سلسلة القادة و مشروع النهضة
قوانين النهضة
د. جاسم سلطان
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد..
فلقد أشرنا في كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة"(1) إلى الأطوار التي تمر بها أي حضارة، ووصفنا هذه المرحلة التي نعيشها - والتي شارفت على الغروب - بأنها مرحلة الصحوة، تلك المرحلة التي أنبتت نباتاً حسناً بإذن ربها، وأثبتت أن الأمة ما زال بها خير كثير، غير أنها تفتقد إلى دور العقل المرشد والموجه، وإلى الرؤية والاستراتيجية الواضحة.
كما أشرنا إلى أنه قد آن الأوان لتشرق شمس مرحلة اليقظة، التي تسير بتلك الجحافل والجموع المباركة إلى طريق النهضة، من خلال جهود منظمة، ورؤية استراتيجية واضحة، وسياسات قائمة على التعاون والعدل.
وحتى نستطيع دخول هذه المرحلة المرتقبة التي نبشر بها، يجب أن نتعرف على سنن الله في كونه، وعلى القواعد التي تحكم عملية النهوض في أي مجتمع من المجتمعات. لأن أكثر ما يميز مرحلة اليقظة أنها لا تتخذ من الارتجال سياسة ومنطلقاً لها؛ بل هي في انطلاقها تعتمد على أدق قواعد البحث العلمي، وأقصى درجات الإعداد.
والتعرف على قوانين النهضة أمر مهم جداً لكل من يهفو قلبه إلى التغيير، وإلا ضاع فريسة الارتجال. ولقد وجهنا المولى عز وجل إلى أن للكون قوانين ثابتة، فقال تعالى: {فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}(2)، وقال: {لا تبديل لخلق الله}(3). ففي الكون والنفس والسنن الاجتماعية
الكثير من القوانين الثابتة. من أعرض عنها فقد ألغى عقله وأضر بنفسه.
__________
(1) الكتاب الأول من سلسلة المشروع الإسلامي لنهضة الأمة من تأليف د. جاسم سلطان.
(2) سورة فاطر: 43
(3) سورة الروم: 30(1/1)
ولو نظرنا إلى موضوع بحثنا، وهو قيام الأمم وسقوطها، وموضوع النهضة، سنجد العلامة الشيخ محمد رشيد رضا يقول في تفسير المنار في قول الله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(1) ".. فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غيرها من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها. والقرآن يحيل إليه في مواضع كثيرة. وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها"(2) ويقول الشيخ محمد عبده: "ولا يُحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت الأصول والقواعد، وفرع منها الفروع والمسائل.. ولما اختلفت حال العصور اختلافاً احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما، كانت محتاجة إلى تدوين هذا العلم. ولك أن تسميه علم السنن الإلهية، أو علم السياسة الدينية، سمه بما شئت فلا حرج، فالحياة لم تخلق عبثاً، إنما خضعت لسنن وقوانين، وأمر البشر في اجتماعهم وما يعرب فيها من الصراع والتدافع الحضاري وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة والتداول الحضاري يجري على طريقة قويمة، وقواعد ثابتة، ومن سار على سنن الله ظفر بالفوز وإن كان ملحداً أو وثنياً، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقاً أو نبياً. وعلى هذا يخرج انهزام المسلمين في
أحد، وفي بداية معركة حنين، ويتخرج انهزامهم على الأصعدة المتعددة"(3).
__________
(1) سورة النحل: 36
(2) انظر تفسير المنار للعلامة محمد رشيد رضا. المجلد الأول.
(3) المصدر نفسه.(1/2)
هذا المعنى الذي يشير إليه محمد رشيد رضا في تفسير المنار يشغب على كثير من العاملين في المشروع الإسلامي. إذ أنهم يعتقدون أن العلم هو قراءة الفقه وأصوله ومدارسة التفسير، ثم الإعراض عن كل العلوم الأخرى وعن النظر في الكون، وعن التدبر في التاريخ والتجارب الإنسانية، وكل ذلك بحجة قولهم "حسبنا كتاب الله وسنة رسوله"(1) وما دروا أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرانا بالنظر. وانظر إلى قوله: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(2).
ولقد أشار جودت سعيد في كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم" إلى هذا الصنف من الناس. فيقول: ".. والمصدر الأساسي للعطالة العقلية هي العقيدة العبثية في الكون. اعتقاد العبث واللعب في الوجود. يقول تعالى: }وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين}(3) ، ويقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}(4). إن العقيدة العبثية في الكون هي عدم رؤية النظام، وعدم رؤية السنن وعلاقة الطاقة المفكرة الإنسانية بسنن الكون. هذا هو ظن العبثية في الوجود.. هذه الآفة ولدت بعد ذلك أجنتها التي نمت وترعرعت وصار لها أحفاد وذرية. إذ ما دام الأمر يسير على غير سنن نتبعها فلا جدوى من إعمال الفكر لكشف حل أو تغيير الواقع. والقرآن الكريم يطلب منا علماً خارج القرآن، وذلك بالسير والنظر في الأرض إلى آيات الله المودعة في الآفاق والأنفس. فآيات الآفاق والأنفس في القرآن، ولكن
__________
(1) تناولنا هذه المقولة بالشرح والتحليل في الفصل التمهيدي من كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" للمؤلف نفسه.
(2) سورة آل عمران: 137
(3) سورة الأنبياء: 16
(4) سورة المؤمنون: 115(1/3)
مكان طلبها ليس في القرآن إنما في الكون. ومن فقد ملكة العلم لا يعود يستفيد من ملكة الكتاب وإن كانت واضحة بينة. ولكن نحن لم نعد نتعامل مع آيات الكتاب المسطور - أي القرآن - ولا مع آيات الآفاق التي هي الكتاب المنشور إنما نتعامل مع إنتاج المرعوبين الذين تدور أعينهم خوفاً من التبصر. وبدون التبصر تفقد الحياة التي أرادها الله للبشر قيمتها {قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني}(1)" انتهى كلام جودت سعيد.
... مما سبق يتبين لنا أهمية التعرف على قوانين النهضة، وأنها ليست من نافلة القول، أو من الترف الفكري.
إن الحاجة قد باتت ملحة لتأمل التجربة التاريخية البشرية لنستقي منها العبرة. ومن خلال هذه الدراسة التاريخية تم استخلاص هذه القوانين المركزة، والغرض منها تنظيم الخارطة الذهنية لقادة النهضة والعاملين فيها.
وقد تم اختيار هذه القوانين لأن الأمة اليوم في أمس الحاجة إليها. فهناك قصور ملحوظ في مفهوم الأفكار المركزية ودورها، وطبيعة الفكرة المركزية ودورها. وهناك قصور في معرفة دور المحور النفسي. وهناك تشوه في فهم الدور الوظيفي لشرائح إنجاح الفكرة. وهناك أفكار معيقة في التربية. وهناك غياب لمفهوم المؤشرات الحساسة. وهناك صورة ونظرة ضيقة لمفاهيم التدافع والتداول والفرصة التاريخية. ثم هناك ارتباك لأوضاع مرحلة ما بعد التمكين واحتياجاتها. وهذه القوانين تشكل بعض ملامح الإجابة على هذه الاختلالات.
...
إن القائد العامل في مجال النهضة والتمكين لا غنى له عن فهم هذه القوانين واستيعابها، فهي ليست كتابة إنشلئية بلاغية؛ بل هي أدوات عمل وتحرك نهضوي. كما أن الفرد العامل المفكر الجريء المنتج حريٌّ به قراءتها وتدبرها حتى يُقَوِّم ما يطرح عليه من مقولات وما يطلب منه من مسارات عمل فينتقي لنفسه ويقدر دوره.
والتعامل مع هذه القوانين يتم على مستويين:
__________
(1) سورة يوسف: 108(1/4)
فعلى مستوى الفرد يتم تصحيح خارطته المفاهيمية والتصورية، فيحسن التلقي والعمل.
وعلى مستوى القادة والحركات النهضوية يُعلم متطلبات إنجاز مثل هذا العمل وشروط تحققه، فلا تدور عجلة العمل بالسير في المكان وإجهاد الجسد من غير تقدم للأمام.
لقد راعينا في هذه القوانين التبسيط لضمان وصولها لأكثر الشرائح ولأوسع قاعدة من المستفيدين. وتسعة من هذه القوانين تتحدث عن مرحلة ما قبل الدولة، بينما يتحدث القانون العاشر عن مستلزمات النجاح في حالة ما بعد الدولة والتمكين، وذلك حتى تتكامل الصورة في ذهن العاملين عن مستلزمات النجاح.
ونحب أن نوضح أننا لن نتناول القوانين كلها بالذكر؛ بل سنتناول بعضها، ونتعلم كيف يتم التعامل معها. وعلى قائد النهضة أن يُعمِل عقله وفكره لاستخلاص القوانين الأخرى من الكون ومن التجارب التاريخية. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إنها فرصة لتفعيل عبادة التفكر. سواءً كانت تفكراً في القرآن وتجارب السابقين، أو في التجارب التاريخية، أو في الكون المنظور والواقع القريب. وكذلك فرصة لتفعيل عبادة الصلاة، وتلاوة
القرآن من خلال التدبر فيهما لاستخلاص القوانين التي جاءت في معرض ذكر تعامل الله مع الأمم السابقة، أو في بعض الآيات التي أجملت بعض القوانين إجمالاً.
منطوق القانون
"لكل نهضة فكرة مركزية وفكرة محفزة"
مفردات القانون
الفكرة المركزية: هي عبارة عن مجموعة المبادئ العامة التي تعتمدها أي دعوة أو حركة أو تجمع. أو المبدأ الذي تعتنقه الدولة، وتنظم حياتها تبعاً لتعاليمه.
وإذا تبنت حركة ما أو دولة ما فكرة مركزية بعينها، يصبح دور الفكرة هو صياغة كل مظاهر الحياة وفقها، وتصبح هي محور حركة الدولة.(1/5)
الأفكار المحفزة هي التي تخاطب فينا البواعث الداخلية النفسية الدفينة، كالعزة الدينية, والانتصار لمبادئ الإله، أو العزة القومية التي تخاطب المجد والسؤدد، وكالمثالية التي تريد حث الفقراء لمدافعة الظلم وتحقيق المساواة. وبذلك تصبح الفكرة المحفزة هي المحور الذي يتم استقطاب الناس من خلاله. وهي كذلك بالضرورة تعالج مشكلة محسوسة بشكل مباشر للمخاطبين بالفعل.
أهمية القانون
هو أول قانون يجب دراسته دراسة جيدة حيث أن تحديد مفرداته يعني:
تحديد ضوابط ومنطلقات العمل النهضوي.
تحديد شكل النهضة المنشودة.
تحديد خطاب وفكرة الحشد الجماهيري.
ونحسب أن كثيراً من العاملين في مجال النهضة اليوم لا يوجد لديهم تصور واضح للفكرة المركزية وأثرها على التدافع القائم، ولم يضعوا أيديهم على الفكرة المحفزة التي تلمس أوتار قلوب وعقول المخاطبين، وتدفعهم للمشاركة وبذل الجهد، فظلت الحركات والأحزاب والحكومات عاجزة عن تفعيل طاقة الجماهير في المشاركة الفاعلة في التغيير والتنمية.
الفكرة المركزية
ما المقصود بالفكرة المركزية في النهضة ؟
إذا نظرنا إلى الحراك الضخم الذي أحدثه الإسلام في الجزيرة العربية - ابتداءً، ثم في بقية أنحاء العالم؛ لوجدنا أن قلب هذا الحراك ومحركه الأساسي هو الإسلام. وإذا نظرنا إلى الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية والدول التي دارت في فلكها، لوجدنا أن محركاً كبيراً مثَّل قلب تلك الحركة، هذا المحرك هو الفكرة الشيوعية.ثم إذا نظرنا إلى حركة المنظومة الغربية سنجد في قلبها الفكرة الليبرالية.
مواصفات الفكرة المركزية
تتجسد في أيديولوجيا قادرة على صبغ كل مجالات الدولة بها.
قادرة على التعامل مع المتغيرات المستمرة.
مركبة بحيث لا يفهمها بدقائقها عامة الناس بسهولة. فلا يلم بها إلماماً جيداً إلا المثقفين وقادة الرأي.(1/6)
فالفكرة المركزية هي في جوهرها مجموعة من المسلمات والعقائد التي يبنى عليها نظام القيم، ويصطبغ بها نظام المجتمع الأساسي ونظمه.
مكونات الفكرة المركزية
تتكون الفكرة المركزية من جزأين:
جزء صلب وهو الذي يعطي الوصف للفكرة.
جزء مرن وهو الذي يستجيب لاحتياجات كل مجتمع وخصوصياته.
جزأ صلب:
ويتمثل - في الفكرة المركزية الإسلامية - في العقيدة بأركانها الستة على وجه الإجمال. وفي العبادة بالصلاة والزكاة والصيام والحج. وفي العموم كل مستلزمات الشهادتين من فرائض وغيرها. ويدخل في هذا الجزء المعلوم من الدين بالضرورة. وعليه يترتب الولاء والبراء وهو الذي يشكل المرجعية الأساسية.
جزأ مرن:
تركه الشارع، وهو على نوعين:
ما يتراوح فيه الحكم بين خيارات محدودة؛ وهي معظم قضايا الفقه التي جاءت بها النصوص، مثل الخلاف حول "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" هل يدخل الوجه في إطار هذها الأمر كما قال المفتون بالنقاب أم لا يدخل كما قال المخالفون لهم؟ وبالتالي فمساحة الخلاف محدودة بهذين الرأيين.
الوقائع التي لا نص فيها؛ وهي ما يطلق عليها منطقة العفو التشريعي، حيث يدور الحكم مع تحقيق المصلحة، كما هو مقرر في كتب الأصول، ولكنه مؤطر بمقاصد الشريعة وكلياتها، مثل قضية آليات الحكم وأشكاله، وغير ذلك.
نماذج للأفكار المركزية:
ولنأخذ أمثلة على الأفكار المركزية التي طرحت:
أولاً: الفكرة الليبرالية
يقوم جوهر الفكرة الليبرالية على الفردية. بمعنى أنها تنطلق من فكرة مفادها أن هناك عدم توازن بين سلطات الدولة وحقوق الأفراد، وأن الدولة تسعى – وباستمرار - للتغول واستقطاع حقوق الأفراد، وتنتقص من حرياتهم. وبالتالي فالمبدأ الفردي يقوم على إعطاء أقصى قدر من الحريات للفرد، وحمايته من تغول الدولة على حقوقه. وطغيان وتقديم مصلحة الفرد على المجتمع.(1/7)
والليبرالية قوامها دنيوي. أي لا تهتم بالبعد الغيبي. فليست هناك حقوق غيبية مقدسة يمكن الرجوع إليها؛ بل هناك أعمال المفكرين وما يتفق الناس على كونه صالحاً ليتعايشوا به.
وقد انعكس هذا الفهم على عدد من الأمور. فمبدأ الليبرالية الثاني وهو الحرية قاد إلى الاهتمام الشديد بتقويض سلطات الدولة، وإطلاق الحريات للناس بشكل كبير. فطرحت الليبرالية تخليص المرأة من سيطرة الزوج والأسرة، وتخليص الأبناء في سن مبكرة من سيطرة الآباء، وتخليص الناس من أن يلقنوا الديانات في المدارس، أو ما شابه ذلك.
ومن مبادئ الليبرالية الكبرى المساواة والتعايش من خلال إعلاء مبدأ العلمانية، فهي ترى أن الناس يمكن أن يتعايشوا رغم الاختلافات ورغم تباين وجهات النظر. وأن هذا التعايش يمكن أن تحل فيه الخلافات بالحوار، وأن المبدأ الأساسي في هذه المجتمعات هو التراضي عبر التصويت، وأن الدستور هو الضامن لما هو متفق عليه، وأنه يجب أن يكون هناك فصل بين السلطات، بين السلطة التنفيذية
والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.
ثانياً: الفكرة الشيوعية
إذا نظرنا إلى الشيوعية، سنجد أن قلب الفكرة الشيوعية يقوم على تقليص دور الفرد لصالح المجموع. فبحجة حماية مصالح العمَّال، والمصلحة العامة، والقضاء على الطبقة الرأسمالية، وعلى الإقطاع، وعلى استغلال الإنسان؛ تقوم الدولة بالسيطرة على جميع مناحي الحياة وتقييد الحريات، ورسم الحوارات المقننة، وتعريف المساواة بطريقة تجعل الإنسان ترس في الآلة الشيوعية. ولا تقبل الدولة في هذا النظام التعايش إلا بالموافقة على مبادئها والعيش بها. وترى أن التراضي يجب أن يكون بين الطبقة العاملة. وبالتالي يجب قمع بقية الطبقات. والدستور هو دستور الشعب.
فالشيوعية تؤمن بالحرية والحوار والمساواة والتعايش والتراضي والدستور، ولكن بتفسير يصب في مجمله على القضية الرئيسية، ألا وهي تقليص حقوق الفرد لصالح المجموع.(1/8)
ثالثاً: الفكرة الإسلامية:
إن جوهر الإسلام هو العدل أو بحسب التعبير القرآني "ليقوم الناس بالقسط"، فيأتي الإسلام ليوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، وينظم هذه العلاقة من خلال نصوص(1)، سواء أكانت قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، أو ما هو دون ذلك، أو ما هو في منطقة المباح.
وهكذا سنجد أمامنا ثلاثة أفكار مركزية كبرى. تطرح كل منها كلمات مثل الحرية والمساواة والتعايش والتراضي والحوار والدستور وغيرها. لكن ما الذي يفرق بين هذه الأفكار؟
الحقيقة أن هذه الكلمات كالحرية والعدل والمساواة عندما تُجرد بمثل هذا الشكل تسمى مفاهيم. وهذه المفاهيم في حد ذاتها ليست موضع خلاف(2). ولكنها تحدد من خلال الفكرة المركزية وتصطبغ بها، ومن هنا يأتي الخلاف.
ولنفهم هذا الموضوع نضرب مثلاً بالحرية. وابتداءً نطرح هذه التساؤلات:
متى تمنح الحرية؟؟
كيف تمنح؟؟
ما هي السعة التي يتحرك فيها الإنسان؟؟
من يحدد هذا السقف؟؟
سنجد أن هذا السقف في الإسلام يحدده الله سبحانه وتعالى، بينما يحدده الإنسان في كل من الشيوعية والليبرالية.
__________
(1) يطلق "النص" على كل آية قرآنية أو حديث نبوي شريف.
(2) المفهوم: "يُقصد به المعنى الذهني الذي يثيره اللفظ في الأذهان. مثل (مكة – عمر بن الخطاب) فهي تثير في الذهن الصورة والصفات التي نعرفها. ومثل كلمة (مدينة) فهي تثير في الذهن فكرة عامة عن مساحة كبيرة من الأرض، فيها أبنية وشوارع وسكان ونشاط اجتماعي وما إلى ذلك مما هو متوفر في كل مدينة.." عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني. صـ45. ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. دار القلم. دمشق.(1/9)
إن الإطار المرجعي أوالفكرة المركزية لكل مجتمع أو لكل أمة من الأمم هو الذي يصبغ هذه المفاهيم بصبغته، ويكون التصورات لدى هذه الأمم عن تلك المفاهيم. والإطار المرجعي لدى الغرب يتمثل في فكرة الليبرالية، ولدى المجتمعات الشيوعية يتمثل في الماركسية، ويتمثل في الإسلام لدى المجتمعات المسلمة، وهكذا.. وهذا الإطار المرجعي هو من صنع الإنسان في الشيوعية والليبرالية، أما لدى المجتمعات المسلمة فإنه من الوحي.
فإذا قال قائل: إن هناك مفاهيم كثيرة في التراث الإسلامي تشغب على نصاعة الإسلام، وعلى صورته الوردية التي يرسمها دعاة الإسلام!!
نقول له أنه لا يلغى الفكرة الإسلامية بعض الأفكار أو المفاهيم التي دخلت على الفكرة الرئيسة عبر القرون المتطاولة، بل يجب إزالة هذه الحشائش الضارة من هذا التراث الضخم، وأن يؤخذ منه ما هو متفق مع نصوص الإسلام الصحيحة السليمة، وما هو متفق مع أسمى وأنبل ما في
البشرية من أخلاق وقيم.
الإسلام فكرة مركزية من باب الدين و المصلحة
نحب أن نوضح لكل تيارات الأمة أن اختيارنا للفكرة المركزية في مجتمعاتنا الإسلامية ليس فقط من باب الدين - وإن كان هذا هو غاية المنى وأسمى اختيار - إنما هو أيضاً من باب المصلحة. فعلماء الإدارة حين يتحدثون عن التنمية والتغيير في المنظمات والمؤسسات والدول ينصحون بأن يكون متفقاً مع المنظومة القيمية الأساسية داخل هذه المنظمة. وأنه في حالة اختيار منظومة قيمية نقيضة للمنظومة السائدة في هذه البيئة فإن حركة المقاومة ستكون أشد وأعنف. وبالتالي فإن اختيار الإسلام كفكرة مركزية في مجتمعاتنا الإسلامية يسهل عملية التنمية والتغيير. كما أن الإسلام كعاطفة قوية في مجتمعاتنا كفيل بتحريك الشعوب وتحفيزهم للعمل والنهوض من أجل تحصيل الجزاء الأخروي.(1/10)
ولقد فطن المخططون لقيام دولة إسرائيل إلى هذا الأمر. فرغم أنهم كانوا علمانيين إلا أنهم اختاروا فكرة مركزية دينية تقول بضرورة اجتماع اليهود على أرض الميعاد (أرض فلسطين). وعززوا الخطاب الديني لحشد اليهود من كل أقطار العالم، وسموا دولتهم "إسرائيل" وهو نبي الله يعقوب، فكان اسم الدولة اسماً دينياً، وبذلك فقد اختاروا الخطاب الديني من باب المصلحة.
إن الشيء الذي يجب ألا يكون محل خلاف هو أنه كلما كانت الفكرة المركزية لعملية التغيير متفقةً مع المنظومة القيمية في المجتمع المراد تغييره، كلما كانت عملية التغيير أسرع وأنجح.
إذا تبين لنا ذلك ورأينا أن المجتمعات الإسلامية تعمل جاهدةً على الخروج من حالة الرقود والسكون إلى حالة الحركة والتغيير، عرفنا أنها تحتاج إلى اختيار فكرتها المركزية. وهي قد اختارت بالفعل في مجموعها فكرتها المركزية، ولكن قوى الردة والمقاومة ما زالت تقاوم الفكرة المركزية الإسلامية؛ بل وتدفعها وتؤجلها، وتضربها وتؤخرها، لكنها قادمة بإذن الله سبحانه وتعالى.
إن سرعة اختيارنا للإسلام كفكرة مركزية يوفر علينا آلام التجارب الفاشلة التي قد نمر بها ونحن نحاول استنبات أفكار أخرى في مجتمعاتنا. ونحن قد عانينا بالفعل من هذه التجارب الفاشلة منذ ميلاد حركة النهضة في المجتمعات الإسلامية. و لا زالت تمارس - حتى اليوم - تجارب تلو تجارب، وأفكار تلو أفكار، وكلها تصطدم بالمنظومة القيمية المترسخة في مجتمعاتنا الإسلامية. وتكون النتيجة - بعد عقود من الزمن - خسائر وهزائم ونكسات وتراجعات.
مما سبق يتبين لنا أن كل عملية استنهاض في جوهرها تتبنى ما يمكن أن نطلق عليه فكرتها المركزية. ولكن هذه الفكرة المركزية لا تقوم بتحريك الناس مباشرة، فهي تحتاج إلى عامل آخر مكمل، يمكن أن نطلق عليه الفكرة المحفزة.
الفكرة المحفزة(1/11)
وجوهرها وجود قضية محورية تمس حياة الناس مباشرة. وهي تؤسس خطابها على البواعث الداخلية النفسية الدفينة، كالعزة الدينية،, والانتصار لمبادئ الإله، أو العزة القومية التي تخاطب المجد والسؤدد، وكالمثالية التي تريد حث الفقراء لمدافعة الظلم وتحقيق المساواة، ولكنها تتبنى قضية ملموسة بالنسبة للجمهور المخاطب. وتصبح الفكرة المحفزة هي المحور الذي يتم التركيز عليه لاستقطاب الناس
من خلال مخاطبة المعاني الدفينة، وطرح القضية المحسوسة الملموسة التي تقع في المجال الذي يرى فيه الفرد العادي دوره واضحاً وحاجته إليه ماسة. فيلتف الناس حول هذه الفكرة وينصرونها ويبذلون في سبيلها الغالي والنفيس.
إن الفكرة المركزية وحدها ليست كافية لتحريك الجماهير؛ بل لابد أن يصحبها فكرة محفزة من صلب الفكرة المركزية وتبني على تراثها. فموسى حرك قومه للخلاص من الاضطهاد بحلم الوصول إلى أرض العسل واللبن، أرض فلسطين. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحرك العالمين للخروج من جور الأديان إلى عدل الإسلام في واقع كان الظلم فيه سائداً. والمصلحون والثوار حركوا شعوبهم من خلال تبني قضايا مستقرة في احتياجات المجتمع وصاغوا منها خطاباً حاشداً للطاقات واضحاً غير معقد. فهذا مارتن لوثر كينج يقود حركة السود في أمريكا بطرح مطالب يستشعرها السود وتتفق مع قيم المجتمع الأساسية، وهي قضية المساواة. وقل ذلك على نيلسون مانديلا وعن حركات التحرير وحركات التنمية المركزة في الصين، حيث الشعور القومي يطالب بصين موحدة مكتفية حرة، لها مكانتها بين الدول، وفلاحين فقراء يستشعرون الظلم الاجتماعي.
مواصفات الفكرة المحفزة
فكرة مستقاة من الفكرة المركزية ومنطلقاتها.(1/12)
فكرة غير مركبة وبسيطة جداً تستوعبها عموم الجماهير. مثل الفكرة المحفزة لخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي عبر عنه ربعي بن عامر "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، أو لمحمد بن علي مؤسس الدولة
العباسية "الحكم للرضا من آل البيت"، أو للشيوعية حين رفعت شعارات"نريد خبزاً"، "اتحدوا يا عمال الأرض"، أو لليهود "فلسطين أرض الميعاد". إن لمس حاجة المستهدفين بالخطاب هو أحد أهم مفردات النجاح.
فكرة تتعلق بصورة مباشرة بقضايا الناس وهمومهم. ولذلك كان المستجيبون لدعوات الأنبياء والرسل والمصلحين في بداية دعواتهم هم ضعاف القوم الذين يجدون في الفكرة مخرجاً لهم، فيتحملون ويبذلون من أجلها.
ماذا لو غابت الفكرة المحفزة؟!
إن من أهم الأشياء التي يجب أن ينتبه إليها القائد أن تظل الفكرة المحفزة مستعرة في نفوس أنصاره، وأن يذكرهم بها ويؤكد عليها. أما إذا غابت الفكرة المحفزة عن أعين الأنصار، فإنهم يتفلتون وينفضون ويسئمون. فالفكرة المركزية ليست في حد ذاتها كفيلة بالحفاظ على حماس الجموع المحتشدة.
إن من أخطر الأخطاء التي قد يقع فيها قادة مشروع النهضة هي اعتمادهم على الفكرة المركزية في حشد الجماهير دون اختيار الفكرة المحفزة التي تلتقي مع تطلعات هؤلاء الجماهير وتضمن استمرارية الحشد وتعطي للعكل اليومي معناه.
ما هي الفكرة المحفزة التي تتوفر لدينا اليوم ويمكن أن تفجر بها طاقات الأمة؟(1/13)
لا توجد اليوم أمة إلا وتخلق لها تحدياً يحفزها على النمو والتطور. وانظر إلى المنظومة الغربية عندما كانت تصطدم مع المنظومة الشيوعية، وكانت تجعل هذا حافزاً على التطوير والتصنيع والتنافس. وهكذا كان الخطر الشيوعي يُضخَّم في بلاد الغرب، لكي يتم استغلال أكبر قدر من الطاقات في هذه المجتمعات لعملية التحدي والارتقاء، مع أن كثيرين من المنظرين كانوا يعلمون أن هذه الكتلة كانت تتهاوى وتتراجع، وأن ملكاتها وقدراتها ليست على تلك الكفاءة من الإبداع. ولكن استمرت عملية
التحدي إلى أن سقط الاتحاد السوفيتي، وسقطت معه المنظومة الشيوعية. فبدأ البحث عن تحدٍ آخر يمكن أن يشكل حافزاً لهم، فتكلموا عن الخطر الأخضر( الإسلامي)، ونمّوا هذه الفكرة وطوروها وبنوا لها المعاهد ودارت عجلة البحوث.
هل نحتاج إلى خلق تحديات؟؟
إن عملية استنهاض طاقات أمة من الأمم تصبح في بعض الأحيان مسألة فنية تقنية، يعكف عليها العلماء والمفكرون، حتى يوجدوا تحدياً مناسباً لمجتمع من المجتمعات. ونحن في واقعنا لا نحتاج خلق التحديات. فالتحديات قائمة في مجتمعاتنا وفي مواجهتنا. وما زالت ثلاثية(1) التحرير والنهضة والوحدة من أكبر المحفزات التي يمكن الاستفادة منها لإعادة بناء هذه المجتمعات، وتفجير طاقاتها. ولكن تكييفها وطرحها في الخطاب يحتاج إلى معرفة ارتباطاتها بالقضية القطرية المحلية، حيث أن نقطة الانطلاق
العملية لا تتم بخطاب لا يلمس الاحتياجات المحلية لكل قطر. وعلى الحركات والأحزاب والدول أن تختار خطابها الداخلي المفجر والحاشد للطاقات، لتوظفه في عملية النهوض والبناء.
مستلزمات القانون:
المعرفة:
فمعرفة القانون هي أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة وتشمل:
معرفة منطوق القانون.
__________
(1) كنا قد ذكرنا في كتابنا "النهضة ..من الصحوة إلى اليقظة" أن هناك ثلاث تحديات واجهت الأمة:
الاستعمار ويتطلب التحرير،
والتخلف ويتطلب التقدم والنهضة،
والتفتت يتطلب الوحدة.(1/14)
معرفة الفكرة المركزية وهي الإسلام كنظام شامل والإلمام به كفكرة مركزية تصبغ كل شئون الحياة.
الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد الفكرة المركزية تحديداً دقيقاً وشرحها لقادة النهضة وطلابها والمثقفين في الأمة.(1)
تحديد الفكرة المحفزة الواضحة لجموع الأمة لحشدهم من أجل عملية التغيير ونهضة مجتمعاتهم.
الاستفادة من التحديات الثلاثة التي تواجهها الأمة – الاستعمار والتخلف والفرقة - في انتقاء الفكرة المحفزة.
عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة:
اختيار فكرة مركزية من خارج ثقافة المجتمع (محاولة اسنبات الليبرالية والشيوعية في بلاد الإسلام).
اختيار فكرة محفزة لا تتعلق باحتياجات الجماهير وتطلعاتهم المحسوسة (برنامج سياسي لا يلامس الواقع).
إن أمتنا تتوفر لديها فكرة مركزية كبيرة لو أحسن التعامل معها. وفكرة محفزة قائمة يمكن البناء عليها في إطلاق طاقات مجتمعاتنا للنهوض بها، واستخراج أكبر ما عند الإنسان من مخزون مهاري وعقلي وعلمي، ومن جهد عبر استخدام هذا القانون استخداماً مدروساً.
