ثم رفع فيه الأربع توسعة منه وتفضيلاً لعلمه بعلاج القلوب وطبائع النفوس وتفاوت سكونها وحركاتها، ووجود كفايتها ومصالحها ثم رحمنا فقال: (فإنْ خِفْتُمْ ألاّتَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكِتْ أيْمَانُكُمْ ذلك أدْنى ألاَّ تَعُولُوا) النساء:3. فرد إلى الواحدة وهو الحال الأوسط بين الأربع وبين التعزب، وخير الأمور أوسطها وفي قوله: ألاّ تعدلوا ثلاثة أوجه: تعدلوا تجوروا وهو أحسنها وأحبها إلي لأنه يواطئ قوله تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ أن لاّ تَعْدِلُوا) النساء:3، لأن العدل ضد الجور فعطف عليه فقال:(ذِلك أدْنى ألاّ تَعُولُوا) النساء:3، أي تجوروا من العدل. والعرب تقول: عال يعول عولاً إذا جار، والوجه الثاني: ألاّ تعولوا تفتقروا من العيلة وهي الفقر يقال: عال يعيل عيلة وأعاله إذا افتقر ومنه قوله: (إن خِفْتمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللّه) التوبة:28، ومع العيال الفقر لا محالة، والوجه الثالث: تعولوا تكثر عيالكم فيكون المعنى لذلك أقرب أن لا يكثر من تعولونه، وحذفت الهاء التي هي اسم العيال وهذا مذهب لبعض أهل الحجاز يرجع إلى قوله: عال الرجل عياله، يعولهم مثل مانهم يمونهم ومارهم يميرهم وصانهم يصونهم، فيكون مشتقاً من لفظ العيال والأولان أجود وأشهر واللّه سبحانه ما افترض النكاح ولا العزبة، كما لم يوجب الأربع من النسوة وافترض صلاح القلب وسلامة الدين وسكون النفس والدخول في الأوامر عند الحاجة إليها. فمن كان صلاحه في التزويج فهو أفضل له، ومن كان استقامته وسكون نفسه عند الأربع فجائز له طلب السكون وصحة الحال مع القيام بالأحكام، ومن وقعت كفايته بواحدة فالواحدة أصلح وأفضل لأنها(2/238)
إلى السلامة أقرب، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده.ى السلامة أقرب، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده.
ولعمري أنا إذا قلنا إنّ في الدين طريقين: طريق عزيمة وطريق رخصة، فإنه في النكاح أيضًا لأنه من الدين، وفي تركه يكون لأجل الدين طريقان: طريق الأقوياء وهم أهل النكاح، والصبر على أحكامه، وعلى معاشرة النساء، وطريق آخر للأقوياء بالصبر عنهن ووجود العصمة منهن والتفرّغ للآخرة وكفى بها شغلاً، وطريق آخر من وجود الوسوسة وخوف العنت لقوة الطبع وضعف الحال بوجود الاختلاط، فيبدأ بالنكاح طلبًا للاستقامة والصلاح. وقد كان الثوري رحمه الله تعالى يقول:
يا حبذا العزبة والمفتاح ... ومسكن تخرقه الرياح
لا صخب فيه ولا صياح
وللّه الأمر من قبل ومن بعد والحمد للّه وحده.
الفصل السادس والأربعون
كتاب ذكر دخول الحمام
الأفضل في وقتنا هذا ترك دخول الحمام لكثرة العراة فيه والعجز عن القيام بأحكامه. إلاّ أنّ دخوله مباح، وقداختلف مواجيد الصحابة في دخوله وكل فيه قدوة وهدى فقال بعضهم: بئس البيت الحمام، يبدي العورة ويذهب الحياء، وروي هذا عن ابن عمر رضي اللّه عنه وعن عليّ رضي اللّه عنه معناه. وقال بعضهم: نعم البيت ينفي الدرن ويذكر النار، وروي هذا عن أبي الدرداء وأبي أيوب. ودخل أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالشام الحمامات، فمن كان داخلاً إلى الحمام فلا يدخله لشهوة لعاجل حظ دنياه ولا عابثًا لأجل الهوى لأنه عمل من أعمال العبد، والعبد مسؤول عنه إن كان محاسباً على جهل أعماله فيقال: لِمَ دخلت؟ وكيف دخلت ولمن دخلت؟ كما يقال له: في كل عمل فعله وفي دخول الحمام ثمانية أحكام أربعة فرائض وأربعة نوافل. فأما الفرائض فستر العورة وغض البصر، وأنْ لا يباشر جسده غير يده وأن يأمر بالمعروف وهو أن يرى عريانًا فيقول له: استتر أو هذا حرام عليك وهذا لا يحل لك، أو قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو حرم دخول الحمام بغير إزار، فأي هذه الألفاظ قاله سقط عنه ماوراء ذلك من كل شيء يراه من المنكر، وليس عليه القبول ولا الإجبار على المعروف لأن هذا على الإمام القائم بصالح الدين، والداعي لرغبة المسلمين بالبطش والقوة والتمكين في الأرض والتسليط، وهو ساقط عن الرعية بحمد اللّه ومنه، فأما النوافل الأربع، فأن يرى الطهارة لأجل الدين والنظافة للعبادة لأن الطهارة من أفضل أمور الآخرة والحمام غاية الطهر، وأن يعطي صاحب الحمام الأجرة قبل الدخول، وكذلك يستحب في كل ما يشتريه أو يستعمله خاصة الشيء المجهول مقداره من شرب الماء وأجرة الحجام والذي لا يتقاضى عليه ولا يشترط فيه،فكأنه يكون غير معلوم. وإذا نظر الحمامي إليه صار معلومًا.
والثالثة أن لا يكثر صب الماء عليه من غير حاجة، ولا يستعمل ما يكفي رجلين وثلاثة سيما من الماء الحار، فإنّ له موونة، ولا يستعمل من ذلك إلاّ ما لو رآه الحمامي لم يكره ذلك منه ولم يسوءه، وما علم أن الحمامي لو رآه يستعمله من الماء الكثير لشق عليه ذلك، فإنه مكروه له في غيبه. والرابعة أنْ يتذكّر النار بحرارة الحمام ولذع مسه وغشيان ظلمته، لأن الحمام في الظلمة أشبه شيء بجهنم، الحرارة من تحتك والظلمة من فوقك، فهذا وصف جهنم نعوذ باللّه منها فليتذكر بقلة صبره على الحمام وعظم كربه فيه حبسه في جهنم، وإنه لو أقام في الحمام فضل ساعة لضعف روحه حتى يخرج خفوقاً، ويكون له في الحمام موعظة وعبرة إذا عبر أولي الأبصار. ومواعظ أهل التقوى لا تنقضي، ولهم في كل شيئ عبرة وموعظة وبكل شيئ تذكرة، لأن اللّه عزّ وجلّ قد أحياهم حياة طيبة، وهذه علامة من كان له قلب ومن مقامه المزيد، ولا بأس أنْ يظهر ذكر اللّه عزّ وجلّ بالتسمية والاستغفار، ومكروه له قراءة القرآن إلاّ في نفسه سرّاً ولا يسلم على أحد فيه بلفظ السلام.(2/239)
وروينا أنّ رجلاً أسلم على الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما في الحمام فقال: ليس في الحمام سلام، فإن احتاج أن يتكلم رجل فيه فلا بأس أن يأخذ بيده استئناساً للكلام أو يقول له: عافاك اللّه وأدام سلامتك. ومكروه له كثرة الكلام فيه وأن يتكلم رجل بما لا يعنيه، ولكن يقول:بسم اللّه، إذا دخله ويستعيذ بالله من الرجس الخبث الشيطان الرجيم. وإن أعطى الحمامي أجرة ليخليه له أجر على ذلك. قال بشر: ما أعنف رجلاً لا يملك إلاّ درهماً أنّ يعطيه لخلوة الحمامي.
