قواعد أصولية.. واقتراحات عملية للتعاون بين العاملين للإسلام
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
اجتماع المسلمين وتعاونهم فيما بينهم، بل وتعاونهم مع غيرهم على كل ما من شأنه أن يُعلي كلمة الله ويعز دينه مقصدٌ عظيم من مقاصد الشريعة الذي تقتضيه وتدعو إليه أصولها، والعمل على تحقيق هذا المقصد بالأخذ بالوسائل العلمية والعملية التي بينتها الشريعة أو التي قد تقتضيها نوازل مكانية أو زمانية هو مما لا يتحقق ذلك المقصد إلا به. وفيما يلي من هذه الورقة شيء من تفصيل لهذه الجملة الموجزة.
أسباب الاتفاق والتعاون:
هنالك أسباب ثلاثة بقدر توفرها في الناس وقوتها يكون الاتفاق والتعاون بينهم، وبقدر ضعفها يكون الاختلاف والتنافر والتدابر.
السبب الأول:
هو ائتلاف القلوب، لأن ائتلافها يجعل من الأفراد إخوة يحب بعضهم بعضاً، ويثق به ويتجاوز عن سيئاته، فكلما كانت هذه الرابطة القلبية أقوى كان الاتفاق والتعاون أكثر، وكلما كانت أضعف حلَّت مشاعر العداوة بين الأفراد، وفقدوا الثقة في بعضهم فصعب عليهم أن يتعاونوا.
ولما كان منهج الإسلام في الإصلاح يبدأ دائماً بإصلاح القلوب، كانت الألفة بينها هي أول ثمرة من ثمار الإيمان المباركة، قال تعالى ممتناً على رسوله وعلى المؤمنين: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة الأنفال: 63]. وقال سبحانه:( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [سورة آل عمران: 102].(1/1)
هذه الأخوة الإيمانية هي الأساس القوي المتين الذي تقوم عليه الرابطة بين المسلمين، لكن المسلمين بشر لا يكونون دائماً على حال من الإيمان الذي ترتكز عليه هذه الأخوة، بل قد يضعف إيمانهم، وقد يعملون لذلك أعمالاً تتناقض مع الأخوة، لكن هذه الأعمال مهما كانت مستنكرة فإنها لا تقوى على إزالة أساس الإيمان ما دامت في دائرة المعاصي التي لا تُخرج صاحبها من الملة، فلا تقوى لذلك على إزالة رابطة الأخوة ومحوها من الصدور، تعليقاً على قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: 174].
قال في تفسير الجلالين: "وفي ذكر أخيه تعطُّفٌ داعٍ إلى العفو، وإيذانٌ بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان، وكما أن المؤمنين قد يتصرفون تصرفات تتنافي مع ما تقتضيه أخوة الإيمان من تعاون، فإن أصحاب القلوب المتنافرة قد يتعاونون على فعل الشر، فاجتماعهم ليس اجتماع قلوب، وإنما هو اجتماع أجساد".(لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحشر: 14].
السبب الثاني:(1/2)
هو العلم بتفاصيل الأعمال الصالحة، التي هي تعبير عن تلك الأخوة ودعم لها، فكلما كان علم الأفراد واسعاً، وكان الالتزام بمقتضياته شديداً؛ كانت رابطة الأخوة بينهم أقوى، ودائرة التعاون أوسع، وذلك أن الله العليم بقلوب عباده يأمرهم بكل ما يقوي رابطة الأخوة بينهم، وينهاهم عن كل ما يضعف تلك الرابطة فيحل الاختلاف والعداوة والبغضاء محلها، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة تعلل فيها الأوامر بأن المأمور به مما يقوي رابطة الأخوة، وأن المنهي عنه مما يتنافى معها: من ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[سورة المائدة: 91]. وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ.(1/3)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[سورة الحجرات: 9ــ13].
وكلما قلَّ العلم، وكثر بسببه الإنكار لبعض حقائق الدين؛ كان الاختلاف، بل كانت العداوة والبغضاء بين المختلفين. (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [سورة المائدة: 14].