إن تكييف الخطاب السياسي العام انطلاقاً من القضايا الثلاث الكبرى: الحرية والوحدة والتنمية يعني أن ينتقل بها لما هو محسوس. واليوم يمكن أن تُطرح نفس المواضيع من خلال شعار مثل "وحدة المصير"، حيث يرى كل العقلاء أن مشاريع الخلاص الفردي لن تجدي، وأن روح المرحلة هي فكرة وحدة المصير. وهذه أو غيرها قد تشكل قاعدة انطلاق للاحتشاد العام في الحالة الكلية للأمة.
__________
(1) ارجع إلى نموذج شمول الإسلام في كتاب "النهضة .. من الصحوة إلى اليقظة" في باب بواعث النهضة لنفس المؤلف.(1/15)
أما الحالات القطرية فلكل منها خصوصيته مع وجود أوجه تشابه كثيرة بين الأقطار. وتستطيع أن تبني من القوى الفاعلة – سواءً كانت حركات أو أحزاب أو دول – قضية محفزة محورية وخطاب الجماهير بها حتى يمكن إطلاقها في ساحة الفعل النهضوي في المجتمع.
وهكذا لابد أن يتضح هذا القانون في أذهان قادة وطلاب النهضة. فلكل نهضة فكرة مركزية وفكرة محفزة.
معادلات القانون:
فكرة مركزية = أيديولوجيا تصبغ كل مجالات الدولة
فكرة مركزية = جزء صلب + جزء مرن
فكرة مركزية + فكرة محفزة = نجاح على مستوى الحشد
فكرة مركزية – فكرة محفزة = تفلت جماهيري
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم المشاعر"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. وهذا الانتقال يستلزم ثلاثة أمور:
أولاً: أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.
ثانياً: أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.
ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.(1)
تغيير إيجابي في عالم المشاعر: من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز والشعور المتجدد بالحياة.
أهمية القانون
يوجد فرق بين تمني شئ ما والاستعداد لتحقيقه. ولا يمكن لشخص أن يكون مستعداً لأمر ما حتى يؤمن أنه يمكنه الحصول عليه. وهذا القانون يحقق البعث النفسي للأمة، والذي يحول بدوره - الأفكار إلى ما يماثلها مادياً. فتتحول النهضة من فكرة إلى حقيقة ملموسة.
شروط البعث النفسي
__________
(1) من كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" للكاتب نفسه.(1/16)
لقد لخص البنا(1) أهم مظاهر الحالة النفسية للأمة في رسالة )دعوتنا( بقوله: "يأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية". وهذه الحالة النفسية لا يمكن أن تُحدث تغييراً أو تحولاً في الأمة – اللهم إلا التغييرات والتحولات السلبية. فإذا كانت الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها قادة وطلاب النهضة هي تحديد الفكرة المركزية والفكرة المحفزة، فإن الخطوة الثانية تكمن في البعث النفسي لهذه الأمة، وفي إحداث تغيير إيجابي في عالم مشاعرها. وهذا البعث النفسي - أو القوة الدافعة أو المكنة النفسية - له ثلاثة شروط أساسية ليُحوِّل الفكرة المركزية إلى حركة وواقع:
الإيمان بالفكرة
ونقصد بها القناعة العقلية والقلبية بالفكرة ونجاحها.
إيماناً يحول دون التشكك فيها والانحراف عنها.
إيماناً يولد في النفس شعوراً بصوابها وقدرتها على مواجهة الواقع ومواجهة الاحتياجات.
أن تتحول فينا الفكرة المركزية إلى فكرة مرجعية، يقاس بها الصواب والخطأ.
فالإيمان بالفكرة يجب أن يتشعب في نفوس المجتمعات وأن يعزز. وكذلك الإيمان بقدرة هذه المجتمعات وبصلاحيتها وبأحقيتها في تبوء مركزها بين الأمم.
العزة
الشعور بسمو الفكرة عما سواها من الأفكار.
أن ينتشر الاعتزاز بالإسلام، ومظاهره، وأشكاله، ومبادئه، ومفاهيمه. ويجب أن يسود الاعتزاز بجوهر الإسلام قبل مظاهره الخارجية. فالمظاهر الخارجية هي دليل على قوة الالتزام بجوهر الإسلام، فالتميز في أنماط الحياة - فيما نحب وما نكره، وفي أعيادنا وأشكالنا واحتفالاتنا وملابسنا - يدل على شدة الاعتزاز بفكرتنا وما تدعو له. وقد جاء القرآن ليكرم الأمة ويبعث فيها العزة. يقول الله تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(2).
الأمل
__________
(1) البنا: حسن البنا المصلح الإسلامي المعروف ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
(2) سورة آل عمران: 110(1/17)
وهو النافذة الكبيرة التي نفتحها للناس، ليروا أن المستقبل سيكون زاهراً، وأن نهضة أمتنا ستتحقق بإذن الله، ومصداقية هذا الأمر أن تحتشد الأمة في حركة وعمل ومشاريع.
وقد أكد الله في مواضع كثيرة على أن الغلبة لأوليائه والنصرة لهم ليبعث في الأمة الأمل واليقين بتحقق النصر. يقول تعالى:
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(1)
عملية البعث النفسي
مظاهر الإيمان بالفكرة: هو جعلها – أي الفكرة - مقياساً، والحكم بالصواب أو الخطأ على أساسها.
مظاهر العزة: تكمن في تغير أنماط الحياة تبعاً للفكرة وتغليبها على ما سواها، سواء في اللغة والملبس والمشرب وأنماط السلوك.. والشعور بتميز الذات حاملة الفكرة وبقدرتها على التنفيذ (الثقة).
مظاهر الأمل: ظهور الروح الإيجابية والإقبال على العمل.
كيف قام الغرب بزرع المكنة النفسية؟
عندما أدرك قادة الغرب أهمية البعث النفسي لمجتمعاتهم، قاموا بزراعة المكنة النفسية على مسارين:
الأول: إعادة قراءة التاريخ وعرضه
حيث قاموا بتقزيم دور الحضارات المشرقية، والمرور عليها مروراً سريعاً – رغم أن الحضارة الإسلامية وحدها امتدت عشرة قرون كان الغرب حينها في حالة تخلف شديدة – بحيث يخيل للطالب الأوروبي أن الغرب هو منبع الحضارة طيلة العصور(2).
الثاني: عمل تراكم في الإنجازات العملية
أسبانيا تطرد المسلمين من الأندلس فترتفع الروح المعنوية للغرب 1492م.
اكتشاف الأمريكتين (مدن الذهب) الذي دفع كل الطموحين للذهاب إلى هناك.
اكتشاف رأس الرجاء الصالح (طريق الحرير الجديد).
__________
(1) سورة النور: 55
(2) يمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا المسار في كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" للمؤلف نفسه.(1/18)
حركة الترجمة التي أعقبت الحروب الصليبية والاتصال بعلوم المسلمين.
التحولات العلمية والمخترعات الكبرى مثل اختراع آلة النسيج 1768م، والبخار 1769م، حتى اختراع الكهرباء 1879م.
كيف قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعملية البعث النفسي في مكة؟
سار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفس المسارين في عملية البعث النفسي للأمة العربية:
إعادة عرض التاريخ: وقد تم ذلك على محورين:
الأول: من خلال عرض مسار الأنبياء من لدن آدم وحتى مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، وعرض أمجادهم وانتصاراتهم، ثم الإشارة إلى الخط المتصل بين هذا المسار – مسار الأنبياء – وبين الذين اتبعوه، وأنهم لا شك منتصرون كما انتصر أسلافهم. فجعل خطاً رابطاً متصلاً من لدن آدم وحتى صحابته وأتباعه. وقد تم كل هذا
العرض من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
والثاني: من خلال سحب الشرعية عن أهل الكتاب والمشركين وبيان الأسباب.
عمل تراكم في الإنجازات العملية: وقد تم ذلك من خلال عدة أشكال:
إعادة تعريف الهزيمة والنصر: ففي قصة أصحاب الأخدود مثلاً تم الإعلان عن انتصار المؤمنين رغم القضاء عليهم. وهكذا انقلبت موازين النصر والهزيمة. فأصبح بعض ما تراه العين هزيمة يعتبره المسلمون نصراً، وبعض ما يُرى نصراً يعتبره الإسلام هزيمة.
تقديم إنجازات تبشر الناس بغد أفضل: مثل إرسال الناس إلى الحبشة لينجو بهم من التضييق، وليكون نواة انطلاق جديدة، كذلك دعاء الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين، فكان إسلام عمر نقلة نوعية، وكذلك إسلام حمزة. ثم كانت محاولات القائد المتتابعة لعرض الإسلام على القبائل وطلب النصرة دافعاً للأتباع الذين يرون أن قيادتهم لم تستسلم للأعداء- حتى ولو لم تكلل هذه المحاولات بالنجاح.(1/19)
تقديم إنجازات من خلال تصعيد الخطاب: فالكلام في زمن الصمت يعد فعلاً قوياً يحفز الجماهير. لذلك كان القرآن يتنزل في مكة – رغم التضييق – ليحشد الرأي العام المرتقب بخطاب قوي واضح.
فكان إعلام قوي ضد أئمة الجاهلية {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}(1) كذلك خاطب الوليد بن المغيرة خطاباً
قوياً: {سنسمه على الخرطوم}(2) وقال: {ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً. ومهدت له تمهيداً. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيداً. سأرهقه صعوداً}(3).
إن هذا الخطاب الواضح – في عهد الاستضعاف – رغم أنه لا يتعدى أن يكون قولاً؛ إلا أنه يتحول عند الرأي العام إلى فعل وأي فعل. فالكلام في زمن السكون فعل، حيث أن قليلين هم الذين يتحدثون(4).
3- عمل تراكم في الإنجازات العملية:
ونحب هنا أن نؤكد على أمر ثالث: وهو أن التراكم في الإنجازات العملية وحده لا يكفي، بل لابد من حسن عرض هذه الإنجازات على المجتمع لتتولد عنده القوة الدافعة. فالفعل الإيجابي المؤثر وحده لا يكفي؛ بل لابد أن تتبعه آلة دعائية إعلامية تعلن عن الإنجازات وعن آثارها الإيجابية بشكل مؤثر. وسنشير لاحقاً إلى آليات البعث النفسي.
وإذا نظرنا إلى شروط البعث النفسي الثلاثة (الإيمان والعزة والأمل) ومعايير تحقيقها على أرض الواقع، سنجد الإسلام قد غير الروح المعنوية للأمة في مواجهة الآخرين ببعث المشاعر الثلاثة من خلال:
الإيمان برسالة الأمة.
والاعتزاز باعتناقها والانتماء للأمة.
__________
(1) سورة المسد
(2) سورة القلم: 16
(3) سورة المدثر: من11: 17
(4) يقول محمد عبد القادر حاتم في كتابه "الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية": "من الناحية العامة فإن الرأي يتقرر ويتحدد نتيجة للأحداث أكثر مما يتقرر نتيجة للأقوال، اللهم إلا إذا فسرت الأقوال ذاتها على اعتبار أنها أحداث."(1/20)
ثم الأمل في تأييد الله لها.
كما سنجد اليابانيين عملوا على بعث شعورهم في عصرنا الحديث من خلال:
الإيمان بقدراتهم.
والاعتزاز بشعبهم.
ثم الأمل في أن يصبحوا القوة الأولى.
وكذلك الألمان في عصرنا عملوا لبعث شعورهم على نفس المحاور:
الإيمان بقدرتهم على النصر.
الاعتزاز بتفوق العرق الآري.
الأمل في أن يصبحوا إمبراطورية عظمى.
ولننظر كذلك إلى بعث شعور اليهود بقوميتهم وعلى نفس المحاور كجزء من المشروع الصهيوني.
ولننظر إلى المكنة النفسية الأمريكية اليوم وما تحاول أن تفعله.
ولكن هل تتم عملية البعث النفسي بهذه السهولة أم أنها تجد من الصعوبات ما يجعل تحقيقها من أشق خطوات الفعل النهضوي؟؟!!
الحرب النفسية
إن ساحة الفعل النهضوي مليئة بالصراعات والمتناقضات. ففيها الصديق والمتحالف والمحايد والخصم. وبنفس القدر الذي نحاول به بعث المكنة النفسية في مجتمعاتنا يستخدم الخصم الحرب النفسية لتحطيم هذه المشاعر الثلاث: (الإيمان والعزة والأمل).
يقول أحمد نوفل في كتابه "الإشاعة": "..الحرب النفسية هي الاستخدام المحقق للدعاية(1)، أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة للدول المعادية أو المحايدة أو الصديقة، بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول بما يحقق للدولة المواجهة أهدافها.."(2)
__________
(1) "يُعرِّف قاموس أوكسفورد الدعاية بأنها "ربط ذهني أو مخطط لنشر مبدأ أو عادة". وهكذا يدلنا هذا التعريف على أن الدعاية لا تحصل من تلقاء نفسها بل تكون نتيجة جهد متعمد وطرق مصطنعة. ويمكننا توسيع المعنى القاموسي للكلمة بحيث تشمل أي خطة لنشر مبدأ أو عادة أو للتأثير على مواقف الآخرين العاطفية.." جي.إي.براون – تعريب الدكتور عبد اللطيف الخياط – أساليب الإقناع وغسيل الدماغ – الطبعة الثالثة – دار الهدى للنشر والتوزيع. بتصرف.
(2) د. أحمد نوفل. كتاب الإشاعة.(1/21)
إذن هناك طرف معادٍ يقوم بالدعاية بأسلوب مخطط، في محاولة غزو نفسية المجتمعات العربية والإسلامية. ويحقق أهدافه من خلال هذا التلاعب بالأفكار والعواطف عند الآخرين. ويقول المؤلف في موضع آخر: ".. ولقد آتت هذه الحرب أكلها، ووصلت إلى نتائجها، لأول مرة في تاريخ المسلمين، هزيمةً روحيةً وشعوراً بالتفوق المنهجي الغربي"(1) ويقول تشرشل: "كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه
التاريخ."(2)
إن الحرب النفسية حقيقة واقعة على مجتمعاتنا من قبل أعدائنا. وهي حرب لديها برامجها وفكرتها المركزية وفكرتها المحفزة. وهي حين تغزو المجتمعات، فهي تعتقد أنها هشة، وأنها قادرة على امتصاصها، والتلاعب بها، وتُستخدم في توجيه هذه المجتمعات، بحيث تنساق وراء مطالب الدول المهيمنة.
ويقول محمد صفا في كتاب "الحرب": ".. المحاربة النفسية تتجه بكل ثقلها للضغط على الأعصاب، فتلقي في روع السامع شعوراً بعقم المقاومة وحتمية الهزيمة.."
وهكذا سنجد أن الحرب النفسية تتميز بالقدرة على تدمير الإرادة الفردية وإحداث التدمير الاجتماعي. "..وترتبط الحرب النفسية ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الرأي العام وشروط تكونه والثبات عليه أو تغييره. وهي تلعب الدور الرئيس والمميز في تكوين هذه الشروط. وهنا يتدخل علم نفس الجماهير كلاعب أساسي على مسرح الحرب النفسية.."(3)
ما هي المواضيع الرئيسة للحرب النفسية؟
لقد حفل التاريخ القديم والحديث بنماذج متعددة من الحرب النفسية، والتي شملت المواضيع التالية:
دس الذعر.
شتم العدو وتحقيره.
دس الشائعات ونصب الفخاخ.
تضخيم قوة الصديق والمبالغة في حجمها.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) ونستون تشرشل، كان رئيس وزراء بريطانيا، أيام الهجوم النازي على بريطانيا وقد قاد معركة الدفاع عن بريطانيا ضد هتلر النازي.
(3) المقدم دكتور علي عواد. الدعاية والرأي العام. مضمون ونماذج من الحرب في لبنان والخليج – تجارب دولية. الطبعة الأولى. بيروت 1993م.(1/22)
إثارة البلبلة والتوتر والفضائح.
الحيلة والإيحاء.
الترغيب والترهيب والتضليل ورسم الآمال الخيالية.
استغلال الانشقاقات الدينية والعقائدية أو خلقها.
التهديد بالسلاح المتفوق.
عقيدة العدو افتراءً غير محق.
إلى ما هنالك من مواضيع أخرى.(1)
كيف تتلقى الجموع هذه الحرب النفسية؟
وحتى نعلم كيف تتلقى المجتمعات هذه الحرب النفسية الموجهة يجب أن نشير إلى أقسام الرأي العام(2) في فترات السكون ثم في مراحل الأزمات.
أولاً: في فترات السكون والدعة:
سنجد أن المجتمعات تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة:
عقل قائد: وهم صفوة المجتمع من القادة والمفكرين والعلماء والساسة، وهؤلاء نسبتهم ضئيلة في المجتمع، وهم يصنعون الدعاية ولا يتأثرون بها.
عقل مثقف: وهم المتعلمون والمثقفون الذين يشاركون في صناعة الرأي العام والتأثير على من دونهم من حيث الثقافة.
عقل العوام: وهو يمثل الرأي العام الشعبي. وهو ما يمكن أن يطلق عليه (رأي أنثوي)، أي يهتم بالعواطف وينساق وراءها، ولا يُحَكِّم العقل.
ثانياً: في فترات الأزمات:
وسنلحظ هنا ظاهرة عجيبة. وهي اختفاء الشريحة الثانية في أوقات الأزمات. حيث يتحول العقل المثقف إلى عامي وبالتالي ينضم المثقف إلى الرأي العام العامي. وبذلك نجد أمامنا شريحتين: عقل القائد وعقل العامي.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) الرأي العام في مجتمع ما هو خلاصة آراء مجموعة من الناس أو الرأي الغالب أو الاعتقاد السائد أو إجماع الآراء أو الاتفاق الجماعي لدى غالبية فئات الشعب أو الجمهور يحكمه العقل – الوجدان – الثقافة تجاه أمر ما أو ظاهرة أو موضوع أو قضية.
منقول من كتاب عبد المنعم ثابت في كتابه "التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور"وكتاب "الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية" للكاتب محمد عبد القادر حاتم.(1/23)
ولهذا السبب تتجه القيادات السياسية دائماً إلى مخاطبة الرأي العام العامي وليس المثقف في أوقات الأزمات. فنجد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مثلاً يتحدث عن الخير والشر، وعن الأخيار والأشرار عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
ونحب أن نؤكد هنا أن الجهل بنفسية الجماهير وكيفية تقبلها للأفكار يحول دون إمكانية حشدها وبعثها نفسياً. ومن المبادئ التي يجب الاهتمام بها عند التعامل مع الجمهور(1):
الجمهور لا يقبل الأفكار المركبة وإنما يهتم بالشعارات والرموز والصور.
الجمهور بحاجة إلى قائد يجسد الفكرة ويرى فيه الأمل.
لا يظل الرأي مستثاراً لفترة طويلة إلا إذا شعر الناس بأن صالحهم الخاص يتصل بهذا الرأي اتصالاً قوياً.
الجمهور – كقاعدة عامة – يعترض على مواقف لا على مباديء، ومن ثم قد تحدث تغيرات فجائية في الرأي إذا تعدل الموقف.
دخول قوة شخصية جديدة تمثل بوضوح مسألة من المسائل، قد يحدث تغييراً مفاجئاً في الرأي. أما الأسباب والبراهين فقلما كان لها سيطرة ثابتة على عقول معظم الناس.
يصاب الرأي العام بحالة من الإثارة في حالة إذكاء الروح العسكرية والتبشير بالنصر.
يتأثر الرأي العام ويتقرر بالأحداث أكثر من تأثره بالكلمات.(2)
نماذج للحرب النفسية
نموذج فيتنام وأمريكا
إذا نظرنا إلى التجربة الأمريكية في فيتنام سنجد دولة عملاقة متفوقة حجماً وموارداً وعلماً وتقنية وقدرة تدميرية، تتجه إلى شعب فقير أعزل تريد أن تحاصره، وأن تسيطر وتهيمن عليه. فتنطلق في حرب مدمرة ضده، وتجتذب إليها نصف الشعب ليقف معها، وحكومة عميلة تمارس دور العراب، أو حصان طروادة ،لكسر هذا الشعب الفيتنامي، وتقاوم حركة المقاومة.
__________
(1) منقول بتصرف من كتاب عبد المنعم ثابت "التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور".
(2) يمكن الرجوع في هذا المجال للكتب التي تتحدث عن الدعاية والرأي العام.(1/24)
وإذا أمعنا النظر في هذا النموذج سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية المتفوقة تستخدم كل الأسلحة الممنوعة في تلك اللحظة التاريخية ضد حركة المقاومة الفيتنامية. ومن الناحية العملية لا يمكن للثوار ككتلة أن يصمدوا أمام هذه الآلة العسكرية. ولكن يبقى أمام المستضعفين استراتيجية واحدة: وهي إطالة أمد الحرب، وزيادة تكاليف بقاء الخصم. فاستخدموا أسلوب حرب العصابات، وحروب الكر والفر، وحرب الغارات، والهجوم المضاد، بمجموعات صغيرة. وقد كان بإمكان العملاق الأمريكي الضخم أن يدهس أي قوة تواجهه - وإن كانت كتلة كبيرة - ولكن عندما تكون الهجمات من مجموعة من البراغيث التي تلسع فتدمي ثم تفر؛ تحدث عملية الاستنزاف لهذا الفيل الضخم، عبر هذه البراغيث الكثيرة. وهكذا استمرت عملية ليْ الذراع أو العض المتبادل. وكانت الحرب حرب إرادات. وجهت فيها الولايات المتحدة الأمريكية كل آلاتها الإعلامية والدعائية، وكل إجراءاتها لإقناع الطرف الآخر- وهم الفيتناميون- باستحالة تحقيق أهدافهم وحتمية هزيمتهم.
ثم ماذا كانت النتيجة؟! انتصر الطرف الأضعف على الطرف الأقوى؛ لم يعد الفيل قادراً على الصمود، وأصبحت تكلفة البقاء أكبر بكثير، من الفائدة من البقاء، وانتصرت الإرادة، ولم تنكسر نفسية الفيتناميين.
من أين جاءت هذه النتائج التي قلبت المعادلة؟! إذا اتفقنا على أن الولايات المتحدة حاربت الفيتناميين بنسبة عشرين في المائة للحرب النفسية، وثمانين في المائة لحرب الآلة، فقد استطاعت المقاومة الفيتنامية قلب المعادلة بحيث أصبحت الثمانون في المائة حرباً نفسية والعشرون حرب آلة؛ لأنه إذا ما تم كسر إرادة الخصم، لم يعد هناك حاجة إلى استخدام الأدوات، فالأدوات فقط من أجل إقناع الطرف الآخر بعدم جدوى المحاولة بحيث يقع في روعه - كما يقول محمد صفا - الشعور بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة.(1/25)
هذا النوع من الأداء، أعطى مؤشراً واتجاهاً آخر للحروب؛ فأصبحت الحروب اليوم تتجه في كتلتها الأساسية إلى المحاربة النفسية. إذ تلقي في روع الخصم عدم جدوى المقاومة، وأن الحرب لا محالة منتهية لصالح عدوه، وبالتالي عليه الاستسلام.
الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية
إذا نظرنا إلى الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية، سنجد أن هذا الكيان الصغير يؤثر على مجموعة كبيرة جداً من الدول، ويقودها إلى الاستسلام!! وهذا ما لم يكن ممكناً لولا استخدام فن المحاربة النفسية بكثافة شديدة وعنيفة، ما أدى إلى انكسار إرادة قادة أغلب هذه الدول أمام تلك الأوضاع.
آليات البعث النفسي ومواجهة الحرب النفسية
وإذا كانت الحرب النفسية تريد أن تقنعنا كأمم وشعوب بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة، فالمطلوب منا أن نواجه المعركة الضخمة من الحرب النفسية - التي مجالها العقول والنفوس، والتي تستخدم فيها الكلمات والعبارات والإجراءات- بحرب نفسية مضادة، أو بعملية إنقاذ نفسية، إن صح التعبير.
وفي آليات البعث النفسي: ... فإن واجب الإعلام اليوم هو الاهتمام بأدوات التعليم. وواجب قادة الدول الإسلامية وحكوماتها هو إعادة صياغة الخطاب الجماهيري. وإعادة صياغة التعليم، وكل أشكال التوجيه؛ لإيجاد كتلة حرجة مؤمنة بإمكانية النجاح، ومحصنة ضد عوامل اليأس. وهذا يحتاج إلى تعاون بين المفكرين وبين قادة هذه المجتمعات وحكوماتها، وبين قادة الرأي وبين العاملين في الإعلام، والتعليم؛ حتى تصبح نظرية الحرب النفسية مفهومة، وتصبح جزءاً من تكوين الفرد المسلم العربي في مجتمعاتنا. لابد من فهم مؤكد لقضية المحاربة النفسية، وأثرها في التأثير على المجتمعات.(1/26)
إذن لابد من باعث نفسي داخلي كبير، ليتم تغيير الواقع الخارجي. فانتصار الطرف الآخر علينا - داخلياً في أفكارنا ونفوسنا - يعني عملياً انتصاره علينا في واقعنا. أما انتصارنا على أنفسنا في الداخل، فيعني إمكانية تحقيق النتائج في الخارج.
وخلاصة القول أنه لا نجاح للفكرة المركزية إذا لم ينجح البعث النفسي(1). والبعث النفسي يبدأ من الفرد والمجموعة المؤمنة بمشروع النهضة وينتهي بالأمة معقد الآمال.
ونجاح هذا البعث النفسي يتطلب:
أولاً: إعادة عرض الفكرة المركزية وتاريخها.
ثانياً: عمل تراكم في الإنجازات العملية.
ثالثاً: توظيف إنجازات الآخرين لصالح المشروع.
رابعاً: حسن عرض الإنجازات.
فإعادة عرض التاريخ واختيار المواطن التي تغرس العزة والأمل أمر في غاية الأهمية. كما أن الإنجازات الفعلية أمر لابد منه. خاصة في مجتمعاتنا التي أرهقتها التحديات. يقول دووب: "يظل الرأي العام كامناً إلى أن ينشأ موضوع يشغل اهتمام الناس – والموضوع الذي يشغل اهتمام الناس لا ينشأ
إلا عندما يكون هناك صراع وقلق وإحباط".(2)
__________
(1) المادة التي تهتم بتناول البعث النفسي هي مادة الدعاية السياسية. وينقسم الناس حولها إلى ثلاثة أقسام كما سبق أن وضحنا:
رأي عام قائد: يصنع الدعاية السياسية ولا يتأثر بها. وإلى هؤلاء أشار القرآن في سورة النساء "لعلمه الذين يستنبطونه منهم".
رأي عام مثقف: يتلقى الدعاية السياسية في أوقات الاستقرار، فيتأثر بها جزئياً وقد يكون له رأي فيها، ولكنه في أوقات الأزمات يتحول إلى رأي عام عامي.
رأي عام عامي: وهو موقع الفعل المستهدف من قبل الدعاية السياسية والذي يتأثر بها سريعاً. وهو التيار العريض.
(2) د. محمد عبد القادر حاتم. الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية. مكتبة لبنان. بيروت.(1/27)
ومن هنا نفهم خطورة المقاومتين الفلسطينية والعراقية على المشروع الغربي. فالمجتمعات والشعوب العربية والإسلامية تدرك تماماً أن هاتين المقاومتين تُحارَبان من قِبَل الجيوش المحتلة، ومن قِبَل أجهزة استخبارات تلك الدول. ومع ذلك لا تزال تلك المقاومة تصر على الفعل المُقاوِم، بل وتحرز الكثير من الإنجازات والمكاسب. فهي بذلك تُجرئ الشعوب العربية والإسلامية على الفعل المقاوم، وتبعث فيهم المكنة النفسية والقوة الدافعة من خلال تراكم الإنجازات العملية على أرض الواقع. ومن هنا تأتي الخطورة الحقيقية للمقاومة على مشاريع الاحتلال. فهي تَجْرِييء للشعوب على المقاومة، ليُفاجأ المحتلون بأنهم لا يحاربون مجموعة أو مجموعتين من المقاومين؛ بل يحاربون الشعوب كلها، وهو ما يهدد مشاريع الاحتلال في صميمها.
أما قضية استثمار إنجازات الآخرين التي تصب في صالح المشروع فلا يزال التخندق – الذي يخيم على بعض العاملين في النهضة- حائلاً دون ذلك. فبعض التيارات لا تعرض سوى إنجازاتها، ولا تعرض إنجازات غيرها ممن قد يخالفها في المدرسة الفقهية أو في مجالات العمل. وهم بذلك يضيقون واسعاً، ويظنون أنهم – وحدهم – ممثلو الأمة، بل وبعضهم يزيد على ذلك فينقد أي إنجاز لتيار آخر، ويخرجه من دائرة الإنجازات.
إن هذه العقلية الطفولية التي لا تنظر لصالح الإسلام ومشروعه هي عقبة كئود في طريق النهضة، وهذه النظرة أرهقتنا كثيراً في مرحلة الصحوة ونتج عنها مشاحنات وخلافات بين أبناء(1/28)
المشروع نفسه. لسان حال بعض هذه التيارات: {لو كان خيراً ما سبقونا إليه}(1). ومرحلة اليقظة تتطلب الإنصاف في عرض الإنجازات، والإيمان بأنها كلها ملك للأمة، وأنها جهود من تيارات مختلفة تعددت اجتهاداتها، فتنوعت إنجازاتها. لقد آن للمشروع أن تقوده عقليات قائدة – تجمع لا تفرق - لا تنظر إلا سفاسف الأمور بل توظف كل إنجاز لرفع الروح المعنوية للأمة. ويكفي أن الوحي بشر بانتصار الروم - وهم ليسوا مسلمين – ليرفع معنويات الأمة آنذاك. قال تعالى: {غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}(2).
إن استثمار كل إنجاز لأي تيار وعرضه للجماهير أمر هام جداً في عملية البعث النفسي.
وتبقى النقطة الأخيرة وهي حسن عرض الإنجازات واستخدام كل الوسائل والتكنيكات الحديثة لتحقيق ذلك مع دراية جيدة بنفسية الجماهير وكيفية تشكل الرأي العام لديهم.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
معرفة منطوق القانون ومعناه.
الإلمام بعلوم الإعلام والدعاية السياسية والرأي العام(3) والحرب النفسية كأدوات في الصراع.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
إعادة عرض التاريخ.
عمل تراكم في الإنجازات العملية.
توظيف إنجازات الآخرين.
حسن عرض هذه الإنجازات بما يتمشى مع أدق قواعد علوم الدعاية السياسية والرأي العام.
__________
(1) سورة الأحقاف: 11
(2) سورة الروم
(3) يقول عبد المنعم ثابت في كتابه "التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور":
"كما أن رجل الإعلام الذي لا يعرف جمهوره وواقعه بما يتضمنه هذا الواقع من قيم وعادات وتقاليد بالإضافة إلى حاجات الجماهير ليس من المتوقع له أن ينجح على الإطلاق في التأثير عليهم".(1/29)
ولعل المهتمين بالعمل الإعلامي والتعليمي والخطابي في مشروع النهضة لهم دور كبير في استخدام هذا القانون.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم استثمار إنجازات جميع العاملين
في ساحة الفعل النهضوي، أو إذا أسيء عرضها أو استخدامها.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذه الإنجازات بصورة ارتجالية غير علمية، وإذا لم يتم استخدام أدوات الدعاية السياسية والرأي العام والحرب النفسية.