وكان بشر يغطي ليخلي له الحمام، فكان يغلقه عليه من داخل ومن خارج، فإن وليته جاريته للإطلاء في الحمام إذا كان خاليًا ستيرًا فلا بأس، قالب بعضهم: رأيت ابن عمر رضي اللّه عنهما في الحمام مستقبلاً بوجهه الحائط، وقد عصب عينيه بعصابة ومدّ يده على الحائط، وقيل لإبراهيم الحربي: تصلّي خلف شارب النبيذ قال: نعم قيل: فتصلّي خلف من يدخل الحمام بلا مئزر قال: لا، ويكره دخول الحمام عند الغروب وبين العشاءين، فإن تلك الساعتين وقتت انتشار الشياطين، وليعرف بدخوله نعمة اللّه عزّ وجلّ وتسخيره له من شاء من خلقه بالتعب منهم والكد فيه، فهذا من لطيف أفضال اللّه عزّ وجلّ على المتنعمين به، ومن دخل الحمام وقام بهذه الأحكام كان دخوله أفضل لأن له فيه أعمالاً كثيرة، ودخل الأعمش فرأى عريانًا فغمض عينيه وجعل يتلمس الحيطان، فقال له العريان: متى كفّ بصرك يا هذا؟ فقال الأعمش منذ هتك سترك، وحكى الشافعي عن مالك رضي اللّه عنهما ثلاثة أشياء فيها، ذلة حضور المجلس بغير محيرة ولا صحيفة، وركوب السفينة بلا زاد، ودخول الحمام بغير كرنيب قال: فقلت للشافعي رضي اللّه عنه: لم تذكر المئزر فقال: قد أحسن ترك المئزر فسوق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: دخول الحمام على النساء حرام وعلى الرجال إلاّ بمئزر، وقد كان عمر رضي اللّه عنه يقول: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعيمِ) التكاثر:8، قال: الماء الحار في الشتاء ولا بأس أن يباشره رجل بالتدليك خلا موضع العورة، حدثني بعض إخواني عن بعض أهل العلم أنه دخل معه الحمام قال: فأردت أدلكه فأمتنع قال: ثم دخلت معه بعد ذلك فجعلت أدلكه فلم يمتنع فقلت له: قد كنت أمتنعت أول مرة قال: كنت أعلم فيه أثرًا ثم وجدت بعد ذلك أصبغ الراشني أنّ رجلاً دلكه في الحمام فرأى على فخذه مكتوب للّه بعرق في جسده فقال: أما تنظر أما أنه ما كتبه إنسان، وفي ذلك أيضًا أثر عن يوسف بن أسباط أنه لما حضرته الوفاة أوصى أن يغسله فلان إنسان لم يكن من أصحابه ولا كان معروفاً بفضل، فقيل له في ذلك فقال: أنه قد كان مرة دلكني في الحمام ولم أكافئه علي ذلك وأنا أعلم أنه يحب أنّ يغسلني فأوصيت إليه فيكون ذلك مكافأة مني له، ويصلح أن يستدل على ذلك أيضًا بتجويز الغمز للجسد والظهر.(2/240)
فقد روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه نزل منزلاً في بعض أسفاره، قال بعض أصحابه: فذهبت أمشي أتخلل النخل أو قال الشجر، فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نائم على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت له: ما هذا يا رسول اللّه فقال: أما أنّ الناقة تقحمت بي، وقال بعضهم: لا يحلّ دخول الحمام إلاّ بمئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته، ورأى ابن عمر رضي اللّه عنه رجلاً عرياناً فخرج وهو يقول: أعوذ باللّه من الشيطان رأيت شيطانًا، وقال مالك رضي اللّه عنه: من دخل الحمام وخرج عرياناً فلا شهادة له، وإن كان قاعدًا عند الحوض ليغسل فلا بأس، وغسل الرجلين بالماء البارد عند الخروج من الحمام أمان من النقرس، والتنورد بعده قبل غسل الوجه يشيّب اللحية والخناء بعد، يقال: إنه أمان من الجذام ويستحبّ أهل الطب البول قائمًا في الحمام بعد الإينار وقبل غسل النورة، وأمر بعض أطباء العرب بالنورة في كل شهر وأخبر أنه يطفئ المرارة وينقي اللون وأنها تزيد في الجماع وفي السنّة الاستحداد في كل أربعين يومًا لا يستحبّ مجاوزة ذلك، وبعض زهل الطّب يقول: بولة في الحمام في الشتاء أنفع من شربة دواء، والبول في المستحم مكروه من جهة السنّة، وقيل: إنّ البول في المستحم يورث الوسواس، وبعض أهل الطبّ يقول: نومة في الصيف بعد دخول الحمام تعدل شربة دواء، ويستحبون أيضًا الغسل بماء بارد بعد نومة في الصيف، وأنه نافع للجسد، ويقال: إنّ الإنسان إذا جاوز الأربعين سنة نقص في كل يوم إلاّ اليوم الذي يدخل فيه الحمام، وإنّ الحمام عندهم في الصيف أنفع منه في الشتاء، ويكره شرب الماء البارد عند الخروج من الحمام، وحرم رسول الّه صلى الله عليه وسلم دخول الحمام عل النساء، وحرمه على الرجال إلاّ بمئزر فإن دخلت المرأة الحمام ضرورة من علّة أو حيض أو نفاس أو في شتاء فلا بأس، وقد دخلت عائشة رضي اللّه عنها من سقم كان بها ولينه الرجل امرأته وأهله عن دخول الحمام، فإن لم يقبلن لم يحلّ له أن يعطيهن أجرة الحمام، وكان الأمر عليهن، ولا يحل لمسلمة في الحمام أن يليها للخدمة ذمية، فقد نهى عمر وأبو عبيدة رضي اللّه عنهما عن ذلك وأكره للرجل أن يعطي امرأته أجرة الحمام فيكون معيناً لها على الإثم فإن نهاها فخالفته كان الإثم عليها.
الفصل السابع والأربعون
ذكر حكم المتسبب للمعاش
وما يجب على التاجر من شروط العلم
قال اللّه تعالى: (وَجَعَلْنا النَّهَارَ مَعَاشًا) النبأ:11، فذكره فيما عدّد من آياته ونعمته، وقال عزّ وجلّ: (وجَعَلنا لَكُمْ فيها مَعَايِشَ قَليلاً ما تَشْكُرونَ) الأعراف:1،، فجعل المعاش نعمة طالب بالشكر عليها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش، قال صلى الله عليه وسلم: أحلّ ما أكل المرء من كسب يده وكل عمل مبرور، وفي لفظ آخر: أحلّ ما أكل العبد من كسب يد الصانع إذا نصح، وفي الخبر: التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصدّيقين والشهداء.(2/241)
وقد جاء في الحديث: من طلب الدنيا حلالاً وتعفّفاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطّفاً على جاره لقي اللّه عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر، وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات غداة جالسًا مع أصحابه فنظروا إلى شاب ذي جلدة وقوة وقد بكر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل اللّه عزّ وجلّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل اللّه، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل اللّه، وإن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان، وقال ابن مسعود: إني لأمقت الرجل أراه فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر، وكان التاجر أحبّ إليهم من البطالة، وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحبّ إليك أم المتفرغ للعبادة؟ قال: التاجر الصدوق أحب إليّ لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده وقد خالفه الحسن البصري رضي اللّه عنه في هذا، وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما من موطن يأتيني فيه الموت أحبّ إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري في رحلي وقال أيوب قال لي أبو قلابة: إلزم السوق فإن الغني من العافية يعني الغني عن الناس واللّه أعلم والغني الذي يطاع اللّه تعالى به، وكان يقول بعض السلف: اتّجر وبعْ واشترِ ولو برأس المال يجعل لك من البركة مالاً يجعل لصاحب الزرع، وقال ابن محيريز وكان من عباد أهل الشام: ما من طعام أملأ به ما بين جنبي بعد غنيمة في سبيل اللّه من فيء المشركين أقيم بها حق اللّه عزّ وجلّ أحبّ إليّ من طعام تاجر صدوق، قال: وكانوا يعدون الكاسب على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ ويرون فضله على غيره، وروي فيه أثر أنّ اللّه عز وجلّ يحبّ المؤمن المحترف، وفي خبر آخر: أنّ اللّه يحبّ العبد يتخذ المهنة يستغني بها عن الناس.
