قضايا الدعوة الإسلامية من اليقظة إلى الصحوة
تأليف العلامة
أنور الجندي رحمه الله(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
لقد أعجبت بالعلامة الموسوعي (( أنور الجندي )) رحمه الله منذ أن قرأت له بعض كتبه قبل ثلث قرن من الزمان ، ولاسيما كتابه النفيس (( نوابغ الفكر الإسلامي)).
فقد كان من أكبر المنافحين عن الفكر الإسلامي ، والرَّادين على تيارات الغزو الفكري ، وبيان أن جميعها لا يمكن أن تصلح البشرية ، فهي تحمل في طياتها فسادها ، والإسلام وحده هو القادر على الأخذ بيد البشرية إلى شاطئ الأمان بعد أن غرقت بالدماء والخرافات والمصائب .
وهذا الكتاب الذي بين يدينا هو من أواخر الكتب التي كتبها ( العلامة ) أنور الجندي رحمه الله ألا وهو (( قضايا الدعوة الإسلامية من اليقظة إلى الصحوة ))
يقول في مبحث من مباحثه تحت عنوان
((نحن أهل الحق على موعد مع النصر)):
"يجب أن يكون واضحاً وضوح الشمس في رائعة النهار : أن الإسلام هو مستقبل البشرية كلها ، وأنه مهما وضعت أمامه العقبات فإنه سيحطمها ويتقدم إلى موقعه من قيادة العالم فإنما قد جاء منذ أربعة عشر قرناً لإنقاذ البشرية من الظلمات التي غشيته وأحاطت به والتي ما زالت تتفاقم وتتضاعف حتى بلغت اليوم أشد مراحل عنفها وشماسها ، ونحن المسلمون إنما جئنا لنحمل هذه الرسالة ونجاهد من أجلها ونقدِّم أروحنا وأموالنا رخيصة في سبيل هذا الهدف ، ومن هنا فإنَّ علينا أن نستميت في سبيل هذا الهدف لا نحيد عنه ولا نرى لنا مهمة غيره ، بل لا نرى لنا مهمة أو مطمعاً ،وأن نكون في سعينا هذا واثقين كل الثقة بنصر الله ،وتحقيق الهدف الذي يجب أن يأخذ مراحله الطبيعية وفق سنن الله في الكون وقوانينه في تطور المجتمعات ، وعلينا أن نكون على هذه الثقة بنصر الله مستشرفين الهدف مقابلين كل ما يواجهنا بصبر وطمأنينة نفس وثقة بالغة أنْ كنا نحن الذين شرَّفنا الله تبارك وتعالى لحمل هذه الأمانة والسير بها والدفاع عنها .... هذه واحدة .
أما الأخرى: فإننا يجب أن نعلم علم اليقين أن هذا الاضطراب الخطير الذي تمرُّ به الأوضاع، وهذا الصراع الشديد إنما هو نتيجةٌ فعليةٌ لتجاوزنا طريق الله ومحاولتنا التماس مناهج البشر وغفلتنا عن الحقيقة الأساسية القائمة على إسلام الكون كله لله ، وخضوعه لمنهج ربه ، فإن هذا الانحراف والتجاوز الذي يقع فيه الإنسان بحكم حرية إرادته هو مصدر هذا الاضطراب الخطير الذي أصاب المجتمعات وزلزل قواعدها وأعجزها عن أن تجد الأمن والأمان في حياتها ،وأنه لا سبيل إلى تحقيق هذا الأمن إلا بالعودة مرة أخرى إلى منهج الله وتقبله والنزول على ما قرره في تدبير أمر المجتمعات ،والتعامل بين الناس على النحو الذي ارتضاه لهم ، وما تزال البشرية تقاسي الغربة وتواجه الأزمات وتتصدع بها الأوضاع مادامت تسبح ضد التيار وتغفل عن حق الله تبارك وتعالى عليها .
... ولذلك فإنه لا يدهشنا أن نرى تلك الظواهر الخطيرة التي تروِّعُ النفس الإنسانية نتيجة عجزها عن الاحتفاظ بتوازنها أو التزامها بمنهج الله حيث تبدو مظاهر لم يعرفها أسلافنا الذين كانوا أكثر تقديراً للمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي .
... إن الانحراف عن سنن الله وتوازنات المجتمع من شأنها تبرز أوضاعاً خطيرة تبدو في ظهور الأوبئة ونقص الماء والطعام ، واندفاع البلاد دون أن تفكر في مرد هذه الظواهر ولا في آثارها { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ..} (20) سورة الحديد.
أما المؤمنون فإنهم يعتبرون بهذه الظواهر ،ويردوها إلى مخالفة الأمم لسنن الكون وانحرافهم عن الطريق السوي ، ومن ثم يعودون إلى الله ويلتمسون منهجه ويتطلعون إلى رحمته ومغفرته ، أما الغافلون المندفعون في طريق الاستعلاء الظانين أنهم يملكون تصريف الأمور ، الذين ينكرون قدرة الله تبارك وتعالى وامتلاكه مقاليد السموات والأرض فما أعظم الخسارة التي تلحق بهم ، إننا مطالبون بأن نفهم سنن الله في الكون والمجتمعات والأمم وأن نتعرف على عبرة التاريخ والأحداث التي وقعت، وكيف أزيلت حضارات ضخمة من فوق ظهر الأرض لأنها عتت عن أمر ربها وخالفت قوانينه .
... ونعلم أننا نمتحن اليوم بأخطر التحديات التي واجهت الأمم والحضارات، وأن تجمُّع الأمم علينا في محاولة لامتلاكنا هو أمرٌ يجب أن نحتشد له ،وأن نواجهه بإيمان قوي ونضال لا يهدأ ولا يلين حتى تتكشف هذه الغمة كما انكشفت عن المسلمين من قبل غمم الصليبيين والتتار والفرنجة ،ولنؤمن بأن الله تبارك وتعالى حذرنا من هذا الخطر وأنذرنا بأننا سنواجه الأمم وهي تتآمر من قوس واحد وصدق الله العظيم إذ يقول : {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (22) سورة الأحزاب
... إننا نجدنا الآن في قلب مؤامرة لها أطراف ثلاثة النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية التي استطاعت أن تسيطر على رأس جسر في قلب أمتنا الإسلامية وفي مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن مخططات هذه القوى الثلاث تكاد تجمع على التآمر لاقتلاع الإسلام واحتواء المسلمين وإذلالهم واستعبادهم ،وفي كل مكان تجد المسلمين يواجهون حملات مكثفة ومؤامرات مستمرة ونحن نلهو ونلعب ، وقد شغلتنا المطامع والأهواء ، فنحن نجري وراء اللذات والشهوات ، وهناك قوى ترسم لنا الطريق إلى السقوط في حمأة هذه الهاوية .
... وقد غرَّتنا هذه المعطيات من الثروة والطاقة والنفط فذهبنا ننفق في إسراف وسفه ، ونسينا أن هذه الثروة إنما جاءت في هذا الوقت بالذات لتكون حجة علينا لأننا نستطيع بها أن ندفع الخطر وأن نحشد القوى وأن نحرر الأرض وأن نرابط في الثغور فلا يستطيع العدو أن يقتحم وجودنا أبداً ،وفي هذه المرحلة من تاريخ أمتنا تزداد عملية الضغط وتشتدُّ في مواجهة الصحوة الإسلامية ، وتلك الخطوات التي تخطوها نحو تحقيق الهدف بالعودة إلى المنابع والتماس منهج الله وإقامة المجتمع الرباني .
... وعلينا أن نستبسل ولا نخاف هذا الاقتحام ،فإننا قد وُعدنا النصر ،ونعلم أننا على الحق ، فلنثبت ولنصمد فإن النصر قريب ووعد الله لا يردُّ ، وصدق الله العظيم إذ يقول : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف) ، ونحن نؤمن بأن الأرض لله يورثها من يشاء وأنه تبارك وتعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها والله يحكم لا معقِّب لحكمه ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (36) سورة الأنفال .
... إنا لنؤمن صادق الإيمان بأننا على الحق وأننا حملة الرسالة الخاتمة التي سترث كل هذه الحضارات المنهارة وعلينا أن نصمد في وجه الإعصار فسوف ينكشف عن النصر المبين المؤزر (بإذن الله )" (1)
----------------
هذا وقد اشتمل هذا الكتاب على الموضوعات التالية :
الجزء الأول مدخل : الدعوة الإسلامية من الأصالة إلى الصحوة
الجزء الثاني 1 - التاريخ الإسلامي 2 - التراث الإسلامي
الجزء الثالث الإسلام : منهج حياة ونظام مجتمع
الجزء الرابع 1 - الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة . 2 - العودة إلى المنابع .
الجزء الخامس الصحوة الإسلامية والشباب المسلم
الجزء السادس المؤامرة على الإسلام
الجزء السابع 1 - التغريب والفكر المادي 2 - الاقتصاد الإسلامي
الجزء الثامن 1 - المشروع الحضاري الإسلامي 2 - الإسلام والعصر
وقد قمت بفهرسته في الشاملة 3 كاملاً ليعمَّ النفع به .
ووضعت للمؤلف ترجمة مختصرة في بداية الكتاب
قال تعالى : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد
اسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وناشره والدال عليه وقارئه في الدارين آمين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 25 محرم 1430 هـ الموافق 21/1/2009 م
!!!!!!!!!!!!!!!
(1)قضايا الدعوة الإسلامية من اليقظة إلى الصحوة - (ج 5 / ص 35) الشاملة 3(/)
القرضاوي يرثي أنور الجندي رحمه الله
== رحيل راهب الثقافة والفكر ومعلم الشباب
== كان جنديا من جنود الله ينشر النور
علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق الاستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه منذ يوم الاثنين الماضي 28/1/2002 بلغني ذلك أحد اخواني فقلت : يا سبحان الله يموت مثل هذا الكاتب الكبير المعروف بغزارة الإنتاج وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، والذي سخر قلمه لخدمة الاسلام وثقافته وحضارته ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن ، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام ، لا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه إذاعة ، ولا يعرف به تلفاز !!
كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات في مختلف آفاق الثقافة العربية والاسلامية ، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بالقاهرة ، ومن أوائل الاعضاء في نقابة الصحفيين وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960.
لو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا لامتلأت انهار الصحف بالحديث عنه والتنويه بشأنه والثناء على منجزاته الفنية. ولو كان لاعب كرة لتحدثت عنه الاوساط الرياضية وغير الرياضية وكيف خسرت الرياضة بموته فارسا من فرسانها ، بل كيف خسرت الأمة كلها بموته نجما من نجومها ؛ ذلك ان أمتنا تؤمن بعبقرية (القدم) ولا تؤمن بعبقرية (القلم) .
مسكين أنور الجندي لقد ظلمته أمته ميتا كما ظلمته حيا، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة بل عاش الرجل عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة ، يقرأ ويكتب ولا يبتغي من احد جزاء ولا شكورا ، كأنما يقول ما قال رسل الله الكرام : وما اسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين .
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا اقرأ لانور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأت له: كتاب بعنوان « كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب » وكتاب عن « قائد الدعوة » يعني: حسن البنا الذي طوره فيما بعد وامسى كتابا كبيرا في حوالي ستمائة صفحة سماه : « حسن البنا: الداعية المجدد والامام الشهيد » وقد طبعته دار القلم بدمشق عدة طبعات ، في سلسلتها « اعلام المسلمين » وافتتحت به سلسلتها .. وكان حسن البنا هو الذي دفعه إلى الكتابة، فقد كان في رحلة حج معه وطلب منه ان يكتب خاطرة فقرأها، فأعجبته فشجعه ، واثنى على قلمه، وحرضه على الاستمرار في الكتابة.
وكان من كتبه الأولى « اخرجوا من بلادنا » يخاطب الانجليز المحتلين، وقد علمت ان الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة ايام في عهد الملك فاروق ثم أفرج عنه .
وللأستاذ أنور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات ، مثل كتابه « مقدمات المناهج والعلوم » الذي نشرته «دار الانصار» بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته «في دائرة الضوء» قالوا: انها من خمسين جزءا. ومن اهم كتبه: أسلمة المعرفة، نقد مناهج الغرب، اخطاء المنهج الغربي الوافد، الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية، اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار، تاريخ الصحافة الاسلامية، وكان آخر ما نشره كتاب « نجم الاسلام لا يزال يصعد ».
كان الاستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط ، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعاملين دون تقعر أو تفيهق او جنوح إلى الاغراب والتعقيد فكان اسلوبه سهلا واضحا مشرقا. وكان الاستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي ، فلم تكن هذه مهمته ، ولم يكن هذا شأنه ولذلك لا ينبغي ان يؤخذ عليه انه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات ، ولا يوثقها ادنى توثيق ، فانه لم يلتزم بذلك ولم يدعه ، وكل انسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفى به واعطاه حقه أو لا ؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي ، ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو ان هذا الاحتمال الأخير هو الاقرب ، وذلك انه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين ، بل كان اكثر ما يكتبه للشباب، حتى انه حين كتب موسوعته الاسلامية التي سماها ( معلمة الاسلام ) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف ابواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والاداب والشرائع ، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة (إلى شباب الاسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الاسلام والعرب ، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون امانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الاخطار التي تحيط بها من كل جانب ، فمن حقهم على جيلنا ان يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وان نعبد لهم الطريق الى الغاية المرتجاة.. هذه مسؤوليتنا ازاءهم ، فاذا لم نقم بها كنا آثمين ، وكان علينا تبعة التقصير. أ.هـ
واعتقد ان كتبه قد آتت اكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي لا ترضى إلا بان تقتلعهم من جذورهم واصالتهم.
كان الاستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع ان يكون له قصر ولا سيارة، حسبه ان يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من اغنى الناس ، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله ويغنى غني المال وهو ذليل
وكما قال أبو فراس:
ان الغني هو الغني بنفسه ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا واذا قنعت فبعض شيء كاف
وكان إربه من الدنيا محدودا ، فليس له من الأولاد الا ابنة واحدة تعلمت في الأزهر ، وحصلت على أجازة ليسانس في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر وكانت رغباته تنحصر في ان يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب ، كما سئل احد علماء السلف: فيم سعادتك ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا ، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبدالسلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم او في طليعتهم، ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج ، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان فاقترح عليه ان يجري الحوار معه في الفندق، وبعد ان انتهى الحوار تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ ان تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا وان كان دون ما تستحق، فإذا بالرجل يرفض رفضا حاسما ويقول: انا قابلتكم ، وليس في نيتي ان آخذ مكافأة ولست مستعدا أن أغير نيتي ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة. قالوا له: هذا ليس من جيوبنا انه من الدولة، وأصر الرجل على موقفه، وأبى ان يأخذ فلسا!
وكان الاستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة منار الإسلام في أبو ظبي وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها، ومعنى هذا انه لا يطلب ما يستحق ، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين.
كان رجلا ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه انه كان يحب ان يكون متوضئا دائما فيأكل وهو متوضئ ، ويكتب وهو متوضئ ، وكان ينام بعد العشاء ، ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد ، ويصلي الفجر ، ثم ينام ساعتين بعد الفجر ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه ..
كان الأستاذ أنور الجندي يخدم الجيران ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء ، ويضعها أمام شققهم . وكان له من اسمه نصيب أي نصيب فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور - او التنوير - والجندية. فقد ظل منذ امسك بالقلم يحمل مشعل (النور) او (التنوير) للامة ، وانا اقصد هنا: التنوير الحقيقي لا (التزوير) الذي يسمونه (التنوير). فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة الى النور الحق الذي هو أصل كل نور وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور ، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ).
وكان اهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري الذي يسلخ الامة من جلدها ، ويحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها والغاء صبغتها الربانية ( صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ) وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم ويهتك سترهم - وان بلغوا من المكانة ما بلغوا - حتى رد على طه حسين ، وغيره من اصحاب السلطان الادبي والسياسي .
قال الجندي يوما عن نفسه: «انا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، ما زلت موكلا فيها منذ بضع واربعين سنة ، حيث اعد لها الدفوع ، واقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة الى الحق تبارك وتعالى ، وعهد على بيع النفس لله . والجنة - سلعة الله الغالية - هي الثمن لهذا التكليف ( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة ) ».
كان النوروالتنوير غايته ورسالته ، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته . لقد عاش في هذه الحياة (جنديا) لفكرته ورسالته فلم يكن جندي منفعة وغنيمة ، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة ولم يسع لكسب المال والثروة او الجاه والمنزلة ، وانما كان اكبر همه ان يعمل في هدوء ، وان ينتج في صمت ، والا يبحث عن الضجيج والفرقعات ، تاركا هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها.
كان الاستاذ الجندي من « الاخوان المسلمين » من قديم وممن رافق الامام البنا مبكرا وممن كتبوا في مجلات الاخوان في الاربعينيات من القرن العشرين ولكن الله تبارك وتعالى نجاه من كروب المحن التي حاقت بالاخوان قبل ثورة يوليو وما بعدها ، فلم يدخل معتقل الطور ايام النقراشي وعبدالهادي ولم يدخل السجن الحربي ايام عبدالناصر ،بل حصل على جائزة الدولة التقديرية في عهده على حين لم ينلها احد ممن كانت له صلة بالاخوان .
وربما كانت طبيعته الهادئة ، وعمله الصامت ، وادبه الجم وتواضعه العجيب ، وبعده عن النشاط العلني في تنظيم الاخوان ، سببا في نجاته من هذه المعتقلات ، خصوصا في عهد الثورة .
كتب الاستاذ انور الجندي في فترة المحنة في عهد عبدالناصر في بعض المجلات غير الاسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني - امثال عمر المختار في ليبيا ، وعبدالكريم الخطابي في المغرب ، وذلك في مجلة (المجتمع العربي) المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات . ويقول عن هذه الفترة : ( لقد كان ايماني ان يكون هناك صوت متصل - وان لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي - ليقول كلمة الاسلام- ولو تحت اي اسم آخر - ولم يكن مطلوبا من اصحاب الدعوات ان يصمتوا جميعا وراء الاسوار ).
في اواخر الثمانينيات من القرن العشرين سعدت بلقاء الاستاذ الجندي في الجزائر العاصمة في احد ملتقيات الفكر الاسلامي وهي اول مرة ألقاه وجها لوجه - بعد ان كنت رأيته مرة بالمركز العام للاخوان مع الاستاذ البنا سنة 1947م على ما اذكر - فوجدته رجلا مخلصا ، متواضعا ، خافض الجناح ، ظاهر الصلاح نير الاصباح .
وقد ارسلنا منظمو الملتقى الى احد المساجد في ضواحي العاصمة هو وانا ، وأردت ان اقدمه ليتحدث اولا ، فأبى بشدة ، وألقيت كلمتي ثم قدمته للناس بما يليق به ، فسر بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثت معه : لماذا لا يظهر للناس ، ويتحدث اليهم بما افاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: انا رجل صنعتي القلم ولا احسن الخطابة والحديث الى الناس ، فأنا لم اتعود مواجهة الجمهور ، وانما عشت اواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي ممن آتاهم الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فقلت له:
ولكن من حق جمهور المسلمين ان ينتفعوا بثمرات قلمك ، وقراءاتك المتنوعة ، فتضيف اليهم جديدا وتعطيهم مزيدا. فقال: كل ميسر لما خلق له.
وفي السنوات الاخيرة حين وهن العظم منه ، وتراكمت عليه متاعب السنين وزاد من متاعبه وآلامه في شيخوخته ما رآه من صدود ونسيان من المجتمع من حوله كأنما لم يقض حياته في خدمة امته ، ولم يذب شموع عمره في احيائها وتجديد شبابها وكأنما لم يجعل من نفسه حارسا لهويتها وثقافتها، مدافعا عن اصالتها امام هجمات القوى المعادية غربية وشرقية ليبرالية وماركسية.
عاش الاستاذ الجندي سنواته الاخيرة جليس بيته ،وطريح فراشه يشكو بثه وحزنه الى الله كما شكا يعقوب عليه السلام يشكو من سقم جسمه ويشكو اكثر من صنيع قومه معه ، الذين كثيرا ما قدموا النكرات ، ومنحوا العطايا للإمعات ، كما يشكو من إعراض اخوانه الذين نسوه في ساعة العسرة وايام الازمة والشدة ، والذين حرم ودهم وبرهم احوج ما كان اليه ، مرددا قول علي رضي الله عنه ، فيما نسب اليه من شعر:
ولا خير في ود امرئ متلون اذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد اذا استغنيت عن اخذ ماله وعند زوال المال عنك بخيل
فما اكثر الاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
ومنذ اشهر قلائل اتصلت بي ابنته الوحيدة من القاهرة ، وابلغتني تحيات والدها الذي اقعده المرض عن الحركة، وهو يعيش وحيدا لا يكاد يراه احد او يسأل عنه احد برغم عطائه الموصول طول عمره لدينه ووطنه وامته العربية والاسلامية . وكانت كلماتها كأنها سهام حادة ، اخترقت صدري ، واصابت صميم قلبي ، وطلبت منها ان تبلغه اعطر تحياتي ، وابلغ تمنياتي ، واخلص دعواتي له بالصحة والعافية، وعزمت زيارته في اول فرصة انزل فيها الى مصر باذن الله .
وشاء الله جلت حكمته ان يتوفاه اليه قبل ان تتحقق هذه الزيارة وان يلقى ربه - ان شاء الله - راضيا مرضيا. ( يايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
رحم الله انور الجندي وغفر له وتقبله في الصالحين وجزاه عن دينه وامته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين الذين اخلصهم الله لدينه ، واخلصوا دينهم لله .
ـــــــــــــــ(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد ..
فإن الأستاذ الكاتب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله تعالى - من أحسن الكتاب المشخصين لواقع أمتنا الإسلامية المعاصر ، وقد قضى حياته كاتباً وجندياً مخلصاً للدفاع عن الإسلام وحضارته ، وكرس حياته لتسليط الضوء على المبادئ الهدامة ساعياً للقضاء عليها بالحجة والبرهان ، فقام - رحمه الله تعالى - بتفنيد أقوال المستشرقين والمبشرين والعلمانيين والماسونيين وسائر أعداء الإسلام ، ودافع عن الخلافة الإسلامية وبين محاسنها الوضيئة التي حاولوا إخفائها حيناً ، وطمسها أحياناً كثيرة ، كما نادى - رحمه الله - بوحدة المسلمين صفاً وفكراً ليستطيعوا مواجهة عدوهم .
لذا كانت كتابات الأستاذ أنور - رحمه الله - كلها منارات هادية لجيلنا والأجيال القادمة ؛ تثبتهم على الحق ، وتزودهم بزاد التقوى ، وتمدهم بالفكر الإسلامي الصحيح ، وتحصنهم بالردود على شبهات أعداء الإسلام .
وقد أجمع الكثير من قرّاء مؤلفات الأستاذ المفكر : على دقة منهجه العلمي ، وعمق تفكيره المستقيم ، وبُعد نظرته المستقبلية التي تشع اطمئناناً بأن المستقبل لهذا الدين .. لذلك فإننا نشعر بالراحة حين نقرأ له - رحمه الله - لثقتنا بأنه يدافع عن الإسلام ويقف وجهاً لوجه مع دعاوى أعدائه ، كأنه في خندق وحده ، يقوم بما لم يقم به غيره .
ومما يشرفنا أن نسطره في هذه الصفحات أن كاتبنا - رحمه الله - كان يكن حباً خاصاً لمجلة المجتمع التي تشرفت حيناً من الزمان بأن تكون باباً من أبواب الخير تنشر ما يحمله عقل مفكرنا إلى أبناء الأمة الإسلامية ، في وقت عزّ فيه من يقول كلمة الحق ، وقلّ فيه من يحمل قلمه دفاعاً عن الإسلام وأهله .. فأضاءت مجلة المجتمع بفكره المستنير الكثير مما استصعب فهمه على جيل الصحوة الإسلامية الناشئ ..(1/1)
وإن أثبتنا هنا حب كاتبنا - الراحل بجسده الباقي بيننا بفكره - لمجلة المجتمع ، فلابد أن نثبت أيضاً حبه الجمَّ لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت التي تصدر مجلة المجتمع ، حيث تميزت العلاقة بينه - رحمه الله - وبين القائمين على الجمعية بالشفافية والصدق والمودة طوال سنوات عديدة ، الأمر الذي دعا بالأستاذ أنور الجندي أن يخص جمعية الإصلاح الاجتماعي بطباعة هذا الكتاب (1) الذي بين أيديكم الآن ويحمل عنوان : " قضايا الدعوة الإسلامية : من اليقظة إلى الصحوة " ، حيث يسلط الضوء على مرحلة هامة من تاريخ الدعوة الإسلامية خلال الفترة من : 1970 م إلى 1990 م .
وكم كنا نتمنى أن يخرج هذا الكتاب إلى النور في حياة مؤلفه ، لولا أن قَدَر الله تعالى سبق ؛ واختاره إلى جواره .
ووفاءً من جمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت للمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله تعالى - فقد بذلت الجمعية أقصى الجهد في سبيل طباعة هذا الكتاب ونشره عرفاناً بجميل هذا الداعية الذي قضى حياته متواضعاً ، وتوفاه الله علماً شامخاً ، منافحاً عن دين الله عز وجل ، لم يتزعزع عن دعوته ، وثبت عليها إلى آخر لحظة في حياته - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - .
ويحتوي الكتاب - الذي تشرفت جمعية الإصلاح الاجتماعي بطباعته ونشره - على الأجزاء الآتية :
الجزء الأول : مدخل : الدعوة الإسلامية من الأصالة إلى الصحوة
1 - القرآن الكريم
2 - اللغة العربية
الجزء الثاني : 1 - التاريخ الإسلامي
2 - التراث الإسلامي
الجزء الثالث : الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع
الجزء الرابع : 1 - الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة
2 - العودة إلى المنابع
__________
(1) انظر نص الرسائل المتبادلة بين المؤلف - رحمه الله تعالى - و الأمين العام لجمعية الإصلاح الاجتماعي ، بشأن موافقة المؤلف على طباعة الكتاب ابتغاء مرضاة الله ، دون انتظار أي أجر مادي .(1/2)
الجزء الخامس : الصحوة الإسلامية والشباب المسلم
الجزء السادس : المؤامرة على الإسلام
الجزء السابع : 1 - التغريب والفكر المادي
2 - الاقتصاد الإسلامي
الجزء الثامن : 1 - المشروع الحضاري الإسلامي
2 - الإسلام والعصر
وفصول هذا الكتاب كلها مهمة ، ويحتاج كل مسلم إلى قراءتها قراءة متمعنة ، راجين الله تعالى أن نكون قد قدمنا خدمة للإسلام والمسلمين بنشر هذا الكتاب ، سائلين إياه أن يكتب الأجر كاملاً للأستاذ أنور - رحمه الله - ، وأن يهيئ لمؤلفاته دار نشر تقوم بإعادة طباعتها ونشرها بين الناس ، وأن يثيب كل من ساهم بجهد في إخراج هذا الكتاب وطبعه ونشره وتوزيعه .