انظر كيف جعلت الآية العداوة والبغضاء نتيجة لنسيانهم (يعني تركهم أو إنكارهم) لما شرعه الله وذكَّرهم به، لا يقولن أحد إن هذه الآية وأمثالها إنما نزلت في الكفار فلا تطبقوها علينا نحن المسلمين، لا يقولن هذا لأن المسلم قد يتصف ببعض خصال الكفار وإن لم يكن كافراً، وبقدر اتصافه بها تحدث له النتائج التي رتبها الله عليها، وذلك لأن كل المعاصي لا تكون أبداً من آثار الإيمان، وإنما هي من نتائج البعد عنه، ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)). كذلك كلما كثر ارتكاب الأفراد لما نهاهم الله عنه من الآثام كثر بينهم الخلاف والتباغض.
السبب الثالث:
هو التنظيم الاجتماعي الذي تقتضيه تلك الأخوة الإيمانية، المقصود بالتنظيم الاجتماعي ما يتعلق بالمسلمين باعتبارهم جماعة، فمما جاءت به الشريعة في هذا:(1/4)
أولاً: أن المسلمين جماعة وليسوا مجرد أفراد، ولكي يكونوا جماعة فلا بد لهم من قيادة ينتظم بها شملهم وتتوحد بها كلمتهم، وهي القيادة المتمثلة في العلماء والأمراء، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء: 59].
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية))(1).
ولتأكيد أهمية الجماعة وكونها لا تتأتى إلا بوجود إمامة جاءت الأحاديث الكثيرة التي تأمر بالنصح لهم، والسمع والطاعة ما لم يأمروا بمعصية، بل حثت على الصبر على جورهم، وعدم الخروج عليهم بالسيف ماداموا مقيمين للصلاة.
مبادئ تساعد على التعاون:
(
__________
(1) ليس المقصود بالميتة الجاهلية أنه يموت كافراً وإنما المقصود ـــ بين العلماء ــــ أنه يموت بميتة تشبه ميتة الجاهليين الذين لم يكن لهم بيعة ولا إمام.(1/5)
1) أن الاجتماع أصل من أصول الدين؛ فلا يهدم بحجة الاستمساك بأمر هو من جزئياته، وقد كان ابن مسعود مراعياً لهذا المبدأ لما صلى وراء أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لمَّا أتم الصلاة في منى مع أن السنة هي قصرها، وعلل متابعته له بقول: "الخلاف شر"(1). سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل أفتى بأنه "لا تجوز الصلاة خلف أئمة المالكية، ومن صلى خلف إمام مالكي المذهب لم تصح صلاته، ويلزمه إعادة ما صلى خلف الإمام المالكي"؛ فأجاب:
__________
(1) لا تدخل هذه المتابعة في باب طاعة الإمام في ما يخالف شرع الله تعالى، وذلك لأن القصر سنة والإتمام جائز، ففضل ابن مسعود متابعة الإمام في تركه لهذه الجزئية، وقد قيل إن الذي حمل أمير المؤمنين على ترك هذه السنة أن بعض الأعراب الذين صلوا معه في العام الماضي رأوه قصر صلاة الظهر والعصر فظنوا أن هذه هي السنة في كل صلاة فظلوا يقصرون العام كله، فلما علم بذلك رأي أن الإتمام خير من أن يقع بعض الجهلاء في مثل هذا الخطأ.(1/6)
"الحمد لله وحده، إطلاق هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات؛ يستحق مطلقه التعزير البليغ... ويدخل صاحبه في أهل البدع المضلة، فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس إمام دار الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سُنَّت فيها السنن وشرعت فيها الشريعة، وخرج منها العلم والإيمان، هو من أعظم المذاهب قدراً وأجلها مرتبة... ... .... وكان لمالك بن أنس رضي الله عنه من جلالة القدر عند جميع الأمة: أمرائها، وعلمائها، ومشايخها، وملوكها، وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه، ولم يكن في وقته أجلُّ عند الأمة منه.... وكيف يستجيز مسلم يطلق مثل هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلف الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها"(1).