وحدثني بعض إخواني عن أبي جعفر الفرغاني قال: كنا يوماً عند الجنيد فجرى ذكر ناس يجلسون في المساجد يتشبهون بالصوفية، ويقصرون عمّا يجب عليهم من حق الجلوس، ويعيبون من يدخل السوق، فقال الجنيد: كم ممن هو في السوق حكمه أن يدخل في المسجد فيأخذ بإذن بعض من هو فيه فيخرجه ويجلس مكانه، إني لأعرف رجلاً يدخل السوق وورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثون ألف تسبيحة، قال: فسبق، وهمّي أنه يعني نفسه، فإن كان العبد سوقيًّا فليبدأ فليتعلم علم البيع والشراء والأخذ والعطاء ومعاملة الناس في البيوع ومعرفة أبواب الربا، ليعلم ذلك قبل الوقوع فيه فيجتنب ذلك ويتّقيه، وليغدِ إلى المفتي فيسأله عن علم حاله كل يوم من وجوه معاملته، إن لم يكن قد تقدم علمه بذلك ولم يكن عالمًا به في وقت المعاملة، فليجعل بكوره إلى المفتي قبل غدوه إلى السوق، فإن لكل عمل علمًا، وللّه في كل شيء حكم، فلا يغنيك كبير علم عن علم غيره، فإن لم تفعل ذلك دخل عليك الربا والبيوع الفاسدة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يطوف في الأسواق ويضرب بعض التجار بالدرة ويقول: لا يبيع في سوقنا إلاّ من تفقه وإلاّ أكل الربا شاء أو أبى، ثم لينصرف بعد العلم فيما يدخل فيه فيما أبيح له من تجارة أو صناعة بصدق معاملة وصدق في مبايعة، ناويًا في ذلك إقامة سنّة وأمراً بمعروف، ونهياً عن منكر، وجهادًا في سبيل اللّه، لأنّ من أخذ الحق وأعطاه وعامل بصدق ونصح فهو معاون على البّر والتقوى وفي جهاد العدو والهوى سيما في زمان يكثر فيه الباطل لأنّ صلاح الدين بصلاح الدنيا وفساده بفسادها لتعلق أحدهما بالأخرى وحاجة كل واحد منهما بصاحبه.(2/242)
وفي الخبر: لا يستقيم عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (الَّذينَ آمَنوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئكَ لَهمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأنعام:82، من هؤلاء؟ فقال: من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفّ فرجه وبطنه، ثم ليَنْو المتصرف في معاشه كفّ نفسه عن المسألة والاستغناء عن الناس وقطع الطمع فيهم، والتشرف إليهم، فذلك عبادة إذا نوى نزعه، ثم ليحتسب السعي على نفسه وأطعمة عياله فهو له صدقة وعليه الصدق في القول والنصح في معاملة إخوانه المسلمين لأجل الدين، ويعتقد سلامة الناس منه نصحًا لهم ورحمة بهم ويعمل في ذلك ويكون أبدًا مقدمًا للدين والتقوى في كل شيء، فإن انتظمت دنياه بعد ذلك حمد اللّه وكان ذلك ربحًا ورجحانًا، وإن تكدرت لذلك دنياه وتعذّرت لأجل الدين والتقوى أحواله في أمور الدنيا كان قد أحرز دينه وربحه، وحفظ رأس ماله من تقواه، وسلم له، فهو المعول عليه والحاصل له، إلاّ أنّ من ربح من الدنيا مثل المال وخسر عشر الدين فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله وهو عند اللّه من الخاسرين، وقال بعض السلف: أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل، وكذلك قال معاذ بن جبل: رضي اللّه عنه في وصيته أنه لا بدّ لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنه سيمّر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاماً ويزول معك حيثما زلت.
قد قال اللّه تعالى:(ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص:77، لا تترك نصيبك في الدنيا من الدنيا للآخرة، لأنك من ههنا تكتسب الحسنات فتكون هناك في مقام المحسنين، ففي الخطاب مضمر لدليل الكلام عليه في قوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللّه إليْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ في الأرضِ) القصص:77، وقد قال بعض العلماء: من دخل السوق ليشتري ويبيع فكان درهمه أحبّ إليه من درهم أخيه لم ينصح المسلمين في المعاملة، وقال عالم آخر: مَنْ باع أخاه شيئًا بدرهم وهو يصلح له بخمسة دوانيق فإنه لم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه حتى لا يبيع أخاه شيئاً بدرهم إلاّ وهو يصلح له اشتراؤه به، فينبغي لهذا المتصرف أن يستوي في قلبه درهمه ودرهم أخيه ورحله ورحل أخيه، ليعدل فيما يبيعه أو يشتري منه سواء بسواء، ويكون مراعيًا لموافقة حكم اللّه تعالى الذي ورد به الشرع في الشراء والبيع، مراعياً للسبب الذي يصل به الدرهم أن يكون السبب معروفاً في العلم، مباحاً في الحكم، فيكون متورّعاً في عين الدرهم المعتاض، لا يكون من خيانة أو سرقة أو فساد أو غصب أو غيلة أو حيلة، فهذه وجوه الحرام التي تحرم بها المكاسب المباحة، فإذا كان متجنباً لهذه المعاني لم يشهد أحدها بعينه أو لم يعلمه من عدل فكسبه حينئذ من شبهة، ولا يكون مع ذلك حلالاً لإمكان دخول أمر هذه الأسباب فيه، ولأنه على غير يقين معاينة منه لصحة أصله وأصل أصله لقلّة المتقين وذهاب الورعين إلاّ أنه شبهة الحلال.(2/243)
وفي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلبن فقال: من أين لكم هذا؟ فقيل له: من شاة كذا، فقال: ومن أين لكم هذه الشاة؟ فقيل: من وضع كذا، فشرب منه ثم قال: إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلاّ طيّباً ولا نعمل إلاّ صالحاً، وقال اللّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طيِّبَاتِ ما رَزَقْناكُمْ) البقرة:172، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الشيء وأصل أصله ولم يسأل عمّا وراء ذلك، لأنه قد يتعذر ولا يوقف على حقيقته، ولأنّ أموال التجار والصناع قد اختلطت بأموال الأجناد، وهم يأخذون ذلك بغير استحاق، فكأنه من أكل المال بالباطل إذ قد أوقفوا نفوسهم، وارتبطوا دوابهم في سبيل الهوى، فصاروا يأخذون العطاء بغير حق، ولا يملكون ذلك، ثم ينتشر ذلك في أموال التجار واصناع وهم لا يميزون بين ذلك ولا يرغبون عنه لقلة التقوى وعدم الورع، فلذلك غلب الحرام لأنّ الحلال إنما هو فرع للتقوى والورع، إذا كثر المتّقون وظهر الورعون كثر الحلال وظهر، وإذا قلّوا فشاء الحرام وانتشر فصار الحلال مستهلكاً غامضاً في الحرام لغربة الورعين وخفية المتّقين، وإنما كان الحلال في القرن الأول موجوداً لوجود السلف الصالح، وكان الناس ورعين وكانوا لا يأخذون ما ليس لهم بحق فكانوا متّقين وكانوا يتركون بعض حقّهم خشية دخول الشبهة عليهم، فمن أجل ذلك كان الحلال كثيراً، وقد حكى عن بعض فقهاء العراق أعرف أنه قال: لا أقبل شهادة شحيح، قيل: ولِمَ؟ قال: الشحّ يحمله على استيفاء حقّه، وفي استيفاء حقّه أخذه ما ليس له، ثم قال: حدثني عطاء عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أته قال: ما استقصى كريم قط، وتلا قوله عزّ وجلّ: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَنْ بعْضِ) التحريم:3، وفي الخبر: كما نترك سبعين باباً من الحلال مخافة باب واحد من الحرام، وقال الحسن: أدركت من مضي يعرض على أحدهم المال الحلال فيقول: لا حاجة لي به، أخاف أن يفسد على قلبي، قد كانت الأئمة عدولاً فكانت الجنود معاونين لهم على التقوى يأخذون عطاءهم بحق.