الأمين العام - المدير العام
لجمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت
عبد الله سليمان العتيقي
الكويت : 08 من ذي القعدة 1423 هـ الموافق 11 من يناير 2003 م .( رسالة المؤلف التي يذكر فيها أنه لا ينتظر من وراء ذلك أي أجر مادي )
( رسالة المؤلف التي يذكر فيها موافقته للجمعية على طباعة الكتاب )
( رسالة الأمين العام للمؤلف )(1/3)
الجزء الأول
مدخل : الدعوة الإسلامية من الأصالة إلى الصحوة
1 - القرآن الكريم
2 - اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل :
الدعوة الإسلامية
من الأصالة إلى الصحوة
... منذ اليوم الأول لفجر الإسلام وإشراق نوره ، وقد تشكلت قوى المواجهة والمعارضة في سبيل إعلان الحرب على مفهوم التوحيد الخالص ، وتوالت محاولات احتواء الإسلام والتآمر عليه ولما كان الإسلام هو الحق وهو الضوء الباهر الذي أنزل من رب العالمين لإخراج الناس من ظلمات الجهل والوثنية وتحريرهم من قوى الإباحة والإلحاد التي لم تتوقف لحظة عن العمل في سبيل إعلان الحرب على التوحيد والغيب والوحي ، وتزييف مهمة الإنسان ومسؤوليته والتزامه الأخلاقي .
... ولقد واجه المسلمون هذه الحركة حين تجمعت قوى الظلم لتحمل لواء إطلاق سموم وثنيات اليونان والفرس إلى الفكر الإسلامي لتزييف مفهومه فقاوموا ذلك في قوة وإيمان وصححوا للناس المفاهيم وحالوا بين المسلمين وبين الخروج من ذاتيتهم الخاصة وانتمائهم الرباني الأصيل .
... وكانت معركة كبرى دعت إلى الفكر الباطني والمادي والوثني ، وحاولت أن تنقل مفاهيم علم الأصنام إلى أفق الإسلام ، قاوم فيها رجال أشداء وأبطال وأعلام في مقدمتهم الشافعي وابن تيمية والغزالي وعشرات حتى انجلت المعركة عن هزيمة كاملة تراجع فيها الفكر البشري وعاد الفكر الإسلامي الأصيل إلى التألق من جديد .(2/1)
... ثم عادت المحاولة مرة أخرى مع سيطرة النفوذ الأجنبي على الأمة الإسلامية ، وكانت الجولة هذه المرة أشد قوة على الإسلام ، فقد كانت أمته ضعيفة ما تزال ثاخنة الجراح ، فقد فرضت ترجمات الفكر الغربي بوثنياته و ماديته والباطنية إلى الفكر الإسلامي في إطارات فلسفية غربية خادعة ، ولكن خدعتها لم تستمر طويلاً ، فقد اكتشف المسلمون أنفسهم ، واستطاع الإسلام أن يستعيدهم إليه فكانت عملية تصحيح مفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع هو أخطر الأعمال التي تحققت بعد سقوط الخلافة وتفكك الدولة العثمانية التي حمت الأمة الإسلامية أربعة قرون كاملة ، قبل أن تهدمها المؤامرات المستمرة التي حشد لها الغرب قواه كلها في سبيل تحطيم الوحدة الإسلامية الجامعة وفرض مفاهيم القومية الواحدة والاشتراكية والعلمانية ، ودفع قوى المسلمين إلى التصارع واستمرار الخصومة والخلاف ، وكانت ( العودة إلى المنابع ) هي الدعوة الصادعة في مقاومة ضخمة ممتدة لمدة عقود لكشف زيف الاستشراق والتبشير والتغريب ، وهي خلاصة المحاولة التي قام بها الغرب بعد هزيمة الحروب الصليبية وإعلان لويس التاسع من محبسه في دار ابن لقمان في المنصورة أن الإسلام لا يحارب بالسيف ولكنه يحارب بالكلمة : أي تزييف الكلمة المسلمة وإخراجها عن أصالتها .
... وكان لقوى الشيوعية والماركسية دورها الخطير في حرب الإسلام والقرآن ، وسرعان ما اتسع نطاق الحرب حين دخلت الصهيونية الميدان ، وهنا تجمعت القوى الثلاث لتقاوم هذا الزحف الخطير الذي كانت تقوده قوى مستشرقين ومبشرين عتاة عرفوا جوانب الضعف في الفكر الإسلامي وتاريخه ووجهوا السهام نحوها في محاولة ضخمة حاشدة للحيلولة دون تمكين الإسلام من أداء دوره الصحيح .(2/2)
... وكان لابد من مواجهة حاسمة لهذا الإعصار الخطير الذي يضرب حصوننا وثغورنا ولم يكن هناك من سبيل إلى تأكيد اليقظة الإسلامية من التماس منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بناء الأجيال وتربية الشباب المسلم على الصمود والصبر والاخشيشان .
... كان كل ما سبق ذلك من جهاد البغدادي والجبرتي الكبير ومحمد بن عبد الوهاب والشوكاني والزبيري هو الركيزة للعمل الذي قام به السنوسي والمهدي وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا في منطلق الدعوة العامة وصولاً إلى تحقيق القاعدة الثابتة : الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع عن طريق التربية وبناء الأجيال .
... وخلال مرحلة اليقظة كان جهاد علماء المسلمين قائماً على دحض شبهات المستشرقين ، وسموم التبشير حتى تكشف للدعوة الإسلامية أن هناك محاولة خطيرة كانت تدار في خفاء هي معركة ( التغريب ) التي كشف عنها ( هاملتون جب ) وخمسة من المستشرقين في كتابه ( وجهة الإسلام ) والذي أعلن أن هناك خطة تجري العمل في الأمة الإسلامية كلها في محاولة ترمي إلى أن يتوقف الإسلام عند المسجد والمولد النبوي ، وأن ينزاح تماماً عن المجتمع كله فلا تكون له أي مشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو التربوية في محاولة لفرض سموم العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة من ناحية وبين الدين والمجتمع من ناحية أخرى ، ليكون العالم الإسلامي شبيهاً بالتجربة التي صنعها علماء الغرب وملاحدته حين عزلوا المجتمع الغربي عن المسيحية حتى لم يعد لها أي توجه في أي اجتماعي أو اقتصادي ، وكان لابد أن يكون هذا الخطر في أذهان الدعاة إلى الله وهم يكونون الشباب الجديد على الدين الحق ، وعلى الإيمان بمنهج الله الذي هو وحده الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور .(2/3)
... وهذا ما ركز قاعدة بناء المجتمع المسلم على الإسلام والكشف عن حقيقته بوصفه دين ( الوسطية ) وأنه ( المنهج الرباني ) الذي تمثل عند المسلمين كدين وعقيدة ، وعند جميع العناصر على أنه ثقافة واحدة موحدة .
... ومضت الدعوة الإسلامية تحطم قواعد التغريب والغزو الفكري حتى جاءت نكسة 1967م حيث سقطت فلسطين كلها بما فيها بيت المقدس في يد الصهيونية العالمية ، هنالك تكشف الموقف الصحيح وتبين أنه لم يعد أمام المسلمين إلا حقيقة واحدة : هي أن يخرجوا من دائرة الدفاع إلى دائرة جديدة هي إنشاء المنهج الإسلامي وتأصيل العلوم الإسلامية وتحريرها من التبعية .
... وقد طلع فجر القرن الخامس عشر على المسلمين وهم يواجهون هذه الحقيقة ويعملون في سبيل تحرير المفهوم الإسلامي من التبعية على النحو الذي أزعج التغريبيين الذين هاجموا اليقظة الإسلامية وهي تدخل دائرة الصحوة حين سقطت معاقل التبعية والظلم والنفوذ الغربي حين سقطت القوميات والاشتراكية مقدمة لسقوط النظام الشيوعي كله .
... وهكذا كشفت الصحوة عن وجهها الصحيح بوصفها حقيقة ثابتة تؤكد الأحداث وجودها ، وينطلق الإسلام منها إلى كل جوانب الكوكب حيث استمكن التوجه الإسلامي في الغرب على صورة لم يسبق لها مثيل حيث دخل في الأخير عديد من علماء الغرب في الإسلام سواء من التجريبيين أو الفلاسفة أو المفكرين : جارودي ، بوكاي ، السون ، هوفمان ، مريم جميلة المهدية ، وقد دخل بعض هؤلاء الإسلام عن طريق ( الإعجاز القرآني ) الذي تكشفت في أبحاث العلماء التجريبيين حقائق أوردها القرآن منذ أربعة عشر قرن ، ولم يكن يعرفها أحد في ذلك التاريخ ، ولابد أنها جاءت من مصدر أكبر من قائلها ذلك هو الحق تبارك وتعالى كما عبر عن ذلك دكتور بوكاي .(2/4)
... ولقد كشف دخول كبار العلماء والمفكرين في الإسلام ظاهرة خطيرة في دائرة التحول من اليقظة إلى الصحوة ، تؤكد عمق التحول بالنظر إلى التحولات التي ظهرت في إيران ، وأفغانستان ، والجزائر ، مما هز دوائر الغرب وكشف لهم الحقيقة الأساسية وهي أن كل ما قام به التغريب والغزو الثقافي خلال قرنين كاملين منذ الحملة الفرنسية 1798م إلى الآن حين تصور أنه يستطيع أن يحتوي الإسلام والمسلمين في دائرة السيطرة الكاملة فإذا به يفاجئ بأن الإسلام يسترد أهله ويقرر أن الأرض لا تنبت الثمر الذي ألقى إليها لأنه ليس من ثمارها الأصيلة .
... وجاء سقوط الشيوعية ليكشف حقيقة أساسية وهي انهيار الفكر الغربي كله فليست الشيوعية إلا أحد أجنحة الفكر الغربي ، هذا فضلاً عن أهمية الدور الذي قام به علماء الإسلام في الكشف عن مدى عجز الأيديولوجيات والمذاهب الغربية من فرويدية وعلوم اجتماعية ونظرية دارون ونظرية سارتر عن العطاء الحقيقي بعد أن ظهر أنها لم تكن في حقيقتها نظريات إنسانية مجردة ، بل كانت حقيقتها تجارب وفروض صالحة للقبول أو الرد ، وقد تبين كيف واجهت هذه النظريات بالإضافة إلى الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية والعلمانية والتنوير والحداثة والتفكيكية إنها لا تلبث قليلاً حتى تنهار ، فهي لا تستطيع أن تثبت أمام تطورات المجتمعات واختلاف العصور والبيئات.
... أين هذا من الإسلام : المنهج الرباني القادر على العطاء في كل أفق ، المرن الواسع ، القادر على تقبل متغيرات الأمم والأزمنة والعصور والبيئات ؟ .
... هذا هو ما لفت نظر علماء الغرب الذين بهرهم أيضاً وعلى نطاق واسع : الإعجاز الطبي في القرآن والذي أدخل عدداً من علماء التجريب إلى الإسلام .
... ولقد كان أقسى ما واجه الغرب وأزعجه إزعاجاً شديداً وهز دوائر التغريب وكتب عنه أمثال زكي نجيب محمود بقسوة وشراسة :
... أولاً : تأصيل العلوم والمناهج وأسلمتها وتحريرها من التبعية .(2/5)
... ثانياً : معجزات العلوم التجريبية وخاصة في خلق الإنسان ، وتكوينه ، وما يتصل بالكواكب والأفلاك التي تكتشف اليوم عن طريق التلسكوبات على نحو مدهش ، يقف أمامه الغرب العلماني واجماً ويا ليته كان يستطيع الاستجابة ويقول : " سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً "
* ... * ... *
... لقد مضت المرحلة من ( اليقظة إلى الصحوة ) ثابتة الخطى ، ماضية إلى غايتها ، تدفعها الفطرة الأصيلة التي كانت دائماً منطلق كل يقظة وكل صحوة حيث كان الإسلام قادراً على استرداد أهله إذ ما واجهتهم المحنة وأحاطت بهم الأزمة ، فتوالت خطواتهم حيث انكشف للمسلمين من الحقائق الباهرة ما أصدقهم عظمة الشريعة الإسلامية وعطاء الفقه الإسلامي ، وتأكد لهم ضرورة رجوع المنهج الرباني بعد أن استطاع النفوذ الأجنبي أن يحجبهم عنه خلال أكثر من قرن من الزمان ، حين فرض عليهم القانون الوضعي فجرى العمل حول تصحيح المفاهيم ، وتجلية الشريعة الإسلامية على نحو يحقق معه وضع مادة الشريعة الإسلامية في دساتير كثير من الأقطار العربية بعد تأكيد مادة ( الإسلام دين الدولة ) فجاء في الأخير ( أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للقوانين ) وسقطت محاولات العلمانية التي حاولتها بعض الأحزاب الاشتراكية والقومية إلى حين .
... كذلك فقد حشدت القوى الإسلامية رجالها من أهل الفقه والقانون من أجل تقنين الشريعة الإسلامية فتم ذلك في عديد من الأقطار وفي مقدمتها مصر غير أن عقبات قامت في العقود الأخيرة دون المضي إلى الغاية ، وأن تحقق بعضاً من ذلك في السودان والأردن والكويت .
... ومن ناحية أخرى تكشفت حقائق كثيرة حول الخطرين اللذين عمد الاستشراق والتغريب والنفوذ الأجنبي لفرضهما على أمة الإسلامية وهما :(2/6)
الأولى : القوميات والإقليميات وإعلاء شأن التاريخ السابق للإسلام بالدعوة إلى الفرعونية والآشورية والبابلية والفينيقية ، كما عملت الصهيونية على إحياء بعض الأقليات العرقية ، فضلاً عن أنها كانت وراء الفلسفة المادية بكل نظرياتها وفي مقدمتها الدارونية و الاشتراكية وقد سقطت القومية بمفهومها الغربي تماماً وتأكد لها أن العروبة يجب أن تكون متأصلة مرتبطة بالفكر الإسلامي أساساً.
أما الثانية : فهي الاشتراكية مرتبطة بالماركسية وبالمفهوم الغربي للقومية وهو ما احتضنته الأحزاب الشيوعية ، وقد سقط هذا أيضاً وبذلك سقطت نظرية الاستشراق التي كانت قد بدأت في غزو بلاد المسلمين بالقومية والاشتراكية ليكونا بديلين عن الوحدة الإسلامية والشريعة الإسلامية .
* ... * ... *
... حول هذا كله من خلال أكثر من مائة قضية من قضايا الدعوة والفكر الإسلامي مقسمة على نحو خمس وعشرين حلقة مضى البحث فيها حول تطور اليقظة الإسلامية التي سرعان ما انتقلت إلى " الصحوة الإسلامية " حين تحول الفكر الإسلامي من مرحلة الرد على الشبهات والدفاع عن الإسلام إلى مرحلة بناء قاعدة ( التأصيل الإسلامي ) على الطريق إلى عصر النهضة ، وهو تحول سلمي خطير اتسعت فيه دائرة الإسلام حيث وصل إلى كل أرض ، وانتقل بالذات إلى موقعين أخرج منهما من قبل وهما الأندلس والبلقان ، أما الإسلام فقد انتشر في كل القارات الخمس وأقام ركائز في قلب أوروبا : إنجلترا وألمانيا وفرنسا فضلاً عن زحفه إلى قلب القارة الأمريكية وإلى وسط إفريقيا وجنوبها وإلى استراليا ، ومن عجب أن توسع الإسلام في الأقطار في أشد مراحل الاستعمار والسيطرة الغربية .(2/7)
... ولقد كان المسلمون على ثقة بأنهم يحملون منهجاً ربانياً لا يمكن أن ينهزم إلا إذا تراجعوا وغلبهم زخرف الترف والتحلل والانحراف وأن زخرف المنهج الغربي وبريقه الخداع لن يظل طويلاً حتى ينكشف انحرافه واضطرابه وعجزه عن العطاء في بيئته التي لا تملك منهجاً أصيلاً فكيف بالأمة الإسلامية التي شكلها الإسلام منذ خمسة عشر قرناً ، فكشفوا منذ اليوم الأول قصور الليبرالية وفساد القومية واضطراب الماركسية جميعاً .
... ولقد كشفت الصحوة ومن قبلها اليقظة عن تمزق الأيديولوجية الغربية بشقيها وانهيارها وقد وجهت إليها المنتقدات من كل جانب ، لمن تكشف عجزها عن العطاء الحضاري الحق ، ولما كانت الماركسية هي الشق الثاني للمنهج الغربي فإن سقوطها المبكر يؤكد تصدع النظام كله ، وإذا كانت المسيحية الغربية قد عجزت عن العطاء من قبل فإنها لن تستطيع اليوم أن تحقق شيئاً ، ولقد كشفت الصحوة أن فلسفة الغرب كلها قد عجزت عن العطاء وكشف الباحثون الغربيون أصحابها أنفسهم عن أخطائها وفسادها سواء في منهج فرويد أو ماركس أو دوركايم أو سارتر حيث قامت جميعها على الانشطار المادي الذي لا يحقق للإنسان أي نجاح إلا إذا تكامل مع الشطر الروحي وهو بدونه يواجه حياة لا تعرف الأمن ولا السكينة ولا السلام الاجتماعي .(2/8)
... وقد تبين في الأخير أنها كلها ، هذه الأيديولوجيات لم تكن مناهج علمية أو عقلانية مجردة من الأهواء والمطامع أو نظماً أصيلة حقيقية تصلح للبشرية كلها أو تحقق أمل الإنسان وإنما هي تجارب وفروض وضعت في ظروفها الخاصة وقد استمدت أصولها ومصادرها من الفكر اليوناني الوثني والإباحي الذي كان يصارع دعوة الله الحق على مدى العصور ، ولذلك فهي سرعان ما انكشف عجزها عن العطاء عندما تدخل التجربة فتحتاج إلى الإضافة والحذف بينما يقف المنهج الرباني شامخاً كالطود في عطائه للبشرية ، قادراً على تقبل متغيرات العصور والبيئات بمرونة وافرة تجعله قائماً ما بقى الليل والنهار مؤذنا بأن الإسلام هو وحده منهج الحياة ونظام المجتمع وإلى الأبد .
ذاتية الإسلام الخاصة
محاولة إخراج الإسلام من ذاتيته الخاصة
... من أبرز علامات هذا العصر ( العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري ) هو انكشاف كثير من الأسرار والخفايا والمؤامرات والفتن التي ظل الغرب ( من خلال تنظيمات الكنيسة ووزارات الاستعمار وأوكار التبشير وخطط الاستشراق المنتشرة في الجامعات الغربية وخاصة في معاهد الدراسات الشرقية ) يخفيها ويضع بين المسلمين وبينها ستاراً كثيف حتى لا يعرف المسلمون الغاية الخفية في حرب الإسلام والمسلمين التي يخفيها وراء عبارات مبهمة ومن خلال دعوته عن طريق أوليائه وأتباعه إلى المسلمين بأن يخففوا حملاتهم وأن يعلوا من طابع التسامح والسلام في مواجهة الغربيين الذين أعطيت لهم الفرصة للسيطرة الكاملة على مقدرات المسلمين والعرب وخاصة في مجالات التربية والاقتصاد والقانون في محاولة لإخفات صوت الإسلام وإخراجه عن مفهومه الحقيقي إلى مفهوم قريب من مفهوم ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ) .(2/9)
... ولقد بدا هذا واضحاً من خلال أخطر تجربة مر بها المسلمون في العصر الحديث وهي تجربة العلاقة بين الدولة العثمانية : دولة الخلافة وبين الشعوب الداخلة في ولايتها وخاصة دول البلقان ، وكيف استطاعت هذه الدول خداع الدولة العثمانية تحت أسماء التسامح والسلام والعدل من التمكن والسيطرة وإزاحة سلطان الدولة الحقيقي ، وذلك عن طريق الامتيازات التي أتاحت لهم فتح مدارس خاصة وأقامت كيانات خاصة داخل الدولة العثمانية على النحو الذي مكنهم أخيراً من قلب الدولة نفسها ، والتآمر عليها من خلال تلك النوافذ التي فتحوها تحت اسم التسامح والسلام . ... وليس معنى هذا أن التسامح والسلام ليست من صميم الإسلام ، ولكن الغرض هو أنها استعملت على نحو غير منضبط على نحو مكن عن طريقها من إحداث شرخ في جدار الدولة العثمانية ، فالإسلام يقر التسامح والسلام مع جميع العناصر المشتركة معه في الدولة ، ولكنه يجب أن يكون ذلك في إطار من الضوابط الكاملة وحتى لا يستفيد منه القوى الأجنبية لتجعله وسيلة للغزو والتسلط وتحقيق أهدافها في كسر وحدة الدولة أو هدم مقوماتها .(2/10)
... لم تكن هذه المحاولة مسألة موقوتة ، بل كانت ظاهرة ثابتة خطيرة ، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب ، فقد استطاع النفوذ الأجنبي لفترة طويلة إخفاء أحقاده وجرائمه وكراهيته ونقمته على الإسلام وراء مظهر بارد لا يكشف حقيقته بينما هو يعمل من خلال مؤسساته وقواه الممتدة إلى كل أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتعليمي ، في أناة وصبر ومكر ومن خلال منهج ممتد ، ربما إلى مائة عام أو أكثر على تحقيق أهدافه على النحو الذي كان يظهر من آن وآخر من خلال المؤامرة على الشريعة الإسلام ، المؤامرة على اللغة العربية ، المؤامرة على قيم المجتمع الإسلامي ، المؤامرة على التراث والسنة والقرآن وتاريخ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسلام وكان ما يبدو لنا من أطراف هذا المخطط قليلاً ، وكان كلما ظهر شئ له أهميته أسرعت تلك القوى إلى إخفائه أو تغييره حتى تظل خطة المؤامرة المدبرة قائمة وراء المسرح حتى لا يستطيع المسلمون الوصول إليها أو مقاومتها .
... ولكن العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر الهجري ، وما بعد ذلك استطاعت أن تكشف الكثير المفرق ، المتناثر ، الذي يظهر بين آماد بعيدة حتى لا يوحي بالصلة والترابط .(2/11)
... وكان أخطر ما كشفته مخططات الماسونية ثم مخططات بروتوكولات صهيون، وكان التركيز على عملين كبيرين : الأول : هو إسقاط الخلافة وتمزيق الدولة العثمانية ، والثاني : غرس رأس جسر من الكيان الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية في فلسطين وبيت المقدس مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أضيف إلى ذلك مخطط الكنيسة الخطير قبل الحروب الصليبية وبعدها ، والمؤامرات التي عملت على تآزر الكنيسة مع قوى التتار التي أسقطت الخلافة في بغداد ، وتجاوزتها إلى دمشق والشام في الطريق إلى مصر ، ومن وراء ذلك مؤامرة اليهود المتصلة التي لم تتوقف من وراء كل المواقف في إخراج المسلمين من الأندلس ، وفي تدمير الدولة العثمانية والخلافة ، وفي إنشاء " الماركسية " ودفعها إلى العالم الإسلامي لتدميره .(2/12)
... كان هذا المخطط كله واضح الهدف ، واضح التكاتف بين قوى الكنيسة واليهودية العالمية ، واستغلال كل القوى التي على الساحة ، وما وراء ذلك من خلق قوى وتنظيمات جديدة أبرزها البهائية ، والقاديانية ، والأحمدية من ناحية والروتاري وشهود يهوه وغيرها من منظمات منبثة في جميع أطراف الأمة الإسلامية تحمل معاول الهدم ، ووسائل الإغراء لكسب الأغرار وتجنيدهم لخدمة أهدافها من خلال منظمات رئيسية هي منظمات التبشير والاستشراق والجامعات والإرساليات الأجنبية والمجلات والصحف على نحو دقيق وخطير يسري سريان الماء في مناهج التعليم ويعمل على تزييف قيم الإسلام في السياسة والاقتصاد والاجتماع ولقد تنامى هذا التيار من خلال استشراق غربي واستشراق ماركسي واستشراق صهيوني ، ولكنه في العقد الأخير من القرن الرابع عشر وإلى اليوم ومنذ أن تعالى مد الصحوة الإسلامية فقد زادت معالم الخطر ، وازدادت محاولات الاحتواء والغزو وتعالت بعد أن أصابها الذهول حين وجدت كل ما رسمته من مناهج وتنظيمات قد أصابه الانهيار والتهدم واعتورته الشكوك بعد أن ظنوا أنهم قد وصلوا إلى مرحلة من الثقة بأن كل مخططهم في حصار الإسلام واحتوائه وتسييسه وتمسيحه قد وصلت إلى غاية يمكن الاطمئنان إلى أنها ستفتح الطريق إلى السيطرة الكاملة فقد كانت نكسة 1967م هي المنطلق الحقيقي في تقديرنا لتحطيم هذا المنهج الغربي التغريبي الزائف الذي رسموه ونفذوه خلال أكثر من مائة عام منذ فرض قانون نابليون وأرسى كرومر ودانلوب وزويمر أسس هذا المخطط التدميري للإسلام ، وقد ظنوا أن الإسلام قد احتوى فعلاً ودخل دائرة الانصهار في بوتقة الثقافة العالمية والأممية ، وغابت عنهم الحقيقة الكبرى وهي قدرة الإسلام على الانبعاث من داخله وأن جوهره الأصيل المطابق للفطرة والعلم والحق لابد أن يظهر مرة أخرى بعد أن ظن خصومه أنه قد استسلم ونفض يده من ذاتيته .
* ... * ... *(2/13)
... لقد كشفت كثير من الوثائق هذه الحقيقة : حقيقة هذا الحقد الدفين المبيت في نفوس القوى الغربية والذي يظهر في تصرفات وخطط ومحاولات ، دون أن يستعلن عن حقيقته ، وقد كان قومنا في غفلة شديدة من ذلك قبل أن تظهر هذه الحقائق يسيرهم طابع من الغفلة والبساطة والسذاجة وقد خدعتهم المظاهر في نفس الوقت الذي كشف لهم القرآن عن المؤامرة كلها وحذرهم منذ أربعة قرنا من هذا الخطر الخطير ، ومع ذلك فإنهم كانوا عصراً بعد عصر يقعون في الغفلة والخدعة ويسقطون في شباك المؤامرة حتى الأذقان .
