بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وقد ضمن في هذا الكتاب الهدى والشفاء، لأوليائه المؤمنين خاصة وللناس عامة، موعظة وإنذاراً ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس:57، 58) .
ففي هذه الآية يبين الله عز وجل أن هذا القرآن العظيم ؛ جاء موعظة للناس كافة ، وشفاء لصدور المؤمنين ، ورحمة لهم بصفة خاصة .
فالمؤمنون وحدهم هم الذين ينتفعون بمواعظ القرآن ، ومن سواهم فهو عليهم عمىً ؛ كما قال تعالى : (( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً )) (فصلت:44).
ومن بين مواعظ القرآن العظيمة ما ذكره سبحانه وتعالى في سورة سبأ، عن محاجة المشركين الذي كذبوا رسول - صلى الله عليه وسلم - ورموه بالسحر تارة وبالجنون تارة أخرى : قال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:46) .(1/1)
وهذه الآية وإن كانت موجهة إلى المشركين الذين رموا الرسول لله بما هو منه براء إما لجهل أو لهوى، فإنها تخاطب جميع المشركين في كل زمان ومكان ، بل جميع المختلفين في قضايا هذا الدين أصوله وفروعه، وترسم منهجاً لحل خلافاتهم ، وأصولاً لحواراتهم ، وتخط لهم صراطاً مستقيماً من وحي كتاب الله العظيم ، والذي من سار عليه واتبعه وصل إلى الحق والهدى ،ومن تنكبه واتبع هواه ضل طريقه ،وإن واصل السعي بالليل والنهار .
تفسير الآية
قبل ذكر أقوال بعض المفسرين حول هذه الآية نذكر ما قبلها من الآيات حتى يتضح المقصود . يقول الله عز وجل : (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:43 - 46)
من هذه الآيات البيّنات يتضح لنا أن هذه الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت بسبب اتهامهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالكذب تارة ،وبالسحرة تارة أخرى ، دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم ، وآثار آبائهم ومتبوعيهم دون دليل.(1/2)
وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي مَنْ أخذها بجميع مقوماتها فلابد أن يصل إلى الحق ؛ وهو في الآية:كون النبي- صلى الله عليه وسلم - رسولاً من عند الله عز وجل ،ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة ، وهي :
* القيام لله تعالى : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) ، والتجرد في طلب الحق.
* مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )).
* التفكر فيما يقوله المخالف : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير- حول قوله تعالى : (( إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)) :
(( أي أحذركم بواحدة،وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه،وأوصيكم بخصلة واحدة؛وهي : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) . وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها ، أي هي : قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين ؛ اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر.
وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب الحق وإصداق الفكر فيه؛ (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) ؛وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون.
فقال لهم : اعتبروا أمري بواحدة ؛وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين ، فيقول الرجل لصاحبه:هلم فلنصدق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ـ أي جنون ـ أو جربنا عليه كذباً ؟.(1/3)
ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه ، وليتفكر ولينظر ؛ فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق ، وأنه رسول من عند الله عز وجل ، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون )) (1) اهـ .
وقال النسفي رحمه الله في تفسيره : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )) أي بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله: (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ...)) الآية،على أنه عطف بيان لها . وقيل: في محل الرفع،والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ؛وهي أن (( تَقُومُوا لِلَّهِ )) أي لوجه الله خالصة ، لا لحمية ، ولا لعصبية ، بل لطلب الحق (( مَثْنَى)) اثنين اثنين ، ((وَفُرَادَى )) فرداً فرداً (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر محمد ، وما جاء به .
أما الاثنان فيتفكران؛ يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف ويعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع الروية ، ويقل الإنصاف فيه ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلا نصرة المذهب )) (2) اهـ .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير الكريم المنان- في تفسيره لهذه الآية :
__________
(1) فتح القدير ، عند الآية 46 من سورة سبأ .