معادلات القانون:
وجود فكرة مركزية وفكرة محفزة + بعث نفسي وروح إيجابية = استعداد للعمل والانطلاق.
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم السلوك"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.
تغيير إيجابي في عالم السلوك: ويُقصد به تحول إيجابي في ممارساتنا وواجباتنا اتجاه الخالق واتجاه الذات واتجاه الخلق.
أهمية القانون
إن سنة التغيير هي سنة مجتمع لا سنة أفراد. وهي سنة دنيوية لا أخروية. فلابد أن يغير المجتمع نفسه أولاً حتى يُحدث الله التغيير في أحواله الخارجية(1). ولا يحدث هذا التغيير إلا بإيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تفقه هذا القانون وتعرف كيف تتعامل معه.
ونقصد بالكتلة الحرجة هنا وجود كم من الأفراد يمكن بواسطة جهودهم الانتقال من حال إلى حال بعد استيعابهم في العملية التغييرية. فإن الكم البشري النوعي الذي يلزم لنجاح أي عملية من عمليات الانتقال من حال إلى حال يختلف من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى آخر. ولكن في كل حالة من هذه الحالات لابد من وجود الكتلة الحرجة التي في غيابها لن يحدث التغيير المطلوب.
مجال التغيير الذاتي
__________
(1) جودت سعيد. كتاب "حتى يغيروا ما بأنفسهم". بتصرف.(1/30)
إن تغيير الواقع الداخلي هو المحرك الرئيس في التغيير الخارجي. ويقول الله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغير من بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(1). فالتغيير الخارجي في أحوال قوم ما أو مجتمع ما أو أمة ما لا يمكن أن يتم حتى يحدث هذا التغير الداخلي داخل هذه الأنفس.
مجال التغيير الداخلي:
وللتغير الداخلي مجالان: الأول مجال الفكر (العقل)، والثاني مجال المشاعر (القلب). وهناك ارتباط جذري بين هذين المجالين. فعندما يصح عالم الأفكار، وتصبح الفكرة المحفزة قوية وملحة، فإنها تشعل داخل النفس طاقاتها، وتحرك فيها تلك المشاعر من الحب والكره، وتتولد القوة الدافعة أو المكنة النفسية. وبالتالي تنطلق طاقات الإنسان في محاولته لتحقيق فكرته على أرض الواقع. فالتغيير الداخلي في الأفكار والمشاعر أمر أساسي لنجاح حركة التغيير. فعندما تتغير الأفكار والمشاعر، يحدث سلوك جديد، ومن ثم نتوقع أن تكون النتائج أيضاً مختلفة.
مثال:
فعندما تغيرت أفكار الغرب في لحظة تاريخية ما عن أفكار الكتاب المقدس – في دينهم - بما فيه من أمور رأوا أنها تقيد العقل، وتحد من طاقات الإنسان، وتطالبه بالانعزال عن الكون، وألا يستمتع بجسده أو بالكون من حوله بدعوى الرهبانية، انطلقت فكرة جديدة تدعو إلى:
تحرير العقل.
إطلاق الطاقات.
البحث في كل مجال.
التساؤل عن كل الكون.
اعتماد العقل كمرجعية في تنظيم المعارف.
تنظيم المعلومات.
اعتماد الحجة والبرهان.
عدم التسليم بمقولات الآخرين.
ومع انتشار هذه الأفكار وغيرها، والحماس لها، ووجود الفكرة المحفزة في هذه اللحظة - وهي مقاومة الفكرة الرجعية السائدة، التي كانت تريد تقييد العقل - ولدت القوة الدافعة. فانطلق العلماء في تحد ضخم، وانطلقت المجتمعات في تحد كبير للأفكار القديمة البالية، وللتيار الذي يمثلها، لتنطلق وتفتح الآفاق، وتجدد الحياة من حولها.
__________
(1) سورة الرعد: 11(1/31)
هذا السلوك الجديد الذي نشأ عن تغير أفكار الناس ومشاعرهم، نتج عنه تغير سلوكي في عمليات البحث والتقنين والاختيارات وما إلى ذلك. وبالتالي بدأت النتائج الخارجية تتغير لهذه المجتمعات، وبدأت تثمر في ميادين الثقافة والفكر والعلوم التطبيقية والفتوحات والهيمنة والسيطرة على المجتمعات الأخرى.
فالله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي حتى تتغير لديهم هذه المنظومات العقلية المقيدة، وتولد عندهم الفكرة المحفزة والروح التي تدفعهم لتحويل هذه الأفكار إلى واقع في حياتهم وذلك عبر التحولات والتغيرات السلوكية الإيجابية.
إذن لدينا قضية كبيرة في عالم الأفكار الداخلي، فالناس لديها عقائد وتطبيقات، ولديها مسلمات مختزنة في عقلها، وهذه إما أن تكون من النوع الحي المحرك الذي يفتح الآفاق، أو النوع المغلق الذي يغلق كل الآفاق.
المطلوب ثلاثة أنواع من التغيير:
تغير إيجابي في عالم الأفكار. وهو الجزء الذي يغذيه العلم والخبرة، بشتى أنواعها.
تغير إيجابي في عالم المشاعر من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز، والشعور المتجدد بالحياة. قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين بالنصر: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}(1)، ودعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسن الظن بالله فقال ناقلاً عن رب العزة في الحديث القدسي {أنا عند ظن عبدي بي}(2).
__________
(1) سورة الروم: 47
(2) صحيح البخاري(1/32)
تغير إيجابي في عالم السلوك والممارسة.(1)
وهكذا فإن اختيار الفكرة المركزية، واستخدام الفكرة المحفزة، ثم اجتثاث الأفكار المعطلة والقاتلة التي تعيق حركة الإحياء الإسلامي، وتعيق تقدم المسلمين، كل ذلك من متطلبات العصر، ويجب أن تتحمله الأمة الإسلامية وهي تنطلق إلى مستقبلها الواعد إن شاء الله عز وجل. فإذا تمكنت الأمة بعد هذه المعالجات العقلية من أن تبعث عالم المشاعر والأحاسيس، وتزرع المكنة النفسية والقوة الدافعة في المجتمعات العربية والإسلامية، فستنطلق هذه المجتمعات نحو التغيير والنهوض عبر التغير الحادث في عالم السلوك والممارسة.
مراحل وأسس التغيير
وتمر عملية التغيير – سواءً كانت في الأفراد أو المنظمات والهيئات أو الدول – بأربعة مراحل كبرى:
1. مرحلة الإنكار: وفيها يسود الاعتقاد بهدوء وسكون الأوضاع. وتواجه أي صيحة تبشر بالتغيير بالدهشة وعدم التصديق.
2. مرحلة المقاومة: وفيها تبدأ تباشير التغيير بالظهور، فتتعرض العملية التغييرية للمقاومة من قِبَل الجاهلين بها، والمستفيدين من ثبات الأوضاع. فتُوضع العراقيل، ويشتد الغضب على القائمين على العملية التغييرية، وتُكال لهم التهم والنعوت حتى ينفض الناس عنهم.
__________
(1) يظن البعض أن قول الله "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" يعني إصلاح النفس من خلال العبادات والمجاهدة وفقط. إن النفس تحتوي على أفكار ومشاعر ينتج عنها سلوك، ومن ثم فإن تغيير ما في النفس يشمل تغيير الأفكار المقيدة وتغيير المشاعر وتغيير السلوك. ويجب أن تشمل عملية التغيير الجوانب الثلاثة ولا تقتصر على العبادات وفقط. فقد جاء القرآن بعبادات وجاء ليصحح من أنماط تفكير المسلمين ويخاطب مشاعرهم، ويطالبهم بتغيير سلوكهم.(1/33)
3. مرحلة الاكتشاف: حيث يشتد عود العملية التغييرية بعد عبورها للمرحلتين السابقتين، فيُقبل الناس على دراسة هذا الأمر الجديد والتعرف عليه. وتثار تساؤلات كثيرة، مثل ما الذي سيحدث لنا في حالة كذا؟ وكيف سنواجه تلك المعضلة؟ وكيف سنفعل كذا؟ وغيرها من التساؤلات حول الفكرة وطبيعتها.
4. مرحلة الالتزام: وفيها يتساءل الناس عن أدوارهم في هذه العملية التغييرية بعد أن تعرفوا عليها واكتشفوها واقتنعوا بجدواها وأهميتها.
وهنا يثار تساؤل هام حول أسس العملية التغييرية. سواءً كانت للأفراد أو الحركات أو الدول والمجتمعات.
إن لعملية التغيير ثلاثة أسس كبرى:
1. تعلم التعلم: فأول ما يجب غرسه في الأفراد أو المجتمعات التي تتعرض لعملية التغيير هو تعلم كيفية تحصيل المعرفة والعلم. وقديماً قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: "لا تعطني سمكة كل يوم ولكن علمني كيف أصطاد السمك".
2. كسر الأماني والعادات: فعملية التغيير غالباً ما تكون مصحوبة بالآلام والجراح والصعوبات، ولا تتم بسهولة وسلاسة ويسر. لذا فكسر العادات التي تأسر المرء وتتحكم فيه وتمنعه من التضحية
والبذل من أهم أسس التغيير.
3. تغيير السلوك: فعملية التغيير في جوهرها هي الانتقال من حال لآخر. تغيير كامل وشامل في الأفكار والعلاقات والسلوك؛ بل والأشياء. فتغيير السلوك بما يناسب الحالة الجديدة المطلوب تحقيقها أمر بالغ الأهمية.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل معرفة القانون القدرة على الإجابة على الأسئلة التالية:
من المطلوب تغييرهم؟
وتغييرهم إلى ماذا؟
وهل المطلوب تغييرهم في جانب واحد أم في جميع الجوانب؟
ومن الذي سيقوم بالتغيير؟
وكيف؟
وإذا كان آخرون قد تغيروا فكيف حدث لهم ذلك التغيير؟
وما مقاييس أو معايير التغيير؟
وما المؤشرات الدالة على نجاح عملية التغيير أو فشلها؟
ما عناصر مقاومة التغيير؟(1/34)
وما الجهات التي تقاوم التغيير؟
وما المدى الزمني للتغيير؟
وما أهمية أدوات الدولة في التغيير؟
وأخيراً أين نقرأ عن التغيير؟(1)
وليس لهذه الأسئلة إجابة واحدة؛ بل إن الإجابة عليها تختلف باختلاف الزمان والمكان والظرف. لذا لا يستطيع طلاب النهضة وقادتها في بقعة ما أن يقولوا بمعرفتهم بهذا القانون قبل أن يجيبوا إجابات قاطعة على التساؤلات السابقة.
وهكذا نلمس أهمية هذا القانون، وأنه يكاد أن يكون خطة عمل كاملة لتغيير المجتمعات والنهوض بها.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال إيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تستطيع قيادة العملية التغييرية.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم الإجابة على التساؤلات الخاصة بالعملية التغييرية.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذا القانون بشيء من السذاجة والعفوية.، كالانشغال بإصلاح جانب دون آخر.
معادلات القانون
وتوضح هذه المعادلة مدى الترابط والتلازم بين هذه القوانين الثلاثة الأولى من قوانين النهضة. ويمكن توضيح هذا التلازم والتفاعل من خلال الشكل التالي:
الخلاصة
وهكذا يتبين لنا مما سبق، أن هذه القوانين الثلاثة السابقة تمثل منظومة ثلاثية واحدة. تخاطب العقل من خلال الفكرتين المركزية والمحفزة. وتخاطب القلب والروح من خلال المكنة النفسية أو القوة الدافعة. وأخيراً تقود إلى التغيير من خلال التحولات السلوكية الناجمة عن الاقتناع بالفكرة وملامستها للقلب.
__________
(1) يُدرس التغيير في علم الاجتماع. وتعد التجربة التاريخية مخزناً علمياً كبيراً لمشاريع التغيير وأنماط حركتها.(1/35)
وخلاصة القول أن قيام الأمم والحضارات ونهوضها يعتمد بالضرورة على وجود فكرة صلبة تقتنع بها الأمة. لتولد هذه الفكرة قوة دافعة هائلة تبعث الأمة من رقادها وسباتها، وتكون بمثابة البعث النفسي لها. وأخيراً تأتي التحولات السلوكية الناتجة عن ذلك البعث النفسي لتكون أولى خطوات الأمم نحو التغيير والنهوض.
أما سقوط الأمم فينتج عن فشل الفكرة في مخاطبة العقل، أو فشلها في ملامسة القلب. وبالتالي تفقد الأمة الفكرة الصلبة الجامعة، فتسقط وتهوي.
منطوق القانون
"تحتاج أي نهضة لشريحة بدء وشريحة تغيير وشريحة بناء"
مفردات القانون
الشريحة: ونقصد بها المجموعة من الناس التي تتقارب مستوياتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والمهارية، بالإضافة إلى تقارب أهدافهم وإمكاناتهم. وسنستخدمه هنا بمعنى أوسع يقترب من فريق أو طائفة.
شريحة البدء: وهم الرعيل الأول من الناس الذين يجتمعون حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، ويستعدون للتضحية من أجلها. وليس بالضرورة أن ينتمي كل أعضاء شريحة البدء لطبقة أو شريحة اجتماعية معينة؛ بل قد يكون هناك خليط من أكثر من طبقة أو شريحة.
شريحة التغيير: هي الفئة القادرة على إعطاء المنعة، والتمكين أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون تغيير الأوضاع.
شريحة البناء: وتشمل كل فصائل المجتمع الذين يساهمون في بنائه وتقدمه بعد نجاح العملية التغييرية وهيمنة الفكرة المركزية. لذا فهي تضم المؤمنين بالفكرة وغير المؤمنين بها.
أهمية القانون
إن تحديد الشريحة الملائمة للمرحلة التي يمر بها المشروع في غاية الأهمية. إذ أن أكثر التجارب الفاشلة إنما فشلت للخلط بين هذه الشرائح. لذا فإنه يمكننا القول بأن من لا يفقه قانون اختيار الشرائح لا يمكن أن ينجح. وسيفقد اتجاهه ويدور حول نفسه.
اختيار شرائح التغيير(1/36)
عادةً ما تبدأ عملية التغيير من نقاط أو قضايا ملحة. حيث تتكون رؤية جديدة من التشكل الاجتماعي، أو يبرز تيار يرغب في المغالبة، أو فئة محرومة، أو دين جديد، أو قضية جديدة، كنقطة تبدأ منها عملية الحراك.
وتحتاج كل حركة تغييرية إلى ثلاث شرائح مختلفة. حيث تعبر كل شريحة عن طبيعة المرحلة التي تمر بها الحركة التغييرية. وهذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة البناء.
شريحة البدء:
وهم الرعيل الأول أو المجموعة الأولى التي تطلق شرارة التغيير، وتنادي بأفكارها. إلا أنهم لا يملكون من الإمكانات والمهارات – كمجموعة وشريحة - ما يمكنهم من إحداث التغيير بأنفسهم. ولا يعني هذا أن أفراد هذه الشريحة لا يملكون مواهب أو إمكانات؛ إنما نقصد أن هذه الشريحة في مجموعها لم تصل إلى النقطة الحرجة من الإمكانات والمهارات التي تؤدي إلى حدوث التغيير.
ولننظر إلى شريحة البدء التي تجمعت حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة. فقد تكونت من أناس آمنوا بالفكرة الجديدة إيماناً جازماً قويا.ً فتجمعوا حولها وحول قيادتها، وبدءوا في الدعوة إليها والتبشير بها في المجتمع المكي.
وقد ضمت هذه الشريحة النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، والأحرار والعبيد، والأقوياء والضعفاء. إنهم خليط من الناس الذين اجتمعوا حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، فآمنوا بهذه الفكرة، وأخذوا يدعون إليها، وكانوا على أتم الاستعداد للتضحية والبذل في سبيلها.(1/37)
وبالرغم من أن هذه الشريحة ضمت العديد من الكوادر النوعية التي تملك الكثير من المهارات والقدرات والإمكانات كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في المجال الاقتصادي، ومصعب بن عمير في مجال التمثيل الدبلوماسي – إن صح التعبير - وعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في القوة والشدة والفروسية وغيرهم؛ إلا أن تلك الشريحة لم تكن تملك في مجموعها القوة الكفيلة بإحداث التغيير وقلب ميزان القوى لصالحها؛ بل إن إسلام حمزة وعمر – الذيْن أعز الله بهما الإسلام – لم تزد ثمراته عن إعلان المسلمين عن أنفسهم وشعائرهم.
دور الشريحة
ويكاد ينحصر دور شريحة البدء - في مجموعها - في التبشير والتعريف بالفكرة، والثبات عليها والصمود أمام الترغيب والترهيب الرامي إلى إثنائها عن التبشير والدعوة للفكرة.
وهنا يجب التنبيه إلى أن شريحة البدء لها عمر افتراضي محدد. وأن لتلك المرحلة التي تمثلها هذه الشريحة وقتاً ودوراً محدديْن. أما إذا طال أمدها ولم يتم الوصول إلى شريحة التغيير تفقد هذه الشريحة
الاتجاه، وتصاب بحالة أشبه بالشلل الفكري والتنفيذي. حيث أنها تعتقد بقدرتها على إحداث التغيير. بينما يؤدي فشلها المتكرر – نتيجة لعدم توفر الكتلة الحرجة من القوى والإمكانات – إلى فقدان الثقة بالنفس، واليأس من إمكانية التغيير، فتعلو الصيحات المطالبة بالاكتفاء بإصلاح الأوضاع الفاسدة بدلاً من تغييرها، فتخبو نبرة القوة وتلين حدة الفكرة.
مواصفات الشريحة(1/38)
ومن مواصفات هذه الشريحة الثبات والصبر والصمود والقوة، والقدرة على التبليغ والتعريف بالفكرة، وعلى الدخول بها في مساحات لم تكن قد طرقتها من قبل. كإسلام القبائل غير القرشية كقبيلتي غفار ودوْس(1). كما تتصف هذه الشريحة - في مجموعها - بالاعتماد شبه الكامل على القائد(2).
وهكذا نجد أن إيجاد هذه الشريحة يكاد يكون نقطة البداية الطبيعية لأي حركة أو عملية تغييرية نهضوية.
دور القائد في هذه المرحلة
أما دور القائد في هذه المرحلة فهو رسم الطريق لأتباعه وتأمينهم وحمايتهم بكل طريقة ممكنة، بالإضافة إلى البحث الدءوب عن الشريحة القادرة على إحداث التغيير.
شريحة التغيير:
__________
(1) أسلمت قبيلة غفار على يد أبو ذر الغفاري بينما أسلم ثمانون بيتاً من قبيلة دوْس على يد الطفيل بن عمرو الدوسي.
(2) نذكر هنا بأن كثيراً من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لهم آراء ورؤى وتصورات، ولكننا نشير إلى الغالبية العظمى من الشريحة أو تيارها الجارف، حيث كانوا يعتمدون على قائدهم - صلى الله عليه وسلم - في وضع الحلول. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -هو الذي أمرهم بالهجرتين إلى الحبشة، وكان يعرض نفسه على القبائل؛ بل حتى بيعتي العقبة الأولى والثانية لم يعلم بها سوى أبو بكر وحمزة والعباس، إلى أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جموع المسلمين بالهجرة إلى المدينة فكانت مفاجأة سارة لهم.(1/39)
عادةً تحتاج المشاريع الكبرى كالمشاريع الحضارية، والنهضوية، والمشاريع الأيديولوجية – والتي تهدف إلى استنهاض المجتمعات وتنميتها - إلى القوة التنفيذية لإنجازها. بمعنى أنها تحتاج إلى دولة تملك حق تطبيق هذه الأيديولوجيات أو المشاريع الحضارية على المجتمعات التي تهيمن عليها. وحتى يخطو المشروع هذه الخطوة فهو يحتاج إلى شريحة ثانية. ويمكن تعريف هذه الشريحة، بأنها الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين (توفير أداة التنفيذ)، أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون نقل دعم الفكرة بقوة الدولة وما تمتلكه من إمكانات.
ولا نعني بكلامنا هذا إلغاء دور شريحة البدء في عملية التغيير؛ ولكننا نقصد أن شريحة البدء لا تمتلك - في مجموعها - أدوات القوة اللازمة لإحداث التغيير. سواءً أكانت تلك القوة المطلوبة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها. وهنا يأتي دور شريحة التغيير التي تمتلك - في مجموعها - هذه القوة المطلوبة، فتمضي الشريحتان معاً – الرعيل الأول وذوو الشوكة – لإحداث التغيير المطلوب.
شريحة البناء:
وعندما تتوفر للفكرة أدوات التنفيذ، وتقوم الدولة المنشودة؛ تأتي مهمة شريحة البناء. وهي شريحة تشمل كل فصائل المجتمع؛ المؤمن بالفكرة وغير المؤمن بها. فيساهم في عملية البناء مختلف الطاقات والفصائل والتيارات الموجودة في المجتمع كجزء من التحولات الاجتماعية والحراك الاجتماعي، مع تفاوت في مساهماتها في عملية البناء. وهنا يلزم عقد اجتماعي يعمل على استيعاب جميع شرائح المجتمع وفئاته بحيث تصبح أداة من أدوات التنمية وتجنيبها أن تصبح عصا لوقف عملية التنمية.
الشرائح الثلاث معاً:(1/40)
الشريحة الأولى، وهي نقطة البدء سواءً كانت تجمع النوع الذي التف حول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو كانت حزباً أو تجمعاً أو حتى أفراداً فهي عبارة عن طليعة أوعقل مفكر. إنها كيان صغير. قد يكون هامشياً ومعزولاً، وقد يكون في قلب الأحداث، لكنها على كل حال نقطة بدء.
ثم تأتي الشريحة الثانية بعدها، وهي الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين، إذا ما وجدت المبرر لذلك. ثم تتحرك شريحة البناء -والتي تضم كل طاقات المجتمع مجتمعة - من أجل نصرة الفكرة. ولا يُفَعَّل دور هذه الشريحة (البناء) إلا بعد توفر الأداة التنفيذية (الدولة) وبناء العقد الاجتماعي العادل الذي ينصف كل الشرائح.
اختيار الشرائح
والمعضلة الحقيقية التي يعاني منها العاملون في مجال النهضة هي الخلط بين هذه الشرائح الثلاث أو الجهل بها. فكثير من التجمعات أو التيارات والمؤسسات لا تعدو كونها شريحة بدء، ولا تمتلك من الكوادر النوعية وأدوات القوة المناسبة ما يؤهلها لإحداث التغييرات المأمولة. فتدخل في صراعات نتائجها محسومة مسبقاً لصالح الخصم، بدلاً من الانشغال بالوصول إلى شريحة التغيير المؤهلة لإحداث النقلة المطلوبة.
وسنجد أن بعض التجمعات والتنظيمات هي أقرب ما تكون في كوادرها وعقلياتها وقدراتها إلى شريحة البناء المنوط بها إدارة المشروع عقب الوصول إلى الأداة التنفيذية، بينما يزج بهم قادتهم في عمليات تغيير محسومة لصالح الخصم. فيخسر المشروع كوادره الصالحين لعملية البناء بعد التغيير.
نفهم من ذلك أن الخلط أو الجهل بهذه الشرائح يؤدي إلى كوارث حقيقية في ميادين التغيير. كما يصيب أفراد هذه الشرائح بالإحباط واليأس والشعور بالعجز.(1/41)
إذا تبين لنا خطورة الخلط بين الشرائح الثلاث أو الجهل بها، وقرر قادة النهضة وطلابها ضرورة اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة، نجد أمامنا معضلة أخرى كبيرة. فشريحة البدء يسهل تكوينها بأي صورة من الصور. فاجتماع أناس حول فكرة ما واقتناعهم بأهميتها، ثم إنشاء منظمة أو تنظيم أو حزب أو جماعة لمحاولة تنفيذ هذه الفكرة على أرض الواقع أمر في غاية السهولة. ولا أَدَّلُ على ذلك من كثرة التنظيمات والجماعات والفصائل والتيارات في العالم الإسلامي؛ بل وفي العالم كله. فالتنظيمات والتجمعات أكثر من أن تحصى. إنما المعضلة الحقيقة التي تقف أمام المشاريع، هي الوصول إلى شريحة التغيير القادرة على نقل المشروع من مجرد تنظيم أو تيار أو جماعة تُحارَب وتُقاوَم إلى دولة تحمل المشروع وتذود عنه وتصبغ المجتمع به.
ويظن البعض نتيجة لقراءاتهم للتاريخ، أو تقليداً لمقولات الأقدمين، أن هناك طريقة واحدة للوصول إلى هذه الشريحة التي لديها المنعة. ولكن الدراسة التاريخية المركزة تشير إلى أن عملية الوصول إلى هذه النقطة، والانتقال بالمشروع من طور الاستضعاف إلى طور التمكين، له من الوسائل ومن الاختلافات ما بين فصول السنة وما بين الليل والنهار وما بين تعدد الألوان والظلال في الكون. فالساحة مفتوحة للتفكير والتصور والتخيل؛ لا تحدها حدود.
خيار الرسول(1/42)
ولننظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فلقد ظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو أهله وأصدقاءه وعشيرته المقربين سراً مدة ثلاث سنوات. بعدها كان الجهر بالدعوة. فكانت دعوة كبراء مكة للإسلام، واتباع القيادة الجديدة. وظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يؤتي هذا الخيار ثماره بإسلام القيادة المكية – شريحة التغيير – التي تستطيع نقل الفكرة الإسلامية من جماعة مضطهدة مستضعفة إلى دولة – إن صح التعبير – تملك تطبيق البرنامج الإسلامي على كل المجتمع المكي وتصبغه بالصبغة الإسلامية. ولكن هذا الخيار لم يؤتي ثماره. فالقيادة المكية ظلت على شركها، وظلت مقاومة ومعاندة.
وبدءاً من العام العاشر للبعثة، أي بعد سبعة سنوات من محاولة الوصول لشريحة التغيير المكية، وإحساس النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم جدوى هذه المحاولة، انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى محاولة الحصول على شريحة التغيير من خارج مكة، من خلال الاتصال بالقبائل المحيطة، فكانت البداية بخروجه للطائف – ثاني أكبر قبيلة بعد قريش. وفي هذا يقول المقريزي: "ثم عرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم:
بنو عامر،
وغسان،
وبنو فزارة،
وبنو مرة،
وبنو حنيفة،
وبنو سليم،
وبنو عبس،
وبنو نصر،
وثعلبة بن عكابة،
وكندة،
وكلب،
وبنو الحارث بن كعب،
وبنو عذرة وقيس بن الخطيم،
وأبو اليسر أنس بن أبي رافع".(1)
فإذا أضفنا إلى هذه القبائل محاولة الطائف ومحاولته مع أهل يثرب سنجد أن مجموع المحاولات التي قام بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للوصول إلى الشريحة التغييرية يصل إلى ستة عشر محاولة.
ثم لننتقل إلى نوع الخطاب الذي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوجهه إلى هذه القبائل. يقول المقريزي:
__________
(1) المقريزي في إمتاع الأسماع (1 / 30، 31)(1/43)
".. وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟"(1).
وسنلاحظ هنا وضوح دور الشريحة في قوله "فيمنعني". أي أنه يريد القوة والمنعة والشوكة ممن
يستجيب له من القبائل.(2)
وإذا انتقلنا إلى نوع التفاوض الذي تم، ونوع الشروط التي تم وضعها، سنجد أن الهدف الأساسي هو الوصول إلى قوة قادرة على وضع المشروع في موقع التنفيذ من خلال كامل أجهزة الدولة وطاقاتها وملكاتها وقدراتها.
وحتى عندما حصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الشريحة ذات الشوكة تدرج في مفاوضاته معها. فكانت البيعة الصغرى أو بيعة النساء. وسنجد أن بنود هذه البيعة خاليةً من قضية المنعة، وامتلاك القوة. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع الجزم بعد بإمكانيات هذه الفئة القادمة التي قد لا تمتلك مثل هذه القوة المطلوبة. وهكذا
أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبعوثه مصعب بن عمير إلى يثرب ليرفع واقع المجتمع اليثربي، وللوصول إلى الشريحة القيادية التغييرية هناك.
أما بيعة العقبة الثانية فكانت مع أهل المنعة. وكانت مع قيادات يثرب الذين يستطيعون أن يدعموا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالقوة التنفيذية.
__________
(1) نفس المصدر السابق.
(2) لم تكن فكرة الرسول – الأساسية - قائمة على أن يدعو الفرد ثم الفرد يدعو غيره وهكذا حتى يتغير وجه المجتمع، وهذه الفكرة ليس لها أي دليل حقيقي لمن يتدبر في استراتيجية تحرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على طلب المنعة. بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل الكتلة الحرجة من المسلمين إلى الحبشة. وبذلك فإن تغير وجه المجتمع المكي من خلال دعوة الأفراد أصبح أمراً مستحيلاً، بعد ترحيل هذا العدد الضخم من حملة الفكرة.(1/44)
إذن هذا السعي المتعدد، هو وليد دراسة البيئة. فقد كان تكوين البيئة السياسي تكويناً تمتلك فيه القبائل جيوشها الخاصة. وكان يمكن الانتقال إلى قبيلة ذات منعة، لتكوين أول نواة تمتلك قوة حقيقية، كما تمتلك سلطتها التنفيذية.
بعض العاملين في الساحة النهضوية يقفون عند هذا النموذج. ولا يرون فيه المفهوم بل يرون فيه الإطلاق. بمعنى أنهم يتركون المفهوم وهو ضرورة الوصول إلى الشريحة ذات الشوكة والمنعة ويأخذون التجربة على إطلاقها بمعنى أهمية الهجرة وتكوين جيش كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحقيقة الساطعة للعيان أن من يتبع الإطلاق ويفتقد المفهوم يعاني من خلل في تصوره عن المفهوم الأساسي وهو أهمية الوصول إلى القوة التنفيذية، أياً كانت طبيعتها، والتي تختلف بالضرورة باختلاف الزمان والمكان والظروف.
الخيار الروسي
أما في تجربة الثورة البلشفية في روسيا فقد كان الثوار الروس يفكرون في كيفية الوصول إلى هذه المنعة، والوصل إلى الفئة التي تستطيع أن تنقل السلطة التنفيذية إليهم؟! وهنا وقع اختيارهم على طبقة العمال. فالحزب الشيوعي حدد نقطة البدء، وحدد الشريحة التي ستنقل إليه المنعة والقوة، فاختار عمال المصانع.
والدولة الروسية كانت من الدول الصناعية – وكانت ساعتها متخلفة صناعياً عن بقية أوروبا - التي تعتمد في اقتصادها على المصانع والصناعات المختلفة. ومن المعروف أن الذين يحركون هذه المصانع هم العمال. وبذلك فإنهم يمثلون عصب الاقتصاد الروسي. وعندما تمكن الثوار الروس من الوصول إلى هذه الشريحة أصبحوا بالفعل يتحكمون في الاقتصاد.
ولما كان المال هو أحد أعصاب القوة الرئيسة للدولة كانت السيطرة عليه تجعل الثوار يمتلكون زمام المبادرة والقدرة على إحداث التغيير، وفرض إرادتهم وإملاء شروطهم على النظام القيصري الذي كانوا يعملون على إزالته.