... إن قراءة واعية للقرآن الكريم تكشف عن أبعاد هذا المخطط ، فهناك التحذير الخطير من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين "
... وهناك التحذير من اتخاذ البطانة من غير المسلمين :
" لا تتخذوا بطانة من دونكم ، لا يألونكم خبالا ودوا لو عنتم "
... وقد أشار القرآن إلى أحقادهم التي يخفونها وراء مظاهر كاذبة :
" قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر "
... كما حذرنا القرآن من سخريتهم بعقيدتنا :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين "
... وردد القرآن هذا المعنى في مواضع كثيرة للتذكير والعبرة :
" يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين "
وقال : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما تعملون محيط "
... وذكرنا القرآن بأنهم سوف يتآمرون علينا أخطر التآمر وسمى هذا بلاء :
" لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور "(2/14)
... ويعلمنا أننا مهما حاولنا إرضاءهم فلن يقبلوا إلا بالخضوع الكامل :
" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "
... وحذرنا القرآن من ولايتهم :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً "
... كما حذرنا من الغفلة عن حماية ثغورنا ومقدراتنا :
" ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة "
وقال تبارك وتعالى : " وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا "
... بل لقد دعانا القرآن الكريم إلى المقاومة واليقظة التامة :
" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " .
... كل هذا وأمثاله كثير في ثنايا كتاب الله تبارك وتعالى موجهاً إلى المسلمين يقرر في وضوح وحسم ضرورة الحذر من ولاية غير المسلمين ، وفساد المخطط الذي يجري الدعوة إليه عن طريق المكر والكذب والتضليل والذي يستغل سذاجة بعض المسلمين وجهلهم لتحذير ربهم لهم منذ أربعة عشر قرناً من الانخداع والاستسلام لهذه الولاية ولهذه البطانة التي يسمونها في العصر الحديث ( الخبراء والخبرة ) .(2/15)
... ونحن حين نستعرض تاريخ الإسلام في مختلف مراحله نجد هذه المؤامرة ماضية في طريقها ، وهذه الخدعة للمسلمين سائرة إلى الغاية التي يريدها خصوم الإسلام ، وما من حدث من الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام أو هزيمة من الهزائم إلا ونجدها جاءت نتيجة هذه الغفلة وهذه البساطة الساذجة في التسليم للولاية الدخيلة غير المسلمة ، يظهر ذلك واضحاً في سقوط بغداد ، وفي معارك التتار وفي معارك الصليبيين ، وفي معارك الاستعمار الحديث ، وفي مؤامرات الكنيسة والصهيونية والماركسية جميعاً على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية على نحو أو آخر بهدف واضح هو " الانقضاض على الأمة الإسلامية " واحتوائها وتعريتها من طابعها وصهرها في بوتقة الأممية العالمية ، وهذا هو ما يدعونا إلى أن نراجع وقائع التاريخ الإسلامي ، ونستكشف هذا الخطر الجانح ، الذي لم يتوقف عن الغزو خلال كل مراحل الضعف والتخلف التي مرت بالأمة الإسلامية .
... والذي يبدو اليوم ظاهراً واضحاً مسيطراً علينا أن نعود إلى مفهوم الإسلام : سماحة وسلام ويسر في داخل إطار اليقظة والوعي الكامل لمقومات وجودنا وحتى لا نصبح موضع السخرية أو موضع من يقبلون بالخداع أو يستسلمون للخدعة .
المنهج الرباني
[ على الأمة الإسلامية أن تلتمس منهجها الرباني ولا تتسول موائد الغرب ]
... إن الشباب المسلم في حاجة دائماً إلى إلقاء الضوء على المستجدات التي تمر بالعالم ليتجدد دائماً موقف الأمة الإسلامية من الأوضاع والتحديات التي تمر به والمحاولات التي لا تتوقف لحصاره وحرمانه من استكمال إرادته على بلاده ، وإقامة مجتمعه الرباني ، ذلك أن معرفة هذه المخططات وكشفها هو الخطوة الأولى نحو مقاومتها وإزالة آثارها.(2/16)
... ولقد جاءت الصحوة الإسلامية كحلقة تالية لليقظة الإسلامية التي بدأت منذ وقت بعيد لتؤكد حقيقة أساسية : هي أن المسلمين لا يمكن أن يقبلوا بالاحتواء والانصهار مهما اتسع نطاق المؤامرة وتعددت مخططاتها ووصلت عمليات التسلط إلى أعلى درجاتها ، فقد عرف المسلمون منذ فجر الإسلام هذا الأسلوب ، وسجله القرآن الكريم حين دعاهم إلى الصمود والاعتصام بالإيمان والمرابطة في الثغور والإعداد الدائم حتى لا يفاجئهم العدو فمن ثم أصبح الوضع واضحاً جلياً .
وصدق الله العظيم : " فلما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما "
... فلما تعالت أصوات المصلحين بالعودة إلى المنابع وفهم الإسلام على طريقة السلف الصالح قبل ظهور الخلاف ، قذف النفوذ الغربي بأتباعه يحاولون إثارة الشبهات حول الحقيقة الواضحة : وهي أثر الإسلام في العرب وبناء منهج النفس والاجتماع والأخلاق في هذه الأمة القرآنية ، فكانت تلك الكتابات الظالمة التي تولاها طه حسين وجماعته بالقول بأن تطبيق الإسلام توقف عند الخليفة عمر بن الخطاب وهي مقولة باطلة بكل المقاييس فقد مضى الإسلام حاكماً لمنهج حياة المسلمين حتى دخول الفرنسيين إلى مصر عام 1798م ، ومن يطالع الموسوعة التي كتبها العلماء الفرنسيون ( وصف مصر ) يجد صورة المجتمع الإسلامي واضحاً والشريعة الإسلامية مطبقة .
... وقد أشار المؤرخ الكبير الجبرتي في يومياته إلى أن الحدود الإسلامية كانت مطبقة في هذا العصر ، ومن هنا يتكشف لنا كيف يحاول النفوذ الأجنبي بالأكاذيب والمغالطات وإفساد مفاهيم الإسلام وتزييفها في محاولة واضحة إلى أمرين أساسين :(2/17)
الأول : هو الحيلولة دون وصول حقائق الإسلام إلى أهل الغرب الذين يتطلعون الآن إلى آفاق جديدة تعطيهم سكينة النفس وأشواق الروح - وليس غير الإسلام القادر على ذلك وقد قطع الغرب في ذلك شوطاً طويلاً ودخل فيه عشرات من المثقفين الغربيين الذين عجزت المسيحية والفكر الغربي عن إعطائهم تلك الجرعة الروحية التي لا توجد إلا في الإسلام .
الثاني : هو تشكيك المسلمين في بلاده دين قومه في المنهج الرباني الذي كان قادراً على العطاء أكثر من ألف سنة لم يتوقف في عصر كان يسمى العصور الوسطى المظلمة في الغرب بينما كان هو يضيء سائر أنحاء العالم بنور عدل الإسلام ورحمته ينقلها إلى مجتمعه لأنه رآها صالحة لبناء الحياة الكريمة وفي خلال هذه المرحلة تأكدت قيم كثيرة كان المسلمون في أشد الحاجة إلى الإيمان بها ولا ريب أن أهم هذه القيم وأخطرها هي فهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح وكما أنزل به القرآن وكما دعا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - نظام مجتمع ومنهج حياة ووضعاً جامعاً متكاملاً يشمل جميع مناحي حياة المسلم كفرد وجماعة : اقتصادياً وسياسياً وتربوياً .
... وهو منهج رباني عالي الذرا ، واسع الأطر ، قادر على العطاء في كل البيئات والعصور ، يتميز بالقدرة على مطاولة الأوضاع كلها وليس شأن النظريات البشرية القاصرة التي سرعان ما يصيبها العطب ، وتحتاج إلى الإضافة والحذف حتى يستطيع مواجهة متغيرات الحياة ، هذه هي الحقيقة الأولى والأساسية التي تكشفت للمسلمين بعد أن حاول النفوذ الأجنبي حجبها ومعاودة التآمر عليها بالرغم من كل دعوات الإصلاح التي قادها علماء المسلمين كابن عبد الوهاب والشوكاني وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الحميد بن باديس وحسن البنا ومالك بن نبي وعلال الفاسي إلى عصرنا الحديث .(2/18)
... وعندما تتقرر هذه الحقيقة فإن الفكر الحديث كله المبسوط الآن في أفق الأمة الإسلامية من أرخبيل الملايو إلى الدار البيضاء ويكون في حاجة إلى مراجعة واسعة لتصحيح المفاهيم وتحرير القيم ، ذلك أن النفوذ الأجنبي ظن في فترة من الزمان أنه استطاع أن يحتوي الإسلام في دائرة ( اللاهوت ) وقصره على مفهوم العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان ، متجاهلاً أو حاجباً ذلك الجانب المكمل لها وهو علاقة الإنسان بالمجتمع .
... فنحن الآن قد تكشفت أمام أعيننا مخططات التبشير والاستشراق والتغريب والشعوبية في مختلف صورها سواء من خلال النظريات المادية أو الأيديولوجيات المتصارعة أو الفلسفات الوثنية وتحول المؤامرة من المستشرقين الذين اختفوا من المسرح إلى أبناء من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويظهرون وهم أشد حقداً على الإسلام من خصومه .
... ولقد تكشفت منذ وقت بعيد الفوارق البعيدة والخلافات الواسعة بين المفاهيم الإسلامية ومفاهيم الفكر الغربي ، وسقطت تجربة الأيديولوجية الوافدة حين عجزت عن أن تعطي المسلمين أشواق النفس وسكينة القلب وتبين للمسلمين بعد أحداث النكبة والنكسة وضياع القدس أنه لا سبيل أمام المسلمين لبناء مجتمعهم إلا منهجهم الرباني الأصيل الذي حاولت القوى الاستعمارية حجبه وانتقاصه وفرض منهجها في ميادينه الثلاثة :
? الربوي في مجال الاقتصاد .
? العلماني في مجال التربية .
? القانون الوضعي في مجال القضاء .
... عرف المسلمون ذلك وتكشف لهم مخططات النفوذ الأجنبي في نفس الوقت الذي كان أقطاب القانون والاقتصاد والتربية يجتمعون في مؤتمرات متوالية خلال القرن الرابع عشر في عديد من عواصم الغرب ليؤكدوا عظمة الشريعة الإسلامية ويدهشون كيف يتجاوزها المسلمون إلى القوانين الوضعية .(2/19)
... ولم يقف الأمر عند هذا ، فكم من الشبهات أثارها التغريب والغزو الثقافي حول تراث الإسلام الذي شكل المنهج التجريبي الذي بنى حضارة الغرب وشكل منهج المعرفة ذي الجناحين ، وقدم أصولاً مؤصله في الاقتصاد والفقه والتربية قامت عليها حضارة الغرب ثم تجاهلها في مؤامرة الصمت ، حتى جاء بعض المنصفين ليقرروا هذه الحقائق أمثال دراير وجوستاف لوبون وكارليل وسجريد هونكه وغيرهم .
... وما يزال عطاء الإسلام موصولاً في مختلف ميادينه ومجالاته ، مما يستدعي أن تلتمس الأمة الإسلامية اليوم كنزها الرباني ، ولا تتسول فتات موائد الغرب حفاظاً على الذاتية الإسلامية وعلى الأصالة التي أعطاها الإسلام لأهله لتكون درعاً لهم في تبليغ الإسلام إلى العالمين فهم المكلفون بأداء الرسالة وعليهم حماية ذاتيتهم وكيانهم أن تنصهر في الحضارة الغربية الغاربة .
... وليس هناك من هدف يسعى إليه الغرب ( بشقيه ) والصهيونية العالمية إلا تجريد المسلمين من ذاتيتهم لينصهروا في حضارة الغرب ، ولقد حافظ المسلمون على هذه الذاتية في أشد الأوقات خطراً وفي أكثر الأوقات ضعفاً ، ولذلك فهم اليوم مطالبون أن يضحوا بكل شئ في سبيل حماية هذه الأمانة والمضي بها ، وأعتقد أن الجزائر التي قاومت بإيمان صادق وقدمت الشهداء مؤمنة بالفداء في سبيل حماية الأرض والعرض ستكون قادرة دوماً على أداء هذه الرسالة وحمل هذه الأمانة .
التحرر من التبعية
كيف حرر الإسلام الفكر البشري من التبعية ؟
أولاً : جاء الإسلام ظاهره مستقلة عن فعل البيئة ، وكذلك جاءت النبوات فهي لم تخضع للتفسير المادي للتاريخ ، ولم تكن ذات علاقة بردود فعل لظروف الحضارات أو أحوال الأمم ويخطئ من يقول : إن الإسلام جاء بعد أن ضعفت الروم والفرس ، أو إنه جاء نتيجة انقلاب في نظم الإنتاج أو انبثاقاً من واقع اقتصادي أو من علاقات الإنتاج في قريش .(2/20)
... وقد جاء الإسلام منذ البداية مقرراً المساواة في الفرص وضمان حد الكفاية للفرد وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع ، ولا يمكن تفسير حروب الإسلام وفتوحه تفسيراً اقتصادياً أو القول بأنها كانت من أجل الفقراء رغبة في الحصول على الغنائم وبذلك يسقط منطق نظرية التفسير المادي للتاريخ الذي يحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في نظام الإنتاج وعلاقاته .
... وهناك حقائق أساسية أسماها القرآن ( البينات ) جاء بها الأنبياء من عند الله تبارك وتعالى إلى البشرية حتى لا تضل هداها : أهمها المسؤولية الفردية وما يتبعها من جزاء في حياة أخرى بعد الموت .
ثانياً : ليس الإسلام دين روحي ولا مذهب مادي ولكنه يتمثل تكوين الإنسان الجامع بين الروح والمادة ، في تناسق عجيب ، فهو في نفس الوقت الذي يرفض مفاهيم الرهبانية واعتزال الحياة ، يرفض روح التحلل والإباحية والانطلاق بغير قيود ، ومن ثم فهو يقيم الحياة والمجتمعات في إطار من الضوابط والحدود تحول بينها وبين الارتطام والانهيار .
ثالثاً : قطع الإسلام الامتداد الفكري والثقافي بين ما قبل الإسلام وبعده ، وانتزع العالم من عبودية ألف سنة لليونان والرومان ثم قطع امتداد العبودية الفرعونية والفارسية والقيصرية للإنسان ، وقطع امتداد الوثنية في العالم كله وأطلق الفكر البشري من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد ورفعه إلى الاعتقاد في حياة أخرى وراء هذه الحياة .
رابعاً : قرر الإسلام مفهوم إسلام الوجه لله وإخلاص العمل له سبحانه وحده حتى لا يكون لغيره شريك يعبد ، والدين واحد على لسان جميع الأنبياء ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا منه ) ، والدين منزل من عند الله بالوحي وليس ظاهرة من الظواهر الاجتماعية أو من نتاج الأرض وليس هو أفيون الشعوب .(2/21)
... وميزة الإسلام التكامل بين القيم ، والإيمان بجميع الأنبياء والرسل والكتب جميعاً وقد أحيا الإسلام ملة إبراهيم فهو لا يستمد تسميته من اسم جنس ولا نبي ولا نحلة ، واسمه يعبر عن جوهره وفكرته الأساسية ألا وهي التسليم لإرادة الله تعالى وطلب هدايته .
... وقد رفض الإسلام الخرافات الوثنية وتعدد الآلهة وطوابع الإباحية وأقام ضوابط الأخلاق كما رفض العزلة عن الحياة أو الإقامة في الخوانق والأديرة وميزة الإسلام عالميته ، فقد جاء كل نبي إلى أمته ، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى العالمين وإلى البشرية جميعاً ، وإلى الناس كافة فهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده ، ودينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب المنزلة .
... وقد حل الإسلام ثلاث من أكبر أزمات العصر :
... فقد شجب العنصرية وأحل محلها الإخاء .
... وشجب القبلية وأحل محلها التعارف .
... وشجب الطبقية وأحل محلها التضامن .
... ويربط الإسلام بين العقلانية والوجدانية دين المثالية والتجريبية فيثقف العقل ويزكي النفس ويجمع بين خطرة الفكر ونفثة الروح ، وبالإسلام ترابطت الحلقات الثلاث المتكاملة : الوطنية ، العربية ، الإسلام .
خامساً : وقد كان الإسلام عاملاً أساسياً في كل حركات التحرر التي قامت بها الشعوب المستعبدة في عصرنا ، فقد انطلقت النضالات الوطنية كلها من تحت راية الجهاد في سبيل الله ، ولقد كان الإسلام في أغلب هذه النضالات رمزاً للمقاومة الروحية والثقافية ضد الاحتلال والاستعباد ، وكان الضمان لاستمرار وحدة اللغة والثقافة .
سادساً : حدد الإسلام للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل ولا يشقي فنهى العقل عن الخوض في ذات الله أو البحث في الجوهر والماهية أو التشوف إلى ما وراء الطبيعة باكتناه أسرار الحياة ، ولم يكن هذا حجراً على العقل وإنما ترشيداً له ، وكان هدياً له في المجالات التي يجدي فيها البحث العقلي :(2/22)
... ( تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا ) .
... ولما كان الله تبارك وتعالى مطلق وغير محدود بينما العقل محدود ومرتبط بالزمان والمكان فكيف للمحدود أن يدرك غير المحدود ومن هنا كانت استحالة البحث النظري فيما وراء الطبيعة وقصور العقل الإنساني عن إدراك الجواهر والماهيات .
سابعاً : طبع الإسلام حياة العرب في الماضي ولا يزال يطبعها وسيظل يطبعها إلى مئات السنين ، ولذلك كان كل حركة فكرية أو اجتماعية بتجاهل هذا الطابع فهي ساقطة لأنها تتجاهل الإطار الطبيعي الذي يجب أن تنشأ ضمنه والأساس العملي الذي يجب أن تستند إليه .
ثامناً : إن التراث الوثني الذي صنعه اليونان والرومان في هذه المنطقة خلال ألف سنة قبل أن يجيء الإسلام قد تلاشي تماماً بعد أقل من قرن من دخول الإسلام وقام على الزمن حقيقة واقعة هي الانقطاع الحضاري .
تاسعاً : قرر الإسلام أنه لا عبودية إلا لله وحده وأن الناس جميعاً متساوون وبذلك حطم الإسلام مفهوم السيادة العنصرية والقائمة على الدم الأزرق أو الأرومة الخاصة وموقف الكبير والصغير أمام الحق سواء ، ( كان الناس قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد : والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )(2/23)
... ودعا الإسلام الإنسان إلى التحرر من الظلم وأن أرض الله واسعة فعليه أن يهاجر فراراً بإنسانيته ودينه إذا وجد مجتمعا ظالما ، وضيق الإسلام مداخل الرق عملاً على تصفيته وكان الرق حجر الرحى في بناء الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والفرعونية ، وقد حرم أفلاطون في الجمهورية على الرقيق حقوق المواطنة والمساواة فإذا انقض عبد على سيد سمح للسيد بالانقضاض على كل العبيد ، وقد أيد أرسطو وأفلاطون وسقراط قرار العبودية ، وأبرز صورها في جمهورية أفلاطون سادة جالسون في القمة يتأملون وعبيد موضوعة في أعناقهم السلاسل يعملون وليس لهم حق الحياة ، وهناك صورة ليكرغوس مشترع أسبرطة الذي نص على قتل الأطفال الضعاف البنية رغبة في تنشئة أجيال قويه ، هذا فضلاً عن صورة الرومان وهم يشاهدون مهرجانات الحيوانات المفترسة وهي تأكل الآدميين ممن تصدر عليهم أحكام بالعقوبات ، كل هذه الصور المشينة نبذها القرآن وأنهاها من الوجود وعندما جاء الإسلام كانت البشرية تشكوا أزمات ثلاث : العبودية ، الوثنية ، البداوة ، وقد نقلها الإسلام إلى الأخوة الإنسانية والتوحيد والحضارة وقامت الحضارة الإسلامية على أساس دعوة القرآن إلى العمران واستخراج كنوز الأرض ، وقد أنشأ المسلمون المنهج العلمي التجريبي انتقالات بالبشرية إلى عصر جديد حيث لم يكن يعرف اليونان التجريب .
عاشراً : مفهوم البطولة في الإسلام مفهوم متميز ومختلف عن نظريات الفكر الغربي والوافد وهو لا يستمد وجوده من نظرية لمبروزد أو فرويد أو أميل لدوفيج ولكنه يستمد وجوده الحقيقي من العقيدة الإسلامية ومفهوم التربية الإسلامية في بناء الأفراد من جديد بناء مستأنف على ضوء قيم الإسلام .(2/24)
... لقد قرر الإسلام مقاييس جديدة مختلفة للبطولة والزعامة تختلف عما كانت تعرفه الأمم والحضارات من قبل ، وجعل المثل الأعلى لها في صورة أولئك الأنبياء والرسل الذين قادوا البشرية إلى طريق الله جيلاً بعد جيل ، وهي نماذج لا تتميز بالغنى أو الثروة أو الجاه ، ولأنما تتميز بالسماحة ولين الجانب والكرم والعفاف ، وكانوا رعاة للأغنام فقراء وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمهم الأسوة الحسنة يتيماً وفقيراً وأمياً لا يعرف القراءة والكتابة ، وكشف الإسلام عن حاجة البشرية إلى النبوة والوحي ، والتي يقدم منهجاً ربانياً يستعلي على المطامع والأهواء .
الإسلام وتشكيل عقلية الأمة
... سيظل الإسلام هو وحده القادر على تشكيل عقلية الأمة المسلمة بالرغم من كل محاولات توفيق الحكيم والعلمانيين ، كان الحديث في ندوة الاعتصام عن توفيق الحكيم الذي مضى إلى ربه وأفضى إلى ما قدم بعد أن أثار حوله زوابع كثيرة ، وتراجع عن أفكار كثيرة ، وحاول أن يفرض مفاهيم الفكر الغربي الوافد من خلال المسرح والقصة والحوار إلى أبعد حد ممكن :
أولاً : اعتمد في كتاباته عن نبي الله سليمان وعن أهل الكهف على مفهوم التوراة والكتب القديمة ولم يعتمد مفهوم القرآن الكريم الذي جاء مصححاً لكل ما أوردته الكتب السابقة .
ثانياً : دعا إلى لبس القبعة وطالب بالخروج من الشرق والانتساب إلى الغرب وهون من شأن الكتب التي كانت مقررة في كلية الآداب على عهد طه حسين وفيها إساءة إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثاً : أجرى حواراً متخلفاً مع الله عز وجل على نحو لا يقره مفهوم الإسلام وبالرغم مما وجه إليه من انتقادات العلماء فقد أصر على وجهة نظره ، وكان يرمي إلى كسر قيد من قيود قدسية النص والخروج عن مفهوم الإسلام القاصر على ( المناجاة ) بمحاولة كتابة حوار يخترعه ينسب فيه إلى الحق تبارك وتعالى إجابات وهمية خيالية .(2/25)
... وفي عديد من الكتابات يبدو واضحاً موقفه العلماني والمادي من مفهوم النبوة والوحي والغيب وأخطر مواقفه في هذا الصدد هي دعوته إلى تطوير الشريعة وهي دعوة مسمومة ترمي إلى قبول مفاهيم الحضارة العصرية .
... يقول توفيق الحكيم :
" الخطأ كل الخطأ أن نجعل آثار الماضي تكبلنا بأغلالها ، علينا دائماً أن نضع كل تحفة قديمة في موضعها من الزمان والمكان ، وهذه غلطة شباب الأيام الذين ينظرون إلى الأفكار والآثار السابقة منفصلة عن الوقت والظروف والملابسات التي نشأت فيها وحين تجدون هذه الأفكار لا تساير عصركم رميتم بها وراء ظهورهم في حين أنها كانت في وقتها وبيئتها خطوات متقدمة بالنسبة إلى ما يسبقها "
... وهذه هي أفكار ( أوجست كونت ) زعيم الدعوة إلى إنكار دور الأديان في تشكيل حياة الناس ، والإدعاء بأن الأديان قامت بدور في الماضي وأن هذا الدور قد انتهى وأنه يجب أن ينظر إليها على أنها جزء من التاريخ الذي مضى وانقضى ، ولا ريب أن هذا المعنى يتعارض تماماً مع مفهوم الإسلام : دين الإنسانية الخالد الباقي على الزمن والذي لا يناله ما ينال أديان ودعوات وأفكار أخرى من تجاوز الزمن له ، وتلك دعوى كانت منشورة عندما كان توفيق الحكيم بين أيدي صانعيه في الغرب من أجل أن يضعوه على رأس الصفوة المفكرة في البلاد العربية وهو الذي صارع طه حسين وقال له : أنه قرأ في الفلسفات الغربية أكثر مما قرأ وأنه لا يقبل وصايته عليه وصمت طه حسين واستسلم فقد عرف مجرى الرياح .
... يقول توفيق الحكيم في ندوة نشرت في مجلة صباح الخير 12/6/1974م :
" الزواج في رأيي قيد على حرية الرجل ويجب أن نبحث عن وسيلة أخرى للارتباط بين الرجل والمرأة غير الزواج "
ويرد نجيب محفوظ في هذه الندوة قائلاً :
" أنا لا مانع عندي في أن يكون للفتاة صديق من الجنس الآخر حتى ولو خالف ذلك رغبة الأهل "(2/26)
... ولا ريب أن هذه الآراء هي بمثابة دعوة إلى الفسق والفجور ومعارضة النظام الاجتماعي الإسلامي القائم على العلاقة الزوجية ودعوة إلى الإباحة الجنسية ومهاجمة الطليعة المسلمة من الفتيات .
... ومن العجيب أن هؤلاء القوم يدعون الناس إلى هذه الأفكار ثم يعتصمون تماماً وراء حياة خاصة لها طابع الانفصال عن المجتمع وكيف يتفق هذا مع الدعوة إلى فتح أبواب الشبهات أمام فتيات المجتمع وإثارة الكراهية للدين والنظام الاجتماعي ثم يقفون موقف المعارضة لما يدعون إليه في حياتهم الخاصة .
... يقول توفيق الحكيم : " إن علماء الدين يريدون أن يكون لهم وحدهم حق تشكيل عقلية الأمة على أساس العلم الديني الذي درسوه في الكتب المعتمدة عندهم طبقاً للنصوص التي قرؤوها على طريقتهم وأقروها وحدها دون أن يقبلوا تطوراً في أصولها أو في أي شئ من المعارف التي تتصل بتفكيرهم بالحياة " .(2/27)
... ولا ريب أن هذه المقولة تكشف في جرأة وحمق عن الهدف الذي يسعى إليه رجال التغريب ودعاة الحداثة وحملة ألوية العلمانية والإباحية ، وهي الحد من دور الإسلام في المجتمع تحت مظلة الهجوم على علماء الدين والادعاء بأنهم الذين لهم حق تشكيل عقلية الأمة ، والحقيقة أن كل المسلمين علماء دين وفهمهم للإسلام الفهم الصحيح الجامع ، من حيث هو منهج حياة ونظام مجتمع ، ومن هنا فإن هذا المفهوم هو وحده القادر على تشكيل عقلية الأمة دون أن يسمح للسموم الناقعات التي يحملها أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وسلامه موسى وعلى عبد الرازق وغيرهم ، من أن تغير عقيدة الأمة أو أعرافها تلك الدعوات الباطلة إلى الحرية الأخلاقية والإباحة وإغراء المرأة بأهواء المجتمعات ودفعها إلى ترك أبنائها وأسرتها لتحقيق المطامع المادية التي لا تلبث أن تكون وبالاً عليها ولا شك أن تجارب كثير من هؤلاء العصريين الذين خدعتهم الحضارة الغربية وأهواءها قد كشفت عن المآسي التي وقعوا فيها وتحطمت على حجرها حياتهم لو كانوا قادرين على تدبر عبرة الأحداث .
