تعريف بالكتاب:" قواعد السلف الذهبية في الأخوة الإيمانية"
د. عبد الله فرج الله
لقد رغب إلي عدد من كرام الإخوة ، الذين يكرمونني بمتابعة مقالتي الأسبوعية ، في هذه الزاوية ، أن أجمع هذه المقالات في مؤلف يسهل حمله واقتناؤه ، وقد شرح الله صدري لهذا ، فأنجزت قبل أيام المؤلف الثاني من سلسلة " من فقه الأولين " ، حيث كان الأول بعنوان " رمضانيات " ، والثاني بعنوان " قواعد السلف الذهبية .. في الأخوة الإيمانية " ، وقد جمعت فيه خمسين مقالة ، كانت كل واحدة منها بمثابة قاعدة رئيسة من قواعد الأولين في الحفاظ على الأخوة ، والارتقاء بها ، فهي خمسون قاعدة ، ما أشد حاجتنا لها ، لاستقامة أمرنا ..
خمسون قاعدة أصيلة.. من قواعد السلف الذهبية.. اصطلحوا عليها في ميدان الحفاظ على رابطة الأخوة، للارتقاء بها، وصونها مما قد يذهب صفاءها، ويعكر ماءها، ويكدر نقاءها، ويفسد أجواءها..
خمسون قاعدة.. تكفي - في الحقيقة - أن تقوم بدور كبير. إن صحت النوايا، وصدقت العزائم، في النهوض بالأخوة، والارتقاء بسمتواها، والارتفاع بشأنها، وإعزاز أمرها..
خمسون قاعدة.. إن أخذ بها الصف المسلم العامل، قويت لحمته، واشتد بنيانه، واتحدت مشاعره، وعصمت أعراض أبنائه، وحفظت من الغيبة والنميمة، ووقيت من الاعتداء الآثم، والآفات القاتلة، التي تودي بهيبته، وتذهب ماء وجهه، وتهدر كرامته، حتى يغدو صفاً هشاً متداعياً، يشرق به الخصوم والأعداء ويغربون، كما يحلو لهم..
خسون قاعدة.. كفيلة في أن لا يكون في الصف آذان سماعة للمنكرات، وألسنة ساعية في الخصومات، ومجالس تعقد فتكثر فيها المخالفات والسقطات..
خمسون قاعدة.. تسمو بنفسك عن الصغائر، وتضعك في صف عظائم الأمور، تبحر في بحر الفضائل، وتحلق في سماء المكرمات..
خمسون قاعدة.. تهتف بك - أيها العامل الكريم - هذا هو الفضل فالزم طريقه ، وهذا هو النبل فاعرف شروطه، وهذا هو الصفاء فتفيأ ظلاله..(1/1)
خمسون قاعدة.. تعطر أنفاسك، وتغسل أدرانك، وتطهر جوارحك، وترفع درجاتك، وتحصن حياتك، وتنور قلبك، وتزكي أعمالك.. وتحط بك في ظلال الرحمن، على منابر من نور، يغبطك عليها المقربون من الملائكة والنبيين..
خمسون قاعدة.. بل هي خمسون جوهرة ثمنية، ولؤلؤة نفيسة، تنظم عقد الأخوة، فيزين فيه جيد الدعوة، ويضيء صف الإيمان، فيسمو به الصف، ويعظم به الصف، ويبارك به الصف، ويحفظ به الصف، وتزهو به الدعوة.
خمسون قاعدة نشد إليها رحالنا، وتهفو إليها نفوسنا، وتطمئن في ظلالها قلوبنا، وتلامس أشغاف أرواحنا.. فإلى معانيها السامية، وإيحاءاتها النورانية، ودلالاتها الرحمانية، وتوجيهاتها النبوية، ومواقفها السلفية.. نخف الخطى، ونلبي النداء، ونسرع علنا ننال منه – سبحانه – التوفيق والرضا.
الأمل أن تشكل هذه القواعد زاداً حقيقياً لأرواحنا ، وضابطاً موجهاً لسلوكنا وتصرفاتنا ، وإشارات كبيرة تدلنا على الطريق ...(1/2)
من فقه الأولين
(2)
قواعد السلف الذهبية
في الأخوة الإيمانية
الدكتور
عبد الله فرج الله
المحتوى
الإهداء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
إضاءة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ................................
فالأخوة .. شرط في التزكية ...........................................................
الأخوة .. روح الدنيا ....................................................... ...........
الأخوة .. عطاء ونعمة ............................................................ ...
الأخوة .. شرف ومكانة .. .............................................................
الأخوة .. سعادة وسلوى .. ...........................................................
الإخوة .. مطلب الدعوة .. .............................................................
الاخوة .. ثمرة تربية ....................................................................
الأخوة.. نهاية مرحلة ...................................................................
الأخوة .. بداية الدولة ...................................................................
تساؤل .........................................................................
الأخوة .. رسالة الأولين .................................................................
الأولون .. هم الأجدر حديثاً .............................................................
عقود الأخوة .............................................................................
خمسون قاعدة ........................................................................
قواعد السلف الذهبية .................................................................
رحم الله أخاً سمحاً !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .....
ليكن حظ أخيك منك ثلاثاً !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .....(2/1)
أنتم جلاء قلبي !!
أنت أخي .. وأنا أخوك !!
هو خير مني !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
أين مثل الأخ في الله ؟!
خير الإخوان .. أعذرهم لإخوانه !!
أسأل له الجنة .. وأبخل عليه بالدنيا !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
هذا هو الرجل !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
الحر من راع وداد لحظة !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
إذا كنت هكذا سلمت !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
خدمة الإخوان .. شرط الصحبة !!
لا يحمل الحقد .. من تعلو به الرتب !! ..............................
غفر الله لي .. غفر الله لك !!
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا !!
لا تفقدوا إخواني مني !!
هذا ، والله ، فعل الأخيار !!
ثلاثة تشيد بناء الأخوة !!
ليس كل غيبة جفوة !!
مثل .. في النصيحة !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
اللهم بقلبه .. لا بلسانه !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
أتعمد إلى ما ستر الله فتبديه؟!! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
كرهت أن أروعك !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ما أقساك !!
من صحبنا فليصحبنا بخمس!! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
أين المروءة فيه ؟! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
سعاة في بريد الشيطان!! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
سقوط الكلفة يديم الألفة !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
إن أحدكم يبصر القذاة .. وينسى الجذع !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لا تكن عونا للشيطان على أخيك !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
إن كان لك صديق فشد يديك به !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ألا يستقيم أن نكون إخوانا ؟! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
مالكم لا تحابّون؟! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
في الصحبة والإمارة!! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
البر شيء هين .. وجه طليق .. وكلام لين !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أربعة لا أقدر على مكافأتهم !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
هب عرضك .. ليوم فقرك !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
تمام المعروف !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..
الصبر على الإخوان .. من شيم الكرام !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
إذا تركه .. فهو أخي !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
تهلل الوجه .. علامة سلامة القلب !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .(2/2)
الإفضال على الإخوان !! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ......
من لم تهذبك رؤيته فاعلم أنه غير مهذب ...................................
بالصحبة الصالحة .. تطيب الحياة ...........................................
كدر الجماعة خير من صفو الفرد ...........................................
فقد الأحبة غربة !! ..............................................................
أرجو أن يكون كلانا على الخير .............................................
يدل على فضل الكريم حياؤه !!..................................................
ففيم يختصمون ؟!.............................................................
يا ربيع ، اكسُ ألفاظك !!....................................................
الإهداء ..
إلى الأخ الحبيب المهندس
عماد عبداللطيف حوامده - رحمه الله -
الذي آلمنا فراقه ..
وأحزننا غيابه .. حين لبى نداء ربه ..
وهو في السابعة والثلاثين ..
كان مثالاً في ميدان الدعوة .. ونموذجاً في صفاء السريرة..
باراً بدعوته .. صادقاً في أخوته .. جسد حقائقها ، وقام بواجباتها، وأدى تكاليفها .. فرحمه الله ، وجمعنا به في جنان الخلد ، مع الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام – رضي الله عنهم - ..
إلى كل الذين يرفعون لواء الأخوة ، ويحرصون على رابطتها ، ويصدقون في الدفاع عنها ، ويخلصون في
الذود عن حياضها ..
وإلى الأولين من سلفنا الكرام ، الذين نهلنا من نبعهم الصافي ، ووردنا عيونهم الثرة ..
وإلى روح والدي الحبيب – رحمه الله - ، بعد مرور عام على وفاته ..
أدعو لهم جميعاً بالرحمة والمغفرة ..
إضاءة ..
الحمد لله الذي ألف بين قلوبنا ، والصلاة والسلام على من أسس البناء على الأخوة ، وعلى آله وصحابته الذين جسدوا حقيقة الأخوة سلوكاً وفعلاَ .. وبعد ،(2/3)
فالأخوة ليست شعاراً يرفع ، أو مقالة تكتب ، أو خطبة تلقى ، أو قصيدة تنظم ، أو كتاباً يؤلف، بل هي حياة تعاش، وعلاقات تقام ، وسلوك مستقيم ، وتواصل حسن ..
وحديثنا عنها ، يأتي من باب " فقه التأكيدات " ، الذي نؤكد من خلاله على المنطلقات فلا تنسى ، وعلى الثوابت فلا تطمس ، وعلى القيم فلا تتجاوز ، وعلى الواجبات والحقوق ، حتى تبقى حاضرة ماثلة .. ونحن بحاجة ماسة لهذا الفقه .. الذي يمكن أن يسمى أيضاً : "فقه المراجعات " ، الذي به تراجع المسيرة ، فيوقف على مواطن الخلل لسدها ، والنقص لإكمالها ، والاعوجاج لتقويمها ، والصواب لتعزيزها ..
ويمكن أن يندرج الحديث عن الأخوة هنا تحت باب : " تعال بنا نؤمن ساعة " .. ساعة نرتقي فيها بإيماننا ، فتطمئن بها قلوبنا ، وتزكو نفوسنا ، وتحلق في فضاءات الإيمان أرواحنا .. ساعة نسمو بها بأخوتنا ، ونمتمن أواصر المحبة بين قلوبنا .. وما أحوجنا لهذه الساعة ، بل ما أشد حاجتنا لها .. في زمن كثرت فيه ساعات الهدم والحصار ، لكل مظاهر الخير والإيمان .. فإذا كان الصحب الكرام ، في عهد النبوة ، وهم يجلسون إلى النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – يسمعون قوله ، ويرون شخصه ، ويتأملون فعله .. كان أحدهم يقول لأخيه : تعال بنا يا أخي نؤمن ساعة .. !! إذا كان هذا شأنهم ، فما هو شأننا نحن ؟!
وفي حديثنا هذا عن الأخوة ، نعيش مع سلفنا الصالح ، الذين أدركوا حقيقتها ، ورفعوا رايتها .. نقتبس من توجيهاتهم ، ونأخذ من نصائحهم ، حتى تستقيم أخوتنا ، وتسمو نفوسنا ..
فالأخوة .. شرط في التزكية !!(2/4)
ما أشد حاجتنا للأخ ، ولهذه الأخوة ، في مسيرنا إلى الله – سبحانه وتعالى - ، إذ به نضمن كثيراً من سلامة المسير ، وحسن المسير ، وصدق المسير ، شكا أحدهم للإمام حسن البنا – رحمه الله - جمود حاله ، وقسوة قلبه ، وشدة غفلته .. فنصحه الإمام بقوله : " صحبة أهل الخشوع والتأمل ، وملازمة أهل الفكر والتبتل ، وملازمة هذا الصنف من الأتقياء الصالحين ، الذين تتفجر جوانبهم بالحكمة ، وتشرق وجوههم بالنور ، ... -وقليل ما هم – دواء ناجع ، فاجتهد أن يكون لك من هؤلاء أصدقاء ، تلازمهم وتأوي إليهم ، وتصل روحك بأرواحهم ، ونفسك بنفوسهم ، وتقضي معهم معظم وقت الفراغ ... هذه الصحبة من أنفع الأدوية ، فالطبع سراق ، والقلب يتأثر بالقلب ، وتستمد الروح من الروح، فاجتهد أن تجد لك من الأرواح الصالحة صاحباً " .
وقد ذكر الإمام الحسن البصري – رحمه الله – إخوانه يوماً ، فقال : " إخواننا أحب ألينا من أهلنا ، وأولادنا ، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة " .
وقد عدها الإمام يحيى بن معاذ الرازي – رحمه الله – من دواء القلب وشفائه ، بقوله : " دواء القلوب خمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع عند السحر ، ومجالسة الصالحين " .
فالأخوة دواء وتزكية وجلاء .. " أنتم جلاء قلبي " .
الأخوة .. من روح الدنيا !!
هذا ما قرره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ، حين قال : " لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاث: قراءة القرآن، والتهجد بالليل، ومجالسة الإخوان ".
ومعنى هذا أن الحياة تدب في الدنيا ، فتحيا وتزكو ، ويطيب بها العيش بهذه الثلاث .. ولاحظ كيف جعل الإخوان في مصاف القرآن ، والتهجد .. فللإخوان أثرهم البالغ ، الذي لا يقل عن أثر القرآن والتهجد .
الأخوة .. عطاء ونعمة !!(2/5)
قال تعالى : " {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } آل عمران103.
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : " ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح ، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه ، فليتمسك به " .
الأخوة .. شرف ومكانة !!
كم أخ كسب مكانة عظمى ، وعلا مرتبة كبرى ، وزاد مهابة وعلماً ، وقوي حجة وبرهاناً ، لما ظفر بصاحب صالح ، زاد في استقامته ، ورفع شأنه ، لما سدد سعيه ، وصوب مسيرته .. وصدق في نصيحته ، فكانت علامات تأثيره واضحة بادية ، وما أكثر الذين ينجحون في حياتهم ، ثم تراهم يدينون في هذا النجاح إلى صديق جاد ومخلص .. وما أكثر الذين يعرفون بأصدقائهم وإخوانهم ، فيقال صحب فلان ، وزامله ، وكان ملازماً له .. وما أجمل ما قاله الشاعر :
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكراً حميلاً
وقال الآخر :
رأيت الطين في الحمام يوماً بكف الحب أثر ثم نسم
فقلت له : أمسك أم عنبر لقد صيرتني بالحب مغرم
أجاب الطين : إني كنت ترباً صحبت الورد صيرني مكرم
ألفت أكابراً وازددت علماً كذا من عاشر العلماء يكرم
الأخوة .. سعادة وسلوى !!
كان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يردد دائماً على مسامع إخوانه : " أنتم جلاء قلبي ، أنتم جلاء حزني " ، وهذا ما أكده أكثم بن صيفي – رحمه الله – بقوله : " لقاء الأحبة مسلاة للهم " ، وكان طلحة بن مصرف – رحمه الله – يقول إذا لقي أخاً من إخوانه : " للقياك أحب إلي من العسل " .(2/6)
وحين سئل أحد الأولين : في أي شيء وجدت لذة العيش ؟ أجاب بقوله : " في محادثة الإخوان ، والرجوع إلى الكفاية " . وكان ذو النون المصري – رحمه الله – يقول : " بصبح الصالحين تطيب الحياة ، والخير مجموع بالقرين الصالح " .
الأخوة .. مطلب الدعوة !!
الدعوة حمل ثقيل ، وخطب جليل ، قال الله في شأنها ، مبيناً أمرها ، مخاطباً رسوله – صلى الله عليه وسلم – حتى يأخذ لذلك العدة اللازمة فقال – سبحانه-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}المزمل5.
هذه الأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها .. فحملها الإنسان ، فخلد الله هذه الحكاية ، حكاية الدعوة مع السماوات والأرض والجبال والإنسان .. بقرآن يتلى ، حتى تبقى الحقيقة راسخة ثابتة ، ولا تنسى أبداً ، قال تعالى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72 .. وهذه الحقيقة تدعوك وأنت تحمل هذه الدعوة الأمانة ، أن تكون أقوى من السماوات علواً وارتفاعاً ، ومن الجبال ثباتاً ورسوخاً ، ومن الأرض انبساطاً وتحملاً ..
ولهذا كله كانت الأخوة مطلباً لحمل الدعوة ، وأداء الأمانة ، وتبليغ الرسالة .. فهذا سيدنا موسى – عليه السلام – حين أمر بالذهاب إلى فرعون ، رسولاً ومبلغاً ، كان طلبه من ربه أخاً يؤازره ، ووزيراً يشاركه ، فقال : {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً . وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}طه29 -34
وهذا سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يختار لهجرته ، بله لدعوته ، ومسيرته كلها الصاحب والرفيق .. فإذا كان هذا شأن أولي العزم من الرسل ، فما الشأن في حقنا نحن ؟!!
الأخوة .. ثمرة تربية !!(2/7)
الأخوة ثمرة تربية متواصلة ، تبذل فيها جهود مضنية ، فلا يمكن أن تكون أخوة بدون تربية ، ولا تستقيم تربية بلا أخوة ، ولا خير في تربية لا تثمر أخوة ، إذ الأخوة هي الثمرة اليانعة ، التي تقطف من شجرة التربية .. ولا بد للمربين أن يجعلوا الأخوة هدفاً أسمى ، وغاية عليا ، تشد لها الرحال ، وتسعى إليها القلوب ، وتمطئن في ظلالها النفوس .. بل تجعل الأخوة مقياساً تقاس به فاعلية التربية ، وميزاناً توزن به الجهود .. فالنجاح في تعميق الأخوة ، وتأصيلها ، علامة نجاح تربيتنا ، وأصالة منهجنا، وصدق عزيمتنا، وإخلاص نيتنا..
الأخوة .. نهاية مرحلة !!
لما كانت الأخوة ثمرة التربية ، كانت الثمرة التي قطفها النبي – صلى الله عليه وسلم – في نهاية عهده المكي ، ولحظة وصوله المدينة ، التي تشرفت بمقدمه – صلى الله عليه وسلم - ، هي الأخوة، فجاء الأمر النبوي الكريم : " تآخوا في الله أخوين أخوين " .. حتى تتأكد نتيجة التربية ، التي دامت ثلاث عشرة سنة كاملة ، في مكة ، حيث الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والحصار والمقاطعة .. فهاهي ثمرة تلك الجهود التربوية الشاقة والمضنية .. أخوة رائعة ..
الأخوة .. بداية دولة !!
كما كانت نهاية مرحلة ، فقد كانت الأخوة بداية مرحلة جديدة ، مرحلة الدولة والعطاء والانطلاق .. نعم ، لقد تم تأسيس الدولة ، على أساس ثابت ، فقام بنيانها الشامخ ، على أساس راسخ ، هو الأخوة ، وما أسس بناؤه على هذا الأصل، فهو بناء قوي متين، عزيز كريم .. وكأنما جاءت الدولة جائزة للتربية التي أثمرت الأخوة !!.
تساؤل ..
لِمَ كانت الأخوة نهاية مرحلة
وبداية دولة ؟!(2/8)
إن النهاية والبداية ، تشكل رسالة نبوية خالدة ، تؤكد باختصار شديد، وببيان بليغ، على حقيقتين ، في غاية الأهمية والخطورة ، الأولى : تقول للمربين جميعاً : إن أي جهد يبذل، وأي عمل تقومون بها ، وأي وسيلة تتبعونها ، ولا تصل بكم في نهاية المطاف إلى أخوة ناصعة كريمة ، تكون في أحلى صورها ، وتتجلى في أروع بيانها ، وتتجسد في كل الحركات والسكنات ، وتحكم الأفعال والتصرفات .. إن أي جهد لا يصل إلى هذه النتيجة ، ولا يقطف هذه الثمرة ، هو جهد ضائع ، وسعي فاشل .. فلا خير – أيها المربون – في تربيتكم ، وبذل جهودكم ، إن لم تحث الخطى مسرعة ، إلى ظلال إخوة حقة ، تذوب فيها الفوارق ، وتنصهر فيها الأرواح في بوتقة الإيمان ، تعارفاً وتواصلاً .. بذلاًَ وعطاءً ، لا بل إيثاراً وفداءً ..
أما الحقيقة الثانية ، فهي تأكيد للمسلمين ، وقد قامت دولتهم ، وتحققت أهدافهم ، أن هذه الدولة جائزة الأخوة ، فهي قوية حصينة منيعة ، وستبقى كذلك ، ما بقيت أخوتكم قوية، تدفعون عنها ، وتحامون دونها ، وتفدونها بالمهج والأرواح ، فكلما سمت أخوتكم ، سمت دولتكم ، وعظمت مكانتكم ، وفي اللحظة التي تمس فيها أخوتكم ، وتضعف فيها هذه الرابطة ، فاعلموا أن دولتكم في خطر شديد ، وكرب عظيم ، وأن هذه المظاهر تنبئ بقرب زوال دولتكم ، وذهاب ريحكم .. وصدق الله إذ يقول : {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46 ، والنزاع مظهر من مظاهر فساد الأخوة ..
الأخوة .. رسالة الأولين !!(2/9)
كانت الأخوة وما زالت الرسالة التي ينطلق بها الأولون ، يرفعون لواءها ، وينشرون طيبها ، ويؤكدون على معانيها ، فهي الوصية التي يحرصون على بقائها حية في النفوس، تجمع الشتات ، وتقرب النوافر ، وتوسع المنافذ ، وتسد أبواب الفتن ، وهي الرابطة الربانية ، التي تغذي القلب ، وتمده بالحياة الهانئة ، من خلال تواصل القلوب ، والتعالي عن الصغائر ، التي تفسد المودة ، وتذهب الألفة ، فجاءت الأخوة نبضة حية في قلوب الأولين ، و دفقة مشاعر وحب ، فسالت على ألسنتهم شهداً ، طيب المذاق ، جميل المنظر، همهم كيف يرتقون بهذه الأخوة ، حتى تكون سداً قوياً منيعاً ، يحافظ على وحدة الصف المؤمن ، ويدفع عنه سهام البغي والظلم ، التي تريد تحطيم أوصاله ، وتفكيكه إلى أجزاء ومجموعات ، ومن هنا باركوا كل فعل يصب في اتجاه أخوة صادقة ، وحمدوا كل قول في هذا المسعى ، كما أنهم شنعوا على الذين يتجاوزون حدودهم ، ويعتدون على هذه الآصرة، بفعل أو قول ، أو حتى إشارة .
الأولون ..
هم الأجدر حديثاً .. والأفصح لساناً .. والأقوى بياناً ..
في ظلال الأخوة ..
فهم من عاش الحب واقعاً، وتجسدت فيهم تعاليمه وأسسه سلوكاً عملياً، فتفاعلت نفوسهم، وتعارفت أرواحهم، وامتزجت دماؤهم، في ظلال الاخوة، في رحاب العلم والعمل، وميادين الدعوة وساحات البذل والجهاد..
فلم تفرق جمعهم أهواء ، أو تفسد اخوتهم خلافات، لذا كانوا الأجدر حديثاً ، والأقوى حجة ، والأنصع جواباً ، والأبلغ وقعاً وتأثيراً ، وهذه وقفات، ومحطات نصغي فيها لهم -رضي الله عنهم- في أحاديث إيمانية ، وقواعد ذهبية ، وأقوال حكيمة .. يضعون فيها النقاط المضيئة على الحروف البليغة .. في فقه ( الحب ) والأخوة ..
عقود الأخوة في فقه الأولين ..(2/10)
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حين تحدث عن حقوق الأخوة أسماها عقوداً ، فقال : " وأما عقود الأخوة بين الناس في زماننا ، فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله : " إنما المؤمنون إخوة " الحجرات10 ، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "المسلم أخو المسلم " وقوله : " لا يبع أحدكم على بيع أخيه " وقوله : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " .. ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن ، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان ، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة ، والصيام والحج ، والمعاهدة عليها على ما أوجب الله ورسوله ، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن ، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة..".
خمسون قاعدة .. !
خمسون قاعدة أصيلة .. من قواعد السلف الذهبية .. اصطلحوا عليها في ميدان الحفاظ على رابطة الأخوة ، للارتقاء بها ، وصونها مما قد يذهب صفاءها ، ويعكر ماءها ، ويكدر نقاءها، ويفسد أجواءها ..
خمسون قاعدة .. تكفي - في الحقيقة - أن تقوم بدور كبير . إن صحت النوايا ، وصدقت العزائم ، في النهوض بالأخوة ، والارتقاء بسمتواها ، والارتفاع بشأنها ، وإعزاز أمرها ..
خمسون قاعدة .. إن أخذ بها الصف المسلم العامل ، قويت لحمته ، واشتد بنيانه، واتحدت مشاعره ، وعصمت أعراض أبنائه ، وحفظت من الغيبة والنميمة ، ووقيت من الاعتداء الآثم ، والآفات القاتلة ، التي تودي بهيبته ، وتذهب ماء وجهه ، وتهدر كرامته ، حتى يغدو صفاً هشاً متداعياً ، يشرق به الخصوم والأعداء ويغربون ، كما يحلو لهم ..
خسون قاعدة .. كفيلة في أن لا يكون في الصف آذان سماعة للمنكرات ، وألسنة ساعية في الخصومات ، ومجالس تعقد فتكثر فيها المخالفات والسقطات ..(2/11)
خمسون قاعدة.. تسمو بنفسك عن الصغائر ، وتضعك في صف عظائم الأمور ، تبحر في بحر الفضائل ، وتحلق في سماء المكرمات ..
خمسون قاعدة .. تهتف بك - أيها العامل الكريم - هذا هو الفضل فالزم طريقه ، وهذا هو النبل فاعرف شروطه ، وهذا هو الصفاء فتفيأ ظلاله ..
خمسون قاعدة .. تعطر أنفاسك ، وتغسل أدرانك ، وتطهر جوارحك ، وترفع درجاتك ، وتحصن حياتك ، وتنور قلبك ، وتزكي أعمالك .. وتحط بك في ظلال الرحمن ، على منابر من نور ، يغبطك عليها المقربون من الملائكة والنبيين ..
خمسون قاعدة .. بل هي خمسون جوهرة ثمنية ، ولؤلؤة نفيسة ، تنظم عقد الأخوة ، فيزين فيه جيد الدعوة ، ويضيء صف الإيمان ، فيسمو به الصف ، ويعظم به الصف ، ويبارك به الصف ، ويحفظ به الصف ، وتزهو به الدعوة .
خمسون قاعدة نشد إليها رحالنا ، وتهفو إليها نفوسنا ، وتطمئن في ظلالها قلوبنا، وتلامس أشغاف أرواحنا .. فإلى معانيها السامية ، وإيحاءاتها النورانية ، ودلالاتها الرحمانية ، وتوجيهاتها النبوية ، ومواقفها السلفية .. نخف الخطى ، ونلبي النداء ، ونسرع علنا ننال منه – سبحانه – التوفيق والرضا .
قواعد السلف الذهبية
في الأخوة
إن دعوة لا تقوم أركانها على السماحة والبشاشة ، ونبل الأخلاق وسموها ، آيلة إلى السقوط والتفكك ، مهما بلغ شأنها وقوي سلطانها ، وهنا ندرك كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على أن تشاد دولة الإسلام على أساس بنيان قوي ، خلاصته صفاء القلوب ، ونقاء الضمائر ، وطهارة السرائر ، فلا حقد ولا غل ، ولا شحناء ولا بغضاء ، ولا حسد أو غيبة أو نميمة أو تنابز بالألقاب .(2/12)
فتأسست دولة الإسلام على الحب والمؤاخاة ، على أساس من هدي الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم أخو المسلم " .. فالمسلم من جاءت في قلبه ، ووقرت في وجدانه حقيقة الأخوة وسموها، وإلا فالإيمان يعتوره النقص والخلل : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .. فلا بد إذن من اتحاد الأحاسيس والمشاعر في ظل الأخوة الربانية حتى تكتمل صورة الإيمان ، وحقيقته في الذات المسلمة .
فكانت المحبة والسماحة حادي القلوب إلى روضات الإيمان ، والقرب من الله تبارك وتعالى ، فإذا بالابتسامة ترتسم على الشفاه المؤمنة تعدل صدقة ، يؤجر صاحبها ويثاب ، لأنها علامة حب ، وعامل تجميع والتقاء .. نعم فـ " تبسمك في وجه أخيك صدقة " .