الخيار الصيني(1/45)
وحتى الصين في نهضتها الحديثة لم تهمل هذا القانون. فرغم اختيار ماوتسي تونج للشيوعية كوسيلة لتطوير الصين إلا أنه لم يستنسخ التجربة الروسية؛ بل اختار شريحة أخرى مغايرة للشريحة التي اختارتها الثورة الروسية. فبينما كانت شريحة العمال هي الشريحة المؤثرة في روسيا كانت شريحة
الفلاحين هي الشريحة المؤثرة في الصين. لذا اعتمد ماوتسي تونج على الفلاحين لإسقاط النظام الإمبراطوري الإقطاعي.
التجربة العباسية
وإذا درسنا نموذج قيام الدولة العباسية، سنجد أن العباسيين قد راهنوا على التبشير في منطقة نائية هي منطقة خراسان. وبالرغم من أن القوة المتطلعة للتغيير هي قوة عربية إلا أن اختيار أهل خراسان كان بناءً على مواصفات ومعايير محددة. وضعها مؤسس الدعوة العباسية محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس. حيث نجده يقول: {"إن الشام أموية ولا يعرفون إلا آل أبي سفيان، والبصرة عثمانية -نسبة إلى عثمان بن عفان- أي يدينون بالكف عن القتل والقتال، ويقولون كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، والكوفة شيعة علي، وأما الجزيرة- بين دجلة والفرات- فخوارج مارقة، أعراب مسلمون في أخلاق النصارى، وأما مكة والمدينة فتعيشان على ذكرى أبي بكر وعمر(1)، وأما خراسان ففيها العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء". فأهل خراسان بتعبير اليوم هم " مادة خام".}(2) هذا بالإضافة إلى بعدها عن مركز الدولة في دمشق.
__________
(1) المقصود أن أهل مكة والمدينة يريدون الخلافة النموذج التي شهدوها في عهد أبي بكر وعمر، وهذا كان بالنسبة لمؤسس الدولة العباسية أمر مستحيل.
(2) محمد العبدة؛ حركة النفس الزكية، كيف نستفيد من أخطاء الماضي، ط2،دار الأرقم؛ الكويت، 1406هـ-1987م.(1/46)
هذا التعدد والتنوع والتلون في اختيار الشريحة المناسبة لعملية التغيير، وفي اختيار التموقع المناسب لشريحة البدء لا تحده حدود، وليس له نمط واحد أو طريقة واحدة. والفكر الإنساني والتجربة البشرية غنية ومليئة بالتجارب والأفكار والإبداعات والابتكارات. لذلك فإن الفئات التي تتكلس
حول تصور واحد حول ما يجب عمله، وتغلق عقلها ولا تترك لخيالها العنان ليبدع ويبتكر؛ لا يمكن أن تحقق نهضة. فهذه الاختيارات الجامدة والتقليد الحرفي، يحول دون التفكير المهتدي بسنن الله سبحانه وتعالى في الكون.
الشرائح التغييرية
ويمكن تقسيم الشريحة التغييرية طبقاُ للاعتبارات التالية:
الأعمار: طلاب أو ما فوقهم.
الطبقة الاجتماعية: عليا أو وسطى أو دنيا.
المهن: العمال أو الفلاحين أو المثقفين أو التجار أو العسكريين.
المستوى التعليمي: أساسي أو جامعي.
واختيار الشريحة المناسبة عمرياً واجتماعياً ومهنياً وتعليمياً يعتمد على ثلاثة عوامل:
تصور التغيير.
وسيلة التغيير.
عمق التغيير(مدى التغيير المطلوب هل هو شامل أم جزئي؟).
أما بعد التمكين فالمجتمع يحتاج إلى كل طاقاته، سواءً المختلفة دينياً أو مذهبياً أو طائفياً أو عرقياً. فكل ما يمكن أن يكون جزءاً من المجتمع فالمجتمع في حاجة إليه. ويمكن استثماره في عملية البناء ما وجد الإنصاف والعدل. وكثيرٌ ممن يدعون إلى الإصلاح والتغيير تقوم أفكارهم وتصوراتهم على إقصاء الآخرين عقب التمكين. وهم بذلك واهمون ومخطئون. لأن عملية بناء الدولة تسبقها مرحلتين:
مرحلة البقاء.
ومرحلة الاستقرار.
وهاتين المرحلتين تمثلان مقدمتان ضروريتان للبناء.(1/47)
فعادةً بعد أن تتمكن حركة أو تنظيم أو تجمع ما من إحداث التغيير والوصول إلى القوة التنفيذية فأول ما يواجهه هو تحدي البقاء أو الوجود. بمعنى أن يستطيع السيطرة على زمام الأمور ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحدث عادة مع التغييرات. فإذا تمكنت هذه القوة الناشئة من تخطي هذا التحدي وأصبح القضاء عليها أو إزالتها مستحيلاً تبدأ مرحلة البحث عن الاستقرار، لتبدأ بعدها مرحلة البناء. وفي هاتين المرحلتين الأوليين – البقاء والاستقرار – يحتاج المجتمع إلى طاقات كل أبنائه على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم. فإذا ما قامت الحركة التغييرية بإقصاء البعض، وكيل الاتهامات للبعض الآخر، ورفضت الاعتماد إلا على أبنائها، فإنها لن تستطيع تخطي هاتين العقبتين (تهديد الوجود والاستقرار).
لذا فإن المجتمعات التي ستفتقد العدل لاحقاً من الأفضل لها ألا تقوم، لأن الذي سيحدث بعد قيامها أنها إما أن تفقد نصاب البقاء، وإما أن تفقد نصاب الاستقرار، وبالتالي لا يحدث النماء الذي وعدت بتحقيقه.
العدل
لابد أن تكون المنظومة الفكرية لفئات التغيير صحيحة. وخاصة حول قانون العدل الحقيقي، قبل أن تباشر عمليات التفكير في التغيير الاجتماعي. فمراجعة المنظومات الفكرية الموجودة عند حركات التغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، مقدمة ضرورية للحصول على نتائج جيدة بعد أن تدفع التكاليف الغالية في عملية التغيير.
وكل الكتب السماوية تدعو أن يقوم الناس بالقسط. وإذا افتُقد العدل تحت أي مسمى أو شعار ديني أو مذهبي أو طائفي فلابد أن تنتكس الأمور بعد ذلك. هذه المسألة يجب أن تكون من أولويات التفكير النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
تساؤل
ماذا إذا فقدت أي جماعة التصور الواضح عن شريحة التغيير، وانحصرت في عملية التجميع المستمر دون رؤية لطريق التغيير؟!(1/48)
تخيل معنا أن شركة أو مؤسسة ما لها ضوابط معينة، يتم فيها تجميع موظفين بصورة مستمرة، ثم لا يوجد عمل حقيقي لهؤلاء الموظفين، ولا يوجد تصور لتفعيلهم خلال برنامج زمني، بل يحاول
رؤساء الشركة إلهاءهم بأي نوع من الأعمال. ماذا سيحدث بعد أن تنتقل هذه الطاقات إلى ساحة الفعل؟!
هذا الاحتقان المزمن داخل هذه الشركة، سينتج عنه احتكاكات وصراعات وتفجرات كثيرة. وستتحول الطاقة المبدعة من محاولة معالجة قضايا الواقع الخارجي إلى محاولة معالجة الواقع الداخلي وتشققاته وشروخه، وعندها تنتكس كل عمليات التبشير التي تمارسها مثل هذه الفئة.
وإذا كنا قد صدَّرنا كتابنا "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" بباب العلم قبل القول والعمل فذلك لأهمية العلم. فكثير من أبناء وقادة الحركات التغييرية يفتقدون العلم الحقيقي بقضية التغيير، وأدوات تحقيقه ومراحله. فهم يعتقدون أن هذا التغيير يحدث بطريقة غيبية. لا يعلمون كيفيتها ولكنهم يعتقدون في حتمية حدوثه!!
... العامل الزمني
إن العامل الزمني خطير جداً لأي شريحة بدء، ذلك أن وصول قادة هذه الشريحة إلى شريحة التغيير التي تصل بالمشروع إلى أداة التنفيذ (الدولة) يكون هو شغلها الشاغل، ونلحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يبحث عن الشريحة، كان ما يشغله هو طلب المنعة والنصرة، وإلا فقدت شريحة البدء الاتجاه، فشريحة البدء ليست عرضة لأن تتعاقب عليها الأجيال، فتمر الأجيال تلو الأجيال، والشريحة ساكنة لا تبحث عن شريحة التغيير. إنه التحدي الكبير الذي يواجه قادة شريحة البدء، إذ العثور على شريحة التغيير هو ضمان استمرارية المشروع نحو أهدافه، أما شريحة البناء فهي التي تتعاقب عليها الأجيال لترفع البناء طبقة تلو طبقة في عقود تتلو عقوداً.
مستلزمات القانون:
المعرفة:(1/49)
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل المعرفة القدرة على الإجابة على التساؤلات المتعلقة بشرائح التغيير ومواصفات كل شريحة، والأعمال أو الأدوار المختلفة التي تستطيع الشرائح القيام بها، وطبيعة دور القائد مع كل شريحة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة.
عدم تكليف الشريحة بأكثر مما تحتمل. فما تطالب به شريحة البدء غير ما تطالب به شريحة التغيير غير ما تطالب به شريحة البناء.
الاستفادة من التجارب البشرية المختلفة.
عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة اختيار شريحة واحدة لكل الأدوار، أو تكليف كل شريحة بما لا يناسبها. أو أن يطول أمد البحث عن شريحة التغيير(1).
معادلات القانون
شريحة بدء = حملة الفكرة الأوائل
شريحة تغيير = ذوو الشوكة
شريحة بناء = أصحاب الطاقات من كل اتجاه
شريحة بدء + زمن طويل = فقد الاتجاه
مشروع تغييري – شريحة تغيير = مشروع خيري تربوي
منطوق القانون:
"إن قوة الأمم ونهضاتها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة"
مفردات القانون:
الخصوبة: ونقصد بها حيوية الأمة وقدرتها على إنتاج العدد الكبير من الرجال القادرين على النهوض بها بلا انقطاع.
__________
(1) إن المتأمل في كثير من التجارب التغييرية الناجحة يجد أن مدة البحث عن شريحة التغيير لم تكن طويلة، فالمشروع النبوي وضع لبنته القوية بفتح مكة والطائف في نحو ثلاثين سنة، والدولة العباسية بقيادة محمد بن علي قامت في نحو ثلاثين سنة، والثورة الصينية على يد ماوتسي تونج استغرقت نحو ثلاثين سنة، وانظر إلى اليابان وغيرها. فكيف بنا اليوم ونحن في عالم رقمي؟!(1/50)
الإنتاج: ونقصد به المُخرَج أو الناتج النهائي لعمليات الانتقاء والتربية والإعداد اللازمة للفرد لكي يتمكن من المشاركة في عمليات التغيير والتحول الاجتماعي.
أهمية القانون:
إن قوام أي حركة نهضوية هم الرجال. وبدون هؤلاء الرجال الذين يأخذون على عاتقهم تحويل الأفكار إلى واقع؛ يبقى المشروع أسير النظريات. فإعداد الرجال وتجهيزهم لحمل المشروع والانتقال به ضرورة لا غنى عنها.
أسئلة محيرة:
إن قضية التربية أو إعداد الرجال تُعد من أهم القضايا والملفات التي ينبغي أن يهتم بها العاملون في مشروع النهضة. وقد تعددت الاجتهادات وطرحت الكثير من الآراء حول هذا الموضوع في مرحلة الصحوة، إلا أنه لا زالت هناك أسئلة كثيرة تحير القادة والعاملين في المشروع. ومنها على سبيل المثال:
من هم الرجال المطلوب إعدادهم؟
من الذي سيعدهم؟
على أي شيء سيتم إعدادهم؟
ما هو المخرج النهائي للعملية التربوية؟
كم تستمر هذه العملية التربوية؟
ما هي وسائل التربية؟
ما هي مؤشرات نجاح عملية التربية؟
متى يمكن أن تستوفي التربية شروط الإقدام على عمليات التغيير؟
كيف نحافظ على المتربين؟
كيف نسمح لهم بأن يقودوا؟
ما المقصود بالقاعدة الصلبة وكيف تتحقق؟
كيف ستتم عملية التربية في ظل جهود تعليمية وإعلامية أخرى قد تجهض هذه العملية التربوية؟
ونحن لا ندعي أننا نستطيع الإجابة على كل هذه التساؤلات أو غيرها مما يجول بعقول قادة وطلاب النهضة، ولكننا نفتح السبيل لكل مهتم بهذه القضية ليعيد النظر والبحث والتفكير. وحتى يتم تطوير الملف التربوي في مشروع النهضة بما يناسب المرحلة الجديدة (مرحلة اليقظة) التي تقف الأمة على أعتابها وتوشك أن تلج فيها.
تعريف التربية:
"التربية في الإسلام تعني بلوغ الكمال بالتدريج ويقصد بالكمال هنا كمال الجسم والعقل والخلق لأن الإنسان موضوع التربية"(1).
__________
(1) الدكتور محمد منير مرسي، أصول التربية، الناشر: عالم الكتب.(1/51)
وهي "تستهدف مساعدة الفرد على تحقيق ذاته وتنمية قدراته وإمكانياته وتزويده بالمهارات المعرفية والسلوكية والعملية التي تمكنه من أن يحيا حياة حرة كريمة بعيدة عن الجهل وشبح الفقر وإهدار القيمة والكرامة الإنسانية".(1)
تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه
وقبل أن نتطرق إلى تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه نود أن نشير إلى تعريف المحدثين للصحابي. "فالصحابي عند المحدثين هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام.. ومن جهة ثانية يدخل فيمن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما يقول الحافظ ابن حجر – من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه ومن لم يروِ، ومن غزا معه ومن لم يغزُ، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى"(2). وعلى ذلك يدخل في جملة الصحابة من شهدوا حجة وخطبة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين بلغ عددهم تسعين ألفاً(3).
والذي يتأمل في تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يجد أمراً عجيباً. فقد انقسم الناس باعتبار تلقيهم للتربية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كماً وكيفاً إلى ستة أقسام:
__________
(1) انظر المرجع السابق
(2) د. محمد أديب صالح، لمحات في أصول الحديث، دمشق، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1393هـ
(3) الشيخ محمد الخضري بك، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، بيروت، دار إحياء التراث العربي.(1/52)
القسم الأول: ويشمل الذين لازموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه في مكة وتلقوا عنه الوحي آية تلو آية، مثل أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وهؤلاء عددهم قليل جداً إذا ما قورن بغيرهم، يصل في أكثر التقديرات إلى ثلاثمائة صحابياً. فإذا استبعدنا من هذا القسم المجموعة التي هاجرت إلى الحبشة وكانوا يزيدون على المائة - ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة – سنجد أن هذا القسم الذي لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وتلقى عنه مباشرة منذ مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى وفاته لن يتجاوزا المائتي صحابي.
القسم الثاني: ويشمل الذين أخذوا الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بترك مكة، سواءً للهجرة إلى الحبشة مثل جعفر بن أبي طالب - وكان عددهم حوالي مائة صحابي. أو الذين أسلموا في مكة وأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعودة إلى قبائلهم وألا يأتوه إلا إن أظفره الله على عدوه مثل أبي ذر الغفاري وأبي موسى الأشعري.
القسم الثالث: ويشمل الذين أسلموا بالمدينة قبل أن يأتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت البيعة معهم على النصرة والجهاد.
القسم الرابع: ويشمل الذين أسلموا أثناء الصراع والجهاد فلحقوا بالمدينة مثل خالد بن الوليد ونعيم بن مسعود وعمرو بن العاص.
القسم الخامس: ويشمل الذين كانوا يكتمون إسلامهم ولم يسلموا إلا قبيل الفتح، ولكنهم كانوا ينصرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
القسم السادس: ويشمل الذين أسلموا بعد الفتح ولحقوا بشرف صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته كسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن الحارث.
وسنقف قليلاً مع كل صنف من هؤلاء لنتعرف على كيفية تلقيهم للتربية النبوية، ونبحث في مقدار ما تلقوه بالمقارنة بنوعية الأداء الذي مارسوه، والمهام التي وكلت إليهم في المشروع الإسلامي.
1- القسم الأول:(1/53)
لاشك أن الذين لازموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة - مثل أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم من الصحابة الأخيار - كانوا يتلقون الوحي منه ويتأثرون بسلوكه وتوجيهاته المباشرة. ولكن المتأمل في الجرعة التربوية التي تلقوْها قبل انطلاقهم لنصرة هذه الفكرة الجديدة يجد أنها يمكن أن تلخص في جملة واحدة: "أنهم آمنوا بفكرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدقوا أنه نبي مرسل من ربه". لكن هذا الإيمان لم تكن وراءه تفاصيل أو تفريعات كثيرة، حيث كان يتنزل الوحي ببطء حسب المواقف والأحداث. وسنجد أبا بكر ينطلق لنصرة الفكرة الجديدة والدعوة لها، فيسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة،(1)
ويعتق العبيد، ويقف لقريش يحول بينها وبين إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم يكن وراء كل هذا الفعل الضخم وتلك الممارسات الفعالة سوى بعض من قصار السور وبعض الآيات، بالإضافة إلى التلقي المباشر من شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الأمور العجيبة أن حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رغم أنهما أسلما في نهاية العام الخامس من البعثة إلا أنهما سبقا في أدائهما ونصرتهما للمشروع الإسلامي الكثير ممن رافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ اليوم الأول وتربوا على يديه الشريفتين. قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.(2) فما الذي تربى عليه عمر رضي الله عنه حتى يتأهل للقيام بهذه المهمة، التي لم يستطع أن يقوم بها من سبقه من الصحابة والذين سبقوه في التربية كذلك.
__________
(1) أسلم على يد أبي بكر الصديق عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ويعد ابن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/365).(1/54)
يتبين لنا مما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد جرعة تربوية يجب على المسلم أن يأخذها قبل أن يلتحق بالعمل في المشروع الإسلامي – اللهم إلا الشهادتين - ثم يستكمل تربيته في غمار الأحداث.
2- القسم الثاني:
الذين أخذوا الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بترك مكة وهؤلاء صنفان:
صنف بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة بعد سنتين من جهرية الدعوة وقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه"(1).
وصنف أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها، ثم عاد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد أن أظهره الله.
والذي يتأمل في إرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصحابته إلى الحبشة – وهم ما زالوا حديثي عهد بالإسلام – يتبادر إلى ذهنه مجموعة من التساؤلات:
ما المدة الزمنية التي قضاها الصحابة في الحبشة؟
من الذي كان يربيهم في الحبشة طوال هذه الفترة؟
ألم يكن أهلها يدينون بالنصرانية التي قد تفتن المسلمين؟!
لقد كانت الهجرة في السنة الخامسة من البعثة، وعلى أفضل التوقعات فإن الوحي كان يصل للمسلمين في الحبشة بشكل أو بآخر، لكن شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - - المربي- لم يكن معهم. وقد ضمت هجرة الحبشة الثانية حوالي ثلاثةً وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة. وإذا تأملت هذا العدد فستجده يتكون من مجموعة كبيرة وكتلة ضخمة من الذين أسلموا. وها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعدهم عنه وعن محضنه التربوي لمدة تقرب من الخمسة عشرة سنة، ليعودوا مرة أخرى إليه بعد فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
__________
(1) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.(1/55)
إنها خمسة عشرة سنة كاملة وهم بعيدون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمن الذين رباهم وعلمهم؟! وكيف يخاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبعث بهذه المجموعة - حديثة العهد بالدين الجديد - ليقيموا وسط مجتمع نصراني يتعصب لعقيدته ذات الشرعية التاريخية ويدافع عنها؟! وهل بعد قدومهم إلى المدينة أجلسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جواره ليستكملوا تربيتهم ويأخذوا ما فاتهم أم أطلقهم لاستكمال المشروع جهاداً وبذلاً؟!
إن المتأمل في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيجده قد أطلق جعفر بن أبي طالب - زعيم المهاجرين إلى الحبشة – أميراً على رأس الجيش في غزوة مؤتة بعد عودته إلى المدينة ببضعة أشهر فقط. وكان في الجيش عبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود.(1) وهما من مهاجري الحبشة أيضاً.
هذا عن مهاجري الحبشة، أما بعض الصحابة الآخرين فقد أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعودة إلى قبائلهم. وكان منهم أبو ذر الغفاري الذي أسلم ولم يأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة إلا ومعه قبيلتي أسلم وغفار. ترى من الذي ربى أبا ذر وقبيلتي أسلم وغفار طيلة هذه الفترة؟!
3- القسم الثالث:
ويمثله مجموعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا ولم يتلقوا هذه التربية المكية الطويلة فكان إسلامهم إسلام جهاد ونصرة. ولا يختلف اثنان في قصر المدة الزمنية للتربية التي تلقاها الأنصار إذا ما قورنت بالمهاجرين.
4- القسم الرابع:
ويمثله من أسلموا أثناء الجهاد والصراع مثل خالد بن الوليد. فإذا به يقود جيوش المسلمين بعد عدة أشهر من إسلامه رغم أنه لم يمر بعملية تربوية معقدة تستمر عشرات السنين.
5- القسم الخامس:
__________
(1) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الشيخ محمد الخضري بك.(1/56)
ويمثله بعض الذين كانوا يكتمون إسلامهم في مكة أو لم يسلموا إلا قبيل الفتح. وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم مثل العباس، فكان ممن شهد بيعة العقبة الثانية - وهو لم يسلم بعد - بينما لم يعلم
بها الكثير من الصحابة آنذاك. ترى ما هي نظرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التربية؟! وكيف يقدم عمه وهو غير مسلم؟! أليس معرضاً للفتنة؟! إنه لم يرتقِ إيمانياً؟! ترى هل يثبت؟!
6- القسم السادس:
ويمثله الذين أسلموا بعد الفتح من أمثال عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية. وكلهم كانوا من الذين أبلوا بلاءً حسناً فيما بعد. وثبتوا في وجه موجة الردة التي اجتاحت الجزيرة العربية عقب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم البون الشاسع – من حيث التلقي من النبي - صلى الله عليه وسلم - – بينهم وبين السابقين الأولين من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم جميعاً.
كيف نقرأ كل هذه الممارسات التربوية النبوية؟ وماذا كانت رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعملية التربوية؟!
خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا(1)
هذه هي القاعدة التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تفسر لنا فكرة التربية. إن التربية أمر لابد منه، وهو مستمر مع الإنسان حتى مماته. لكن الإنسان المبدع القوي المنتج وهو خارج دائرة الإسلام هو نفسه داخل دائرة الإسلام إذا فقه الدين وفقه حقيقة المعتقد الجديد الذي آمن به. فكم أخذ عمر بن الخطاب من لحظة اعتناقه للإسلام إلى أن يصبح قائداً لأول مسيرة - إن صح التعبير - طافت حول الكعبة؟! كم أخذ من الوقت؟! وهل تلقى قدراً معيناً من المعلومات قبل انطلاقاته حتى يُجاز لمثل هذا الفعل؟! يقول ابن مسعود من رواية البخاري {ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر}. إن عمر رضي الله عنه
__________
(1) رواه البخاري "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".(1/57)
كان قوة للإسلام، ولم تكن قوته مستمدة من التربية التي تلقاها أول إسلامه، بل هو الذي منح المسلمين القوة بإذن ربه.
فحمزة وعمر رضي الله عنهما كانا أصحاب بأس وعزم وقوة في الجاهلية، فلما أسلما سخرا هذه القوة للإسلام. لكنهما لم يكونا بحاجة إلى تربية خاصة ليكونا أقوياء. وبالمثل كان سيف الله المسلول خالد بن الوليد فارساً بطبيعة الحال. وقبل إسلامه كان سيفاً مسلطاً على أعدائه. فكان هو الذي اكتشف ثغرة المسلمين في أحد فهجم عليهم وقتل خيارهم. إن خالد بن الوليد لم يصنع منه الإسلام سيفاً، وإنما جاء الإسلام ليشرفه بأن يكون سيف الله بدلاً من أن يكون سيف الكفر. فتربية خالد بن الوليد لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى يكون مؤهلاً لقيادة جيوش المسلمين لأنه كفء لهذه المهمة.
لقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر وصفاً رائعاً فقال: {ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر}(1). لقد صدح أبو ذر بالإسلام - عقب إسلامه في مكة - رغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بذلك، فكان هذا النعت له بأنه صادق اللهجة، إذا عرف الحق صدح به. وهكذا كانت حال أبي ذر قبل أن تتدخل أي تربية جديدة لتصوغه، فإن أسلم فهو صادق في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
إن عملية التربية لم تكن تستغرق زمناً طويلاً قبل أن يؤذن للفرد بالعمل. فالعمل في ذاته تربية، وهذا الانتقال لمواجهة الواقع تربية. فليس هناك ارتباط شرطي بين التربية الطويلة و بين نتائج العمل و بين العمل الذي سيقام به.
الجميع يشارك في المشروع الإسلامي
يتبين لنا مما سبق عظم هذه القاعدة الجليلة. فخيار الناس في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام. ولذلك فعلى الجميع أن يشاركوا في المشروع الإسلامي. أما التربية وتعلم العقيدة فتكون مع الحركة والبذل، وإلا فنحن نبتدع ما لم يقم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سنن ابن ماجه(1/58)
ويتوهم البعض أن هناك قسطاً ما من التربية يجب أن يؤخذ قبل أن يمارس الناس العمل في المشروع من أجل تغيير الأوضاع القائمة. وهذا ابتداع لم يقم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويعبر عن سوء قراءة للسيرة، فالأسود الراعي أسلم ولم يسجد لله سجدة، واستعمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مشروعه وفي ذروة سنامه "الجهاد"، فاستشهد ولم يسجد لله سجدة، ولم يؤخره النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجة عدم استكمال التربية. وهذا خالد بن الوليد يحكي في قصة إسلامه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخيه الوليد بن الوليد سائلاً عن خالد – رضي الله عنه : ".. ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له ولقدمناه على غيره".(1)
بل إن نعيم بن مسعود أسلم في غزوة الأحزاب، وكان المسلمون في مأزق شديد وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه أن يأمره بأي شيء يفعله. ترى ماذا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! هل قال له اذهب إلى الصفوف الخلفية لتتربى على يد كبار الصحابة؟! لا، لقد أمره أن يخذل عن المسلمين ما استطاع، فاندس بين صفوف المشاركين وهو حديث عهد بالإسلام، لم يتلق بعد أي قدرٍ من التربية؛ بل ربما لم يحفظ ولو آية
واحدة. وبالفعل كان لهذا الصحابي الجليل فضلاً كبيراً في جلاء الأحزاب حيث أوقع الشقاق بين قريش واليهود. لقد فعل ما لم يقم به أبو بكر أو عمر أو حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/239، 240) ؛ التاريخ الإسلامي (7/95).(1/59)
ينبغي أن يشارك الجميع في المشروع، فقد يوجد شخص ما خارج نطاق الدعوة له ملكات و مهارات، و بانتقاله إلى مساحات جديدة في المشروع ينقل هذه الخبرة إليه، و لا يحتاج إلى جلسات طويلة لعشرات السنين ظناً منا أنه بعد ذلك سيكون إنساناً منتجاً و فعالاً, إذ ليس هناك ارتباط شرطي بين المدد الزمنية المحددة للتربية وعملية الإنتاج في مجال الدعوة والنهضة. فكم من شجاع مقدام مفكر لم يقرر العمل في المشروع، لكنه إن التحق به نقله نقلة نوعية بجرأته وإقدامه ورجاحة عقله، وكم من جبان خوار متبلد الفكر يعمل في المشروع ويؤخر تقدمه رغم أنه يتعرض لتربية تجاوزت عشرات السنوات.
التوظيف الصحيح
مما سبق نفهم أن ما كان يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو حسن توظيف للطاقات، فمن أعطاه الله فصاحة كان متحدثاُ رسمياً عن الدعوة، ومن أوتي الدهاء والقوة كان قائداً عسكرياً.
واليوم بعض تيارات الصحوة لا تستطيع أن توظف الطاقات، فهي تتعامل مع المبرمج كما تتعامل مع الفنان، كما تتعامل مع الكاتب، الكل مكلف بمهام واحدة، وإن لم يقم بها فقد تعدى الضوابط، ويتهم بسوء التربية، والواقع أن هذه الطاقات لم يحسن استيعابها وتوظيفها فيما حباها الله من ملكات. لأن كل فرد مسئول أولاً أمام الله في تسخير طاقاته وملكاته.
التوثيق لا التربية
وتعلل بعض الحركات والتجمعات هذا الاهتمام الشديد باستكمال التربية أولاً قبل البدء في الفعل الجاد بأن نهضة الأمة وتقدمها تُحارَب وتُقاوم من قِبَل الكثير من الجهات الخارجية والداخلية، وأن هذه الجهات تحاول اختراق تلك التجمعات أو الحركات للقضاء عليها وعلى كل أمل للنهضة والتنمية والتقدم، وبالتالي لابد من أن يمر الشخص الذي يريد خدمة المشروع بعملية تربوية طويلة حتى يتم التأكد من نواياه الحقيقية واستعداداته، ولضمان ولائه.(1/60)
ونشير هنا إلى أنه لابد من التفرقة بين التربية والتوثيق أو الاحتياط أو التأمين. فالممارسات التربوية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانت واضحة وبينة. فإذا ما كانت التنظيمات آمنة وتمارس العمل العام في حرية؛ فأسلوب التربية النبوي هو الأمثل. أما في حالة السرية فالأمر خارج نطاق التربية تماماً، وإنما هو التأمين والتوثيق والاحتياط.
لابد أن يكون هذا الفارق واضحاً في عقول طلاب وقادة النهضة، لأن عدم وضوحه يؤدي إلى التداخل بين التربية والتوثيق تداخلاً يصعب التعامل معه. بحيث تصبح الفكرة المسيطرة على جميع العاملين هي التربية الطويلة قبل العمل. فإذا تحولت الحركة السرية إلى حزب علني فمن الخطأ أن يعتمد على نظام التوثيق ظناً منه بأنه يمارس عملية التربية. إن وضوح الرؤية يجعل الحركة تمارس في كل مرحلة ما يناسبها من إجراءات وأنظمة، كما يجعلها لا تخلط بين التربية والتأمين.
ما هي مخرجات التربية التي نريد؟
إذا تأملنا في التربية الأولى للصحابة سنجدهم تربوا على الاستقلالية والمسئولية الفردية. يقول الله تعالى: {وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً}(1)، ويقول: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً وهم لا ينصرون}(2)، ويقول: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى}(3).
وقد وضع حسن البنا – رحمه الله - قاعدة تربوية لذلك فقال: "علموه - أي الجيل -:
استقلال النفس و القلب.
استقلال الفكر و العقل.
استقلال الجهد والعمل."(4)
__________
(1) سورة مريم: 39
(2) سورة الدخان: 41
(3) سورة النجم: 39: 40
(4) رسالة "تحت راية القرآن"(1/61)
أما قوله "استقلال النفس والقلب" فيقصد به حب الحق لا حب الأشخاص. أي التعرف على الفكرة لا التعرف على الأشخاص. فكثير من الناس يهتم بمعرفة الأشخاص، ولا يتساءل أبداً ما هي الفكرة التي يطرحونها. لم يناقشها أو يبحث فيها أو يرى أبعادها، لكنه مقلد في المطلق فعندما تقال له فكرة يقول من قائلها؟ فإذا قيل له فلان رفضها- وإن كانت حقاً- وإن قيل أن قائلها فلان قبلها-
ولو كانت باطلاً.