وفي الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ذكر الخيل: اختصرناه، قال: والخيل لرجل وزر، وهو الذي يربطها فخراً ورياء وسمعة ونواء على الإسلام، فما أكلت وشربت في أجوافها حتى أبوالها وأرواثها وآثارها أوزار في ميزانه يوم القيامة، وقد قال اللّه تعالى: (احْشُروا الَّذينَ ظَلَمُوا وأَزْواجَهُمْ) الصافات:22، يعني وأشباههم وأعوانهم، فقال الثوري رحمه اللّه: يقال يوم القيامة ليقم ولاة السوء وأعوانهم، قال: فمن لاق لهم دواة أو بَرى لهم قلماً أو حمل لهم لبداً أو أعانهم على أمر فهو معهم، وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال: إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط، وكان بعض العلماء قد جلس في ديوان بعض الأمراء فكتب الأمير كتاباً فقال: ناولني الطين أختم به الكتاب، فامتنع فقال: ناولني الكتاب الذي كتبته حتى أنظر فيه، فلم يناوله، وفعل مثل ذلك سفيان الثوري مع المهدي فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري فقال له: يا أبا عبد اللّه أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم، وكان بمكة أمير قد أمر رجلاً أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور قال: فوقع في نفسي من ذلك شيء، فسألت سفيان عن ذلك فقال: لا تفعلنّ ولا تكنّ عوناً لهم على قليل ولا كثير، فقلت: يا أبا عبد اللّه سور في سبيل اللّه تعالى للمسلمين فقال: نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحبّ بقاءهم ليوفونك أجرتك، فتكون قد أحببت من بغض اللّه عزّ وجلّ، وقد جاء في الخبر: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يعصي اللّه عزّ وجلّ.(2/244)
وفي الحديث: أنّ اللّه ليغضب إذا مدح الفاسق، وفي خبر آخر: من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام، وليجتنب هذا السوقي البيوع الفاسدة مثل بيع الغرر والخطر والمجهول، ومثل بيعتين في بيعة، أحدهما مصارفة أو مشارطة، ولا يبيع ما ليس عنده ولا ما اشتراه حتى يقبضه، ولا يبيع الدين بالدين ولا يتبايعان الثمار حتى يبدو صلاحها ويؤمن عليها العاهة، ومن النخيل حتى تحمّر أو تصفرّ، ومن العنب حتى يلين أو يسود، ونهى، رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو أن يعطي بسلعة شيئاً وهو لا يريد أن يشتريها بشئ ليغرّ غيره بها، ولا يبتاع شيئاً من ذهب وخرز مثل القلادة ونحوها حتى يفصل كل واحد على حدته، كذلك السنّة، ولا يتبايعان ما لم يظهر من الحيوان والثمار، ويجتنب القبالات مسانهة إلاّ شهراً بشهر أو سنة، فقد كره ذلك، وليتوقّ كل بيع وشراء أخبر العلم ببطلانه من دخول ربا فيه أو خروج من حكم العلم به، فإن ذلك كله منقصة للدين، مخبثة للكسب، فإن أشكل عليه شيء من هده الأمور لخفائها سأل أهل العلم والفتيا فيأخذ عنهم على مذهب الورعين ورأي المتّقين، وليحتط لدينه، ولينظر لنفسه ولا يغمض في أمر آخرته، فذلك خير له وأحسن توفيقاً، وليجتنب الصنائع المحدثة من غير المعروفة والمعايش المتبدعة في زماننا هذا، فإن ذلك بدعة ومكروه إذا لم يكن فيما مضى من السلف، وكلما كان سبباً للمعصية من آلة وأداة فهو معصية، فلا يصنعه ولا يبيعه، فإنه من المعاونة على الإثم والعدوان، وكلما أخذ من المال على عمل بدعة أو منكر فهو بدعة ومنكر، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته، وأخذ المال على جميع ذلك من أكل المال بالباطل، ومن أكل الحرام فقد قتل نفسه وقتل أخاه لأنه أطمعه إياه، قال اللّه تعالى: (ولا تأكُلُوا أَمْوالُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ) البقرة:188، وقال تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) النساء:29، وليس هذا من سبيل المؤمنين، وقد قال اللّه تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلّهِ ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّّمَ) النساء:115، ولا ينبغي للسوقي أن يشغله معاش الدنيا عن الآخرة، ولا تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة، ولا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، لأنه من الموقنين، وبيوت اللّه عزّ وجلّ في الأرض هي أسواق للآخرة، قال اللّه عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ) النور:37، وقال اللّه عزّ وجلّ: (في بُيُوتٍ أذِنَ اللّه أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّح لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ) النور:36، رجال، فليجعل العبد طرفي النهار لخدمة سيده يذكره ويسبحه في بيته بحسن معاملته.
وقد كان عمر رضي اللّه عنه يأمر التجار فيقول: اجعلوا أول نهاركم للّه عزّ وجلّ وما سوى ذلك لنفوسكم، وفي أخبار السلف كانوا يجعلون أول النهار للآخرة وآخره لدنياهم، ويقال: إنّ الهريسة والرؤوس لم يكن يبيعها في الشتاء إلاّ الصبيان وأهل الذمة لأن الهراسين والرآسين يكونون في المساجد إلى طلوع الشمس، ويقال إنهم: كانوا يجتمعون في المساجد بعد العصر للذكر والتسبيح حتى يدخل الرجل فيقول: أصلّيتم العصر؟ يظن أنهم قعود للصلاة، وإنما كانوا يقعدون للتسبيح إلى غروب الشمس وهذا طريق قد درس، فمن عمل به فقد كشفه، وقال بعض العارفين: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الناجين، ورجل شغله معاشه عن معاده فهو حال الهالكين، وقال عالم فوقه: من أحبّ اللّه عاش ومن أحبّ الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، وكان ابن عمر رضي اللّه عنه إذا دخل السوق يقول: اللهم إني أعود بك من الكفر والفسوق ومن شرّ ما أحاطت به السوق، اللّهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة، ولذكر اللّه عزّ وجلّ في السوق ما لا يجد في سواه فيلعتمد ذكر اللّه تعالى ساعات الغفلة وحين تزاحم الناس في البيع والشراء، وكان الحسن يقول ذاكراً للّه في السوق: يجيء يوم القيامة وله ضوء كضوء القمر وبرهان كبرهان الشمس ومن استغفر الله في السوق غفر له بعدد أهله.(2/245)
وفي الخبر العام: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل عن الفارين وكالحي بين الأموات، وفي الخبر الخاص: من دخل السوق فقال: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفي ألف حسنة، وكان ابن عمر ومحمد بن واسع رضي اللّه عنهم، يدخلان السوق قاصدين يذكران اللّه عزّ وجلّ طلباً للفضيلة، وفإن دخلت سوقاً أو كنت فيه فلا يفوتنّك التهليل والذكر فهو عمل وقتك، ولا تقعدن في السوق لغير ذكر اللّه أو غير معاش، فقد كره ذلك، وإذا سمعت التأذين للصلاة فلتأخذ في أمر الصلاة ولا تؤخرها عن الجماعة وإلاّ كان فاسقاً عند بعض العلماء، إلاّ أن يكون في الوقت سعة أو يكون ناوياً للصلاة في جماعة أخرى في مسجد آخر، فإدراكه لتكبيرة الإحرام في الجماعة أحبّ إليه من جميع ما يربح من الدنيا إلى أنْ يموت، وفوتها أشدّ عليه من جميع ما يخسر من الدنيا، هذا إن عقل وأبصر تبينّ له ذلك، وقد كان السلف من أهل الأسواق إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد يركعون إلى وقت الإقامة، وكانت الأسواق تخلو من التجار، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد، وهذه سنّة قد عفت من عمل بها فقد نعشها، وجاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزّكاةِ) النور:36، قيل: كانوا حدادين وخرازين وكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الأشفا فسمع الأذان لم يخرج الأشفا من الغرزة ولم يرفع المطرقة رمى بها وقاموا إلى الصلاة.
وروينا عن وهب قال: قال مالك رضي اللّه عنه في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة: يفسخ ذلك البيع، قيل: عامل ترك القيام إليها وهو حر: قال: يستغفر ربه، وقال ربيعة: ظلم وأساء وقال مالك: يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة، وليجتنب الصانع عمل الزخرف من الأشياء وما يكون فيه لهو وزينة من التصاوير والنقوش وتخريم العاج ودقائق النقوش من العاج وتشييد الجص والتزويق بالأصباغ المشهاة، فإن عمل ذلك مكروه وأخذ الأجرة عليه شبهة، وقد كان بعض السلف يقول: تخيّروا لأولادكم الصنائع، وروي عن حذيفة: أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق كل صانع وصنعته، وقد كانوا يكرهون بيع الطعام وبيع الدقيق، وقد روي في كراهة بيعها حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر: أنّ اللّه عزّ وجلّ يحب العبد الحاذق في صنعته، وفي خبر آخر: أنّ اللّه عزّ وجلّ إذا عمل عبده عملاً أحبّ أنْ يحكمه، وفي لفظ آخر: أن يتقنه، وأوصى بعض العارفين رجلاً فقال: لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين، بيع الطعام وبيع الأكفان، فإنما يتمنى الغلاء ويتمنى موت الناس، والصنعتان أن يكون جزاراً فإنها صنعة تقسي القلب، أو صوّاغاً فإنه يزخرف الدنيا بالفضة والذهب.