فلا مجال في دعوة الإيمان لما يعكر صفو الأخوة ، أو يفسد رباط المحبة ، بين قلوب وثق الله بينها الرباط .. " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " ، فعلى هذا يكون العقاب شديداً شديداً ، والعتاب مؤلماً حاداً ، حين يحاول أحد ما أن يمس هذا الرباط ، أو يعتدي عليه ، ولو بكلمة عابرة .. يقولها صحابي جليل ، له سابقة في الإيمان ، ومبادرة في ميادينه ، يوم فقئت عينه ، في ساح الدعوة إلى ، فلم تشفع له سابقته تلك ، ولا عينه التي فقئت ، ولا مكانته في قومه ، من أن يلفى التوجيه المؤثر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ذلكم أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – حين زل لسانه وقال لأخيه بلال – رضي الله عنه - : " يا ابن السوداء " .
فما أن تصل هذه الكلمة إلى مسامع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تعلو وجهه الكريم حمرة الغضب ، فيخطب الناس قائلاً : دعوها فإنها منتنة أي العصبية ، ثم يخاطب أبا ذر : " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية " .
***
نعم فيك جاهلية رغم أسبقية إسلامك ..
نعم فيك جاهلية رغم إقدامك وتضحيتك ..
نعم فيك جاهلية رغم مكانتك وسادتك في قومك ..(2/13)
نعم فيك جاهلية ، لأنك مسست رباط المحبة ، وتجاوزت صفاء الأخوة ، ونقضت عهد البشر والسماحة ..
***
وحين تماسك البنيان على هذا الأساس ، استعصى على كل محاولات التفرقة والمكر والدهاء والدسائس ، الهادفة لضعضعة وحدته ، وإضعاف قوته ، وما أوتينا إلا حين وهن رباط الأخوة والمحبة ، فوجد الشيطان وأعوانه إذ ذاك طريقهم وسبيلهم إلى بذر الشقاق والخلاف في القلوب والصفوف .
ما أحوجنا اليوم لأن تحل السماحة في ساحنا ، وتضع رحالها في قلوبنا ، وتلفي عضا الترحال، فقد اشتاقت القلوب لاستقرارها !!
فكم هي الحاجة ماسة لأخ يفيض بشراً ، ويقطر سماحة ، ويفوح عطراً ، نعم .. فما أحوجنا لأخ سمح في حواره ونقاشه .. في نقده وتوجيه نصحه ، في أخذه وعطائه ، في حكمه وقضائه ..
ما أحوجنا لأخ سمح إن أهديت إليه عيوبه وأخطاؤه !!
ما أحوجنا لأخ سمح يقبل العذر ، ويغفر الزلل ، ويسد الخلل ، ويتجاوز الهفوة !!
***
ثم أما بعد ، فعلام الغضب والجفاء ؟! علام الحدة والسخط والانفعال ؟! علام الشدة والقسوة ؟! علام التجهم والتقطيب ؟!
هل جفت ينابيع الحب ؟! أم هل نضب معين البشر والرفق والسماحة ؟! أم هل طاف على ألفاظ لغتنا الجميلة ، التي تفيض عذوبة ورقة طائف فأصبحت كالصريم ؟!!
***
فيا هؤلاء جميعاً .. عناق القلوب القلوب .. قبل عناق الأجساد
وتلاق القلوب القلوب .. قبل تلاقي الأيدي .. ورحم الله أخاً سمحاً .. !!(2/14)
كانت الأخوة وما زالت الرسالة التي ينطلق بها الأولون ، يرفعون لواءها ، وينشرون طيبها ، ويؤكدون على معانيها ، فهي الوصية التي يحرصون على بقائها حية في النفوس ، تجمع الشتات ، وتقرب النوافر ، وتوسع المنافذ ، وتسد أبواب الفتن ، وهي الرابطة الربانية ، التي تغذي القلب ، وتمده بالحياة الهانئة ، من خلال تواصل القلوب ، والتعالي عن الصغائر ، التي تفسد المودة ، وتذهب الألفة ، فجاءت الأخوة نبضة حية في قلوب الأولين ، و دفقة مشاعر وحب ، فسالت على ألسنتهم شهداً ، طيب المذاق ، جميل المنظر ، همهم كيف يرتقون بهذه الأخوة ، حتى تكون سداً قوياً منيعاً ، يحافظ على وحدة الصف المؤمن ، ويدفع عنه سهام البغي والظلم ، التي تريد تحطيم أوصاله ، وتفكيكه إلى أجزاء ومجموعات ، ومن هنا باركوا كل فعل يصب في اتجاه أخوة صادقة ، وحمدوا كل قول في هذا المسعى ، كما أنهم شنعوا على الذين يتجاوزون حدودهم ، ويعتدون على هذه الآصرة ، بفعل أو قول ، أو حتى إشارة .
ومن فقه الأولين ، نقطف هذه الوصية التي تؤكد هذا المنهج ، وتعمق هذا الفهم ، الإمام يحيى بن معاذ – رحمه الله – يوصي إخوانه يوماً ، فيقول لهم :
" ليكن حظ أخيك منك ثلاثاً :
إن لم تنفعه فلا تضره ،
وإن لم تفرحه فلا تغمه ،
وإن لم تمدحه فلا تذمه " .
****
ما أسهل بنود هذه الوصية .. في عالم التنظير والتأطير !!
وما أشقها على الذين اتسعت الفجوة عندهم بين القول والفعل ، بين النظرية والتطبيق!!
لقد ابتلي الصف المسلم في هذه الأيام ، بكثير من المنظرين ، الذين يحسنون القول ، وليس لهم في ميدان الفعل نصيب يذكر ، يحسنون التوجيه ولا يأخذون أنفسهم به ، وكأنهم خلقوا من أجل أن يعظوا غيرهم ، وهؤلاء هم الذين كان لهم ( الفضل ) الذي تحولت به الشعائر إلى شعارات ، والعبادات إلى عادات .(2/15)
فقاعدة هذا الإمام الجليل في الحفاظ على رابطة الأخوة ، تقوم على أساس من السهل جداً أن يأخذ به كل واحد فينا ، وأن يلزم به نفسه ، فإن لم تفعل الحسن ، فلا أقل من أن تمتنع عن فعل نقيضه ، فإن كنت لا تقوى على أن تهب في نجدة أخيك ، أو أن تسرع في مساعدته، أو أن تتحرك في الذب عنه ، فلا أقل من أن تمنع عنه شرك ، وتكف عنه لسانك، وبمعنى آخر إن لم تقو على الفعل ، فلتقو على الإمساك ..
فهل تجد هذه القاعدة الجليلة سبيلها إلى صف المؤمنين ؟!
أنتم جلاء قلبي !!
كثيراً ما كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يردد على أسماع إخوانه : " أنتم جلاء قلبي " .
نستذكر هذا القول النادر ، الذي يحمل مدلولات عظيمة ، وإيحاءات جليلة ، تؤكد عظمة الأخوة ، ومكانة الإخوان ، وأثرهم في حياة الإنسان .
هذه الإيحاءات ، وتلك المدلولات تبين أثر الأخوة والإخوان الجلي في القلوب ، ولقد عاش القوم ردحاً من الزمن ، لا يجدون دواءً لدائهم غير ( الإخوان ) ، ولا جابراً لعثراتهم غير (الإخوان ) ، ولا كاشفاً لهمومهم وآلامهم غير ( الإخوان ) ، ولا جلاء لأحزان قلوبهم غير (الإخوان ) ، ولا مؤنساً في الغربة وديارها – ودنيانا كلها دار غربة – غير (الإخوان)، ولا مضمداً للجراح النازفة غير ( الإخوان ) ، ولا ساعياً في قضاء الحوائج غير (الإخوان)..
نستذكر هذا القول الرائع .. كي نترحم من أعماق قلوبنا ، على ذلك الزمان ، الذي أدرك أهله - حقيقة وواقعاً - أن الإخوان هم جلاء القلوب ..
فرحم الله زماناً .. كان فيه ( الإخوان ) جلاء القلوب وأنسها وأنيسها ، تطيب بلقياهم، وتنشط في مجالسهم ، وتنطلق في ميادينهم ، ويزداد عطاؤها ، ويعظم صبرها ، ويقوى عزمها حين تتصل بهم ..(2/16)
وهذا ما أكده من جانب آخر الصحابي الجليل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين بين أنه لم يبق من روح الدنيا ، أي من سعادتها وكرامتها وأنسها وبهجتها ، غير التهجد بالليل، وقراءة القرآن ، ومجالسة الإخوان ..
انظر كيف جعل مجالسة الإخوان من روح الدنيا ، أي مما تحيا به الدنيا ، ويصبح لها به شأن وقيمة ..
ثم انظر إليه كيف جعل مجالسة الإخوان ، كمجالسة الله في القيام والتهجد وقراءة القرآن، فهذا كله يجلو القلب ، ويحيا به القلب حياة سعيدة ..
فهل ندرك أسرار الأخوة ؟!
ونعيش ظلالها بصدق وإخلاص .. حتى نجني ثمارها ، ونتذوق حلاوتها ، ونسعد بجمالها وروعتها ..
فمن لم يعشها بهذا الجمال والجلال .. فهو ناقص الإيمان ، عليه مائة علامة استفهام!!
فلا تزكو الحياة حقيقة إلا إذا كان الإخوان جلاء القلوب ، ومجالسهم زادها ، وأحاديثهم دواءها وشفاءها ..
أنت أخي .. وأنا أخوك !!
بهذا اللفظ الجميل استقبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما– العائد لتوه من ( المدائن ) التي عين والياً عليها من قبل أمير المؤمنين ..
فاستقبله عمر .. وحين رآه على حاله التي كان عليها قبل الإمارة ، لم تغير الدنيا هيئته، ولم تفسد الإمارة شأنه ، ولم تعكر روحه ، أو تعدوعلى إيمانه ، رياح التغيير ، ومراكب الإمارة ، فتتغير بها الثوابت ، وتتبدل المواقف .. أمام هذه الصورة الجليلة البهية ، لم يجد عمر – رضي الله عنه – من عبارات التكريم والتبجيل ، في الترحيب والاحترام ، إلا أن يقول له : أنت أخي وأنا أخوك ..
نعم .. أنت أخي وأنا أخوك ..(2/17)
وفي هذا الترحيب دلالة على عظمة رابطة الإخوة ، في نفوس الصحابة الكرام ، بله في نفس كل الذين يفهمون حقيقة هذا الدين ، فهذا الإمام حسن البنا – رحمه الله – يتلقى ملاحظة من أحد إخوانه ، صدرها بقوله : فضيلة الأستاذ الأخ حسن البنا ، فما كان من الإمام إلا أن أجرى قلمه ، فشطب ما سبق اسمه ، إلا ( الأخ ) وقال : هذه تكفي ، وهي أعظم ما يخاطب به الإخوان ..
فأنت أخي ، وأنا أخوك ..
تأكيد على الرابطة ، وتذكير بها ، إذ هي محطة فخر واعتزاز بين المؤمنين .. فهي النعمة العظيمة .. ( فأصبحتم بنعمته إخواناً ) .. وهي الرابطة الربانية .. والهبة الكبرى .. ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ) ..
أنت أخي ، وأنا أخوك ..
دمك دمي ، وعرضك عرضي ، ومالك مالي ، ومالي مالك ، وفرحك فرحي ، وحزنك يؤلمني ، أنا بك ، وأنت بي ، وبعضنا لبعض كالبنيان المرصوص .. يشد بعضه بعضاً ، إن أصبت شددت على يديك مؤيداً ، وإن أخطأت شددت على يديك محذراً ومنبهاً ..
أنت أخي وأنا أخوك ..
تفرحني طاعتك .. فأبتهج بها ، وتزيدني قرباً من مولاي .. أدعو لك بالثبات على الطاعة ، والدوام في فعل الخيرات .. أسعد لحظاتي ، هي تلك اللحظات التي يلهج بها لساني لك بالدعاء في ظهر الغيب .. إنه لحظات مستجابة الدعاء ، عظيمة العطاء ، تستحق من المولى كل الثناء .. فيأتي جمع الملائك مؤمناً ، قائلاً : ولك مثل ذلك ..
أنت أخي وأنا أخوك ..
تحزنني معصيتك ، وتؤلمني غفلتك ، ويوجعني تقصيرك ، ويزلزل فؤادي نكوصك على عقبيك ، غيابك عن مجالس الخير يقلقني ، وكم أرق جمع الأصحاب غياب واحد عن صلاة أو واجب .. فارفق بنا .. وشد للطاعة مئزرك ..(2/18)
إن الأخوة الصادقة توجب الحزن الشديد .. حين يقترف الأخ معصية ، أو تلم به غفلة.. على عكس حال الكثيرين في أيامنا هذه ، الذين يدعون الأخوة ، وما عرفوا منها غير الرسم ، وشيئاً من الاسم .. حين يصرمون الود ، ويقطعون الوصل ، ويحل الجفاء .. إن ظفروا بمعصية الأخ وغفلته ..
أنت أخي وأنا أخوك ..
تتوثق عراها ، وتزداد جذوتها ، وترتقي درجاتها ، وتعظم مكانتها .. بالطاعات وحسن الالتزام ، وصدق الانتماء للصف المسلم .. وهذه الطاعات جعلت أمير المؤمنين يؤكدها في هذا الموقف بالذات ..
ولا تؤتى الأخوة إلا من قبل الذين يضعف التزامهم ، ويتلون انتماؤهم ، وتتبدل في المقامات المختلفة أحوالهم .. وتتغير في هذه الأحوال نبراتهم ..
أنت أخي وأنا أخوك ..
أخوة عقيدة عظيمة ، أعظم من أخوة الدم ، وإن قالوا في أخوة الدم يوماً : الدم لا يصبح ماءً .. فمن الأولى أن لا تصبح العقيدة .. التي تفدى بالدم ، ويقدم الدم مهراً رخيصاً في سبيلها .. أن لا تصبح هينة رخيصة .. أمام ذنب صغير ، أو تجاوز ، أو حاجة ما .. فأنت أخي وأنا أخوك .. رغم العثرات ، والسقطات ، والجهالات .. لا مناص من أخوتك .. مادمت على الدرب الإيمان ..
أنت أخي وأنا أخوك ..
وإن تباينت المراتب ، واختلفت الرتب الدنيوية ، ومواقع المسؤولية ، فأنا خليفة وأنت موظف صغير في خلافتي .. لكن هذا لا يغير من حقيقة الأخوة شيئاً ، فأنت أخي وأنا أخوك .. درس عميق ، ما أجمل أن يقف عنده السائرون إلى الله طويلاً ، فلا تكون الأخوة شيئاً عابراً في حياتهم ، وحدثاًَ طارئاً في مسيرتهم ، بل أصل أكيد ، وحقيقة ثابتة ، وأولوية كبيرة .. لا يغيرها موقع ، ولا يبدلها موقف ، ولا تعدو عليها عادية ، وإن عظمت ..
أنت أخي وأنا أخوك ..(2/19)
ارفعه شعاراً قوياً .. واضحاً في معالمه ، صادقاً في رفعه ، مخلصاً في التزامه .. مع كل العاملين في ميدان الدعوة إلى الله ، وإن اختلفت الوسائل ، أو تباينت المناهج والرؤى .. فتذكر هذه الأخوة العظيمة .. وعش طيب النفس ، سامي الروح في ظلال هذه القاعدة الفاروقية العظيمة .. أنت أخي وأنا أخوك ..!!
نصح الإمام بكر بن عبد الله المزني ، رحمه الله ، أحد إخوانه بقوله : ( إذا رأيت من هو أكبر منك ، فقل هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح ، فهو خير مني .
وإذا رأيت من هو أصغر منك ، فقل : سبقته بالذنوب والمعاصي ، فهو خير مني .
وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك ، فقل : هذا فضل أخذوا به .
وإذا رأيت منهم تقصيراً ، فقل : هذا ذنب أحدثته .
***
هو خير مني ..
شعار رائع ، نرثه عن الصادقين من الأولين ، نحن في أشد الحاجة إليه .
نعم ،
فما أحوجنا إليه ، حتى نضيق الخناق على نفوسنا ، وننتصر على أهوائنا ، ونتغلب على كل شهواتنا .
ما أحوجنا إليه !!
ونحن في سيرنا إلى الله تبارك ، نبغي رضاه ، ونرجو عفوه ، ونتمنى لقاءه ..
هو خير مني ..
علاج ناجع للنفوس الجامحة ، التي استبد بها الهوى ، وتشعبت بها السبل ، وتفرقت بها الأهواء ..
هو خير مني ..
المركب الآمن ، الذي تبحر به لجج (الخلق) بسلام .. دون أي امتنان أو غرور أو عجب .. أو سقوط مع الراتعين بالأعراض الخائضين بالباطل ، الباغين العيب للبرآء .
هو خير مني ..
إن كان كبيراً فلسابقته ، وإن كان صغيراً فلسلامته .. ما أروع هذا الفقه وما أجله!! وما أعظم الذين يعملون به صادقين مخلصين ..
هو خير مني ..
طريقك إلى التواضع .. والتواضع طريقك إلى الرفعة والعلو ، ( فما تواضع أحد لله إلا رفعه .. ) .
هو خير مني ..
خيمة وارفة الظلال ، يستظل بها الإخوان ، بتعانق الأرواح ، وتآلف القلوب ، ونقاء النفوس .
هو خير مني ..(2/20)
جنة غناء ، تنمو بها بذور الحب ، حتى تغدو شجرة عظيمة ، تؤتي أكلها بإذن ربها كل حين ..
هو خير مني ..
شعار الأولين .. أتي عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – بطعام ، وكان صائماً ، فقال : " قتل مصعب بن عمير ، وهو خير مني ، فكفن في بردة ، إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه .. وقتل حمزة ، وهو خير مني ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط .. أو قال : - أعطينا من الدنيا ما أعطينا - ، وقد خشيت أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام " .
شعار يتحد به الصف ، ويشتد الأزر ، وتقوى العزيمة ، فيتعالى عن الصغائر ، وتحفظ فيه السرائر .
هو خير مني ..
اعتراف وتواضع .. وخلق نبوي جميل .. " وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذّبون " . صدق الله العظيم
أين مثل الأخ في الله ؟!
قال أحد الأولين من السلف الصالح -رحمهم الله-:
" أين مثل الأخ الصالح ؟! إن أهل الرجل إذا مات يقسمون ميراثه ، ويتمتعون بما خلف، والأخ الصالح ينفرد بالحزن، مهتما بما اقدم عليه اخوه، وما صار إليه ، يدعو له في ظلمة الليل، ويستغفر له ، وهو تحت أطباق الثرى " .
وكان الحسن - رضي الله عنه - يقول: " إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة ".
رحم الله ذاك الزمان ، الذي كان يتبوأ فيه الأخ في الله مرتبة عليّة في النفس فيؤثر عليها ويقدم ، ويحل في سويداء القلب فيُتمنى له ما يحب وأكثر .
شاعر ذاك الزمان أوصى مشددا ومذكرا بأهمية الأخ في الله في كل ميدان فقال :
أخاك أخاك فإن من لا أخا له ... ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح(2/21)
فمن يدرك هذه الحقيقة ؟! فيعمل على تأصيلها ، ويسعى لتجذيرها ، حتى تمتد في أعماق القلوب جذورها ، وتشمخ في العلياء أغصانها ، قوية متينة ، عصية حصينة ، لا تطالها سهام البغي والعدوان ، ولا تدميها قذائف الأهواء ، أو تميتها الأطماع ، أو تعكر صفوها اختلافات وآراء .
رحم الله زمان الأولين ، فقد كان الحفاظ على الأخ ، والتمسك به من أصول الإيمان وإن شط أو خلط ، أو تجاوز حدود الأدب ، بهفوة أو خطأ ، فلا يقطع وصله ، ولا يجافي جنبه ، ولا ينسى فضله ، ولا يخفر ذمته ، بسبب ذنب أصابه، أو خطأ اقترفه ، أو تهمة رمي بها، فتراه بكل ما أوتي من عزم إيماني ذابّا عن عرضه ، ذائدا عن حياضه ، بليغا في إعذاره، صادقا في الدعاء إليه، ساعيا في التثبت من حقيقة ما وصله.. متجاوزا مسامحا، يغفر الزلل، ويقبل العلل..
رحم الله زمن التمسك بالأخ ، والتثبت به ، والحرص عليه ، فقد رمتنا الأيام بمن لا يقدر أهميته ، ولا يعرف حقيقته ، ولا يدرك فضله ، ولا يصون عرضه ، فسرعان ما يستبد به الغضب لكلمة ، وتتقطع العلاقات لموقف ، وتتغير القلوب لرأي ، بل ربما حلّت فيها الشحناء والبغضاء ..
فإذا بأخ الأمس ، عدو اليوم ، تحل غيبته ، ويُسفَّه رأيه ، ويدفن فضله ، وتنسى مآثره ، ويحفر بالألسنة الطويلة قبره. لندفن بدفنه بقايا الإيمان، ومروءة الأحرار، الذين تأسرهم لحظات الفضل والصفاء.
أين مثل الأخ الصالح؟!
ليتنا في زمن " القصعة " التي تداعى عليها " الأكلة " نقف مع الأولين في تساؤلهم، ثم نسعى في امتثال سلوكهم تجاه الأخ في الله ، علنا نبرأ مما تئن من وطأته نفوسنا ، وتشكو من شدته وخسته قلوبنا.
فيا أخ الإيمان والعقيدة !
حتى نحفظ هذه الأخوة ونحافظ عليها ، ونديم بقاءها ، ونعلي صرح بنيانها :
سامح أخاك إذا خلط
منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
إن زاغ يوما أو قسط
واعلم بأنك إن طلبـ
ـت مهذبا رُمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قـ
ـطْ، من له الحسنى فقطْ؟!(2/22)
خير الإخوان
أعذرهم لإخوانه !!
قاعدة أصيلة من قواعد السلف الصالح في الحفاظ على رابطة الأخوة ، والارتقاء بها ، وصونها مما قد يذهب صفاءها ، ويعكر ماءها ، ويكدر نقاءها ، ويفسد أجواءها ، فيقررون أن خير الأخوان ، وأعقلهم هو الذي يلتمس الأعذار لإخوانه ، فتراه حريصاً على إيجاد العذر المناسب ، الذي ينسجم مع عظمة هذه الأخوة ، ويرتقي في أجوائها ، ويحلق في فضاءاتها الإيمانية ، فلا تجد أخاً مقصراً في قاموسه ، أو أخاً مذنباً في حقه ، أو أخاً معتدياً في كلامه ، أو أخاً متعمدأً في إساءته ، أو قاصداً في تجاوزه .
فتعجب من منهج هذا الأخ العاقل ، وهو ينقب في الأعذار ، كي يختار أفضلها وأحسنها في تبرير ما يراه الآخرون خطأ فادحاً ، وذنباً عظيماً ، لا يمكن تجاوزه ، أو احتماله ، أو غض الطرف عنه . فإن لم يجد ما يعتذر به عن إخوانه اتهم نفسه ، كما أوصى بذلك الإمام الغزالي – رحمه الله – في إحيائه : " ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً ، فإن لم تقبله فرد اللوم على نفسك ، فتقول لقلبك : ما أقساك !! يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله ، فأنت المعيب لا أخوك .. " .
تعجب من هذا المنهج الجميل الجليل ، وهو يحيل الإساءات إلى حسنات ، والتجاوزات والسقطات إلى هفوات غير مقصودة ، والتقصير والنسيان والإهمال إلى زيارة ود ومحبة ، تجدد العهد ، وتحيي ما انبت من الوصل .. فليس الواصل بالمكافئ !!
جميل الالتزام بهذا النهج عندما يضيق أفق الناس ، وتتحشرج نفوسهم ، ويصبح ميزانهم دقيقاً، يحاسب على الكبيرة ، ولا ينسى الصغيرة ، ويزن العظيم والحقير على حد سواء ، ولا يغفل عن شيء ، بل يذكر الإساءة ، ويصر على الظن السيئ ، وغالباً ما يستخدم لحظات الوصل والصفاء في إذكاء لحظات العتاب القاسي والمر الشديد ، الذي قد يأكل الحب ويأتي عليه رويداً رويداً ، دون شعور منا إلا بعد فوات الأوان .(2/23)
إعذار الإخوان ، والتجاوز عن سيئاتهم وهفواتهم ، وتقصيراتهم وأخطائهم ، يؤكد عمق الرابطة ، ويزيدها عمقاً وتوكيداً ، ومتانة وقوة ، ومن هنا حين سئل أحدهم : من أحب إخوانك إليك ؟ قال : " من سد خللي ، وغفر زللي ، وقبل عللي " .
هذه هي صفات الذين يعذرون ، ويبادرون في إيجاد العذر ، قبل أن يسمعوا ذلك من إخوانهم، بل ليسوا بحاجة لهذا السماع ، حتى يؤكدوا عظمة الأخوة ومكانتها في نفوسهم .
ومن هنا رأينا الإمام الشافعي – رحمه الله – يتمثل بهذه الأبيات ، معبراً بها عن صدق الأخوة وصفات الأخ الصادق :
أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حياً وبعد مماتي
فمن لي بهذا ؟ ليت أني أصبته لقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم على كثرة الإخوان أهل ثقاتي
لهذا أيها الأخ الحبيب ،، اعذر إخوانك ، والتمس لهم العذر تلو العذر ، ولا تمل من كثرة ذلك، وإن كنت لا تقبل العذر ، بلا تبحث عن العذر ، ولا تغفر الزلة ، فعش وحيداً، وليكن معلوماً لديك أن من عاتب على كل ذنب دام عتبه ، وكثر تعبه :
وإن أنت لم تشرب على القذى مراراً
ضمئت وأي الناس تصفو مشاربه ؟!
فالنهتف جميعاً أيها الإخوة الأحبة من أعماق قلوبنا ، مرددين بصدق وإخلاص مع شاعرنا :
تعالوا نطوي الحديث الذي جرى ولا سمع الواشي بذاك ولا درى
تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضى وحتى كأن العهد لم يتغيرا
لقد طال شرح القال والقيل بيننا وما طال ذاك الشرح إلا ليقصرا
من اليوم تاريخ المحبة بيننا عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى
وإن كان أيها الأخ الكريم لا بد من العتاب فليكن بالحسنى ، وبالتي هي أحسن ، ولا ننسى أن خير الإخوان وأعقلهم هو أعذرهم لإخوانه ..(2/24)
مما يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – أنه قال : " ما أعطيت أحداً مالاً إلا وأنا أستقله ، وإني لأستحي من الله – عز وجل – أن أسأل الجنة لأخ من إخواني، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة ، قيل لي : لو كانت الجنة بيدك ، كنت بها أبخل ".
***
قول رائع يؤسس لفقه دقيق في الأخوة .. يشير إلى أن عمر – رحمه الله – كان من أصحاب الاختصاص الدقيق جداً في هذا المجال ..
إنه فقه ، وياله من فقه !!
فقه .. تتجلى فيه آيات الإيمان ، ليكشف عن معدن النفوس الأصيلة حين يصوغها الإيمان، معدن النفوس الكبيرة حين تتذوق طعم الإيمان ، وتنصهر في بوتقته ..
هذا الفقه الذي أصبح بعناوينه الكبيرة جداً ، وليست العناوين الدقيقة جداً ، عند الكثيرين منا من نافلة القول والعمل ، نمر عليه لاهين ، ونقرأ عنه غافلين .. حتى أصبح من الثقافات العامة التي لا بد منها ، لإثبات الذات في ميادين القول ، ومجالس الوعظ ..
ويالها من طعنة قاسية تدمي الصف المؤمن ، وتدني نهايته ، وتفكك أوصاله ، حين يصبح هذا الفقه شعارات ترفع ، وخطابات تلقى ، وأقوالاً بليغةً تلوكها ألسنة سليطة ، وقلوب مشحونة .. قد تتستر وراء دعوة حارة ، ودموع حارقة ، لكنها لا تقوى على إحراق الشحناء والبغضاء والكراهية التي تسكن هذه القلوب الغافلة !!
وما أتي الصف في يوم من الأيام إلا من قبل هؤلاء ، الذين يحسنون في ميدان الوعظ والقول، ويسيئون في ميدان الفعل والعمل .. ميدان السلوك والتطبيق .. تماماً ككل الممثلين في زماننا هذا .. الذين نراهم على الشاشة بحلة الأبطال الفاتحين أو الأئمة الواعظين، وفي الواقع نراهم بحلة الشياطين ..