كيف يمكن تربية جيل النهضة على أهمية التعرف على الأفكار ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية بعيداً عن الحماس والعاطفة؟! هذه مسألة في غاية الحيوية. وإذا استعرضنا القطاعات الكبيرة
من العاملين في ساحة النهضة اليوم لنرى كم منهم يعرف على وجه اليقين - وليس على سبيل الظن- الفكرة التي يتحرك أو يدور حولها، وكم منهم يستطيع أن يشرح فكرته لغيره في شكل واضح لا يقبل لبساً، ويجيب على التساؤلات المطروحة عليه. سنجد قلة قليلة ممن تعرف ما الذي تتحدث عنه, بينما تجد الكثرة الغالبة هم أتباع مقلدون لأشخاص أو لجماعات أو لاتجاهات أو لتيارات.
كما أن "استقلال النفس والقلب" يعني الارتباط القلبي بالله سبحانه وبالإسلام ديناً، ارتباطاً لا يعكره أي ارتباط آخر. ومن ثم فكل من يقدم إنجازاً لنصرة دين الله فنحن نحبه وندعو له- حتى وإن كان يخالفنا أو يتبنى فكرة غير التي نراها. إنه القلب الذي عبد الله رب العالمين وأحب فيه وأبغض فيه، وليس القلب الذي عبد الجماعة أو الحزب فأحب من في الحزب وأعرض عمن سواهم.(1/62)
ثم انظر إلى قوله "استقلال الفكر و العقل". فاليوم في عمليات التدريب العام هل يلقن الناس إجابات معينة أم يدربون على النظر الناقد(1) و على الفكر المبدع و يطالبون بإيجاد حلول لما هو مطروح عليهم من أسئلة الواقع؟! وليسأل كل منا نفسه: ما هو حجم تعليم منهجيات التفكير داخل هذه البنية الواسعة المنتشرة من التيارات و الأحزاب و التنظيمات و غيرها؟! سنجد أن القليل يسمح
بممارسة هذا النوع من المنهجية. فبعض تلك التيارات لا يتساءل عن أموره الداخلية ناهيك عن الواقع المحيط خارجه. فأين نحن من استقلالية الفكر والعقل؟!
لابد أن يمتلك طلاب النهضة وقادتها أدوات النظر والبحث، خاصة في الشريحة العليا التي تمثل الطبقة التي توجه الآخرين. فعندما يصل إلى هذه الطبقة العليا (القيادة) من لا يمتلك أي ملكة في التفكير الناقد أو التحليلي أو التصوري، فإنه يقتل التفكير بين العاملين معه. فينشأ الجمود تبعاً لذلك. هذه قضية خطيرة يجب معالجتها في تيار النهضة الإسلامية.
__________
(1) كثير من الناس يعتقد أن "الفكر الناقد" هو الفكر الذي يلبس النظارة السوداء ليبين العيوب. بينما يقصد "بالفكر الناقد" الفكر الذي يمتلك معايير يقيس بها الصواب من الخطأ. ويمتلك منهجية للبحث توصله إلى الحق, وإلى أهدى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري في محاولة للوصول للحقيقة. فالفكر الناقد يعطي منهجية للنظر للأشياء.(1/63)
لابد من تعليم الفكر الناقد - أي تعليم المنهجيات التي يتم بناءً عليها قراءة الواقع - وتعليم الفكر الإبداعي لإيجاد الحلول لقضايا الواقع بحيث لا يتجمد الذهن عند عمل مفكر ما - مهما جل قدره وعظمت مكانته و صعد نجمه في لحظة من اللحظات -بل يجب أن يكون التفكير المبدع مفتوحاً بحيث يستطيع الناس أن يتخيلوا وأن يناقشوا وأن يطرحوا أفكارهم. هذه الأفكار المبدعة - التي تحلق بالناس و توجد حلولاً للواقع الصعب - قد تأتي من أي مكان ومن أشخاص قد لا يُأبه لهم. و يجب تدريب الناس على تقديم هذه الحلول و مناقشتها و بحثها و النظر فيها.
المسألة الثالثة "استقلال الجهد والعمل". فكثير من الناس يكتفي بمجرد الانتماء إلى تيار الصحوة. فإذا مرت السنوات لم يكن له إنتاج و لا مشاركة و لا عطاء. فإذا توقف الناس توقف ولا يتساءل ما الذي أفعله أنا؟! كيف يمكن أن أساهم في نهضة الأمة؟! إنه لا يتبنى أو يدعم مشروعاً، ولكنه فقط ينتظر مع المنتظرين.
فتعليم الناس استقلال الجهد و العمل يعني أن يكون الشخص مستقلاً بجهده و عمله، فإذا عمل الناس زاد عملهم خيرا ًونفعاً ودعماً، وإذا توقفوا سارع إلى العمل والإنتاج غير آبه بتوقفهم أو سكونهم. نلحظ ذلك في المبادرة العمرية في مكة لجعل المسلمين يطوفون حول البيت. فنقلهم بذلك نقلة جديدة لم يطلبها منه القائد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إنه لم يكتف بما كان المسلمون يقومون به – رغم أن معه القائد الموحى إليه – لكنه فكر ونظر كيف ينقل المشروع نقلة جديدة دون أن يكون ذلك بأمر مباشر من القيادة.(1/64)
وهناك ظاهرة خطيرة ألا وهي تطلع الكثيرين من طلاب النهضة إلى العمل والممارسة بغض النظر عما ينتج عن هذا العمل. هذه النظرة الخاطئة في انفصال النتائج عن العمل خطيرة ومنتشرة ويتم التقنين لها من خلال التلقين السكوني لآيات وأحاديث معينة ووضعها في غير موضعها. والانفصام نشأ بشكل واضح وسافر. فالناس تُطالَب في أعمالها ووظائفها اليومية بالنتائج. وإذا لم تتحقق هذه النتائج فهم مهددون بالطرد والفصل أو الخصم أو غيرها من العقوبات. أما في أمر الدعوة وإنجاز المشروع الإسلامي فالقول الشائع: "إننا نكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وليس إدراك النتائج علينا"!! نعم.. إدراك النتائج على وجه الجزم ليس بيد الإنسان. فهذا ظرف يخضع لأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته. لكن علينا أن نحاسب أنفسنا على أخطائنا. وانظر إلى المنهج القرآني الذي يعلمنا ذلك. فهو ينسب النصر لله سبحانه و تعالى. يقول تعالى: {و ما النصر إلا من عند الله}(1). أما عندما تحدث الهزيمة فيقول تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند
أنفسكم}.(2) فتحدث عملية مراجعة للخطوات والإجراءات والقرارات، وتُبحث كل هذه السلسلة حتى يستفاد من هذه التجربة للتجربة اللاحقة. أما أن يتم تجاوز هذه المنهجية، والهروب إلى مساحات أخرى - يتم الانكفاء عليها - لمحاولة تسكين الناس ومنعهم من التساؤل حول النتائج والإنجازات والعمل، فإن ذلك يؤدي إلى تكرار للأخطاء باستمرار.
القاعدة الذهبية
__________
(1) سورة آل عمران: 126
(2) سورة آل عمران: 165(1/65)
يخاف البعض من المراجعات خشية اتهام النوايا وفساد ذات البين. ونود أن نؤكد أن القاعدة تقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.(1) فالسابقون بذلوا جهدهم. وهذا ما استطاعوه في فترتهم ومرحلتهم. فنحن لا نريد أن نحاسب الأشخاص ونتهمهم في نواياهم. فربما كانت قدراتهم محدودة. وربما كان الظرف أقوى منهم. ولكن المراجعة تتم لسلسلة الإجراءات والقرارات لمحاولة تجنب الأخطاء التي حدثت والاستفادة من التجربة ونقلها لأجيال المستقبل.
إن من أكبر الجرائم ألا نقوم بأي مراجعة حقيقية، ثم ننسب الفشل إلى الله سبحانه و تعالى - والعياذ بالله – بحجة أن الله هو الذي أراد ذلك الفشل.
أهمية التربية على الاستقلالية
إن إهمال التربية على الاستقلالية- القلبية والعقلية والعملية بين بعض تيارات وأحزاب مباركة تعمل في المشروع – أدى إلى إنتاج جيل مُربَّى تربية الأطفال، فهو دائماً يشك في قدراته، وهو
دائماً ينتظر فعل من هو أكبر منه. كما أنه متعصب إلى حزبه تعصباً يحول دون رؤية أي خير في أي تيار آخر.
إننا نريد أن نخرج جيلاً من القادة، وليس جيلاً من الأطفال. جيلاً يبادر وليس جيلاً ينتظر. جيلاً يوحد الأمة وليس جيلاً يتقوقع على منظمته. جيلاً شاباً وليس شباباً شاخ بروحه وبعزيمته، ففقد أهم ما يميز الشباب. إن نزع استقلالية الجيل تعني التبلد الذهني وجمود العمل.
من هو الشخص الذي نريد؟
مما سبق يتبين لنا أن تيار الصحوة اليوم - بعد هذا الاحتشاد الكمي الضخم – بحاجة إلى أن يبحث عن الدرة المفقودة، وعن الأشخاص الذين ينقلون المشروع نقلة نوعية. إنه يبحث عن عمر الفاروق الذي يعطي المشروع قوة وطاقة جديدة. إن واجب المرحلة اليوم – ونحن على وشك الانتقال إلى مرحلة اليقظة – أن نبحث عن القوة النوعية، ننقب عنها، ونبذل في سبيل ذلك كل ما نستطيع.
إنسان النهضة
__________
(1) سورة الحشر: 10(1/66)
إننا نريد إنسان النهضة الذي لديه خمسة صفات: الرباني العامل المفكر الجريء المنتج.
الرباني: المعلق بالله وبمنهجه وشرعه. فلا يعبد إلا الله. ويُسخر حزبه أو تياره لله، فهو يحب في الله ويبغض في الله، لا يحب من في حزبه فقط ويتجاهل من سواهم.
العامل: الذي قرر أن يهجر السكون، ويبذل لدين الله ولو قعد المسلمون جميعاً.
المفكر: الذي يعمل عقله ويمتلك أدوات التفكير الناقد والإبداعي، ويمحص سبل العمل ولا يتوقف عند فكرة شخص ما بل يعمل عقله في ما يطرح عليه. ساعياً للتطوير الدائم.
الجريء: الشخص المقدام الشجاع المضحي، فهو جريء في فتح مجالات جديدة، وفي استخدام وسائل جديدة، وجريء في مناقشاته، وفي تساؤلاته. إنه لا يخاف في الله لومة لائم.
المنتج: الذي يتأكد من أن كل وسيلة يقوم بها منتجة. فإن لم تنتج غيَّرها أو طورها. فهو لا يعبد الوسائل وإنما يبحث عن النتائج ويقيم أداءه تبعاً لذلك. فهو شخص الإنجازات الذي لا يؤمن بأي تبرير للفشل.
كيف نعد إنسان النهضة:
ذكرنا أن علينا أن نبحث عن الدرة المفقودة، وعن الجائزة الكبرى التي تنقل المشروع بإمكاناتها نقلة جديدة، لكن ذلك لا يمنع من أن تتم عملية تربوية جادة لإعطاء العاملين في النهضة الملكات التي يتحولون بها من الغثائية إلى القوة النوعية. ونقترح لذلك هذه الحزم الثلاث:
حزمة الأدوات الشرعية: مثل العقيدة وأصول الفقه وغيرها.
حزمة الأدوات الإدارية: مثل التخطيط للمشاريع وكتابة التقارير وغيرها.
حزمة العلوم الإنسانية: مثل التحليل السياسي وفلسفة التاريخ والجيوبوليتك وغيرها.
وبدون أن يمتلك الجيل - أو قادته على الأقل - هذه الأدوات سيظل لعبة في أيدي خصمه. ونقترح أن تبسط هذه الأدوات وتدرس لجموع العاملين، فكلما انتشر الوعي بها كلما زادت القوة النوعية، وكلما تحسن الأداء وزاد الإنجاز.(1/67)
إن التربية لا ينبغي أن تُغلِّب جانباً على آخر، ولابد من إعطاء الجسم حقه، والقلب حقه، والعقل حقه.
آليات التربية
نحن نحتاج إلى ثورة حقيقية ومراجعة شاملة لقضية التربية. وفي هذا السياق يجب التفريق بين ضرورة التربية وآليات التربية وأدواتها. فلا يختلف اثنان في أن التزكية والتربية ضرورية. لكن آلياتها هي التي فيها سعة ومرونة. وتنقسم هذه الآليات إلى آليات عامة وآليات خاصة:
الآليات العامة
وهي الآليات والوسائل العامة التي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنها لنا، وآليات أخرى أتى بها الوحي الكريم. مثل الصلوات الخمسة وإحياء الليل وأذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال، والحج والعمرة وغيرها من الوسائل التربوية. إن الآليات العامة تشمل كل أمر أو ندب أو نهي. وينبغي أن تأخذ هذه الوسائل الربانية حقها. وتعتبر هذه هي الوسائل الأصيلة في التربية. فكل أمر وكل نهي له مردود تربوي لتزكية النفس.
الآليات الخاصة:
وهي التي يحددها كل تيار أو حزب لنفسه ويختص بها العاملين فيه. ولا بأس من تخصيص وسائل تربوية- طالما أنها لا تتعارض مع الشرع.
قواعد هامة
وهناك نقاط هامة يجب الانتباه إليها حتى لا يتم الخلط بين الآليات الخاصة والعامة:
يجب عدم إهمال الآليات العامة التي شرعها الله ورسوله بحجة الآليات الخاصة. فإن العامل بذلك يفقد وسائل هامة جداً من الوسائل الربانية.(1/68)
وقد كان تنوع آليات التربية بين السرية والعلنية في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخضع للظروف. والأصل هو التربية العامة في المسجد والاستثناء تبعاً للظرف. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتعلمون في مجالس الرسول - صلى الله عليه وسلم -, فمجالسه كانت هي المعلم الأساسي للصحابة رضوان الله عليهم, وما يذكر عن دار الأرقم في السيرة النبوية المطهرة هو استثناء للأصل، فهناك كانت فئة مطاردة لا تمتلك أي منصة علنية تقف عليها، إنه ظرف محدد قاد إلى مثل هذا الأداء. ترى كم نمتلك من معلومات عما كان يدور في هذا اللقاء؟! فقد نسجت حوله التصورات وتم البناء عليها، واعتبر دار الأرقم من المطلقات، وأنه يجب أن يستمر مع كل الدعوات في كل الأوقات. إنه أمر فيه مبالغة شديدة ومجافاة للواقع العملي الذي نشهده في بعض الدول من حولنا وفي التجارب الإنسانية التي تدور حولنا.(1)
وبعض الناس يرى أنه لابد من التربية السرية وكل ذلك مرهون بشروط وظروف. فهذا التكلف الضخم في السرية والموجود داخل بعض الأطر النهضوية في الأحزاب والمنظمات يضر مشروع النهضة في المجتمعات الإسلامية ضرراً كبيراً، ويزيده انغلاقاً.
__________
(1) يقول الدكتور عماد الدين خليل في كتابه"دراسة في السيرة النبوية": "وليس في كتب الأخبار والسير والتواريخ تاريخ مضبوط للوقت الذي استخفى فيه الرسول والمسلمون في دار الأرقم. فالروايات في ذلك مضطربة، ولكن المرجح على ما يبدو من غربلتها أنه كان في أواخر السنة الثالثة من النبوة أو في السنة الرابعة أي في أواخر عهد الكتمان". أما عن المدة فيقول: "والروايات متضاربة في مدة الاستخفاء في دار الأرقم، فهناك من يجعل مدتها شهراً فقط."(1/69)
يجب عدم الهروب من العمل الجاد والبذل بحجة أن الأفراد لم يتربوا بعد. فالآليات الربانية العامة هي الأصل، والتي كان منها الصدع بالدعوة والجهاد والبذل على اختلاف المستويات التربوية. فالدعوة والبذل من الآليات العامة التربوية التي شرعها الله للأمة، وليست عملاً منفصلاً عن التربية. فالعمل والتضحية والقيام بالأعباء تربية -وتربية أساسية - أما التربية النظرية فإنها تأتي كداعم لهذا المشروع والعمل له على بصيرة. أما من يجلسون بالسنوات دون إنتاجية وعمل ينتظرون تحولاً ما في شخصياتهم ليبدأوا العمل؛ فهؤلاء واهمون وسيطول انتظارهم.
إن عملية التربية عملية ديناميكية فيها بدائل كثيرة, وهي رهينة الظروف والتحولات والأدوات المتاحة. ونحن اليوم في عصر الثورة التقنية. فالوسيلة المعرفية ووسائل نقل المهارات أصبحت متعددة وكثيرة. وقد يقول قائل أن التربية تحتاج إلى صحبة واقتداء. وهذا صحيح, لكن ليس بالضرورة أنها درس صغير في مكان مغلق, فالإنسان قد يصحب قادة النهضة والمتحركين في النهضة ويرى سلوكياتهم
ويقتدي بهم ويتعرف عليهم ويعاشرهم ما أتيحت له الفرصة(1), وليس بالضرورة أن يجلس في جلسة مصغرة في شكل مستمر إلى أبد الآبدين بدعوى أنه قرر أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للتعلم. وإن كان هذا ليس محرماً وليس خطأً، ولكنه ليس من المطلقات أو المسلمات، فليس هذا هو الشكل الوحيد الذي يجب أن تتخذه التربية. فيمكن أن تكون لحركة النهضة حلق العلم والتفقه, ويمكن أن تكون لها مجالس التوجيه والوعظ, ويمكن أن تكون لها أشكال غير ذلك حسب الظروف والبيئات.
تقييم الوسائل التربوية
__________
(1) في بعض الدول لا يستطيع العاملون أن يلتقوا بقادة النهضة ليتأثروا بهم ، وعلى هؤلاء أن يختاروا الوسائل التي تناسبهم، لكن لا ينبغي أن تتحول وسائلهم إلى النموذج المثالي فتتبناه بعض قطاعات النهضة في أماكن أخرى رغم وجود أجواء من الحرية تمكنهم من الالتقاء بقادة النهضة.(1/70)
إن لكل وسيلة (خاصة) سلبياتها وإيجابياتها ولا بأس من تعدد الوسائل وتجريبها والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمت دراسة هذه الوسائل لتقييم نتائجها على وجه الحقيقة لا وجه الانطباع؟! فالبعض يطرح وسيلة تربوية ما، ويدعي أنها وسيلة للتعلم. فكم من الناس تعلم منها علماً شرعياً أو دنيوياً؟؟ يجب أن يكون هناك إحصاءات لرفع الواقع الحقيقي. ومن الأسئلة المطروحة لتقييم أي وسيلة تربوية:
ما الهدف منها؟
هل هي وسيلة توجيه أم تدريب أم بناء روحي أم علمي؟
هل هناك وسائل أخرى أفضل منها؟
إذا لم يوجد الآن هل يجب التفكير في وسائل أفضل؟
كم من الأفراد يستفيدون من هذه الوسيلة؟
ما رأي العاملين في الوسيلة؟
ما المدة الزمنية التي بعدها يجب تقييم الوسيلة؟
هل تقييمنا للوسائل انطباعياً يعتمد على الإحساس أم أنه تقييم رقمي؟
فإذا قلنا أن وسيلة ما تستخدم للالتقاء والتجمع والتناصح وعمل الخير في مكان ما، فيجب الإجابة على هذه الأسئلة ودراسة مفرداتها منفصلة عن بعضها. لمعرفة كم يتحقق منها على أرض الواقع لتقويم هذه الأداة. فبدون هذه الدراسات سيكرر الناس وسائل ويهدرون أعمارهم بناءً على انطباعات وتخيلات وأوهام, لكن هذه الوسائل قد لا تصمد عند البحث العلمي كثيراً.
ونحن لا نهدف من بحثنا هذا أن نهدم وسائل تربوية ؛ ولكن كل ما نريده أن يتحول تيار النهضة من التقليد والمحاكاة والاكتفاء بما هو قائم، إلى الرشد واليقظة والتفكير المستمر في ما هو أفضل وأحسن. نحن نريد للتجمعات والتيارات أن تُجوِّد أعمالها ووسائلها بصفة مستمرة ودورية. ولا يهمنا في كثير ولا قليل شكل الوسائل أو طبيعتها، إنما نريد أن نرى منهجية صحيحة في التفكير والبحث والانتقاء والاختيار. بغض النظر عما سينتج عن هذا الاختيار من وسائل وأدوات.
بعض الأخطاء التربوية
1. تبرير الفشل(1/71)
لابد من التوقف عن تبرير الفشل من خلال عدم المراجعة و التقويم. ولابد أن يمتلك العاملون أدوات المراجعة والتقويم العلمي, وأن يُزودوا بأدوات فن الاختلاف في جو من المودة والحب والرحمة تجنباً للاصطدام الداخلي بسبب عمليات المراجعة. فيجب أن يتعلم الإنسان أن هذه المراجعة لاكتشاف الحقائق وتقرير ما يجب عمله في المستقبل، وليس محاكمة للماضي وأشخاصه.
2. تكرار السير في الطرق المسدودة
ومن الأخطاء المتكررة في عملية التربية تكرار السير في الطرق المسدودة. فقد تجد حركة النهضة أماكن مسدودة في مناطق معينة من العالم, ثم تستمر في السير في نفس الطريق مراراً وتكراراً لتلقى نفس النتائج. وليس ذلك من الحكمة إنما هو من الانغلاق الذي تفرضه عليها أفكار ونماذج معينة.
3. التربية أداة من أدوات الضبط التحكم
ومن الأخطاء التربوية التي تحيط بعملية النهضة أن تستخدم التربية- داخل بعض الأحزاب والحركات والمنظمات والاتجاهات - كأداة للتحكم لا للوصول للأهداف. فيصبح التحكم في ذاته غرضاً من أغراض التربية. ولا تصبح عملية دفع الناس لتحقيق الأهداف هي الغرض الأساسي منها. والضبط والتحكم في ذاتهما ليسا عيباً, ولكن إذا غلبا على قضية الوصول للأهداف وأصبحا غاية صارا خطراً محدقاً وكبيراً، وتحولا إلى أداة من أدوات التخلف.(1/72)
ومن مظاهر سوء استخدام أدوات التربية حرص بعض التنظيمات على تربية أفرادها على مبدأ الطاعة العمياء. فالمطلوب من الفرد أن يطيع دون تردد ولا تلعثم ولا كثرة سؤال. وكلما كان الفرد أقل تساؤلاً كلما كان أفضل وأنجب. وقد يتساءل الفرد فيتم ضبطه بالتذكير بالطاعة. ومن أخطر ما يورث الجمود أن يطالب الأفراد بالطاعة العمياء وهم لا يرون طريقاً أمامهم، ولا يرون مراحل مرسومة من قِبل القادة، ولا يرون أهدافاً محددة. فالطاعة هنا تستخدم كأداة لتسكين الجموع. لكن الطاعة مطلوبة، وهي أداة فعالة في التنظيمات الجادة التي تطرح لأتباعها مشاريعها وتحدد وسائلها، وترسم خطواتها، ثم تطالب أتباعها بالطاعة. فأكرم بها من طاعة على بصيرة.
أما الطاعة بدون تردد فيما ليس بمعصية لله - فهي الشكل الأمثل في الجيوش وما شابهها. لذلك لا نجد نقاشاً أو حواراً في الجيوش النظامية بين القائد الأعلى رتبة وبين جنوده. فأوامره لابد أن تنفذ في الحال، وإذا لم تنفذ يُقدم الجندي إلى المحكمة والقضاء العسكري. حيث أن المعارك لا تحتمل إثارة الخلافات.
4. الوصفة الواحدة
ونقصد بها أن يظن المتصدي للعملية التربوية أن أتباعه لابد أن يمروا بنفس المراحل التي مر بها لكي تحسن تربيتهم، ويجب أن يتلقوا بنفس الشكل، يستوي في ذلك من كان من أتباعه من أهل العلم أم لا. كما أن تقييمه لارتفاع الحالة الإيمانية عند أتباعه يكون بالقياس على الأمور التي ترفع إيمانه هو. وهذا خطأ فادح، فرب إنسان يرفع إيمانه الجهاد، ورب آخر ترفع إيمانه الدعوة إلى الله، ورب ثالث يرفع إيمانه تدريب الجيل على الوسائل الحديثة لنشر الدعوة.
5. شيخوخة التنظيمات(1/73)
فبعض التنظيمات تعاني من الشيخوخة. ولا يشترط أن تكون الشيخوخة متمثلة في كبر سن قادتها، ولكنها تتمثل في أن التنظيم يعامل أتباعه كأطفال. فهم لا يدرون ولا يعلمون شيئاً عن مصلحتهم، وآباؤهم أدرى بما يصلحهم. كما تتمثل الشيخوخة في كون الأعمال التي يُفترض أن يكلف بها فتي عنده ستة عشر سنة، يقوم بها شاب جاوز الخمسة والعشرين عاماً، والأعمال التي يفترض أن يقوم بها شاب في الثلاثين، تجد رجلاً تجاوز الخمسين من عمره يقوم بها، وهكذا تسيطر الشيخوخة على بعض التنظيمات.
6. الفهم الخاطئ للقاعدة الصلبة
بعض الناس يتحدث عن مصطلح (القاعدة الصلبة)، حتى أصبح من المسلمات. وهو وإن كان مصطلحاً منتشراً إلا أن تحويله إلى هدف محدد - يمكن تكميمه بوضع كم له وتوصيفه وتحديد شروط المدخلات وشروط الانتساب لهذه القاعدة، وآليات جعلها صلبة وتحويلها لحقيقة - أمر محال ويصعب أن يتم في أي بقعة من العالم.
فلو نظرنا إلى الشروط التي حددها من كتبوا عن القاعدة الصلبة لوجدنا وصفاً يشمل كل أوصاف المؤمنين في القرآن الكريم، وربما يضيف عليها البعض شروطاً أخرى يرونها ضرورية. ولو نظرنا إلى الواقع العملي، هل تتحقق هذه الشروط في أحد؟! وهل يمكن أن تستمر في حالة وجودها؟! فالشروط التي يندرج تحتها مثل هذا المعنى تحققها شبه مستحيل، لأنها تتكلم عن الإنسان النموذج. وبالتالي نجد أمامنا معضلة من البداية قبل أن نبدأ بتحديد كم هذا القاعدة، وتحديد المدى الزمني
لإدخال هؤلاء الأفراد بهذه المواصفات ضمن هذه الدائرة المسماة (بالقاعدة الصلبة). كما أن الأحزاب والجماعات تتفاوت في التوصيف الشرطي تشدداً أو تساهلاً، فيدخل عند البعض كل الناس، وعند آخرين قد لا تجد إلا فرداً أو فردين.(1/74)
إن الحديث عن تكوين (القاعدة الصلبة) يحتاج إلى إعادة نظر، ليس لمحو هذا المصطلح من قاموس التربية، وإنما لتحديد المعنيين به. ومهما كان الاختلاف حول توصيف المصطلح فإنه لابد من ألا يكون حائلاً دون البذل والعمل بحجة التكوين، فالقاعدة الصلبة المكية – والتي يستشهد بها دائماً – هي التي تحملت وفدت وضحت، وبعضهم لم يتلق أي قسط من التربية الطويلة، فما إن أسلم حتى
صُب عليه العذاب صباً.
إذا أردنا أن نتحدث عن تكوين (القاعدة الصلبة) فإنها تتكون في أتون العمل والبذل. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي هم أبطالها. وإن كان أبو بكر وعثمان وعلي شهدوا المرحلة السرية - التي قد يرى البعض أن تكوين (القاعدة الصلبة) كان فيها- فإن عمر رضي الله عنه لم يشهد هذه المرحلة، وكان دائماً من الثابتين. فالإحجام لم يُرَبِّ يوماً من الأيام صحابياً، ولم نسمع عن صحابي انكفأ على نفسه ثم أخذ عضوية الانضمام للقاعدة الصلبة.
إن تكوين (القاعدة الصلبة) - في رأينا – ليس من أهداف التربية، فهي تتكون وحدها من أناس حملوا المشروع وانطلقوا به، ويتشرفون بالانضمام إليها كلما زاد سهمهم في البذل والعطاء، إنها ليست قاعدة القاعدين والمخلفين، إنها قاعدة الراكضين المخلصين.
ويستخدم أحياناً مصطلح (القاعدة الصلبة) لتبرير السكون، فجموع أبناء الصحوة هم الذين يغشاهم الخلل!! وهم سبب النكبات!! وهم ليسوا أهلاً لتنزل النصر!! وهكذا تُكال التهم لهذه الجموع، حتى يكونوا في النهاية هم سبب الوبال على الأمة، وذلك حتى ينشغل هؤلاء الأبناء بأنفسهم ولا يطالبون الآباء بأي شكل من أشكال الإقدام والتقدم.
مستلزمات القانون:
المعرفة:
بمنطوق القانون.
بمعنى التربية ووسائلها وعلاقتها بالعمل في مشروع النهضة.
الاستخدام:
بالبحث عن الدرة المفقودة، الفرد العامل المفكر الجريء المنتج الرباني ليكون من حاملي المشروع.(1/75)
باعتماد تربية متوازنة تتمثل في حزمة العلوم الشرعية، وحزمة المهارات الحياتية، وحزمة أدوات العلوم الإنسانية.
اعتماد مبدأ التربية في غمار الأحداث.
الانطلاق لجماهير الأمة وعدم الانكفاء على الذات بحجة الجودة.
عدم المصادمة:
بالبعد عن تغليب جانب على حساب آخر في العملية التربوية.
بتقييم الوسائل المستخدمة في التربية واستبدال الوسائل التي ليس لها مردود فعلي بغيرها.
بعدم انتظار أن يتواجد فريق من البشر الذين تربوا حتى بلغوا درجة الملائكة قبل أن يحملوا المشروع.
معادلات القانون:
عامل + مفكر+ جريء + منتج + رباني = إنسان النهضة
أدوات شرعية + أدوات مهارية + أدوات العلوم الإنسانية = تربية متزنة
منطوق القانون
"لكل نهضة موفقة مؤشرات نجاح حساسة تبشر بإمكانية تحقيقها في الواقع"
مفردات القانون:
مؤشرات: هي العلامات التي تدل على التقدم أو التأخر.
أهمية القانون
يبين بدقة مدى التقدم أو التأخر، أو القرب أو البعد عن تحقيق الأهداف. بحيث لا تضيع الجهود سدىً، أو يقف المشروع في مكانه ظناً من قادته أنه يتحرك.
...