(2) تفسير النسفي ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(1/4)
((أي أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف،لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك؛وهي ((أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)) أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله عز وجل، مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين ، وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك ، فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم ، وأجلتموه ،وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون فيه صفات المجانين؛من كلامه ، وهيئته ووصفه ، أم هو نبي صادق منذر لكم ؟
فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون ؛ لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجهم..فكل من رأي أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده أو مع غيره ؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه)) (1) اهـ.
وقال سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول ظلال هذه الآية :
((وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق،وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) ، إنها دعوة إلى القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى ، بعيداً عن المصلحة ، بعيداً عن ملابسات الأرض ، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله ، بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة.
__________
(1) تفسير الكريم المنان ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(1/5)
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوي الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي تبعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها ، دعوة إلى منطق الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج ، والخلط، واللبس،والرؤية المضطربة ، والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة ، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات ، وعلى مراقبة الله عز وجل وتقواه.
وهي (( وّاحٌدّةُ)) إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق :القيام لله ، لا لغرض،ولا لهوى،ولا لمصلحة،ولا لنتيجة،التجرد،الخلوص،ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء ، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق .
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده، إن هو إلا القول المحكم القوي المبين )) (1) اهـ.
وبعد هذه النقولات من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) :
إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل ، وبدونه يفسد العمل ، ولا يوفق فيه صاحبه ، ولا يبارك له فيه ، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن ذلك مع المتابعة فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(1/6)
فالإخلاص في البحث عن الحق ، والصدق في طلبه، شرط أساسي للوصول إلى ذلك الحق ، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق، حتى ولو كان مثل فلق الصبح ؛ لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق وقصرت همته عن بلوغه والعمل به .
فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله عز وجل ، وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره ،ولو على لسان مخالفه ، وأن يعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي الحق أو تلبسه بالباطل ، فيقبل به ظاناً أنه الحق،وذلك بسبب بعض الظروف المحيطة به،لذلك فإنه لا مناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود، وذلك من :
الشرط الثاني : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )) :
والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو تشوه وجهه ، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى ، واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال ، مما قد يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه،ظاناً أن الحق مع الأكثرية،دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق ،وضيعت معالمه ، فاشتبه مع غيره ، خاصة عند من قلت بصيرته ، وقل نصيبه من هدى الله عز وجل ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا ما حدث من اتهام قريش للرسول لله بشكل جماهيري غوغائي ، وقولهم ساحر وكاهن ومجنون ...إلخ.(1/7)
فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له، ويبتعدوا عن هذه الأجواء ، ويرجعوا إلى أنفسهم ، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو مع صاحبه ، ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى، وهو ما جاء في ختام الآية (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) [سبأ :46] .
ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله ، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب المناظرة في جو جماعي ، لأن المُناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد بخلاف حال الجماعة ، فقد يعز عليه الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله،والله تعالى عليم بمسارب نفوس خلقه ، خبير بطبائعهم ، فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ، ويعلم ما يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ،ومنهجه القويم (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) (الملك:14) .
الشرط الثالث : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) :
وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين السابقين ؛ فالتفكير ، والعلم ، وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى الحق وتَبَيُّن الهدى من الضلال .
وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة؛ألا وهي قضية العلم الشرعي ، ومعرفة دين الله عز وجل ، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية، ووجهت إليهم هذه الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي ، وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه ، فلذلك كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول لله ، وإقامة الدليل على ما يتهمونه به .(1/8)
فإذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة ؛ فإن الأمر بالنسبة لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية آكد ؛ حيث لابد أن يكون مؤهلاً من الناحية العلمية لبحث هذه المسألة ، ودراسة أوجه الخلاف حولها ، وإلالم يكن للتفكير فائدة ، كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة ، وقد كان عند كفار مكة من العلم بأحوال الرسول لله وصفاته ،وصدقه ، وأمانته ما يكفي ، ولو أنهم فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك الحال لكل المختلفين أو المتناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما يختلفون فيه ؛ فإنه لا فائدة من التفكير ؛ لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال القضية المختلف فيها .
فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد ، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال القضية المختلف حولها وملابساتها ...إلخ .
فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه ، فلذلك نجد أمثال هؤلاء يوجههم التقليد الأعمى دون فكر أو نظر .
وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق
فيما اختلف فيه ، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من الحوار والمناظرة لابد منها .
فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله وحده، يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة والنصح ، وتبيين الحق من الباطل ، والصبر على ذلك ، مع شدة رفضهم للحق وعنادهم وتعنتهم ، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه .(1/9)
ولكثرة الخلاف الواقع بين طوائف المسلمين اليوم ، وخاصة بين الطوائف من أهل السنة ؛ فإنا نقدم هذه الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة .
وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه المناسبة ،ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف . وقبل ذكر هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع ، وبعض التعريفات والوقفات السريعة .
أهمية هذا الموضوع
إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها، وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل ، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على ما يلي :
1- من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية الناس ودلالتهم إلى الخير ، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه في الرأي ، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي،لكي يصبر ويستمر في دعوته ، فقد ينفر الناس منه ، وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
2- إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف،ترجع للظروف الملحة في هذا العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفُرقة الموجودة بينهم ؛ وذلك لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار؛مما يكون له الأثر في تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية ،وهذا يؤدي إلى الوحدة المنشودة .
3- كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي تكون بين أفراد المجموعة الواحدة ، بل أفراد العائلة الواحدة ؛ لأن فقد هذه الآداب يضخم المشاكل ، ويجعل من الحبة قبة كما يقولون
* * *
الفرق بين الجدال والحوار
الجدال : مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة ، ومقابلة الحجة بالحجة .(1/10)
والحوار : الجواب . حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه ، فهو مراجعة في الكلام بين طرفين أو أكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما .
وقد يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي ، كما ذكر تعالى في سورة المجادلة : ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) (المجادلة:1) .
فسمى الله سبحانه وتعالى مجادلة المرأة للرسول لله ومجاوبته لها محاورة ، والله أعلم .
وعلى أية حال ؛ فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود عليها الألفة والبحث عن الحق ، والجدال غالباً ما يكون جَوّه صاخباً، وقد ينشأ عنه خصومة وعناد .
ما هي نتيجة الحوار :
ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، ويتفقان على موقف واحد ، فهذا نجاح لا شك فيه ، وإنما يعتبر
الحوار ناجحاً أيضاً إذا توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح ، أو في الإطار الذي يسعه الخلاف ، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّئْ الآخر أو يفارقه .
بعض الآيات والأحاديث الواردة
في آداب الحوار وحسن المناظرة
قال تعالى :
- (( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)) (البقرة:83).
- (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ )) (الإسراء:53)
- (( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )) (المؤمنون:3)
- (( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )) (القصص:55) )
- (( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)) (المؤمنون:96)
- (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) (النحل:125)(1/11)
- (( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)) (النساء:114) .
- (( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) (طه:44)
والآيات في ذلك كثيرة .
أما الأحاديث النبوية ، فمنها :
- ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (1).
- (( الكلمة الطيبة صدقة )) (2) .
- (( تبسمك في وجه أخيك صدقة )) (3) .
- (( وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) (4)
- (( الكبر بطر الحق وغمط الناس )) (5) .
- (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) (6) .
- (( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) (7) .
- (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف ، وما لا يعطي على سواه ))(8) .
والأحاديث في ذلك كثيرة .
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم ، نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث ، وهي قوله تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
__________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) رواه الترمذي في البر والصلة(1956)،والحديث في صحيح سنن الترمذي (1602) .
(4) رواه الترمذي في الإيمان (2616)،وابن ماجه في الفتن (3973)، والحديث في صحيح سنن الترمذي ( 2110 ) ، وفي صحيح سنن ابن ماجه ( 3209 ) .
(5) رواه مسلم في الإيمان ( 91 ) .
(6) متفق عليه .
(7) متفق عليه .
(8) رواه مسلم في البر والصلة ( 2593 ) .(1/12)
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً لمن أراد الوصول إلى الحق ، ولأن المقصود من الحوار الوصول إلى الحق ؛ فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي :
الأصل الأول : الإخلاص لله عز وجل ، والتجرد الكامل قبل الحوار وأثنائه وبعده : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) .