وبأمثال عمر – رحمه الله – من أصحاب التخصص الدقيق جداً في كل الميادين ، ميادين الدعوة والحياة : الأخوة ، الصدق ، البذل ، التضحية ، التجرد ، الفهم ، الإيثار ، الزهد ، العفة .. تجد الصف في أبهى حلله ، وأنصع صفحاته ، وأجمل مواقفه ..(2/25)
***
عمر – رحمه الله - .. أدرك أن الأخوة أكبر من أن تكون دعوة باللسان ، تسأل فيها الله – سبحانه – أن يسكن أخاك الجنة ، وأن يغفر له ، ويرفع درجته ، ويحسن ختامه ، وغير ذلك من الأدعية الجميلة ..
لكن إن تطلب الأمر من هذا الأخ الداعي أن يكون في موضع العطاء ، الذي يستطيع من خلاله أن يمد يد العون والمساعدة لهذا الأخ المدعو له ، فيفرج عنه كربة ، أو يقضي عنه ديناً، أو يسعى في حاجته .. تراه ينكص على عقبيه ، متعللاً بالأعذار الواهية ، معتذراً بضيق ذات اليد .. وقد يرمي إليه بالفتات القليل الذي هو أقل من الحرمان ..
فأين هذا البخل من ذاك الجود ؟!
أليس الأمر كما وصفه عمر ؟!
لو كانت الجنة بيد هذا الأخ الداعي ، ومن أملاكه الخاصة لكان بها أشد بخلاً .. ما دام أنه يبخل بمتاع من الدنيا زائل !!
رحم الله عمر !!
ليس هذا فقط ..
بل إن الأمر قد يتجاوز ذلك .. بله يتجاوز هذا البخل المادي ، إلى بخل في ميدان العفو عن الزلات، وتجاوز الهفوات ، وكتم السيئات ، وستر العورات ، وكظم الغيظ .. وتراه كريماً جواداً كالريح المرسلة في إشاعة سيئاته ، ونشر هفواته ، وإعلان زلاته ، وتتبع عوراته ، وهدم حسناته ..
فأي أخوة هذه ؟! وأي فقه هذا ؟!
رحم الله عمر !!
فقد كان ذا قلب نوراني شفاف ، ونفس بالغة الحساسية ، في ميادين الإيمان والدعوة، لا تغره عبادة ، ولا تؤمله طاعة ، ولا يلهيه كل ذلك عن حقيقة ما يجب أن يكون عليه المؤمن الصادق ، في كل ميادين حياته ..
رحم الله عمر !!
ما أشد حياءه ، وما أعظم خوفه !!(2/26)
يستحي من الله – سبحانه – أن يطلب لإخوانه الجنة ، في الوقت الذي يبخل فيه عليهم بحطام الدنيا ، فيعطيهم قليلها ، فماذا تعدل الدنيا كلها في ميزان الآخرة ؟! وكيف يكون كريماً جواداً معطاءً صادقاً .. وهو يستكثر عطاء الدنيا ويستعظمه ؟! وتراه جواداً كريماً في دعاء لسانه لهم بالجنة ؟! لقد أدرك حقيقة الدنيا وهوانها ، وعظمة الجنة وغلاءها ، فجاءه هذا الشعور العظيم .. ولو أدركنا إدراكه لجاءنا شعوره الجميل هذا .. لكن هي الغفلة .. التي علت بها مكانة الدنيا في نفوسنا ، فسيطرت ..
***
إنها لفتة إيمانية روحانية رائعة ، يلفت عمر أنظارنا إليها ، ويضعنا من خلالها في امتحان صعب للغاية ، فهل تقفز بنا هممنا الإيمانية ، إلى حيث كانوا ؟!
وهل تحلق بنا أخوتنا في فضاءات رحبة ، فتخرج بنا من أسر الذات ، وقيد الأهواء، وضيق الدنيا ، إلى سعة الدنيا والآخرة ؟!
مما يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قوله : " لا يعجبنك من الرجل طنطنته ، ولكن من أدى الأمانة ، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل ".
ما أكثر الذين تخدعهم المظاهر ، وتجذبهم المناظر ! لأنهم لم يعرفوا حقيقة الرجال!! كما عرفها أمير المؤمنين عمر ، الذي لم تخدعه المظاهر ، بل كان يغوص في الأعماق ، باحثاً عن الجواهر الثمينة ، والحقائق الدفينة ، في النفوس ، التي تظهر بها المعادن .
فهاهو يسمع رجلاً يمدح آخر ، فيقول له : لعلك جاورته ؟
فيقول الرجل : لا .
- لعلك سافرت معه ؟
- لا . لعلك عاملته بالدرهم والدينار ؟ - لا .
عندها يقول له عمر - رضي الله عنه - : لعلك رأيته يصلي ؟
- قال : نعم . لقد رأيته يحافظ على الصلاة ، ويؤديها بخشوع .
فيأتي قرار عمر الخبير بالرجال : إذن ما عرفته .
نعم ، ما عرفته !(2/27)
تمثل حال الكثيرين منا في هذه الأيام ، الذين تنبثق أحكامهم من رؤية الرجل في صلاته ، وسماع ترتيله في تلاوته ، أو من خلال مواعظه وخطبه ، فيأتي الحكم سريعاً بأنه سيد الأولين والآخرين ، والحقيقة تقول غير هذا ، فليس هذا هو المقياس في معرفة الرجال والحكم عليهم ، بل لا يكون ذلك إلا من خلال السلوك والمعاملة ، وقد أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء من هذا ، حين قال : " الدين المعاملة " ، وحين شهد أن المرأة التي حافظت على صلواتها والقيام بأداء ما طلب منها على أكمل وجه وأحسنه ، إلا أنه أخبر أنها من أهل النار ، حين علم أنها تؤذي جيرانها .
فالسلوك والمعاملات والأخلاق هي المقياس الذي تزكو به النفوس ، وتعلو به قيم الرجولة ، وتسمو به معاني الإيمان .
وكامل الرجولة هو المؤمن حقيقة ، الذي يأبى أن يوصم بعيب يثلم إيمانه ، وينتقص من رجولته ، لذلك حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم : هل يكذب المؤمن ، قال : لا ، في الوقت الذي بين فيه أن المؤمن قد يرتكب حداً من حدود الله ، لكنه لا يكذب أبداً ، ما معنى هذا ؟ !
معنى هذا أن المؤمن رجل اكتملت رجولته ، ومن أبشع ما يؤخذ على الرجال الكذب، ومن أفظع ما يوصف به الرجال الكذب ، فكيف إذا كان الرجل مؤمناً ، هل يليق به أن يكذب، أبداً لا يليق به رجولة ولا إيماناً .. ومن الغريب في زماننا العجيب ، أنك تجد الرجل يحترز من الوقوع في المعاصي باختلاف أنواعها وأحجامها ، ويحرص على أداء الطاعات ، والعبادات، غير أنه لا يتحرز من أن يتورط بيمين غموس ، يطمس بها حقائق عليها شهود!!
عجيب !! أليس كذلك ؟!
ومن هنا ارتأى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أن يضع مقياساً في وزن الرجال، و معياراً في الحكم عليهم ، حتى لا تضيع الحقائق ، أو يوسد الأمر لغير أهله ، وأكد على أمرين هما : أداء الأمانة ، وكف الأذى عن أعراض الناس .(2/28)
فأين نحن من هاتين : أداء الأمانة ، وكف الأذى عن الأعراض ؟!
فبالإجابة نحدد صدق رجولتنا ، وبمقدار هذه الرجولة تكون المروءة ويكون الإيمان!!.
هذا هو منهج الأولين ، وهذا هو نهجهم – رحمهم الله - ، إذ الحر في ميزانهم هو ذاك الرجل الذي يحفظ الود ، ويرعى حق الصحبة ، وإن كانت في عمر السنين لحظة واحدة ، ولا ينسى الفضل لأهله ، وإن قلّ حجمه ، أو خف وزنه ، بل تراه يحرص على أن ينسب الفضل لأهله ، ولا يكفر بساعات الصفاء واللقاء ، ولا بأيام التزاور والتواصل ، غايته أن يقيم العدل، ولو على نفسه ، ممتثلاً أمر ربه: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .
فالأحرار هم الذين لا يحملون حقداً ، ولا يفجرون عند الخصومة ، ولا يستغلون معلومة بسبب معرفة سابقة ، ولا يبيحون سراً لأصدقاء الأمس ، ولا يصرمون وداً لأقل الخصومات، ولا ينقلب الأصحاب في ميزانهم إلى أعداء ، مهما بلغت شدة الخصومة .
فالأحرار لا يعرفون طريق الغمز ، ولا يسلكون دروب اللمز ، يصونون ألسنتهم من الوقوع في مثل هذه المزالق التي لا تليق بالأحرار .
***
وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ، أن الذين تنزلق أقدامهم في مثل هذه المزالق ، أنهم ليسوا أحراراً أبداً ، وقد شهد بذلك الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين بين أن من علامات المنافق ، الفجور عند الخصومة ، بمعنى أنه لا يراعي عند الغضب والخصومة ، حرمة صحبة ، ولا ساعات التواصل والأخوة .
الأحرار .. قوم لا تنقلب حسنات الأمس في ميزانهم إلى سيئات ، ولا صفاؤه إلى شحناء وبغضاء ، ولا حبه إلى كراهية مطلقة وحقد دفين .
الأحرار .. هم الذين لا يجعلون من صديق الأمس - بسبب خلاف في الرأي ، أو سوء في الفهم ، أو خلاف في غرض من أغراض الدنيا – لا يجعلون منه هدفاً ، يصوبون نحوه كل سهام البغي والظلم والعدوان ، فلا يدعون سهماً في جعبة إبليس إلا وقذفوه به ، غير نادمين أو آسفين .
***(2/29)
الذين يفعلون هذا ليسوا أحراراً ، وإن كانوا في ميزان البعض كباراً ، بأموالهم ومناصبهم ، وشهاداتهم الورقية ، وألقابهم العلمية ، فهم كبار بملابسهم وزيهم ، غير أنهم الصغار في نفوسهم ، الصغار في فعالهم ، الصغار في طباعهم ، ولو كانوا كباراً حقاً ، لصدق فيهم قول الشاعر :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وقبل ذلك ، فإن الأحرار تسمو بهم أخلاقهم ، وتعلو بهم هممهم ، وتزكو بهم أنفاسهم، وتمنعهم من هذه الأفعال الشنيعة خصالهم الحميدة ، ومنابتهم الكريمة .
وإن كان هذا العقوق الأخلاقي ، والنكران الإيماني ، لا يليق بالعامة من الناس ، فإنه في الخاصة منهم أكثر شناعة وفضاعة ..!!
فلا يليق بالعلماء الأحرار أن يغمزوا ويلمزوا ؟!
أو أن يحقدوا ويدفنوا ؟!
أو أن يفتروا ويكذبوا ؟!
أو أن يغيروا الحقائق ، ويقلبوا الموازين ؟!
أو أن يشهروا بأحد أو جماعة .. كانت بينهم بالأمس علاقة كريمة ، وصحبة جليلة ، ليس انتصاراً لحق اكتشف مؤخراً ، بل هو الحقد وحب الانتقام لا غير ..
ساءني جداً أن يكون في علماء اليوم من يحمل نفوس العبيد ، وقلوب الشانئين ، الذين يغيرون مبادئهم كما يغيرون ملابسهم .
***
ولا تنس أبداً إن كنت تريد أن تكون حراً : " أن الحر من راع وداد لحظة !! " .
قيل لحاتم الأصم : يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي ، وليس يكلمك أحد إلا قطعته؟
قال : معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي:
أفرح إذا أصاب خصمي .
وأحزن إذا أخطأ .
وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه .
وهنا نقف قليلاً مع هذه الخصال التي كما ترى تثير الدهشة والاستغراب ، وتدعو المرء لا سيما في زماننا إلى التساؤل .. متى كان صواب الخصم يفرح ؟! ومتى كان خطأه يحزن ؟! ومن هذا الذي يفرح لإصابة خصمه .. وحزن وتألم حين يخطئ هذا الخصم ؟؟(2/30)
ومن ذا الذي يمنع نفسه جهلها ، واستغلالها الفرص .. للإيقاع بخصمه .. لبيان عجزه .. وكشف سوءته ؟! كي تسنح له فرصة الظهور والغلبة ..
فخصال جيلنا التي تعارف عليها وبنى على أساسها ظهوره مرتبطة بالمنافسة الشرسة .. واستغلال المناسبات .. وتحين الفرص .. وإشهار السيئات ، والصيد في الماء العكر ...الخ .
أما تلك الخصال فإنها فقه قوم آخرين ..
وحين بلغت تلك المقولة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، تعجب وقال : سبحان الله ما أعقله ! قوموا بنا إليه . فلما دخلوا عليه ، قال له : يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا؟
قال : يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال :
تغفر للقوم جهلهم .
وتمنع جهلك منهم .
وتبذل لهم شيئك .
وتكون من شيئهم آيساً .
فإذا كنت هكذا سلمت !!.
فانظر أخي الكريم يرحمك الله كم هم السالمون في أيامنا هذه .. بناء على ميزان وشروط العالم الجليل أبي عبد الرحمن حاتم الأصم رحمه الله .. في وقت تضخم فيه السيئات، ويركز فيه على إبراز الجهالات ، وتقابل فيه الإساءة بالإساءة ، والخطأ بخطأ أكبر منه .. هذا فوق الشح المطاع .. والهوى المتبع .. والحرص والحسد والطمع الذي غدا زاد الكثيرين الكثيرين .. ممن حالهم كما قال الشاعر :
أن يسمعوا سبةً طاروا بها فرحاً مني وما يسمعوا من صالح دفنوا
خدمة الإخوان ..
شرط الصحبة !!
يذكر الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – أن كثيراً من السلف كان يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم ، اغتناماً لأجر ذلك ، منهم عامر بن عبد قيس ، وعمرو بن عتبة بن فرقد ، مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما . وكذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان .(2/31)
ويذكر قصة لرجل صالح كان إذا صحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره ، يشترط عليهم أن يخدمهم ، فكان إذا رأى رجلاً يريد أن يغسل ثوبه ، قال له : هذا من شرطي ، فيغسله ، وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه ، قال : هذا من شرطي ، فيغسله . فلما مات نظروا في يده ، فإذا فيها مكتوب : من أهل الجنة ، فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم .
وذكر قصة آخر ، يدعى بهيم العجلي ، وكان من العابدين البكائين ، ترافق مع تاجر موسر في رحلة إلى الحج ، فلما كان يوم خروجهم للسفر ، بكى ( بهيم ) حتى قطرت دموعه .. وقال : ذكرت بهذه الرحلة الرحلة إلى الله ، ثم علا صوته بالنحيب ، فكره رفيقه التاجر منه ذلك ، وخشي أن يتنغص عليه سفره معه ، بكثرة بكائه ..
فلما قدما من الحج .. جاء الرجل الذي رافق ( جمع ) بينهما في هذه الرحلة ، ليسلم عليهما ، فبدأ بالتاجر ، فسلم عليه ، وسأله عن حاله مع ( بهيم ) .. فقال له : والله ما ظننت أن في هذا الخلق مثله ، كان والله يتفضل علي في النفقة ، وهو معسر ، وأنا موسر ، ويتفضل علي في الخدمة ، وهو شيخ ضعيف ، وأنا شاب ، ويطبخ لي وهو صائم ، وأنا مفطر . فسأله عما كان يكرهه من كثرة بكائه ، فقال : والله ألفت ذلك البكاء وأشرب حبه قلبي، حتى كنت أساعده عليه ، حتى تأذى بنا الرفقة ، ثم ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا ، ويقول بعضهم لبعض : ما الذي جعلهما أولى بالبكاء منا ، والمصير واحد ؟! فجعلوا والله يبكون ، ونبكي ..
ثم خرج من عنده ، ودخل على ( بهيم ) فسلم عليه ، وقال له : كيف رأيت صاحبك؟ قال : خير صاحب ، كثير الذكر لله طويل التلاوة للقرآن ، سريع الدمعة ، متحمل لهفوات الرفيق ، فجزاك الله عني خيراً ..
***(2/32)
انظروا – رحمكم الله – كيف أن المسارعة في خدمة الإخوان ، وإيثارهم على النفس، وتقديمهم عليها .. والتعفف عما بأيديهم ، وبذل الجهد بإكرامهم .. قلب مزاج الرجل، وأثر به، وحوله من حال إلى أحسن حال ، ليس هو فقط ، بل انسحب هذا التغيير والتأثر على الجميع .. وكل هذا بحسن الخلق .. الذي تمثل به هذا الرجل الصالح ..
***
يذكر مجاهد – رحمه الله – أنه صحب ابن عمر – رضي الله عنهما – في سفر طمعاً في خدمته ، فإذا به هو من يخدمني .. كما يقول مجاهد ..
ومما يروى عن ربيعة قوله : المروءة في السفر ؛ بذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاح في غير مساخط الله – عز وجل - .
والحقيقة تؤكد - معشر الصحب الكرام – أننا في سفر شاق وطويل ..
فهلا .. بذلنا الزاد بين أيدي إخواننا أثرة وحباً وكرامة .. طمعاً في الرحمة والرضوان والمغفرة وفي المزيد ؟؟ !!
وهلا .. قللنا الخلاف ، وعملنا على تجفيف أصول الاختلاف ، وكثرة الجدال .. مع إخواننا الذين بهم نستعين على وعورة الطريق .. ومصاعب الحياة .. ومشاقها ..؟؟!!
وهلا .. أكثرنا من الملح التي نتقي الله فيها ، وننتقي أطايب الكلام ، ونختار أحسن ما يدخل الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا .. لمزيد من الأنس والتقارب .. ؟؟!!
وهلا .. ألزمنا أنفسنا في هذا السفر .. في هذا الركب .. في هذا المسير.. شرط الخدمة لإخواننا .. أملاً في سلامة الوصول ، وحسن القبول ..؟؟!!
***
وأخيراً .. هل تعلم أن الخدمة هي طريق السيادة .. لهذا قالوا : خادم القوم سيدهم .. وأنها الطريق الموصل إلى القلوب .. وما أجمل ما أوصى به شاعرنا حين قال :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فلطالما استعبد الإنسانَ إحسان(2/33)
كثيرة هي الأخطاء التي يتعرض لها الداعية ، من إخوانه في الصف الإسلامي ، الذين تباينت وجهات نظرهم ، واختلفت أفهامهم ، وتعددت مشاربهم ، فالحركة الإسلامية الكبيرة ، التي تضم في صفوفها جماعات وأحزاباً وأفراداً ، لكل منهم مشربه ، وبحكم تعصب كل صاحب لصاحبه ، وجماعة لفكرها وقادتها .. تولد بينهم ، وحتى على صعيد التنظيم الواحد تنافس مذموم ، أودى بهيبتهم ، وأغرى بهم خصومهم ، وأذهب ريحهم ، وأخر النصر عنهم ..
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، واحد من الدعاة الكبار الذين كثر خصومهم ، من أبناء جلدتهم في الصف الإسلامي ، وتنوع إيذاؤهم ، وتعددت وسائلهم في المكر والخديعة للإيقاع بالشيخ الجليل، فحاكوا المؤامرات ، وزوروا الحقائق ، ونسجت أخيلتهم المريضة ، ونفوسهم الخبيثة ، الأكاذيب والافتراءات التي كان من نتيجتها سجن الشيخ .
فماذا كان موقفه من هؤلاء ؟ وبأي شيء أمر أصحابه ، الذين ساءهم ما أصاب شيخهم ظلماً وبهتاناً ؟؟
هذه رسالة أرسلها لهم من سجنه ، تجيب على أسئلتنا ، وتدل على ما كان عنده من فقه عظيم، وخلق كريم ، وفهم دقيق ، وحرص عميق على دماء المسلمين ، ووحدة صفهم ، وصفاء قلوبهم ، فقال لأصحابه من سجنه :
" تعلمون رضي الله عنكم - أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا عندي عتب على أحد منهم ، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال ، والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان ، كل بحسبه ، ولا يخلو الرجل : إما أن يكون : مجتهداً أو مخطئاً أو مذنباً :
فالأول مأجور مشكور ، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفو عنه ، والثالث فالله يغفر له ، ولسائر المؤمنين ..
لا أحب أن يقتص من أحد بسبب كذبه علي ، أو ظلمه أو عدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أريده لنفسي ، والذين ظلموا وكذبوا هم في حل من جهتي ".(2/34)
إن هذه اللفتة الجميلة الرائعة ، من شيخ الإسلام ، تستحق وقفة تأملية طويلة من دعاة اليوم ، وأتباع الإسلام ، الذين سرعان ما تتحشرج نفوسهم ، ويحتد قولهم ، وينبو طبعهم ، ويتعالى صوتهم ، وتضيق الدنيا في وجوههم ، وتعلو حمرة الغضب جباههم ، بسبب كلمة عابرة ، لمجرد أنها جارحة ، أو موقف مقصود أو غير مقصود .. يريد أحدهم أن يقيم الدنيا ولا يقعدها ، مستخدماً كل ما في قاموس الغلظة والفضاضة من ألفاظ نابية جارحة .. تعمق الجرح .. وتشق الصف ..
فكيف لو أن الأمر تجاوز حدود الكلمات العابرة .. والمواقف الزائلة ..؟؟!!
بقي أن أقول من وحي موقف الإمام الكبير ، إن الكبار العظام لا يحملون الحقد ، ولايعرفون طريقه ، وصدق الشاعر ( الجاهلي ) عنترة بن شداد :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
غفر الله لي ..
غفر الله لك !!
جاء رجل إلى علي بن الحسين بن علي – رضي الله عنهم أجمعين – فقال له : إن فلاناً قد آذاك ، ووقع فيك . فما كان منه إلا أن قال له : انطلق بنا إليه ، فانطلق معه ، وهو يرى أنه سينتصر لنفسه ، ويقتص منه ، ويرد له الصاع صاعين .. وما أكثر الذين يحبون هذا .. غير أن الذي حدث ، خيب ظن الساعي ، وأفشل مسعاه .. فلما أتاه ، قال له : " يا هذا إن كان ما قلت فيّ حقاً ، فغفر الله لي .. وإن كان ما قلت فيّ باطلاً فغفر الله لك".
عليّ هذا جاءه يوماً حسن بن حسن ، وكان بينهما بعض الأمر ، وهو جالس مع أصحابه في المسجد ، فما ترك شيئاً إلا قاله له . يقول أبو يعقوب المدني ، راوي الحادثة التي يذكرها ابن الجوزي – رحمه الله – في كتابه القيم " صفة الصفوة " : وعليّ ساكت .(2/35)
وانظر هنا إلى فضيلة السكوت ، وعظمة السكوت ، بل بلاء السكوت ، أن تملك نفسك ، وتحبس لسانك ، في هذا الموطن الرهيب ، هو والله الامتحان الأصعب ، والدلالة العظمى ، والعلامة الكبرى .. التي تكشف عن المعادن الأصيلة ، والتربية الربانية .. نعم لقد سكت ، أمام سيل الاتهامات الجارف ، والشتائم اللاذعة التي لم تقو على جرفه ، أو زحزحته عن سكونه وهدوئه .. فلم تحركه هذه الاتهامات ، ولم تستفزه الخصومة ، ولم ينتقم لنفسه ، وصبر على ظلم أخيه .. فلم ينتصر لنفسه .. ليس هذا وحسب .. بل انظر إليه مرة أخرى ، حين يختار الليل لحسن الصنيع ، كي يستره ، ويحفظه من الرياء والسمعة .. فلما كان الليل ، أتى علي هذا الرجل في منزله ، فقرع عليه بابه ، فخرج إليه ، فقال له : يا أخي ، إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك .. السلام عليكم . وولى ..
فما كان من الرجل إلا تبعه ، والتزمه من خلفه ، وأخذ يبكي ، ويقول : لا جرم لا عدت في أمر تكرهه .. فقال له علي : وأنت في حل مما قلت لي .
***
تأمل معي هذا الكبير ، في دلالاته ، وفي ألفاظه .. وفي معانيه الكبيرة ..
تأمل وتفكر .. ولك أن تتعجب .. ولا بأس في ذلك ، فقد غابت هذه المعاني ، وفقدت هذه المواقف ، ووئدت هذه النفوس الكبيرة ، وتلاشت هذه الظلال الرائعة .. لتحل محلها الشحناء والبغضاء والكراهية ، وحب الانتقام .. نعم ، حب الانتقام .. فما عادت السماحة وكتم الغيظ والعفو يجد مكاناً يزاحم فيه ، أو يركن إليه ، وسط هذا الغثاء والأنانية القاتلة .. لقد ساد فكر الذات البغيض ، فسيطر وحرك وانتصر .. وانتصر بانتصاره الشيطان، الذي يؤنسه هذا الفكر ويفرحه ..(2/36)
أما فكر علي بن الحسين وفقهه .. فهو فقه نادر وجوده ، عزيز تطبيقه .. وما أكثر الإخوة الأحبة الذين يكرمونني بقراءة ما يكتب في هذا الباب ، ويزيدونني كرماً باتصالاتهم وآرائهم واقتراحاتهم .. كثير من هؤلاء الأحبة يرون فيما نكتب من هذه المعاني، و نسجل من هذه المواقف ، الشفافية التي ربما تصل حد المبالغة ، والسمو والبعد الذي يتعذر تطبيقه ، والاقتداء به ، لكن الحقيقة تقول غير هذا ، فهذا الفقه ، يحتاج إلى مؤهلات، متى ما ملكت هذه المؤهلات تحولت هذه الأحلام وهذه المثاليات إلى حقائق ملموسة ، تتجسد في السلوك والمعاملة .. وهذه هي عظمة هذا الدين ، الذي يغير السلوك ، ويبني السلوك ..
فليس غريباً على من كان يصفر وجهه ويتغير لونه إذا توضأ .. فحين يقال له في ذلك ، يقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ، ومن أناجي ؟!
لقد جاءت حقيقة عظمة الله في نفسه ، ومن عظم الله في نفسه ، هانت عليه الدنيا كلها ، فلن ينافس فيها أحداً ، ولن يصارع عليها أحداً ، ولن يقاطع من أجلها أحداً ، ولن يخاصم على أساسها ، ولن ينافق في سبيلها ..
المسألة باختصار ، هذه المواقف لا تصنع إلا بأمثال هؤلاء ، فإن كنا مثلهم في الدين والعبادة ، صنعنا مثلها وزيادة .. وإلا سنبقى في حيز الذين يرونها مستحيلة ثقيلة ، وهذا صحيح .. ما دمنا نحمل نفوساً ضعيفة ، صغيرة ..
غفر الله لي .. إن كنت صادقاً ، وما أحرانا أن نقبل النقد ، وأن نرضى بمن يبصرنا بعيوبنا ، وإن زل الطريق ، وضل السبيل ..(2/37)
غفر الله لك .. إن كنت كاذباً ، وما أجمل أن تسمو على مثل هذه الصغائر ، والله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا ، ألا ترضى أن يكون الله لك حامياً ، وعنك منافحاً ..؟! فلذ بحماه ، وثق بتدبيره ، ولا تعتصم بنفسك ، ولا تعتمد عليها ، فقد خاب وخسر .. من فعل هذا .. يرضى أحدنا بمحام من أهل الدنيا ، ومع احترامنا لهم ، يكون حرص أحدهم على أتعابه ، أكثر من حرصه على انتهاء القضية ، وبالرغم من ذلك ننقاد لهم ، ونثق بهم كل الثقة .. والله - تبارك وتعالى – يخبرنا بدفاعه ، وبحمايته وحفظه ، ولا نثق كل الثقة .. أليس هذا مما يقدح في الإيمان ؟! ويعيب في الالتزام ؟!
غفر الله لي .. غفر الله لك .. اجعله القاعدة .. تفز وتغنم وتكسب ..
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
... كان بين الصحابيين الجليلين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنهما- كلام، فذهب رجل يقع في خالد عند سعد، فما كان من سعد – رضي الله عنهما- إلا أن قال له: مَهْ، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا.
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
جلال وكمال وجمال....
جلال في الفقه.....
وكمال في الفهم...
وجمال في السلوك والتوجيه....