... إن هذه العبارات تشف عن أن هؤلاء التغريبيين يعملون على السيطرة على عقلية الأمة ومحاولة توجيهها إلى احتقار قيم الإسلام والغض من شأنها تحت عنوان كاذب مضلل هو ما يسمونه ( النصوص الدينية التي في الكتب القديمة ) بدعوى أنها لاتقبل التطور في أصولها ، وقد كانت دعوى توفيق الحكيم الأثيرة على نفسه هي العمل على تجاوز أصول النصوص وتطويرها وهو يعلم تماماً أنه إنما يطالب بأمر خطير ، ذلك أن الإسلام قابل للمرونة والتجاوب مع العصور والبيئات في الفروع وفي المتغيرات ( عن طريق اجتهاد الفقهاء ) ولكنه لا يقر تطوير الثوابت التي جاءت بها الشريعة الإسلامية الغراء .(2/28)
... فإن كان يسمى هذا جموداً فهو حر في رأيه ولكن هذا ليس في الحقيقة جموداً ولكنه أصالة ، أما نظرية تغيير الدين وتطويره ليتقبل الحياة الاجتماعية المنحرفة المعاصرة فتلك دعوى من دعاوى الماسونية والفكر العلماني الذي كان توفيق الحكيم يغلفه في ذكاء ومكر بكلمات تحت اسم الدين أو الإسلام أو غيرها مما حاول الكتاب الذين ورثوه أن يتصيدوه ليدفعوا عنه مقولة الانحراف عن مفهوم الإسلام وذلك أمر بينه دين الله تبارك وتعالى ولكن نحاول أن ندفع عن شبابنا الأمر مظنة الثقة في هذه الكلمات المسمومة التي يحاول أن يهاجم بها تقبل عقلية الأمة لمفهوم الإسلام في هذا العصر والخروج عن كل تلك المقولات الباطلة التي عاش سنوات عمره يبثها في كتبه ومسرحياته في محاولة لتضليل الشباب المسلم وإفساده وإخراجه من مفهوم الإسلام الصحيح .
القرآن الكريم
( 1 ) المؤامرة على القرآن الكريم .
( 2 ) القرآن يصحح تاريخ البشرية .
( 3 ) قرآنية الثقافة والبيان والحوار .
( 4 ) محاولات للنيل من خصوصية الفكر الإسلامي .
( 5 ) آيات الله في الكون .
المؤامرة على القرآن الكريم
بين المستشرقين والمبشرين
... يقول الأستاذ محمد محمود شاكر في أحدث كتاب صدر عن الفكر الإسلامي تحت عنوان ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) مقرراً موقف طه حسين الذي عرف به منذ ( 1926م - 1988م ) ستين عاماً لم يتحول عنه ولم يتغير حتى في حديثه الأخير قبل وفاته مع فؤاد دواره : أنه مؤمن بكل ما قاله على مدى حياته .
... يقول الأستاذ محمد محمود شاكر : معلوم أن الدكتور طه حسين في عام 1926م حين ألقى محاضرته في الشعر الجاهلي زعم أن له منهجاً يدرس به تراث العرب كله وسمى هذا المذهب ( مذهب الشك ) فكان مما قاله عن مذهبه :
... " إن هذا المذهب سوف يقلب العلم القديم رأساً على عقب وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئاً كثيراً ( في الشعر الجاهلي ص 3 ) " .(2/29)
... ثم انطلق في كتابه هذا مستخفاً بكل شئ بلا حذر حتى قال : " والنتائج الملازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر وحسبك أنهم يشككون فيما كان الناس يرونه يقيناً وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه وليس خط هذا المذهب منتهياً إلى هذا الحد ، بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثراً فهم ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق على أنه تاريخ وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها " ( الشعر الجاهلي ص 6 ) .
... والاستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف ، أما الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حده حتى يبلغ به إلى الاستهزاء المحض بأقوال السلف ، أما الذي كان يدور بين طلبته الصغار ( المفرغين ) من ثقافتهم فكان شيئاً لا يكاد يوصف لأنه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو يردد ما يقوله الدكتور ولا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة وعلى مر الأيام كانت العاقبة وخيمة جداً ، كبر الصغار وتنكروا أو كادوا للثدي الذي كان يرضعهم وخرجت الطلائع تدفعها الحمية وطلب الصدارة في ميدان التثقيف والتجديد وساروا على نفس النهج ولم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة القديم بل كان الغالب على أكثرهم هو (رفض القديم) والإعراض عنه والانتقاص له والاستخفاف به ... الخ .
* ... * ... *
أولاً : تكذيب القرآن :
... وبعد وقفة كان واضحاً أن الوجهة هي القرآن : كشف هذا كتاب الشعر الجاهلي ... بأوضح بيان :
( 1 ) تكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل :(2/30)
... قال في ص 26 : للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والإنجيل لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى ، فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني وسياسي أيضاً فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل العربية " .
... وهذا الذي كتبه طه حسين في ( الشعر الجاهلي ) ورد بنصه بحرفه في كتاب ذيل مقالة عن الإسلام لهاشم العربي من المبشرين المسيحيين .
( 2 ) أنكر الدكتور طه حسين القراءات السبع المجمع عليها فزعم أنها ليست منزلة من الله تعالى وأن العرب قرأتها كما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
( 3 ) أنه طعن في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال في صفحة 72 منه : " ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية أسرته ونسبه في قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن تكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها ) .
((2/31)
4 ) أنه أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم فقال ( ص 81 ) : وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم ، قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان ، ولقد كشف الباحثون فساد طه حسين وكذبوا دعاواه واحدة بعد الأخرى ، وكان الرافعي في مقدمة هؤلاء ( مما جمع في كتاب تحت راية القرآن ) وكان مما قاله : " إن القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون ، فتكون تمثيلاً للعصر الذي وضعت فيه لأنها صادرة عن فكر متأثر بالأساليب الكثيرة التي أنشأت هذا العصر نشأته الخاصة والمميزة له " .
* ... * ... *
ثانياً : نقد القرآن :
... ولقد جاءت فكرة مهاجمة القرآن في كلية الآداب بقيادة طه حسين ومن خلال كتاب الشعر الجاهلي الذي تغير إلى الأدب الجاهلي وبقيت فيه مجادلته في التشكيك في الشعر الجاهلي الذي هو دعامة من دعامات فهم القرآن وتفسيره ، وهي مؤامرة خطط لها الاستشراق من قبل في عدة أعمال كان آخرها بحث اليهودي المتعصب ( مرجليوث ) ومنه إلى اليهودي المتعصب الآخر ( جولد تسيهر ) الذي قال بأن هناك قرآن مكي وقرآن مدني تأثر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بدعوى أنه مؤلف القرآن ) في المدينة باليهود .
... وما يهمنا هو أن طه حسين أخذ النص من مجليوث ومضى يدرسه في الجامعة حتى أطلق عليه أحد طلبته الأستاذ شاكر ( حاشية طه حسين على متن مرجليوث ) .(2/32)
... ولقد مضى طه حسين بعد ضجة الشعر الجاهلي إلى غايته لم يتوقف أعلن أنه سيبحث القرآن وينتقده ، ففي مجلة الحديث الحلبية ( يناير - كانون ثاني - 1928م ) سئل العميد : هل هناك من منهج لدراسة لغة القرآن ومناقشة أسلوبه من الناحية الفنية وهل في عزم كلية الآداب توجيه عنايتها لدرس هذا البحث الجديد ؟ ، قال طه حسين : " أما وقد انهار أو كاد ينهار ما يسمى بالأدب الجاهلي فقد أصبح القرآن هو الأساس الوحيد لدرس الأدب العربي من الناحية الفنية واللغوية وقد بدأت بالفعل في هذا الدرس فطلاب السنة الثانية فيها يدرس القرآن درساً مفصلاً من الوجهة الفنية واللغوية ومن ناحية نحوه وصرفه وتاريخه وتفسيره الخ " .
... وهذا يعني أن الدكتور طه حسين مضى في خطته تماماً وأن ما نشره محمود المنجوري في مجلة الحديث بعد ذلك ( في نفس مجلد العام ) تحت عنوان ( في القرآن ) ملخص لثلاث محاضرات ألقاها طه حسين عن القرآن تحدث فيها عن ثلاث شبهات :
الأولى : الفرق بين كلمتي الكتاب والقرآن .
الثانية : أوائل السور .
... وكان الدكتور عبد الحميد سعيد ( رئيس جمعية الشبان المسلمين ) قد حصل على كراسة المحاضرات من أحد الطلبة وعرض لما جاء فيها أمام مجلس النواب ( 28 مارس 1932 م ) وجاء النص كالآتي :
[(2/33)
وصلنا في المحاضرة السابقة إلى موضوع اختلاف الأساليب في القرآن وقررنا أنه ليس على نسق واحد واليوم نوضح هذه الفكرة ، لا شك أن الباحث الناقد والمفكر الحر لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا يربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثير بيئات متباينة فمثلاً نرى القسم المكي منه يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد في القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة ، فإذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي ينفرد بالعنف والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد ، ويمتاز كذلك بقطع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات والخلو التام من التشريع والقوانين ، كما يكثر فيه القسم بالشمس والقمر والنجوم إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة التي تشبه بيئة مكة وانحطاطها ، أما القسم المدني فهو هادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى ويناقش الخصومة بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين ، كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات ، ولا شك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة يشهد بها التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن ] .
... ويقول الدكتور عبد الحميد سعيد : فكأنه يريد القول صراحة إن القرآن مأخوذ من التوراة ومما جاء به قول طه حسين : ليس القرآن إلا كتاب ككل الكتب الخاضعة للنقد فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها والعلم يحتم عليكم ( على الطلاب في كلية الآداب ) أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها وأن تعتبروه كتاباً عادياً لتقولوا فيه كلمتكم ، ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب ويبين ما يأخذه عليه .(2/34)
... وينتقل إلى الحديث عن فواتح السور ، وكان في مقال المنجوري قد تشكك فيها وقال : لقد اختلف فيها المفسرون وذهبوا مذاهب ثلاثة : المتصوفة يفسرونها بألغاز تدل في مجموعها على شيء يتخيلونه ، وهناك مذهب أصحاب اللغة والنحو ومذهب المفسرين الذين يجتهدون .
... أما ما ذكره المنجوري في مقاله فقد كان محاولة لإثارة الشك حول آية سورة يوسف : ( الر تلك آيات الكتاب المبين ، إنا أنزلناه قرآناً عربياً ) . قال : فأي شيء تدل عليه لفظة قرآن ؟ هل تدل على القرآن نفسه أم تدل على شيء آخر سبق أن أعلن للبشر في شكل آخر ثم أعلن الآن في شكل عربي جديد ، ثم راح يشكك في الفرق بين لفظة كتاب ولفظة قرآن ثم قال : نحن نستطيع أن نظفر بشيء واحد يؤيد ما أشرنا إليه هو أن الكتاب شيء غير القرآن كان موجوداً قبل إنزال القرآن ، والقرآن صورة عربية منه وكان قد أخذ صور من قبل بالتوراة والإنجيل " .
... وهكذا مضى طه حسين تحت مظلة ( الشك الفلسفي ) التي أقامها وأشار إليها تلميذه في اليوم الأول في كلية الآداب ( محمود محمد شاكر ) .
* ... * ... *
... ثم تجيء المرحلة التالية فيقول في كتابه ( في الصيف ) فيردد طه حسين فكرته بصورة جديدة : لماذا لا يتاح للمثقفين قراءة الكتب المقدسة ونقدها ؟ لماذا لا يتاح ذلك للمسلمين كما أتيح لليهود والنصارى في كتبهم : التوراة والإنجيل ؟ .(2/35)
... يقول : ليس من الضروري ولا من المحتوم أن يكون حبراً أو قسيساً أو شيخاً من شيوخ الأزهر ليقرأ في التوراة أو الإنجيل أو القرآن ، وإنما يكفي أن يكون إنساناً مثقفاً له حظ من الفهم والذوق الفني ليقرأ في هذه الكتب المقدسة ، ولتجد في هذه القراءة لذة ومتعة وجمالاً ففي هذه الكتب جمال فني أظن أنه يستطيع أن يستقل عما فيها من مظاهر الدين والإيمان ( يعني أن تدرس كنصوص أدبية بصرف النظر عن قداستها ، وأن تنقد كما تنقد كتب الأدب والتراث ) ، وهو هنا ينقل الدعوة إلى نقد القرآن من إطار كلية الآداب في الجامعة إلى الثقافة العامة محتمياً بما فعل الغربيون في التوراة والإنجيل ، والواقع أنهم ما نقدوا هذه الكتب إلا بعد أن تبين لهم أنها ليست منزلة وأنها من كتابات الأحبار والرهبان ، وقد حفلت دراسات اللاهوت بعشرات الأبحاث تؤكد بشرية هذه الكتب ، بحيث يظل القرآن الكريم وحده هو الذي يقف خارج هذه اللعبة تماماً لأنه النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
... ويصل طه حسين إلى هدفه بمكر شديد حين يقول : إذا كان هذا حقاً ( الحق في قراءة الناس للكتب المقدسة ) فقد بقيت خطوة يجب أن نخطوها ، ولست أدري أيتاح لنا أن نخطوها في هذا العصر الذي نحن فيه ، أم يحول بيننا وبينها الجهل والجمود ؟ ، إذا كان من حق الناس جميعاً أن يقرءوا الكتب الدينية ويدرسوها ويتذوقوا جمالها الفني فلم لا يكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ما دام هذا الإعلان لا يمس مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث هي كتب مقدسة ، لم لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آراءهم في هذه الكتب من حيث هي موضوع للبحث الفني والعلمي بقطع النظر عن مكانتها الدينية ، أما الغربيون فقد كسبوا لأنفسهم هذا الحق فهم يعلنون نتائج درسهم في حرية وصراحة ، وأعلم أننا منتهون غداً أو بعد غد إلى هذه الحرية التي كسبها الغربيون في العصر الحديث " .(2/36)
... وهذا الكلام الخبيث الماكر كله الذي يديره طه حسين يريد من ورائه أن يقول : إن القرآن كتاب بشري شأنه شأن التوراة والإنجيل الموجود الآن ، وهو يحرض الناس على أن ينقدوه كما حرض من قبل طلبة كلية الآداب ليقولوا هذه الآية ركيكة وتلك الآية ضعيفة .
ثالثاً : فصل القرآن عن العربية :
... ومضت مياه كثيرة تحت الكباري ، وجاء طه حسين مرة أخرى في كتاب ( مستقبل الثقافة ) ليثير المسألة بصورة أخرى أشد خطراً ، وفي هذه المرة يكون التركيز على لغة القرآن ، في الأرض أمم متدينة كما يقولون وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها ، ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي بها صلواتها ، فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ، وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تعرفها ولا تتخذها أداة الفهم والتفاهم ولغتها الدينية هي العربية ومن المحقق أنها ليست أقل إيماناً بالإسلام وإكباراً له وزياداً عنه وحرصاً عليه " .
... وهكذا جاء طه حسين ليهاجم لغة القرآن وليدعو أن تصبح العربية كاللاتينية واليونانية لغة عبادة ، وتبقى للبلاد العربية لهجاتها كلغات ، وهذه محاولة طه حسين الأخرى على طريق حملته المدبرة على القرآن والمتخفية وراء أساليب المكر والخداع.
... وهذه الدعوة الأخيرة ترمي إلى التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خمسة عشر قرناً أو يزيد ، فكأن القرآن قد أنزل فينا اليوم .(2/37)
يقول الدكتور محمد محمد حسين : هذه ميزة منّ الله بها علينا ولم تحظ بمثلها أمة من الأمم ، فإذا تحللنا من القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة تبلبلت الألسن وتصبح عربية الغد شيئاً آخر يختلف كل الاختلاف عن عربية القرن الأول بل عربية اليوم والأمس القريب وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي الإسلامي كله متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم ، على أن تقديس لغة القرآن والتزام أصولها وأساليبها لم يكن في يوم من الأيام داعياً إلى تحجر اللغة وجمود مذاهب الفن فيها فليس التطور هو المحظور ولكن المحظور أن يخرج هذا التطور عن الأساليب المقررة المرسومة .
رابعاً : التشكيك في لفظ القرآن :
... ويشكك طه حسين في لفظ القرآن أهو عربي أم تشترك فيه لغات أخرى أم هو لفظ استعير من اللغة العبرية ويثير شبهة خلق القرآن ويقول : إن لفظة ( سورة ) أخذت من لفظة ( ثورة ) العبرية بمعنى سلسلة .
... وقد قدم في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد بحثاً عن ضمير الغائب واستعمال اسم الإشارة في القرآن ، وقد نشر هذا البحث بعد أن حجبه صاحبه فترة ، فإذا هو مليء بالشكوك والشبهات يجري فيه مجرى المستشرقين ، وقد أطلق عليه الأستاذ الرافعي عبارة " بيع الذهب بالملح " رداً على استبدال طه حسين ضمير الغائب باسم الإشارة ، وقال : إن محاولة طه حسين هي القول بأن ضمير الغائب في آيات كثيرة من القرآن هو اسم الإشارة وزعمه أن هذا الذي تأوله في تفسير الضمائر يحل مشكلة عدم المطابقة بين الضمير وما يرجع إليه وتصحيح ما خبط فيه المستشرقون من توهمهم أن في القرآن خطأً نحوياً إذ يرون الضمير قد رجع متأخراً أو يرجع إلى محذوف مفسر بما يدل عليه وجهاً من وجوه الأدلة .
... وفي إحدى الاجتماعات التي حضرها اللواء محمود شيت خطاب قال طه حسين : إن القرآن كان غير منقط ولذلك فقد حدث فيه اختلاف كثير وقد رده اللواء شيت وكشف زيفه . ...(2/38)
... ولا ريب أن هذه الخطوات التي لم يتوقف طه حسين عنها إلى آخر مراحل حياته ، كانت ترمي إلى كسر ( القداسة ) القرآنية ، وجعل القرآن في نظر الناس كتاب بشري يصح أن يكون موضع نقد أدبي كالتوراة ، وهو يعرف أن التوراة من وضع الأحبار وقد اعترف الغربيون في أبحاثهم بذلك ، أما القرآن فهو من عند الله تبارك وتعالى وهو سقف اللغة العربية كما يقول ( جاك بيرل ) بمعنى أن أي بيان آخر لا يمكن أن يتفوق عليه .
* ... * ... *
... لقد كانت أمانة طه حسين للاستشراق وللفكر الغربي والمسيحي جميعاً هي دعوته إلى نقد الكتب القديمة ، ومطالبته بأن يتاح للقرآن ذلك كما أتيح للتوراة وأن التوراة لم تعد في نظرهم كتاب علم وتشريع ، بل هي كتاب فن وأدب ، وأن القرآن يمكن أن يكون كذلك ، وتدرج في هذه الدعوة على مراحل ولم يتوقف أبداً وأضاف إليها الدعوة إلى فصل القرآن عن اللغة العربية التي يكتب بها ، وجرى هذا كله في إطار واسع مستفيض هو ما أسماه مذهب الشك الفلسفي وقد فصلنا هذا المذهب في كتابنا ( محاكمة فكر طه حسين ) .(2/39)
... لقد كانت محاولة التشكيك في الشعر الجاهلي ترمي إلى هدم أساس راسخ من أسس فهم ألفاظ القرآن الكريم عن طريق الشعر الجاهلي ، ومدى موقعها من البيان العربي مما يؤدي إذا أسقط هذا الشعر الجاهلي إلى هزة شديدة في تفسير القرآن الكريم وفهمه وهي محاولة ماكرة ذهب إليها عدد من المستشرقين التبشيريين لهدم قواعد القرآن وحمل وزرها الدكتور طه حسين الذي كشفت مجموع هذه الكتابات عن أنه لا يثق بأن القرآن نص رباني منزل ، وأنه ينطبق عليه ما انطبق على الكتب القديمة التي أكد علماء اللاهوت أنها من وضع الأحبار والرهبان ، وأنه قد بلغ في هذه الوجهة المنكرة للوحي والغيب مبلغاً خطيراً وأقل ما في ذلك سخريته بالنص القرآني وما وراءه من سنة وفقه واحتقار وامتهان ما تزال آثاره باقية في كتابات الذين ورثوا هذا الاتجاه وخاصة موقفهم من التاريخ ومحاولة وضع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفوف المحترفين السياسيين ، وقد تبين أن مصادر هذه الدعاوى تجمعها كتابات ثلاث ( مرجليوث وجولد تسيهر ) وهما يهوديان و ( كازنوفا ) الذي أعلن طه حسين أنه تعلم منه في فهم القرآن ما لم يتعلمه من أساتذته الأزهريين ، ولم يكن كازنوفا إلا مستشرق متعصب يثير الشكوك في صدور طلبته ويدعي سمت العلماء ، وهل كان من الممكن أن يصل كازنوفا إلى فهم القرآن المنزل بالحق على قلب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على هذا النحو الذي قدمه طه حسين في التشكيك في الأساليب وفواتح السور والخلاف بين المكي والمدني ، ومن هنا كان إنكار طه حسين للوحي وإنكاره لعالمية الإسلام وهدمه للغة كمصدر للنص القرآني .
القرآن يصحح تاريخ البشرية قبل الإسلام
كيف كشف القرآن أخطاء وشبهات الكتب القديمة ؟(2/40)
... السؤال هو : لماذا لا يكون القرآن الكريم مصدراً أساسياً للتاريخ القديم وهو النص المؤكد الذي تعهد الله تبارك وتعالى بحفظه وقد بقى سالماً من كل ما أصاب الكتب المقدسة السابقة وجاءت الحفريات التي جرت في الجزيرة العربية وما بين النهريين وفي غيرها مصدقة لما أورده القرآن الكريم من وقائع .
... ثم جاءت بعد ذلك حقائق العلم التجريبي لتؤكد صدق ما أورده القرآن الكريم من حقائق تتعلق بقضية خلق الكون وخلق الإنسان هذا في الوقت الذي كشفت فيه الأبحاث العلمية المجردة أن كثيراً مما أوردته الكتب القديمة لم يكن من عند الله تبارك وتعالى وإنما كان من تراث الفينيقيين والسريان وقد جمعه الأحبار والرهبان بعد أن ضاعت كتبهم المقدسة وفي مرحلة من مراحل استعبادهم ونفيهم في بابل حيث أثاروا أحقادهم في دعاوى باطلة كادعاء ملكهم من النيل إلى الفرات ، وأن وعد إبراهيم عليه السلام كان غير مشروط .
... وقد فضح القرآن الكريم هذه المحاولة الخطيرة في عديد من آياته :
( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً ) ، ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله )
... وقد عرض الكتاب المقدس عديداً من القضايا والمواقف تبين عن طريق الحفريات أو طريق ما كشفته حقائق البحث العلمي إنها باطلة وجاء علماء من كبار علماء اللاهوت فأعلنوا أن هناك إضافات وحذف وخلط كبير على مدى الأزمان في الكتاب المقدس حيث تداخلت الهوامش في النصوص الأصلية ، وأن ما جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مخالف للحقائق التاريخية والعلمية .
... وهنا لنا أن نتساءل لماذا يظل الكتاب المقدس في نظر بعض الباحثين مصدراً علمياً وأساسياً تتخذ من نصوصه التي أصابها الاضطراب حقائق تاريخية ، ولماذا يبقى القرآن الكريم وهو النص الموثق الذي لم يصبه أي تغيير أو انحراف بعيداً عن مكان الصدارة .(2/41)
... صحيح أن القرآن الكريم المنزل من عند الله تبارك وتعالى بالوحي على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس كتاب تاريخ أو علم ، ولكنه مصدر رباني جامع جاء على فترة من الرسل ، وحمل في أول ما حمل من مهامه الكشف عن الزيف الذي أُدخل على الرسالة السماوية والتحريف الذي أصاب العهود التي سبقت الإسلام ، وارتفاع صيحة القومية والعنصرية عند كل من ساده الأديان وخاصة اليهودية والمسيحية مما يستدعي إعادة النظر ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ولقد جاء فلاسفة وكتاب غربيون يكشفون هذه الحقائق التي جاء بها القرآن قبل أربعة عشر قرناً ، وقد امتد هذا الأمر على مدى قرون كثيرة وكان لحقائق العلم التجريبي أثرها الواضح في تأكيد هذه الحقائق التي تتمثل في أن القرآن الكريم حفظ حقائق الخلق والكون والحياة والتاريخ ، وأن الكتاب المقدس الذي تأكد بأن الأحبار والرهبان كتبوه في ظروف معينة ، ولم تكن تحت أيديهم حقائق أساسية فجمعوا ما تبقى لدى الأمم من تراث وثني وأساطير وأحاديث فضم إلى بعضه بصورة أو بأخرى حتى أصبح هذا الشكل الذي نراه الآن .
... ومن هنا فقد وجب أن يتحقق الآن الاعتراف بالقرآن الكريم دون كتب الملل الأخرى كمصدر ثابت للتاريخ البشري ووقائع القضايا ، وأنه قد آن الأوان أن تحجب الكتب القديمة التي مازال الفكر الغربي يتخذها مصدراً لكثير من المسلمات التاريخية غير الصحيحة .
* ... * ... *
... ومجمل القول في أبحاث علماء اللاهوت أن اليهودية تأثرت إلى حد كبير بالفكر البابلي القديم ، وأن التوراة لم يكن جمعها إلا بعد موسى بنحو سبعمائة عام ، وقد استغرق تأليفها وجمعها زمناً متطاولاً جداً تعرضت خلاله للزيادة والنقص والتغيير والتبديل ، قال نولدكه : إن من العسير أن تجد جملة متكاملة في التوراة مما جاء عن موسى ذلك أن التوراة لم تدون في عهده ولا في الجيل الذي تلاه .(2/42)
... ولقد كان علماء أوروبا الذين دونوا تاريخ الشرق القديم قبل انتشار البعثات الأثرية وتحليل نتائجها العلمية كانوا يستفيدون من نصوص التوراة بالرغم مما في هذه النصوص من تناقضات واضحة .
... وقد أكدت هذه التناقضات بعد ظهور الكشوف الأثرية في مناطق كثيرة أن هناك هوة واسعة بين الحقيقة التاريخية وبين ما تخيله الذين عملوا في نقل التوراة وتحوير نصوصها لغايات أساسية كان القصد الرئيسي منها الحط من مكانة الشعوب المعادية لإسرائيل وتزوير الأحداث لصالح الشعب الإسرائيلي .