الأصل الثاني : العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
الأصل الثالث : اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة : (( مَثْنَى وَفُرَادَى)) .
الأصل الأول
الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ))
ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات ، نذكر منها ما يلي :
1- تصحيح النية قبل الدخول في الحوار :
وذلك بمساءلة النفس عن الغرض من الحوار ؛ أهو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى:كحب الظهور،وإفحام الخصم، و أن يرى الناس مكانه؟،فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل، وأنه يريد الحق،ولو ظهر على لسان الطرف الآخر .
12- حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر :
فالمتحدث البارع مستمع بارع ، فلابد من حسن الاستماع ، والانتباه لما يقوله الطرف المقابل ، وعدم مقاطعته ، وتركه حتى ينتهي ، وتدوين أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً ، وهذا من التواضع ، وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين ؛ حتى لايحصل العجب بالنفس ، وأنه الذي ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك.(1/13)
كذلك على المحاور المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله ، بل يعطي الفرصة المكافئة للطرف الآخر؛حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص ، أو الاحتقار للطرف الآخر .وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة ، وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز ، وكما يقال : » إذا أردت أن ينفضّ الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ، ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث)) .
3- مراقبة النفس أثناء الحوار :
جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر؛ يحصون الملاحظات على فكرته وطريقته في الحوار ، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس ، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها ، ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار ، ولا شك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من غيره . وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات .
4- التسليم بالخطأ:
الإنسان بشر يخطئ ويصيب ، فمن الطبيعي أن يخطئ المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره ، والإخلاص لله عز وجل ، يفرض عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب ، بل يشكر لصاحبه فضله في تبصيره له بالخطأ.
5- الحذر من الكذب والغموض والمراوغة :
قد يلجأ إلى الأساليب الغامضة ـ بل الكذب أحياناً ـ إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها الإخلاص لله تعالى، والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طُرِحَ سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة عليه فيعتذر عن الإجابة ، ولا يلجأ إلى الغموض والمراوغة ؛ لأنه إذا فقدت الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار .
6- الأمانة :(1/14)
لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة ، وألاّ تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك ، فهذا نقص في الدين والإخلاص؛لأنه أخو الكذب،فضلاً عن أنه يعرض من هذه صفته للسخرية وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
7- الإنصاف :
من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار الصحيحة ، والأدلة الجيدة، وحسن الاستدلال، والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف الآخر، والإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية ، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع الطرف الآخر ، والظروف المحيطة به ، والتي أدت به إلى الرأي المخالف .
8- وضع الخطأ في حجمه الطبيعي ، وتجنب الشماتة :
عند وضوح خطأ الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان ، وتفقده مسيرة الدعوة من جراء خطئه،كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا يداخله الشيطان ؛ فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر، أو يشمت به وبفكرته الخاطئة ؛ فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه .
9- على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية :
وكل ما يشعر باحتقار أحدهما للآخر، أو ازدرائه لفكرته،أو وسمه بالجهل،أو قلة الفهم، أو التبسمات والضحكات التي تدل على السخرية .
10- تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث :
حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس ؛ فيقع فيها العجب والغرور ، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة في الحديث كتكرار ((نحن، أنا، عندنا...إلخ )) مع ما فيها من المضايقة للطرف الآخر .
* * *
الأصل الثاني
العلم
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ))
ويدخل تحته التفصيلات التالية :
1- الاتفاق على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية:(1/15)
لأن النقاش والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة ، وسوف لا يسلم أي طرف لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط ، وحتى تتضح هذه المسألة أكثر ، نضرب لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في(الاعتصام ـ الباب الرابع) تحت عنوان : مآخذ أهل البدع في الاستدلال ، فنذكر منها(باختصار وتصرف) ما يلي :
* إن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة ـ أو الموضوعة أحياناً ـ في العقائد والأحكام ، وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة ؛ لأنهم لا يرضون الاستدلال بالضعيف ـ فضلاً عن الموضوع ـ في باب العقائد والأحكام ، فإذا لم يتفق مع الطرف المحاور على خطأ هذا المنهج ، فلن يفلح الحوار في أي نتيجة ، لأن الأدلة التي سيستدل بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده .
* ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة ؛ حيث يرفض الاستدلال بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ، ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر ، وهذا المنهج مرفوض أيضاً عند أهل السنة ؛ حيث إن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً للاستدلال ولو كان آحاداً ، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداء فلن يفلح الحوار في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات ، وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن المقصود،لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد الصحيحة .
* كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه والتعصب لها ، ونبذ أي دليل يخالف ذلك ، بل إن أهل بعض الملل المبتدعة يرون أن أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته ، وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من أقوالهم ، بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال .
فإذا لم يتفق على خطأ هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع هو الأصل ، وأن كل ما خالف ذلك فهو مرفوض مهما كان قائله ، فإنه لا فائدة من النقاش .(1/16)
* ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات ، فيصحح بهما الضعيف ، ويضعف الصحيح ،ويحلل ، ويحرم ، ويشرع بهما ما لم يأذن به الله ، فإذا لم يتفق ابتداء على ضلال وخطأ هذا الاستدلال ، فلن يفلح الحوار ، ولن تتحقق أهدافه أبداً .
وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جدّاً.
* مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافتهم :
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب ، والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم في الحوار ؛ لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ، ينعكس أثره على إيجابية الحوار .
3- البيان وحسن العرض :
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح الفكرة وأدلتها ؛مما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة ، وإقناعه بحسن الاستدلال عليها ، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم ، أو الألفاظ المجملة التي تحتمل عدة معانٍ من غير توضيح للمعنى المراد منها .
4- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة :
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين،كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ، ويحس كل منهما أن هوة الخلاف قليلة ،وهذا له مردوده النفسي في الحوار. وبالعكس ؛ فإن البدء بنقاط الخلاف يوسع فجوة الخلاف، ولو من الناحية النفسية ، ولذلك يحرص أن يلقي على الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها » بنعم « ، ويتجنب ما يكون جوابه النفي ؛ لأن كلمة ((لا)) عقبة كؤود يصعب التراجع عنها .(1/17)
والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة ؛ فمثلاً في سورة المؤمنون ، يقول تعالى : (( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ )) (المؤمنون:84 ـ 89) .
فهنا نجد أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف أن جوابهم عليها بالموافقة ، وذلك لإقامة الحجة عليهم في تقرير توحيد الألوهية؛ لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
5- التوثيق :
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية ، فلا يستدل بشيء إلا مسنداً لقائله ، ومصدره الذي أخذه منه ، وأن يستعان بذكر الإحصاءات التي تخدم الفكرة ، والمراجع التي رجع إليها ؛ لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر والإحصائيات الموثقة ،أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة ، كما ينبغي في مثل هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة ، والحجج الواهية .
6- عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً : والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة ، وألا يقدم على تصحيح فكرة ما أو تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً .
7- الإحاطة بمواطن الخلاف في القضية المطروحة :
للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه ومالا يجوز ؛ لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف ، فيحصل الاختلاف والفرقة حول مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد ، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ).(1/18)
وبهذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف ،وأنواعها ، ومن هو المحمود فيها ، ومن هو المذموم؟ ، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف ، والمسائل التي لا يسعها؟ إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف ، فنقول وبالله التوفيق :
إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين :
1- قسم يحمد فيه أحد الطرفين، ويذم الطرف الآخر ؛مثل الاختلاف الواقع بين المؤمنين والكافرين ، أو بين أهل السنة وأرباب البدع.
وهذا القسم من الاختلاف هو المذكور في قوله تعالى : (( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)) (البقرة:253)،وكقوله تعالى: (( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )) (الحج:19) ، فكل ما يتصل بقضايا العقيدة وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة ،وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم ، هو داخل تحت هذا القسم.