... نعم، إن ما بيننا من خصومة، أو خلاف، أو تنافر، أو حدة، لم يبلغ ولن يبلغ ديننا، إنه ما أخرجه من دائرة الإيمان، حتى أُاستبيح عرضه ودمه وماله، وأحل غيبته ونميمته، والتشهير به...إنه ما زال مسلماً حرام الدم، حرام العرض، حرام المال، لا يجوز ذمه، ولا تحلّ غيبته، بل وتجب نصرته، وتتأكد أخوته، وتتحقق في القلب محبته...(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
... فقه كريم ساد به القوم، وعلت به رتبتهم، وارتفع على كل لسان ذكرهم، وسارت بوحدتهم الركبان، وبصفهم المتماسك الفرسان، ينبئك جمعهم عن جمعهم أنهم قوم متميزون، وجيل فريدون...فأنى يسبق؟!
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!(2/38)
... يؤكد حرمة الدين، وأنه الخط الأحمر، الذي لا يجوز تجاوزه بحال من الأحوال، وينبغي الوقوف عند حدوده، إنه العاصم، الذي يعصم الأخوة، ويحفظ حقوقها، ويعلي شأنها، ولا يتجاوزها أحد، إلا حين تتراخى عرى الدين، وتنتقض أركانه، ويتناقص تأثيره، بسبب فهم خاطئ أو هوى مسيطر...
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
... حفظ أخوتهم، وبالتالي حفظ صفهم، فوحده، وقوى كلمتهم، وزاد لحمتهم، فلم ينجروا وراء شياطينهم وأهوائهم والباغين لصفهم شرذمة وضعفاً، فما فشلوا وما ضعفوا، وما ذهبت ريحهم...بل كانت أخوتهم حصناً منيعاً، وسداً قوياً، وشجرة طيبة ضربت في الأعماق جذورها، وبسقت في السماء أغصانها، فأورقت وأينعت، وطاب أكلها، وزاد ظلها..فنعمت بها القلوب، واتحدت بها الصفوف.
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
... الرد الحاسم القاطع، الذي يُصفع به وجه كل من أراد أن يتصيد في الماء العكر، فيذكي الخلافات، ويؤكد المشاحنات، ويقطع العلاقات، ويسعى في ركاب الشياطين....
... ما أجمل هذه الصفعة، لأمثال هؤلاء، الذي لا يستحقون المجالس، ولا يكرمون بالمجالسة، فضلاً عن أن يوسع لهم أو يفسح، أو أن يسمع كلامهم.
... إن الدعوة تكرم بصفعتهم، والجماعة تحفظ بإسكاتهم، والصف يسمو ويتحد بإبعادهم، والقلوب تقوى رابطتها بغيابهم أو إعدام قلوبهم الخبيثة...
... نعم، إنها قلوب خبيثة، هاتيك القلوب، التي رضيت أن تكون وعاء الفتنة، ومنطلق الكراهية، ومبعث الفساد والإفساد.
... فاحرص....أن لا تكون معها، فالسكوت علامة رضا، والسماع دلالة المشاركة !!!
***********
إن ما بيننا لم يبلغ ديننا!!
... شعار الأخوة العظيمة فارفعه..وتمسك به، واجعله سداً قوياً في وجه العابثين، وحصناً منيعاً لك ولصفك الكبير...
لا تفقدوا إخواني مني!!(2/39)
لما حضرت الوفاة سعيد بن العاص- رحمه الله- جمع بنيه, و قال لهم:" يا بني, لا تفقدوا إخواني مني, أجروا عليهم ما كنت أجري, و اصنعوا بهم ما كنت أصنع, و لا تلجئوهم للطلب, فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه, و ارتعدت فرائصه, و كل لسانه, و بدا الكلام في و جهه, اكفوهم مؤنة الطلب بالعطية فبل المسألة, فإني لا أجد لوجه الرجل, يأتي يتقلقلُ على فراشه, ذاكراً موضعاً لحاجته, فعدا بها عليكم, لا أرى قضاء حاجته عوضاً من بذل وجهه..,,
ربما تساءل بعضنا .. و ماذا كان يصنع سعيدٌ بإخوانه ؟! و ما العمل الذي أراد استمراره بعد موته.. و أن لا ينقطع بغيابه؟!.
لقد حدث عن سعيد بن العاص - رحمه الله – أنه كان يدعو جيرانه و جلساءه في كل جمعة, فيصنع لهم الطعام, وُيلبسهم الثياب فإذا أرادوا أن يتفرقوا, أمر لهم بالهدايا و العطايا..
و الحقيقة الموروثة عن سلف هذه الأمة, , تؤكد أن هذا الصنيع كان شأن كثيرين غير سعيد , فلم يكن سعيد بدعاً من زمنه, و لا غريباً في صنعه.. فقد صنع مثله الحسن البصري, و عبدالله بن المبارك, و ابن عيينة, و ابن سيرين و أبو سليمان الداراني, الذي قال ذات يوم(لو أن الدنيا كلها جمعت لي في لقمة , ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فيه).. و غير هؤلاء نفر ليس بالقليل, يضيق المقام عن ذكرهم-رحمهم الله-
***
لا تفقدوا إخواني مني..
صورة جميلة تجسد حقيقة الأخوة, و ترسم لها لوحة فنية رائعة , بريشة بديعة , إنها ريشة الإيمان حين يسكن القلوب الكبيرة, التي ترعى الود, و تحفظ الحب, و تحرص على الوصل .. إنها قلوب كبيرة سكنت نفوساً حرة .. فسمت بأخلاقها , و علت بأفضالها, و تجلت بأفعالها .. فكانت نبراساً عظيماً يهدي السائرين الى منابر النور, يأخذ بأيديهم , و يرسم لهم معالم الطريق و يجلي لهم آدابه و أخلاقه..
لا تفقدوا إخواني مني..
حرص عجيب على دوام الأخوة..(2/40)
لم يكتف الحفاظ على هذه الرابطة في حياته..إنه أراد أن يتصل البر, و أن يستمر العمل, و أن تحفظ هذه الرابطة ..أراد أن يؤكد على سمو هذه الرابطة و عظمتها..التي لا تموت بموت, و لا تنقطع بغياب , و لا تذهب أدراج الرياح .. إنها أمتن من ذلك و أعز..
لا تفقدوا إخواني مني..
شعور عظيم يستحق منا كل تقدير , و خير ما يقدر به , أن ندرك أسراره , و أن نقف عند دروسه , وأن نأخذ منه الزاد لمسيرنا , و الروح التي تحيا بها أخوتنا..
لا تفقدوا إخواني مني..
خطاب يجب أن نتوجه به اليوم إلى نفوسنا التي في صدورنا , فنقول لها هامسين أو صارخين : لا تفقدي إخواني مني..
و ما أكثر النفوس التي تحتاج إلى هذا الخطاب..إلى هذا النهي الشديد ..لا بل تحتاج للتهديد و الوعيد ..حتى ترعوي و تنتهي ..
فما أكثر هذه النفوس ..التي بسببها يفقد الأخ أخاه.. وتكثر خصوماته .. بسبب يستحق أو لا يستحق ..نفوس تسرع إلى القطيعة والجفاء لأقل الأسباب و أتفهها، هذه النفوس بحاجة لهذا الخطاب الصارم في نهيه ، الحازم في لهجته , الواضح في لفظه..
و لك أن تنظر في صورة(نفسك)حين ترفع هذه اللافتة ( لا تفقدي إخواني مني) في وجهها .. في كل حين .. عند الرضا و عند الغضب..عند المنع و عند البذل ..عند النهي و عند الأمر..عند النصيحة و عند الحاجة..في كل الظروف و الأحوال ..ستجدها صوره رائعة حسنة .. ترعى في كل ذلك حق الأخوة ، وتحفظ شروطها , و تلتزم بآدابها .. إن نصحت أو أمرت ، أو أعطت أو منعت .
فلا تفقدوا إخواني مني..
شعار ارفعه في وجه الذين يعملون سعاة في بريد الشيطان ، يحملون بضاعته ويروجون سلعه، من غيبة ونميمة وفساد ..
شعار ارفعه في مواجهة نفسك ، ومحاربة أهوائك ..
شعار أنشئ عليه أبناءك .. وعلمه إخوانك ..
هذا ، والله ، فعل الأخيار!!(2/41)
دخل رجل على الحسن البصري - رحمه الله- فوجده نائماً على سريره, ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة , ففتحها , فجعل يأكل منها فانتبه الحسن , فرأى الرجل يأكل , فقال: رحمك الله, هذا و الله فعل الأخيار.
و يذكر أن بيت الحسن البصري- رحمه الله- إذا فتح بابه فهو إذنه. فجاءه أعرابي ذات يوم, فصادفه مفتوحاً, فدخل فجاء إلي شيء تحت سرير الحسن فأخرجه و جعل يأكل , فنظر إليه الحسن, وجعل يبكي, فقيل له : ما يبكيك يا أبا سعيد؟!فقال :ذكرني هذا أخلاق قوم مضوا.
***
حقاً , هذه أخلاق قوم مضوا..
لقد مضى هؤلاء القوم, الذين أدركوا هذه الحقائق, حقائق الأخوة, حقائق الحب في الله.. لقد مضى هؤلاء القوم في حال سبيلهم, منذ زمن الحسن البصري..
هذا ما أحسه به هذا الإمام , يوم كان في الناس بقية خير, بل كانوا من قرون الخيرية, حتى بات يبكيه خلق كريم يذكره بمن مضوا..لأن هذه الأخلاق أصبحت نادرة الحدوث , قليل فاعلوها..
لكن الحقيقة المؤلمة – في زماننا هذا- زمن العقوق الإيماني, و الردة الأخلاقية, غدت هذه الأخلاق غريبة, لا بل مستنكرة, يستنكرها جمع ليس قليلاً لمن يرفعون لواء الأخوة, و يحدثونك طويلاً عن فضلها و مكانتها ..
***
هذا و الله فعل الأخيار..
أن تكون مع إخوانك كأنك مع نفسك..
و أن تكون في بيت إخوانك كأنك في بيتك..
و بالتالي. أن يكون عرض أخيك عرضك.. و مال أخيك مالك.
وهو أنت , و أنت هو .. حيث تشكل الأخوة حالة فريدة و متميزة ، ولا أقول غريبة, في مجالات التوحد و الاندماج في الأحاسيس و المشاعر.. وهي حالة أشار إليها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حين ضرب لها مثلاً بقوله : " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. " .
هذا والله فعل الأخيار ..(2/42)
الذين يرفعون الكلفة ، ويتجاوزون التكلف ، في معاملاتهم مع إخوانهم ، فليس من الصواب أو الحق أن تتكلف لأخيك ، أو أن يتكلف لك أخوك ، فلا تكون الكلفة ولا التكلف إلا بين الذين لم تتعارف أرواحهم ، ولم تتآلف قلوبهم .. فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ، فزالت الكلفة والتكلف ، وما تناكر منها اختلف .. وعند الاختلاف يضطر المرء إلى التكلف ..
وهذه الكلفة تؤدي إلى زوال الألفة ، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في مقال سابق، أكدنا فيه على أن زوال الكلفة يديم الألفة ، وأن من خفت مؤنته ، دامت مودته ..
هذا والله فعل الأخيار ..
نحن بحاجة ماسة إلى مجموعة من الأخيار ، الذين يعملون على إحياء هذا الفقه ، ويبذلون في ذلك جهدهم ووسعهم .. فمن يدق لهذا صدره .. ويقول : أنا لهذه الأخلاق ..
ثلاثة تشيد بناء الأخوة .. !!
ذكرها ابن عباس - رضي الله عنهما –وذكر بها إخوانه ، حتى يأخذ كل أخ بها ، في سبيل المحافظة على رباط الأخوة ، وصون مكانتها ، فقال : " لأخي علي ثلاث : أن أرميه بطرفي إذا أقبل ، وأن أوسع له إذا جلس ، وأصغي إليه إذا تحدث " .
ومن منا لا يقوى على القيام بهذه الثلاث ، إنها غير مكلفة ، ولا تحتاج منا إلا إلى شيء قليل من الجهد والصبر ، وأي صبر يذكر في أن تقبل على أخيك بنظرك إن هو أقبل..؟! وأي جهد في أن توسع له في المجلس ؟! فتجلسه جوارك ، بل تجلسه مكانك إن استدعى الأمر ذلك ؟! وأي جهد في الإقبال عليه والاستماع إلى حديثه ، لا تقطعه ، ولا تنشغل عنه .. مادام في حديثه .. ولم يتكلم في مكروه أو في إثم ، أو قطيعة رحم ..
هذه الأشياء الثلاثة ، على سهولتها وبساطتها ، إلا أنها ذات أثر عظيم ، ومفعول قوي، في الارتقاء بالأخوة ، وتعزيز مكانتها ، وتمتين روابطها ..(2/43)
غير أن القليل من الإخوان الذين يصبرون على القيام بها ، أو حتى الالتفات إلى أهميتها وخطورتها ، إذ أن كثيراًَ ما تفتر الروابط بين الإخوان بل فترت وتقطعت بسبب إهمالها ، وعدم الالتفات إليها ، وأخذها بعين الاعتبار ..
وكم توثقت عرى الأخوة ، وزادت نسبة المحبة ، وتوطدت العلاقات بسبب موقف .. تجسدت فيه واحدة من هذه الخصال العظيمة .. إقبال وترحيب ، أو توسيع وإفساح ، أو إصغاء وحسن استماع ..
ولأهميتها وعظمتها .. تأكدت في خلق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – سلوكاً واقعاً ، في أفعاله وأقواله .. " تفسحوا في المجالس يفسح الله لكم .." .. وكان يقبل عليهم بوجهه الكريم ، حتى كان يظن كل واحد منهم أنه وحده ، دون غيره ، محط نظر النبي –صلى الله عليه وسلم - وعنايته.. وكان يهش ويبش في وجوه المقبلين عليه .. يوسع لهم في المجلس ، ويأمر بذلك أصحابه ، ويصغي إليهم إن تكلموا .. ويرحب بمقدمهم ..
إن فقه الأخوة في نفس ابن عباس – رضي الله عنه – النفس التي تربت على معنى الأخوة الحقيقي ، في مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم - .. فقه جليل دقيق ، ميزانه شديد الحساسية ، يقف عند كل المحطات ، ولا يغادرها إلا بتأكيد وتوثيق ، وهذا الفقه شديد الحساسية ، لمسناه عند الكثيرين من سلفنا الصالح ، يعكس هذا الفقه – في الحقيقة – مكانة الأخوة وعظمتها في نفوسهم ..
ولما تراخت عرى الأخوة في النفوس ، ووهنت روابطها في القلوب ، استهين بمثل هذه الأشياء ، لا بل تجاوز كثير منا ما هو أعظم منها وأكبر ..
وفي جلسة هادئة مع النفس ، تراجع فيها شريط الأخوة والصحبة ، تجد أن أقرب الإخوان إلى نفسك ، من تمثلت فيه هذه الخصال ، وتجسدت في سلوكه هذه الفعال ..
فلم يغفل عنها .. وهي التي تزيد المحبة ، وتوثق الصلة ، وترفع شأن الأخوة ؟!!
فدير بنا أن نلتفت إليها صادقين ، ونأخذ بها مخلصين ، في سبيل أخوة صادقة ، ورابطة قوية ، وصف إسلامي متحد..(2/44)
فحاول بعد اليوم إن كنت عنها غافلاً أن تتذكرها ..
وإن كنت لها ناسياً أن تبادر إليها مسرعاً ..
وإن كنت عنها معرضاً إن تقبل عليها من فورك ..
ثلاثة حقوق .. إقبال وتوسيع وإصغاء ..
توج بها سلوكك ، وزن بها فعلك وقولك .. والله يرعاك ويحفظك ..
ليس كل غيبة جفوة !!
زار يوسف القاضي الإمام إبراهيم الحربي – رحمهما الله – يوماً ، فقال له : يا أبا إسحاق لو جئناك على مقدار واجب حقك ، لكانت أوقاتنا كلها عندك . فقال له الإمام الحربي : ليس كل غيبة جفوة ، ولا كل لقاء مودة ، وإنما هو تقارب القلوب .
جمال الأخوة في مجالس الصفاء والمودة ، مجالس الأولين ، مدارس اللاحقين ، من أراد أن يحلق في سماء االمودة ، وأن يطير بغير جناحين في فضاءات الحب الرائق ، والصفاء الفائق ، فعليه بمجالس أهل المدارس ، من أصحاب الفهم الدقيق ، والذوق الرفيع، الذي ملكه بغير منازع أصحاب السبق ، وذوو الإخلاص والصدق .
في هذا المجلس بزغت شمس الاعتذار الجميل ، قابلتها أقمار الرد الأجمل ، بنور ساطع ، وعذر رائع .. لو كانت الزيارة على قدر الواجب ، وعظم المحبة ، وصدق المودة ، لكان وقتنا حكراً عليك يا أبا إسحاق .. ما أجمله من اعتذار .. في هذا المضمار .. فالأوقات ضيقة والواجبات كثيرة ، والشوق للتواصل شديد ، والرغبة بالزيارة كبيرة ، غير أن ظروفاً تحول ، وموانع تلهي ، وحاجات تؤجل .. فما الحيلة ، وكيف العمل ؟!
وهذا حال كثير منا ، يرغب بزيارة إخوانه ، ويحب التواصل معهم ، والالتقاء بهم، ولا يمل من مجالستهم ، ولا يشبع من رؤيتهم ، ولا يسد نهمه من أطايب أحاديثهم ، لكن ماذا يفعل ، وقد تداعت الواجبات ، وكثرت الطلبات ، وازدادت الأعباء .. وتشعبت في كثير منا الهموم والالتزامات .. مع ضيق في الأوقات .(2/45)
حتى بات أحدنا يختلس من وقته ساعات يزور فيها أصحابه وإخوانه .. مرة في الشهور ذوات العدد .. لكن حين يكون صفاؤنا عظيماً ، وحبنا خالصاً ، وودنا صادقاً .. نجد عذراً لإخواننا ، ونلتمس لهم من الأعذار عدداً ، يحول بيننا وبين سوء الظن بهم أو اتهامهم .. بنسيان حقوق الأخوة ، أو التكبر أو الجفاء .. فما كل غيبة - كما ذكر الإمام الحربي – جفوة ، فهذا هو الأصل في التعامل بين الإخوان ، في ميدان الأخوة ، أن لا ينظر للغيبة وطولها على أنها قائمة على أساس الجفاء والنسيان ، فلا يليق مثل هذا الظن بالإخوان ، وما يليق بكرام الإخوان إلا أن يكون هذا شعارهم مع إخوانهم .
ومن جمال فقه الإمام الحربي – رحمه الله – أنه أشار إلى أن كثيراً من اللقاءات قد لا تكون تعبيراً عن المودة ، ولا تهدف إلى زيادة المحبة ، ولا تقوم على أصول الأخوة ، فليس كل لقاء مودة ..
فالشأن عنده في القلوب ، وليس في كثرة اللقاءات ، أو قلتها ، " وإنما هو تقارب القلوب " .. فالأخوان وإن شطت بهم المزارات ، أو تباعدت بهم الديار ، أو فرقت جمعهم الدنيا ، وشرقت ببعضهم ، وغربت بالبعض الآخر .. إلا أن قلوبهم متقاربة ، وألسنتهم تلهج بالدعاء ، فما أجمل أن ترفع يديك تدعو لأخيك في ظهر الغيب !! وهذا هو المطلوب ، تعانق أرواح ، وتقارب قلوب .. فلا خير في زيارة ، يتبعها أذى ، نقل كلام ، أو تحريف بعضه . وهذه هي اللقاءات التي عناها الإمام حين أشار إلى أن ليس كل لقاء مودة .. والأهم من ذلك كله .. ليس كل غيبة جفوة ..
ذكر أن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى أخيه في الله مالك بن أنس - رضي الله عنها – النصيحة الآتية :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على رسوله محمد من الأولين والآخرين ، من يحيى بن يزيد إلى مالك ابن أنس ، أما بعد ،(2/46)
فقد بلغني أنك تلبس الدقاق ، وتأكل الرقاق ، وتجلس على الوطيء ، وتجعل على بابك حاجباً، وقد جلست مجلس العلم ، وقد ضربت إليك المطي ، وارتحل إليك الناس ، واتخذوك إماماً ، ورضوا بقولك ، فاتق الله تعالى يا مالك ، وعليك بالتواضع .
كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى ، والسلام ".
فكتب إليه مالك :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى اله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد ، سلام الله عليك ، أما بعد :
فقد وصل إلي كتابك ، فوقع مني موقع النصيحة ، والشفقة والأدب ، أمتعك الله بالتقوى ، وجزاك بالنصيحة خيراً ، وأسأل الله تعالى التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق ، وألبس الدقاق ، وأحتجب وأجلس على الوطيء ، فنحن نفعل ذلك ، ونستغفر الله تعالى ، فقد قال الله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) الأعراف 32 .
وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه . ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا . والسلام ."
***(2/47)
من وحي هذا المثل الرائع في النصح تتبدا لنا أمور .. تنتصب منارات هداية ، وعلامات رشد.. تضبط السلوك وتوجهه ، وتحسن الأداء وترشده ، وتسعى إلى تماسك الوشائج ، وتمتين العلاقات والروابط ، كما ينبغي أن يكون ذلك كله بين الإخوان .. وفق المنهج الرباني السديد ، الذي اختطه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - .. ونضع الدروس المستفادة هنا ، من هذا المثل الرائع في مجموعتين ، الأولى تخص الناصح ، والأخرى تخص المنصوح ، علنا بهذا ندرك جانباً مهماً من فقه ( النصيحة ) ، التي تداخلات فيها المتشابهات، وتشابكت بها المتباينات ، واشتط بها البعض عن طريقها ، وأخرجها عن نطاقها ، ولم يبق منها غير الرسم والاسم ، الذي بات للأسف يشكل استفزازاً واستنفاراً عند المنصوح ، ذلك أن الناصح اتخذها سبيلاً للقدح والتشهير .. لهذا سقنا هذا المثل بين علمين من سلفنا الصالح ، علنا نهتدي إلى الصواب .. وننتقي الطيب المستطاب .. فللأخ الناصح ، وللأخ المنصوح ، هذه الشروط والضوابط ، المستفادة من واقع هذا المثل .
***
أولاً : في الناصح :
? لا بد وأن يكون واضحاً في نصحه ، صريحا ً في تحديد القضية .
? أن يعتمد الاختصار والإيجاز وعدم الإطالة ، مع الجزالة في اللفظ ، والقوة في السبك، بعيداً عن التقعر والتكلف .
? أن يذكر المحاسن التي عرف بها المنصوح ، وأن يشير إلى مكانته .. كمقدمة سريعة في الدخول إلى قلبه .
? أن يحرص على سرية النصيحة وكتمان أمرها ..
ثانياً : في المنصوح :
? الرضى والقبول بمبدأ النصيحة ، وعدم التبرم بها .. ما دامت في إطار النصيحة ، وتوافرت لها شروط ذلك .
? الدعاء للناصح بما يليق بشرف عمله هذا .
? إظهار الحرص على ضرورة استمرار التناصح بين الإخوان . .
? الاعتراف بمضمونها إن كان حقاً ، وإن لم يكن الرأي الراجح .(2/48)
? تأخير بيان الرأي الآخر في المسألة بعد كل ما ذكرنا ، حرصاً على استمرارية نهج المناصحة في الدين والدنيا ، بين الإخوان . .
***
أملنا أن يحيا ( فقه النصيحة ) ، بصورته الصحيحة ، بين الإخوان ، حتى لا نفقد الخير العميم .. الذي حتماً سيغيب حين تغيب النصيحة من حياة الدعاة إلى الله ، أو حين تؤدى بشكل خاطئ ..
...
دعت امرأة لابنها أمام الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - فخانها التعبير فدعت عليه ، وهي تريد الدعاء له بالشفاء من مرضه ، فقال الإمام : اللهم بقلبها لا بلسانها .. أي تقبل منها الذي نوته بقلبها ، لا ما نطقته بلسانها .
تريث وإعذار، وتجاوز حسن ، وفهم صائب ، وتصويب جميل ، لا عجلة فيه أو تسرع ، ولا وقوف معه عند العثرات والأخطاء ، ولا تصيد في الماء العكر .. ما دام في الأمر متسع ، وما كان للحمل على الوجه الأحسن احتمالات أخر.
نعم ، منهج مبهج ، وسنة حميدة ، وخصلة أصيلة ، وخلق كريم ، أن تسد العثرات ، ويقوم الخطأ ، ويصحح المسار بنية حسنة ، وظن لا ريبة فيه ، وقول بالمعروف لا اتهام معه .
إننا بحاجة لهذا الهدوء والاتزان ، والعفة في اللسان ، والعمق في النظر، والحسن في الظن ، والدقة في التمحيص ، حفاظاً أولا على سلامة صدورنا ، والارتقاء بإيماننا ونقاء قلوبنا، وصفاء سرائرنا ، ثم حفاظاً على الآخرين ثانياً ، فلا نبوء بإثم رميهم بالفسق أو الفجور ، وهم برآء من ذلك .. وأن لا نحمل الأمر على غير وجهه ، إن كان له في الحسن باب واحد .. فكيف إن كان له فيه أبواب متعددة ؟!
وأن لا نحمل الأمر أكثر مما يحتمل تهويلاً وإثارة وصخباً كصخب أبناء الشوارع، وضجيجاً كضجيج أبناء الحانات .. الذين لا ينكرون منكراً ، ولا يعرفون معروفاً.. سبيلهم صوت منكر ، ولفظ سيئ مستنكر.. فإن كان هذا الأمر مستغرباً من هذه الفئة فإن الواجب يقتضي أن يتنزه عنه الذين انبروا لحمل رسالة الخير.. ورفعوا راية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى..(2/49)
وأن لا نحمل الأمر على ظاهره ، وأن لا نقع فريسة الحكم على الآخرين بناء على لفظ خانه فيه التعبير ، أو تصرف لم يحسن فيه التدبير ، أو موقف لم يدرك كنهه، أو تعجل لحظة غضب عارمة .. عندما يسرع أحدنا فينصب من نفسه ( قاضيا ) يصدر أحكاما قطعية يكون بموجبها كثير من عامة الناس والعلماء في حكم الخارجين والمارقين.
وهنا نتوقف مع أئمة السلف للوقوف على منهجهم في مثل هذه الحالات : يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله : " إن القول قد يكون كفراً فيطلق بتكفير صاحبه فيقال : من قال كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعني الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر بتاركها وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " (النساء : 10) فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد ، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار بجواز أن لا يلحقه الوعيد فوات شرط ، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه. وقد يشفع فيه شفيع مطاع ، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من فهمها ، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها " .
ما أحوجنا أن يكون هذا المنهج منهجنا ، والطريق المؤدي إليه طريقنا ، ما أجمل أن نبادر من حيننا إن رأينا زلة أحدهم للقول : .. " اللهم بقلبه لا بلسانه .. اللهم بنيته لا بفعله !! " .
أتعمد إلى ما ستر الله فتبديه؟!!(2/50)
مما يذكر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جاءه رجل بآخر، فقال: هذا نشوان ( شارب ) ، فقال عبد الله بن مسعود : استنكهوه ، فاستنكهوه ، فوجدوه نشوان، فحبسه حتى ذهب سكره ، ثم دعا بسوط أمر بجلده ، ولما فرغ قال للذي جاء به : ما أنت منه ؟ قال : عمه ، فقال له عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: ما أدبت فأحسنت الأدب، ولا سترت الحرمة !! إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه، وإن الله عفو يحب العفو ، ثم قرأ: " وليعفوا وليصفحوا " ( النور ) ، ثم قال : " إني أذكر أول رجل قطعه النبي – صلى الله عليه وسلم – أتي بسارق فقطعه ، فكأنما أسف وجهه ، فقالوا : يا رسول الله كأنك كرهت قطعه ؟ فقال : " وما يمنعني ! لا تكونوا أعوانا للشياطين علي أخيكم " فقالوا : ألا عفوت عنه ؟ فقال : إنه لا ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه ، إن الله عفو يحب العفو ، وقرأ : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " ( النور ).