تُعتبر المؤشرات قضية أساسية في أي نوع من الأعمال. فالمؤسسات الربحية التجارية لابد وأن تتابع خسائرها وأرباحها. فتعتمد على المؤشرات المالية بقياس معدل الدوران المالي أو معدل الربحية الصافية أو نسبة السيولة في المؤسسة، فإذا كانت هناك اختناقات أمكن تجاوزها بالتخطيط المبكر لهذا الموضوع. وقد تُستخدم مؤشرات أخرى مثل مؤشرات أداء الموظفين، ومدى رضا العملاء- بطريقة أو بأخرى. وبالتالي يصبح أمام هذه المؤسسة مؤشرات تدل على تقدمها نحو الأهداف أو تأخرها. فإذا حددت المؤسسة أنها تريد تحقيق نسبة رضا بين الزبائن تتجاوز تسعين بالمائة فقد تكون الاستبيانات أفضل وسيلة مقننة تستطيع بها أن تقيس تقدمها أو تأخرها نحو الهدف.(1/76)
وهكذا لا تتمكن أي مؤسسة من تحديد ما إذا كانت تربح أو تخسر في أي جانب من الجوانب إلا إذا وضعت مؤشرات يمكن بها قياس التقدم والتأخر. وبالتالي تعمل هذه المؤشرات كجهاز إنذار مبكر لاتخاذ القرارات. فإذا تراجعت الأرباح كان هذا مدعاة للبحث ثم تُتخذ إجراءات مبكرة. أما أن تنتظر المؤسسة الربحية إلى نهاية العام لمعرفة ما إذا كانت تحقق أرباحاً أم لا فهذا لا يحدث. ...
أهمية المؤشرات في مشروع النهضة:
إذا كانت المؤشرات ضرورية للمؤسسات والمشاريع الربحية فهل هي ضرورية لمشروع النهضة؟!
ولندرك هذا الأمر هب أننا قمنا بتدخل ما لزيادة عدد المنتسبين لمشروع النهضة، أو لزيادة عدد المشاركين في مشاريع النهضة، أو لزيادة عدد مشاريع النهضة، ثم لم تكن عندنا قاعدة بيانات أو طريقة نستخدمها لمعرفة التقدم والتأخر نحو تحقيق هذه الأهداف، فكيف نستطيع أن نقيم بطريقة قياس علمية
ما إذا كان تدخلنا أحدث تغييراً أو تقدماً وتطوراً، أو جاء بعكس النتيجة التي كنا نريدها؟ إننا لن نستطيع تحديد مدى تقدمنا أو تأخرنا عن بلوغ الأهداف - ولن نستطيع اتخاذ إجراءات مبكرة - إلا إذا كانت المؤشرات حساسة وواضحة.
إن اعتماد قانون المؤشرات الحساسة أمر في غاية الأهمية. فإدارة مشروع النهضة تحتاج إلى معرفة المؤشرات. وفي غياب هذه المعرفة تصبح إدارة المشروع غير ممكنة عملياً. وإذا وجدت فستسير سيراً عشوائياً كالذي يسير في ظلام ولا يعرف الاتجاه الصحيح، ولا يعرف إن كان لا يزال على الطريق أم انحرف؟! فما يسري على المؤسسات الربحية والتجارية يسري أيضاً على مشروع النهضة.
أصناف المؤشرات:
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
أولاً: عموم الدعاية:(الرأي العام)(1)
__________
(1) الرأي العام: هو موقف أغلبية الأفراد تجاه مسألة عامة محددة، مطروحة للمناقشة في زمن محدد بهدف تحقيق الصالح العام.(1/77)
من أهم ما تسعى إليه أي دعوة،(1) أن تقوم بالدعاية لفكرتها. فكل فكرة تحتاج إلى دعاية للترويج لها. والدعاية تعرف بأنها فن التحدث عن الفكرة في كل مكان. ونقصد بعموم الدعاية: وصول الدعاية وتأثيرها في كل الشرائح المستهدفة.
جمهور الدعاية:
وعادة ما تتجه دعاية النهضة إلى الرأي العام(2) المثقف بالدرجة الأولى، لتخاطبه وتستقطبه وتجذبه إلى مجال النهضة،(3) ثم هو – أي الرأي العام المثقف - يخاطب بها الشرائح الأخرى ويوسع قاعدة النهضة.(4)
جهاز الدعاية:
الدعاية عبارة عن نظام: فيه مرسِل ورسالة ووسط مناخي ومستقبِل، وفيها استجابة تقاس، وتغذية راجعة تعود إلى العقل المركزي الذي يصنع الدعاية.
...
...
ومن هنا نستطيع أن نقول أن هناك مؤشرات يمكن استقراؤها لمعرفة مدى فاعلية الدعاية، فيمكن مثلاً: تحديد عدد الناس الذين وصلتهم فكرة معينة، وعرفوها معرفة عامة. فإذا قلنا أن هدفنا نشر شعار معين؛ فعلينا أن نقيس:
كم من الأشخاص وصله الشعار؟
ومن يعرف مضمون هذا الموضوع الذي تمت الدعاية له؟
كم عدد النسخ التي وزعت بالمقارنة بعدد الجمهور المستهدف؟
إن الأسئلة التي تتعلق بمدى وصول الفكرة - إلى كم من البشر - هي وسيلة من وسائل القياس.
وبالإمكان أن نقيس أكثر من ذلك مثل:
ما مدى وضوح الرسالة؟
ما مدى رضا الجمهور عن الرسالة وتقبله لها؟
ما مدى الاعتراضات على الرسالة من قبل الطرف الآخر؟
__________
(1) ونقصد بكلمة دعوة؛ دعوة النهضة في أي مجتمع من المجتمعات.
(2) راجع قانون "القوة الدافعة" لتتعرف على أقسام الرأي العام بشيء من التفصيل.
(3) الرأي العام المثقف هو المستهدف من شرح فكرة النهضة، حيث أن الرأي العام العامي لا يقبل الأفكار المركبة والمعقدة، ومن ثم فوظيفة الرأي العام المثقف أن يسعى لشرح الفكرة للرأي العام العامي بشكل مبسط فضلاً عن أن يقوده.
(4) يمكن الرجوع إلى شرح مفصل للموضوع في كتاب الدعاية السياسية للمؤلف نفسه.(1/78)
ما مدى الاستجابات و زيادة عدد المشاركين في المشاريع المطروحة على الجمهور؟
ما مدى تفاعل الجمهور مع المناطق التي تبث الدعاية للنهضة؟
إذن يمكن استخدام العديد من المؤشرات لمعرفة نمو الفكرة أو تراجعها. ويمكن الحديث عن المستقبِل ومدى أهمية هذه الرسالة وتلبيتها لاحتياجات شرائح معينة في المجتمع:
قد تكون الطبقات العامية التي لا تقرأ ولا تكتب.
أو الطبقات العامية التي تقرأ أو تكتب.
أو الطبقات المثقفة.
وقد يكون الخطاب أعلى من مستوياتهم أو أقل، فيمكن دراسة محتوى الخطاب، ومفرداته، ولغته من حيث مناسبتها لشرائح معينة، وعدم مناسبتها لشرائح أخرى.
... كما يمكن دراسة جميع أجهزة البث والوسائل التي تبث الدعاية النهضوية، ومدى تحققها والتزامها بالشروط الأساسية للدعاية من هذا النوع. وكذلك دراسة الأوساط الناقلة ومدى كفاءتها في بث الدعاية وانتشارها، ونوعيتها ونوع الخطاب التي تبثه، حيث يشترك في البث النهضوي حكومات، ومجتمعات، ودول:
ما نوع هذا البث؟
ما عدد برامج هذا البث؟
كم تبلغ ساعات البث اليومي؟
كم الإيجابي منها وكم السلبي؟
وليست هذه هي المؤشرات الوحيدة لدراسة عموم الدعاية، فهناك مؤشرات تتعلق ببنية وتكوين هذه المنظمات التي تسعى للتأثير في الجماهير، والتي تؤثر بالضرورة على دعاية المنظمة. بالإضافة إلى مؤشرات تتعلق بالأجهزة التي تقوم بالبث لدراسة مدى كفاءتها وقدراتها والتزامها بالشروط الموضوعية.
إن أحد أهم وظائف المؤسسات التي تعمل مع الجماهير هو الوصول لهذه الجماهير. وتقع دراسة آلية الوصول إلى الجمهور في أول اهتمامات هذه المؤسسات.
وهناك مقومات لهذه الحملات الدعائية الموجهة إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة المستهدفة بالمشروع النهضوي، حتى تصل الدعاية إلى كل الشرائح، وبطريقة علمية، بعيدة عن العشوائية والتخبط.
مقومات الحملات الدعائية:
دراسة الموقف الكلي.(1/79)
تحليل مادة الرسالة والصورة المطلوب انطباعها في ذهن الجمهور.
تحديد طبيعة الجمهور المستهدف.
تحديد الوسائل المباشرة وغير المباشرة.
ضبط العناصر الفنية.
رصد الموازنات: مال — بشر.
التقويم المستمر للحملة الإعلامية وآثارها.
وينبغي الإشارة إلى أن جوهر المنظمات السياسية الجماهيرية - من قمتها إلى قاعدتها - هو كونها منظمة دعائية.
ثانياً: كثرة الأنصار (شبكة العلاقات)
المسألة الأخرى هي قضية الأنصار. فالدعاية تبث لكل الناس. لكن ما هو مفهوم الأنصار في حركات النهضة؟!
تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيراً من الناس يعتقد أن فكرة الأنصار هي فكرة متعلقة بأنصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط، ولكن الحقيقة أن كل الدعوات تحتاج إلى أنصار. فقديماً قيل في الفكر الماركسي أن الحركات الثورية لا يمكن أن تصطدم بنواتها في المجتمع الخارجي. فهي تحتاج إلى بناء واسع حولها، يشكل - إن صح التعبير - الغلاف الذي يحيط بنواة البيضة. هذا الوسط الذي تسبح فيه هذه النواة؛ هو وسط الأنصار. وهو وسط كبير جداً، يمد هذه النواة، ويغلفها ويحميها، ويمنع عنها الصدمات، حتى تستوي وتنضج. وهؤلاء الأنصار هم ثمرة الدعاية.
... ونظام الأنصار أيضاً، هو نظام له مدخلات: فكر، ومال، ورجال.
وله عمليات: بحيث توظف هذه الطاقات ويستفاد منها،
وله مخرجات: بشكل مشاريع ومزيدٍ من الدعاية والانتشار والحماية لمشروع النهضة، وفيه تغذية راجعة: لمعرفة تطور هذه البُنَى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
...
...
فالأنصار هم البحر الذي تعيش فيه الأفكار، وعندما ينحسر لا يبقى إلا الموت، والتشرنق على الذات والتحوصل! فكيف نقيس مشروع الأنصار؟
قياس مشروع الأنصار:
قياس نوع الارتباط:
نوع المرتبطين عاطفياً.
نوع المرتبطين عضوياً.
نوع المرتبطين بمشاريع محددة.
قياس آخر:
قياس درجة الاستفادة من دوائر الأنصار.(1/80)
قياس مدى المدخلات من الفكر والمال والرجال لاستقطاب الأنصار.
استثمار نظام الانتخابات العامة أو النقابية وما شابها لمعرفة حجم الأنصار.
استخدام نظام التمويل (مثل التبرعات) لمعرفة وجود الأنصار.
وهناك وسائل كثيرة جداً لبناء نظام الأنصار ومعرفة وجوده من عدمه، ومدى فاعليته في النهضة العامة التي ترجوها الأمة.
إن مفهوم الأنصار هو واحد من أهم المفاهيم في العمل النهضوي، في كل أطواره. ففي أي حركة تغييرية – إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غيرها - نجد مفهوم الأنصار شائعاً. وحركة النهضة ممثلة في روادها لا تكفي أبداً لإنجاز المشروع، ونجاحها مرتهن بمفهوم الأنصار.
ثالثاً: متانة التكوين (بناء المؤسسات)
المجال الثالث للمؤشرات هو البنية والتكوين. فمشروع النهضة يحتاج أن تبنى له المؤسسات الرسمية والخاصة التي تهتم بها الدول والتجمعات على وجه سواء. فكثير من هذه التجمعات تفتقد الشروط الموضوعية، أو الكفاءة اللازمة للأداء، فكيف يمكن قياس أو وضع مؤشرات لهذه المؤسسات؟؟
النظام السباعي لمعرفة المنظمات:
المكون الفكري للمنظمة:
ما مدى قوته؟
ما مدى تمكن أفراد المنظمة من هذا المكون الفكري؟
ما مدى انتشاره؟
ما مدى وضوح الأهداف الكلية والمرحلية فيه؟
كيف تقاس الأفكار وتتطور؟
2. الاستراتيجية
ما مدى وضوح الاستراتيجية؟
ما مدى فاعلية الاستراتيجية سواءً في الانتقال المرحلي أو في الوصول إلى الأهداف؟
3. الهياكل
ومدى ملاءمتها للمطلوب منها.(1)
4. القوى البشرية.
هل يوجد الكم الضروري من القوى البشرية؟
هل يوجد الكم النوعي الضروري؟
ما درجة الروح المعنوية المنتشرة؟
__________
(1) بعض التنظيمات يثبت شكل الهيكل سواءً كان هرمياً أو مفلطحاً أو غيره، ويعتبرونه من الثوابت، وفي ذلك خطأ كبير، إذ أن كل استراتيجية تتطلب نوعاً من الهياكل، وكثير من الخلل في المنظمات يأتي من عدم توافق الاستراتيجية مع بنية هيكل المؤسسة.(1/81)
ما درجة فاعلية هذه القوى البشرية وكفاءتها في أداء المهام المنوطة بها؟
5. المهارات
ما مدى توفر المهارات كماً وكيفاً؟
ما درجة استثمار هذه المهارات؟ فقد تكون هناك مهارات كثيرة جداً، ولكن درجة استثمارها قد تكون اثنين أو ثلاثة في المائة.
6. النظم والأجهزة
النظم والفاعلية والتقليد داخل هذه المنظمات.
7. ثقافة بيئة المنظمة
كم درجة الأفكار القاتلة المنتشرة فيها؟
هل تنمي المنظمة قيم العمل والإنتاج والجرأة؟
أين توجد هذه القيم داخل المنظمة في مقابل قيم التقليد والالتزام الحرفي والقيم السكونية؟ فإنه إذا لم يتم التوازن بين قيم الالتزام والانتظام وبين قيم العمل والإنتاج والجرأة والتفكير، وطغت إحداهما على الأخرى يحدث الخلل. فكم درجة التوازن بين هذه وتلك؟!
ما هي الأمثلة والقصص التي غالباً ما يستشهد بها؟ وهل تتفق مع استراتيجية المؤسسة؟
يدخل في هذا البند أيضاً دراسة القيادة:
ما ثقافتها وقدراتها؟
هل هذه الثقافة مناسبة لطبيعة الصراع القائم؟
ما أساليب وطرق العمل المنتشرة بينها؟
ما مدى المثالية والأخلاقيات في إدارة الأعمال؟
إن بإمكاننا وضع معايير ومقاييس في مجال ما يسمى بمتانة التكوين أو البنية العامة.
ملاحظة هامة:
يتبين من هذا الشكل أو ما يسمى بالنظام السباعي أن استراتيجية المؤسسة تبنى على أساس المكون الفكري لها. وهذه الاستراتيجية بدورها ليست ثابتة؛ بل هي تتغير بتغير الظروف. وانطلاقاً من الاستراتيجية المختارة يبنى هيكل المؤسسة. وقد يتغير الهيكل أيضاً بتغير الاستراتيجية. أما انتقاء القوى والكوادر البشرية فيكون حسب نشاط المؤسسة. بينما تخضع المهارات المطلوبة أو التي يتم التدريب عليها أيضاً للاستراتيجية، إذ أن كل استراتيجية تتطلب مهارات خاصة. قس ذلك أيضاً على النظم وأسلوب الإدارة والثقافة السائدة في المنظمة.(1/82)
فقد يتواجد خلل في منظمة ما، وأول ما يتبادر إلى أذهان القادة والعاملين أن الخلل في التربية، بينما قد يكون الخلل في اختيار بنية الهيكل وشكل التنظيم، أو في افتقاد الأفراد للمهارات التي تناسب المهمة، أو في تكدس المنظمة بالبشر الذين لا توجد لهم وظائف حقيقية، أو أن قدراتهم تختلف عن الاستراتيجية المختارة.
مما سبق يتبين أن عمليات الحشد المستمرة وصراع التجنيد – على نفس العدد من البشر – بين الأحزاب والتيارات يجب أن ينحسر. فكل منظمة تتطلب أفراداً بمواصفات معينة، وليس كل فرد يصلح لكل منظمة. فالتجنيد العشوائي آن له أن يتوقف، وأن يسود الرشد هذه المرحلة. وألا تتكدس التيارات والمشاريع بشباب يعانون من البطالة العملية. إذ يوضع الشاب في مكان لا يناسب قدراته، إما لأنها أعلى من المهمة المكلف بها، أو لأنها – أي قدراته – أقل من تلك المهمة.
وقد يكون الخلل في ثقافة وبيئة المنظمة. فكثير من المنظمات تتحدث عن التغيير بينما لا تجد
في ثقافتها أثراً لفكرة التغيير. فلا تُدرس الحركات التغييرية، أو وسائل التغيير المختلفة، ولا يتم عرض التجارب الفاشلة والناجحة. وبالتالي فإن منظمة كهذه قد يكون خللها في ثقافتها وبيئتها.
نظام 4 في 4:
ويمكن استخدام نظام آخر هو النظام الرباعي. إذ أن أي مؤسسة تقاس من حيث التكوين بستة عشر معياراً من خلال أربعة مفاتيح: (4x4)
أولاً: المنظمة
الهيكل: مدى كفاءة الهيكل وتوافقه مع مهمة المؤسسة.
البيئة: مدى ملائمة بيئة المنظمة وثقافتها لتحقيق الأهداف.
4. الإدارة: كفاءة الإدارة للمهام المناطة بها.
القيادة: كفاءة القيادة للمهام المناطة بها علماً وتدريباً ( قدراتها وثقافتها).
ثانياً: روافع المؤسسة (الموارد)
الموارد البشرية: نوع وكم الموارد البشرية وحافزيتها للعمل.
الاتصالات: كفاءة جهاز الاتصالات.
التقانة.
التعاون.
ثالثاً: معرفة المؤسسة:(1/83)
بمجال الصراع: هل تعرف المؤسسة مجال الصراع جيداً؟؟ فقد تجد شاباً يتدرب ويستعد في مجال البلياردو لسنوات عديدة، ثم إذا به يجد أن المباراة المزمع عقدها تدور في مجال كرة القدم. فأنى له أن يفوز؟! فالمجالان مختلفان تماماً، وليس هناك رابط بينهما.
بتكاليف الصراع: هل تعرف تكاليف الصراع والمواءمة بين العوائد وبين الخسائر؟؟
بالجمهور: (الشريحة) هل تعرف الشريحة التي تريد أن تخاطبها والتي تعتمد عليها أساساً؟
بالخصم وخططه: هل تعرف المنافسين والخصوم واستراتيجياتهم وأدواتهم على وجه التحديد لا على وجه الظن؟؟
رابعا: ًنظام التخطيط:
وجود الاستراتيجية: ما الاستراتيجية الحالية؟
كفاءة نتائجها في السابق: ما مدى كفاءتها في مواجهة الظروف المحيطة وقيادتها لتقدم المنظمة أو تراجعها؟
مدى تنفيذ الاستراتيجية: كم كفاءة تنفيذ هذه الاستراتيجية؟
وجود نظام التخطيط: ما درجة وجود نظام حقيقي للتخطيط داخل المؤسسة، ودرجة ارتباط التخطيط بالتنفيذ اليومي؟ ومدى انتشار الوعي التخطيطي داخل هياكل المنظمات؟
إننا عندما نتحدث عن المؤشرات فإننا نتحدث عن مجال كبير خصب. وأي منظمة تعمل في مجال النهضة فيجب تقويمها من خلال عناوين هذه المؤشرات.(1)
المؤشرات الحساسة للعملية التربوية الجماهيرية:
من المخاطر التي تتعرض لها التربية عدم وجود مؤشرات حساسة يمكن اعتمادها لمعرفة التقدم أو التخلف في الحالة التربوية العامة.
__________
(1) للمزيد من التفصيل ارجع إلى كتاب "أداة التخطيط الاستراتيجي" لنفس المؤلف.(1/84)
فبعض الأحزاب و المنظمات لا تهتم بالشأن العام والتربية العامة وتربية المجتمعات رغم حديثها الدائم حول هذه القضية. بينما اهتمامها في حقيقة الأمر يتركز على الحزب – أو التنظيم والمنظمة - وما يدور فيه. فإذا افترضنا نظرية ( 80 – 20 )، 80 % تربية لمن هم داخل المؤسسة و20 % للخارج(المجتمع) سنجد السنين تمضي ولا تنتقل بعض هذه المؤسسات للخارج مطلقاً, ولا توجه سياستها الدعوية للخارج. وهو خطأ كبير ومؤشر خطير يجب الانتباه له. لذا يجب اعتماد مؤشرات صلبة في مدى انتشار فكرة النهضة بين العاملين في الحقل الإسلامي وجموع المنتسبين لتيار الصحوة وبين المجتمعات الإسلامية, كما يجب اعتماد مؤشرات لقياس انحسار الأفكار القاتلة. كما يجب قياس معدل انحسار الكلمات الاستعلائية بين التيارات، والتي تعني أن هذا التيار أو ذاك وحده على صواب، وأن ما عليه هو الدين بعينه وليس اجتهاداً يقبل القبول والرد. يجب قياس انحسار معدل المشاحنات، ومدى ازدياد كلمات الوفاق والتقارب، وهل لا تزال التيارات تتقوقع على نفسها فلا يعلم أتباعها إلا قول قادتهم، أم أن كل الأفكار تُطرح وتُقرأ على اعتبار أن كل التيارات جزء فاعل في المشروع؟
إذن لابد من رصد مدى انتشار هذه الأفكار في مقولات التيارات المنتسبة للصحوة في المجتمعات المسلمة، ورصد مدى النجاح في جعلها تتراجع لصالح أطروحات أكثر عدالةً وإنصافاً، وأكثر رحمةً للعالمين.(1/85)
ويشكل الحزب أو المنظمة أو التيار في أحيان كثيرة حاجزاً يحول دون التواصل مع الكفاءات والقدرات الموجودة في المجتمعات المستهدف استنهاضها. فبدلاً من أن يكون الحزب أو الجماعة أو المنظمة - سواء كان في السلطة أو خارجها - وسيلة للتواصل مع الآخرين يصبح أداة لإبعادهم و تهميشهم. فكلما اختلفت رؤى أحدهم مع هذا التيار أو ذاك حدث العراك. ولا يكون هناك خيار إلا الالتحاق بالمنظمة أو الدخول في حرب معها. هذا النوع من الأداء خطير ويضر بمجمل المشروع النهضوي. لذا يجب أن تكون عندنا مؤشرات لرصد هذا الأداء ومدى تقدمه أو انحساره. ومن هذه المؤشرات رصد عدد الأنصار لتيار النهضة في المجتمعات الإسلامية.
كما يحتاج المشروع مؤشرات متانة تكوين الأجهزة المختلفة: مثل أجهزة الإحصاء والتخطيط والتكوين والمدارس والجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات. هذا التكوين الشامل للأمة كيف نقيسه؟! كيف نقيس مدى استنهاض الأمة, ومدى انتقالها من طور الصحوة إلى طور اليقظة؟! كل هذه التساؤلات والقضايا لا تُعتمد إلى الآن كمؤشرات حقيقية لعملية الانتقال. بل ما زال العمل في ذاته غاية دون وجود وسيلة لمعرفة ما إذا كنا نتجه في الاتجاه الصحيح أم لا.
إن قضية التربية وإدارة هذا المشروع الضخم, واستخدام المؤشرات الحساسة, والانتقال من فكرة تربية التنظيمات إلى تربية شاملة للمجتمعات الإسلامية بما فيها هذه التنظيمات والتجمعات بشكل عام, يجب أن تكون مؤشراً أساسياً لتقارب عام بين المسلمين، يتقبلون فيه أشدهم تطرفاً ناهيك عن أكثرهم اعتدالاً. هذه القضية يجب أن تكون شاملة عامة وتطرح في المجتمعات الإسلامية لانتقال التيارات والحكومات والاتجاهات من ساحة العراك إلى ساحة التعاون.
ما الذي يعوق عملية إيجاد مؤشرات؟(1/86)
قد يكون توافر الإمكانيات – لإنشاء مراكز البحوث - عائقاً في نظر البعض لإيجاد مؤشرات. وفي نظر البعض الآخر قد يكون العائق هو الثقافة العامة المنتشرة في المجتمعات، فهي ليست ثقافة رقمية بالدرجة الأولى، وليست ثقافة تقبل المراجعات، وبالتالي فستظل عملية المؤشرات غير مهمة بالنسبة لأفراد كثيرين في ظل الثقافة القاصرة المنتشرة في مجتمعاتنا.
فالمراجعات تعني – عند البعض - المشاحنات حول من المُخطئ ومن المصيب، ولا تعني عملية التطوير. والأرقام تعني تفكيراً حقيقياً وعملاً جاداً لمعرفة مدى التقدم أو التراجع. وهذه المراجعات والأرقام مؤلمة للنفس البشرية التي ترفض إلا الاعتراف بالإنجازات والحسنات. وهكذا يفضل البعض - في هذه المجتمعات - السير من غير علامات، أو يتم تقييم الأمور انطباعياً.
فقد يقول أحد مرتادي مسجدٍ ما يقل رواده من الشباب أو من الناطقين باللغة العربية: "إن العرب لا يصلون! والشباب لا يحضرون المساجد!!". بينما لم يدرك هذا الشخص أن المسجد في منطقة عمالية!! ويسود فيها غير الناطقين باللغة العربية! وأكثر أهل المنطقة ليسوا من صغار السن أصلاً!!
أو قد يقول قائل من أبناء الصحوة الإسلامية: نحن نتقدم لأن نسبة الحجاب تزداد، وهذا يعني أننا نؤثر في الشارع ولنا شعبية ضخمة. وهذا صحيح فقد ازدادت نسبة الحجاب، ولكن ازدادت في نفس الوقت ظاهرة الزواج العرفي، ودخول المسلمين على المواقع الإباحية، وتطور مستوى الإعلان التليفزيوني والأغاني إلى إظهار الكاسيات العاريات بشكل لم يسبق له مثيل.
فكيف نقيس تأثيرنا على الشارع من خلال ظاهرة واحدة وهي انتشار الحجاب؟! رغم أن هناك ظواهر كثيرة منتشرة قد تفسد كل نجاح نراه، خاصة وأنها تخترق كل بيت من خلال الفضائيات والإنترنت.(1/87)
هذا النوع من الانطباعية في تقدير الأحكام نتج عن غياب ثقافة الأرقام. وهذه الانطباعية السائدة تؤثر كثيراً على الأداء العام للعمل. وهي محبطةٌ في أحيانٍ كثيرة، وفي أحيان أخرى يكتشف الناس بعد عشرات السنين من الانهماك في العمل أنهم لم يغادروا أماكنهم، ولم يحققوا أهدافهم التي تعاهدوا عليها؛ بل والبعض انشغل بأعمال جزئية، أو بعمل استثنائي في ظرف ما اضطر له، وبمرور الزمن صار هذا العمل الاستثنائي هو الأصل!!
نحن نحتاج إلى تعميم الثقافة الرقمية، وثقافة تقبل المراجعة. وهذا يحتاج إلى زمن وتربية، وبالتالي فمسائل التربية يجب أن تركز على تطوير عقلية القائمين على مشاريع النهضة الكبرى، واستقطاب عناصر تقبل هذا النوع من الأداء لهذه المؤسسات والأحزاب والحكومات.
أما استقطاب العناصر العاطفية - التي لا تريد أن تتعب ذهنها في شيء، وتريد أقل الأعمال المجهدة للذهن، وأقل الأعمال المجهدة للجسد، ثم اعتمادهم ليصبحوا في المستقبل قادة لهذه المشاريع
الكبيرة فهو خطأ فادح ومكلف على مسارات مشاريع النهضة -سواءً كان في الحكومات أو المنظمات على وجه سواء.
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
المؤشرات الثقافية: مؤشرات الالتزام بالمنظومة القيمية.
مؤشرات الاعتزاز بالذات.
مؤشرات احترام الآخر.
مؤشرات شيوع قيم العدل.
المؤشرات الاقتصادية: مؤشرات النمو الاقتصادي.
المؤشرات الاجتماعية: مؤشرات قياس سلامة النسيج الاجتماعي وحيوية المجتمع.
المؤشرات السياسية: مؤشرات المشاركة والعدالة والحريات .. إلخ.
المؤشرات الروحية: ظاهرة الالتزام وحيوية الحالة الإيمانية ومظاهرها.
المؤشرات الحضارية: النظام والنظافة والجمال.. إلخ.
المؤشرات الصحية: المعدلات المختلفة.
المؤشرات التعليمية: في العدد والتخصصات والمستويات المناسبة لسوق العمل والوضع في الهرم الدولي.
مستلزمات القانون:
المعرفة:
بمنطوق القانون.(1/88)
بالأدوات التي تعين على استخدام القانون من الدعاية إلى التخطيط الاستراتيجي.
الاستخدام:
إيجاد أجهزة دعائية إعلامية مؤثرة.
إيجاد شبكة علاقات قوية بين مؤسسات النهضة والجمهور، وبين المؤسسات والتيارات بعضها البعض.
إيجاد منهجية ومراكز بحوث وأجهزة على أعلى مستوى من التدريب لرصد المؤشرات.
التدريب على الثقافة الرقمية والإحصائية.
التأكد من متانة تكوين المؤسسات العاملة للنهضة من خلال أداة التخطيط الاستراتيجي.
عدم المصادمة:
بتجنب إهمال رصد المؤشرات، وإلا راحت جهود المؤسسات والتيارات العاملة والدول أدراج الرياح، ولعلها تخطيء طريقها وهي لا تدري.
بإيجاد أجهزة دعائية مؤثرة تصل إلى الجماهير، فبدون الأنصار تموت مشاريع النهضة عند أول تهديد.
معادلات القانون:
مرسل + رسالة + مرسل إليه + تأثير +تغذية راجعة = جهاز الدعاية
فكرة – أنصار = فشل
أهداف عليا + استراتيجية مناسبة + هيكل مناسب للاستراتيجية + كوادر مدربة بالمهارات اللازمة + نظام إداري مناسب+ ثقافة وبيئة ونمط قيادة مناسب = مؤسسة قوية
دعوة – مؤشرات نجاح = تخبط وبعد عن الأهداف
منطوق القانون
"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"(1)
مفردات القانون
الدفْع: جاء في المعجم الوجيز دفَعَ الشيء دفْعاً أي نحاه وأزاله بقوة. فيقال: دفعته عني، ودفع عنه الأذى والشر. ويقال: دفْع القول أي ردُهُ بالحجة. والمقصود بدفع الناس أي دفع بعضهم بعضاً.
أهمية القانون
__________
(1) سورة البقرة:251.(1/89)
قضية التدافع - كما يشير القرآن الكريم - كانت ولا زالت وستكون هي جوهر الوجود البشري. فالوجود البشري قائم على هذا التضاد، وعلى هذا التدافع المستمر لخلق الله على أرضه. فالبشرية تدعو إلى السلام والأمن، بينما في الواقع يطغى الناس بعضهم على بعض، وتستمر عملية التدافع إلى أن يشاء الله عز وجل، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقانون التدافع يخبرنا بأنه لا مفر من عملية التدافع المستمرة في السلم والحرب، فهي حالة دائمة ومستمرة لا يجوز تجاهلها أو الأمل في زوالها.