وروى عثمان الشحام عن ابن سيرين أنه كره الدلالة، وسعيد عن قتادة أنه كره أجر الدلال، وكانت العرب تقول: بعْ الحيوان واشترِ الموتان كأنهم كرهوا ردّ الثمن في الحيوان لما يخافون من تفله واستحبوا شراء الموات وهو ما لا روح فيه، وقد كانوا يستحبون التجارة في البز، قال ابن المسيب: ما من تجارة أحبّ إليّ من البزاز إن لم يكن فيه إيمان، وقد روي خبراً آخر: لو اتّجر أهل الجنة لاتّجروا في البزّ، ولو اتّجر أهل النار لاتّجروا في الصرف، وقد كره الحسن وابن سيرين رضي اللّه عنهما التجارة في الصرف، وسئل الحسن عن الصيرفي فقال: الفاسق لا تستظلنّ بظله ولا تصلّين خلفه، والبستاني والحمّال والملاح وصاحب الحمام والخشاش والمزين وقد كانت هذه الصنائع العشر أعمال الأخيار والأبرار الخرز والتجارة والحمل والخياطة والحذو والقصارة وعمل الخفاف وعمل الحديد وعمل المغازل وصيد البر والبحر والوراقة.(2/246)
وحدثونا عن عبد الوهاب الورّاق قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما صنعتك؟ فقلت: ورّاق، فقال: كسبك طيب وصنعتك طيبة ولو كنت صانعاً شيئاً بيدي لصنعت صنعتك، وقال لي: لا تكتب إلاّ مواصفة واستثن الحواش وظهور الأجزاء، وكان مالك بن دينار ورّاقاً وكان السلف يستطيعون كسبه وبفضلونه، وكل عمل يتقربّ به إلى اللّه عزّ وجلّ ويكون من أعمال الآخرة ومن البرّ المعروف، فأخذ الأجر مكروه عليه مثل تعليم القرآن، وتعليم العلم، أو مجالس الذكر والصلاة بالناس في رمضان، وغسل الموتى، وما كان في هذا المعنى، لأن هذه تجارات الآخرة، فلا تأخذ أجرها إلاّ من الآخرة، ومن أخذها من الدنيا فقد خسر خسراناً مبيناً إذا ربح المحتسبون فيها وأخذوا أجورهم التي صبروا عليها في دار الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: واتّخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً.
ورووي عنه في فضل الاحتكار: من جلب طعاماً ما فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به، وفي لفظ، آخر: فكأنما أعتق رقبة، ومن العلماء من كان يجعل الاحتكار في كل مأكول من الحبوب والأدام مثل العدس والباقلا والسمن والعسل والشيرج والجبن والتمر والزيت، ويكره احتكار جميع ذلك، وروي نحو هذا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بإلحَاد بِطُلْم نُذِقْهُ منْ عَذابِ أليمٍ) الحج:25، قيل: الاحتكار من الظلم، وحدثونا عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: مع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، قال: فوافق السعر فيه سعة، قال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي.
وحدث شيخنا عابد الشط مظفر بن سهل قال: سمعت غيلان الخياط يقول: اشترى سري السقطي كرّ لوز بستين ديناراً وكتب في رونامجه ثلاثة دنانير ربحه، فصار اللوز بتسعين ديناراً، فأتاه الدلاّل فقال له: إنّ ذلك اللوز أريده، فقال: خذه، فقال: بكم؟ قال: بثلاثة وستين ديناراً، قال له الدلاّل: إنّ اللوز قد صار الكرّ بسبعين ديناراً، قال له السري: قد عقدت بيني وبين اللّه عقداً لا أحله لست أبيعه إلاّ بثلاث وستين ديناراً، قال له الدلاّل: وأنا قد عقدت بيني وبين اللّه عقداً لا أحله، أن لا أغشّ مسلماً، لست آخذ منك إلاّ بسبعين ديناراً، قال: فلا الدلاّل اشترى منه ولا سري باعه، وحدثونا عن رجل من التابعين كان بالبصرة له غلام بالسوس فجهز إليه السكر فكتب إليه الغلام: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة فاشتر السكر قال: فاشترى سكّراً كثيراً، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً، قال: فانصرف بها إلى منزله فأفكر ليله في الربح فقال: ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى الرجل الذي كان اشترى منه السكر فدفع إليه الثلاثين ألفاً فقال: هذه لك بارك اللّه لك فيها، قال: ومن أين صارت؟ قال: لما اشتريت منك؛ السكر لم آتِ الأمر من وجهه، إنّ غلامي قد كان كتب إليّ أنّ قصب السكّر أصابته آفة فلم أعلمك ذلك ولعلك لو علمت لم تكن تبيعني، فقال: رحمك اللّه قد أعلمتني الآن، وقد طيبتها لك، قال:فرجع إلى منزله فبات تلك الليلة ساهراً أو جعل يتفكر في ذلك ويقول: لم آتِ الأمر من وجهه ولم أنصح مسلماً في بيعه لعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد فقال:عافاك اللّه خذ مالك فهو أصلح لقلبي،قال: فدفع إليه ثلاثين ألفاً، وقال سليمان التميمي: لقد ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم من شيء حاك في صدره، لم تختلف العلماء أن ليس به بأس.(2/247)
ويقال: إنّ هذا كان سبب غلبة الدين عليه، ثم ليتّق البائع مدح السلعة وتنفيقها من خرف الكلام وليحذر المشتري ذمها وعيبها بما ليس فيها للخداع، وأما الإيمان على ذلك فهو معصية وممحقة للكسب، وقد كان السلف يشددون في ذلك، قال أبو ذر: كنا نتحدث أنّ من نفر لا ينظر اللّه إليهم، التاجر الفاجر، وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها، قال يونس بن عبيد: وكان خزازاً فجاءه رجل يطلب ثوب خز، فأمر غلامه أن يخرج رزمة الخز، فلما فتحها قال الغلام: أسأل الله الجنة، فقال شدّ الرزمة، ولم يبع منها شيئاً خشية أن يكون قد مدح، ويقال: إنه كانت عنده حلل على ضربين أثمان ضرب منها أربعمائة كل حلة، وأثمان الآخر مائتان، فذهب إلى الصلاة وخلف ابن أخيه ليبيع فجاءه أعرابي يطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها منه ومشى بها هي على يده ينظر إليها خارجاً من السوق فاستقبله يونس بن عبيد خارجاً من المسجد فعرف حلته فقال بكم أخذت هذه الحلة؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تسوي إنما قيمتها مائتان فقال: يا ذا الرجل إنّ هذه تساوي ببلدنا خمسمائة درهم، فقال له يونس: إنّ النصح في الدين خير من الدنيا كلها ثم أخذ بيده فرده إلى ابن أخيه فجعل يخاصمه ويقول: أما اتقيت اللّه؟ أما أستحيت أن تربح مثل الثمن وتترك النصح لعامة المسلمين؟ فقال: واللّه ما أخذه إلاّ عن تراضي، فقال: وإن رضي ألا رضيت له ما رضيت لنفسك، ثم ردّ على الأعرابي مائتي درهم، وقد فعل مثل ذلك محمد بن المنكدر وكانت عنده شقاق جنابية وبصرية أثمان بعضها خمسة خمسة، وأثمان بعضها عشرة عشرة، فخلفه غلامه في الحانوت فغلط فباع أعرابيّاً شقة من الخمسات بعشرة، فجاء ابن المنكدر فتفقد الشقاق فعرف غلطه فقال: ويلك أهلكتنا، اذهب فاطلب الأعرابي في الأسواق، فلم يزل يطلبه يومه أجمع حتى وجده، فقال له ابن المنكدر: يا هذا إنّ الغلام غلط فباعك ما يسوى خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت لنفسك فإنّا لا نرضى لك إلاّ ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال، إما أن تأخذ شقة من العشرات بدراهك وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد علينا شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، قال: فأعطاه من دراهمه خمسة فانصرف الأعرابي فجعل يسأل عنه فيقول: من هذا الشيخ؟ فقيل: هذا محمد بن المنكدر فقال: لا إلّ إلاّ اللّه هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا.
وقد سئل بعض العلماء عن الورع في المبايعة فقال: لا يصحّ الورع في البيع إلاّ بحقيقة النصح، قال: وكيف ذلك؟ قال: إذا بعته شيئاً بدرهم نظرت فإن صلح لك أن تشتريه بدرهم فقد نصحته في البيع، وإن كان يصلح لك بخمسة دوانيق وقد بعته بدرهم فإنك إن لم ترضَ له ما ترضى لنفسك فقد ذهب النصح قال: فإذا عدم النصح ذهب الورع.
ويقال: إنَّ البائع يوقف يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئاً وقفة ويحاسب عن كل واحد محاسبة حتى عدد مَنْ عامله ومَنْ اشترى منه في الدنيا، وذكر بعضهم قال: رأيت بعض التجار في النوم فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فقال: نشر عليّ خمسين ألف صحيفة، فقلت: هذه كلّها ذنوب، فقال: هذه معاملات الناس عدد ما كنت عاملته في الدنيا لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بينك وبينه من أول معاملته إلى آخرها، فإن كان البائع ذا ميزان فليرجح في الوزن إذا باع وأعطاه ولينقص نفسه إذا أخذ سيما إذا كان ذا ميزانين كان الأمر عليه أشد.