(
__________
(1) جامع المسائل، المجموعة الخامسة، تحقيق محمد عزيز شمس، إشراف بكر أبو زيد، دار عالم الفوائد، 1424، ص 271ــ273.(1/7)
2) ارتكاب أخف الضررين، هذا مبدأ عقلي يلتزم به معظم الناس في حياتهم الخاصة، فما من عاقل يخير مثلاً بين أن يقتله اللصوص أو يأخذوا ماله إلا فضل الضرر الثاني على الأول، لكن بعض الناس ينساه في مجال الحياة العامة، وذلك أنهم يظنون خطأ أنه لا مجال في الدين لقبول أنصاف الحلول، فإما الحق كله أو تركه كله، فيخلطون بين منطق العقيدة الذي لا يقبل مساومة ومنطق العمل الذي لا بد فيه من النقص والتقصير. منذ أعوام مضت شاعت بين بعض الشباب عبارة تنسب للأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله يقول فيها: "خذوا الإسلام جملة أو دعوه"، فصاروا يرون أن لا فرق بين دولة تطبق شيئاً من الإسلام ودولة تتركه كله، بل صار بعضهم يعتقد أن الثانية خير من الأولى لأن موقفها صريح لا نفاق فيه، هذا مع أن العبارة لو أُخذت بحرفيتها صار كل مسلم، ما عدا الرسول صلى الله عليه وسلم مقصراً، لأنه ما من أحد بعده صلى الله عليه وسلم يمكن أن يأخذ الإسلام كله فيفعل كل الواجبات والمندوبات ويترك كل المحرمات والمكروهات، أما في مجال الاعتقاد فنعم لا يكون الإنسان مسلماً إذا هو أنكر شيئاً من الدين يَعلم أنه منه مهما كان ذلك الشيء كبيراً أو صغيراً، ولكن حتى في مجال الاعتقاد فإن الذي يكفر ببعض الدين أقل شراً من الذي يكفر به كله، والذي يكفر به كله أقل شراً من الذي يكفر به ويصد عنه، (الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) [سورة النحل: 88].(1/8)
ومن هنا جعل الدين لأهل الكتاب مكانة أخص من التي جعلها لسائر الكفار، ثم إن هذه العبارة ليست دقيقة لأنها تأمر من لا يأخذ بالإسلام كله أن يترك حتى الجزء الذي أخذ به، مع أن النصح لأمثال هؤلاء أن يأخذوا بما تركوه لا أن يتركوا ما أخذوا به. ولذلك قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة: 44]: "وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، لكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود: 88].
فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
والعقاب الذي توعد الله به الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض في الآية التالية، إنما هو عقاب لهم على ما كفروا به لا على ما آمنوا به: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة البقرة: 85].
((1/9)
3) التعاون مع كل من يريد تحقيق أمر هو خير بمقياس الدين، بغض النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، براً أو فاجراً، منافقاً أم صادقاً، حاكماً أو محكوماً. وقد عبر عن هذا المبدأ الإمام ابن القيم بما لا مزيد عليه، قال رحمه الله في بيانه للفوائد الفقهية المستفادة من صلح الحديبية، في كتابه العظيم زاد المعاد: "ومنها أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرم الله تعالى أجيبوا إليه وأعطوه وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى لا على كفرهم وبغيهم ويمنعون مم سوى ذلك، فكل من التمس على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق.
(4) أن يبني الموقف من الحكومات المسلمة على النصح، الذي يقصد إلى الإصلاح، ويعين عليه، وينهى عن الفساد ولا يشارك فيه، لا المعارضة الجاهلية التي لا غاية لها إلا إسقاط الحكومة بالتركيز على عيوبها والمشاركة في كل ما من شأنه أن يؤدي إلي ذلك السقوط.
(5) أن لا تكون الأهواء والمصالح الشخصية أو الحزبية أو التعصب للرأي هي القاعدة التي تبنى عليها الموافقة والمخالفة، بل إن المسلم يسمع ويطيع وإن أصابه ظلم في شخصه، لأنه يعلم أن طاعته ليست عبودية لفلان أو فلان من الحكام والرؤساء، وإنما هي طاعة لله تتحقق بها وحدة المسلمين وجماعتهم.
(6) الوعي بالمخططات والسياسات التي يدبرها الأعداء في الداخل والخارج، وما أكثرها في زماننا هذا! إن من يرى عظم الشر الذي سيصيب المسلمين جراء هذه المخططات يهون عليه كل خلاف بينه وبين إخوانه المسلمين، ويدرك ضرورة تعاونه معهم لدرء تلك الشرور.