* ... * ... *
... ويقول الدكتور حسن سوسه في بحثه المستفيض عن التوراة والتاريخ القديم :
" إن من أهم الأكاذيب العلمية التي أوضحتها الاكتشافات توصل الخبراء إلى أن الكثير مما أوردته التوراة من قصص وأساطير وشرائع ترجع إلى أصل قديم وجد مثاله أو ما يشابهه في المدونات الأثرية ، وإن شرائع التوراة نفسها هي الشرائع التي كان يمارسها الكنعانيون والبابليون من قبل وقد اقتبسها اليهود منهم ومارسوها ثم أدخلوها في كتبهم المقدسة ، وقال : ان التوراة الحالية كتبها اليهود في القرن السادس قبل الميلاد أي بعد عهد موسى بثمانية قرون "
... ومن المعروف أن التوراة ترجمت إلى اللغة العربية في القرن الثاني للهجرة وكانت بمنزلة كتاب منزل من عند الله وقد أثر اليهود في تأكيد بعض وقائع التوراة بأحاديث منسوبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن قال إن اسحق هو الابن الأكبر لإبراهيم ، وكان ذلك مما تلقاه من حرفوا النقل من بني إسرائيل وما كتبه أحبار اليهود إذ نسبوا كل فضل إلى بني إسرائيل ، وقد كذب القرآن مقولتهم ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ) .
... وقد حرم اليهود إسماعيل بن إبراهيم من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه وقالوا أنه أبن الجارية وقد أكدت الأخبار المتواترة أن هاجر كانت أميرة فرعونية سبيت ولم تكن من العبيد .(2/43)
... ولقد تجاهلت التوراة رحلة إبراهيم وإسماعيل إلى الجزيرة العربية وبناء البيت الحرام ، ولم تأت التوراة بذكر لذهاب إبراهيم إلى الحجاز وبناء البيت ولم تذكر شيئاً عن هود أو صالح لأنهما من أنبياء العرب كأنما لم يكن هناك عاد وثمود على مقربة من فلسطين .
... وقد حدد بطليموس في أطلسه مواقع عاد وثمود وكشفت الحفريات عن مدائن صالح وعثر على بعض الخطط الثمودية في ثمود والطائف وكان كهان اليهود يحسون منافسة دينية من العرب وكانوا ينفسون عليهم أن صار لهم ( بيت محرم ) منذ أيام إبراهيم بينما لم يصبح لهم هيكل في بيت المقدس إلا في أيام سليمان بن داود .
... ولما كان إسماعيل هو ابن إبراهيم الأكبر وكان ذلك واقع لا يمكن إنكاره ، تعمد كهان اليهود أن يخرجوا أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه ، فراحوا يدعون أكذوبة بأن بني إسرائيل هم شعب الله المختار ، ويؤكدون ذلك في كتابهم المقدس ولقد فضح القرآن هذه الدعوى وقال عنهم :( بل أنتم بشر ممن خلق )
... ولما اتسع نطاق مفاهيم الحنيفية الإبراهيمية بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - عمد اليهود إلى حجب كلمة العروبة ، وجاء اليهودي شلوتيسر 1787م حيث ادعى أنهم ساميون ينتسبون إلى سام بن نوح ، وكان هذا يعني حجب الحنيفية إلى جد سابق وإعلائها ، والواقع أن إبراهيم كان يتكلم العربية وإن لم تكن العربية التي نزل بها القرآن أو التي نتكلمها اليوم ، فقد كانت اللغة في اليمن والعراق ومصر والحجاز لغة واحدة وإن اختلفت لهجاتها كما تختلف لهجات الأوطان العربية اليوم .
... ويؤكد ذلك ما كشفت عنه الحفريات ( يقول البرانت ) في كتابه " أحافير فلسطين " تتقارب اللغة السامية ( العربية ) القديمة عدا الأكاديه في الأجرومية والمنطق .(2/44)
... وقد كان مصطلح ملة إبراهيم حنيفا شائعاً عند العرب قبل ظهور الإسلام ، وكان عليه عدد من مفكري العرب وكانت العربية هي الأصل أيام إبراهيم وكانت العبرية لهجة من لهجاتها وأن كلمة تحنف من أصل عربي وتخفف على وزن تبرر .
* ... * ... *
... وقد كشفت الحفريات عن كثير من الحقائق التي تؤيد ما جاء في القرآن الكريم:
( 1 ) كشفت الحفريات عن حضارة بابل عربية وحضارة العموريين عربية وحضارة الكنعانيين عربية وحضارة سيناء عربية وحضارة ثمود عربية .
( 2 ) أعتمد المؤرخون القدامى والإخباريون الإسلاميون على ما جاء في التوراة عن الإسماعليين لما أعادوا كتابة التوراة في منفاهم متعمدين حجب تاريخ أبناء إسماعيل بل لقد ادعى البعض أن إسماعيل أسطورة لأن اسمه لم يرد في النقوش التاريخية ، ولقد كشفت الحفريات الأثرية عن أن بني إسماعيل انتشروا بين حدود بابل وحدود مصر وكانوا على صلة وثيقة ببابل وآشور ، وأعلنت ألواح الطين التي كتبت بالخط المسماري والتي وجدت في أطلال بابل ونينوي وبلاد ما بين النهرين أن بني إسماعيل كانوا حقيقة واقعة وأن أبناءه الإثنى عشر صاروا قبائل قويه تناوئ بابل وآشور ومصر والأغريق والرومان ، وأثبتت الحفريات والنقوش أن إسماعيل عليه السلام كان يمشي في الأسواق وكان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا .
( 3 ) لم يعرف الأجفارون دولة النبط التي كانت قبيلة ثابت بن إسماعيل ثم امتد سلطانها حتى أحتلت دلتا النيل وطور سيناء ودمشق وامتد سلطانها إلى حدود بلاد النهرين ، وقد عثر على نصوص نبطية في ( البتراء ) عاصمة ملكهم بوادي موسى والحجر والعلا وتيما وخيبر وصيدا ودمشق وطور سيناء والجوف واليمن ومصر وإيطاليا .
* ... * ... *(2/45)
... ويتحدث الأستاذ عبد الحميد جودة السحار ( راجع : أضواء على السيرة النبوية ومقارنة الأديان ) بإفاضة عن ذلك التحول الخطير بين فرعي بني إسرائيل فقال : " ظل بنو إسرائيل ينتسبون إلى يعقوب ( إسرائيل ) حتى صار ملك إسرائيل لداود وسليمان وكانا من نسل يهوذا ، فأرادت قبيلتهما أن تستأثر بالفضل وحدها فانقسمت إسرائيل بعد موت سليمان 937 ق.م إلى دولتي يهوذا وإسرائيل ومن ذلك التاريخ بدأت اليهودية .
... وكان موسى من نسل لاوي ولم يكن من نسل يهوذا ، وقد عرفت قبيلة يهوذا بهذا التعصب بعد ملك سليمان فادعوا أنهم وحدهم الناس وأن من عداهم أمم وأن الله لن يبعث رسلاً إلا منهم ولن يبعث في الأميين رسولا .
... وقد فرقّ القرآن بين بني إسرائيل وبين اليهود فلم يأت ذكر لليهود في القرآن قبل ملك سليمان وقد ذكر الله بني إسرائيل بنعمته التي أنعم عليهم وبالهدى الذي هداهم وبالكتاب الذي أورثهم ولم يذكر اليهود بخير ذلك بأنهم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم شعبه المختار وقصروا الجنة على أنفسهم دون الأميين : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقد رد القرآن على مزاعم اليهود الذين ادعوا بأن الله اصطفاهم على العالمين ولن يبعث في الأميين رسولا فجاء القرآن يدحض هذا الزعم : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا )
... وقد وصم الذين كتبوا التوراة بأيديهم في أرض السبي - أنبياء الله بكل خصائص البشر فجعلوا نوحاً شارب خمر ووصفوا إبرهيم الخليل بالكذب وقالوا : إن ابنتي لوط قد أسكرتا أباهما واضجعتا معه ورموا داود بالزنى ، وقد انقاد كثير من الأجنادين المسلمين إلى هؤلاء اليهود الذين ملأوا كتاب الله بأساطير الشعوب وكان الطبري من أكثر المؤرخين الذي نهلوا من التوراة التي كتبها أحبار اليهود في بابل دون تمحيص .(2/46)
... وكان بعض الإخباريين والمفسرين يؤمنون بأن التوراة التي ترجمت إلى العربية هي كتاب منزل من عند الله وراحوا يضيفوا الأحاديث وينسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لتأكيد بعض هذه الأخطاء ومنها أن الذبيح هو إسحاق .
وبالجملة فقد كشفت الحفريات الأثرية كثيراً من الأخطاء التي روج لها اليهود وضمنوها التوراة المترجمة في بابل .
... ومن ذلك نسب إبراهيم فقد قال القرآن ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آذر ) بينما قالت اليهود إنه إبراهيم بن تارخ كما أشار القرآن الكريم إلى عبادات الأمم قبل الإسلام ، ومنها عبادة الكواكب والقمر وهي ديانات كشفت الآثار عن أن لها شعارات ومراسيم وكان لها هياكل وأبراج في بلاد ما بين النهرين وقد رأى إبراهيم هذه الديانات وفكر فيها ثم رفضها جميعاً قبل الرسالة : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ) ، فقد هداه الله تبارك وتعالى إلى الدين القيم .
... وكذبت الأحاديث مقولة أن هاجر جارية فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمه ورحماً ) ، قال ابن اسحق للزهري : ما الرحم الذي ذكر ؟ ، قال : كانت هاجر أم إسماعيل منهم ، وقال الإخباريون : إن هاجر من الفرما وكان ملك مصر أهدى هاجر إلى سارة في أواريس ، وقال الطبري إن هاجر من منف وأنها أميرة من أميرات الفراعنة وأن هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة فقتلوا الملك وسبوها ومن هناك سيرت إلى أبيكم إبراهيم
* ... * ... *(2/47)
... وهكذا جاءت الأحافير لتكشف هذا العهد القديم الذي مضى عليه ألف سنة قبل أن يكتب اليهود تاريخهم في المملكة الإسرائيلية أو في بابل في أيام الأسر وظهر من الأحافير في اليمن أن العرب كانوا يعبدون القمر ( الموفاه ) وكان الآلهة الأب والشمس ذات حميم وكانت الأمم والزهراء ( عشر ) وكان الابن وظهر من الأحافير أن العرب الذين أسسوا مملكة بابل قد جعلوا إله قبيلتهم ( مردوخ ) .
* ... * ... *
... هذه الحقائق التي كشفت عنها الأحافير وهناك الحقائق التي كشف عنها العلم الحديث وهذه يحدثنا عنها الدكتور موريس بوكاي : قال : إن الشعور الديني في الغرب تحت تأثير السائد في اليهودية والمسيحية ليشهد اليوم انحسارا كبيراً والترجمة المادية لهذا الهبوط قابلة للقياس المنطلق الدقة فنجدها ممثلة في هبوط الاتجاهات أو الميول الدينية عند الشباب ، وقد جاء في تقدير اللاهوتيون البريطانيون السبعة هذه الحقائق :
أولاً : تتناقض قصص العهد القديم كقصة الخلق والطوفان وكلاهما لا يتفق مع المعلومات الحديثة في تكوين العالم أو معطيات التاريخ ، وكيف يمكن الأخذ بنصوصها طالما أن تلاعب الناس بنصوصها خلال العصور بات إقراراً واضحاً ، فقد أدت المعارف العصرية المتنوعة والمطبقة على دراسة النصوص بالأفكار الموضوعية إلى عدم منح التوراة تلك الأصالة التي كانت تضفي عليها بدون برهان أو دليل في القرون الماضية ، يقول بوكاي : ومنذ أن شرعت في دراسة القرآن وجدت هذا التوافق بين الدين والعلم في تفكير يقوم أساساً على معطيات مادية ، وجدت في قراءة القرآن تجسيداً جديداً لهذا التوافق بين الدين والعلم .
ثانياً : تطبيق مكتسبات العلم على الكتاب المقدس :(2/48)
... إن دراسة موضوعية لنص قرآني على ضوء المعارف العصرية قد جعلني أكتشف ما يتفق بظواهر طبيعية عديدة لا يمكن أن ننسبها إلى إنسان نظراً لما تعرفه من تاريخ العلوم ، فقد تبين أن دراسة القرآن في ضوء المعارف العصرية تقود إلى اكتشاف كلام قرآني سابق لزمانه بما يزيد على الف سنة وأن ما نعرفه عن تاريخ العلوم ليجعل من المستحيل ان يكون إنسان ما قبل نحو أربعة عشر قرناً هو قائله ، وحيث إن القرآن يضع أمام تفكيرنا تأكيدات تمثل تحدياً للتفسير البشري فإنه يبدو أن كل تناقض بين العلم والدين قد أبطله هو بالذات .
... وحين نتأمل الحديث النبوي ( اطلب العلم من المهد إلى اللحد ) و ( اطلب العلم ولو في الصين ) بهذا نفسر دون صعوبة ذلك التقدم العلمي العجيب الذي شهده العالم الإسلامي فيما بين القرن الثامن والقرن الثاني عشر الميلادي ، بينما لم نجد لدى البلدان المسيحية سوى التقليد المطلق مع المدرسة اللاهوتية السائدة وركود المعرفة ، وفي عهد قرطبة الزاهر كان الناس في مختلف بلدان أوروبا يؤمون جامعتها الشهيرة للتزود من العلوم العربية والإغريقية والهندية والفارسية .
ثالثاً : إن النص القرآني الموجود الآن بين أيدينا هو عينه الذي كان متداولاً في فجر الإسلام ، فهذا اليقين شرط أساسي لصحة المقابلة بين نص القرآن والمعارف .
رابعاً : هناك عنصر هام يكمن في المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص التوراة فيما يتعلق بالخلق على ضوء التصورات العامة الحديثة عن خلق القرآن وتصوره ، فنحن لا نجد في القرآن ما نجده في التوراة من أخطاء وهي ملاحظة تقضي نهائياً على الفرضية التي سبق أن أبديت في الغرب دون حجة والتي مفادها أن ما في القرآن يكون قد نقله إنسان ما من التوراة .(2/49)
خامساً : بالمقارنة بين نصوص قرآنية ونصوص توراتية ( الخلق ، الطوفان ، خروج موسى من مصر ) تتبين سلامة القرآن ، بالنسبة للطوفان فقد حددت التوراة زمانه في عصر لم تحصل فيه أية كارثة كونية لأسباب تاريخية باتت معروفة جداً في عصرنا الحديث ، في حين أن القصة التي أوردها القرآن للطوفان بوصفه عقاباً سلطه الله تبارك وتعالى على شعب نوح بسبب كفره ولم يحدد له زمان ، قصة لا يرقى إليها أي نقد من هذه الوجهة فهل استطاع الناس فيما بين الحقبة التي وضعت فيها قصة التوراة والعصر الذي أوحى فيه القرآن إلى المعرفة الإنسانية أن يحصلوا على معارف عصرية في هذا الموضوع ، من المؤكد أنهم لم يحصلوا على شئ من ذلك فكيف يتسنى لرجل - إن صح أنه هو الصانع للقرآن أن يستفيد منه كل ما لا يقبله العقل في العصر الحديث وأن لا يعتمد من الأحداث والأخبار إلا ما يرتفع عن كل نقد من الوجهة العلمية .
... وكما تصدق هذه الفكرة مع قصة الطوفان تصدق أيضاً على ما جاء في القرآن بصدد موضوعات أخرى ، ولا مناص من التسليم بتفسير آخر غير التفسير البشري ولا يمكن إلا أن يكون : " وحياً من عند الله " جاء ليصحح ما اقترفه الناس من أخطاء في صياغة الكتب السماوية ، والحقيقة أن القرآن لم يتضمن شيئاً مما يمكن للعلم أن يرفضه لأن كلامه وقائع مادية مؤكدة وغير قابلة للتغيير كما أن عدداً من المعلومات الواردة فيه لا يمكن فهمها إلا في عصرنا هذا ، إذن فالمقابلة هنا بين الكتاب المقدس والعلم تترآئ لنا بوجه آخر فلم يعد هناك مجال للفصل بين الاثنين ، إن اشتمال القرآن على جميع هذه العناصر التي هي من الوقائع الراهنة والتي أخذت في هذا القرن العشرين بفضل المعارف الحديثة بعداً كان مجهولاً إلى ذلك الحين لتحملنا إلى التدبر في هذه الآية الكريمة : ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) .
( انتهى كلام موريس بوكاي )
* ... * ... *(2/50)
... وهكذا نجدنا على أبواب الحقيقة التي أشرنا إليها في مدخل هذا البحث حقيقة أن القرآن الكريم صحح تاريخ البشرية قبل الإسلام وكيف كشف القرآن أخطاء وشبهات الكتب القديمة .
... كشفت الحفريات أخطاء الكتب القديمة في شأن الأمم والبلاد التي تجاوزتها هذه الكتب والقبائل التي تجاهلتها ، وجاء العلم الحديث فكشف عن حقائق الخلق والإنسان والمسافات التاريخية الواسعة التي لم تستوعبها هذه الكتب .
... ثم جاءت بعد ذلك مكتشفات الإعجاز العلمي والإعجاز الطبي حتى صدق في ذلك قول بوكاي : إن الحقائق التي أوردها القرآن الكريم في عصر النبوة لم يكن هناك بشر فوق ظهر هذه الأرض يعرفها فلا بد أن يكون هناك مصدراً أعلى هو الذي قدم هذه الحقائق التي جاء بها القرآن وهذا تأكيد واقع على أن القرآن الكريم من عند الله .
ما العبرة الآن ؟ :
أما العبرة الضخمة والكبرى التي تكشف عنها هذه القصة فهي :
أولاً : إن رسالات السماء جاءت متوالية لكل وقت ولكل أمة رسول وكتاب حتى أزفت البشرية على مرحلة النضج الفكري فجاءت الرسالة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة ، ومن هنا فإن كل الرسالات التي جاءت قبل الإسلام كانت بمثابة تمهيد له ، وقد أخذ الله تبارك وتعالى العهد على الأنبياء أن إذا جاءهم نبي من عند الله ليؤمنن به وليصدقنه :
( وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) .
... أما الحقيقة الأخرى فهي واضحة : لقد عجز آل اسحق وإسرائيل عن حمل أمانة النبوة وأفسدوا وجهتها وحولوها من طريقها كسلسلة من دين إبراهيم الحنيفية السمحة إلى أديان قومية ، وهنا نقل الله تبارك وتعالى شرف النبوة إلى آل إسماعيل .(2/51)
... وقد أكدت صلاة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبيين إماماً بهم في بيت المقدس ليلة الإسراء هذا المعنى وهذا التحول وهذه التبعية إلى بيت إسماعيل بعد أن عجز الإسرائيليون عن حمل أمانتها وجزاء ما قاموا به من تحريف لآيات الله ووجهة رسالته وارتباطها مع الحنيفية الإبراهيمية التي ختمت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم المرسلين .
قرآنية الثقافة والبيان والحوار
وإقامة قاعدة : [ قرآنية الأسلوب وإسلامية المضمون ](2/52)
... إن هناك محاولة خطيرة لدفع الفكر الإسلامي إلى الخروج من مضامينه وأساليبه باستعمال مصطلحات مغايرة استمدها أهلها من منطلق فكرهم ومجاري لغاتهم ، وقد نفرح نحن باستعمال هذه المصطلحات الوافدة لأنها تمثل ( عصرية ) في الأداء ونظن أنها تستطيع أن تؤدي نفس الغرض الذي تؤديه في لغاتها وفكرها ، ولا ريب أن في الاستسلام لهذه المحاولة أثار عميقة الخطورة فإننا لا نلبث بعد قليل أن نفقد مقاليد الفكر الإسلامي المستمد من القرآن الكريم ونبعد بعداً شديداً عن أصول البيان العربي على النحو الذي رسمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أرسى الأصول العامة لهذا الفكر القرآني المصدر العربي اللغة والذي جاءت السنة المطهرة تفسيراً له وتوضيحاً حيث بنيت بهما ( القرآن والسنة ) تلك القاعدة الأساسية التي انطلق منها الشافعي وأبي حنيفة ، والغزالي وابن تيمية ، وابن خلدون وابن الهيثم والخوارزمي والبيروني ، هؤلاء الذين وضعوا للفكر الإسلامي منهجه الأصيل والذين حرروا هذا الفكر من مترجمات مصطلحات اليونان والفرس والهنود حين صاغوها في الفصحى وجعلوها متميزة تماماً عن التبعية ، وذلك إيماناً منهم بأن الإسلام أسس منهجاً ربانياً إسلامياً قرآنياً يختلف في وجهته ومصادره وغايته عن الفكر الوثني القديم ، ومن هنا كان تصحيحهم للمسلمات التي فرضت على البشرية عصراً طويلاً ، حين صححوا أخطاء جالينوس وأرسطو وغيرهما من الأقدمين ، كما أخذوا ما وجدوه صالحاً كمادة خام وصهروها في بوتقة الفكر الإسلامي وعلى أساس وجهته المختلفة والمستمدة من الإيمان بالله تبارك وتعالى منطلق لحركة الحياة والمجتمع والحضارة أساساً .(2/53)
... ولقد ركز القرآن الكريم على هذا المعنى حين قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) وقال : ( إن هي إلا أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان ) ومنها قوله تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ) وقد عنى هذا أن للمسلمين مفاهيم مختلفة وأسلوب مختلف عن ذلك التراث القديم ، سواء منه ما اختلط فيه ميراث الأنبياء بفكر الفلاسفة الوثنيين ، أو ما حاولت القوى البشرية تقديمه على أنه منهج فكر وقال في هذا بوضوح شامل : ( قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) .
... إن ما تحاول أن نسقط في مستنقعه الراكد هو :
أولاً : اعتماد مناهج للبحث والفكر مستمدة من ثقافات قائمة على عقائد ناقصة ، تقف عند حدود اللاهوت أو من مذاهب مادية تنكر وجود الحق تبارك وتعالى .
ثانياً : متابعة الرؤية الخاطئة التي تتسرب إليها من الفكر الغربي وهي إن فلسفات الفلاسفة أعظم من رسالات الأنبياء وإن تاريخ الأبطال أعظم من تاريخ الرسل وصحابتهم وحواريهم .
ثالثاً : المراوغة في الجدل والتمويه في الحوار بالألفاظ العتيقة وعدم التورع عن استعمال الأوهام والشكوك والظن متجاوزين ما أرسى القرآن الكريم في هذا المجال من منهج علمي أصيل قائم على تقديم الدليل وإقامة البرهان والبعد عن الظن وهوى الأنفس ( قل هاتوا برهانكم ) ، ( إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) .
رابعاً : إطلاق الخيال ومجاوزة حقائق التاريخ في سبيل فكرة الدراما الزائفة متجاوزين ما رسمه القرآن الكريم من أسلوب القصص الحق : ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق) ، ( إن هذا لهو القصص الحق ) .(2/54)
خامساً : الانطلاق الخادع وراء ما يسمى المنهج العلمي ، أو ( الموضوعية ) أو ( المنهجية ) وقيام هذا المنهج على إنكار ما سوى الحس ، وتجاهل عالم الغيب بالرغم مما أرساه القرآن الكريم من منهج جامع متكامل ، قائم على الوجدان والعقل والتاريخ ، مقر بالإيمان بالغيب والوحي والبعث والجزاء .
... فمنهج القرآن في الجدل يقوم على الدليل ولا يعرف المراوغة ، ومنهج القرآن في القصة لا يعرف الكذب ولا التجاوز عن الحقائق فضلاً عن أن كل ما قدمه القرآن مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة ( التوراة والإنجيل ) .
سادساً : الانطلاق وراء حركة الحياة دون إقرار الضوابط الصحيحة :
( 1 ) العدل في الحكم حتى مع القربى .
( 2 ) الالتزام الأخلاقي للإنسان ، للمجتمع ، للحضارة .
( 3 ) اختلاف مسئولية الرجل والمرأة باختلاف مهمة كل منهما .
سابعاً : تجاوز مفهوم القرآن في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية والأخوة العالمية إلى مفاهيم الإقليميات والعصبيات والقوميات وهو ما يتعارض بعالمية الإسلام وفي هذا يقول المفكر الغربي الكبير ( ونوركانتول سميث ) مالم يكن المثل الأعلى إسلامياً على وجه من الوجوه لن تثمر الجهود ، وأن تاريخ الشرق الحديث يدل على أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة للنهضة والبناء .
ثامناً : أن تطابق حقائق الحفريات الأثرية المتعددة في العصور الأخيرة مع ماجاء في القرآن الكريم ، تدل دلالة واضحة على أن القرآن الكريم هو المصدر الحقيقي للتاريخ ، وأن ما كان يدعي من قبل من دور هذا الصدد لبعض الكتب القديمة قد ثبت فشله .
تاسعاً : أن هناك كلمات جديدة تدخل دائرة الفكر الإسلامي من خلال الترجمة تتعارض مع حقائق القرآن ومفاهيم الإسلام أو أنها على الأقل لا تمثل الوجهة الصحيحة :(2/55)
... من هذه المصطلحات كلمة ( الضمير ) التي لم يعرفها الإسلام ويعرف بدلاً منها ( الحارس أو الديدان القائم في نفس المسلم ) كذلك فإن كلمات الديمقراطية والاشتراكية والقومية لا تمثل وجهة حقيقية في الفكر الإسلامي فالديمقراطية ليست هي الشورى ، و الاشتراكية ليست هي العدل الاجتماعي ، والقومية ليست هي العروبة ، وهنا تتكشف محاذير الترجمة من اللغات الأجنبية إيماناً بالقاعدة التي تقول ( إن لغة الأقوام تحمل فكرهم ) .