وكان بعضهم يقول: ألا أشتري الويل من الله بحبة؟ فكان إذا أخذ نقص نفسه بحبة وإذا أعطى زاد غيره حبة، لقوله عزّ وجلّ: (وَيْلٌ للمُطَفِّفينَ) المطففين:1، يعني الذين رضوا بالتطفيف بالحبة والحبتين فباعوا بذلك جنة عرضها السموات والأرض لجهلهم بأمر اللّه تعالى وقلة يقينهم بالآخرة إذا اشتروا الويل بطوبى، ويقال: إنّ هذه المظالم لا ترد أبداً ولا تصحّ التوبة منها لتعذر معرفة أصحابها.(2/248)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى شيئاً فلما وزن ثمنه قال للوزان: زن وأرجح، ونظر الفضيل بن عياض رحمه اللّه إلى ابنه عليّ وهو يغسل كحلاً من دينار أراد أن يصرفه فجعل ينقيه ويغسله من كحله، فقال له: يا بني فعلك هذا أفضل من عشرين حجة، وقال بعض أهل السلف: عجباً للتاجر والبائع كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل، وقال سليمان عليه السلام: كما تدخل الحية بين الحجرين كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين.
وحدثت أنّ بعض السلف صلّى على مخنث قد كان يجمع بين النساء والرجال وغير ذلك، فقيل له: إنه قد كان فاسقاً وكان كذا وكذا، فسكت، فأعاد عليه القائل فسكت، قال فمه كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يأخذ بأحدهما ويعطي بالأخرى، هذا على التغليظ والوعظ، أراد أنّ التطفيف مظالم بين الخلق وأنّ الفسق ظلم العبد لنفسه وبين مظالم العباد وظلم العبد لنفسه بون كبير من قبل أنّ الخلق فقراء جهلة نيام فيستوفون حقوقهم لحاجتهم إليها واللّه عزّ وجلّ عالم كريم غني فيسمح بحقه، ولا ينبغي للمشتري أن يسأل البائع الرجحان إلاّ الله عزّ وجلّ قال: (وَأَقيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ) الرحمن:9، أي بالعدل، وهو السواء، وهو استواء اللسان في البكرة لا مائلاً إلى إحدى الكفتين،وفي قراءة عبد اللّه: ولا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط باللسان ولا تخسروا الميزان فهذا مفسر في هذا الحرف ومكروه المعاملة بالمزيفة، ولا يصلح بدرهم تكون الفضة فيه مجهولة أو مستهلكة ولا بما لا تعرف قيمته وما يختلط بالفضة من غيرها فلا تمتاز منه، فقد كان بعض السلف يشدد في ذلك ويحرمه منهم الثوري والفضيل بن عياض ووهب ابن الورد وابن المبارك وبشر بن الحارث والمعافى بن عمران رضي اللّه عنهم، ويقال: إنّ كل قطعة من المزيفة ينفقها صاحبها يجدها ملصقة في صحيفته بعينها وصورتها مكتوب تحتها ألف سيّئة، خمسة آلاف سّيئة على قدر وزنها، ووزن ذرة منها سيّئة، والذرة نقطة من هباء شعاع الشمس في الضوء.
حدثني بعض العلماء عن بعض الغزاة في سبيل اللّه عزّ وجلّ قال: حملت على فرسي لأتناول بعض العلوج فقصر فرسي فرجعت، ثم دنا مني العلج فحملت عليه ثانية لأتناوله فقصر فرسي، وحملت عليه ثالثة وقد قرب مني فنقر بي فرسي، ولم أكن أعتاد ذلك منه: فرجعت حزيناً، فجلست إلى جنب فسطاطي منكراً للذي فاتني من أخذ العلج، ولما اختلف عليّ من خلق فرسي قال: فوضعت رأسي على عمود الفسطاط فنمت وفرسي قائم بين يدي، فرأيت في النوم كأنّ الفرس يخاطبني ويقول لي: باللّه عليك أردت أن تأخذ عليّ العلج ثلاث مرات، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً؟ لا يكون هذا أبداً، قال: فانتبهت فزعاً فذهبت إلى العلاّف فقلت له: أخرج إليّ الدراهم التي اشتريت بها منك بالأمس العلف، قال: فأخرجها إليّ،فأخذت منها الدرهم الزائف فقلت: إني كنت قد جوزت عليك هذا الدرهم بالأمس، قال: فأبدلته له وانصرفت، وقال عبد الوهاب: سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال: سألت المعافى عنها فقال سألت الثوري عنها فقال حرام.(2/249)
وحدثنا عن أبي داود قال: سمعت أحمد أنكر التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة، وقد كان بعض علمائنا يقول: إنفاق درهم مزيف أشد من سرقة مائة درهم، قال: لأن سرقة مائة درهم معصية واحدة منقضية، وإنفاق دانق مزيف بدعة أحدثها في الدين، وإظهار سنّة سيّئة يعمل بها بعده، وإفساد لمال المسلمين، فيكون عليه وزره إلى مائة سنة، فأكثر ما بقي ذلك الدرهم يدور في أيدي المسلمين ويكون عليه، ثم أفسد ونقص من أموال المسلمين إلى آخر فنائه وانقراضه، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه بعده مائة سنة ومائتي سنة يعذّب بها في قبره، ويسأل عنها إلى آخر انقراضها، قال اللّه عزّ وجلّ: (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُم) يس:12، ما قدموا ما عملوا، وآثارهم ما سنّوه بعدهم فعمل به وقال في وصفه: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر، قيل: بما قدم من عمل وما أخّر من سنّة عمل بها بعده، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من سنّ سنّة سيّئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها، ومثل وزر من علم بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً، وإنفاق الدرهم الرديء على من يعرف النقد أشد وأعلظ، وهو على من لا يعرف أسهل، فيكون به أعذر لأن هذا لا يتعمد الغش والآخر يتعمده ويقصده، فإنما كان المسلمون يتعلمون جودة النقد لأجل إخوانهم المسلمين لئلا يغشوهم بالرديء، وإلاّ فإنّ تعلّم النقد بلاء وإثم على صاحبه لأنّه علم علمه ولم يعلمبه، فهو يسأل عن علمه، ومن ردّت عليه قطعة فلينفقها ولا يجوزها على بيع آخر، ويحتسب بذلك الثواب من اللّه عزّ وجلّ، فله بذلك من الأجر بوزن كل ذرة منها حسنة، وله في طرحها أعمال كثيرة من الصوم والصلاة، فإن كان في القطعة تجوّز نقد ينصرف مثلها فأراد أن يشتري بها شيئاً فليعلم البائع الثاني أنها قد ردّت عليه، فإن أخذها على بصيرة وعن سماحة فلا بأس، فإن لم يعلمه فإنه لم ينصحه وربما كان على غير بصيرة بالنقد، فقد روي عن عمر رضي اللّه عنه: من زافت عليه دراهمه فليضعها في كفه ولينادِ عليها في السوق من يبيعها سحق ثوب بدرهم زائف، وهذا إذا كانت زائفة على وجهها كالصفر والرصاص كان لها قيمة مثلها، وفي قول ابن عمر رضي الله عنه لنافع: لو حفظت عني كما يحفظ عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهم لكان أحبّ إليّ من أن يكون لي درهم زائف، قيل له: أفلا جعلته جيداً؟ قال: كذلك كان في نفسي.(2/250)
وروينا عن النخعي: إذا كان في الدرهم شيء من الفضة وإن قلّ فلا بأس به، وحدثت عن أبي داود قال: سألت إسحاق بن راهويه رحمهما اللّه عن إنفاق المزيفة قال: فلا بأس به، ففيه ترخيص بالإنفاق بالزائف إذا عرف ومن سمح في النقد، ويجوز في أخذ الرديء طلباً للآجر، فيما يحتسب، ثم إذا أخرج ذلك على المسلمين وجوزه عليهم بعد ذلك فقد أثم في سماحته وتشديده حينئذ، ونقصه في أخذ الجيد أفضل، وهذا من دقائق الأعمال وباطن الشر في ظاهر الخير، اللّهم إلاّ أن يأخذ الرديء ثم يلقيه ولا يخرجه إلى أحد، فإن فعل هذا كان فاضلاً محتسباً محسناً في سماحته وله باحتسابه ذلك مثوبة وأجر، فينبغي للتاجر أن يكثر من الصدقة ليكون فيها كفّارة خطاياه وإيمانه وكذبه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم التاجر بالصدقة، لذلك فينبغي للتاجر والصانع أن يكونا مستعملين لهذه الخصال، فإنها جامعة له تشتمل على جمل أعمال البرّ، فليأخذوا أنفسهم بها فإنها من أخلاق المؤمنين وطرائق المتقدمين، وقد ندبوا إلى جميعها، منها أن يسمح إذا باع، ويسمح إذا اشترى، ويحسن إذا، قضى، ويحسن إذا اقتضى، وليمشِ الرجل بدين غريمه إليه ولا يحوجه إلى اقتضائه فيشق عليه، وليصبر صاحب الدين على أخيه ويحسن تقاضيه، ويحسن له النظرة ويؤخر حقه إلى ميسرته، وليغتنم دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك فينافسوا في مدحه لمن فعل ذلك، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إسمح يسمح لك، وقال: خير الناس أحسنهم قضاء، وقال: خذ حقك في عفاف وافياً كان أو غير وافٍ يحاسبك اللّه حساباً يسيراً، وقال: رحم اللّه عبداً سمح البيع سمح الشراء حسن القضاء حسن الاقتضاء، وقال: من مشى إلى غريمه بحقه أظلته الملائكة، وقال: من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه اللّه حساباً يسيراً، وفي خبر آخر: أظله اللّه في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر عليه السلام رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يجد له حسنة فقيل له: هل عملت خيراً قط؟ فقال: لا، إلاّ إني كنت رجلاً أداين الناس وأقول لغلماني سامحوا الموسر وانظروا المعسر، وفي لفظ آخر: وتجاوزوا عن المعسر، قال اللّه عزّ وجلّ: (نحن أحق بذلك منك فغفر له) وفي خبر آخر: من أقرض ديناً إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله فإذا حلّ الأجل فانظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة، وفي حديث: من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكّل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه، وكان جماعة من السلف يدانون وهم واجدون لأجل هذا الخبر، وكان جماعة لا يحبون أن يقضيهم غرماؤهم دينهم لأجل ذلك الخبر الأوّل إذ له بكل يوم تأخر قضاء صدقة.(2/251)