الأحزاب والتجمعات:(1/10)
مما شاع في عالمنا في عصرنا هذا تكوين الجماعات لأغراض سياسية أو دينية أو اجتماعية أو علمية أو غيرها، وبما أن انفراد بعض الناس باسم أو شعار أو نشاط قد يكون سبباً من أسباب الخلاف بينهم وبين غيرهم، وبما أن واجبنا هو السعي لأن يكون المسلمون أمة واحدة، كان من واجبنا أن نجتهد في إيجاد تصور لهذه الأحزاب والجماعات يكون متسقاً مع هدي الإسلام الداعي إلى التعاون وعدم التفرق، وفيما يلي اقتراحات أولية في هذا السبيل:
(1) لا بأس ــ بل قد يكون من اللازم في بعض الأماكن وبعض الأحوال ــ أن يتجمع أفراد من المسلمين للتعاون لتحقيق غاية خيرة جزئية كانت أو كلية، لكننا ابتلينا في دهرنا هذا بتقليد كثير من الصور والمبادئ الغربية حتى في جماعاتنا الإسلامية. إنه لا يجوز مثلاً أن تجعل الجماعة من نفسها دولة داخل دولة إسلامية، بل يجب أن يكون نشاطها، في نطاق هذه الدولة، و ردءاً لها.
((1/11)
2) مما يساعد على التعاون، أو على الأقل تقليل الخلاف بين المنتمين إلى جماعات وأحزاب مختلفة، ومما هو من لوازم احترام عقول أولئك الأفراد أن تصدر الجماعة أو الحزب رأياً أو يعلن موقفاً مستنداً إلى حجج ومسوغات تُعلن معه. إن من أضر ما رأيت في تجربتنا السياسية الاعتماد في مشروعية الرأي أو الموقف على قرار الزعيم أو على مجرد الأغلبية من غير نظر إلى الأسباب التي بُني عليها القرار. لقد بدأ الكثيرون منا يعتقدون خطأ أن الاعتماد على مجرد عدِّ الأصوات الموافقة والمعارضة هو ما تقتضيه الشورى، مع أن المقصود من الشورى إنما هو تداول الرأي للوصول إلى الحق أو إلى ما هو أقرب إليه. فالشورى مأخوذة لفظها من قولهم شار العسل إذا استخرجه من الخلية، فكأن المقصود بالشورى هو استخراج أحسن أما في العقول من الآراء والمعلومات كما يستخرج العسل من الخلية، ثم إن الشورى مرتبطة بالتراضي، ولذلك قال تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [سورة البقرة: 233]. أما الاعتماد على مجرد الأغلبية فهو بمعزل عن التراضي، بل كثيراً ما يكون بداية لشقاق وانشقاق، ثم إن في الاعتياد بأخذ رأي الأغلبية من غير نظر إلى الحجج والمسوغات مدعاة إلى جعله مصدراً للتشريع كما هو الحال في المبدأ الديمقراطي، مع أن مصدر التشريع عندنا هو حكم الله تعالى، والشورى محاولة للوصول إليه أو الاقتراب منه.
إن جعل الأولوية للحجج والمسوغات من شأنه أن يحفز الناس إلى البحث عن الأدلة ومن شأنه أن يحفزهم إلى إعمال عقولهم.
((1/12)
3) أرى أن تكون اجتماعات الأحزاب والجماعات معلنة، وكذلك نتائج التصويت، من فوائد إعلان نتائج التصويت أنه يساعد على جعل الخلاف فردياً بدلاً من أن يكون جماعياً، هب أن هنالك جماعتين أو حزبين، تتكون قيادة كل منهما من عشرة أشخاص، وهب أنه عرض عليهما موضوع مهم كاتفاقية الجنوب للموافقة عليها أو معارضتها، هب الآن أنه بعد التداول والإدلاء بالحجج كانت نتيجة التصويت 6 إلى 4 مؤيدين بالنسبة للحزب الأول، و6 إلى 4 معارضين بالنسبة للحزب الثاني. وأن كلاً من الحزبين نشر حجج كل من المؤيدين والمعارضين ونتيجة التصويت. هذا يعني أن الأعضاء المنضمين للحزبين سيختلفون هم كذلك في رأيهم، وسيجدون أن الخلاف بينهم وبين الحزب الآخر ليس في حقيقته خلافاً حزبيا يجعل أحدهماً معاديا للآخر، لأن كل عضو في أحد الحزبين سيجد من يوافقه على رأيه من أعضاء الحزب الآخر. أما إذا دبر الأمر كله بليل، ثم قيل للأتباع إن حزبكم العريق قرَّر كذا وكذا من غير حجة ولا بيان لمن وافق ومن عارض كان التعصب وكانت العداوات والخصومات.