فالجزاء من جنس العمل ، من عفا عفا الله عنه ، " ومن ستر على مسلم ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة " ( رواه مسلم ) . " ومن يتبع عورة أخيه المسلم ، يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ، ولو كان في جوف بيته " ( رواه أبو داود ) .(2/51)
فقه ( الستر ) عزيز جداً في زماننا ، نادر وجوده في أخلاقنا ، فما أن تقع عين أحدنا على عثرة أخيه ، وتلمح تلبّسه في معصية أو مخالفة .. حتى ينطلق في الآفاق ، محذراً من هذا المنافق الأفاق ، فاضحاً أمره ، وكاشفاً لستر الله ، ويتخذ البعض منا في ظل غياب فقه ( الستر ) من تتبع العورات والحديث بها في المجالس مهنة خاصة ، يحترف أصولها، يتقن أساليبها، وينسى -إن كان غنياً عن فضل الله ومثوبته لمن ستر وعفا- ما يمكن إن يتسبب به من أخطار عظيمة تهدد المجتمع بأسره، يترتب عليها فساد الناس وإفسادهم، وهذا في الحقيقة ما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين قال لمعاوية رضي الله عنه: " إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم " ( رواه أبو داود).
ولقد فقه سادتنا الأولون ، من سلف هذه الأمة ، هذا الفقه، وعاشوه واقعاً مباركاً ، حين ستروا وأمروا غيرهم بالستر ، فقد ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه قال : " لو وجدت شارباً لأحببت إن يستره الله ، ولو وجدت سارقاً لأحببت إن يستره الله ".
وقد روي أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: إن لي ابنة كنت وأدتها في الجاهلية، فاستخرجناها قبل إن تموت، فأدركت معنى الإسلام فأسلمت، فلما أسلمت أصابها حد من حدود الله تعالى، فأخذت الشفرة ( السكين ) لتذبح نفسها فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها ، فداويناها حتى برئت ، ثم أقبلت بعد توبة حسنة ، وهي تُخطب إلى قوم ، أفأخبرهم من شأنها بالذي كان ؟! فقال عمر: " أتعمد إلى ما ستر الله فتبديه ؟! والله لئن أخبرت بشأنها أحداً من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار " .
***
وللذين تمتلئ كنانهم بسهام تتبع العورات ، ويحرصون على نثرها ، كلما أصابت صيداً ، وكأنها غنيمة كبيرة ، يلبسونها تارة رداء الوعظ والنصيحة ، وتارة رداء الحريص على نقاء الصفوف ، وتارة رداء الكشف عن " الساقطين " .. نقول لهم مذكرين :(2/52)
? إنه لا عصمة لبشر إلا الأنبياء والرسل، وإن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، فلنسأل الله السلامة والثبات.
? إن الستر والعفو من أخلاق القرآن الكريم التي نسبت لله رب العالمين، أفلا يليق بنا إن نتخلق بمثل هذه الأخلاق التي أمر بها الأنبياء والمرسلون؟!
? إن الستر يحفظ من التمادي في الزلل، والإيغال في المعصية، ويفسح مجالاً أمام من زلت به قدمه للعودة والإنابة والتوبة، هذا والأمر يكون في غاية الصعوبة بعد افتضاح الشأن واشتهاره بين الناس.
? إن من اشتغل بعيوبه، اشتغل عن عيوب الآخرين، واشتغل الآخرون عن عيوبه، وكلنا عيوب، وكفى المرء نبلاً أن تعد عيوبه.
? إن الستر لا يعني عدم النصح والوعظ واتباع سبل الإصلاح.. والقيام بأمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني أيضا تتبع العورات، ونشر السقطات ، وكشف ما ستره الله من السيئات!!
وبعد هذا كله أخي الكريم.. أتعمد إلى ما ستر الله فتبديه؟!
كرهت أن أروعك !!
عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد رضي الله عنه القائد العام للجيوش الإسلامية في بلاد الشام، وعين مكانه أبا عبيدة رضي الله عنه الذي أخفى خبر تعيينه، أخر إظهاره وإشهاره، حتى علم خالد رضي الله عنه من غيره، فقال عندئذ لأبي عبيده:
يرحمك الله ما دعاك إلى أن لا تعلمني؟!
فأجابه قائلاً:
كرهت إن اروعك !!
***
" كرهت أن أروعك " ..
صورة قد تبدو للبعض صغيرة بسيطة ، لكنها في الحقيقة كبيرة عظيمة ، عزيزة جليلة، تعكس في مضمونها الأساس الذي قامت عليه الدعوة الكريمة في عهدها الأول، مما أهلها للرسوخ والثبات ثم الانتشار والامتداد .
هذه الصورة التي تلخصها هذه العبارة تؤكد إن الشعور الصادق ، والحس المرهف، بين إخوان العقيدة هو الأساس الذي قامت عليه أركان الدعوة ، وتأسست عليه الدولة .(2/53)
إنها تظهر روعة هذا الأساس الذي حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقوم دعوته ، وتشاد دولته على أساسه ، هذا الأساس الذي خلاصته صفاء القلوب ، ونقاء الضمائر، وطهارة السرائر ، وعفة الألسنة ، فلا حقد ولا غل ، ولا شحناء ولا بغضاء، ولا حسد ولا غيبة .. أو نميمة أو تنابز بالألقاب !!
فالمؤمن في هديه صلى الله عليه وسلم أخو المؤمن، الذي جاءت في قلبه، ووقرت في وجدانه حقيقة الأخوة وسموها، التي تنعكس في الواقع العملي : سلوكاً مهذباً، وكلمة حانية ، ونصيحة صادقة ، ومبادرة طيبة ، وابتسامة عذبة ، وسعياً في قضاء حاجة.
" كرهت أن أروعك " ..
كانت ثمرة يانعة، لشجرة باسقة، ضربت جذورها في أعماق القلوب، وامتدت أغصانها لتعانق العلياء، إنها شجرة الأخوة الرائعة، التي ورفت ظلالها، فكانت المحبة والسماحة حادي القلوب في روضات الإيمان، والقرب من الله تبارك وتعالى .
" كرهت أن أروعك " ..
ما أجملها أنشودة، تنبض بها القلوب المؤمنة، قبل أن تشدو بها الألسنة!!
" كرهت أن أروعك " ..
إيمان وإيثار، إيمان راسخ، وإيثار شامخ، تذوب في ظلهما الشهوات، وتغيب سيطرة الذات، فيغدو الميدان رحباً، وتصبح القلوب فضاء واسعاً، لا تستوقفه تفاهات، ولا تحده نبرات، وليس فيه متسع لصراعات أو مشاحنات، بله تنافس في قضاء الحاجات، وسد الخلل وستر العورات ، تتجسد فيه تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
وحين تماسك البنيان على هذا الأساس، استعصى على كل محاولات التفرقة والمكر والدهاء والدسائس، الهادفة لضعضعة وحدته، وإضعاف قوته، وما أوتينا إلا حين وهن رباط الاخوة والمحبة، فوجد الشيطان وأعوانه عندها طريقهم إلى بذر الشقاق والخلاف في القلوب والصفوف .
" كرهت أن أروعك " ..(2/54)
شعار لا بد إن يرفعه كل أخ مع إخوانه، وكل أخت مع أخواتها، وجار مع جيرانه، وقريب مع أقاربه، أن أردنا تمكيناً للدعوة ، وقياماً للدولة ، وصواباً على الجادة، وبحبوحة في الجنة !!
ما أقساك يا قلبي..!!
كان أحدهم يخاطب قلبه إن أصر على اتهام أخيه ، ولم ير له عذراً يسوغ خطأه ، ويقوم عثرته ، ويسد خلله .. يقول له : ما أقساك يا قلبي .. لأنه لم يبحث عن عذر لأخيه ، ولم يبادر في إيجاد العذر المناسب ، الذي يعتذر فيه عن إخوانه ..
ياله من فقه !!
حين يتخذ القرار الآتي ، حفاظاً على الأخوة ، وانتصاراً لهذه الرابطة العظيمة .. : " ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً ، فإن لم تقبله فرد اللوم على نفسك ، فتقول لقلبك : ما أقساك !! يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله ، فأنت المعيب لا أخوك .. " .
***
فكم هم الذين يعملون بموجب هذا القرار ؟!
يبحثون عن الأعذار .. ويبالغون في التماسها حتى تبلغ سبعين عذراً .. والسبعون رقم فيه دلالة على الإكثار والمبالغة .. ولا يتوقف عند حدود الرقم المجرد ..
يبحثون ثم يقبلون هذه الأعذار .. بل لا يترددون في قبولها ، أو يتعبون أنفسهم في طلب الدليل على صدقها .. بل يكفيهم أن يجدوا العذر .. حتى يطيروا به فرحين .. فقد عادت به صورة الأخ إلى تألقها ونصاعتها من جديد ، ودفعت عنها الشبهات ، وأزالت الشكوك ، التي تأتي على رابطة الأخوة ، فتجعلها هباءً منثوراً .. لا وزن لها ولا قيمة .. ففرحتهم في الحفاظ على هذه الأخوة .. والتمسك بهذا الأخ .. وعدم خسارته .. التي تناولناها في مقالة سابقة مؤكدين فيها أن فقد الأخ غربة ..(2/55)
نعم كم هم الذين يعملون بهذه القاعدة الجليلة .. يخطئون فيعتذرون .. يساء إليهم فيلتمسون الأعذار .. فإن لم يجدوا لأخيهم عذراً لاموا أنفسهم ، وتشددوا في لومها وتعنيفها .. حتى تستقيم حياة الجماعة ، ولا تسودها أجواء المشاحنات ، ولا ضجيج أهل المهاترات ، ولا فساد ذوي الخصومات .. ورحم الله سيد قطب حين جعل الإيمان والأخوة في مرتبة واحدة .. ورآهما قاعدتين متلازمتين .. " الإيمان والأخوة ، الإيمان بالله وتقواه ، ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة ، والأخوة في الله ، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة ، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية ، وفي التاريخ الإنساني ، دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحياة على أساس المعروف ، وتطهيرها من لوثة الكدر .. " .
فهذا شأن الأخوة في الجماعة المسلمة ، شأن عظيم ، وخطب جليل .. أزعم أن كثيراً من أبناء الإسلام لا يدركون الحقيقة في أمرها .. ولم يقرؤوا عن عقود الأخوة في فقه الأولين .. أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حين قال : " وأما عقود الأخوة بين الناس في زماننا ، فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله : " إنما المؤمنون إخوة " الحجرات : 10 ، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "المسلم أخو المسلم " وقوله : " لا يبع أحدكم على بيع أخيه " وقوله : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " .. ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن ، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان ، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة ، والصيام والحج ، والمعاهدة عليها على ما أوجب الله ورسوله ، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن ، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة..".
***
ما رأيك أخانا دام فضلك ؟!(2/56)
هل رأيت كم تكون قاسياً .. وحقاً ما أقساك .. وأنت تصر على معاقبة أخيك ، على هجر أخيك ، على التشهير بأخيك ، على ذمه وذكر معايبه ..
ما أقساك يا أخي .. وأنت تدير ظهرك لأخيك .. وأنت تقبض يدك وقت حاجته ، وأنت تحصي أنفاسه ، وتتابع زلاته ، وتكشف سوءاته ..
ما أقساك يا أخي .. وأنت تبصر القذى في عيني أخيك ،، ولا ترى الحصى في عينيك ..
ما أقساك يا أخي .. حين لا تبسط يدك مصافحاً ، ولا قلبك مسامحاً ، ولا لسانك معتذراً ..
ما أقساك يا أخي .. حين تكبر الصغيرة .. وترفع في شأنها العقيرة ، وتؤكد فيها على إذكاء الخصومة .. !!
من صحبنا فليصحبنا بخمس!!
لما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - الخلافة صعد المنبر وخطب الناس قائلا بعد إن حمد الله أثنى عليه:
" أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس ، وإلا فلا يقربنا : يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ، ويدلنا من الخير على مالا نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا الرعيّة ، ولا يعترض فيما لا يعنيه ” .
هذه الكلمات كان لا بد منها لأنها توضح وتبين، كما أنها تحدد وتعيِّن، فلا نقبل في مجلسنا إلا من أعاننا على أداء الأمانة ، بنصيحة يقولها ، أو حاجة لمظلوم يرفعها، أو خير غائب يدلنا عليه .
وليس في مجلسنا متسع لمغتاب - رضي لنفسه أن يعمل ساعيا في بريد الشيطان ، أو لفضولي أطلق لنفسه العنان ، فراح يخوض فيما لا يعنيه ..
إن المجالس تسمو حين تتحقق لها هذه الخصال ، فتغدو مجالس خير وإنتاج ، ينصف فيها المظلوم ، ويضرب على يد الظالم ، ولا يرتفع فيها منافق ، ولا يصل من خلالها متسلق .. ولا يضيع فيها وقت!!(2/57)
كانت بداية موفقة استطاع عمر - رضي الله عنه - بها إن يصون نفسه ، ويحفظ مجلسه ، باختياره من يصحبونه ويجلسون إليه .. يحدثهم ويحدثونه ، فقطع السبل ، وسد المنافذ على أولئك الذين يتقنون فنون " النفاق " شعرا أو نثرا أو عملا ، وفي الوقت نفسه فتح الباب للمصلحين المخلصين .. الذين يذكرون عند النسيان ، ويعينون عند الذكر ، ويأمرون وينهون..
وسرعان ما وصلت الرسالة ، وفهم الناس مضمونها ، فانقشعت عنه (خيمة) و(غيمة) الوصوليين من الشعراء والخطباء التي طالما أظلت فأضلت كثيرا من خلق الله ، الذين ركنوا إلى زخارف الأقوال ، وبريق الثناء والمديح ، فضاعت بسببهم الحقوق ، و أهدرت الأموال والأوقات في غير نفع أو فائدة، فضاقت مساحة الامل، وكثر الشاكون المتألمون، وازداد الفقراء فقرا، وتضخمت ثروات الأغنياء.. وعلا أقوام بنفاقهم وتزلفهم ، وكثرة كذبهم . وغيب آخرون لصدقهم وإخلاصهم ..
ولما انقشعت تلك (الخيمة) ظللت (الرجل) خيمة العلماء والفقهاء والزهاد ، الذين قالوا: " ما يسعنا إن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله " فطاب ذكره، وحمد الناس سيره ، واقتفى الصالحون أثره ..
وحري بالرجل العاقل ، والباحث عن حسن الخاتمة أنى كان موقعه إن ينتقي لمجالسه، وأن يتشدد في مصاحبته عملا بسنة المختار صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا أن المرء علي دين خليله " فلينظر أحدكم من يخالل " واقتداء بمنهج الأخيار الذين أكدوا أن الصاحب ساحب ..
وحرصا على سلامة القلوب ، وحفاظا على نقاء الأوقات، وإقداما في ميدان الخيرات ، لابد أن تتبوأ الشروط الخمسة التي أشار إليها ( عمر ) مكانا عليا في حياتنا ، ونتخذها ميزانا نزن به الإخوان ، نقدم على أساسه ونؤخر.
أين المروءة فيه ؟!
قيل لسفيان بن عيينة – رحمه الله - : قد استنبطت من القرآن كل شيء ، فأين المروءة فيه ؟!
فقال : في قول الله تعالى : " خذ العفو وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين " . الأعراف 199 .(2/58)
ففيه المروءة ، ومحاسن الآداب ، ومكارم الأخلاق ، من العفو عمن ظلمك ، وصلة من قطعك، والتسامح مع المؤمنين ، ومن الأمر بالمعروف ، الذي فيه صلاح الدارين ، ومن الإعراض عن الجاهلين ، لما فيه من التصون عن سفاهتهم ، وترك التعرض لجهالتهم .
فلو قدر لسفيان بن عيينة – رحمه الله – صاحب هذا الفقه الجليل ، أن يعيش زماننا، ثم قيل له أين المروءة في حياة الناس ؟ أو أين الناس في ميزان المروءة ؟ حسب فهمك وفقهك ؟ وأنا هنا لا أقصد بالناس عامتهم ، بل أقصد الخاصة منهم ، الذين كان لله عليهم فضل الهداية والالتزام ، فإلى أي مدى فهم هؤلاء الخاصة ( المروءة ) كما فهمها هذا الإمام الجليل ، مستنبطة من كتاب الله ، مختصرة جملة من الآداب ، التي تعكس ، فعلاً، واقعاً فيه سمو ورقي في جانب السلوك والمعاملة .
أقول : لو قدر له رؤيتنا أو قدر لنا رؤيته ، وسألناه عن المروءة واقعاً ، لأظنه ما تردد لحظة في الطلب أن يقام لها مأتم ، يقبل فيه المخلصون الصادقون ، من البقية الباقية، العزاء ، في هذا الخلق النبوي الرفيع ، الذي قل أنصاره ، وزهد به أتباعه ، ونأى عنه الكثيرون ممن يحفظون كتاب الله ، وهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار .
وقد قيل لمحمد بن حرب الهلالي – رحمه الله - : قد أكثر الناس في ذكر المروءة ، فصفها لنا وأوجز ، فقال : على الخبير سقطتم ، هي بحذافيرها في قول الله عز وجل :
"" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون "" النحل 90(2/59)
هذه دعوة سريعة أردت من خلالها أن أؤكد على كيفية تعامل الأولين مع كتاب الله ، الذي استنبطوا منه ما يصلح شأنهم ، ويعينهم على صدق في الالتزام ، ونبل في الأخلاق ، وحسن في الوصل والهجر ، وبعد عن الفحش في النطق أو حتى في الإشارة ، وعليه يجب أن نعيد النظر في مدى فهمنا لكتاب الله ، ومدى تطبيقنا له ، وإنزاله منزلته ، لقد آلمتني صورة حافظ لكتاب الله ، يصفه الناس حتى زوجه باللؤم و البخل ، فهل هذا يليق بحافظ ؟! وأين هذا من معاني المروءة والنبل والكرم والصلة ... ؟!
سعاة في بريد الشيطان!!
جاء رجل إلى وهب -رحمه الله- فقال له: إن فلاناً شتمك.
فقال له: أما وجد الشيطان بريداً غيرك؟
فقه رائع، يضع الأمور في نصابها، ويسميها بأسمائها، إن أمثال هؤلاء الذين اعتادوا نقل الأحاديث ، وإفشاء ما يدور في المجالس، مع تركيز واضح على الجانب السيئ فيها، ما هم في حقيقتهم إلا سعاة، يعملون في بريد الشيطان، ويخدمونه خدمة مجانية ذليلة، بفضلهم أصبح هذا البريد أنشط وأقوى بريد عامل بجد في هذا الزمن ، وسخر في خدمته كل ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من الوسائل: الهاتف والفاكس وحتى الإنترنت أخيرا.
كان سلفنا الصالح -رحمهم الله- يعرفون حقيقة هؤلاء الخدم ، ومكانة سعاة إبليس هؤلاء، فينزلونهم هذه المنزلة التي دونها الطرد والذل ، فيسمعونهم من الألفاظ ما يليق بهذه المهنة الخسيسة ، التي يتجاوز فيها أصحابها كل القيم الاخلاقية، والمعاني الإنسانية.
فهذا أحدهم وقد زاره رجل ذكر عنده شيئاً عن بعض أخلاق إخوانه ، فقال له : " يا أخي أطلت الغيبة، وأتيتني بثلاث جنايات: بغضت إلي أخي ، وشغلت قلبي بسببه ، واتهمت نفسك الأمينة " .(2/60)
وما اكثر الذين يطول غيابهم ، حتى إذا ما حضر، كانت هداياه فعل فلان ، و قال فلان وفلان.. وهكذا حديث طويل طول غيبته ، يقابل بصمت أو ترحيب بمشاركة تغريه بالزيادة والتزيد ، أما لو فعلنا ما فعله عمرو بن عبيد - رحمه الله - حين جاءه أحدهم ، وقال له: إن الاسواري لم يزل يذكرك ، ويقول : الضال .
فقال له عمرو : يا هذا ؛ والله ما رعيت حق مجالسته إذ نقلت إلينا حديثه ، ولا رعيت حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه ، اعلم أن الموت يعمنا ، والبعث يحشرنا ، والقيامة تجمعنا ، والله يحكم بيننا .
وما أجمل أن نكون في هذا الميدان مثل الصاحب بن عباد ، حين رفع إليه أحدهم رقعة يحرضه فيها على أخذ مال يتيم - له مال كثير- فرد عليه على ظهر الرقعة :
" النميمة قبيحة ، وإن كانت صحيحة ، والميت رحمه الله ، واليتيم جبره الله ، والمال ثمّره الله ، والساعي لعنه الله " .
بمثل هذا الفقه نضيق الخناق على أمثال هؤلاء السعاة ، ونسد الطريق على الشيطان في تحقيق مآربه في الصف الإسلامي ، فحتى نحافظ على وحدة القلوب ، وتماسك الصفوف، لا بد إن نصم آذاننا ، ونطهر مجالسنا ، ونحد ألسنتنا ، في مجابهة هذه الآفة الخطيرة ، ومن الخطأ أن نعتقد أن أمثال هؤلاء حريصون على المصلحة العامة ، يحامون عنها ، وينافحون دونها ، فإن هذا قلب للحقائق ، وتزوير واضح للمسميات ، فلا يمكن أن يكون الساعي العامل في بريد الشيطان إلا سوسة تنخر، ومعولاً يهدم .
سقوط الكلفة
يديم الألفة !!
مما يُذْكر عن الأولين -رحمهم الله- قولهم : " من سقطت كلفته ، دامت أُلفته ، ومن خفت مؤنته دامت مودته " .
الألفة والمودة من المعاني السامية التي تؤكد صحة الصف وسلامته سواء أكان هذا الصف مجتمعاً أم جماعة أم أسرة ..
فالألفة والمودة من الأساسيات التي تشاد عليها المجتمعات والتجمعات فهي التي تحفظ صفاء العلاقات ، ودوام التواصل ، وصدق المشاعر ، ونقاء السرائر.(2/61)
وغياب الألفة والمودة يعني صفاً مريضاً دبْت به الأسقام ، ضعيفاً أنهكته الآفات ، مفككاً قطعته الأهواء مترهلاً أثقلته التكاليف الباهضة الزائدة عن الحاجة!!
ولأهمية الألفة والمودة نبهنا الأولون إلى ما يحفظ بقاءهما ويديم نقاءهما فأرشدونا إلى نبذ ( التكلف ) الذي به تسقط الألفة وتذهب المودة وبه تقاطع الناس وتدابروا يقول الإمام العارف الفضيل بن عياض -رحمه الله- :»إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه«.
فالناس متفاوتون في المقدرة والاستطاعة، وما يقدر عليه هذا لا يستطيعه ذلك.. وما يقوى على تقديمه أحدهم لا يطيقه الآخر.. وهكذا فإما إن يضغط على نفسه ، ويلجأ إلى تحميلها فوق طاقتها أو يصرم حبل الود والزيارة .. حتى يريح نفسه من عناء الدين والوهم فان سئل عن عدم الزيارة أو عدم التهنئة أو التعزية تعلل بعدم المعرفة أو بضيق الوقت وكثرة المشاغل..
وإني أعرف كثيراً من الناس قد خصص جزءاً من راتبه الشهر " المتواضع " للمناسبات والزيارات فارتبطت زياراتنا وتواصلنا بالوفر المادي..
وان كثيراً من الناس من يؤجلون زياراتهم الإخوانية الواجبة شهوراً بسبب الأوضاع المادية.
وبهذا السلوك.. يتقاطع الناس ويتدابرون..
فحري بمن يريدون الخير لمجتمعاتنا وصفوفنا إن يريحونا من عناء " التكلف " في كل شيء..ا لزيارات وحفلات الفرح في زواج أو نجاح أو استقبال مولود.. وأن يقدم كل واحد منا ما يستطيعه، وإن كان ما يستطيعه ؛ الزيارة والكلمة الجميلة فقط ، وقد قيل لأحدهم : من نصحب ؟! فقال : " من يرفع عنك ثقل التكلف " ..
وقد جعل أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – المتكلف من الأشرار ، فقال : " شر الأصدقاء من تكلف لك " .
أما الإمام جعفر بن محمد الصادق - رضي الله عنه - فقد جعله من الثقلاء الذين لا تطيقهم النفوس ، أو تحبهم القلوب فقال : " اثقل إخواني علي من يتكلف لي.. " .(2/62)
فهل ندرك سر ما أصاب صفوفنا من جفاء وانقطاع مودة ؟!
وهلا سارعنا إلى نبذ التكلف من بين ظهرانينا ؟!
إن أحدكم يبصر القذاة ..
وينسى الجذع !!
مما أُثر عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قوله للذين يتصيدون في الماء العكر، ويتتبعون زلات الناس. ويضخمون أخطاءهم، ويخفون حسناتهم، ويغفلون عن عيوب أنفسهم ونقائصها - :
" إن أحدكم يبصر القذاة في عين أخيه ، وينسى الجذع في عينه " .
ما أسوأه من خلق !
أن يشتغل المرء بعيوب الآخرين -يحصيها ويعدها، ويتحدث بها- عن عيوبه التي ربما لو نظر إليها بصدق وتجرد لوجدها عظيمة وكثيرة، تصغر بجانبها عيوب الآخرين، وسيجد فيها حتماً ما يشغله عن تتبع الآخرين..
ما أسوأه من خلق!
ينحدر به المرء من مستوى الأنفة والرفعة إلى مستوى " الذبابة " التي لا تقع إلا على القاذورات، والأوساخ، وما أهمله الناس مكشوفاً مما تأباه النفوس الكريمة ، وتأنف منه.
ما أسوأه من خلق!
يقذف بسببه المرء الآخرين بشهب حارقة، وألسنة سليطة. وكلمات لاذعة.. ناسياً أن للناس ألسنة يمكن أن تصبح سليطة ، وأن في كناناتهم سهاماً ، يمكن أن تكون مسمومة قاتلة.. وينسى كذلك أن لهم عيوناً حادة، يمكن أن تبصر عيوبه وأخطاءه ، التي لا يخلو منها مخلوق.. إذ إن العصمة لمن عصمهم الله فقط.. من الأنبياء والرسل.. وما دونهم ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ".
ما أسوأه من خلق!
تطغى به السيئات على الحسنات، ويظهر القبح ، ويستتر الجمال ، وتذهب -بفضله- سابقة أصحاب السابقة ، فلا تشفع لهم ، ولا تدفع عنهم.
ما أسوأه من خلق!
تحمد به فعال وخصال إن صدرت عن قوم نحبهم ويميل بنا هوانا إليهم .. وهذه الفعال نفسها تصبح ذميمة مكروهة إن صدرت عمن اختلفنا معهم ، أو خالفونا برأي أو موقف ..
ما أسوأه من خلق!(2/63)
لا نرى فيه عيوبنا ، ونغمض به عيوننا عن عيوب فريق قد تكون كبيرة وخطيرة لكن ( العصبية ) تقتضي أن نهون من شأنها، أو أن نعتذر عنها، في حين لا يمكن أن يحدث مثل هذا أو جزء منه مع فريق آخر، مهما تلاشت عيوبه ، أو صغرت أخطاؤه!!
حري بالدعاة المخلصين إن ينأوا بأنفسهم عن هذا الخلق الذميم ، وأن يعملوا بوصية الإمام الشافعي - رحمه الله- التي نظمها بأبيات شعرية جميلة إذ يقول:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
وعينك إن أبدت إليك مساوياً
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
لا تكن عونا للشيطان
على أخيك !!
تفقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يعرفه ، فقيل له : إنه يتابع الشراب ، فما كان منه -رضي الله عنه- إلا أن كتب إليه: " أنى أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ذي الطول ، لا اله إلا هو، إليه المصير ".
وحين وصل الرجل كتاب أمير المؤمنين، اخذ يردد ما جاء فيه ، وهو يبكي ، حتى صحت توبته ، وأحسن النزع ، وبلغت توبته عمر -رضي الله عنه - ، فقال لمن حضر مجلسه : " هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة ، فسددوه ووفقوه ، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه ".
لا تكونوا أعوانا للشيطان عليه !!
شعار الأولين. وشعاع نور كريم من فقههم الجليل ، فأين الباحثون عن الزلات الذين يضخمون السيئات ، ويكشفون العورات ، من هذا الفقه الرائع ؟!
نعم.. أين الذين يفرحون بأخطاء غيرهم ، ويتندرون بها في المجالس ، ويتقنون الصيد في الماء العكر ، من هذا الفقه الرائع ؟!
نعم.. أين الذين لا يسترون عيبا ، ولا يغفرون ذنبا ، ولا يعفون عن زلة ، ولا يتغاضون عن هفوة.. من هذا الفقه الرائع ؟!(2/64)
أين نحن أيها السادة الكرام من فقه الأولين ؟ الذين أوجبوا للأخ في الله حقوقا ، منها العفو عن الزلة ، والتغاضي عند الهفوة ، وإحسان الظن به ، وستر عيوبه وإن ارتكب معصية سراً أو علانية ، فلا تقطع مودته ، ولا تهمل أخوته ، قال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: " إذا تغير أخوك ، وحال عما كان عليه ، فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة، ويستقيم أخرى " .