وفي الحديث: رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، قيل: معناه لأن الصدقة تقع في يد محتاج وغيره، والقرض لا يقع إلاّ في يد محتاج مضطر إليه، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلاً بدين عليه فأومأ إلى صاحب الدين بيده: ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: قم فأعطِ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أدان ديناً إلى أجل فجاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يتفق عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الرجل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويشدد عليه الكلام فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واستحبّ أن تكون أكثر معاونة الإنسان بين البائعتين مع المشتري منهم، واستحب أيضاً أن يكون عونه بين المتداينين مع الذي له الدين، إلاّ أن يعتدي من له الدين أو يعتدي المشتري فيكون حينئذ على المشتري، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: المستبان بالسّئة ربا والمستبان ما قالا، فعلى المعتدي منهما ما لم يعتد المظلوم، ويسير المغابنة في التجارات جائز، فإن موضوع التجارة على الغبن إذا كان عن تراضٍ، فإذا تفاوتت القيمة وعلم الغبن فمكروه، وقد يروى في حديث أنّ غبن المستغفل حرام، وفي حديث: فيه مقال المغبون لا محمود ولا مأجور، هذا واللّه أعلم إذا تغابن وهو يعلم فيخسر نفسه حقّه وحمل غيره على ظلمه، وكان إياس بن معاوية قاضي البصرة من علماء الزمان ومن عقلاء التابعين وكانت لأبيه صحبة كان يقول: لست بخب والخب لا يغبن يعني محمد بن سيرين، ولكن يغبن الحسين ومعاوية بن قرة، وكان الزبير بن عديّ يقول: أدركت ثمانية عشر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يحسن يشتري لحماً بدرهم.(2/252)
وقد روي أنّ الحسن باع بغلاً له بأربعمائة درهم، فلما استوجب المال قال له المشتري: اسمح يا أبا سعيد، قال: قد أسقطت عنك مائة قال له المشتري: فأحسن يا أبا سعيد، قال: قد وهبت له مائة أخرى فنقص من حقه مائتي درهم، وفي رواية أخرى قال: أحسن، قال: وهبت لك مائتي درهم، فقيل له: يا أبا سعيد هذا نصف الثمن، فقال: هكذا يكون الإحسان وإلاّ فلا، وقد كان الحسن والحسين رضي اللّه عنهما وغيرهما من خيا رالسلف يستقصون في الاشتراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم: تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي، فقال قائلهم: إنّ الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله، وقال آخر: إنما أغبن وبصيرتي، أو قال: معرفتي، ولا أمكن الغابن من ذلك، وإذا وهبت فإنما أعطى للّه عزّ وجلّ فلا استكثر له شيئاً والأخبار في هذه المعاني تكثر والفضائل فيها تطول، ولم نقصد جمع ذلك، فقد ذكرنا جملة وهذا كله داخل في البرّ والتقوى ومن العدل والإحسان، ومن تطوع الخير وفعل المعروف فقد أمر اللّه بذلك في مواضع من كتابه، وينبغي أن يستعمل النصح في البيع والشراء وفي الصنعة ويستوي عملهما في المبيع والمشترى والمصنوع ويفطن كل واحد منهما صاحبه بعيب إن كان في السلعة وينقص إن كان في الصنعةإن لم يفطن المشتري لذلك والمستعمل ليتكافأ العلمان ويثني كل واحد منهما على صاحبه بإحسان، وفي الخبر: البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما وإذا كذبا وكتما أنزعت بيعهما، وفي حديث آخر: يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، فإذا تخاونا رفع يده عنهما، ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم جريراً، على الإسلام ذهب لينصرف جذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم، قال: فكان جرير إذا أقام السلعة ليبيعها بصر عيوبها ثم أخبر: فقال: إنّ شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقلنا له: رحمك اللّه، إنك إذا قلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنما بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على النصيحة لأهل الإسلام، وكان واثلة بن الأسقع واقفاً بالناس في الكوفة فباع رجل ناقة بثلاثمائة درهم وغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة فسعى وراءه وجعل يصوت به حتى رجع، وقال: يا هذا أَللحم اشتريت هذه الناقة أمْ للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: فإن بحقها نقناً قد رأيته وإنها لا تتابع السير عليه، قال: فردّها، فنقصه البائع مائة درهم، فقال لواثلة: رحمك اللّه أفسدت عليّ بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لأحد يبيع شيئاً إلاّ يبين ما فيه ولايحلّ لمن يعلم ذلك إلاّ يبينه، فانظر رحمك اللّه إلى النصح للمسلمين الذي يتعذر فعله علي كثير من المسلمين، إنما جعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من شرط صحة الإسلام وكان يبايع عليه، إلاّ إنه جعله من فضائل الدين، ولا نهاية لقرب المتّقين، لأنه قال: الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثاً، ثم سوّى بين طبقات الناس فيه فقال للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم.
وقد روي في خبر مشهور: لا تزال لا إله إلاّ اللّه تدفع عن الخلق سخط اللّه ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم، وفي خبر آخر: ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم بسلامة دينهم، فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلاّ اللّه، قال اللّه سبحانه: كذبتم لستم بها صادقين وفي لفظ آخر:ردّت إليهم، في خبر: كأنه مفسر لحديث مجمل: من قال لا إله إلاّ اللهه مخلصاً دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحرزه عمّا يحرم اللّه، وخبر مشهور: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، وقد روينا عن بعض التابعين: لو دخلت هذا الجامع وهو غاص بأهله فقيل له: من خير هؤلاء؟ لقلت: نصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت: هو شرهم، والغش في البيوع والصنائع محرم على المسلمين، ومن كثر ذلك منه فهو فاسق، ومن الغش أن ينشر على المشتري أجود الطرفين من المبيع، أو يظهر من المبيع أجود الثوبين، أو يكشف من الصنعة أحسن الوجهين، روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يبيع طعاماً فأعجبه ظاهره فأدخل يده فرأى بللاً فقال: ما هذا ؟ فقال: أصابته السماء، فقال: هلاّ جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس مني.(2/253)
وفي حديث عبد اللّه بن أبي ربيعة: أنه مرّ على طعام مصير فارتاب منه فأدخل يده فإذا طعام ممطور، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا واللّه طعام واحد يا رسول اللّه، فقال: هلاّ جعلت هذا وحده حتى يأتوك فيشترون شيئاً يعرفونه مَنْ غشّنا فليس منا، وحدثني بعض إخواننا أنّ رجلاً حذاءً سأل: فكيف أسلم في بيع النعال؟ فقال: استجد الأوّل وليكونوا سواء واجعل الوجهين شيئاً واحداً لا يفضل اليمين وجود الحشو، وقارب بين الخرز ولا تطبق أحد النعلين على الأخرى، فينبغي للبائع والصانع أن يظهرا من البيع والمصنوع أردأ ما فيه وأرذله، ليقف المشتري والصانع على عيوبه، ويكونا على بصيرة من باطنه، وباع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري: أبرأ إليك من عيب فيها قال: وما هو: قال: تقلب العلف برجلها، وباع الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري إنها قد تنخمت مرة عندنا دماً، ويبين دقائق الإعلام والبيان في ذلك مما لا يعلمه المشتري أو المستعمل، فهو من النصح والصدق، وذلك يكون عن التقوى والورع في البياعات والإجارات ويكون الكسب عن ذلك أحلّ وأطيب فليجتنب المسلم محرم ذلك كله وكل مكروه، فهذه سيرة السلف وطريقة صالحي الخلف، وأستحب له أن يتوخى في الشراء والبيع، ويتحرى أهل التقوى والدين، ويسأل عمن يريد أن يبايعه ويشاريه وأكره له معاملة من لا يرغب عن الحرام أو من الغالب على ماله الشبهات.