2- قسم يذم فيه الطرفان المختلفان، إذا سبَّب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة ، ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة .
وهذا النوع من الاختلاف هو الذي وَسِع السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ولم يحصل بينهم بسببه افتراق ولا بغضاء؛ فكل ما وسع السلف الصالح رحمهم الله تعالى فيما اختلفوا فيه ، فيجب أن يسعنا ، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها ، فيما يلي :
* اختلاف في تحديد موضوع الخلاف:وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد ذهب إلى موضع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر أو أن أحدهما سماه باصطلاح معين، والآخر سماه باسم آخر ، فظهر أن هناك اختلافاً ، والحقيقة أنهما اسمان مشتركان لمسمى واحد ، فلو حددت المصطلحات ، ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً ؛ كالاختلاف الحاصل في تفسير الصراط المستقيم في قوله تعالى : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (الفاتحة:6) .(1/19)
حيث فسر بالإسلام والقرآن وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ، وكلها أسماء مشتركة لمعنى واحد هو الدين الإسلامي ؛ حيث إن كل قول داخل في معنى القول الآخر ، وهذا الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله عز وجل.
* قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا الاختلاف ليس اختلاف تضاد ؛ بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف ، إنما الخلاف في تنوع آحاد هذا الكلي ، وتعدد الأمثلة التي تحته ؛ كمن يذهب إلى معنى جزئي ، وآخر يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي .
مثال ذلك : تفسير قوله تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه)) (فاطر:32) .
حيث ذهب بعض المفسرين إلى أن الظالم لنفسه المفرط في الصلوات المكتوبة ، والذي يؤخرها عن وقتها ، والمقتصد المؤدي للصلاة أثناء وقتها، والسابق بالخيرات المؤدي للصلاة في أول وقتها .
وذهب بعضهم إلى أن السابق هو المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والظالم آكل الربا ومانع الزكاة،والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المطلوبة ، ولا يأتي
الربا.
وكل قول، فيه ذكر نوع داخل في الآية، إنما ذُكر لتعريف المستمع بتناول الآية له ، وتنبيهه على نظيره.وكل هذه الأقوال ليس بينها خلاف تضاد ؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد ، وهو أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق بالخيرات يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات .(انظر : مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية).(1/20)
6- وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف - رحمهم الله تعالى - بأن يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة ؛ لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل ، وذلك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ، ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل.
ومثال ذلك : الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة ، فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها ، والاختلاف في القراءات ...إلخ .
وكل ما ورد في الشريعة، عليه دليل صحيح ، ووسع السلف الصالح، فإنه لا يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات ، فقد يتضح بعد البحث أن كلا القولين ثابت وصحيح عن الرسول لله ، وبذلك ينتهي الخلاف.
7- الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر مخالفاً لها، لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح ، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون سبباً في الفرقة ؛ لأن ما وسع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأئمة السلف ينبغي أن يسعنا .
وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء ، وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوىً في نفوسهم ، بل وقف كل منهم مع ما عنده من الدليل ، فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر ، أو صح عنده ما لم يصح عند غيره كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) ، ولكن مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح ،عند من تبين له ذلك بوجه شرعي.(1/21)
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء ، والتي يكون الدليل على خلافها ؛ بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل ، وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به ؛ لأن هناك من يقول : ( أي قضية لم يجمع عليها الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه ، فقد ذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله في رسالته :( إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة) بعد كلامٍ جيدٍ حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا . قال رحمه الله تعالى:
((وأما احتجاجه بقول النووي : (( إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.قال:وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم)) انتهى ما حكاه . فيقال في جوابه : أنت لم تستكمل عبارة النووي ، بل تصرفت فيها ، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة ؛لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض .
قال النووي بعد ما تقدم : لكن إن أريد به على جهة النصيحة ـ أي الخروج من الخلاف ـ فهذا حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ، فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر .
هذا كلام النووي قد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ، ولم يترجح جانب الإنكار بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي ، وما زال العلماء يردون على من هو أجل منه )) (1) اهـ .
__________
(1) إتمام المنة والنعمة : ص47 ، ص48 .(1/22)
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز ، نتوجه إلى جميع المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم ، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ، ومن يخلص له النصح والتذكرة : أين نحن من أنواع الاختلاف ؟ وأين نحن من البغي والاعتداء في الخلاف؟ ، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه ؟،وما كانت الأمة لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (( ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا مجرد الاجتهاد)) (1) .
8- أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته والإحاطة بها من جميع الوجوه ؛ لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل الأفكار وترابطها .
9- لا أعلم :
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله عز وجل بأن يقول : لا أعلم ، عند السؤال عن مسألة لا يعلمها ، أو لم يبحثها بحثاً كافياً ، وألا يستحي من ذلك ، وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن وجد جواباً .
10- التفريق بين الفكرة وصاحبها :
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية ، بعيداً عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات الأشخاص ونواياهم ، ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة ، وذلك عندما نخشى ضلالاتهم أو تأثر الناس بأفكارهم ، ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف .
11- إقفال المناقشة :
__________
(1) الاستقامة ( 1 / 31 ) .(1/23)
عندما تتسع شقة الحوار ، أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية برزت لم يتم التحضير لها ، أو لا يكفي الوقت لمناقشتها ، فيحسن في مثل هذه الأحوال إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له ، كما ينبغي قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد، أو مستهتر ، أو كان دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار .
* * *
الأصل الثالث
ظروف الحوار والمتحاورين
(( مَثْنَى وَفُرَادَى))
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى:{مَثْنَى وَفُرَادَى}، وسنشير هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار؛ لأن إلغاءها يؤثر كثيراً على طبيعة الحوار ونتيجته ، ومن هذه الجوانب ما يلي :
1- مراعاة الجو المحيط بالحوار :
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي ، والمؤثرات المحيطة بالحوار ، وذلك كما في الآية الكريمة ؛ حيث يوجه الله عز وجل طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية والغوغائية ؛ لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء ؛ حيث التقليد الأعمى ، والتبعية للأكثرية ، بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما ، فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة ، وبقدر ما يقل المتحاورون أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره .
2- مراعاة الجو الحسي للحوار :
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق ..إلخ ؛ لأن وجود ما يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش ونتيجته ، وقد يبتر
النقاش ، أو يختصر دون وصول إلى نتيجة ، وكذلك ـ مما يتعلق بهذا الجانب ـ اختيار المكان الهادئ ، وإتاحة الزمن الكافي للحوار ، فلا تصلح أماكن الدراسة ، والعمل ، والأسواق للحوار ، وذلك لضيق الوقت ، ولوجود ما يشغل.
3- مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر :(1/24)
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب ، أو حاجة لنوم ، أو بسبب جوع ، أو يعاني من إرهاق نفسي : كهمٍ، أو غمِ ، أو حزن ؛ لأن هذه الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار؛ إما ببتره قبل تمامه ، أو حدوث انفعالات ، وغضب ، وتوتر ، يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
4- أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب؛ إذ من الصعب أن يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف معهم ولو كان يسيراً؛ لأن في جلسة التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر، ولو بشكل مبدئي من خلال مظهره، وحديثه، ونبرات صوته، وحصيلته العلمية ؛ مما يكون له الأثر في معرفة الظروف النفسية، والميول الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في طريقة وأسلوب الحوار مع الناس، كلٌ حسب ظروفه .
ويمكن أن تتم جلسة التعارف هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيها أحاديث غير رسمية عن : الصحة ، والعمل ، والأولاد ، وعن رأيه في الكتاب الفلاني ، وفي الفكرة الفلانية ، وعن أي أمر عام ليس له علاقة بموضوع الحوار .
فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ، ولظروفهم ، فيؤدي إلى فشل الحوار كأن يخبر بأن الشخص لطيف ، وسهل التعامل ، وحليم ، ويفاجأ بالعكس تماماً .
5- أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه : وأن يتجنب مناظرة ذي هيبة يخشى أو يستحي من مناظرته ؛ لأن ذلك يؤثر على قوة الحجة والجرأة على الإدلاء بها .(1/25)
6- ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد ، وتقابلهما فيه : وأن ينظر بعضهم للآخر ؛ لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها ، وفي هذه الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ، ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف إلا في أضيق الظروف .
7- مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) :
والذي يكون له مردوده النفسي على أطراف الحوار ، وسلامة قلوبهم وصفائها ، والانقياد للحق عند ظهوره ، ومن هذه الآداب :
* احترام الطرف الآخر ، والتأدب معه ، وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ ، وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه وفكرته ، من الإيجابيات والخير الكثير.
* التلطف في العبارات أثناء الحوار ، فبعض العبارات قد تفتح
مغاليق النفوس ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه ؛ من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس، وتزيل الجفوة ، وتهيئ النفوس لاستقبال الحق ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ كمناداة الطرف الآخر بكنيته ، وإذا كان أكبر سناً أو علماً ، يا أستاذي ويا شيخي ... اسمح لي ... عفواً .
* ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار ؛ فهذا يضفي على الحوار جو الألفة والأنس.
* اجتنب الغضب ما أمكن ، ولو عارضك الطرف الأخر ، أو أغلظ القول لك ، واستخدم الرفق واللين.
* تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ؛ فالنفس غالباً لا تتحمل قول: ( أخطأت ) أو ( سأثبت لك أنك مخطئ ) أو ( أنا أخالفك في الرأي )؛ فهذه الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته .
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك:لكن أرى رأياً آخر قد أكون مخطئاً فيه ، أو لعلك تصلح لي خطئي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه ببعض الإضافات، فتقول:هل لك أن تفعل هذا؟ أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة ..؟ ، أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل ؟...إلخ.
9- التحدي والإفحام :(1/26)
وهذا الأسلوب يلجأ إليه مع المماحكين الذين همهم الجدال والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس؛ فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق، وإنما
الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضللوا بسببهم؛ وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم واضطرابها . لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم، والذكاء ، والشجاعة ؛ بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه، أو سطحيته ، أو نحو ذلك .
9- المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة :
تحديد هدف الحوار ـ قبل الدخول فيه ـ أمر مهم ، والمحافظة على الهدف أثناء الحوار أيضاً أمر مهم ؛ لأن ذلك يحافظ على التركيز ، وعدم الخروج عن موضوع الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار؛ مما يكون له الأثر في ضياع الوقت ، وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد : فهذه جملة من أصول الحوار وآدابه ،أعرضها على عِلاتها ونقصها، لعلها تفتح المجال لعلماء الأمة ودعاتها أن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص منه ، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها الخلافات وخيم اليأس على بعضها ، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب الناس بعضهم إلى بعض، أن يقوموا لله عز وجل ويتفكروا مع أنفسهم أو مع بعضهم البعض ، وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ، ويعلم أن أخاه وإن كان مخطئاً في شيء فقد أصاب في أشياء أخرى ؛ ما دام أنه من أهل السنة وأتباع السلف .(1/27)
فيا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويا محبي محمد - صلى الله عليه وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى ، واقتدوا بسلف الأمة،الذين كانوا حريصين على جمع الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شيء لديهم الفرقة والاختلاف ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قيل له : إن عثمان بن عفان أتم بالمسلمين في منى وكانت السنة القصر ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً ، فلما قيل له في ذلك ، قال : إن الخلاف شر .
فحري بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك .
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح في حوارهم واختلافهم ، وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من الاختلاف؛ بل ننازعه بقدر الله عز وجل ، وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها .
ومن سلك سبيل الهدي وصدق مع الله عز وجل،في طلبه للجماعة والائتلاف ، يسر الله له سبيله ، وألَّف بينه وبين إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من أهل الزيغ والفرقة والاختلاف، أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) (العنكبوت:69) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,,,
* * *(1/28)