ويرى الإمام الغزالي -رحمه الله- أننا إذا قطعنا صلتنا بأخينا خسرنا الفرصة في إعادته إلى الصراط السوي ، وأن علينا أن نقيل عثرته إذا عثر ، وأن ننظر إليه نظرة إشفاق ورثاء ، فنحن إن وصلناه أعناه على شيطانه ، وأتحنا له فرصة التخلص منه ، ومن الوفاء لأخيك أن تثبت على أخوته ، وتديم عهدها لأن قطعها محبط لأجرها.. وإن مات تنقل المودة إلى أولاده، ومن أولاده إلى أصدقائه ، محافظة على الأخوة ، ووفاء لصاحبها.
فأين نحن من هذا الوفاء الجميل، والفقه الجليل؟!
يوم علت الصغائر، وحكمت الأهواء.. وقطعت الأواصر، ونصبت العداوات ؟! فما أسرع ما ينسى الأخ أخاه ! وما أهون ما يتنكر لزمان الود والصفاء!!
وما أسرع ما يحل الجفاء ، وتتغير القلوب ، وتتبدل الأحوال .. لأتفه الأسباب .. وما أكثر التوافه منها!!
ورحم الله زمان الوفاء .. زمان الأحرار .. الذين يحفظون الاخوة ، ويحرصون على القربى .. ويراعون وداد اللحظة!!
إن كان لك صديق .. فشد يديك به !!
أوصى الإمام الشافعي -رحمه الله - يونس بن عبد الأعلى يوماً بقوله : " يا يونس، إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادره بالعداوة، وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن القه، وقل له : بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ، فإن أنكر ذلك، فقل له : أنت أصدق وأبر، لا تزيدن على ذلك شيئاً، وإن اعترف بذلك، فرأيت له في ذلك وجهاً لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك، فقل له : ماذا أردت بما بلغني عنك؟!(2/65)
فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهاً لعذر، وضاق عليك المسلك، فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار : إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى : » وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله« .
فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فتفكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعدها، ثم ابدر له إحساناً بهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه يا يونس ، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل " .
***
لعلك ، أخي في الله ، حين تقرأ هذه الوصية ، تدرك حقيقة الأخوة ، عند سلفنا الصالح ، ومكانتها العظيمة في نفوسهم ، وحرصهم البالغ في المحافظة عليها ، فأنت ترى في هذه الوصية الكريمة خطة رائعة ، يرسمها شيخ لتلميذه ، يعلمه فيها كيفية الحفاظ على الأخ ، عند المحكات ، وانتشار الشائعات ، وسعي الوشاة .
وتدرك أيضاً كم نظلم أنفسنا وإخواننا ، حين نصرم حبل الود ، ونقطع العلاقات، ونؤسس للعداوات ، بسبب كلمة نقلت ، الله أعلم بحقيقتها ، دون أن نكلف أنفسنا عناء التبين والتثبت ، فسرعان ما تنقلب المودة إلى بغضاء ، والحب إلى كراهية ، والصداقة إلى عداوة، والإحسان إلى إساءة .
لقد هانت على كثير منا صداقات أيام وسنين، حين تغيرها لحظات غضب وتعصب، ومنهج الكرام قبلنا، الذي قال الإمام فيه، حين تلفظ أحد الناس أمامه بكلمة انتقص فيها شأن أخ له :»مه لقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام«.. ومنهج الأحرار، عبر عنه أحدهم بقوله:"الحر من راعى وداد لحظة " ، فإلى من تشكو لحظات الوداد، وساعات الوصل، وسنوات الصفاء، حين تصبح فريسة سهلة لسهام طائشة، وأفواه عفنة، وألسنة سليطة؟!
فأين الأحرار.. الذين يحفظون وداد لحظة ، وصحبة ساعة ؟!
أين الأحرار.. الذين يبقون على الأخ ، ويديمون وصله؟!(2/66)
أين الأحرار.. الذين يغفرون الزلات ، ولا يتخذونها وسيلة وسبباً للهجران ؟!
أين الأحرار.. الذين يكافئون السيئة بالحسنة، ويعفون؟!
أين الأحرار.. الذين لا يبخسون الحسنات، ولا يبرزون السيئات؟!
أين الأحرار.. الذين لا يظلمون الصديق، ولا يفرطون به، ويسارعون في التماس الأعذار؟!
أين الأحرار.. الذين يشدون أيديهم بالصديق ، لعلمهم أن اتخاذه صعب، وفقدانه سهل؟!
أين الأحرار.. من العبيد.. الذين كثرت صورهم، وتعددت أشكالهم.. يلقاك أحدهم بوجه أبي بكر أو عمر، وبقلب فرعون وأبي جهل ..؟!!
أخي في الله ..
أيها الحر الكريم.. إن كان لك صديق فشد يديك به..
وأسس علاقتك به على الحب والصفاء.. واحذر أن تكون على الغش والخداع.. أو على أساس عداوة الآخرين .. على قاعدة عدو عدوي صديقي.. فإنها باطلة لا تدوم ..
ألا يستقيم أن نكون إخوانا ؟!
اختلف الإمام الشافعي ، رحمه الله ، مع أحدهم في مسألة ، فما كان من الإمام ، وقد لقي صاحبه هذا بعد جلسة الحوار والمناظرة التي اختلفا بها، وكما يحدّث صاحبه نفسه، إذ يقول : " ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى : ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة..؟! ".
لقد كان ميدان الحوار وما يزال وسيبقى الامتحان الأصعب في حياة الداعية ، الذي يكشف عن طيب معدنه ، ومتانة أخلاقه ، وأصالة منبته ، وجودة تربيته ، إنه امتحان لصدق انتمائه، وعمق إيمانه ، وشمول فهمه ، وهو أيضا الميدان الأرحب لتجليات الداعية في الكشف عن مواهبه ، وحسن أخلاقه ، وسمو أهدافه ، ونزاهة ألفاظه ، ومدى تسخير طاقاته في خدمة هدفه ، من حيث التسابق والتنافس في تقديم الأنفع ، واختيار الأفضل ، والانحياز إلى الحق..(2/67)
والحوار علامة نجاح وتوفيق ، فالذين ينجحون في ميدانه ، ويحرصون على أركانه ، فيخرجون منه مؤتلفي القلوب ، سليمي الصدور، لا شحناء وبغضاء ، أو حقد وكراهية، يؤكدون بذلك سلامة منهجهم ، وصدق توجههم ، واستقامة مسيرتهم .
فالحوار منهج قرآني رفيع ، أدب رباني جميل ، وخلق نبوي كريم ، أكده القرآن في كثير من الصور والمشاهد الحوارية التي تعددت أطرافها وتباينت، ففيه مشاهد حوارية لله تعالى مع ملائكته وأنبيائه ورسله، بل ومع إبليس عليه اللعنة.
وفيه مشاهد حوارية بين الأنبياء وأقوامهم وذويهم ، بالإضافة إلى تلك المشاهد الحوارية الرائعة ، التي حفظتها لنا السيرة النبوية العطرة.. كل ذلك كي يؤكد أهمية الحوار، ويركز معالم نجاحه، أسس بنيانه.. واعتماده شعاراً مع الآهل والاخوان، وطابعاً متميزاً في أسلوب الدعوة والتعامل مع الآخرين..
ولما كان الحوار امتحاناً صعباً للنفوس، فما اكثر الذين يسقطون في حلباته، ببيان حقيقتهم، حيث يستبد بهم الغضب، ويسيطر عليهم الهوى، ويشتط بهم العجب والغرور، ويأخذهم التعصب كل مأخذ فيتهمون النيات، ويقدحون السرائر ويمتهنون الآخر، فيصولون ويجولون بأصوات مرتفعة ونبرات حادة، وألفاظ نابية قاسية، تذهب هيبة الحوار، وتضيع فائدته المرجوة بل تحوله إلى نار محرقة لا تبقي ولا تذر.. غير الشحناء والحقد والكراهية.
لهذا كله يأتي تساؤل الإمام الشافعي - رحمه الله - ، بجماله وجلاله ، وروعة بيانه ، وصفاء إيمانه ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً ، وإن لم نتفق ؟!
إن الحوار ضرورة في البناء والعطاء ، والخلاف وارد ، وأمر لازم ، لاختلاف العقول وتفاوت المدارك.. فالمطلوب إن تتسع صدورنا، فلا يصح ( للصدر إلا واسع الصدر) وتعلو بنا هممنا ، وتسمو بنا أخلاقنا ، فتختلف آراؤنا ، ولا تختلف قلوبنا ، فنبقى أخوة أحبة .. فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية .(2/68)
وقد تحدث شيخ الإسلام عن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهم " كانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشورة ومناصحة ،وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة ، وأخوة الدين " .
وعلى هذا سار سلفنا الصالح ، فقد اختلف الإمام الليث بن معد مع ربيعة – رحمهما الله – في مسائل كثيرة ، وهذا الخلاف لم يمنعه من إنصاف الرجل ، والشهادة له بذكر مناقبه، فقد كتب يقول : ... ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير ، وعقل أصيل ، ولسان بليغ ، وفضل مستبين ، وطريقة حسنة في الإسلام ، ومودة صادقة لإخوانه عامة ، ولنا خاصة..".
مالكم لا تحابّون ؟!
سؤال كبير، ليس له إلا الأولون، فهم من عاش الحب واقعاً، وتجسدت فيهم تعاليمه وأسسه سلوكاً عملياً، فتفاعلت نفوسهم، وتعارفت أرواحهم، وامتزجت دماؤهم، في ظلال الاخوة، في رحاب العلم والعمل، وميادين الدعوة وساحات البذل والجهاد..
فلم تفرق جمعهم أهواء ، أو تفسد اخوتهم خلافات، لذا كانوا الأجدر حديثاً ، والأقوى حجة ، والأنصع جواباً ، والأبلغ وقعاً وتأثيراً ، وهذه وقفة نصغي فيها لأبي الدرداء -رضي الله عنه- في حديث يضع فيه النقاط على الحروف في فقه ( الحب ) والأخوة ، مبيناً مظاهر الخلل وآثاره، وطرق العلاج ووسائله .
فكان مما قاله: " ما لكم لا تحابون ولا تناصحون ، وانتم إخوان على دين الله ، ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم، ما لكم لا تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة، ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته!! ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم. لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بخير الدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم.(2/69)
فان قلتم: حب العاجلة غالب ، فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل ، منها تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه : فبئس القوم أنتم ، ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم ، فإن كنتم في شك مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم- فأتونا لنبين لكم ، ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم .
والله ما انتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم ، إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في اموركم، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم، ويظهر على ألسنتكم.. وتسمونها المصائب، وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم، لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم.
إنني لأرى الله قد تبرأ منكم ، يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره إن يستقبله صاحبه بمثله ، فاصطحبتم على الغل ، ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل.. فان كان فيكم خير فقد أسمعتكم ، وأن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله استعين على نفسي وعليكم .
في الصحبة والإمارة!!
الصحبة والإمارة من المفاهيم التي تحتاج منا إلى وقفات طويلة، نعيد فيها النظر، وندقق الحسابات، ونصحح على أساسها المعاملات ، ومن المفيد في هذا الباب خاصة، وفي غيره عامة، إن نرد »عين الاولين، ففقههم صاف ، وفهمهم راق ، وحسهم شفاف..
وهذا واحد منهم، وعين من أعيانهم ، وموقف من مواقفهم الخالدة، يذكره تلميذ تربى في مجالسهم، هو أبو علي الرياطي بقوله:
" صحبت عبدالله المروزي رحمه الله، فقال لي: أيما أحب اليك، تكون أنت الأمير أم أنا؟!
فقلت: لا بل أنت.
فقال: وعليك الطاعة.
فقلت: نعم.
فأخذ مخلاة، ووضع فيها زاداً، وحملها على ظهره، فاذا قلت: أعطني حتى احملها.
قال: الامير أنا، وعليك الطاعة.(2/70)
قال: فأخذنا المطر ليلة، فوقف على رأسي، وعليه كساء يمنع عني المطر، فكنت أقول في نفسي: يا ليتني مت، ولم أقل له أنت الأمير.
ثم قال لي: إذا صبحت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك«.
***
لعلك لا تختلف معي إذا قلت: إن مفهوم الإمارة المعنى والدلالة، والصحبة، الحقوق والواجبات، كان ذلك كله واضحاً تماماً عند الأولين، فقد وعته قلوبهم، وهضمته نفوسهم، وظهر على سلوكهم.. ولا غرو، فقد كانوا قريبي عهد بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أولئك القوم الذين كان يصعب على رائيهم، معرفة اميرهم، وتمييزه عن غيره، لان الإمارة في فهمهم تعني نوعاً من أنواع الخدمة الراقية، التي يتقرب بها العبد »الأمير« لله تبارك وتعالى.
هكذا هم ، يقتلون من يتأمرون عليه، ويصحبونه، بشدة تواضعهم، وعظمة حرصهم، وسمو خلقهم، حتى يتمنى معه المصحوب التابع المأمور الموت!! »ليتني مت، ولم أقل له أنت الأمير«!!
***
وقد يقول قائل ، بعد إن يقرأ هذا: ونحن كذلك إن كنا في صحبة احدهم، وتحت إمرته، في سفر أو رحلة، نتمنى الموت كذلك، ونقول: ليتنا متنا، ولم نقل له أنت الأمير.. لأنه قتلنا بكبريائه وتعاليه، أرهقنا بأوامره وكثرة طلباته، وأتعبنا بكثرة كلامه وتوجيهاته، وقصم ظهورنا بكثرة تحذيراته، وتهديداته، وكثيراً ما يذكرنا بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: »اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي« و»من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني..« وهكذا.. دون إن يذكر لحظة واحدة.. أو حتى يتذكر إن »أمير القوم خادمهم«..
أقول له: صدقت، إن مثل هذا يحدث كثيراً في أيامنا، ولذلك أسبابه التي منها:
- غياب القدوة والمثل الذي نتربى عليه قبل إن نصبح في موطن القدوة والمثل.
- التصدر قبل النضج الفقهي، والبلوغ الإيماني ، ظناً أن من بلغ سناً ، وحفظ شيئاً ، وتزيّا بزيّ .. فقد استحق !!.
البر شيء هين :
وجه طليق .. وكلام لين !!(2/71)
كان ابن عمر - رضي الله عنهما – يقول : " إن البر شيء هين : وجه طليق وكلام لين " .
والله تبارك وتعالى يؤكد لنا أننا لن ننال البر حتى ننفق مما نحب .. وأي شيء أحب إلينا من أن يخاطبنا الناس بكلام لين ، فيه الرحمة ، وفيه الصدق ، وفيه الإحسان ، وأن يلقونا بوجه حسن طلق ، كله حب ولطف ومودة ودفء ..؟!!
فلماذا نبخل على الناس بهذا الذي نرجو أن نجده عندهم ؟!
***
إن هذا الفقه يجسد لنا ( البر ) ، ويوضح لنا معالمه ، ويحدد صوره وملامحه ، ويبسط حقائقه ، ويعمم معناه ، حتى لا يقوى أحد على الاعتذار عن امتثاله وتحقيقه في حياته، إنه سهل جداً ، وغير مكلف ، ولا يتطلب جهوداً مضنية في بذله ، ولا صعوبة في تقديمه ، إنه صورة ترتسم على الوجه ، ومعنى ينطلق من اللسان ، أو حركة جميلة يترجمها وجه ولسان . فمن تعجزه هذه الحركة ؟!
( البر ) في هذا الفقه لا يحتاج إلى مزيد من البيان ، ولا إلى فلسفة في التفسير والشرح، إنه شيء هين ، من حيث الوضوح والبساطة في الفهم ، والقدرة والاستطاعة في التطبيق والعمل .
فإن فهمنا لـ ( البر ) بهذه الطريقة ، يفتح لنا أبواب الخير على مصارعها ، فمن قوي على طلاقة وجهه ، وانتقاء كلامه ، رغم صعوبة المواقف ، وحدة النبرات ، وشدة الخصومات ، وسلطان الغضب .. فإنه قادر على إنهاء الخصومات ، والانتصار على الذات ، والبعد عن المهاترات ، والتقريب بين المتباينات ، والوصول إلى أنصع الحلول ، والبعد عن مواطن العثرات ..
وهذا الفقه مستمد من فهم السلف لسيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حين نهانا عن الغضب ، بقوله : لا تغضب .. ثلاثاً ، وحين أكد أن الشديد هو الذي يملك نفسه وقت الغضب .. وهذه دعوة منه – صلى الله عليه وسلم – لنا أن نحافظ على طلاقة وجوهنا ، ولين جانبنا ، ودفء ألسنتنا ..(2/72)
ومستمد أيضاً من قوله – صلى الله عليه وسلم – حين عرف البر فقال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " . رواه مسلم . ومن حسن الخلق أن يبتسم الأخ في وجه أخيه ، ويبادره بالسؤال عنه وعن أهله ، ويشاركه في الأفراح ، ويحزن لحزنه ، ويأخذ بلين الجانب مع المؤمنين ، ويسهل انقياده في أمور الدنيا ، ويحسن الاستماع كما يحسن الكلام ، يجيد التغافل عن أخطاء الآخرين ، ولا يحقر من المعروف شيئاً ، ولو أن يفرغ من دلوه في دلو أخيه ، ..
ومن حسن الخلق أخذ العفو ، لقوله تعالى : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " الأعراف 99 ، أي خذ الميسور من أخلاق الناس ، ولا تستقص عليهم ، وقال عبد الله بن الزبير .. أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ العفو من أخلاق الناس..".
أربعة لا أقدر على مكافأتهم !!
مما يذكر عن عبد الله بن العباس – رضي الله عنهما – قوله : " أربعة لا أقدر على مكافأتهم : رجل بدأني بالسلام ، ورجل وسع لي في المجلس ، ورجل اغبرت قدماه في المشي في حاجتي ، وأما الرابع فما يكافئه عني إلا الله – عز وجل – " . قيل : من هو ؟
قال : رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر فيمن يقصده ، ثم رآني أهلاً لحاجته ، فأنزلها بي " .
وبعد ، فإنك تستطيع أن تقرر بهدوء وطمأنينة ، بناء على فقه هذا الرجل العظيم ، أن الرجال الذين لا يكافأون أربعة .. لعظيم فعلهم ، وسمو صنيعهم ، وسبق همتهم ، وأما غيرهم فيمكن أن يكافأ ..
ثم إنك ترى عجباً في هذا الفقه ..
ففي الوقت الذي نرى فيه من الواجب على الناس أن يطرحوا علينا السلام .. وأن يبادروا لفعل ذلك ، فإن فعلوا فقد أدوا واجباً ، لا يستحقون عليه شكراً ولا ثناء .. وإن لم يفعلوا حملنا عليهم وغضبنا منهم ، وصرمنا حبل مودتهم .. ترى هذا الرجل الكبير يجعل المبادر بالسلام ، كأنه يقدم معروفاً ، ويصنع إحساناً يطوق به عنقك ، وديناً عظيماً لا تقوى على سداده ..(2/73)
فشتان شتان بين الفقهين ، الأول يؤكد المودة والمحبة بين الإخوان .. والثاني يثقل كاهلها ، ويقطع دابرها ، بمنطق الحسابات الضيقة ..
وهذا أول ما في هذا الفقه من عجب .. وثاني العجب كأوله ، ذاك في طرح السلام ، وهذا في إفساح المجلس ، ففي الوقت الذي نرى فيه لزاماً على الناس أن يجلسونا ويوسعوا لنا في المجالس ، يرى هو فضلهم وكرمهم ، وحسن أخلاقهم ، وطيب أصلهم ، في هذا الصنيع ، فيرى فيه صنيعاً لا يكافأ ، وسبقاً لا يلحق ..
ومرة أخرى ، شتان شتان بين الفقهين !!
والرجل الثالث الذي لا يكافأ في صنيعه ، هو الذي يمشي في قضاء حاجتك ، ويسعى في سداد دينك ، ويجتهد في فك عسرتك ، وإدخال السرور عليك .. حقاً ، من كان هذا هو فإنه لا يكافأ .. فكيف بالذين لا يقدرون حق هؤلاء ، وكثيراً ما يردد أحدهم : ماذا فعل لي ؟! وما هو الجميل الذي صنعه ، صحيح أنه قدم لي معروفاً ، لكني لم أطلب منه هذا ، هو الذي فعل دون طلب مني ، ثم إنه شيء بسيط جداً ، لا يستحق أن أحفظه له حياتي كلها ، ويكفيه بل ويجزيه أن أقول له : شكراً ، فهذا كثير جداً على معروفه ذاك !!
ويحه من رجل ! هل تجدون ألأم منه رجلاً ، أو أقبح منه قولاً ، وأسوأ منه صنيعاً ، إنه باختصار ، لئيم ، واللئيم لا يعرف قدراً ، ولا يقدر معروفاً ، كما قالت العرب : " إذا أكرمت الكريم ملكته ، وإذا أكرمت اللئيم تمرد " .
فاحذر أخي في الله أن تكون واحداً من هؤلاء ، الذين أصبحت أعدادهم في ازدياد ..
***(2/74)
أما العجب العجاب في فقه هذا الرجل ، أن يرى في الذين يطرقون بابه ، فينزلون به حاجتهم ، ويطلبون معونته ، ويرجون مساعدته ، ويسألون معروفه ، ويرونه أهلاً لقضاء حاجاتهم ، والسعي في مرادهم ، وحل مشاكلهم ، والإصلاح بينهم ، وإزالة الهموم ، وتفريج الكرب .. أن يرى لهؤلاء فضلا عظيماً ، وكرماً كبيراً ، وديناً في عنقه ، لا يستطيع وفاءه أو قضاءه ، فمن أنزل بك حاجته لا يكافأ ، لأنه أعلى قدرك ، وعزز مكانتك ، ووثق بصلاحك ، وقدمك على أقرانك ، وانتدبك لمهمة الأنبياء والمرسلين ، وزكاك في الريادة والقيادة ، وجعلك في صف متقدم .. يحب الله أفراده ، المتزاحمين المتنافسين المتسابقين فيه .. فمن الناس أقوام انتدبهم الله واختارهم واصطفاهم من بين خلقه لقضاء حاجات ، والسعي في الملمات ، يصلح الله بهم الفساد ، ويجمع بهم القلوب ، ويوحد بجهدهم الصفوف ..
فمن انتدبك لهذا .. ذكرك بفضل الله عليك .. فله في عنقك دين لا يقضى ، وصنيع لا يكافأ!!
بالإضافة إلى أن الأخ الصادق في أخوته ، هو الذي ينزل حاجته عند أخيه ، وهو الذي يرى وجوب ذلك في عنق الأخوة ، فلا خير في أخ لا يرجو أخاه عند الحاجة ، ولا خير في أخ لا يجده أخوه عند الحاجة !!.
هب عرضك .. ليوم فقرك !!
من يقوى على امتثال أمر الأولين في هذا ؟!
بل من يستطيع هذا التحدي الكبير .. بين الهوى والشيطان من جانب ، والإيمان والمروءة من الجانب الآخر ؟!
هذه قاعدة ذهبية من قواعد الأولين في المحافظة على رابطة الأخوة ، قوية عزيزة كريمة ..(2/75)
تقوم على أساس عجيب فريد .. إنه أساس التجاوز ، أساس التنازل والمسامحة ، أساس نسيان الذات والتنكر لها ، أساس الصفح والبعد عن الانتقام ، ورد الصاع صاعين ، كما يقولون ، إنه أساس العفو و كظم الغيض .. أنه لأساس شديد ، وامتحان رهيب ، تتمحص به النفوس ، وتتميز به الصفوف ، إنه - باختصار شديد ، وإيجاز بليغ - أساس الذين يحبهم الله - سبحانه – الذين اختارهم لكرامته ، واصطفاهم صفوة من خلقه ، يصلح بهم الشأن ، ويجمع بهم ما تفرق ، ويوحد بهم ما تشتت : يكظمون غيظهم ، ويعفون عن الناس ، ويرفعون شعار : والصلح خير . والله يحب المحسنين ..
فبأمثال هؤلاء تستقيم الحياة ، ويطيب العيش ..
***
فمن هو الذي يهب عرضه .. ليوم فقره ؟!
نعم . من هو الذي يهون عليه عرضه ؟!
ويعظم عنده هول يوم الوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب ؟!
فيتصدق بعرضه على إخوانه .. بالتجاوز عن إساءاتهم ، والتغافل عن سقطاتهم ، والتنازل عن حقوقه ، ومع هذا تراه شديد التمسك بالقيام بواجباته نحوهم .. يحدوه في هذا كله .. أمل في أن يغفر الله له ، فيحوز فضله بالتجاوز عنه يوم الفقر والحاجة ، وساعة الندم والحسرة ..
والحقيقة الإيمانية تؤكد ، أن الذين يأخذون بهذه القاعدة الذهبية ، هم الذين هانت في أعينهم الدنيا ، فعلموا أنها ليست ميدان تنافس ، وأن متاعها أهون من أن يكون سبب قطيعة أو تخاصم ، أو تباغض ، أو فقدان الأحبة .. وعظمت في قلوبهم مكانة الآخرة .. فعلموا أنها ميدان التنافس ، وساحة السبق ، من فاز فقد فاز ، ومن خسر فقد خسر .. وأي خسارة تعدل خسارة الآخرة ؟!
فاغتنموا الدنيا فرصة لتسجيل المآثر الإيمانية ، والتحلي بالأخلاق النبوية الكريمة ، فجعلوها مزرعة ، غرسوها بطيب الكلام ، وحسن الفعال ، وجميل الخصال .. عفواً وكرماً ومروءةً ونبلاً وإحساناً .. تقرباً منه سبحانه وتعالى وحباً فيه ، وطمعاً في كرمه وعفوه ..(2/76)
وكما قال ابن القيم الجوزية – رحمه الله - : " .. من أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان ، فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان ، ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان ، لم تعظم عنده إساءة الناس إليه ، فليتأمل هو حاله مع الله كيف هي مع فرط إحسانه إليه ؟! وحاجته هو إلى ربه .. " .
وقال أيضاً : " أن يعامل العبد بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أ، يعامله الله به في إساءته وزلاته وذنوبه ، فإن الجزاء من جنس العمل ، فمن عفا عفى الله عنه ، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه في سيئاته ، ومن أغضى وتجاوز تجاوز الله عنه ، ومن استقصى استقصى عليه ، ... فالله عز وجل يعامل العبد في ذنوبه ، بمثل ما يعامل به الناس في ذنوبهم .. " .
تمام المعروف !!
يذكر أن أبا عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين – رضي الله عنهم جميعاً – كان رجلاً مشغولاً بالعبادة عن حب الرياسة ، قال يوماً لسفيان الثوري – رحمه الله - : " لا يتم المعروف إلا بثلاث : بتعجيله ، وتصغيره ، وستره " .
وقد أكد هذه المعاني جمع من علمائنا – رحمهم الله – منهم على سبيل المثال أبو الحسن الماوردي في كتابه ( أدب الدنيا والدين ) ، وذلك في قوله : " فينبغي لمن يقدر على ابتداء المعروف أن يعجله ، حذر قواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرص زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بقدرته عليه ، فكم واثق بقدرة فاتت ، فأعقبت ندماً، ومعول على مكنة زالت ، فأورثت خجلاً .. ولو فطن لنوائب دهره ، وتحفظ من عواقب مكره ، لكانت مغانمه مذخورة ، ومغارمه مجبورة .. " .
***
ومع هذا الفقه تجب الوقفة .. بل تطيب النفس في محطاته ، وتزكو القلوب بأنفاسه.. لأنه الفقه الذي يحفظ الود ، ويديم العلاقات ، ويرتقي برابطة الأخوة ، إلى مصاف الوفاء ، ودرجات الصدق والصفاء ..(2/77)
إدامة المعروف بين الإخوان ، بل بين الناس جميعاً ، كان الهدف الذي من أجله كان السعي ، وفي سبيله تكون التضحية ، لأن الإخوان في ألف خير ، ما كان المعروف بينهم ، يتبوأ مكانه اللائق به ، ملكاً متوجاً على عرش القلب ، تسعى الأركان كلها في خدمته وإرضائه ، وسئل هذا الإمام الجليل ذات مرة : لم حرم الله الربا ؟! فأجاب : لئلا يتمانع الناس المعروف !!.