عاشراً : أن هناك محاولات لإدخال مصطلحات : كالدراما التي لا يعرفها الفكر الإسلامي لأنها تستمد وجودها من فلسفة المحاكاة التي تحاول أن تعلي من شأن الصورة المرسومة بدعوى القدرة على التفوق على الطبيعة أو قيام صراع بين الإنسان والقدر ( وهذه كلها معاني لا يقرها الإسلام ) كذلك فإن الإسلام لا يقر إحياء الفلكلور الذي هو فكر طفولة البشرية ، وكذلك فإن الموسيقى الغربية التي يفاخر بها ( موزار ، باخ ... الخ ) إنما هي في الأساس موسيقى الكنائس والقداس وقد تطورت من بعد ومع ذلك فهي ما تزال تحمل هذا الطابع لا تنفك عنه .(2/56)
حادي عشر : أن القرآن الكريم قد وضع للمسلمين قوانين عامة في قضايا مختلفة أهمها القتال ، وقيام الأمم والحضارات وسقوطها فالإسلام لا يجعل لقوانين حسابات موازين القوى في مواجهة الأعداء المكانة الأولى ، وإنما يجعل الإيمان والفداء ، ( وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله ) ولقد كان المسلمون دائماً في كل معاركهم أقل كثيراً من حشود أعدائهم ومع ذلك فقد انتصروا بعقيدة الإيمان والفداء وبيع الأنفس والأرواح لله تبارك وتعالى وهذا هو العنصر التي تفتقده مفاهيم الغرب ومقاييسه المادية ، كذلك فالقرآن قد وضع للمسلمين سنن قيام الأمم وسقوطها ، قيامها بإقامة منهج الله تبارك وتعالى فإذا انصرفوا عنه انهارت مجتمعاتهم وقد دعا الإسلام إلى الحذر من الفساد والإباحة والشهوات ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ، ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما ) .(2/57)
ثاني عشر : الوقوف بحزم أمام مصطلحات الفلسفات والتصوف الفلسفي وما يتصل بالاعتزال وعلم الكلام وغيرها في محاولة لعزل الفكر الإسلامي المعاصر عن الفكر الإسلامي القرآني الأول فنحن مطالبون في إطار الأصالة والعودة إلى المنابع ( أن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم وأن تقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به ، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه ، والإسلام دين البشرية جميعاً على حد تعبير الإمام حسن البنا وأن نكون دائماً على وعي كامل بأن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها ولهذا يجب أن نستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي ، معين السهولة الأولى بعيداً عن المصطلحات الفلسفية التي وفدت على الفكر الإسلامي خاصة وأنها متصلة بعلم الأصنام الهليني الإغريقي والفارسي والفرعوني على حد سواء ، وأنها مرتبطة بأحاديث العبودية البشرية التي دافع عنها كل من أرسطو وأفلاطون وما يتصل بذلك من مقولة إن الله تبارك وتعالى خلق العالم وأدار له ظهره أو أنه ( جل شأنه ) لا يعلم صغائر الأمور أو أنه خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع وقد دحض القرآن الكريم هاتين المقولتين في آيات بينات : ( ولقد خلقنا السموات والأرض في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) وقوله تبارك وتعالى : ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) ، كذلك فنحن نرفض المفهوم الإغريقي في حركة الحياة من تقديس للجسم البشري أو وثنية الجمال والعري والإباحة مما يأخذ به الناس بدعوى أنه مما أحله الله تبارك وتعالى وقد حرص الأئمة الثلاثة ( الشافعي - ابن حنبل - ابن تيمية ) في التركيز على أصالة العطاء القرآني ودحض مقولات اليونان والرومان وغيرهم مما حاولت قوى التغريب والغزو الثقافي أن تطرحه من(2/58)
جديد في أفق الإسلام وكذلك يرفض الفكر الإسلامي ظاهرة الأسلوب المغرب والمزدوج الذي يكتب به بعض المسلمين وهو ما يباعد بيننا وبين بيان القرآن ومنهجه في الحوار والمضمون أيضاً .
... وهنا يتبادر سؤال هام وخطير : في وجه ما كشف عنه أنيس منصور من محاولة توفيق الحكيم قبل وفاته من نقد أسلوب القرآن ( وهي قضية سنفرد لها بحثاً كاملاً ) والسؤال هو : هل يمكن اعتبار القرآن الكريم نصوصاً أدبية قابلة للنقد الأدبي وإنكار وحيه وفي إطار القول ببشريته كما اعتبرت الكتب السابقة في نظر أصحابها ؟ ... وكان الدكتور طه حسين قد دعا في الجامعة إلى النظر في القرآن على أنه كتاب أدبي وذلك اقتداء بالتجربة التي قام بها الغرب بالنسبة للتوراة ، ولكن هذه الفكرة لم تجد قبولاً في أفق الفكر الإسلامي لأسباب كثيرة أهمها أن القرآن مازال وسيظل النص الرباني الموثق الذي لم يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بينما كشفت الأبحاث عن أن النصوص القديمة قد أصابها الاضطراب بالزيادة والنقص على النحو الذي كشف عنه علماء اللاهوت .
... وقد عاش القرآن متأبياً على الإتيان بمثله فقد تحدى علماء البلاغة العربية على مدى العصور أن يأتوا بسورة من مثله ، وكان إعجازه عاماً شاملاً وليس لغوياً فحسب ، وقد كشفت الأحداث ووقائع التاريخ عما تضمنه من إعجاز وإعلام بالغيب ، وكان الإعجاز الطبي في السنوات الأخيرة من الأحداث التي هزت الدوائر العلمية .
... وما تزال قوى كثيرة تحاول أن تتجاهل الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها وهي أن القرآن وحده هو القادر على إعطاء الصورة الحقيقية للتطورات التي حدثت من خلال رسالات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام مما جاء القرآن بعد ذلك كاشفاً عنها .
محاولات للنيل من خصوصية الفكر الإسلامي
المستمدة من القرآن الكريم(2/59)
... يجب على المثقف المسلم أن يكون واعياً وهو يقرأ الفكر الغربي الوافد بأن هناك فوارق واختلافات أساسية من الخطر الشديد تجاوزها أو الاستهانة بها مع تقدير النظر إلى الفكر الإنساني أساساً ومحاولة الانتفاع به ليس بوضعه من الثوابت بل من المتغيرات فالمسلم لا ينكفئ على نفسه ولا يحبس ذاته في إطار مغلق ، بل أنه مطالب بحكم الإسلام نفسه أن يكون قادراً على النظر في الفكر البشري والانتفاع بالصالح منه في سبيل تطوير الحياة ومواجهة متغيرات المجتمعات فإذا رأى ما يصلح لأمته فلا بأس من اقتباسه على أن يصهره في دائرة الفكر الإسلامي ويخضعه لمفهوم الإسلام الجامع دون أن يخضع له .
... وعليه دائماً أن يكون واعياً بذاتية الفكر الإسلامي الربانية وخصوصيته المستمدة من القرآن الكريم والقائمة على أساس التوحيد الخالص وتطبيق نظام الإسلام الجامع في الفرد المسلم والمجتمع المسلم في مختلف مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية .
... وأن يكون مقدراً تماماً الفارق العميق بين الفكر الرباني ممثلاً في الإسلام الذي أنزله العليم القدير ليكون منهاجاً للحياة ونبراساً لمهمة الإنسان في هذا الكون وأصول المعاملات بين الفرد والجماعة إيماناً جازماً أكيداً بأنه ( الدين الخاتم ) الذي جاء للبشرية كلها والقائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأن أمة الإسلام القائمة اليوم ستبقى قائمة على حق الله إلى يوم القيامة ، وتلك هي عالمية الإسلام ، وإن كل ما سبق الإسلام هي رسالات لأنبياء ولأمم ، أما الإسلام فهو الدين الحق :
1 - ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( المائدة )
2 - ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ( التوبة )
3 - ( وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ) ( المائدة )(2/60)
4 - ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ( المائدة )
... نحن اليوم في حاجة إلى تثبيت هذه القيم الأساسية بعد أن توسعت محاولات الاستشراق والتغريب في الخوض في الحقائق وتزييف الثوابت استعانة بالفكر التلمودي والماركسي والعلماني في محاولة لإخراج المسلمين من الإسلام على النحو الذي جرى في أوروبا في عصر التنوير والنهضة الغربي ، حيث كان التنوير يعني إنكار الوحي والغيب والنبوة وتفتح الباب واسعاً أمام فرص الإباحة والتحلل تحت عناوين وأسماء خادعة .
... ونحن نرى اليوم أوروبا وهي تتجه نحو الدين ، وقد بدأت العلمانية تتصدع وتنهار حيث يرى بعض الدارسين للحضارة الغربية على ما تروي الدكتورة سجريد هونكة أن الذي سيزول من حضارة الغرب هي الخاصة الغربية فقط ، والمعتقد أن الانهيار الشامل لكافة القيم في الغرب المسيحي شرر أساسي لكي تكتشف أوروبا هويتها الحقيقية ، وتقول أن أوروبا تبحث عن هويتها منذ أن خرجت من الرهبانية وكان عليها أن تتجه إلى فهم الدين الحق ولكنها مع الأسف عادت إلى وثنية اليونان والرومان وجعلت مثلها الأعلى هو " روما سادة وما حولها عبيد " وفي ضوء هذا المفهوم تعاملت مع دول الشرق ونهبت ثرواتها وسيطرت على مجتمعاتها وحجبتها عن منهجها الأصيل وحرمتها من امتلاك إرادتها .(2/61)
... نعم : إن الغرب يبحث الآن عن أسباب انهيار حضارته وفشلها سواء في مجال " اللاهوت " حيث يبحث علماء ورهبان الغرب عن حقيقة التجسيم ، وقد أصدروا في ذلك أبحاثاً هزت الغرب كله ، وهناك من يبحث عن قاعدة الاقتصاد الغربي المسيطرة على العالم كله الآن وهي الربا ، حيث نشرت صحيفة الأيكونومست العالمية دراسة تحليلية عن الربا منذ بداياته وحتى يومنا هذا ، وكيف يتآمر رجال المصارف وفي مقدمتهم اليهود والماسونيون في السيطرة على العالم وكيف أن الأديان السماوية ( اليهودية والمسيحية والإسلام ) حرمت الربا ، وأشارت الأيكونومست إلى المجتمعات الإسلامية المغلوبة على أمرها وقد جاءت أوامر محددة في القرآن الكريم تحرم الربا وأن تكون المخاطرة قسمة بين المقترض والمقرض .
... وقالت : إن الربا استرداد للدين ومعه زيادة غير مشروعة مستقطعة من جهة المدين إذا حقق كسباً ومن لحمه إن لم يربح أو إذا خسر ، وقالت الجريدة : " إن علماء الاقتصاد في الغرب أكدوا أن الربا نظام اقتصادي فاسد ومعيب " .
والواقع أن الغرب لم يفرض الربا على الأمم على أنه أساس الاقتصاد العالمي وأدخل فيه المسلمين عنوة واضطراراً ، ولكن الغرب عمل في ميادين أخرى في محاولة لتحويل المسلمين عن جذور مفاهيمهم الأساسية وثوابت قيمهم ، ولم تتوقف عند هذا الحد بل فرضت عليهم :
أولاً : فرض مفهوم الرجل الأبيض المسيطر المستعلي بالعنصر واللون على المسلمين فسيطر على وجودهم كله وعلى كل مقدراتهم وحرمهم من تطبيق نظامهم الاجتماعي المتمثل في الشريعة الإسلامية بل حجبها وفرض عليهم القانون الوضعي الذي هو جماع نظم الغرب التي اختارها لنفسه بديلاً عن الدين والتي هي جماع أهواء البشرية الممتدة من اليونان إلى الرومان .(2/62)
... وعندما اتصل بالإسلام والفكر الإسلامي حرص على أن يقبل بالشريعة الإسلامية التي قررتها الأديان المنزلة وفي مقدمتها القرآن والإسلام ، وتجاهل دعوة الإسلام إلى المساواة والإخاء البشري : ( كلكم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ) .
... وذهب مذهب الرومان حين جعلوا الديمقراطية للسادة الجالسون في الأعلى أما الطبقات الدنيا فقد قدر أنها من الرقيق الذي لا حق له في الحياة بل لقد أكد ذلك كبار مشرعيهم : أرسطو وأفلاطون الذين فسروا ضرورة وجود رقيق وعبيد لا حقوق لهم ولا سلطان وانحاز لهذه المفاهيم بعض رؤساء الأديان .
... وكان الإسلام قد جاء أساساً من أجل تحرير البشرية من العبودية ، من عبودية الإنسان وعبودية الوثنية وعبادة غير الله تبارك وتعالى ، هذا المنهج الذي حطم كل قواعد الظلم والاستبداد التي عرفتها الحضارات القديمة الفارسية والفرعونية والرومانية .
... غير أن الحضارة الغربية الحديثة قد أعادت هذا النوع من العبودية والاسترقاق على نحو آخر يتخفى وراء قفازات خادعة وكان تاريخ الحضارة الغربية كلها استرقاق للإنسان ونهب لثروات الأمم خاصة أمم أفريقيا وشرق آسيا ، وما تزال الحضارة الغربية تستعلي باللون والعنصر وترد هي باسم الرجل الأبيض وتجعل من حقها السيطرة وانتقاص الإنسان بدعوى أنه حيوان ناطق في مفهوم الغرب وترس في ماكينة في مفهوم الماركسية .
... ولقد جاء الإسلام قبل أربعة عشر قرناً بحقوق الإنسان وحريته في العقيدة والعمل والحياة وقرر حقوق المرأة مما لا يزال الغرب يقترب منه قليلاً قليلاً .
... وإذا كان الغرب أخذ يفكر في التخلص من الربا على نحو ما دعا إليه علماء الاقتصاد حين قالوا إنه بالقضاء على الربا يقضى على كل أزمات الاقتصاد وخاصة أزمة " التضخم " فإنه مطالب أيضاً بالقضاء على نظرية ( روما سادة وما خلفها عبيد)
ثانياً : الانفجار السكاني :(2/63)
... ولقد كانت دعوى الانفجار السكاني من المخططات الاستعمارية البالغة الخطورة في محاولة لتدمير وجود الأمم الملونة والسوداء في محاولة تتكشف اليوم عن دعوة إلى القضاء على الأسرة والنظام الاجتماعي كله وسيعمل على إشاعة روح الإباحة والجنس والفساد الخلقي وتحقيق أكبر خطر من عوامل التدمير خارج نطاق الأسرة .
... وذلك في محاولة منكره لاستبقاء الاستعلاء الغربي والاستعماري وخفض نمو الأمم الملونة ( وخاصة الأمة الإسلامية ) وحرمان أهل هذه الأقطار من ثرواتهم ومعطياتهم التي هي أساس وجودهم في محاولة لاستبقائهم في دائرة العبودية والرق إلى أمد غير محدود وذلك لتغطية الخلل الاجتماعي القائم الآن في الغرب والمتمثل في نقص المواليد وعجز هذه الأمم عن امتلاك الأيدي العاملة لإدارة مصانعها .
... ومن عجب أن يتخيل الغرب أن المسلمين يقبلون مشروع تدمير الوجود الاجتماعي الإسلامي القائم الآن في محاولة لإشاعة الإجهاض والتربية الجنسية المكشوفة والقضاء على الزواج المبكر .
ثالثاً : الحرية غير المنضبطة :
... وقد حرص الغرب على إشاعة مفاهيم مغايرة تماماً لمفاهيم الإسلام والأديان جميعاً تمثلت في نظرية دارون ونظرية فرويد ونظرية دور كايم ونظرية سارتر ، وكلها مفاهيم يخطط لها قوى خطيرة وترمي إلى تدمير الفطرة والقضاء على ثوابت القيم الأخلاقية التي تستمد مفاهيمها من الدين الحق .
... ولقد تكشف فساد كل هذه النظريات وتبين أنها بعيدة كل البعد عن الفطرة وأنها ترمي إلى تدمير الكيان الإنساني بدفعه إلى الفساد الخلقي وهي تستعمل الآن في كل المشروعات التي تراد بها تدمير الوجود الإنساني وخاصة مشروع السكان الذي يكشف عن العودة مرة أخرى إلى نظريات ثبت فسادها وعجزها عن العطاء وتبين إنها إنما أعدت لهدم الإنسان الجوييم ( خارج دائرة اليهود ) .(2/64)
... ويبدو ذلك واضحاً في أن أسماء أصحاب هذه الدعوات جميعاً من اليهود أو من الصهيوينة وقد أريد بها أن تكون ستاراً لمشروع الصهيونية العالمية في الاستيلاء على فلسطين وأحد الوسائل الموصلة إلى تحقيقه .
... ولقد كانت القيم الأخلاقية في الإسلام من الثوابت التي لا تتغير وهي دعامة الوجود الإسلامي الحقيقي القادر على مقاومة كل محاولات الاحتواء أو السيطرة والأداة الحقيقية القادرة على استعادة الحق المسلوب ، لقد أرسى الإسلام للحرية ضوابط وحدوداً تجعله عاملاً من عوامل النهضة والقوة وفق مفهومه الأصيل في الوسطية الجامعة القائمة على أن الإسلام ( منهج حياة ونظام مجتمع ) .
رابعاً : مفهوم المعرفة الجزئي القائم على العقل وحده :
... كذلك فقد روج المستشرقون والمبشرون وكتاب التغريب والغزو الفكري لما أطلقوا عليه اسم ( العقلانية ) المجردة حتى قال زعيمهم إن العلمانية هي أن يكون العقل وحده الحاكم المسيطر .
... والواقع أن الإسلام بمفهومه الجامع بين العقل والقلب والروح والمادة وبوسطيته المتوازنة قد وضع أساساً لمنهج المعرفة الكامل الصحيح يقوم على العقل والعلم من ناحية وعلى الغيب والوحي من ناحية أخرى يكمل كلاهما الآخر ويشكلان تصوراً صحيحاً جامعاً .(2/65)
... أما الفلسفة المادية والفكر الوثني فهما اللذان روجا للعلمانية والعقلانية وكان داعيتهم الخطير ( زكي نجيب محمود ) هو المتحدث باسم العقل والعقلانية خلال أكثر من ثلاثين سنة دون أن يقتنع بذلك أحد وكان في ذلك متحيزاً لفكر الوضعية المنطقية القائم على الجبرية والمادية والذي لم يقبله العقل المسلم مما اضطر معه في سنواته الأخيرة من الدعوة إلى ما سماه الجمع بين التراث الإسلامي والمعاصرة وهي محاولة كلفته كثيراً من الجهد دون أن تحقق شيئاً فقد كان من الصعب القبول بأساس إسلامي أصيل يقوم عليه بناء ناقص أو انشطاري أو قائم على المادة دون الروح أو العقل دون القلب وهما التشكيل الصحيح الجامع للإنسان نفسه أساساً .
... ولقد عارض الفكر الإسلامي قبول مفهوم المعرفة الجزئي المشطور القائم على العقل وحده وأعلن منذ أن كتب ذلك الإمام الغزالي في وجه ترجمة الفكر اليوناني إلى اليوم بأن الإسلام لا ينشطر ، وأن الوحي هو سراج العقل وأن العقل لا يضئ إلا حين يجمع إليه الغيب .
خامساً : وحدة المسلمين الجامعة :
... كذلك فقد حرص الفكر الغربي على تمزيق وحدة المسلمين وذلك بإقامة ثقافات مختلفة تستمد مفاهيمها من اللغات الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرها في محاولة لحجب الثقافة الإسلامية وتمكين أسس عقلية وروحية مستمدة من الثقافات المختلفة بحيث تتوزع العقلية الإسلامية والعربية وراء أيديولوجيات ليبرالية أو ماركسية فضلاً عن اختلاف اللغات والثقافات .(2/66)
... وقد أثر ذلك تأثيراً شديداً على مناهج التعليم في عديد من الأقطار العربية الإسلامية على نحو يكاد يختفي معه طابع الثقافة الإسلامية وراء قيم واحدة ومفاهيم مستمدة من التراث الأوربي أو الأمريكي ولا ريب أن في ذلك خطورة بعيدة المدى لأنه سيحول إلى وقت طويل دون التقاء المسلمين في وحده جامعة أساسها الإسلام والقرآن ومفهوم التوحيد الخالص والإيمان بالبعث والجزاء والمسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي مما يعرض الأمة الإسلامية إلى خطر شديد ، كذلك فهو يرتبط كثيراً بالإقليمية والوطنية ويحول دون رابطة الوحدة الإسلامية ومن هذا ما حاول النفوذ الغربي إقامته من صراع بين العروبة والإسلام .
آيات الله في الكون
... قدمت الحضارة المعاصرة والعلم الحديث حقائق كثيرة لم تكن تعرفها البشرية قبل اكتشافها وأكد العارفون منهم أن هذه الحقائق قدمها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً وتكاد تجمع مصادر العلم الحديث الأساسي هو القرآن الكريم ممثلاً في قواعد أساسية منها ( البرهان ) : ( قل هاتوا برهانكم ) ، ومنها ( الاعتبار ) : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) .
... ولم يقدم الإسلام للبشرية منهج التجريب وحده ولكنه قدم لها منهج قيام الحضارات والمجتمعات وسقوطها - كما قدم منهج المعرفة ذي الجناحين ( الروح والمادة ) .
... قال عالم البحر الشهيد ( جاك كونتو ) : إن ما انتهى إليه من خلال دراسته عن خصائص البحار قد أكده القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً وإن الإسلام هو الدين الحق والنور الساطع ، وإن القرآن الكريم لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ومن هنا كان قراري بالدخول في دين الله الجامع لكل شيء ، ولما اعتقد الغرب أن الطبيعة خلقت نفسها وأن الإنسان متصرف غير مسؤول في الكون أراد الحق تبارك وتعالى أن يصحح لهم هذه المفاهيم فكشف لهم عن طريق التلسكوبات الخطيرة آفاق عالم الكواكب والشموس والمجرات التي لا نهاية لها .(2/67)
... وعندما يظنون أنهم يستطيعون عمل ما يريدون جاءت الأعاصير والأمطار والفيضانات فلا يجدون إزاء ذلك إلا موقف اللامبالاة ، وكلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام ازداد اليقين بما جاء به الإسلام : هذه الحقيقة يؤكدها أحدث اكتشاف علمي وصف بأنه أهم اكتشاف في مجال أبحاث الفضاء خلال القرن العشرين ، ويدور حول وجود أجسام معتمة في الفضاء تدل على أن الكون سوف ينكمش ثم تنفجر في المستقبل ويتفق هذا الكشف الجديد مع ما سبق أن أشار إليه القرآن الكريم من حقائق علمية تتعلق بنشأة الكون ونهايته .
... فقد أعلن العالم الاسكتلندي مايك هوكز أنه قد اكتشف وجود أجسام معتمة في الكون يعادل حجم بعضها حجم الكرة الأرضية ألف مرة ، وقال : إن دراسته حول هذه الأجسام قد أوصلته إلى دليل يبرهن على أن الكون ليس نهائياً ( كما يظن علماء الغرب اليوم ) وأنه سوف يتوقف عن التمدد في وقت ما ثم ينفجر .
... يقول الدكتور جمال الفندي : إنه رغم التقدم العلمي المذهل الذي حققه الإنسان فإن الكون لا يزال يعج بكثير من آيات الله تبارك وتعالى التي يعرفنا بها العلم مصداقاً لقوله تعالى :( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)
... إن رصد هذه الأجسام المعتمدة في أرجاء الكون الفسيح يعني وجود أجرام عظيمة الكثافة بحيث لا تسمح للضوء بالانتشار ، وقد ذهبت نظرية النسبية إلى وجود مثل هذه الأجسام ، ويتضح أن من النتائج الحتمية لوجود تلك الأجسام عظيمة الكثافة انتشار قوى جانبية تعمل على انكماش الكون من جديد حتى يعود كما كان مجرد طاقة في حيز محدود ، كثافتها تفوق حدود الوصف والخيال .
... والسؤال هو هل تنفجر الطاقة بعد ذلك لتكون كوناً جديداً أم هي سلسلة مستمرة على مرور الزمن ؟ ، فهذا ما سيكشفه علم الله في المستقبل .(2/68)
... ويشير إلى أن الكون كما هو معروف علمياً يتمدد تحت تأثير قوة الانفجار الأعظم الذي حدثت عند خلقه في البداية بعد أن كان طاقة مكدسة في صعيد واحد ثم فصلت كثافتها إلى ما يفوق التصور في لحظات معدودات ثم أنفجر وكانت شظايا هذا الانفجار هي الممرات لتتكون كل مجرة من ملايين الشموس والنجوم والكواكب .
... والحقيقة أن الكون المرئي يعد جزءاً من عشر أجزاء من مادة الكون الكلية وهذا يؤيده الاكتشاف الأخير ، ولا يوجد ما يدعوا إلى اعتبار أن تلك الأجزاء غير المرئية تتكون من مادة غير مادة كوننا المرئي فالكواكب وسائر الأجرام الأخرى ويعني ذلك أن الكون تحت تأثير الكثافة العالية جداً والجاذبية العظمى سوف يعود فينكمش وتتولد فيه حركة من حركة التمدد التي تجمعت عن الانفجار الأول وضد تمدد الكون الحالي الذي يقول فيه القرآن الكريم ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) كما يقرر القرآن الكريم حقيقة أن الكون سوف يعود إلى أصله متجمعاً في صعيد واحد عظيم الكثافة إلى حد يفوق الوصف والخيال في مثل قوله تعالى ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) .
ويصور القرآن الكريم هذه الحالة أساساً في قوله تعالى : ( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ) ( الأنبياء : 30 ) .
... وهكذا يتفق العلم مع ما جاء في القرآن الكريم حول نشأة الكون وما سيؤول إليه في المستقبل ، وهكذا كلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام ازداد اليقين بما جاء به الإسلام .
* ... * ... *(2/69)
... وليس هذا هو الكشف الوحيد ولكنه آخر ما وصل إليه ، ولقد كشفت حقائق كثيرة حول نشأة الكون وحول ولادة الإنسان ودورته في الرحم ، ويقرر أحد الباحثين إن الإعجاز العلمي سوف يهدي الضالين ويربط على قلوب الحائرين ، حيث تنطوي آيات القرآن الكريم على آيات كونية وحقائق علمية وآيات بينات في التشريع والسياسة والاجتماع والتاريخ ، وقد وجد كل باحث من آيات القرآن الكريم ما يعينه على العلم الذي برع فيه وخاصة قوانين الطبيعة وتسخيرها في خلافة الأرض حيث يوجد هناك ارتباط بين القاعدة الإيمانية وعلم الفلك وعلم الأحياء وعلم الطبيعة والكيمياء وعلم طبقات الأرض وسائر العلوم المتعلقة كالنواميس الكونية والقوانين الحيوية : إنها كلها تؤدي إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى .(2/70)
... يقول عالم فرنسي : " لقد شرح الله صدري للإسلام بعد أن وجدت الآيات القرآنية تنطبق على معارفنا الحديثة " ، وقد آمن عالم ألماني وأعلن إسلامه بسبب آية واحدة ذلك هو الدكتور جرينيه يقول : " لقد تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبيعية والصحية وغيرها فوجدت أن هذه الآيات تنطبق انطباقاً شديداً على معارفنا وعلومنا الحديثة مما شرح صدري للإسلام ، لأني أيقنت أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحق المبين منذ أكثر من ألف سنة قبل أن يكون هناك معلم أو مدرس من البشر". ... ويقول الدكتور بوكاي : " نرى أن الآيات التي تتحدث عن الكون والسحاب والمطر لا تختلف عما وصلت إليه حقائق العلم اليوم لأن الله تبارك وتعالى الذي نزل الكتاب هو الذي خلق نواميس الكون " ، وقال : " يجب التفريق بين النظرية العلمية وبين الفعل موضوع الملاحظة والذي يمكن رصده بالشكل المطلوب ، فالنظرية تتغير في كثير من الأحوال وهي قابلة للتعديل أو لأن تحل نظرية أخرى محلها عندما ما يسمح التقدم العلمي بتحليل أحسن للموضوع ، أما الفعل موضوع الملاحظة فهو على عكس ذلك إذ أنه غير قابل للتعديل ، فإثبات أن الأرض تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض هذا ما لن يرجع فيه أبداً وقد يمكن في المستقبل تحديد المدارات بشكل أحسن " .