المراحل الثلاث للمؤسسات:
عندما نتحدث على مستوى الواقع الحي، سواء كان على مستوى المنظمات والأحزاب، أو حتى الدول، سنجد ثلاثة مراحل لأي مؤسسة:
المرحلة الأولى: وتسمى مرحلة البقاء أو الوجود. فكل كائن حي أو نظام قائم يحرص أولاً على بقائه أو وجوده.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاستقرار. فهذا الكيان الذي ضمن وجوده وبقاءه في المرحلة الأولى يسعى الآن إلى الاستقرار. فتأمين الوجود والبقاء قد لا يعني استقرار النظام. لذا فهو يسعى إلى تعديل أوضاعه لإيجاد حالة من الاستقرار.
المرحلة الثالثة: مرحلة النماء أو التنمية. وفيها يهدف الكيان - بعد المرحلتين السابقتين - إلى مستوى ثالث ألا وهو النمو وتطوير ذاته والبناء.
وهكذا فإن أي نظام(1) يسعى إلى الوجود، ثم إلى الاستقرار، ثم إلى النماء.
والدولة كنظام تمر بهذه المراحل الثلاث وتسعى إلى بلوغ نهاية هذا السلم بتحقيق التنمية. وبالمثل تسعى النظم الأصغر والأضعف أينما كانت إلى بلوغ الهدف نفسه. ومن هنا تأتي عملية التدافع.
التدافع البشري:
هناك نوعين من التدافع البشري:
__________
(1) المقصود بالنظام هنا: هو أي كيان مكون من عدد من الأشياء والتي يتفاعل بعضها مع بعض للوصول إلى مخرجات معينة بأخذ مدخلات معينة، حيث توجد تغذية راجعة مع الوسط المحيط، وبالتالي يتكون عندنا ما يسمى بالنظام.(1/90)
التنافس: بمعنى أن تكون النتيجة النهائية للتدافع بين طرفين متنافسين هي فوز كليهما بشيء من الخيرات أو ما يطلق عليه Win _ win situation؛ أي حالة من فوز الطرفين وحصولهما على مكاسب معينة يرضى بها كلا الطرفين. هذا النوع من التدافع يمكن أن يطلق عليه التنافس.
الصراع: ويُقصد بها الصراعات الصفرية Zero _ sum. وفي هذه الصراعات لا يتقبل كلا الطرفين وجود الطرف الآخر إطلاقا،ً ويسعى إلى إنهائه تماماً، والخروج بفوز نهائي ساحق كامل،
بينما يخرج الطرف الثاني من الصراع مغبوناً ومتألماً، إما منسحباً مكسور الإرادة، وإما عازماً على الإعداد لجولة أخرى من الصراع.(1)
وهكذا يمكننا تقسيم قضايا التدافع إلى تنافسية أو صراعية. فالقضايا التنافسية تحتمل فوز الطرفين بنسبة من النسب. بينما يسعى أحد الطرفين إلى إنهاء الطرف الثاني وإخراجه من ساحة الفعل في القضايا الصراعية.
خطوات التدافع
وهنا يتساءل الكثيرون عن خطوات التدافع. وهل هناك خطوات أو قواعد محددة يمكن السير في ضوئها في عملية التدافع؟
و حتى تستطيع مؤسسة أو حركة أو تنظيم ما أن يحدد قواعد وخطوات التدافع يلزمه أولاً الإجابة على هذه التساؤلات، والتي في ضوئها يتم تحديد الخطوات:
هل التدافع تنافسي أم صراعي؟
على ماذا يتم التنافس أو الصراع؟
أين يتم التدافع؟ (المكان)
ما أدوات الصراع أو التنافس؟( بماذا تصارع أو تنافس)؟
كم التكاليف؟
ما المدى الزمني المتوقع؟ (بالتقريب)
ما مستلزمات الصراع أو التنافس؟ (ما تحتاجه)
هل هناك مفر من عملية التدافع؟
__________
(1) عدم التفرقة بين النوعين من التدافع توقع في مطبات قاتلة. فقد يرى أحد الطرفين أن الصراع تنافسي بينما يراه الطرف الآخر صراعاً صفرياً، فتختلف استعدادات الطرفين ووسائل عملهما تبعاً للنظر إلى طبيعة التدافع. وفي القضايا الكبرى يجب تحديد نظرة الطرف الآخر للصراع بدقة والابتعاد عن الأماني حتى يمكن تقدير الموقف وعمل الحسابات اللازمة له.(1/91)
ليس هناك مفر من عملية التدافع: فلو نظرنا إلى التاريخ وإلى الحاضر لوجدنا أن التدافع هو إحدى السنن الكونية التي كانت وما تزال تطرق المجتمعات والكيانات منذ أن نشأت ووجدت على وجه الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذه بعض الأمثلة:
الرسل جميعهم من لدن آدم وحتى رسولنا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
تاريخ قيام الدول وسقوطها.
تاريخ قيام الحضارات وزوالها.
مجالات التدافع:
وللتدافع مجالات عدة سواء في السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع وغيرها، والتي يمكن اختزالها في المستويات الثلاثة التالية:
مستوى الفكرة: فعندما تصطرع المنظومات القيمية، سواء الليبرالية والإسلامية والشيوعية وغيرها على مستوى الفكر فهذا صراع على مستوى الفكرة.
مستوى التنظيم: وعندما تصطرع النظم التي تحمل هذه الأفكار، سواء كانت أحزاباً أو دولاً، فهذا صراع على مستوى النظم.
مستوى الأشياء: أما عندما يكون الصراع على الأشياء المادية سواء على البترول أو مصادر الطاقة أو أسلحة الدمار الشامل فهذا صراع على مستوى الأشياء.
وهذا التقسيم نظري بحت، إذا أن الصراعات تختلط فيها المستويات الثلاثة: الفكري، والتنظيمي، ومستوى عالم الأشياء. ولكن للدراسة تُقسم مجالات التدافع بهذه الكيفية.
جوهر التدافع
أما جوهر عملية التدافع فهو وجود اختلاف في المصالح. سواءً كانت هذه المصالح دنيوية أو أخروية. فهذا الاختلاف في المصالح والرؤى بين الأطراف المختلفة يؤدي إلى التدافع فيما بينها.
ويقوم التدافع على عنصر القوة. أي محاولة طرف من الأطراف فرض إرادته على الطرف الآخر. إذ أن القوة تُعرَّف على أنها قدرة الطرف (أ) على فرض إرادته على الطرف (ب)، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة.
محاور الصراع
أما المحاور التي يدور حولها الصراع فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
الشرعية
توحيد الجهود من خلال
انتظام الدعم الخارجي ونوعه.(1/92)
قطع الدعم الخارجي عن الطرف الآخر وحرمانه من مناطق الأمان والتحصن.
تنمية المعلومات لضمان عنصر المفاجأة.
الانضباط من قبل شريحة التغيير.
القيادة كعنصر مهم في التدافع
فإذا تبين لنا مما سبق أن جوهر عملية التدافع هو اختلاف المصالح والرؤى، وقوامها عنصر القوة، ومحاورها هي ما ذكرناه آنفاً، لعلمنا قطعاً أنه – سواء كان تنافساً أو صراعاً – أمر لابد منه. ونلفت النظر هنا إلى أن هذه المنظومات على اختلاف أنواعها تتبلور في القيادة. وهكذا يمكن اختزال التدافع ليكون بين العقول القائدة.
و يمكن القول بأن القائد هو أهم عنصر في الصراع. والقائد في أفضل تعريفاته: له رؤية، وعنده التزام بالهدف الذي يتحرك من أجله، ولديه القدرة على إدارة الآخرين وتوظيفهم لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه.
إذن تحتاج عملية التدافع إلى قيادة تقود الصراع. وهذه القيادة ليست مجرد قيادة؛ بل يجب أن يكون لديها،:
رؤية واضحة عن:
ماذا تريد؟
وكيف تصل إلى ما تريد؟
والتزاماً عالياً بالهدف.
المهارات القيادية التي تمكن من إدارة الناس والموارد للوصول للهدف.
فإذا افتقدت هذه العناصر تصبح عملية التدافع بلا قيادة، إنما تخضع لإدارة من نوع ما.
أهم وظائف القيادة
وتحتاج القيادة إلى ثلاثة وظائف متزامنة:
تطوير مستمر: فوظيفة القيادة الأساسية أن تقوم بتطوير نفسها باستمرار. سواءً بالقراءة، أو النظر والبحوث والتعلم والتدريب وغيرها من الأمور. فتطور القيادة المستمر، والحرص على أن تكون لها مدخلات جديدة باستمرار وأن يكون نموها مستمراً هو الواجب الأول الذي يحقق تميز القيادة وقدرتها على منافسة بقية العقول القائدة الداخلة في الصراع.
خلق ميزة تنافسية للمنظمة أو الجهة التي تعمل لها: والميزة التنافسية تقوم على إيجاد فرصة أو قدرة معينة للمنظمة للتغلب على العقبات التي تقف أمامها، وللوصول لأهدافها في مقابل المنافسين، أو القوى الأخرى التي تدافع المشروع.(1/93)
القدرة على استخدام أدوات القوة: ففي السياسة تعتبر أدوات القوة أو الفعل ثلاثة وهي: المال وما يتعلق به، والإقناع وهو هذه القوة الفكرية المنطقية التي تسمح بإقناع طرف ما بأن يخضع لرغبة الطرف الموجه للفكرة، والقوة المادية وما يصب في جانبها من عناصر القوة الصلبة.
هذه العناصر الثلاثة تشكل جوهر أدوات القوة التي تستخدم في الصراع، ووراءها تقف كل الإمكانات المادية والبشرية والمعرفية. فالمال والإقناع والقوة الصلبة هي الأدوات المستخدمة في الساحة مباشرة لفرض إرادة طرف ما على طرف آخر.
أشكال سبعة في العمل التدافعي
هناك أشكال كثيرة ومتنوعة في العمل التدافعي. ولكن إذا حصرنا كلامنا على المستوى السياسي - والذي هو جوهر عملية النهضة، لتتحول الفكرة إلى إيجاد نظام سياسي يمتلك عناصر القوة، وينقل مشروع النهضة من تصور نظري إلى مشروع يستفيد بإمكانيات الدولة في تنمية المجتمع – إذا حصرنا دراستنا على هذا المستوى فسنجد أشكالاً ومسميات عديدة. وعلى القائد أن يعرف تفصيلات هذه الأشكال وليس عمومياتها، لأن هذا هو جوهر قضية ما يجب أن يتعلمه القائد عن عملية التدافع، وأي نقص في هذه الجوانب سينعكس على نقص في الأداء والتصور والتخيل عند القائد. وقد اخترنا من هذه الأشكال أو المسميات ستة أنواع لانتشارها وكثرة استخدامها على مر العصور من قِبل الدول أو التنظيمات. وسنستعرض في الصفحات التالية هذه الأشكال السبعة:
الحرب
إن الحرب هي أداة من أدوات السياسة، وهي "عمل من أعمال العنف، يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا"(1).
من التعريف السابق يتبين أن الحرب ليست هدفاً لذاته، وإنما هي أداة من أدوات تنفيذ السياسات، و هي لغة حوار الإرادات، وهدفها إخضاع وكسر إرادة الخصم، ولا يشترط تدميره، بل القائد العسكري الماهر هو الذي يسخر موارد خصمه لصالحه.
__________
(1) اللواء الطيار الركن عبد الرحمن حسن الشهري، تطور العقائد والإستراتيجيات العسكرية.(1/94)
وتنقسم الحروب إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
حرب كبيرة: مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذه الحروب لها خصائصها وتصوراتها.
حرب متوسطة: مثل حربي الخليج الأولى والثانية، حيث تلتقي قوى عظمى بقوة صغيرة. وتُستخدم فيها الأسلحة التقليدية وما إلى ذلك. ولكنها لا ترقي إلى مستوى الحروب العالمية.
حرب منخفضة الحدة: وهي في مستوى أدق من هذه الحروب، مثل فيتنام والصومال ولبنان وغيرها.
فكل نوع من هذه الحروب له خصائصه التي يجب أن يعرفها القائد معرفة جيدة. وبدون هذه المعرفة، لا يمكن له أن يتخيل ما الذي يتكلم عنه أثناء وجود الأزمات، أو أثناء إدارة مثل هذا النوع من الصراع، حتى على المستوى النظري.
الانقلابات:
والانقلاب هو عبارة عن عملية تتم داخل أجهزة السلطة. حيث يقوم طرف من الأطراف داخل دائرة السلطة بإسقاط فريق العمل السابق والحلول مكانه.
وهناك مجموعة من الأسئلة المتعلقة بهذا الشكل من أشكال التدافع، ولابد أن يكون القائد قادراً على الإجابة عليها. ومن هذه الأسئلة:
ما هي الانقلابات؟
ما شروطها؟
ما كوابحها التي تمنع من حدوثها؟
ما معدلات العوامل التي تسرع من حدوث الانقلابات؟
ما سلوك العمل الانقلابي؟ فهناك سلوك معين للعمل الانقلابي.
فمعرفة كل ما يخص الانقلابات مسألة هامة جداً بالنسبة لعقلية القائد وتكوينها.
الثورات:
والثورة حدث أشمل من الانقلاب. ففي كل من الثورة والانقلاب يتغير نظام الحكم، ولكن يصحب تغير نظام الحكم في الثورة تغيرات عميقة في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتتأثر فيها أحوال المجتمع بوجه عام. فالثورة لا تختص فقط بتغيير السلطة في الحكم، لكنها تشمل تغيير المنظومة الاجتماعية كاملة.
فانقلاب حركة الضباط الأحرار المصرية في يوليو 1952م الشهيرة لم يتحول إلى ما يسمى بالثورة علمياً إلا بعد أن مس جميع جوانب المجتمع المصري. فتحول اسمه من انقلاب الضباط الأحرار إلى ثورة يوليو.(1/95)
وهكذا فإن انتقال الفكرة من مجرد استبدال طغمة حاكمة بأخرى مع تغييرات حتمية نتيجة هذا الاستبدال تمس تغيير البنا الاجتماعية في المجتمع؛ سياسةً واقتصاداً وشرائح يقال عنه ثورة وليس عملية انقلاب.
وحتى يستطيع القائد أن يدير الصراع لابد أن يكون على علم جيد بالثورات. وأن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
ما هي الثورة؟
ما شروطها؟
ما توابعها؟
ما معجلاتها؟
ما هو سلوك الثورات عندما تحدث حتى يمكن التعامل معها عندما تحدث انفجارات؟
من أطرافها؟
هل الثورة تحدث بفعل القوة المعارضة أم تحدث بفعل القوة الحاكمة؟
ما دور الأطراف؟
ما دور كل من الشعب والجيش والقوى السياسية؟
فكل هذه القضايا يجب أن تؤخذ في الحسبان عندما تدرس هذه الظاهرة. وعلى القائد أن يكون ملماً إلماماً عميقاً بهذا الموضوع الهام.
4. العمل السياسي أو العمل النضالي الدستوري:
وينبغي للقائد أن يفهم هذا الشكل الهام من أشكال الصراع. وعليه أن يُلِم بالأمور التالية:
المفهوم العلمي للسياسة.
أهمية تحديد موضوع الخلاف والصراع.
الأدوات الأساسية لعملية التحليل السياسي العلمي الفعال. والقدرة على التواصل مع المحللين السياسيين، والمكاتب المتخصصة التي تقوم بتوصيل ما يدور بشكل علمي للقائد.
الأدوات الأساسية المستخدمة في السياسة وتفرعاتها.
أدوات المعارضة والتكنيكات المعاصرة المستخدمة من قبلها.
منظومة كاملة لمعرفة كيف تقوم القوى السياسية المختلفة.
ماهية الدعاية السياسية، وتكنيكاتها، وتقنياتها، وأساليبها.(1/96)
فإذا لم يدرك القائد هذه الأمور ولم يمتلك تلك الأدوات الخاصة بالعمل السياسي، فهو غير مؤهل للقيام به، لأن العمل السياسي ليس نزهة؛ بل هو تدافع وصراع على منطقة ما. وفي مناطقنا التي يطلق عليها العالم الثالث فالصراع فيها غالباً ما يكون صفرياً (منتصر أو مهزوم)(1). وعليه فلابد من معرفة كل ما يخص هذا النوع من الصراع وأدواته وتقنياته.
5. التفاوض:(2)
وهو من أهم أشكال عملية التدافع التي يجب أن يعرفها القائد بشكل واضح. إذ أن استخدامه في الصراع أمر حتمي في أي مرحلة من مراحل الصراع. ففي بعض مراحل الصراع يمتلك كل طرف من أطرافه درجة معينة من السلطة أو القوة أو النفوذ، ولكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة التي يستطيع بها إملاء إرادته وفرضها إجبارياً على الطرف الآخر، ومن ثم يصبح التفاوض هو الأسلوب الوحيد المتاح أمام الأطراف التي لها علاقة بالصراع وتريد الوصول إلى حل ما.
ونتيجة لحتمية استخدام هذا الشكل في عملية التدافع فيجب على القائد أن يلم بكافة دقائق وعناصر التفاوض. وعليه أن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
هل تستطيع تحديد موضوع التفاوض؟
كيف يتم اختيار الفريق التفاوضي وتدريبه وإعداده للقيام بالعملية التفاوضية؟
ما نوع التفاوض؟
__________
(1) والنضال الدستوري ليس أسلوباً يستنسخ من دولة إلى أخرى، فالدول الديكتاتورية تختلف عن الدول التي تترك مساحة من الحرية. وآليات العمل الدستوري لا تتم إلا في ظل حرية واحترام للقانون. وإلا فخوضه يعد مهلكة وتوظيفاً سياسياً من الخصم، ليسمح لهذا التيار بأن يلعب دوراً وظيفياً ما في فترة ما، فإذا انتهى دوره صادر كل المساحات التي سمح له بالتقدم إليها، وأعاده إلى نقطة البدء.
(2) يمكن الاستفادة في مجال التفاوض من كتاب مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، د.حسن محمد وجيه، سلسلة عالم المعرفة.(1/97)
ما هو توصيف الحالة التفاوضية؟ هل هي حالة مقايضة، أم تفاعل استراتيجي كامل؟
كيف تعد الهياكل التفاوضية أو الحزم التفاوضية؟ سواءً كان الجزء الصلب منها أو الجزء الهش؟
كيف يحدد الموقف العام لأطراف العملية التفاوضية؟
كيف تحدد الأطراف العلنية والخفية للعملية التفاوضية؟
ما الاستراتيجيات التي تستخدم فيه؟ سواء كانت الإقناع أو القهر أو التنازل أو التعاون الإيجابي أو التعاون السلبي؟ وما هي هذه المعاني ومتى لا تستخدم في العملية التفاوضية؟
ما التكتيكات المستخدمة في العملية التفاوضية؟
هذه هي القضايا الأساسية في التفاوض التي يجب أن يدركها القائد وأن يكون مدرباً تدريباً عالياً عليها.
6. حركة اللا عنف:
تعتمد حركة اللا عنف على طبيعة القوة في المجتمع. ذلك أن نتائج هذا الكفاح ترتبط بامتلاك وممارسة القوة وبتأثير ذلك على الخصم.
ويتعارض هذا المفهوم مع الفهم الخاطيء السائد الذي ينظر إلى الفعل اللا عنيف باعتباره يفتقد القوة، وباعتباره يتجاهل واقع القوة في السياسة. فالكفاح اللا عنيف هو أسلوب سياسي ينبغي أن يفهم ويقيم وفقاً لمنطقه الخاص.
إن الكفاح اللا عنيف هو أسلوب لحشد القوى في مواجهة الخصم الذي عادةً ما يكون لديه قدرات إدارية واقتصادية وسياسية وبوليسية وعسكرية. وتستخدم القوة هنا للإشارة إلى كل مظاهر النفوذ ووسائل الضغط المستخدمة ضد الخصم لإقناعه بالتصرف على النحو الذي يريده قادة حركة اللا عنف. فهو أسلوب يستخدم أدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط، ويتضمن أكثر من مائتي طريقة مثل المقاطعات الاقتصادية والإضرابات العمالية وحتى إقامة حكومة الظل.
ولأهمية حركة اللا عنف في المسارات التغييرية يجب أن يهتم القادة بدراستها وأن يكونوا قادرين على الإجابة على هذه الأسئلة:
ما هي حركة اللاعنف؟
ما أهدافها؟
ما آلياتها؟
ما أدواتها؟
ما شروطها؟
ما نماذجها؟
كيف تنجح؟ ومتى تفشل؟
7. الإرهاب:(1/98)
ويمكن إضافة شكل سابع للتدافع وهو الإرهاب بقسميه: إرهاب الدولة وإرهاب المنظمات لتتكامل لدى القائد صورة عن آليات التدافع.
إن معرفة القائد الصلبة لهذه المسميات أو الأشكال الستة التي تدخل في العمل التدافعي أمر في غاية الأهمية، وتدخل في باب الضروريات، وليست من الحاجيات أو التحسينيات. ومن يفتقدها فقد افتقد شرط النجاح.
إن هذه المسميات يجب معرفتها بدقة شديدة، والتدريب عليها تدريباً عالياً، ومناقشتها مناقشة موسعة، حتى تتكون رؤى كاملة عند القيادات، حول البدائل المتاحة، أمام أي حراك تغييري يراد له النجاح.
ولابد ألا تقتصر هذه المعرفة على الفكر القيادي الذي يقود عملية التدافع فقط؛ بل يجب أن تكون كل الطبقات العاملة في المستوى الوسيط قادرةً على استيعاب هذا النوع من الفكر، وهذا النوع من الأداء. وبدون ذلك تكون المنظومات القائمة على قانون التدافع هشة وقابلة للانهيار. والتاريخ خير شاهد على ذلك. فعندما يدخل مجموعة من الناس مجردين من الأدوات الأساسية في العلوم العسكرية والسياسية، والاقتصادية إلى مجال العمل؛ فكم يحدثون من التدمير لأنفسهم قبل مجتمعاتهم؟!
وسائل التغيير العامة:
ونحب أن نذكر هنا في عجالة سريعة أن للتغيير وسيلتين أساسيتين هما:
...
طرق التغيير:
ويتخيل من يخوضون عملية التغيير البطيء أنهم وحدهم هم الذين أنجزوا المشروع. ولكن الواقع يقول أن قوىً أخرى يجب أن تتدخل لتنجز المشروع، وتحوله من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين. والخط البطيء الطويل لا بأس به إن وضع في اعتباره ضرورة تواجد قوى أخرى (شريحة التغيير) تسعى لإنجاز المشروع. واعتبر دوره مع هذه القوى أنه دوراً تكاملياً.
أما تفسير حوادث التغيير أنها نشأت من خلال المسارات الطويلة التي تتجاوز مئات السنين دون أي تدخل من قوى أخرى فهو وهم كبير.(1/99)
إن عملية التدافع ليست مسألة تترك للظروف والحوادث. وكذلك عملية تنمية القيادات. والقيام بهما ليس مما يترك للظروف والحوادث دون اهتمامٍ وترتيب. فإعداد القادة اليوم علم وفن كبير، ومن الخطورة الشديدة أن يتوسد اليوم -في عصر العلم والتنظيم والتربية الموجهة والمركزة- مسألة التدافع من لا يمتلك هذه المعرفة الأساسية والضرورية في مجال التدافع.
والحديث عن التدافع يطول، ولكن حسبنا أن نقول أن عملية إعداد القادة لعملية التدافع شرط أساسي، لأنها عملية لا يمكن تجنبها.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
الإلمام بنوعية عملية التدافع التي يخوضونها،
ومجالات التدافع،
ومحاور الصراع،
والأشكال المختلفة المستخدمة في عملية التدافع،
ووسائل التغيير العامة،
وأهم وظائف ومواصفات القيادة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد نوعية التدافع (صراعي أم تنافسي؟)
تحديد مجالات ومحاور الصراع.
تحديد الشكل المستخدم.
اختيار الوسيلة المناسبة للتغيير.
الاختيار المناسب للقادة وأدوارهم.
عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة الهروب المستمر من التدافع طلباً للسلامة، أو النصر السهل. أو نتيجة سوء تحديد نوعية الصراع أو مجالاته أو محاوره، أو اختيار أحد الأشكال أو الوسائل غير المناسبة، أو عدم معرفة القادة لدورهم ووظيفتهم الأساسية.
معادلات القانون
استبدال طغمة حاكمة بأخرى = انقلاب
تغيير اجتماعي+تغيير سياسي = ثورة
قطع موارد القوة عن النظام السياسي – استخدام القوة المسلحة = حركة لا عنف
منطوق القانون
"الأحداث العظيمة يصنعها اقتناص الفرص"
مفردات القانون
الفرصة: هي اللحظة التي تبدو فيها عوامل النجاح متوفرة ولحظة العمل المنتج قائمة، أو هي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم.
أهمية القانون(1/100)
قانون الفرصة هو جزءٌ من عملية التدافع، ومعين على فهمها. ومن المعروف تاريخياً أن الفرص تتاح وباستمرار وبدون توقف للأمم، حتى تنهض وتتحرر.
إن إلمام القائد بهذا القانون وتدريبه على كيفية التعامل مع الفرص التي تتاح أمر في غاية الأهمية لنجاح مشروع النهضة.
قانون الفرصة هو جزء من عملية التدافع. وهو يعني الانتقال من مقعد المفعول به إلى مقعد الفاعل. وكما أشرنا من قبل فهي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم. وهذا التقدم قد يكون حاسماً أو جزئياً. وهو يعتمد - بعد إرادة الله جل وعلا - على وجود الاستعداد لدى الطرف الراغب في التقدم لاقتناص الفرصة واستغلال الظرف، لتحقيق المكاسب التي يسعى إليها.
أنواع الفرص
فرصة جزئية: لإنجاز هدف من أهداف المشروع، أو قطع مرحلة في الطريق.
فرصة كلية: لإنجاز المشروع الكلي والتمكين له. وهي تشمل ما يُطلق عليه بالفرصة التاريخية التي قد تكون:
فرصة للوصول إلى السلطة،
أو فرصة للتحرر من الاستعمار،
أو فرصة تاريخية للحصول على أسبقية معينة في مجال معين من المجالات.
وقد تحدث أحد الرجال النابهين في بداية القرن الماضي عن قانون الفرصة وما يتعلق به وقال: "إن الغاية البعيدة لابد فيها من ترقب الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين"(1) فقانون الفرصة والظرف المناسب للتقدم يقابله قانوني الجاهزية، والسرعة وحسن التوقيت.
الجاهزية
__________
(1) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا. رسالة المؤتمر السادس.(1/101)
إننا لا يمكن أن نتحدث عن قانون الفرصة والظروف الملائمة لحراك ما، بدون الحديث عن قانون الجاهزية. والجاهزية عملية نسبية وليست مطلقة. فلا يمكن أن يدعي تنظيم أو فرد أو حتى دولة ما أنه جاهز لكل الاحتمالات، فذلك ليس من شأن البشر، ولكن الجاهزية هي نسبة وتناسب؛ فإذا كان الطرف المقابل والطرف المنافس أقل جاهزية في مسار من المسارات، عندها يمكن للطرف الأكثر جاهزية بالنسبة له أن يتقدم عليه. وهكذا تُقاس جاهزية أحد أطراف الصراع بالنسبة للأطراف الأخرى المشتركة فيه وليس بالنسبة إلى العالم كله.
إن افتقاد أمة أو تنظيم أو فرد ما للجاهزية اللازمة لاقتناص الفرصة، يفوت الفرصة عليهم، بينما يقتنصها غيرهم.
السيناريوهات
ويرتبط قانون الجاهزية بدراسة الاحتمالات أو رسم السيناريوهات. ففي عملية التدافع توجد أربع سيناريوهات شائعة ومحتملة:
السيناريو المرجعي أو الوضع القائم (Status Quo): ومفاده أن الحالة التي نعيش فيها مرشحة للاستمرار في المدى الزمني القائم. وبالتالي توضع الحسابات على اعتبار أن الوضع القائم مستمر، وبالتالي معالجته معروفة في ظل ما هو قائم.
سيناريو الانقلاب الجذري (Radical): وهو عكس السيناريو الأول. مفاده أن الوضع سينقلب انقلاباً جذرياً بسبب من الأسباب أوبسبب دراسة من الدراسات. وبالتالي كيف يستعد هذا الطرف في حالة انقلاب السيناريو جذرياً إلى وضع وحالة جديدة تماماً؟
وهذان الاحتمالان أو السيناريوهان متقابلان تماماً، ويمثلان أقصى اليمين وأقصى اليسار – إن صح التعبير – عند وضع السيناريوهات. إلا أنه يقع بينها سيناريوهات وسيطة:
أن يغلب الاستمرار على التغيير؛ بمعنى أن يحدث تغيير ولكنه طفيف في الوضع القائم. وبالتالي يمكن التعامل مع هذا التغيير الطفيف بإجراء نوع من التحويلات في خطة العمل.(1/102)
أو يغلب على الظن أن التغيير سيكون كبيراً ولكنه ليس جذرياً. فتستمر الحالة أو الوضع القائم ولكن التغييرات تكون كبيرة، وبالتالي يتم التعامل مع هذه التغييرات الكبيرة بوضع خطة لمواجهة مثل هذا السيناريو.
بناء السيناريو
يتم إعداد الأفراد والمنظمات والدول للسيناريوهات التي تُرسم في أوضاع معينة. ويتم بناء كل سيناريو بتحديد:
الوصف العام له.
الأطراف الفاعلة فيه.
الشروط الابتدائية لعمله.
لحظة تفعيل السيناريو (توقيت البداية).
المدى الزمني للسيناريو المحتمل.
وهذا البناء يحدد طريقة التدخل التي يعتمدها أحد الأطراف لاستثمار الوضع القائم أو التغيرات الحادثة.
ولا تستطيع أي جهة أن تخطط لكل السيناريوهات مرة واحدة، ولكنها تخطط للسيناريو الغالب، وسيناريو محتمل آخر بعده. وتستعد وتجهز نفسها لاستثمار الظرف التي سيحدث للتقدم أو لتفادي المخاطر الواردة فيه.
إذن يحتاج مشروع نهضتنا إلى عقل يقوم بدراسة المتغيرات وتوقع الظروف والأحوال، و يحدد ما يجب أن يخطط له، لاقتناص الفرص، وتجنب المخاطر.
قانون السرعة وحسن التوقيت
هذا يقودنا إلى موضوع في غاية الأهمية، ألا وهو أهمية السرعة وحسن التوقيت، أو كما يقول عماد الدين خليل الاستماع لـ "للحظة التاريخية". فهناك ظاهرة متكررة مفادها أن النجاح والتوفيق ليس مقصوراً بالضرورة على الطرف الأكثر جاهزية؛ بل هناك عنصر آخر يؤثر في قانون الفرصة، ألا وهو قانون السرعة التي هي جوهر النصر في الصراعات. فعندما تكون المسافات بين الأطراف وبين الوصول للسيناريو متقاربة أو شبه متقاربة، قد يكون طرف من هذه الأطراف سريع الحركة، فيقوم بحركة مباغتة ومفاجئة لاقتناص الفرصة. وعندها فإن هذه السرعة في الاستفادة من الوضع القائم تشكل أسبقية، رغم جاهزية بقية الأطراف التي تبدو متقدمة على جاهزية هذا الطرف. والأمثلة على ذلك كثيرة.(1/103)
كذلك فإن الفرص قد لا تدوم كثيراً حتى يفكر القائد فيها. فبعض الفرص تكون أياماً وبعضها أسابيعاً، وعلى أحسن الظروف تكون شهوراً.