نعم ، حتى لا يضيع المعروف ؟! ففي ضياعه الضياع ، وفي خسارته الخسارة الكبيرة .. وفي غيابه الغياب عن الوجود ..
***
أليست إجابة غريبة ؟! لكنها لطيفة ، تدل على حرص الرجل على تعميق فقه التواصل بين الناس .. وترى في التشريع كله أنه جاء لحفظ المعروف بين الأهل والإخوان .. حتى تبقى الروابط قوية ، والعلاقات حميمة ..
فحتى لا يضيع المعروف بين الإخوة .. فهاهي شروطه ، وهذه أسسه وأركانه ، يدلك عليها هذا الإمام ، ويأخذك إليها :
التعجيل : فلا يليق بذوي المعروف أن يتباطئوا في تقديم معروفهم ، بل تراهم يتنافسون في بذله ، ووضعه في مكانه .. والتنافس في ميدان المعروف والخير علامة خير وبركة في المرء ، إن لم تلمسها في ذاتك ، فراجع نفسك وحاسبها ، فجدير بمن يتخلف عن هذا الركب ، ويتردد في ميادينه .. أن يحاسب نفسه ويراجعها .. وأي معروف هذا الذي يحتاج بذله إلى مشورة ، أو تفكير ؟!!
تصغيره : جميل هذا الشرط .. أن ترى معروفك صغيراً ، وإن كان كبيراً عظيماً ، فلا يليق بصاحب المعروف ، بعد أن وفقه الله إلى تقديمه ، أن يراه كبيراً ، فيحمله ذلك على المفاخرة والتباهي .. فيرى نفسه أنه صاحب الفضل ، وصاحب الأولى ، الذي لا يسبق .. بل الواجب هنا أن يحمد صاحب المعروف الله على هذا التوفيق ، ويرى أنه ما كان ليفعل هذا إلا بتوفيق الله وفضله ، وأن على الآخر أن يحفظ للرجل معروفه ، ويشكر له فضله ، ويعترف بإحسانه، وصدق كرمه .. فبهذا يدوم المعروف ..(2/78)
ستره : وهذا هو شرط الرجال .. ، فهو الشرط الذي لا يقدر عليه حقاً ، إلا ذوو النفوس الكبيرة ، التي يعمرها إيمان نابض ، وعقيدة صادقة ، وأخلاق كريمة ، وسيرة حميدة..
***
بهذا - الإخوة الكرام - يتم المعروف .. ويدوم بين الإخوان ، بله الناس جميعاً ، فهل نسارع في التطبيق ؟!!
الصبر على الإخوان
من شيم الكرام !!
مما أثر عن الإمام الجليل الفضيل بن عياض – رحمه الله – قوله : " من طلب أخاً بلا عيب ، صار بلا أخ " .
هذا المعنى تكرر في مقالاتنا ، وتنوع في أحاديثنا ، فقد أشرنا إليه سابقاً ، لكنه الحديث الذي لا يبلى على كثرة الترداد ، ولا يمل على كثرة التذكار ، إنه حديث الأخوة ، هذه الرابطة الربانية العظيمة ، التي رعاها الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ، وتعهدها من بعده صحبه الكرام .. والحقيقة أن الحاجة ماسة لمثل هذا الحديث ، حتى تعود لهذه الرابطة مكانتها العظيمة ، التي تتربع بها تاجاً على القلوب ، تضبط تصرفاتنا ، وتهذب نفوسنا ، وتحكم ألسنتنا ، وترتقي بأذواقنا ، وتؤدب فعالنا ..
***
إنه حديث الأخوة ..
قاعدة ذهبية جديدة ، تنظم إلى أخواتها السابقات ، كي ينتظم بهن عقد الأخوة الرائع، وسينظم إليه غيرها الكثير من لآلئ الأولين وجواهرهم الثمينة النفيسة ، إن شاء الله ، تأكيداً على جمال هذه الرابطة وعظمتها ..
" من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ " ..(2/79)
فهل يدرك هؤلاء الذين يطلبون الكمال في إخوانهم ، ويفترضون ( الملائكية ) في تصرفاتهم ، ويتوقعون الحكمة في كل أفعالهم ، والرشد في كل شأنهم .. يرسمون لهم صورة النقاء المطلق ، والصفاء الخالص .. عظمة هذه القاعدة ، تتجلى في المحافظة على الإخوان ، والارتقاء بهذه الرابطة .. لأنها تقرر واقعاً ، وتتعامل مع الواقع ، بوضوح وجلاء ، فالأخ بشر ، من طبيعته الخطأ ، بل من الطبيعي أن يخطئ ، ومن المتوقع مثل هذا الخطأ ، ومن المستحيل أن لا يكون الخطأ .. لصعوبة أن تجتمع في المرء كل خصال الخير ، ومجامع النبل ، فإن رضيت منه أخلاقاً ، فقد يسوءك غيرها ، وهكذا هي الحال ، لاسيما في زماننا هذا .. وجميل ما قاله الشاعر :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإن تتبعت الأخطاء ، وتكدرت من الهفوات ، ووقفت كثيراً عند السقطات ، وضخمت السيئات ، وساءتك بعض التصرفات ، وآلمتك بعض الإشارات ، وقلت : هذا ليس من أخلاق الإخوان ، وهذا لا يليق بالإخوان ، وهذا لا يقبل من غير الإخوان ، فكيف يمكن أن يقبل من الإخوان ، وهذه والله أخلاق من لا أخلاق لهم ، وهذه تؤكد عدم الصفاء ، أو الصدق في المودة واللقاء .. وهكذا حديث نفس متألمة .. يغذيه شيطان رجيم ، تفرحه القطيعة ، وتسره الخصومة ، ويعيش في أجواء اللمز والغمز ، والشحناء والكراهية ..
من كان هذا هو نهجه ، وهذه هي طريقه ، فلن يبقي على أخ أبداً ، وصدق الشاعر الآخر حين قال :
ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث ، أي الرجال المهذب
وجميل ما أوصى به الأولون – رحمهم الله – حين قالوا : " لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته ، وارتضيت وتيرته ، وعرفت فضله ، وبطنت عقله ، عيب خفي ، تحيط به كثرة فضائله ، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله .. " .
***(2/80)
إن الصبر على الإخوان من شيم كرام الإخوان ، فحقاً لا يصبر على الإخوان ، يتحمل خطأهم ، ويغض الطرف عن جفوتهم ، ويغفر زلتهم ، وينسى إساءتهم ، ويلتمس لهم الأعذار ، ويسعى في حاجاتهم ، وإن قصروا ونسوا .. إلا الكرام من الإخوان .. فهل يكون لنا في سجل الكرام صفحة ، نسجل فيها مآثر الأولين .. ونمتثل لأمر رب العالمين : "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .. " الكهف .
إذا تركه .. فهو أخي !!
هذه قاعدة جليلة من القواعد الذهبية الثمينة التي أرشدنا إليها سلفنا الصالح في الحفاظ على أخوتنا ، والارتقاء بهذه الرابطة الربانية ، وكم هي كثيرة هذه القواعد ، التي إن دلت على شيء ، إنما تدل على مكانة الأخوة وعظمتها في نفوس القوم ..
وقاعدتنا هذه : " إذا تركه .. فهو أخي " ، تنسب إلى الصحابي الجليل أبي الدرداء -رضي الله عنه - ، الذي مر على رجل قد أصاب ذنباً ، وكان الناس يسبونه ، فقال لهم : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ( بئر ) ألم تكونوا مستخرجيه ؟!
قالوا : بلى .
فقال : لا تسبوا أخاكم ، واحمدوا الله الذي عافاكم .
قالوا : أفلا تبغضه ؟!
قال : إنما أبغض عمله ، فإذا تركه فهو أخي .
***
كم يفرحنا هذا الفقه ؟!
وكم نتمنى حكمه من جديد في واقعنا ؟!
وكم نفرح بأخ يطبقه ويعمل به ؟!
نعم ، إنه فقه كريم ، يرى المعصية من الأخ ، كالمصيبة التي تلم بهذا الأخ ، فهل يليق بالأخ أن يشمت بأخيه المصاب ، أو أن ينظر إليه من بعيد ، دون أن يقدم له النصيحة والمعونة ، أو أن يكتفي بلومه وعتابه .. وهو يراه يغرق ويتلاشى .. ولا يبادر إلى إنقاذه ومساعدته .. ألا يستحق من كان هذا صنيعه اللوم والتعنيف .. وتجريده من لقب " الأخ " .. فأمثاله لا يستحقونه ، وليسوا أهلاً له ..(2/81)
وأي مصيبة أعظم من أن يصاب الأخ في دينه ، في أن يرتكب معصية ، في أن ينحرف عن طريق الله ، في أن يتبع هواه وشيطانه .. أي مصيبة أعظم من هذه المصائب؟؟!! لماذا نقف مع الأخ حين يفقد زوجه أو أحد أبنائه .. ونتخلى عنه حين يصاب في إيمانه وتقواه؟؟!!
إن فقه الأخوة يؤكد : وجوب وقوف الأخ إلى جوار أخيه بمصيبته في دينه ، على أمل إنقاذه ودعوته وتذكيره وإرشاده ..
***
ويؤكد هذا الفقه أيضاً ، أنك معرض لأن تصاب بما أصيب به أخوك ، فالواجب يقضي أن لا تسبه ، بل تدعو له ، ويقضي أيضاً أن تحمد الله الذي عافاك وصرف عنك ما ابتلى به أخاك .. وقد تقدم هذا المعنى في مقالات سابقة أذكر منها على سبيل المثال : " لا تكن عوناً للشيطان على أخيك " .
وكم هي كثيرة أخبار الذين عابوا على إخوانهم أفعالاً وأقوالاً .. لم يلبثوا طويلاً حتى ابتلوا بها وبأشد منها .. فالحذر والحذر .. وليكن شعارك شعار سيدك أبي الدرداء – رضي الله عنه - : " أبغض عمله ، فإن تركه .. فهو أخي " .
تهلل الوجه ..
علامة سلامة القلب !!
ذكر عن زيد بن أسلم – رضي الله عنه – أنه قال : دخلت على أبي دجانة – رضي الله عنه – وهو مريض ، وكان وجهه يتهلل ( كله نور ) .
فقيل له : ما لوجهك يتهلل ؟!
فقال : " ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين : أما إحداهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً " .
***
سلامة القلب خصلة كريمة ، وقاعدة عظيمة ، تحفظ الود ، وتحمي المحبة ، وتشكل سياجاً حافظاً ، وحصناً منيعاً لـ ( الأخوة ) .(2/82)
كما أنها تحفظ ماء الوجه ، وتكسوه بنور الله ، وتعلوه بهيبة ووقار .. وترفع عند الله درجته ، وكلنا يعرف قصة ذلك الرجل الذي شهد له النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه من أهل الجنة ، ولم يكن له من عمل ، يمتاز به عن غيره من الصحابة ، إلا أنه كان سالم القلب ، يتصدق بعرضه على إخوانه ، فيحلهم من حقوقه عليهم ، ويسامحهم إن أخطأوا بحقه ... ألخ .
كما أنها تدفع عنه قالة السوء ، ومظنة الاتهام .. فالجزاء من جنس العمل ، من حمل على الناس حملوا عليه ، ومن سلم المسلمون من لسانه ، وشكوكه وريبه ، وسوء اتهاماته ، سلم من ألسنتهم وشكوكهم وريبهم .. وقيض الله له من يدفع عنه ، ويحفظ غيبته ..
***
كثيرة هي المواقف التي قد تسوغ للبعض إساءة الظن ، وإشاعة الاتهام ، وقذف الغافلين المحصنين ، فترى هذا البعض يتمترس وراء أسباب تافهة ، وأدلة داحضة ، ودعايات ساقطة ، يسول لهم الشيطان والهوى أنها قوية منيعة ، ولا بد من اتخاذها سبيلاً قويماً ، حتى يظهر الحق ، وينتصر له ، وينفي الخبث ، ويكشف المتسللين لواذاً ، دون أن يسبق هذه الحملة المشبوهة تثبت وتحقق ، ودون أن تغلف بنصح مضبوط بقواعده الشرعية الكريمة ..
***
وكمراقب .. تأخذك دهشة ، وتأسرك حسرة ، وربما يغلك يأس قاتل .. وأنت تحار في الإجابة عن التساؤلات الكبيرة ، التي تتوارد لا بل تتزاحم عليك ، تنهش سمعك ، وتدمي فؤادك ، وتسهر ليلك ، .. أهذا هو النهج الذي تركنا عليه المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ؟! أم هذا هو الخلق الذي غرسته آيات القرآن الكريم .. التي نتلوها آناء الليل وأطراف النهار ؟! فأين نحن من تعاليم ديننا الحنيف ؟! وأخلاق رسولنا الكريم ، وسيرة سلفنا الصالح ؟! أيضيع هذا كله في خضم ساحات زائلة ، ومحطات سائرة ، وحاجات عارضة ، وقضايا ثانوية ؟؟!!(2/83)
باعتقادي واعتقاد كل المؤمنين .. أن حفظ ( الأخوة ) بكل معانيها وأبعادها وآفاقها .. أجل وأعظم من الفوز بانتخابات .. أو النصر في إحدى الساحات ، فما معنى أن نفوز هنا ونخسر بعضنا أو جزءاً من تكويننا ؟! ما معنى أن ننتصر هناك ونهزم في ميدان التلاحم والتراص وحفظ القلوب سالمة ؟!
***
فمن أراد بحبوحة الجنة ، وحسن الخاتمة ، وتهلل الوجه عند شحوب الوجوه وسوادها .. فعليه بسلامة القلب .. عليه بسلامة القلب .. لتختلف الألسنة ، وتتصايح .. ويتعالى الصوت على كراهة ذلك وحرمته .. لكن حذار من سوء القلوب وفسادها ..
الإفضال على الإخوان !!
تحدثنا عن شرف خدمة الإخوان ، وعن شروط صحبتهم ، وعن بعض حقوقهم ، وعن سلامة القلوب تجاههم ، والخوف عليهم ، وضرورة المحافظة عليهم ، والذود عن حياضهم ، والسعادة بلقائهم ، والتماس الأعذار لهم ، وغير هذا كثير ، وهنا نتناول موضوعاً طريفاً في فقه الأخوة ، من معين الأولين ، الذي لا ينضب في هذا الباب ، فحديثنا عن متعة الإفضال على الإخوان ، وكيف أنها من الأمور التي تبهج النفس ، وتفرح القلب ، وأنت ترى نفسك في مقام من اختاره الله تعالى لأن يكون صاحب فضل وخير على إخوانه ..
***
فقد سئل محمد بن المنكدر – رحمه الله - : أي الأعمال أفضل ؟
فقال : إدخال السرور على المؤمن .
وقيل له أيضاً : أي الدنيا أحب إليك ؟
قال : الإفضال على الإخوان .
***
ذاك السؤال ، وهذا الجواب .. بأبسط ما يكون السؤال لغة ، وكذلك الجواب .. لكنه أبلغ ما يكون معنى ودلالة ..
فهل أحدث في نفسك شيئاً ، أو أيقظ حساً ، أو ترك فيها وقعاً ، أو أثار فيها شجوناً ، أو دعاك كلك للنظر والتأمل ؟!!
أسئلة كثيرة ، تثيرها هذه الإجابة المثيرة ، فهي في الحقيقة ليست إجابة ، بقدر ما هي تشخيص حالة ، تشتاق إليها النفوس ، في ظلال الأخوة الإيمانية ، التي أوثق عراها ، وعقد رابطتها رب العالمين : " إنما المؤمنون إخوة " .(2/84)
أسئلة كثيرة .. يمكن أن تواجه بها ، أمام هذه الإجابة العظيمة ، التي تحمل رسالة كبيرة المدلولات ، عظيمة الدلالات ، ناصعة البيانات ..
***
الإفضال على الإخوان ..
في الحقيقة لقد تركت هذه الإجابة في النفس آثاراً ، ولا أقول أثراً واحداً ، وأثارت شجوناً ، وحركت مشاعر وأحاسيس .. أبثها ولا أكتمها .. أملاً أن يحيا فينا من جديد هذه الفقه العزيز النادر .. الذي تتمحور رسالتنا الخالده حوله ، وترفع رايته ، غير أن فساد الفهم ، أذهب نصاعتها ، وأضاع حقيقتها ، وطمس معالمها ..
***
الإفضال على الإخوان ..
ياله من جواب ، ينبئك بحقيقة الرجل ، الذي ما أحب نفسه ، فأسره هواها ، وسيرته أمنياتها ، فجعل عمله في سد نهمها ، وإجابة منادي طمعها ، وتحقيق غاياتها .. بل أحب إخوانه ، أحب الإفضال عليهم ، بقضاء حاجاتهم ، والسعي بها ، وحمل أعبائهم ، وسد ثغراتهم ، والذود عن حياضهم ، وحماية ظهورهم ، وصيانة غيبتهم ..
نعم فهذا أول الدلالات ، وأعظم الإشارات .. الحب الصادق ، الحب الخالص ، نفس صافية ، وسريرة نقية ، وقلب حي نابض بالإيمان ، فلا يفقه هذا إلا من بلغ في الإيمان مبلغ الرجال ، الذين يصدقون ولا يكذبون ، ويرتفعون ولا ينحطون ، ويتطهرون ولا يتلوثون، الذين يذكرون ولا يغفلون .. مدحهم ربهم فقال فيهم : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. ) .. ( .. رجال لا تلهيهم ..) .
***
الإفضال على الإخوان ..
تجاوز حدود الأحاسيس والمشاعر ، إلى الإفضال المادي .. فقد بعث إلى صفوان بن سليم بأربعين ديناراً ، ثم قال لبنيه : يا بني ، ما ظنكم بمن فرغ صفوان بن سليم لعبادة ربه؟!! .(2/85)
فإن عجزت أن تلحق بركب الإفضال المادي على الإخوان .. بسبب ضيق ذات اليد ، فلا أظنك معذوراً في اللحاق بركب الإفضال المعنوى تجاههم .. بالدعاء لهم بظهر الغيب ، بستر عوراتهم ، بحماية ظهورهم ، بالذود عن حياضهم ، بزيارتهم ومجالستهم ، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم .. بالتبسم بوجوهم ، بلقائهم طلق المحيا .. بذكر حسناتهم .. ودفن سيئاتهم ..
هذا إفضال معنوي .. لن تخسر فيه درهماً .. ولن تغرم به .. لكن إن تنكبت طريقه ، ولم تف بشروطه ، فاعلم أن في صدرك نفساً خيثة ، وسريرة قبيحة ، وقلباً حقوداً حسوداً .. وإلا فابسط لنا عذرك .. وقل حجتك ، وسق على عكسه دليلك وبرهانك ..
***
الإفضال على الإخوان ..
فقه خاص ، وفهم متميز ..
من منا يفهم هذا .. ويصل به فقهه إلى هذا المقام .. ويرتفع عالياً حتى يحط في رحاب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حين قال :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
فقد أحب الطاعة والعبادة ، فأحبها لإخوانه .. فجعل من ماله وغاياته .. وسيلة وسبباً لتفرغ إخوانه للطاعة والعبادة ..
فهل يرقى بنا إيماننا .. وتزكو بنا أخوتنا .. فنحط مرة أخرى في رحاب .. الحب النوراني الحقيقي .. حتى نظفر غداً بمنابر النور ، في سرور وحبور .. ؟؟!!
من لم تهذبك رؤيته ..
فاعلم أنه غير مهذب !!(2/86)
رحم الله سلف هذه الأمة حين يقولون ، وحين يقررون ، وحين يوجهون ، وحين يأخذون بمجامع القلوب إلى منابع الحقيقة ، أنطق الله بالحكمة ألسنتهم ، وأصلح الشأن بقولهم ، وجمع القلوب بفعلهم ، فكان أحدهم يأبى إلا أن يكون مفتاح خير مغلاق أبواب الشر ، ومحضر إصلاح وتقارب ، ولقد بالغوا في شروطهم ، وتدقيقهم على الذين يتبوءون مجالس العلم والوعظ والإرشاد ، والذين يقومون بواجب الدعوة إلى الله ، من أمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، وفي دقة متناهية يشترط أحد سلفنا الكرام على هؤلاء فيقول : " من لم تهذبك رؤيته فاعلم أنه غير مهذب " .. وإلى شيء من هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : ( من لم ينفعك لحظه ، لم ينفعك وعظه ) ، وأضاف إلى هذا الإمام الشافعي – رحمه الله – قولاً يزيد الأمر وضوحاً ، وذلك في قوله : " من وعظ أخاه بفعله كان هادياً".
***
إنه شرط قاس ، إنه شرط كبير وكبير جداً ..
( من لم تهذبك رؤيته ) متى وأين وكيف ؟!!
رؤيته أين .. رؤيته متى .. رؤيته كيف ..
نعم .. ( من لم تهذبك رؤيته ) ليس في ميادين الأقوال والتنظيرات ، والتأطيرات متشدقاً بالكلام الموزون ، والعبارات البليغة ، والخطب الرنانة .. بل رؤيته في ميادين العمل والتطبيق .. في ميادين الحوار عند تصادم الرؤى ، واختلاف الآراء .. عند الأخذ والعطاء .. عند البيع والشراء .. عند الغضب والرضى .. هل تكون عينه كليلة عن العيوب عند الرضى ؟! ومبصرة متفتحة عند الغضب تتصيد الأخطاء ، وتدفن الحسنات ، وتتجاوزها ؟!
رؤيته في حبه وبغضه .. هل يعميه الحب ، ويغذيه البغض والكراهية ؟!
رؤيته في ميادين الطمع .. هل تستخفه وتنسيه فينافس كما يتنافس أهل الدنيا، ويسابق كما يتسابقون ، ويزاحم بالمناكب كما يزاحمون ؟! أم تراه زاهداً قانعاً متورعاً ثقيلاً موزوناً..؟!(2/87)
رؤيته في مواطن الجزع .. هل يولي الأدبار خائفاً ، أو يرفع راية الذل مستسلماً ؟! أم تراه ثابت الجنان ، قوي الإيمان ، ساطع البرهان .. مقبلاً غير مدبر ؟!!
كثيرون – في أيامنا هذه – هم الذين يعظون ويخطبون ويتكلمون فيعجبك في هذا كله لفظهم ، لكن سرعان ما يتحول إلى هم ونكد شديد حين ترى جزءاً من ممارستهم العملية ، وسلوكهم الواقعي .. لأنك ترى بوناً شاسعاً .. بين اللفظ واللحظ .. ما تسمعه أذنك غير الذي تراه عينك .. أذنك تسمع خبراً سرعان ما يكذبه لحظ عيونك ..
***
ماذا أرادوا بالرؤية واللحظ ؟!
إنهم أرادوا شيئاً عظيماً جليلاً غير الذي تسمعه الآذان ، ولا يمكن للآذان أن تدركه ، ما لم يكن للعيون مشاركة فاعلة ، ومساهمة جادة ، هذا الشيء يتمثل في توفيق الله ورضاه ومحبته ، التي تنعكس على صاحبها هيبة ووقاراً ، وخلقاً جميلاً، وتواضعاً كريماً، وقناعة كبيرة ، وتسليماً حميداً ، وهدوءاً آسراً ، وطمأنينة ثابتة ، ونوراً خارقاً ، يخترق الحجب ، حتى يستقر في أعماق القلوب ، فيأسرها بجلاله وجماله الرباني ، ونوره الذي اكتسوه حين اختلوا به – سبحانه - في ظلمات الليل ..
والموفق من الدعاة إلى الله هو الذي يراعي اللحظ كما يراعي اللفظ ، يحسب لحظ الناس ، كما يحسب اللفظ ، حين يقف خطيباً أو واعظاً ، وما أكثر الذين يحرصون على تنميق ألفاظهم ، ولا يتورعون عن الإساءة إلى أنفسهم ، في ميادين أعماله وأفعالهم ..
***
ولا يؤتي الأمر أكله ، ولا تستقيم طريقته ، ولا تطيب ثمرته ، إلا حين يشد اللحظ من أزر اللفظ ، فمن المبادر ؟
والأولون إنما بلغوا المنزلة ، وأدركوا الدرجة ، ونالوا الغاية الكبرى ، بهذا السر العظيم .. الذي كشف غطاءه عبد الواحد بن زياد وهو يتحدث عن الإمام الحسن البصري – رحمهما الله - : " ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه ، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه".(2/88)
بصحبة الصالحين .. تطيب الحياة !!
كان ذو النون المصري – رحمه الله – يقول : بصحبة الصالحين تطيب الحياة ، والخير مجموع في القرين الصالح ، إن نسيت ذكرك ، وإن ذكرت أعانك .
وقال أحدهم له يوماً : من أجالس ؟!
فقال : " عليك بصحبة من تذكرك الله – عز وجل – رؤيته ، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه ، ويزهدك في الدنيا عمله ، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ، ولا يعظك بلسان قوله " .
***
وقد يتساءل بعضنا : وأين أجد مثل هذا ؟! الذي يحمل هذه الصفات النادرة ، إن البحث عنه شاق ومضني ، والعثور عليه أكثر مشقة وتعباً ، فما الحيلة ؟!
وأريد أن أتناول الموضوع من جانب آخر ، مؤكداً من خلاله أن أمثال هؤلاء موجودون ، ولا تكاد تخلو منهم حقبة زمنية، وليس من الصعب العثور عليهم ، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فينا نحن ، وأرجو أن تتسع صدورنا لسماع الحقيقة .. فينا نحن ، وليس في الذين تحققت فيهم هذه الشروط ، فينا نحن الذين لا نبحث عن أمثال هؤلاء ، ولا نحرص على مجالستهم ، ولا نصبر النفس في مجالسهم ، بل لا يحلو لأحدنا إلا أن يصفهم بأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب ، ويعيشون في زمان غير زمانهم ، إنهم بصراحة معقدون ، لا يحبون الحياة ، ويكثرون من قائمة الممنوعات ، يا أخي أنا بصراحة لا أحب الجلوس مع أمثال هؤلاء ، حتى ( النكتة ) لا يضحكون لها ، بل يحاسبونك عليها ، ما هذا التعقيد ، الحياة ليست هكذا .. الحياة ساعة لربك وساعة لنفسك .. هذا هو منطق بعضنا ، وهو يتحدث عن هؤلاء القوم الصالحين ..
هذه هي الحقيقة ، أننا لا نملك إيماناً حقيقياً ، يحملنا أولاً على البحث ، ثم على الصبر ثانياً في المجالسة ، إن مجالسة الصالحين عبادة تحتاج إلى صبر عند أدائها ، وصدق وإخلاص في إتقانها ، ولا يقوى على هذا ضعيفو الإيمان ..(2/89)
فكما يستثقل بعضنا القيام بأداء الطاعة على وجهها ، كأن يؤخر الصلاة عن وقتها ، وتفوته الجماعة في المسجد ، وغير ذلك من مظاهر الكسل والتقاعس ، فإن هذا البعض ، بل الكثير منا يستثقل زيارة الصالحين ، ومجالستهم ، في الوقت الذي يخف فيه في زيارة أهل الدنيا ، ويطيل في مجالستهم ، ولا يقصر في استغابة الآخرين ..
فالنفس تحب المجالس التي تنطلق من قيودها ، وتخلو من الرقيب والمحاسب أو الزاجر .. فالحقيقة تؤكد أننا نتبع النفس هواها ، ولا نبذل جهداً في مخالفتها .. ولو وقف الواحد منا مع نفسه وقفة صدق ، لعلم أنه يتعمد الانصراف عن مجالس هؤلاء الصالحين .. الذين يعرف منهم غير واحد .. إلى مجالس غيرهم .. فأين الخلل ؟!!
الخلل فينا نحن .. فكم مرة فكر أحدنا بزيارة إيمانية خالصة .. يزداد فيها قرباً من الله ، وبعداً عن معاصيه ؟!! كم مرة حاول أحدنا أن يغادر مجلساً يكثر فيه اللهو اللغو ؟! كم مرة مارس أحدنا دور الناصح أو الواعظ في مثل هذه المجالس ؟!