وهذا معناه أنه سيسمح للمعارض بإعلان رأيه إعلاناً عاماً حتى في جرائد الحزب، إن إظهار الحزب بأنه كتلة واحدة متجانسة متفقة في كل شيء تكذيب للواقع، وتشجيع للتبعية وروح القطيع. وهذه كلها أمور تتنافى مع ما يدعو إليه الدين من أمانة علمية، وصدع بالحق، واجتناب للتقليد، وهو مخالف لما درجت عليه الأمة المسلمة التي لم يمنع انتساب علمائها إلى بعض المذاهب من أن يخالف الواحد منهم مذهبه، فما من مذهب إلا وخالف فيه بعض الأئمة إمام المذهب، وما من علماء في المذهب إلا وخالفهم علماء آخرون. هكذا كان الأمر أيام كانت الأمة حية، ولم يعم التقليد وينتشر الجهل وتعمى البصائر فتنحط الأمة وتغدو لقمة سائغة لأعدائها.(1/13)
من أين أتينا إذن بمبدأ الالتزام برأي الأغلبية الذي صار كالأصل المتفق عليه في الجماعات الإسلامية؟ أما بعض الجماعات التي أعرفها فلا شك عندي أنها قلدت فيه الحزب الشيوعي، كما ذكرت ذلك في محاضرات سابقة، للشيوعيين مبدأ يسمونه الديمقراطية المركزية، مركزية بمعنى أنها ليست عامة بل خاصة باللجنة التي تمثل قيادة الحزب، تقول هذه القاعدة إنه من حق أعضاء هذه اللجنة أن يعبروا عن آرائهم ويدافعوا عنها ما داموا مجتمعين وما داموا لم يتخذوا إزاءها قراراً، فإذا ما اتخذوا قرارهم بالأغلبية، وجب على كل عضو أن يلتزم بهذا الرأي ويدافع عنه حتى لو كان من المعارضين له قبل التصويت، بل إن هذا القرار يصبح جزءاً من الشيوعية التي هو ملتزم بها. وقد ذكر بعض الدارسين لتاريخ الشيوعية من الغربيين إن الشيوعية تأثرت في هذا بالكنيسة الكاثوليكية، فكأنهم قالوا إنه كما أن للكاثوليك مصدر هو البابا يعد قراره ملزماً ديناً، فإن لنا لجنة يعد قرارها ملزماً شيوعياً. أما نحن المسلمين فإن الأمر الوحيد الملزم لنا قولاً وفعلاً إنما هو نصوص الكتاب والسنة وما استنتج منها استنتاجاً قطعياً، أما آراء الأفراد واجتهاداتهم، وأما أوامر الحكام فلا تكون ملزمة قولاً وإنما تكون ملزمة عملاً ما دامت لا تخالف شرعاً.
(4) حبذا لو كانت للجماعات الإسلامية وأفراد العلماء والدعاة منظمة، كالتي يسمونها بالمظلة لا تصدر قرارات ملزمة، وإنما يجتمع فيها الممثلون لجماعاتهم اجتماعات دورية للتشاور في بعض المسائل المهمة، واتخاذ مواقف عملية إزاءها، مواقف يتعاون فيها من اقتنع بها منهم، ولا تثريب على من أباها، بل يكون من حقه أن يعلن عدم موافقته ويبيِّن أسبابه إن شاء. تكون رئاسة المنظمة لأخ تجمع عليه الجماعات، وإلا فتكون دورية. أما أمانتها فتتكون من ممثلين لكل الجماعات المشاركة ومن بعض الأفراد.
هذا ونسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
www.islamicwork.info(1/14)