وحدثت عن محمد بن شيبة أخت ابن المبارك قال:كتب غلام ابن المبارك إليه: أنّا نبايع أقوماً يبايعون السلطان، فكتب إليه ابن المبارك إذا كان الرجل يبايع السلطان وغيره فبايعه، وإذا قضاك شيئاً فاقبض منه إلاّ أن يقضيك شيئاً تعرفه بعينه حراماً فلا تأخذه وإذا كان لا يبايع إلاّ السلطان فلا تبايعه.
وحدثنا عن بعض الشيوخ عن شيخ له من الخلف الصالح قال: قال أتى على الناس زمان كان الرجل يأتي إلى مشيخة الأسواق فيقول: من ترون لي أن أعامل من الناس من أهل الصدق والوفاء؟ فيقال له: عامل من شئت، ثم أتى عليهم وقت آخر فكان الرجل يقول: ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال: عامل من شئت إلاّ فلاناً وفلاناً قال: ونحن في زمن إذا قيل لنا: من نعامل من الناس؟ فيقال: عامل فلان بن فلان وأخشى أن يأتي على الناس زمان يذهب فلان بن فلان أيضاً، ولا يحلف ولا يكذب ولا يخلف موعداً، فإنّ اليمين الكاذبة ممحقة للكسب، وقد قيل: ويل للتاجر من يقول: لا واللّه، وبلى واللّه، وويل للصانع من اليوم وغد وبعد غد، أبو عمرو الشيباني عن أبي هريرة قال: قال ر سول اللّه صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة، عبد متكبر ومنّان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه، ولا يمدح إذا باع أو صنع صنعة ولا يذم إذا اشترى أو استعمل صانعاً، فإنّ هذا لا يزيد في رزقه ولا ينقص منه تركه، وهذا من اليقين في الرزق في هذا الباب، وفعله يزيد في الذنوب فينقص من الدين، وعلى الصانع أنْ يبلغ غاية النصح في صنعته لمستعمله لأنه أعرف بصلاح صنعته وفسادها وبسرعة فناء الصنعة وكثرة بقائها، فينبغي أن يتقن نهاية علم الصانع بصلاح الصنعة وحسن بقائها مع نهاية بغية مستعمله من تجويدها وأحكامها، ويتّقي من فساد يسرع إلى فنائها ما لا يفطن له مستعمله، فإذا فعل الصانع والتاجر ذلك كانا قد عملا بعملهما وسلما من المطالبة والمساءلة عنه، وإلاّ فهما يسألان فيقال لهما: ماذا عملتم فيما علمتم؟ إذ كانوا على علم من التجارة والصناعة وبهذه الأشياء عمارة المملكة، فلا بدّ أن يُسألا عن ذلك كما يسأل من كان على علم من الدين والإيمان، لأن لهم في علوم العقل والتمييز من أبواب الدنيا أحوالاً أيضاً ومقامات من حيث كان عليهم في ذلك تكليف وعبادات، ويقال: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكّوا في صلاحه، وشهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بشهادة فقال: ائتني بمن يعرفك، فأتاه رجل فأثنى عليه خيراً.(2/254)
فقال له عمر رضي اللّه عنه: أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه قال: لا قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يتبين به ورع الرجل قال: لا قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يصلي يخفض رأسه طوراً ويرفعه له زمرة بالقرآن قال: نعم، قال: اذهب فلست تعرفه فقال مرة: أنت القائل ما لا تعلم ثم قال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك، وقد كال من سيرة السوقة فيما سلف أنه كان للبائع دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهول، فيه أسماء من لا يعرفه من الفقراء الضعفاء، وذلك أنّ المسكين والضعيف كان يرى المأكول فيشتهيه أو يحتاج إليه ولا يمكنه أنْ يشتريه فيقول للبائع: أحتاج إلى خمسة أرطال من هذا أو عشرة وليس عندي ثمنه فيقول: خذ إلى ميسرة فإذا رزقت فاقضِ، ويكتب اسمه في الدفتر المجهول قال: ولم يكن من يفعل هذا من خيار المسلمين بل كان الخير من الباعة من لا يكتب اسمه في دفتره ولا يجعله ديناً حتماً عليه ولا مظلمة عنده، ولكن يقول: خذ حاجتك مما تريد فإن وجدت فاقضني وإن لم تجد فأنت في حل، لا تضيقن قلبك لذلك، وهذا طريق قد مات فمن قام به فقد أحياه فكان مثل هؤلاء في المتقدمين أكثر من أنْ يسعهم كتاب، وكان من ينصح دقائق النصح وشدد على نفسه غاية التشديد وسمح لإخوانه نهاية الجود أكثر من ذلك، وإنما ذكرنا هؤلاء لتنبيه الغافلين على أعمالهم ونكشف بعض ما عفا من طريقهم، ولم يكن هؤلاء المذكورون من السوقة من خيار الناس كلهم إنما كان الأخيار المسجدية العباد و النساك المنقطعون إلى اللّه الزهاد، فإذا حصلت كفاية السوقي في بعض يومه فليجعل بقيته لأخيه، فقد كان بعض السلف منهم من ينصرف من حانوته بعد صلاة الظهر ويجعل نصف يومه لربه، ومنهم من ينصرف بعد العصر فيكون آخر يومه لآخرته.
وكان بعضهم إذا حصلت كفايته في يومه وتأتي قوت عياله في أي وقت من نهاره غلق حانوته وانصرف إلى منزله أو مسجده يتعبد بقية يومه، وكان منهم من إذا ربح دانقاً أو قيراطاً انصرف قناعة وزهداً أو قلة حرص على الدنيا، وأعجب من ذلك ما سمعت عن حماد بن سلمة أنه كان يبيع اللحم في سفط بين يديه، فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف.
وقال إبراهيم بن يسار: قلت لإبراهيم بن أدهم أمر اليوم أعمل في الطين فقال: يا ابن يسار إنك طالب ومطلوب يطلبك ما لا تفوته وتطلب ما لا يفوتك، أما رأيت حريصاً محروماً وضعيفاً مرزوقاً؟ فقلت: إنّ لي دانقاً عند البقال فقال عزّ عليّ بك تملك دانقاً وتطلب العمل، وقد كان كثير من الصناع يعمل نصف يومه وثلثي يومه ثم يأخذ ما استحقه من كفايته وينصرف إلى مسجده، ومنهم من كان يعمل في الأسبوع يوماً أو يومين ويتعبد سائر الأسبوع في خدمة سيده، وقد كانوا يجعلون أول النهار وآخره للآخرة في تجارة المعاد والمرجع، ويجعلون وسط النهار لتجارة الدنيا، وفي الخبر: أنّ الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد من أول النهار ومن آخره فيها خير وذكر كفر اللّه عزّ وجلّ عنه ما بينهما من سيّئ العمل، وفي الخبر: يلتقي ملائكة الليل والنهار، عند طلوع الفجر تنفرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، وعند صلاة العصر فتنزل ملائكة الليل وتنفرج ملائكة النهار فيقول اللّه عزّ وجلّ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وجئناهم يصلّون فيقول اللّه سبحانه وتعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، وقد كان عليّ رضي اللّه عنه يمرّ في سوق الكوفة ومعه الدرة وهو يقول: يا معشر التجار، خذوا الحق وأعطوا الحق، تسلموا ولا تردوا قليل الربح فتحرموا أكثر ما منع من حق إلاّ ذهب أضعافه في باطل، وقيل لعبد الرحمن بن عوف: ما كان سبب يسارك؟ فقال: ثلاث، ما رددت ربحاً قط ولا طلب مني حيوان وأخرت بيعه ولا بعت بنسإ، ويقال إنه باع ألف ناقة فربح عقلها وباع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفي درهم، ألف أخذها وألف نفقة عليها في يومها، وقد كان الورعون يكرهون ركوب البحر للتجارة ويقال: من ركب البحر للتجارة فقد استقصى في طلب الرزق، وفي الخبر لا يركب البحر إلاّ حاجٍ أو غازٍ أو معتمر،وعن زيد بن وهب عن عمر رضي اللّه عنه كان يقول: ابتاعوا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وثمروها لهم بالأرباح، وإياكم والحيوان فإنه ربما هلك، وإياكم ولجج البحر اتجروا لهم فيها مالاً.(2/255)