* ... * ... *
... فإذا ذهبنا إلى الماء وجدنا الآية الكريمة : ( وجعلنا من الماء كل شئ حي ) ، فالله تبارك وتعالى جعل في الماء من الخصائص ما لا يوجد في غيره من المواد سبباً لاستمرار الحياة على الأرض ( بين السيولة والتجمد ) ، فالماء إذا تحول إلى جليد يزداد حجمه وتثقل كثافته فالجليد يصعد إلى سطح الماء ولا ينزل إلى القاع ، والماء تحيا فيه الكائنات والحيوانات وقد قدر الله تبارك وتعالى خصائص للماء تختلف عن المواد الأخرى .
* ... * ... *(2/71)
فإذا نظرنا إلى العوامل الوراثية لوجدنا أن هناك 60 مليار من الخلايا في جسم الإنسان فالله تبارك وتعالى نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى ذرياتهم والعوامل الوراثية تزيد على مائة ألف عامل وراثي في كل خلية ، فنقل الصفات الوراثية من جيل إلى جيل ، وتستمد العوامل الوراثية نصفها من الأم ونصفها من الأب وكانت البويضة الملقحة أول علامات الحمل والإنسان يولد ومعه كل طبائعه .
... وقبل القرن الحالي لم يكن العلماء يعرفون هذه الحقائق لقوله تعالى في سورة النجم : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ).
كل هذا تحدد في بطون الأمهات وهو ما اكتشفه علماء الوراثة في العصر الأخير .
... يقول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : " إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة فيتسور عليها الملك : رجل أم أنثى ، ما رزقه وأجله ، ثم يجعله شقياً أم سعيداً " .
... فكل خلائق الإنسان تتكون في النطفة وفي خلية الإنسان أكثر من مائة ألف خلية وراثية فضلاً عن غرائز الإنسان وطبائعه وصفاته الخلقية والخلقية كما تقررت سلفاً في النطفة الأولى .
... لقد ظن الماديون أن ميولهم غرائز مكتسبة فلما تقدم العلم أثبت أن خصائص الإنسان مقررة سلفاً في أول يوم من الخلق في رحم أمه : ( وهو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم )
* ... * ... *
... وقد عرض العلماء لآية سورة الحجر : ( ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) .(2/72)
... يقول الدكتور منصور حسب النبي أستاذ الفيزياء : " إنها إشارة ظلام الفضاء الكوني بعد عبور الغلاف الجوي وتبدأ هذه الظاهرة على ارتفاع 150 كيلومتراً من سطح الأرض فيتحول لون القشرة المنير من الغلاف الجوي من اللون الأزرق الفاتح الفيروزي ثم الأزرق الغامق ثم البنفسجي ثم تصبح سوداء تماماً عند هذا الارتفاع ويستمر الظلام الحالك طالما استمر الصعود إلى السماء ، وعرف رواد الفضاء بعدم وجود نهار في الفضاء بل ليل دائم رغم الشمس الساطعة والنجوم الواضحة ولكنها جميعاً تسبح في ظلام دامس .
* ... * ... *
... كذلك فقد أعلن الدكتور مارشال جونسون العالم بمعهد جفرسن الطبي ( فلاديلفيا ) وركز على ( النطفة ) واعترف بأن القرآن قد سبق علم الأجنة بأكثر من ثلاثة عشر قرنا .
... وأشار الدكتور كيث مور ( جامعة تورينتون كندا ) إلى أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر تواصلت الأبحاث وحين وقت قريب لم يكن معروفاً أن القرآن الكريم والسنة الشريفة يتضمنان مصطلحات دقيقة تتعلق بمراحل التخلق البشري إلا عند المسلمين ولا يمكن أن يعزى تفسير وصف الجنين البشري الوارد في القرآن الكريم إلى المعرفة العلمية السائدة في القرن السابع الميلادي وهو زمن نزول القرآن والاستنتاج الوحيد المعقول هو أن الله تبارك وتعالى قد أوحى بذلك إلى رسوله الذي نزل عليه القرآن .
... ويقرر القرآن بنقل الجنين في رحم أمه في ثلاث مراحل أساسية هي مرحلة النطفة ، ومرحلة التخلق ، ومرحلة النشأة ، ولكل من هذه المراحل الأساسية أطوارها الفرعية .
... وتعتبر المصطلحات الواردة في القرآن الكريم معبرة بدقة عن التطورات التي تقع في المراحل المختلفة للتخليق فهي تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني كما يصف التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق في كل مرحلة وصفاً دقيقاً .
* ... * ... *(2/73)
... وقد كشف المؤتمر الذي عقد في روسيا 1993م وضم علماء من جميع أطراف الأرض عن التوافق والتلاقي بين حقائق العلم ونصوص القرآن والسنة ما يجعل المرء يحس بالدهشة واليقين .
... ففي ميدان الفلك أقسم الله تبارك وتعالى بموقع النجوم ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) أن مواقع النجوم التي يقسم بها الحق هي أبعاد النجوم عنا وهي أبعاد أقربها إلينا ( 4 آلاف سنة ضوئية ) أي أن الضوء لو سار بسرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية فإنه يصل إلينا بعد أربعة آلاف سنة .
أما في علم الأجنة فقد تحدث الله تبارك وتعالى عن حقائق لم تكتشف إلا منذ قرن ونصف قرن ، وقبل اكتشاف الأشعة لم يكن ممكن للأطباء رؤية كيف يتكون الجنين ولكن القرآن وصف هذا كله منذ 14 قرناً وصفاً دقيقاً لم يصل إليه إلا منذ سنوات .
وفي السحاب والرياح ينطبق العلم الحديث مع نصوص القرآن .
أما الجبال ومفهومها الجيولوجي في القرآن والحديث كأنها أوتاد والحديث عن جذورها الراسخة ، هذه الحقائق لم تعرف إلا منذ منتصف هذا القرن بينما أعلن عنها القرآن منذ قرون .
* ... * ... *
... كذلك فرق المؤتمر الذي أشرنا إليه بين التفسير العلمي للآيات وبيان الإعجاز في الآيات ذاتها ، فالتفسير العلمي يصرف الآيات لمعنى معين ، أما الإعجاز في الآيات فلا محل فيه للتناقض إذ هو يكشف عن حقائق علمية لم يثبتها العلم إلا هذا القرن بينما أشار إليها القرآن منذ قرون .
* ... * ... *(2/74)
... أما الجبال فقد استنتج جورج ايري عن حقائق أثبتها القرآن هي أن للجبال ثقلاً موازناً على شكل جذور تمتد إلى أعماق الأرض وافترض العالم أن الجبال الثقيلة لا تقوم على طبقة صلبة من القشرة الأرضية وإنما هي تسبح في بحر من صخور متماسكة كأنما هي جبال جليد عائمة ويحافظ الجبل الجليدي القائم على استقراره بفضل ماله من جذور غاطسة تصل أحياناً إلى تسعه أعشار طوال جزئه الأرضي الظاهر ، نحن لا نرى في الحال إلا عشرها وهو الظاهر فوق سطح الأرض أما بقيتها فتغوص في الأرض كالأوتاد ، ومن ثم نشأت نظرية توازن القشرة الأرضية .
... وقد أشارت الأبحاث أن الجبال تعمل على تثبيت القشرة الأرضية بفضل ما لديها من جذور عميقة إذ تغوص في الألواح مثلما يغوص المسمار في الخشب .
هذه المعلومات التي بدأت البشرية تجمعها منذ منتصف القرن التاسع عشر أنزلها الله تبارك وتعالى ( والجبال أوتاداً ) منذ أربعة عشر قرناً .
* ... * ... *
... هذه بعض الميادين التي كشف العلم عن مصادرها الأصيلة في القرآن الكريم منها ما أشير إليه في شرح إعجاز القرآن فيما يتعلق بسرعة الضوء لقوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) ( سورة السجدة ) وفي ميادين أخرى أهمها دور الإسلام والقرآن في علاج الأمراض النفسية والوقاية منها .
اللغة العربية
( 1 ) اللغة العربية والقرآن الكريم .
( 2 ) اللغة العربية في مواجهة اللغات الأجنبية .
( 3 ) الفصحى لغة القرآن من الثوابت .
( 4 ) اللغة العربية والتراث والتاريخ .
اللغة العربية والقرآن الكريم(2/75)
... كان من أخطر ما قيل في اللغة العربية ما قاله أشد أعداء الإسلام ( ارنست رينان ) في كتابه ( تاريخ اللغات السامية ) : من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره : انتشار اللغة العربية ، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء ، فبدت فجأة في غاية الكمال سلسة أي سلاسة ، غنية أي غنى ، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تبديل مهم ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة ، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى .
... ومن أغرب المدهشات أن تنبت هذه اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحّل ، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر ، حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة ، ولا نكاد نعلم من شأنها ولا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى ، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة بغير تدريج ، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة " أ.هـ
... وبقي أن يقول لماذا كانت اللغة العربية كذلك ؟ ، وهذا ما لم يقله ولا يستطيع أن يقوله ، إنه القرآن الكريم الذي أعطاها كل هذا الفضل وهيأها قبل مئات السنين لتكون قادرة على أن تحمل كلمة الله تبارك وتعالى .(2/76)
... نعم : إن سر اللغة العربية في عظمتها وخلودها هو أنها لغة القرآن الكريم ، ومن هنا فقد كانت هدفاً من أخطر أهداف الحرب المعلنة على الإسلام ، في طموح إلى فصل البيان العربي المعاصر عن بيان القرآن الخالد على نحو يحصل من نتائجه أن تصبح قراءة القرآن بعد مائة سنة مثلاً بقاموس أو أن تدخل العربية إلى المتحف كما دخلت اللاتينية ، وهو مطمح كاذب ولن يتحقق ، حيث يظنون أن العاميات واللهجات سوف تسيطر .
... ومن هنا تجري عمليات الحرب والنحو وعلى البلاغة وعلى عامود الشعر واللغة المحلية وسائر هذه الحملات المستمرة ، أي يقودها النفوذ الأجنبي بدءاً من وليكوكس والقاضي ويلمور ووصولاً إلى لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين ، ومحاولات مجلة المقتطف والخوري مارون غصن ، وفي المغرب كولان وماسنيون ثم عبد العزيز فهمي في الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية ، وبعد ذلك جاءت محاولات يوسف الحال ، وأدونيس وغيرهم من الدعاة إلى تحطيم عامود الشعر ، وجاءت الدعوة إلى ما يسمى اللغة الوسطى التي نادى بها توفيق الحكيم من أجل إعزاز العامية وإضعاف الفصحى .(2/77)
... ولقد وضع المستشرقون وأتباعهم من العلمانيين والمغربيين عدداً من الأبحاث والمحاولات كان آخرها كتاب الدكتور لويس عوض الذي يتسلل من اللغة العربية رامياً إلى مهاجمة عقيدة التوحيد الخالص التي هي عماد الإسلام ، وجعلها تقوم على مبدأ التثليث كالمسيحية ، وفي هذا الفكر المنحل أقحم النصوص القرآنية الواضحة وحاول أن يثنيها عن القصد المستقيم ، يقول الدكتور عبد الغفار حامد هلال : إنه عقد مقارنة بين كلمة ( خمت ) المصرية القديمة وكلمة ( حمد ) العربية ، وزعم أن كلا منهما مساوية للأخرى في الدلالة والمعني، فإذا كان الأمر كذلك كان معنى الصمدية ( الثالوث ) أو الثلاثة وكان معنى الصمدية بناء التوحيد على قبول نظرية ( الانبثاق ) ورفض مساواة المسيح لله في الجوهر في أهم مدرستين للاهوت المسيحي المنبعث من الفكر البيزنطي ويزعم أن كلمة ( صمد ) في العربية وهي من أسماء الله الحسنى كلمه محيرة لأنها مادة جامدة لم تشتق من فعل ولم يشتق منها فعل وهي غامضة المعنى نادرة الاستعمال وأشهر استعمالها في الصمدية ولذا ربط المفسرون معناها دائماً بتوكيد التوحيد وأفكار التثليث في مفهوم الصمداية ( المقدمة ص 305 ) .
... والواقع أن ما ادعاه الدكتور من أن ( صمد ) ليست مشتقة من الفعل صمد يصمد ادعاء خاطئ فعلماء العربية الموثوق بهم ذكروا هذا بوضوح كامل : الصمد بالتحريك السيد المطاع الذي لا يقضي بدونه أمر وقيل الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد ( الزاهر لابن الأنباري ) ولسان العرب .
... والصمد عند العرب هو السيد الذي ليس فوقه أحد يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم فاللفظ ليس غامض المعنى ولا نادر الاستعمال وليس فيه أي إشارة إلى الثالوث أو مبدأ التثليث ، ومن هنا جاء خطأ لويس عوض إذ إن الربط بين ألفاظ العربية وألفاظ اللغات الأخرى لا ينبغي أن يتم على هذه الصورة التي تخرج من نطاق المنهج العلمي إذ كانت أهدافه خبيثة على نحو ما رأينا .
* ... * ... *(2/78)
... ولا ريب أن هذه المحاولات التي تمت في السنوات الأخيرة تردنا إلى محاولة أخرى سبقت منذ أكثر من خمسين عاماً حين كتب جبران خليل جبران يقول : ( لي لغتي ولكم لغتكم )
... وقد واجه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هذه المقولة بالتفنيد فقال : ( إذا أنت لم تجد في كل علماء المتقدمين من يستطيع أن يقول إنه صاحب مذهب جديد في الأدب واللغة أو يرى لنفسه رأياً فيها إلا أنه يعمل لحفظها ونمائها ورونقها فإنك واحد في أهل 1923م من يقول في هذه اللغة بعينها : ( لك مذهبك ولي مذهبي ولك لغتك ولي لغتي) ، فمتى كنت يا فتى صاحب اللغة وواضعا ومنزل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها ومن سلم لك بهذا حتى يسلم لك حق التصرف ( كما يتصرف المالك في ملكه ) وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك ، لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئاً فيها ، من أن تلد عمر واحد في عصر واحد بين ملايين الأعمار في عصور متطاولة ، وأن ما تحدثه من خطأ لا يبقى على أنه صواب ولا يبقى أبداً إلا كما تبقى العلة على أنها علة فلا يقاس عليها أمر الصحيح ولا يحكم بها فيمن لم يعقل .(2/79)
... إن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته إلا زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق ، فإذا كان المعجز في لغة من اللغات بإجماع علمائها وأدبائها هو من قديمها فهل يكون الجديد فيها كمالاً أم نقصاً ، ثم أن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنوا الفهم منها إلا بالمران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها وأحكام اللغة والبصر بدقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق فيها وكل هذا مما يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد والجهل فلا تزال اللغة كلها مذهباً قديماً وإنما يكون الجديد فيها رجلاً إلى حين يدخل مذهبه معه إلى القبر ، وما عسى يصنع كاتب وعشرة ومائة وألف في لغة ينبض على كتابها المعجز ( أربعمائة مليون قلب ) الآن ألف مليون قلب - وكم من أسلوب ركيك أو ضعيف أو عامي ظهر في هذه اللغة وكم من كتاب كان يصلح أن يسمى بلغة اليوم مذهباً جديداً فأين كل ذلك وأين أثره في اللغة وأساليبها بعد ثلاثة عشر قرناً ، لقد ابتلعته ثلاثة عشر موجة فانحدر إلى أعماق الموت الطامي "
... وما تزال اللغة العربية قادرة على الصمود في وجه كل ما يوجه إليها بل هي مدعوة الآن أن تكون لغة المسلمين العالمية لأنها لغة فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم وتراثهم وإذا كان هدف النفوذ الأجنبي القضاء على القرآن بالقضاء على لغة القرآن فإن اللغة العربية سوف لا تموت ، وهي قادرة على العطاء وستظل حافظة لمنهج القرآن والسنة النبوية وتراث الفقه والعلوم الإسلامية إلى ما شاء الله .
... وسوف تتحطم كل محاولات النيل منها ، خاصة في البلاد غير العربية ونحن نتطلع إلى خطوات جادة في البلاد الإسلامية وخاصة في باكستان وإندونيسيا وأفغانستان من شأنها أن يدفع اللغة العربية إلى مكانها الحقيقي من حيث دورها في بناء الثقافة الإسلامية .
اللغة العربية في مواجهة اللغات الأجنبية(2/80)
... أرجو أن أتناول هذا الموضوع الخطر من وجهة نظر باحث إسلامي يؤمن بإقامة منهج جامع للفكر الإسلامي ومن خلال إيمان صادق بأن اللغة العربية مستهدفة من جهة القرآن والوحدة الإسلامية ، وفي الحق أن كلمة ( المواجهة ) كلمة رقيقة لا تمثل حقيقة الصدام الذي وقع فعلاً بين العربية واللغات الأجنبية ، ولقد بدأت ( المواجهة ) بين اللغة العربية وبين اللغات الأجنبية منذ اليوم الأول لدخول النفوذ الأجنبي إلى قلب الأمة الإسلامية ، وكان تركيز التغريب والغزو الثقافي على اللغة العربية بالغ الدقة من حيث أنه المفتاح لكل حرب توجه نحو العقيدة أو الفكر أو التراث أو التاريخ أو القرآن نفسه فقد كان دعاة التغريب في مخططاتهم يعرفون مدى ارتباط اللغة العربية الفصحى بانتشار الدعوة الإسلامية ومدى ارتباط جماعة المسلمين ( خارج نطاق البلاد العربية ) باللغة العربية بوصفها لغة عقيدة وفكر وثقافة ، يجب أن تكون تالية للغة البلاد الأصلية ، بل لقد كانت لغات الترك والفرس والملايو والأوردو تكتب جميعها بالحروف العربية .
... ولقد كان تركيز النفوذ الأجنبي على اللغة العربية هو بمثابة الحرب على القرآن الكريم نفسه فإنه إذا نزلت اللغة إلى مستوى في البيان هابط واستمرت على ذلك التنازل جاء اليوم الذي يبدو بيان القرآن وكأنه مختلف وغامض لارتفاعه عن مستوى اللغة العامة وعند ذلك ينفصل القرآن عن لغة الكتابة ويُقرأ بقاموس وسيتحقق هدف النفوذ الأجنبي بعزل القرآن عن اللغة العربية لا قدر الله .(2/81)
... إن من يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر تكشف أن أول أعمال الاحتلال هي وضع الخطة لحطم اللغة ، يبدو ذلك واضحاً في تقرير ( لورد دوفرين عام 1882م حين قال : " إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية - لغة القرآن - كما في الوقت الحاضر " ، وحين تحدثت التقارير عن الأزهر وضرورة تطويره تبين المخطط التغريبي كاملاً فقد كان القرآن والإسلام هما الهدف ، وقد توالت هذه الحرب ، ليس في مصر وحدها بل في الشام والمغرب بأقطاره كلها في محاولات قدمها كرومر وبلنت من ناحية ولويس ماسنيون كولان في المغرب ، ثم تقدم رجال يحملون أسماء عربية بعد أن مهد لهم الطريق وبلكوكس ، والقاضي ديلمور تقدموا للعمل وحيل بين اللغة العربية وبين أحكام المحاكم المختلطة والأجنبية ، وكان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغة الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في سوريا وتونس والجزائر والمغرب وقد كانت خطة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثانياً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية .
ثالثاً : ابتعاث أبناء المسلمين إلى الغرب لدراسة لغاته .
... وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر وأن من يجيد لغة أمة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة ، وكانت الحملة على اللغة العربية الفصحى تنطلق من خلال حجج ضعيفة واهية منها : صعوبة اللغة ، ومنها التفاوت بينها وبين العامية .(2/82)
... وانطلقت في ظل هذا التيار التغريبي الشديد الخطورة : تلك الكلمة المسمومة التي تقول : إن اللغة العربية لغتنا وهي ملك لنا ومن حقنا أن نتصرف فيها ، وكيف يحق لنا ( حتى لو كنا كل العرب ) أن نتصرف في لغة الثقافة والعقيدة والإيمان لألف مليون من المسلمين ؟.
... لقد رافق التنافس بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية على أفق الثقافة الإسلامية مخطط خطير كان يعمل على بث الثقافة الغربية وحجب مفاهيم الفكر الإسلامي من خلال النفوذ الاستعماري الذي فرض على التعليم لغته ومناهجه وعلومه التي تختلف اختلافاً بيناً عن علوم الإسلام سواء في مجال التربية أو النفس أو الأخلاق أو الاجتماع ومن ثم برزت أجيال من المثقفين لهم طابع غربي ينظرون في تقدير عجيب للغرب وتاريخه وأعلامه ويزدرون تاريخ أمتهم وقيم فكرهم وهم لم يقرأوه إلا عن طريق الاستشراق والتبشير ، وكان فرض اللغة الأجنبية في مختلف أقطار الأمة الإسلامية عاملاً هاماً في فرض ثقافتها ووجهة نظر أهلها وفي الوقوف موقف الإعجاب بالغاصب والعجز عن مواجهته .(2/83)
... ومن يدرس تجارب التعليم الغربي في البلاد العربية ( وهو غير التعليم التبشيري ) يجد الولاء الواضح للنفوذ الغربي ، بينما انحسرت الثقافة الإسلامية في الأزهر والزيتونة والقروين وخلاوي تحفيظ القرآن دون أن يكون لأصحابها أثر واضح في حركة الحياة الاجتماعية رغبة في عزلهم عن التوجيه ، ولم يخل الأمر من محاولات تطوير هذه المعاهد على نحو يفرغها من رصيدها الإسلامي القائم على الأصالة والحفاظ على الذاتية الإسلامية من الانصهار أو الذوبان في بوتقة الحضارة الغربية ومن خلال هذه التبعية الثقافية للغات الغربية كان الأثر البعيد في تبني مناهج الغرب في دراسة اللغة العربية والقرآن وتاريخ الإسلام وفق مناهج التفسير المادي للتاريخ وهي مناهج لا تعترف بالوحي أو النبوة أو الغيب وقد قامت على دراسات كان لها شهرتها البعيدة ولكن اليقظة الإسلامية استطاعت أن تكشف قصورها وعجزها عن العطاء الأصيل .
* ... * ... *(2/84)
... إن من يتابع اقتحام اللغات الأجنبية للغة العربية في مهدها وأرضها ليجد صورة مريرة حيث يتعقب النفوذ الأجنبي اللغة العربية الفصحى في إصرار وموالاة ويطاردها حتى لا يدعها تلتقط أنفاسها ، وهو حين يطاردها يحس بالانتقام من شئ أبعد من اللغة العربية ومن القرآن الكريم ونفوذ الإسلام الذي يتنامى في المناطق التي بدأ يسيطر عليها ، ففي أفريقيا حيث تعمل البعثات التبشيرية من أجل معارضة نمو الإسلام توجه إلى اللغة العربية أكبر قدر من المقاومة والحرب فقد كانت لغة العرب لها السيادة في مختلف أقطار أفريقيا قبل أن يعمد الاستعمار إلى زحزحتها عن مكانها وإعلاء لغاته الغربية ولهجات أفريقيا الساذجة ، فقد جعل الاستعمار اللغة العربية كبرى فرائسه حتى فصل بين نمو الإسلام وامتداده وبين لغة القرآن الكريم ، لقد كان للغة العربية الحظ الأول في الانبثاث في اللهجات الصومالية والزنجبارية أولاً لرجوع الصلة بين شرق أفريقيا وجزيرة العرب إلى أقدم عصور التاريخ وهو ما يتبين مثلاً من وجود كلمة ( يا ريهو ) منقوشة على جدران الدير البحري بطيبة ، والسبب الثاني لتغلغل اللغة العربية في اللهجات الصومالية والزنجبارية يرجع إلى أن أهل الصومال وزنجبار كانوا على أثر شيوع الإسلام فيهم في عهد بني أمية وهجرة الزيديين إلى تلك الأصقاع في حاجة إلى تفهم معاني القرآن والأحاديث وأقوال الأئمة على أن رطانتهم بلهجاتهم تلك ظلت على الرغم من توفرهم على درس اللغة العربية غالبة على ألسنتهم ففشا بينهم لجمعهم بينها وبين اللغة العربية لحن جديد عرف في شمال خط الاستواء باللغة الصومالية وفي صوته باللغة السواحلية وصارت كلتاهما من ناحية تأثير اللغة العربية فيها مزيجاً من كلمات زنجية بحتة ، وقد طرأ التشويه والتحريف على اللغة السواحلية باستيلاء البرتغاليين على حوض المحيط الهادي وسواحل شرق أفريقيا ، وقد عمد الاستعمار إلى إحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة(2/85)
السواحلية في زنجبار وكينيا وتنجانيقا وأوغندا ، وكذلك محل اللغة الويه أيضاً ، وقد أشار باحثون كثيرون إلى عمق الخطة التي اصطنعها الاستعمار الفرنسي في المناطق التي احتلها من أفريقيا فقد كان يحاول أن يبث في عقول الأطفال أنهم من الغال الفرنسي فيقول ( البير تيفود ) لقد ضحكنا كثيراً عندما كنا نسمع ونحن أطفال أن أجدادنا غاليون وقد فرضت فرنسا على الطلاب أن يعتبروا الفرنسية لغتهم القومية .
... أما في ساحل العاج فقد كانت الأوامر تقضي بمنع التلاميذ من استعمال لغتهم الأم منعاً باتاً بينما كانوا لا يفهمون كلمه واحدة من الفرنسية ، وكانت تفرض العقوبات على المتمردين الذين لا يستطيعون أن ينصهروا في البوتقة .
... وفي نيجريا كان الإنجليز قد حالوا بين المسلمين والتعليم وكانوا يشترطون أن يغير المسلم اسمه إلى اسم لاتيني ويحضر الصلوات في الكنيسة ويدرس التاريخ الاستعماري ، كما عمد إلى نقل حروف اللغات المحلية من العربية إلى الحروف اللاتينية ، فضلاً عن عملية القضاء على التراث الإسلامي التي تعرضت للحريق للقضاء على كل أثر علمي عربي بعد قطع التيار الحضاري العربي القادم من شمال أفريقيا ومصر .