وهنا يأتي دور القيادة الذكية الجريئة القادرة على الفعل السريع. فمن مواصفات القائد وطريقة تفكيره أنه قادر على أن يعمل كرجل الأعمال، الذي لا يضيع الفرصة عندما يراها، ويسرع في استثمارها قبل الآخرين. إذ أن الفرص لا تنتظر، بل هي خادم من يقتنصها.
هذه العقلية القيادية في لحظة الفعل تصبح لها الأسبقية على العقل التحليلي التنظيري، فالقائد يحتاج إلى:
عقلية المفكر التحليلية،
وعقلية الطبيب الذي يعالج حالات خاصة،
وعقلية رجل الأعمال الذي يسارع في اقتناص الفرصة، ولا يتردد في ذلك، ويتحمل المخاطر المحسوبة.(1)
أما المترددون فرغم جاهزيتهم - الكاملة افتراضاً - فيمكن أن يصبحوا فريسة لمنظمات صغيرة، أو لأفراد مغامرين يسبقونهم للحركة في لحظة الفعل الأساسية. والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ.
الخطوط الأمامية والخلفية
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى موضوع الخطوط الأمامية والخطوط الخلفية. فكثير من المنظمات لا تدرك الفارق بين خطوطها الأمامية التي تواجه الفعل مباشرة وتتحمل نتائجه وبين خطوطها الخلفية التي
تقوم بدعم هذا الفعل. فقد تجد تركيزاً على الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية، فتغرق المنظمة في الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية.
فربما تغرق منظمة من المنظمات في إعداد نفسها على المستوى الروحي أو الفكري والثقافي في مقابل إهمال الخطوط الأمامية التي تحتاج لإعداد وتجهيز في العمل السياسي والإعلامي والمادي وغيرها. فتسقط فريسة لهذا الغياب في قضية التركيز والتوازن بين خطوط الدعم الخلفية وخطوط الدعم الأمامية.
__________
(1) ارجع إلى كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" للمؤلف نفسه.(1/104)
وتغرق منظمات كثيرة في العكس، فتركز على الخطوط الأمامية دون إعطاء الدعم والوزن الكافي للخطوط الاستراتيجية الخلفية المتعلقة بنواحي الفكر والثقافة وخطوط الدعم المادي وخطوط الدعم اللوجيستي بشكلها العام.
نستخلص مما سبق أن قضية الإعداد والجاهزية لاقتناص الفرصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتمييز بين هذين الخطين ومعرفة معنى كلمة خطوط داعمة، ومعنى الخطوط الأمامية والتوازن بينهما. فالخطوط الأمامية هي التي يتم من خلالها الصراع، وأي ضعف فيها يؤدي إلى انهيار مكاسب هذه المنظمات.
نظرية "اعقلها وتوكل"
سؤال: هل الفرص تصنع أم تأتي قدراً؟
والذي يحدد الإجابة على هذا السؤال هو زاوية النظر. فإن عدد العوامل المؤثرة في ساحة الفعل الإنساني كثيرة جداً. وكل فرد من الأفراد يمتلك طرفاً من هذه العوامل. فمثلاً عندما تحدث الأحداث الجسام
الضخمة التي لا دخل للمنظمات الصغيرة في إشعال فتيلها كاندلاع الحرب العالمية الأولى أو الثانية بين الكتل الكبيرة المتصارعة، وتستفيد من هذا الظرف الكيانات الصغيرة المحيطة بها كحركات الاستقلال، فإن
تلك الحركات في هذه الحالة لم تشعل فتيل الصراع، لكنها استفادت منه بمدى قدرتها وجاهزيتها على الحصول على مكاسب محددة كاستقلال بعض الدول والمنظمات.
إذن الفرص في جانب منها تأتي بهذه الكيفية. بأن يحدث حدثٌ لم يصنعه الطرف المستفيد، ولكنه يجني الكثير من المكاسب، ويتقدم نتيجة وجود صراعات بين أطراف أخرى. وهناك أنواع من الصراعات يشترك الطرف الذي يطلب الفرصة في دفع الأحداث فيها، بتحريك بعض قطع الشطرنج التي يمتلكها على ساحة الفعل، فتتحرك الأطراف الأخرى، فتتاح فرص جديدة. وهنا تأتي عملية التدخل في صناعة الأحداث.(1/105)
وفي الحقيقة فإن الأمران يحدثان. فهناك بعض العوامل التي يمكن التحكم فيها وتحريكها لإحداث تغييرات على الساحة تسمح لنا بالتقدم على رقعة الشطرنج، وهناك أحداث لا دخل لنا فيها تحدث بسبب تدافع أمم وشعوب ومجتمعات وأطراف أخرى، وتتاح فيها فرصة للكيانات الصغيرة للتحرك واقتناء الفرص.
وهكذا فإنه يكن المساهمة في صنع الفرص بالأخذ بالأسباب:
الذات: الجاهزية.
الخصم: دفعه للموقع الذي نريد.
الأرض والمناخ: بالمعالجات المناسبة.
ماذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
... ونجد أمامنا في هذا السياق قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي أراد الدخول إلى المسجد وهو يحدثه عن دابته التي تركها فضاعت، فقال له: "اعقلها وتوكل". لقد حدد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هنا قضيتين هامتين:
القضية الأولى وهي الأخذ بالأسباب، سواءً كانت في الإعداد، أو في التدخل بتحريك أحجار الشطرنج. وهنا يجب أن يتم الفعل كاملاً، لأن المراد من قوله "اعقلها" ضبط الأمور، واستنفاد الجهد والطاقة وأقصى الوسع في الأخذ بالأسباب.
بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا القضية الثانية وهي أن يكل أعماله إلى الله سبحانه وتعالى وفضله ونعمته "وما النصر إلا من عند الله"(1).
ماذا يقول الاستراتيجيون ؟
إن أقوالهم لا تختلف كثيراً، حيث يقول سان تسو المنظر الصيني الاستراتيجي المعروف: بعد تمام الاستعدادات لا يتحقق النجاح إلا إذا وجد ضعف في استعدادات الخصم، بمعنى آخر أننا نمتلك خمسين في
المائة من أوراق اللعبة أو الصراع والتي تكمن في تمام الاستعدادات أوالإعداد الكامل، أما الخمسون في المائة الأخرى فتقع في دائرة ضعف الطرف الآخر، بأن يغفل عن جزئية من الجزئيات، أو عن جانب من الجوانب، فيتم اقتناص هذه الفرصة الناتجة عن غفلة الخصم.
__________
(1) سورة الأنفال: 10(1/106)
ويقول المنظر الألماني المشهور كلاوزفيتز في كتابه فن الحرب: "بعد أخذ كل ما يمكن عمله في الحساب، فإن هناك فرصة خمسين في المائة من النجاح، والباقي يمكن أن تعزوه لإرادة الله إذا كنت مؤمناً، أو الحظ إذا لم تكن مؤمناً. ولكن المهم عندي أنك تملك خمسين في المائة من الأوراق، لكن هذه الخمسين في المائة يجب أن يقام بها على أكمل وجه؛ من الناحية الحركية والمهنية والترتيب والاهتمام والدقة".
وفي حالة الفشل يجب مراجعة هذه المنظومة مراجعة كاملة، وعدم إرجاع الفشل إلى الله سبحانه وتعالى. فالقرآن خاطب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب هزيمتهم في أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"(1). أي راجعوا منظومتكم، وانظروا كيف حدثت الأخطاء ومن أين جاءت؟ بالتالي تحدث الاستفادة والنمو المستمر. أما في حالة تحقق النصر فتأتي القضية الثانية: "وما النصر إلا من عند الله"(2) فيبدأ شكر الله على نعمائه وفضله ومنته وكرمه، والعزم على تحسين الأداء: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً"(3) فتتكامل المنظومة الإسلامية بين عمليات المراجعة في حالة الفشل،
__________
(1) سورة آل عمران: 165.
(2) سورة الأنفال: 10.
(3) سورة الملك: 2.(1/107)
والتطوير في الأخذ بالأسباب كاملة عملاً بنظرية اعقلها. ثم بعد ذلك بالتوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع الأسباب والشروط تحقيقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "وتوكل". أما عند إهمال الأخذ بالأسباب والتقصير الشامل الكامل على المستوى المهني والحِرَفي والحركي والتقني والإداري والتخطيطي، سواءً على مستوى القيادات أو المنظمات، ثم عزو النتائج إلى الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك لم يحدث حتى للأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. فالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ذاق حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، لكنه في حالة الهزيمة لم يقل أنها قدر لابد منه، وأن جيشنا كان الأقوى والأفضل والأكثر انضباطاً وما الهزيمة إلا قدر لا يمكن منعه، ولكنه قال لصحابته ما أخبره به ربه " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"(1)، أي راجعوا منظومتكم بالكامل، وصححوا أخطاءكم، ثم ثقوا بالله سبحانه وتعالى، وانطلقوا إلى محاولة أخرى. بذلك يصلح العقل المسلم، ويصبح قادراً على تطبيق نظرية "اعقلها وتوكل"، لكن إذا أسيء استخدام هذا المعنى، بحيث تصبح جزئية "توكل" هي الأساس، وتصبح جزئية "اعقلها" هامشية، فسندخل في عملية الجبرية والتواكل، وليس في عملية التوكل.
التنظيمات الكبيرة والصغيرة
... إن قدرة المنظمات الصغيرة على الاستفادة من الأحداث تكون أكبر من المنظمات الكبيرة، إذ أن المنظمات الكبيرة لها موازناتها وحساباتها، وغالباً ما تخشى إذا فشلت أن يتم إفناؤها، أما الصغيرة، فإنها تكون مرنة، وتستفيد من الأزمات، التي تعتبرها فرصاً ذهبية لكي تتحرك.
مستلزمات القانون:
المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. البحث في التجارب التاريخية التغييرية ودراسة كيفية تعاملها مع الفرص.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
__________
(1) سورة آل عمران: 165.(1/108)
الجاهزية الدائمة واستمرار الاستعداد لقوله تعالى "وأعدوا".
اختيار القيادة الشجاعة الذكية التي تبادر باقتناص الفرص.
السرعة في اقتناص الفرص.
عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية عندما تمر فرصة تلو فرصة، والقيادات تقدم خطوة وتتراجع خطوات مترددة في التعامل مع الفرصة. أو أن تنتظر فرصة تدوم شهوراً إذ أن العمر الافتراضي للفرص كثيراً ما يكون قصيراً.
معادلات القانون
50% جاهزية +50% ضعف الخصم = فرصة
فرصة + سرعة +جاهزية = نصر
منطوق القانون
" وتلك الأيام نداولها بين الناس"(1)
مفردات القانون ...
الأيام: واليوم هو الوقت الزمني المعروف، ويقصد به أيضاً الأحداث والوقائع كما قيل في معنى أيام العرب أي وقائعهم.
نداولها: جاء في المعجم الوجيز في معنى كلمة (دال) الدهر مثلاً أي انتقل من حال إلى حال. و(أدال) الشيء أي جعله متداولاً. و(داول) الأمر بينهم أي جعله متداولاً تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.
فالمقصود أن الأحداث والوقائع لا تستمر على حال ولا منوال واحد؛ بل هي تارة لهذا الطرف وتارة أخرى للطرف الآخر. فدوام الحال من المحال. فالمنتصر اليوم كان مهزوماً بالأمس، وهكذا تمضي الحياة. يوم لك ويوم عليك.
أهمية القانون
يزرع الاعتقاد بهذا القانون الأمل في قلوب طلاب النهضة. إلاَّ أنه ليس أمل بارد بلا حراك؛ بل أمل يصحبه استعداد للفرص القادمة وعزم على اقتناصها.
قانون الأمل العائد
يقول عماد الدين خليل: هذا القانون يمكن أن نسميه قانون الأمل العائد، فمع ضياع أي فرصة فلا زالت هناك فرص أخرى قادمة، ومن فاته قطار اليوم سيلحق بالقطار التالي، لذا يجب أن يكون جاهزاً لركوبه وإلا فاته واضطر لانتظار القطار الذي يليه، وهكذا..
__________
(1) سورة آل عمران: 140(1/109)
فإذا كان الأمل مستمراً سواء كان الوضع يبدو يائساً في لحظة تاريخية معينة أم لا، فعلى قادة وطلاب النهضة الأخذ بقانون التداول القائل بأن ذلك الوضع لن يدوم، وأن علينا واجب الاستعداد والتحرك المستمر، بحيث لو أتى القطار في اللحظة التي يقدرها رب العالمين، نكون قادرين على اقتناص الفرصة والصعود وتحقيق المغانم والنصر. وهذا ما يسميه عماد الدين خليل "الاستماع لللحظة التاريخية".
إذن هناك عملٌ قبل وجود الفرصة، وهذا العمل القبلي من الاستعدادات يؤكد على اليقين بعملية التداول، واليقين بعملية التداول ينفي عملية اليأس التي تصيب الناس من رؤية قوة طاغية كالاتحاد السوفيتي في لحظة معينة، أو كالولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحاضر، أو كالرومان والفرس في عصر ما.
إذن يعلمنا هذا القانون أن كل وضع يبدو صعباً في لحظة ما فإنه سيصبح هشاً في لحظة أخرى لاحقة، وإلا تعطل قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فهناك عمل قبل وجود الفرصة وهناك عمل لاغتنامها وهناك عمل بعد الفرص وهو ما سنتحدث عنه في القانون الأخير وهو دعائم النهضة.
العمل البعدي
عندما يُمَكِّن الله للمجتمعات أو الأمم أو الحركات والتيارات، وتحقق أهدافها باستخدام القوانين والسنن التي سبق ذكرها، تجد نفسها أمام تساؤل هام، وهو ما هي احتياجات الدولة؟(1/110)
فمن الخطأ أن يهمل قادة وطلاب النهضة التفكير في احتياجاتهم بعد التمكين بحجة الانشغال بما هو أهم وهو الوصول للتمكين أصلاً. وهذا التفكير وإن كان في ظاهره منطقياً إلا أن قانون الفرصة يخبرنا أن التمكين قد يحدث بين عشية أو ضحاها، وأن الفرص في أغلب الأحيان لا يمكن التنبؤ بأوقاتها. ويترتب على ذلك أن قادة النهضة قد يجدون أنفسهم في مقاعد التمكين - إن هم أخذوا بقانون الجاهزية – في وقت ما. فكيف سيديرون الدولة؟! وما هي تصوراتهم عنها؟! وغيرها من التساؤلات التي لابد من التفكير فيها ملياً قبل الوصول والتمكين. وهذا هو ما أطلقنا عليه في قانون التداول "العمل البعدي".
وبدايةً تحتاج الدول إلى مجموعة من العناصر أو الدعائم اللازمة لاستنهاض الأمة.
الدعائم السبعة:
أولاً: الروح المشبعة بالأمل
إن أول ما تحتاجه أي أمة هو روح جديدة تسري فيها. روح مشبعة بالأمل بإمكانية الفعل التاريخي، وتحقيق النتائج، والتفوق على الأطراف الأخرى. وقد تناولنا هذا الموضوع بالتفصيل في قانون المكنة النفسية.
ثانياً: الاعتزاز بالذات والتراث المجيد
الاعتزاز الشديد بالذات، واليقين بالقدرة على المشاركة الحضارية. وارجع إلى قانون المكنة النفسية لترى كيف تم زرع قضية الاعتزاز بالتراث الخاص لهذه المجتمعات وبمكوناتها وبقدراتها، واستثمار ذلك في سبيل البعث النفسي عند هذه المجتمعات.(1/111)
إن الأمل والعزة أداتان كبيرتان تساعدان على بعث حالة نفسية وشعور جديد في هذه المجتمعات. هذا الشعور الضخم بالذات والأمل المفتوح للمستقبل، يجعل العمل الجاد والشاق هيناً على النفس، لأن الإنسان المدفوع بهذين العنصرين: الاعتزاز الشديد بالذات وعدم الرضى بالهوان، والأمل الكبير بتحقق الأهداف، يستعذب كل جهد وتعب في سبيل تحقيق ذاته وأهدافه. وبين هذين الحافزين – الأمل والاعتزاز - يصبح استثمار الوقت في الفعل الحضاري استثماراً هائلاً وضخماً. وارجع إلى النماذج المذكورة في قانون المكنة النفسية لترى كيف يتم تحريك الجموع، وتوظيف أوقاتها في الفعل الحضاري المتقدم في ساحة النهضة.
ثالثاً: العلم الغزير(علم الدنيا والدين)
يحتاج أي مجتمع من المجتمعات إلى منظومة علمية وقيمية. والتفكير في كيفية الحصول على العلم الغزير أمر ضروري لبناء أي مجتمع. والمجتمعات - كما يقول مالك بن نبي- نوعان: نوع يعيش في طور الطفولة نمثله بالفرد المسلم الذي يذهب إلى ديار الغرب فينبهر بعالم الأشياء. فإذا دخل معرضاً للمنتجات
وعُرض عليه منتج، فإن أعجبه اشتراه، وإذا تم إقناعه بآخر اشتراه، فيستخدمه ثم يرميه ليشترى آخر، كالطفل الذي يلعب بلعبة، فإذا تحول نظره إلى غيرها ألقى التي في يده وأخذ الأخرى. فهو ينتقل بين عالم الأشياء. بينما قد يأتي الطالب الياباني أو الطالب الذي يأتي من منظومة حضارية متقدمة، فإذا عُرض عليه منتج، فتح (دليل المستخدم) Manual لينظر إلى أسرارها، وكيف يمكن نقلها إلى مجتمعه، وهنا تأتي قضية مجتمع الرشد، الذي يبحث عن المعرفة، ولا يبحث عن عالم الأشياء.(1/112)
إن مجتمعاتنا لا تزال في طور الطفولة العلمية، فهي تبحث عن عالم الأشياء، ولا تبحث عن عالم المعرفة في الأشياء. وعندما تنتقل أمة من الأمم إلى عالم المعرفة، فإن ذلك لا يكون قدراً ومصادفة، إنما هو جهد جهيد. وعندما تبدأ أمتنا في تحويل عقلية الفرد وفي تحويل المنظومة الصناعية والمنظومة العلمية من منظومة تبحث عن عالم الأشياء، إلى منظومة تبحث عن عالم المعرفة، فهي بذلك تنتقل إلى مرحلة جديدة.
ثلاثية التكنولوجيا
وهذا يقودنا إلى الحديث عن قضية التكنولوجيا. فعلى تيار النهضة أن يدرك أن التكنولوجيا ليست هي عالم الأشياء التي نتجت. فالتكنولوجيا الحقيقية مكونة من:
البحوث التي يتم بناءً عليها التصنيع الذي يخرج عالم الأشياء التطبيقية،
ومن المصانع أو الأداة التصنيعية التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات،
ومن الاستخدام الأمثل لعالم الأشياء أو تلك المنتجات.
من هذه المنظومة الثلاثية (البحوث والمصانع وحسن الاستخدام) يمكن أن تعرف التكنولوجيا.
أما المجتمعات التي لا تشارك في البحث العلمي بنصيب، ولا تمتلك هذه الأداة المعرفية، ولا تمتلك الأداة التصنيعية أو المصانع التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات ثم هي لا تحسن استخدامها فهي ليست مجتمعات تكنولوجية إنما هي أسواق كبيرة.
وفي غياب المفهوم الثلاثي الجوانب للتكنولوجيا يصبح المفهوم العلمي عندنا مختلفاً عن المفهوم العلمي السائد في المجتمعات التكنولوجية الحقيقية. فيصبح الهدف هو تحصيل الشهادات من غير تحصيل المعرفة الضرورية.
وهكذا لابد أن تتغير فكرة أي مشروع نهضوي عن العلم والتكنولوجيا. ويجب أن تفكر أي حركة نهضوية، وأي حركة استقلال، في الآلية التي يمكن بها الانتقال من عالم الطفولة العلمية إلى عالم المعرفة والرشاد والنضج العلمي.
رابعاً: القوة والاستعداد(1/113)
تحتاج مجتمعاتنا الإسلامية والعربية اليوم إلى القوة والاستعداد في كل الاتجاهات. فمجتمعاتنا تحتاج إلى قوة عسكرية، وهي مسألة يجب التفكير فيها ملياً. فالسماء الإسلامية مستباحة رغم كثافة السكان وإمكانية الحصول على الأسلحة التقليدية. كما أن قوى الردع التي يجب أن تتاح لهذه المجتمعات غير موجودة في مقابل منظومات تمتلك قوة تدميرية شاملة.
إن العمل الشاق الذي يجب أن نفكر فيه هو كيفية امتلاك أدوات تحمي السماء الإسلامية، وقوة ردع تجعل عملية التفاوض مع الأطراف الأخرى ممكنة. وبالتالي ننتقل إلى عالم الإنسانية المتوازنة؛ لا نعتدي فيه على الآخرين؛ ولا يعتدي فيه الآخر علينا. أما حالة الاستضعاف التي نمر بها، فهي تؤدي إلى معاهدات غير متكافئة، وتؤدي إلى أن يفرض الآخر شروطه على حساب مصالح شعوبنا وأممنا ومنظوماتنا القيمية.
وبالتالي فعلوم الفضاء وما يتعلق بها والعلوم المتعلقة بقوى الردع هي من فروض الأعيان التي تأثم الأمة بتركها، ولا تتحول إلى الكفاية حتى تتحقق الكفاية.
خامساً: منظومة قيمية صالحة وفاضلة ...
إن وجود منظومة قيمية صالحة يعد من عناصر القوة، وحركة النهضة يجب أن تفكر في هذه القضايا الثلاث الكبرى قبل القضايا الأيديولوجية:
أولاً: درجة العدل التي يجب أن تتوفر في هذه المجتمعات للإنسان كإنسان.
ثانياً: حجم الكرامة المتوفرة للإنسان في المجتمعات التي نريد أن نبنيها. فكثير من النشطين والداعين لحركة النهضة الإسلامية يختزنون منظومات غير عادلة للإنسان وكرامته. تحدوهم في ذلك مفاهيم مغلوطة عن التفوق والتميز الذاتي بسبب من الأسباب. ومن العجيب أن يقول شخص ما "إننا نمتلك الدعوة الحق والآخرون على باطل، بالتالي يجب أن نهيمن عليهم"!! ولمثل صاحب هذه المقولة نقول ومن الذي يعتقد - وهو في منظومة أخرى - أنه على الباطل؟؟!!!(1/114)
إن كل شخص يعتقد أن ما يتبناه هو الحق. ولو أراد كل طرف من الأطراف أن يؤسس المجتمع على منظومته التي يراها مع وجود تعددية وأطراف أخرى لا تقبل بمثل هذه المنظومة، لوجدنا عالماً من الاقتتال لا تهدأ له ثائرة. بينما يمكن للإنسان أن يعيش في منظومة يتمتع فيها بالكرامة الإنسانية. وذلك عمل فكري ومنهجي شاق، يجب أن تتبناه المجتمعات الإسلامية؛ ليس بدعوى حقوق الإنسان أو الضغوط الخارجية، ولكن بسبب هذه الحقيقة المنطقية، وهي أنه حتى في المجتمعات الإسلامية فإن هناك فوارق بين الطوائف والمذاهب الإسلامية.، فإذا قررنا أن من يختلف معنا في مذهب من المذاهب أو رأي من الآراء هو مواطن من
الدرجة الثانية أو الثالثة لا يحق له كذا وكذا وكذا، لنشأت صراعات لا تنتهي، ولقننت قوانين لا يقبل بها العقل الإنساني، أو المنهج الرباني الذي أنزل الميزان والكتاب ليقوم الناس بالقسط.
إننا نحتاج إلى مراجعة المنظومة القيمية، وتحديد معنى المفاهيم المطلقة؛ كالحرية، والعدل، والمساواة. وأن يتم التراضي حول هذه القيم، وإسنادها بالأدلة الشرعية والعقلية والمصلحية، حتى يمكن أن تصبح قانوناً عاماً عند العاملين في مشروع النهضة، وإلا تحطمت كل الجهود بعد أول خطوة من التنفيذ، ولأصبحت العلمانية هي غاية ما يرجوه أي مجتمع من المجتمعات بشكلها القائم، لأنها تشكل خلاصاً للإنسان من هذه المعاناة، بدلاً من استمرار الحروب، والاقتتال حول قضايا الأيديولوجيات التي لا تسمح للآخرين بالعيش في ظلالها. والأمثلة على ذلك كثيرة.
سادساً: المال والاقتصاد
لا يمكن أن تنهض المجتمعات إلا إذا كان لها نظام اقتصادي صلب، يسمح للإنسان بأن يحقق ذاته وكرامته، وأن لا يقع فريسة للفقر بأي حال من الأحوال. ويجب أن يكون هذا هدفاً اجتماعياً كبيراً. وعميلة الاقتصاد ليست بالبساطة التي يتصورها البعض اليوم، فعملية بناء البنية التحتية في مجتمع من المجتمعات، تحتاج إلى:(1/115)
مليارات الوحدات النقدية.
عقول جبارة تخطط لهذا العمل.
قدرات تنفيذية قد لا تتاح في المجتمعات الإسلامية في لحظة ما.
فالتخطيط الاقتصادي لإيجاد نظام اقتصادي جديد في هذه المجتمعات في ظل المعطيات الحالية هو عمل ضخم، وليس بالعمل الهين الذي يختزله البعض في مقولة "اتباع الكتاب والسنة"، على ما في هذه المقولة العامة من صواب.
سابعاً: أسس النظم:
... يحتاج كل مجتمع إلى نظم. ويحلو للبعض القول بأن كل شيء موجود في الكتاب والسنة، وما علينا إلا تطبيقهما لتصلح المجتمعات. وذلك قول صحيح، ولكنه عندما ينزل إلى أرض الواقع يحتاج إلى الكثير من العمل والتفكير، خاصة في وجود نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، فتتعدد الأفهام وتتباين الرؤى،
وعندها يصبح المرجح الحقيقي في ظل هذا التباين هو المصلحة المحققة من هذه النصوص، وليس مجرد النصوص في حد ذاتها.
فنحن نحتاج إلى منظومة سياسية واجتماعية وتربوية وخلقية. فوجود هذه النظم مجتمعة في مجتمع ما توجِد له القوة التي ترتكز عليها بقية الأمور. وكلما ازدادت صلابة المجتمع في نظمه ازدادت قوته في العلم وفي التصنيع والجيش، وتعززت منظومته القيمية، وتعززت الآمال عنده، وازداد اعتزازه بذاته وبفكرته، وحقق نهضته وتقدمه وتنميته.
لقد حاولنا في هذا الكتاب أن نسبح في بحر قوانين النهضة، وقد حرصنا من خلال هذه الدراسة وهذا الترحال بين القوانين أن نبين لقادة وطلاب النهضة كيف يتم البحث في القوانين، وكيف يتم التعامل معها بعد اكتشافها، من حيث المعرفة والاستخدام وعدم المصادمة.
ومشروع النهضة اليوم - وهو يرفع راية الانطلاقة العلمية والبعد عن الارتجال - حري بقادته أن يتعلموا هذه القوانين ويبحثوا عنها، ويستكشفوها، ويعلموها لطلاب النهضة، فسنن الله لا تتبدل، ولا تحابي أحداً.(1/116)
إن القوانين التي تحكم عمليات التحول الاجتماعي كثيرة، ذكرنا نذراً يسيراً منها، لنفتح باباً لعله كان مغلقاً، ونوقد شعلة لعلها تضيء الطريق للطامحين نحو التغيير، وعشاق القمم من قادة وطلاب النهضة.
هذا ونسأل الله أن يتقبل منا هذا العمل، وأن ينفع به قارئه وكاتبه، وأن يكون خطوة نحو التمكين في هذا الطريق الممتد، والذي تبدو فيه الأشواك كثيرة، إلا أنه معبد لمن تسلح بالعلم وتوكل على الله، وهام بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
ثبت المراجع
أولاً: المراجع العربية:
السيرة النبوية لابن هشام (1/365).
برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، العدد (43)، السنة الرابعة، رمضان 1415هـ.
د. جاسم سلطان، النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة.
جون بيريه، الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، ترجمة: أكرم ديري، الهيثم الأيوبي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية.
مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.
د.حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، سلسلة عالم المعرفة.
داني كوكس وجون هوفر، القيادة في الأزمات، نقله إلى العربية بتصرف: هاني خلجة، ريم سرطاوي، بيت الأفكار الدولية، 1998م.
د. سليمان الخطيب، فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1413هـ/ 1993م.
صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ/ 1991م.
صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1972م.(1/117)
أ.د. عبد الحميد الغزالي، حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى 2000م.
اللواء الركن الطيار عبد الرحمن حسن الشهري، تطور العقائد والاستراتيجيات العسكرية الرياض، مكتبة العبيدكان، الطبعة الأولى،1424هـ/ 2003م.
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دمشق، دار القلم.
د. عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ/ 1987م.
د. عبد المنعم ثابت، التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور.
المقدم دكتور علي عواد، الدعاية والرأي العام. مضمون ونماذج من الحرب في لبنان والخليج، تجارب دولية، بيروت، الطبعة الأولى.
د. علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الإمارات الشارقة، مكتبة الصحابة، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م.
د. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، بيروت، دار النفائس، الطبعة الثانية عشرة 1412هـ/ 1991م.
غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي الطبعة الثانية 1997م.
د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير مفاهيم وتطبيقات، العين/ الإمارات، دار الكتاب الجامعي، الطبعة الأولى 1999م.
د. قاسم بن محمد، الذاكرة التاريخية للأمة، القاهرة، المكتب المصري الحديث، الطبعة الأولى 2000م.
مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، عمر مسقاوي، دار الفكر، 1979م.
مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1991م.
مالك بن نبي، ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1410هـ/ 1989م.
د. محمد أديب صالح، لمحات في أصول الحديث، دمشق، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1393هـ(1/118)
الشيخ محمد الخضري بك، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
محمد العبده، حركة النفس الزكية، كيف نستفيد من أخطاء الماضي، ط2، دار الأقرم، الكويت، 1406هـ/ 1987م.
محمد بن مختار الشنقيطي، الحركة الإسلامية في السودان مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي، لندن، دار الحكمة.
د. محمد سهيل قطوش، التاريخ الإسلامي الوجيز، بيروت، دار النفائس، الطبعة الأولى 1423هـ/ 2002م.
محمد رشيد رضا، تفسير المنار، المجلد الأول.
د. محمد عبد القادر حاتم، الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية، بيروت، مكتبة لبنان.
الدكتور محمد منير مرسي، أصول التربية، الناشر: عالم الكتب.
ثانياً: المراجع الإنجليزية:
Andrew Heywood, Foundations politics, Macmillan press, first edition 1997.
A project to be realized: Global liberalism and contemporary Africa, In Millenium 1992.
Donald Waters, A practical introduction to management science, Addison-Wesley, second edition.
George A. Steiner, Strategic planning, the free press, A division of Macmillan publishing co., Inc, 1979.
Kenichi Ohmae, The Mind of the Strategist: The Art of Japanese Business, Paperback, McGraw-Hill Book Company, second edition 1996.
Stanley Karnow, Moa and China: A legacy of Turmoil, A Pengium book, third edition.(1/119)