الحقيقة تؤكد .. أننا لا ندقق كثيراً في اختيار الجلساء .. وتؤكد أيضاً أننا لا نضع شروطاً بل لا نفكر من حيث المبدأ في هيئة مجالسنا .. ولا في موضوعاتها ،، ولا في أهدافها أو غاياتها .. ومن هنا ضاعت الأوقات في غير فائدة تذكر .. بل باءت بكثير من الحسرات والآثام .. فهل نبادر .. في وضع المقاييس اللازمة .. والمعايير الصادقة للمحافظة على المجالس .. من ناحية .. وفي المبادرة للصبر في مجالس الصالحين .. نرفع شعار الأولين : " تعال نؤمن ساعة ..
ما أعظم أن تأخذ المجالس عندنا اهتماماً حقيقياً .. ننتقي لها الجليس ، ونحدد الوقت المناسب لها ، ونختار الموضوع النافع .. بهذا فقط نكون ممن يغتنمون أوقاتهم .. فلا تكون عليهم ترة وحسرة يوم القيامة ..
كدر الجماعة
خير من صفو الفرد !!(2/90)
كانت هذه هي قاعدة الخليفة الراشد، ووصية الامام علي رضي الله عنه لاخوانه، الذين طالما ردد على اسماعهم هذه القاعدة الذهبية »كدر الجماعية خير من صفو الفر«، رددها على اسماعهم كثيرا كي تستيقنها قلوبهم، وتعيها عقولهم، وتستقر حيث مستودع الايمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إنه كان يريد أن يقول لهم انها باختصار الجماعة، ذات التكاليف والواجبات التي تقصر دونها النفوس التي تقودها رغبات او اهواء!!
فقد كان يعلم -رضي الله عنه- ان الالتزام في اطار جماعي والحفاظ على سلامة هذا الالتزام امر ليس بالسهل الهين، يستطيعه كل من اراد لمجرد الارادة، بل لا يقوى عليه ولا يصمد معه الا صاحب الهمة العالية، والنفس التي استعلت بايمانها، فوق الذات وحبها حتى عانقت عنان السماء، شوقا ورغبة بما عند الله سبحانه وتعالى.
ان للالتزام في الاطار الجماعي والعيش ضمن مجموعة ما متطلبات ومستلزمات لابد ان يدركها ويعيها كامل الوعي كل من اراد الانتساب ورضي لنفسه مجموعة ما، ادنى هذه المستلزمات واقلها سلامة الصدر، والتي لها اعظم الاجر، واما اعلاها فالايثار، ان يكون صدره سالما من كل شائبةنحو افراد هذه المجموعة، وفي الوقت نفسه يؤثرهم ويقدمهم على نفسه ويذود عن حياضهم ويحفظ اسرارهم وينصح اليهم ويقبل نصحهم وينصر مظلومهم وظالمهم ويحب لهم ما يحب لنفسه، يقيل عثراتهم، ويقبل اعذارهم، ويغفر زللهم ويتجاوز اساءتهم ويصفح عن سيئهم.
كل هذه التبعات، وغيرها كثير، من التبعات الثقيلة، والمتطلبات الصعبة الشاقة..التي لا تقوى عليها الا النفوس الكبيرة التي لم يستبد بها الهوى، او يتمكن منها الطمع.. او ينغرس فيها حب الذات والاعجاب بالرأي..(2/91)
ان الالتزام باطار جماعي امر يعني الاندماج والتفاني في هذه المجموعة حتى تغدو اهدافها اهدافه، وآمالها آماله، وتطلعاتها تطلعاته، وآلامها آلامه، ودستورها ومنهاجها دستوره الذي لا يفرط فيه قيد انملة، ومنهاجه الذي دونه الروح والمال.. فيكون افرادها الكبار عنده بمنزلة الاب، والاقران بمنزلة الاخوة.. والصغار بمنزلة الولد، حتى تصبح المجموعة وكانها اسرة واحدة يظللها سقف واحد، وبيت واحد.
وبعد، فقد غابت عن كثير من الناس في زماننا هذا الكثير من هذه المعاني الجليلة، والدلالات العظيمة، فظن بعضهم ان على المجموعة ان تتفانى في الافراد، او ان تأخذ موقعها خلف بعض الاشخاص، وهذا ما رفضه الاسلام وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم ان يتضخم الفرد على حساب المجموعة او ان تحاسب المجموعة على اساس تصرف بعض افرادها، اوان تتهم باتهام احدهم ، فرفض الاسلام المبالغة في الفاظ التبجيل والتفخيم والاطراء حتى لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم كما انه رفض الاستبداد بالرأي والطغيان بالمواقف في الاطار الجماعي، لما له من اثر سلبي على الجماعة، فالزم رأس الجماعة الاولى الرسول صلى الله عليه وسلم بالشورى، كما انه اعطى الجماعة واضفى عليها صفة وصبغة (العصمة) من الضلال والانحراف وكذلك رغب في طاعة اميرها، والزم تنفيذ اجماعها..
باختصار لقد بالغ الاسلام العظيم في ذكر الوسائل، وسن القوانين التي تحفظ الجماعة وتصونها، بل لقد ركز حتى على كثير من الجزئيات والتفصيلات الدقيقة التي تساهم في حفظ الجماعة ورد السوء عنها، مما يدلل على العناية الربانية الخاصة بـ »الجماعة« نظاما وتنظيما.
وبدون هذه الضوابط والمرتكزات والجزئيات تصبح الجماعة في نظر البعض عذابا، والبعد عنها رحمة، حتى تغدو اتفه الاسباب مسوغا للخروج عليها والابتعاد عنها .. وما ذلك بالمنهج المختار. هدانا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.
فقد الأحبة غربة !!(2/92)
رحم الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه – وهو يقرر أن فقد الأحبة من الإخوة والأصدقاء غربة ، ويا لها من غربة ! إنها غربة حقيقية ، فالدنيا شاقة بتكاليفها ، متعبة بمتطلباتها ، موحشة في دروبها ، مخيفة بكثرة مصائبها ، أفراحها لا تتم إلا بمشاركة الآخرين ، ولا تحسن هذه الأفراح إلا بهذه المشاركة ، وأتراحها لا تمر بسلام إلا بمشاركة الآخرين .. فكيف إذا جاءت المصائب ، وحلت بدارك الأحزان ، وكدرت صفوك الآلام ، من لها – وإن ملكت ملايينها وقصورها و ... - ؟! يواسي بالكلمة ، ويدفع بالبسمة، ويحيي الأمل بالزيارة ، ويمسح الدمعة ، ويدخل الفرحة ؟!
فإن فقدت الصديق .. ابك ..بكاءً مراً شديداً !!
فهذا هو الفقد الذي يستحق البكاء .. لأنه غربة حقيقية .. تفقد بفقده المؤنس والمعزي والزائر والمواسي .. والمؤازر .. تفقد بفقده دعوة في ظهر الغيب .. تفقد بفقده يداً تصافح ، وقلباً يحب ، وروحاً تعانق .. وثغراً يبتسم ..
فقد الأحبة غربة ..
نعم .. وما هي الغربة ؟!
وهل سمي الغريب في وطن ما ، أو وصف أنه في غربة .. إلا بفقد الأحبة وندرتهم، وقلة الأصحاب والبعد عنهم .. وكثيراً ما يسمى بعض الناس في ديارهم غرباء .. وذلك لقلة معارفهم ، ونفرة الناس منهم ، بسبب فساد أخلاقهم ، وسوء معاملتهم ..
***(2/93)
والحقيقة الثابتة التي أخبرنا بها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – غربة هذا الدين في بدايته ، ثم غربته في نهايته ، ثم كيف طلب إلينا أن نعيش هذه الدنيا في غربة .. فالدنيا دار غربة .. والمؤمن في غربة ، بل إنه الغريب الوحيد فيها ،، فكيف يتقوى على هذه الغربة ؟! وكيف يصمد لها وفيها ؟! وكيف يتجاوز تحدياتها ، ويصبر على لأوائها ، وينتصر على عقباتها ؟! إذا لم يكن في حياته حريصاً على صحبة تعينه ، ورفقه تؤيده ، وجماعة تحفظه تزوره وترعاه ، تقوم مسيرته ، وتنتقد مواقفه ، فتسد الخلل .. وتعزز الصواب .. إن هذا يكشف لنا جانباً من أسرار التوجيه النبوي الكريم " الجماعة رحمة .. " .
***
وما أكثر ما تضيق الدنيا على ساكنها حيناً ، فتشتد غربتها عليه ، ولا تنفرج إلا بكلمة من أخ في الله ، أو في زيارة كريمة .. أو في هاتف يحمل بشرى .. أو نخوة أصيلة "ابشر " و " لا تهتم " .. ما أجملها كلمات ! تنزل منزلها ، وتفعل فعلها ، فتبدد سحب الكآبة، وأجواء اليأس والحزن ..
هذا الذي يؤنس في الغربة .. ويحمل وقت الشدة ، ويحضر عند الأزمة ، ويدق صدره عند الحاجة .. هذا الأخ فقده غربة !!
هذا الأخ فقده مصيبة ، أعظم بها من مصيبة !!
فلا تفرط بأخيك لذنب يغتفر .. أو لكلمة عابرة .. أو لموقف سهل .. أو لحاجة بسيطة !!
لا تفرط به .. وإن شط أو خلط ..
لا تفرط به .. وإن نسي أو قصر .. ولا تيأس من تذكيره ، ولا تقابل التقصير بالتقصير .. أو النسيان بالنسيان .. كن المبادر وفز بقصب السبق ، وفضل البادئ ..
لا تفرط به .. فتزداد في الدنيا غربة إلى غربة ..
احرص على تقليل غربتك بتمسكك بإخوانك .. واحذر أن تجعل لأحدهم وزناً مادياً ، أو قيمة محسوسة .. فلا يعدل بالأخ الكريم وزن مهما بلغ ، ولا قيمة وإن ظنها البعض كبيرة ..
لا تفرط به .. واعلم أن التفريط به غربة أليمة ، وحسرة عظيمة ..(2/94)
فلا تفرط به .. وحاول أن تفعل بنصيحة علي – رضي الله عنه - : " عاتب أخاك بالإحسان إليه ، واردد شره بالإنعام عليه " .
نعم ، حاول أن تتهم نفسك عندما يسيء إليك أخوك ، ثم بادر إلى " حصد الشر من صدره بقلعه من صدرك " .. والله يرعاك ويحفظك أخاً كريماً يؤثر على نفسه ، ويحب لإخوانه ما يحب لها .. ثم بعد ذلك انعم بسعادة الانتصار على الذات ، ومخالفة الهوى ، سعادة الإيثار ، والبعد عن الشح والأنانية البغيضة ، التي تورث نكداً وكدراً !! .
أرجو أن يكون .. كلانا على خير!!
كتب أحدهم إلى الإمام مالك - رحمه الله - ينكر عليه اشتغاله بالعلم ، ويدعوه للتفرغ إلى العبادة ، فكتب إليه الإمام مالك :
" إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق ، فرب رجل فتح له في الصلاة ، ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الصدقة ، ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الجهاد .. ونشر العلم من أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فتح لي فيه ، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر !!" .
منهج كريم ، في الرد والبيان ، في الأدب والدعوة ، فكل ميسر لما خلق له ، ما دمت في باب من أبواب الخير ، فعزز وبارك وادع في ظهر الغيب .. ولا تكن من الذين يسدون أبواب الخير ، أو يقللون من شأن داخليها ، أو الذين يضعون العقبات في دروب الدعاة ، ماداموا على المنهج ، وعلى الجادة .
كلانا على الخير !!(2/95)
خلق لا بد أن يسود واقع الدعاة إلى الله ، فلا يظن أحدهم بأخيه إلا خيراً ، فتنجو به من رصد إخوانك وتعقبهم ومراقبتهم ، وسوء الظن بهم ، لو فعل كذا لكان خيراً له .. لو قال كذا لكان موفقاً .. لو حافظ على هذا العمل لكان خيراً له من كل أعماله !! لو أنه سكت لكان خيراً له من هذا الحديث .. ما فائدة وعظه وإرشاده وهو لا يقوم ولا يصوم .. وهكذا مما يطول عده ، ويصعب حصره .. حتى في بعض القضايا الخاصة ، التي تعد من العورات، يدس بعض الدعاة فيها أنوفهم !!
كلانا على الخير !!
هذا الشعار لو رفعه العاملون في حقل الدعوة إلى الله ، لساعد على التقارب والتواصل ، والتكامل في ميدان الدعوة ، والانصراف التام إلى التأسيس والبناء .. وعدم إضاعة الوقت فيما لا فائدة منه ترجى ، أو خير يتحصل ..
كلانا على خير ..
الخير أقل ما يمكن أن تظنه بأخيك ، فلا يجوز لك أن ترميه بغير الخير ، مادام فعله يحتمل باباً من أبوابه ، أو يصرف في وجه من وجوهه ، وإذا كنت تظن في نفسك الخير، فلا أقل من أن تعامل إخوانك معاملة نفسك ، وهذا هو العدل في المعاملة ، أما الفضل فيها فأن تعاملهم بأحسن مما تعامل به نفسك ، وتحب لهم أحسن مما تحب لنفسك .. وهكذا.
كلانا على خير ..(2/96)
في الحقيقة ما تم ذكره جزء يسير من الفوائد الجمة والعظيمة ، التي يمكن أن تجنى من هذه القاعدة الكريمة ، إن طبقت بصدق وإخلاص ، على مستوى الأفراد ، وعلى مستوى الحركات ، العاملة في الساحة الدعوية ، فلا يليق بالعاملين في هذه الساحة ، أن يحتدم بينهم نزاع يشهده العامة من الناس ، فندخلهم ميدان الحكم على الدعاة ، فيفاضلون بينهم ، بشكل أو بآخر ، وهم في الحقيقة ليسوا أهلاً لهذا الحكم ، أو لإجراء هذه المفاضلة ، وبالتالي ندخل في دوامة لها أول ، وليس لها آخر ، تكون نتيجة ذلك عند عامة الناس ، ممن لم يدخلوا ميدان الدعوة ، الذين لا يلتمسون الأعذار ، ولا يحسنون الاعتذار ، ولا التمييز كثيراً بين الغث والسمين ، الانفضاض من حولنا ، والابتعاد عنا ، وهجر مجالسنا ، والاستهزاء بنا ، والتقليل من شأننا ، وبخس بضاعتنا ، بحجة أن الخلاف محتدم بيننا ، هذا يطعن ، وهذا يشتم ، وهذا يقدح ... وهكذا ، مسلسل ممجوج ، يكره الناس أحداثه حين تجري بين عامتهم ، فكيف بها حين تحدث بين من يرون فيهم القدوة والتقوى .. ؟!!
أملنا كبير .. أن نرفع هذا الشعار ، ونعمل بمضمونه بصدق وإخلاص ، حتى ندفع عنا مقالة السوء ، وحتى لا نكون فتنة للذين آمنوا ..
ومعاً إلى .. " كلانا على خير .. " فالأعمال الدعوية ، والبرامج المتنوعة ، والجهود المتوازية في الحركات الدعوية ، والمؤسسات الإسلامية .. ثغرات .. وكل قائم فيها على ثغرة !.
يدل على فضل الكريم حياؤه !!(2/97)
" الحياء " خلق رفيع ، ورثه سلفنا الصالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ، فحرص على أن يغرس بذرته في نفوس أتباعه، فضرب من نفسه في ذلك مثلاً ، فرغب به فعلاً وقولاً ، فأثمر هذا الحرص في نفوسهم خيراً، فانطلقت أقوالهم تؤكد على أهمية هذا الخلق ، على أنه خلق الإسلام ، فإن لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام الحياء ، وتبشر أنه لا يأتي الحياء إلا بخير ، لأنه – كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم – خير كله ، ولقد قرن بينه وبين الإيمان ، فإذا رفع الإيمان رفع الحياء ، وإذا رفع الحياء رفع الإيمان ..
ومن هنا ، وبسبب هذه التوجيهات النبوية الكريمة ، جاءت أحكام سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – تؤكد : " أن من قل حياؤه ، قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه " ، و أن " من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله " .
وذهب الحسن البصري – رحمه الله - إلى أن " الحياء والتكرم خصلتان من خصال الخير ، لم يكونا في عبد إلا رفعه الله بهما " .
وذكر الحياء عند عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – فقالوا : الحياء من الدين ، فقال: " بل هو الدين كله " .
***
هذا هو الحياء الذي يسمو به صاحبه ، وتعلو به مكانته ، وتصان به حرماته ، وتحفظ به دنياه وآخرته .. وعظ أحدهم أخاه فقال : " إذا دعتك نفسك إلى كبيرة فارم بصرك إلى السماء ، واستح ممن فيها ، فإن لم تفعل فارم ببصرك إلى الأرض ، واستح ممن فيها ، فإن كنت لا تخاف ممن في السماء ، ولا تستحي ممن في الأرض ، فاعدد نفسك في عداد البهائم!".(2/98)
في فقه هذا الواعظ وميزانه ، يزداد الذين يجب أن يكونوا مع البهائم كثرة ، وإنها لكثرة تدعو إلى الحزن والأسف ، لأنها سبب الهلاك والخسران في الأمم والشعوب ، والأفراد والجماعات ، ويبقى الناس ما بقي حياؤهم ، ويذهبون بذهابه ، وصدق الذي قال : " إذا أراد الله بعبد هلاكاً ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً " .
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
ففيم يختصمون ؟!
حين ولي أبو بكر – رضي الله عنه – خلافة المسلمين ، بعد انتقال الرسول – صلى الله عليه وسم – إلى الرفيق الأعلى ، ولى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر القضاء في المدينة ، فبقي مدة من الزمن ليست بالقصيرة ، لم يختصم إليه إنسان ، ولم يختلف في مجلسه اثنان ، فجاء أبا بكر طالباً إعفاءه ، فقال له : أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر ؟!
فقال عمر : لا يا خليفة رسول الله ، ولكن ليس بي حاجة عند قوم مؤمنين ، عرف كل منهم ما له من حق ، فلم يطلب أكثر منه ، وما عليه من واجب ، فلم يقصر في أدائه ، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه ، إذا غاب أحدهم تفقدوه ، وإذا مرض عادوه ، وإذا افتقر أعانوه ، وإذا احتاج ساعدوه ، وإذا أصيب واسوه ، دينهم النصيحة ، وخلقهم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ففيم يختصمون ؟! .
***
نعم ، ففيم يختصمون ؟!!
ولماذا يختصمون ؟!
وعلى ماذا يختصمون ؟!
وأي شيء هذا الذي يستحق أن يختصموا عليه ؟! أو أن يتدابروا لأجله ؟!
قوم بهذه الأخلاق .. لا حاجة بهم إلى قضاة ..
قوم صدقوا في إيمانهم .. لا حاجة بهم إلى محاكم ومحاكمات .. حتى تستقيم حياتهم ، وتزكو نفوسهم ..
قوم على الإيمان ، صفاتهم .. عرفوا ما لهم فلم يتجاوزوه ، وما عليهم فما أنكروه .. علام يختلفون ، وفيم يختصمون ؟!(2/99)
نعم ، إن عظيم مشكلاتنا أننا نطلب أكثر من حقوقنا ، ونتجاوز إلى حقوق غيرنا ، ونعتدي عليها ، ولا نؤدي ما علينا من حقوق .. هذه هي المشكلة أننا نصر على أخذ حقوقنا وافية كاملة ، في الوقت الذي نتهرب فيه من تسديد الحقوق ، والوفاء بالوعود ، وأداء الواجبات .. كأن الله خلقنا وحقوقنا معلقة بأعناق الناس ، وأعناقنا خالية من كل الحقوق والواجبات ..
يرى أحدنا لزام الوفاء بحقوقه ، وقيام الآخرين بواجباته كاملة ، ويرى كذلك لزام أن يقبل الناس أعذاره ، ويسوغوا أخطاءه ، ولا يرى شيئاً من ذلك يلزمه .. أليس هذا أس الداء ، وأصل البلاء ؟!!
ولو أننا عرفنا حقوقنا فما تجاوزناها ، ووحقوق غيرنا فأديناها .. ما خسرنا أحداً، ولا خاصمنا أحداً ، ولا ساء لنا جوار ، ولا تقطعت بيننا أرحام ، ولا نبت بنا ألفاظ، ولا استبد بنا غضب !!
لكن .. من أين لنا بهذا الوقاف عند حدوده ؟! يعرف فيلزم ، يستسلم للحق راضياً، له الحق أو عليه ؟!!
***
وحين يستسلم الجمع للحق ، ويكونون جنوداً مخلصين في ميادينه ، ينتصرون له، على القرابة ، والصداقة ، والصحبة ، والولد ، والزوجة .. تصفو القلوب ، وتسلم النفوس من الشح ، والبغض ، والحسد ، والكراهية .. عندها فقط نحب لإخواننا وجيراننا وأهلنا ما نحب لأنفسنا .. عندها فقط نفقد الغائب ، ونعود المريض ، ونعين الفقير ، ونساعد صاحب الحاجة ، ونواسي صاحب المصيبة ، شأننا النصيحة .. لا نبحث لأحد عن فضيحة .. أمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر .. نغفر الزلل ، ونتجاوز الإساءة ، ونقبل العذر ..
إذا كنا هكذا .. هل نكون بحاجة إلى محاكم ومحاكمات .. ؟!!
إذا كنا هكذا ففيم الخصومة أصلاً ؟؟!!
***(2/100)
وأعتقد أن المحاكم والمحاكمات .. مهما بلغت في العدل شأواً ، لا تشيد مجتمعاً نظيفاً سليماً ، خالياً من المصائب والمتاعب .. ولا تقوى على تنظيف القلوب ، وحصد الشرور منها .. هذا بالنسبة للمجتمعات عامة .. فكيف يكون الأمر بالنسبة للجماعات والحركات الإسلامية .. التي تسعى لتطبيق منهج ، وتأسيس بنيان ، وصياغة إنسان .. ؟!!
يا ربيع ، اكسُ ألفاظك !!
قول جميل ، وتوجيه رائع من توجيهات الإمام الشافعي - رحمه الله - ، يحث فيه على كسوة الألفاظ ، وأن لا تكون عارية ، مما يجملها أو يزينها .. أو أن تكون عارية من الحق والصواب .. فكسوة الألفاظ ، بجمالها ، ورقتها ، وبصوابها وصحتها ، وإلا فإنها كاسية عارية ، بما تحمله من فضاضة وغلظة ، وعدوان واعتداء .. هذه الألفاظ العارية الكاسية لا ترى الجنة ولا تشم رائحتها .. لأن فيها مخالفة واضحة وصريحة ، للتوجيهات القرآنية ، والإرشادات النبوية .. حيث جاءت آمرة بالحسن والإحسان ، والبعد عن الفحش والبهتان .. "إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه " رواه مسلم . " ومن أعطي حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير " رواه أحمد والترمذي . " فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " صحيح رواه أحمد .
***
ولا يكفي لكسوة الألفاظ في ميدان ( الأخوة ) الرحب ، أن تكون صواباً ، بل لا بد لاكتمال كسوتها ، أن تكون لينة سهلة ، رقيقة عذبة .. تجسد قول الله - تبارك وتعالى - : (أذلة على المؤمنين ) .. وهذه الذلة تترجمها الألفاظ ، وتسمو بها السلوكيات ..
بل نحن بحاجة لهذه الكسوة بشقيها اللين والصواب ، في ميدان ( الدعوة إلى الله ) أيضاً ، امتثالاً لأمر الله - تعالى - حين أمر موسى - عليه السلام - أن يذهب وأخوه إلى فرعون ، فكان التوجيه : ( فقولا له قولاً ليناً ) .(2/101)
فعليه أنت بحاجة إلى كسوة ألفاظك كسوة كاملة .. في ميداني الأخوة والدعوة .. على حد سواء .. فلا يجوز أن تتجاوز الحد في ألفاظك مع إخوانك ، العاملين معك في ميدان الدعوة إلى الله .. ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) .. والألفاظ علامة دالة على ما في القلوب ، من رحمة وحب ، أو مشقة وغلظة ..
وكذا مع الناس جميعاً ، وأنت تدعوهم إلى الله ، أمراً بالمعروف ، ونهياً عن المنكر .. ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ..
***
وعلى هذا فليس بداعية من حرم الرفق والحلم والأناة .. وليس بداعية من يفرق ولا يجمع .. يشتت ولا يوحد .. يفسد ولا يصلح .. وليس بداعية من كان فاحشاً متفحشاً .. " مهلاً يا عائشة ، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ! " وفي رواية مسلم : " لا تكوني فاحشة ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش " . هذا ما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حين ردت على اليهود مقالتهم في رسول الله : السام عليك ( الموت ) ، وزادت : " ولعنكم الله ، وغضب عليكم " .. وحين احتجت بقولهم ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم ، فيستجاب لي ولا يستجاب لهم فيّ " .
***
فمهلاً ، أخانا في الله ، حفظك الله ورعاك .. إن الداعية لا يليق به أن ينزل منازل الذين ظلموا أنفسهم ، ولا أن يتفوه بما تفوهت به ألسنتهم ، ولا أن تزل به قدمه حيث زلت أقدامهم ..
فمهلا .. ولا تكن فاحشاً في لفظ أو فعل ..
***
أخي الحبيب .. اكس لفظك ، فقد نبا ..
اكس لفظك ، فقد قسا ..
اكس لفظك ، فقد اشتط في غربته ، وزاد في وحشته ..
اكس لفظك ، في بيتك مع زوجك وأبنائك ، مع والديك وأشقائك ... في وظيفتك مع زملائك ومدرائك ... في الشارع مع العامة والخاصة والكبير والصغير ... في الدعوة إلى الله مع إخوانك وأعوانك .. اكس لفظك ، واستر عورته ، واحفظ هيبته !!(2/102)
إلى اللقاء ...
حيث منابر النور ..
يبقى من الحديث آخره ، ونختم بهذا التذكير ، الذي لا بد منه ، لسلامة الوصول ، وحسن القبول ، بعد هذا التجوال الكريم ، والعيش الرغيد ، والظلال الوارفة ، مع سادتنا الأولين ، وهم يقنون ويقعدون ، لأخوة راسخة ، وبنيان شامخ ، أملنا أن نجد فيها الزاد لقلوبنا ، والقوة لإيماننا ، والتزكية لنفوسنا ، والقداسة لأخوتنا ..
فحري بنا أن تثمر هذه المحطات ، في نفوسنا إيثاراً ، وفي قلوبنا رحمة ، وفي تصرفاتنا ضبطاً ، وفي أفعالنا ليناً ، وفي أقوالنا روعة ، وفي صدورنا سلامة .. وفي أخوتنا صلابة ومتانة .. في الحفظ والرعاية ..
حري بهذه المحطات ، أن تمسح أدران نفوسنا ، وتغسل فساد قلوبنا ، وحسد عيوننا ، وغيبة ألسنتنا وبطشها ..
حري بهذه القواعد ، أن يمتد بها وعينا ، ويزداد بها حبنا ، فننتصر على أهوائنا وشهوات نفوسنا ، فلا يرى أحدنا نفسه إلا طائفاً حول الحق ومعه ..
حري بهذه المحطات الأخوية الإيمانية .. أن تكظم غيظنا ، أن تكبح جماح غضبنا، أن تخرس ألسنتنا ، أن توقف بغينا ، أن تنهي تدابرنا ،وتقاطعنا .
أن تؤكد تواصلنا ، أن تسمو بأخلاقنا ، أن تهذب طباعنا ، أن ترتقي بنا وتسمو..
فالأخوة الصادقة .. بداية الرحلة إلى منابر النور .. ومنازل الفرح والسرور .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله لعباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء .. قيل : من هم لعلنا نحبهم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور ، وهم على منابر من نور ، لا يخافون إذ خاف الناس، ولا يحزنون إذ حزن الناس ، ثم تلا : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " [يسن 62 ] .(2/103)
... وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل على الناس بوجهه فقال : ( يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، فيغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله .. فقال أعرابي : يا رسول الله انعتهم لنا ؟ جلّهم لنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي ، وقال : هم ناس من أفناء الناس ، ونوازع القبائل ، لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله ، عز وجل ، وتصافوا ، يصنع الله ، عز وجل ، لهم منابر من نور يجلسهم عليها ، فيجعل وجوههم نورا ًوثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون ، وهم أولياء الله لا خوف عليه ولا هم يحزنون ) .(2/104)