... وفي غرب أفريقيا عمد الاستعمار الفرنسي إلى القضاء على اللغة العربية بعد معركة مع اللغة العربية في الجزائر خلال مائة عام كاملة ، وقد جاء هذا كله بعد أن بلغت اللغة العربية كل وصف حتى أصبحت لغة التخاطب بين قبائل نصف القارة كما أشار إلى ذلك ( توماس أرنولد ) في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) وبعد أن كانت بعوث أفريقيا ترسل إلى مكة المكرمة والأزهر أصبحت إلى ترسل إلى الغرب .(2/86)
... وبعد أن كانت اللغة العربية قد شاركت بحروفها وألفاظها في كل اللغات الأساسية في أفريقيا وهي الهوسا والمانديجو والوولوف والسواحلية والصومالية ولغات النيجر والدناكل في أثيوبيا وأرتيريا ، عهد النفوذ الأجنبي إلى إيقاف كل ذلك وإحياء الثقافات الإفريقية وصبغها بصبغة قبلية إقليمية تساعد على إثارة التعصب وإقامة القوميات المحدودة المحلية في نطاق قبلي ليستغلوا هذه الروح في إقامة سد مرتفع في وجه انتشار اللغة العربية مع نشر الثقافة الإنجليزية والفرنسية من خلال اللغتين لتحقيق الاستعمار الثقافي الكامل وهكذا أصبحت اللغتين الإنجليزية والفرنسية - كل في المنطقة المسيطرة عليها - لغة أساسية في كل مراحل التعليم المختلفة وغلبت اللهجات القومية ولغة المستعمر - ليس على مناهج التعليم فحسب - بل على أعمال المصارف والدواوين ، وقد أشار إلى ذلك المبشر زويمر حين قال : يوجد في أفريقيا لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي وفي مجال الدعوة إلى الله وهما الإنجليزي والعربي وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية لهما لفتح القارة السوداء مستودع القوة والمال ويريد أن يلتهم كل منهما الآخر ، وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري : أعني النصرانية والإسلام .
... وفي هذه الجولة استطاعت اللغات الأجنبية كسب قصب السبق ولكن ليست هذه هي نهاية المباراة .
... وفي جنوب شرق آسيا ( في الملايو وإندونيسيا وتايلاند وغيرها ) لا تختلف الصورة كثيراً عن هذا النموذج الأفريقي حيث واستطاعت اللغات الأجنبية السيطرة وتراجعت اللغة العربية ثم الحروف العربية أيضاً في تركيا وإندونيسيا .(2/87)
... لقد تنامى أمر اللغة الإنجليزية في العقود الأخيرة وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة لتوسع نفوذ الغرب واللغة الإنجليزية والأمريكية في مناطق الإسلام على النحو الذي حجب اللغة العربية عن مناطق كثيرة وأعجز المسلمين في أفريقيا وجنوب شرق آسيا من التزود بالتراث الإسلامي أو الوصول إلى " تصور " لمفهوم الإسلام الصحيح نتيجة تغلب الثقافات الغربية ، وسعى التبشير السعي الحثيث في كلا المنطقتين لتوزيع الكتاب المقدس ودراسات الغرب التي تقوم على أساس دقيق من الفكر المسيحي .
... وبالجملة فقد طاردت اللغتين الفرنسية والإنجليزية لغتنا العربية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، وانتشرتا على حسابها فقد كان من الطبيعي على حسب سنة التطور أن تسير اللغة العربية في ركاب الإسلام أينما حل ، ولكن النفوذ الأجنبي خلال أكثر من قرنين من الزمان استطاع أن يوقف نمو اللغة العربية في بلادها وامتدادها في البلاد التي أنتشر فيها الإسلام ، بل أنه عمد إلى لغاتها التي كانت تكتب بالحروف العربية فغيرها إلى الحروف اللاتينية ، ومن ثم فقد أحس المسلمون في هذه البلاد ولا يزالون بنقص كبير من حيث أنهم يتعلمون الإسلام دون أن تيسر لهم من أسباب اللغة العربية ما يعينهم على فهم القرآن الكريم والسنة المطهرة .
* ... * ... *
... وفي إندونيسيا وأرخبيل الملايو تجد الصورة قاتمة فقد تعرضت إندونيسيا بعد الاستقلال للتحديات في مجال اللغة فكتبت اللغة الإندونيسية بالخط الروماني بدلاً من الخط العربي المحلي ، وقد فرضت لغة جديدة بخط جديد حتى صارت اللغة الإندونيسية بالخط الروماني لغة أجنبية لا يقرءون ولا يكتبون بها رغم توجه أكبر عدد من الإندونيسيين إلى المدارس والجامعات في الخارج ، وأصبح العدد الأكبر قادراً على أن يقرأ اللغات العربية وخاصة الإنجليزية .(2/88)
... أما اللغة الإندونيسية الجديدة فقد صيغت في قالب الثقافة الغربية ، على حد تعبير السيدة مريم جميلة التي تقول : إن الصحف لا تنقل المصطلحات والكلمات الإنجليزية وحدها وإنما تعدى تأثيرها إلى المجلات الإسلامية الدينية التي تكافح للاحتفاظ بحرية العقيدة ولكنها لا تستطيع ولا تقدر أن تكافح الاتجاه اللغوي ، ويدرك الشباب المسلم في إندونيسيا بأن هذا التغريب اللغوي يجعل المسلمين في إندونيسيا منعزلين لغوياً عن الدول الإسلامية الأخرى .
إيقاف اللغة العربية
... هذا عنوان المخطط ، ولقد جاء هذا الإيقاف عن طريق القسر والتحدي وبفعل عوامل غير طبيعية أقامت السدود أمام نمو اللغة العربية وسيرها مع الإسلام في خط واحد ، وخاصة في المناطق التي اتسع فيها نطاق الإسلام من قبل ، ولولا هذه المحاولات التي تقودها قوى التبشير العالمية والتي تفرض على مناهج التعليم في تلك البلاد لغات أجنبية ولهجات عامة لما استطاعت قوة أن تحول بين العربية الفصحى ومسايرة الإسلام لأنها اللغة التي تحمل القرآن الكريم دستور الإسلام ومنهجه الاجتماعي والفكري وتحمل السنة والفقه والتراث .(2/89)
... واليوم وفي كثير من البلاد التي تحررت من نفوذ الاستعمار لا يزال النفوذ الفكري يزين لأهلها ويغريها بمدارس تقوم دراستها وبرامجها على اللغات الأجنبية ، فضلا عن المدارس الجديدة التي يسمونها مدارس اللغات ، وكذلك الأمر في معاهد الألسن التي لا تقوم برامجها على اعتبار اللغة العربية هي الأساس ، فالمفروض أن تكون كل اللغات التي يتعلمها العربي أو المسلم خادمة للفكر الإسلامي ، وإنما تقوم معاهد الألسن على فلسفة مغرقة في التبعية والولاء الأجنبي ويطمع المشتركون فيها أن تحتضنهم الدول الأجنبية في مناصب وأوضاع متميزة يخدمون فيها خصوم أمتهم ، ولا يفوتنا أن نثني على الجهود التي يقوم بها أهل العربية في بناء المدارس الإسلامية والعربية في كل بلاد العرب والمسلمين لحماية النشء من أخطار مناهج التبشير والتغريب .
ولكن هل توقف المسلمون والعرب عن المقاومة ؟!
... الحق أنهم لم يتوقفوا وما زالوا يجاهدون ويقاومون ، ما وسعهم الجهد والمقاومة ، فما تزال البعثات التي ترد إلى الأزهر الشريف والعواصم العربي تعود وقد أُعدت لحمل لواء البيان العربي وتدريس المواد الإسلامية ، وتنقية اللسان القومي من العجمة والاقتراب من الأصالة على نحو واسع لا تقطعه إلا مؤامرات النفوذ الأجنبي التي لا تكف للحيلولة دون بلوغ الغاية .
* ... * ... *
... بقي بعد ذلك أن نعرض للشبهات التي طرحت في أفق اللغة العربية من أجل خلق روح الكراهية لها بين أهلها وهي شبهات تصدى لها الكثير وكشف زيفها الأبرار من ذوي الخبرة والاختصاص :(2/90)
أولاً : إن تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية ، هي دعوة مريبة ترمي إلى التحلل من القوانين والأصول التي صانت الفصحى خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد ، فإذا تحللنا من هذه القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة كان نتيجة ذلك تبلبل الألسنة واتساع رقعة الاختلاف بين الأقطار العربية حتى تصبح عربية الفكر شيئاً يختلف كل الاختلاف عن عربية القرآن أو عربية اليوم وتصبح قراءة القرآن الكريم والتراث العربي الإسلامي كله متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم .
... وقد كان تطور اللغات الأوروبية نكبة على أصحابه قطعهم أمما بعد أن كانوا أمة واحدة ، فما زالوا في خلاف وحروب ، ثم إنه لم يحكم على التراث القومي لكل شعب من هذه الشعوب بالموت حتى ما يستطيع الإنجليزي اليوم من عامة الشعب أن يفهم لغة شكسبير الذي مات في القرن السابع عشر ، أما نحن العرب فإننا نقرأ القرآن ، ونفهم رسائل الجاحظ ، فلا نكاد نحس فارقاً بين أسلوبه وأسلوب المعاصرين .
ثانياً : هناك معركة العامية التي دعا إليها بعض الشعوبيين في إحدى البلاد العربية بقصد القضاء على وحدة الأمة تحت لواء الفصحى ، وهي الدعوة التي أفرزت شعر التفعيلة وقطرية الحداثة وإسقاط القافية ، وهي معركة خاسرة فقد ثبت أن الفصحى أطوع في التعبير من العاميات ، كذلك فنحن لسنا في حاجة إلى لغة دارجة ثالثة كحلقة وسطى بين العامية والفصحى ، وأخطر ما في هذا الاتجاه تبني اللهجات الدارجة والمحلية للمسرحيات والتمثيليات وما يسمى بالأدب الشعبي ، كذلك فإن الفجوة بين الفصحى واللهجة العامية ليست بهذه الصورة التي يحاول أعداء اللغة إظهارها بها ، وإن الخلاف بين عبارة الكتاب العلماء وبين عبارة العامة أمر مألوف في كل أمة وفي كل لغة حية .(2/91)
ثالثاً : الهجوم على الحروف العربية بينما تبين بشهادة المثقفين أن هذه الحروف هي أصلح حروف الأبجديات قاطبة لكتابة الألفاظ ومن أكثرها دقة في ضبط الأصوات ، وقد استطاعت أن تؤدي من أنواع الكفاية ما لم تستطع أبجدية أخرى أن تؤديه ، فقد استطاعت الحروف العربية أن تكتب لهذه اللغات جميعاً دون تعديل أو تغيير أو إضافة في أشكالها ولقد انخدع الذين دعوا إلى الكتابة العربية بالحروف اللاتينية بما حدث في تركيا غير مقدرين الفارق بين اللغتين وكذلك لم يلتفتوا إلى اختلاف العربية عن اللاتينية وما تفرعت إليه من لغات ، وقد فاتهم أن اللغة العربية تعبر عن فكرة وثقافة ممتدة لأمة واحدة في تاريخها البعيد إلى حاضرها المشرق ، ما تزال مطعمة بالحياة والقوة ، وأن تطورها وتفاعلها لم يتوقف وهي لغة أمة واحدة ارتبطت بالتاريخ والعواطف والفكر والقيم والمصير أوثق ارتباط ، وفوق ذلك فهي لغة القرآن الكريم أساس الحضارة والفكر والثقافة العربية الإسلامية ، أما اللغة اللاتينية فلم تكن لغة الغرب كله ولم تستطع التغلب على اليونانية ، فضلاً عن أنها لغة أرستقراطية لم تتغلغل في حياة العامة .(2/92)
رابعاً : محاولة تطبيق مناهج اللغات الأوروبية على اللغة العربية ودراسة اللهجات والعامية ، ولما كان المنهج الوضعي الحديث يجعل أساسه في دراسة اللغة هو دراسة اللهجات والتركيز على الكلام المنطوق دون المكتوب فإن الهدف هنا هو صرف الأنظار عن علاقة اللغة بالدين في سبيل إحياء القوميات الحديثة في الغرب ، وإذا كان الأوروبيون قد فرقوا بين اللغة العربية المستعملة في النصوص المقدسة والطقوس وبين اللغة التي يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية ومصالحهم الخاصة ، فإن الفصحى ليست هي اللغة اللاهوتية أو لغة العبادة فحسب ولكنها تجمع بين الغرضين كذلك ، فقد جمعت اللغة العربية بين الأسلوب الديني والأسلوب العلمي وعبارة لغة الدين عبارة كهنوتية لا تنطبق على العربية ، وهي مرتبطة بالمسيحية في الغرب .(2/93)
... ومن هنا فإنه يلزم أن يكون لنا موقف إزاء نظريات علم الأصوات الحديث فلا نأخذها قضية مسلمة ، فإن العلوم الإنسانية الغربية الوافدة تختلف اختلافاً واسعاً عن مفهوم العلوم الإنسانية الإسلامي ، كذلك فإن هناك اختلاف واسع من حيث المضمون والتاريخ والظروف بين اللغة العربية واللغات الأجنبية ، وما ينطبق على هذه اللغة ليس بالضرورة صالح للتطبيق في العربية التي تميزت بارتباطها بالقرآن الكريم الذي حماها من عملية الانهيار التي تتم في الغرب كل ثلاثة قرون ، ونحن نطالب بنظرية خاصة لدراسة اللغة العربية من حيث اتصالها بالقرآن وخلودها واستمرارها حتى الآن ونحن يجب أن نرفض تطبيق مناهج اللغات الأوروبية على اللغة العربية لأسباب علمية بحتة ، ويجب أن يكون واضحاً أن اللغة العربية هي مفتاح فهم الإسلام والإحاطة به وبدونها لا تتحقق معالمه ولا تجلى للناس حقائقه وتعاليمه ، وهذا سر الحملة عليها وقد قبلت اليابان بتنفيذ شروط المحتل الأمريكي بعد الهزيمة ما عدا شرطاً واحداً هو قبول إدخال بعض التعديلات على اللغة اليابانية حيث كان الأمريكيون يريدون أن ينزعوا منها بعض مقوماتها .
* ... * ... *(2/94)
... ومن هنا فنحن مطالبون بقدر أكبر من الوعي واليقظة إزاء مؤامرة احتواء اللغة العربية وتفريغها من مقوماتها بعد مؤامرة حبسها عن النماء والانتشار في العالم الإسلامي ، وأخطر ما تدعو إليه هو القدرة على التحرر من سيطرة اللغات الأجنبية على اللسان العربي وضرورة تعريب التعليم كنقطة انطلاق إلى الأصالة وإيماناً بأن لغة القرآن هي لغة الحياة وأنها ليست لغة أثرية بل لغة متجددة وقادرة على استيعاب متغيرات العصر وحقائقه ، وقد ظل التعليم في القصر العيني سبعين سنة باللغة العربية حتى احتلت مصر ، وأمامنا تجربة كلية الطب في دمشق ثانياً ، وإلى ضرورة تعلم اللغات الأجنبية في إطار اللغة الأم حتى لا تعطى اللغة الجديدة ولاءً معارضاً للولاء الأصيل فقد حرص النفوذ الأجنبي أن ينقل فكره عن طريق لغته وأن يحقق لها ولاء في نفوس وعقول أبناء الأمة الواقعة تحت سيطرته .
... كذلك فنحن مطالبون بأن نحمي لغتنا من اقتحام ألفاظ اللغات الأجنبية عليها فإن ذلك يجعلها مهلهلة خالية من جمال صنعتها الفريدة ونسيجها المنسجم ، فالإسراف في استخدام الدخيل من اللغات الأخرى له محاذيره التي يعرفها شيوخ اللغة ، كذلك نحذر من خطر الدعوة إلى إسقاط حركات الإعراب .
... كذلك فنحن لا نقبل الواقع الذي تدنت له الفصحى اليوم عن طريق الصحافة والتليفزيون والمسرح ولكنا يجب أن نعمل على التسامي بلغة الحوار حتى تقترب دائماً من بيان القرآن لا تنفك عنه .(2/95)
... ومن الضروري حماية ( الجملة القرآنية ) التي دعا العلامة مصطفى صادق الرافعي إلى تجاوزها لينال الشهرة الضخمة والمكانة العليا ، وإذا كان لنا أن نأخذ من الغرب فلنأخذ قول الفرنسيين إن اللغة هي الجنسية ، وفي ألمانيا أن اللغة مادة المواد والمادة العليا لأنها يتصل بها كل الفكر ، وما سمعنا في الغرب من يقول قولة الظالمين إن الله مجرد أداة أو أنها أداة غير طيعة ولا صالحة يريدون محوها ، وهدم أصالته الإسلامية ولقد كان علي أن أتحدث عن عظمة اللغة العربية واتساعها وتعدد معانيها وقد أمكن حصر مائة ألف مادة من كلامها وأسرد على مسامعكم تقرير باحثين أجانب نختلف معهم في كل شئ لهذه اللغة ولا أحدثكم عن مئات المصطلحات العربية في اللغات الأوربية ، وأحذر من مراكز تعليم اللغة العربية في جامعات فرنسا وبريطانيا وبرلين وغيرها ، فإن الذين ذهبوا إليها شهدوا بأنها تنفر أبناء المسلمين غير العرب من تعلم العربية وتردد قول المستشرقين والمبشرين في اتهامها بالجمود والعقم وبأنها لغة لا تصلح للحياة إلا لمجتمع بدوي وأنها لا تساير الحياة الحضارية .
* ... * ... *
... والحق أن حرب اللغة العربية هي حرب للإسلام والقرآن لأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي احتفظ بلغته الأصلية وحفظها من عوادي الفناء وسيحفظها على مر الدهور وستموت اللغات الحية المنتشرة في العالم اليوم كما ماتت لغات حية كثيرة في سالف العصور الأولية فستبقى بمنجاة من الموت وستبقى حية في كل زمان مخالفة للنواميس الطبيعية التي تسري على سائر لغات البشر ولا غرو فهي متصلة بالمعجزة القرآنية الأبدية ، فالقرآن هو الحصن الحصين الذي تحمى به اللغة العربية وتقاوم أعاصير الزمن وعواصف السياسة المعادية ووسائطها الهدامة .
الفصحى لغة القرآن من الثوابت
ونحن نقبل بتطوير الوسائل والأدوات(2/96)
... يجب أن يكون معروفاً لشباب الأجيال المسلمة الجديدة خلفية القضية كلها لأن الاستشراق والتغريب إنما يرمي سهامه اليوم على طلائع جديدة لم تحضر هذه المعركة الطويلة القاسية التي امتدت منذ أخذ النفوذ الغربي يقعد قواعده في بلاد المسلمين وفي الوطن العربي بالذات ، وقد جاء ومعه خطة مرسومة تهدف إلى تمزيق وحدة هذه الأمة ، وتدمير ذاتيتها وإثارة الشبهات حول ميراثها من القرآن والسنة الشريفة بهدف فتح الباب واسعاً أمام سموم الفكر المادي والعلماني والوثني الذي يحمل لواءه والذي فرضه على مناهج الدراسة في كثير من البلاد العربية .
... ولما كان هذا النفوذ يخشى اتهامه بحرب الإسلام فإنه تخفى وراء سواتر تمكنه من العمل ، وقد جعل من اللغة العربية أهم الوسائل لضرب القرآن الكريم من خلالها بالدعوة إلى تطويرها وإلى إحياء العاميات و" إلى خلق ما يسمى ( باللغة الوسطى ) وبتشجيع المسلسلات العامية في أدوات البث والإعلام وقد قامت الصحافة العربية عن طريق دعاة خطرين أمثال سعيد عقل وسلامة موسى ولطفي السيد ولويس عوض إلى اقتحام هذه الخطط وكان أقرب هذه الأعمال دراسة لويس عوض تحت عنوان ( مدخل إلى اللغة العربية ) ، وقد أعدت المؤسسات الاستشراقية والتبشيرية والتغريبية دراسات جاهزة في كل هذه المجالات تقمها لرجالها وأتباعها وأوليائها في البلاد العربية لينشروها بأسمائهم إيماناً منهم بأن العربي قد يظن أنها تحمل الخير مادام قد جاءت من عربي مثله وقد بدأ ذلك واضحاً في كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين ، والإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق والمدخل في اللغة العربية للويس عوض وأصحاب الأصل الذي نقلت منه هذه المقولات معرفون مشهورون .
... وقد ينخدع بعض أخوتنا في الوطن العربي إزاء مقولات التجديد والتطوير والاستجابة للعصر وما يتمثل به الدعاة مما حدث للفرنسية والإنجليزية وغيرها مما يجب أن يحدث للغة العربية .(2/97)
... ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً ذلك أن اللغة العربية تختلف عن هذه اللغات جميعاً ، وأن ما يسمى ( علم اللغة الغربي ) الذي استخرجه علماء اللغات هناك من تاريخ لغاتهم وأوضاعها الخاصة والذي نقل إلينا في الأخير هذا لا يتطابق ولا يصلح للغة العربية أبداً لعدة أسباب أساسية :
... إنهم يهدفون إلى مصير للغة العربية العلمي : لغة القرآن كالمصير الذي لقيته اللغة اللاتينية واللغة اليونانية حين انفصلت عنها اللهجات فأصبحت لغات وهم يطمعون في ذلك حتى تختفي اللغة العربية ، ومن ثم يقرأ القرآن الكريم بواسطة قاموس ويتقلص ظله على المدى البعيد وهذا سوف لا يكون أبداً لأن ارتباط اللغة العربية بالقرآن قد جعلها لغة خالدة قد تصيبها سهام الحاقدين ولكن لن يستطيع النيل منها على المدى الطويل .
... فلنتحرس من الدعاة المضللين الذين يدعوننا إلى التحرر من الضوابط والقواعد وخاصة فيما يتعلق بالنحو والصرف وحروف الهجاء .
... ولنعلم أننا نقف على قمة شامخة ظلت تتنامى خلال أربعة عشر قرنا من التراث الإسلامي الرفيع القدر الذي كتب باللغة العربية الفصحى والذي يرمي أصحاب التغريب والغزو الفكري والاستشراق إلى تجميده وضياعه إذا ما تحول المسلمون عن العربية الفصحى إلى اللهجات المحلية ( ويجب أن تعامل المحاولات لذلك بالحسم ) .
... ولقد كانت دعوة الاستعمار منذ أول يوم إلى اللهجات وإلى إقحام لغته وقد استطاع أن ينجح في هذا المجال نجاحاً مؤقتاً ، فبعد أن كانت العربية الفصحى تجري في ركاب الإسلام كلما دخل قطر دخلت معه ، تخلفت العربية في عديد من بلاد أفريقيا وجنوب شرق آسيا ووجدت من عملاء الاستعمار من دفعها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية ، وكانت تركيا الكمالية في مقدمة هذا التحول الخطير ، وهناك لغات محلية كثيرة تكتب الآن بالحروف اللاتينية مما يعوق مسيرة الثقافة الإسلامية .(2/98)
... ولتكن أجيالنا الجديدة على إيمان صادق ووعي كامل بأن اللغة العربية عندما نزل بها القرآن أعطاها وضعاً مختلفاً تماماً عن لغات العالم كله ولم تعد تلك النظريات التي يضعها الغربيون في قصة اللغة وغيره صالحة لنا ، هذا فضلاً عن ضرورة الإيمان الذي لا يتردد في أن اللغة العربية هي من الثوابت لارتباطها بالقرآن الكريم الذي قال عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : إن مراجعه في الشعر الجاهلي وإن كلماته تتمثل في مصطلحات لها جذورها في لهجات العرب القديمة .
... هذا الترابط الخطير بين اللغة العربية والشعر الجاهلي الذي كتب بها والذي تفتح ( المصحف المفسر ) عند أية كلمة لا تفهمها فيقول له الشارح : قالت العرب كذا وكذا ( ويورد بيتاً من الشعر أو الحكمة ) .
... هذا هو العمل الذي كان طه حسين يريد أن يحققه لحساب التغريب والنفوذ الاستعماري بدعواه أن الشعر الجاهلي منحول وأنه وضع بعد الإسلام ، ولقد حاول توفيق الحكيم وغيره الدعوة إلى ما يسمونه ( اللغة الوسطى ) وهي مؤامرة أيضاً يراد بها تقديم العاميات في إطار شرعي يخدع الشباب الجديد ، والحق أننا كمسلمين مطالبون بتبليغ رسالة الإسلام للعالمين وأن نتحفظ في هذا المجال وأن نحرص على التجديد في الأساليب والوسائل دون أن نمس جوهر هذا الكيان الذي شكله علماء المسلمين على مدى العصور ، والذي يتوقف عليه فهم هذا المليون من كتب التراث الإسلامي سواء منها ما يوجد في بلادنا أو في الغرب وليكن واضحاً أن النهضة الإسلامية في مجال الحضارة والعلم التجريبي سوف لا تبدأ إلا من عند آخر ما وصلت إليه كتابات علماء الإسلام قبل عصر الضعف والتخلف الذي قدمت فيه مفاهيم ضعيفة حجبت المفاهيم الأصلية التي قدمها علماء عصور الازدهار ( وقد عالج هذه القضية معالجة واسعة الدكتور عبد الرحمن صالح مدير معهد العلوم المسائية والصوتية بالجزائر ) .(2/99)
... يا أيها الأخوة : إن معنا كنز شديد الخطورة ، ربما لا نعرف مدى أبعاد أهميته نظراً للتيارات الوافدة التي تدعونا إلى النظر إلى القديم نظرة سلبية في ظل صيحات ( التقدم والتجديد والتطور والعصرية والحداثة ) وهي كلها كلمات براقة خادعة ونحن لسنا ضد أي تطور أو تقدم ولكن لنا مقاييسنا ولنا منهجنا الجامع المترابط بين الروح والمادة وبين التراث والعصر وبين الثوابت والمتغيرات وهي ليست نظرة رجعية أو جامدة ولكنها نظرة إسلامية أصيلة فلا نتجاوزها جرياً وراء البريق الخادع .(2/100)
... إن موقف الفكر الغربي من القديم والجديد والأصالة والمعاصرة مرتبط بقاعدته الأساسية التي تقوم على احتقار هذا التراث الذي يتمثل في الفكر اليهودي والمسيحي نتيجة للخلاف الذي وقع في الغرب بين رجال الدين وعلماء التجريب وقصور مفاهيم اللاهوت ( التي لم تكن مستمدة أساساً من المسيحية المنزلة ) مما دفع العلماء إلى الوقوف موقف الرفض الكامل لكل ما يتصل بالدين والعقائد والروح والدخول في دوامة الفكر المادي والفلسفة المادية والعودة إلى تراث اليونان والرومان وما يجري حوله ، هذا التصور يجب أن نكون على حذر من نقله إلى مجتمعنا وإلى فكرنا لأننا في جو الإسلام والقرآن لم نكن على خلاف أو صراع مع مفاهيم الإسلام السمحة الجامعة ، التي أعطت أطراً واسعة ، ومعطيات ربانية مرنه قادرة على التفاعل مع الحضارات وفكر الأمم ، وقبول ما فيه من خير لنقله إلى فكرنا والانتفاع به شريطة ألا نخضع له أو يحتوينا ، ومن هنا فإن الاستشراق الغربي قد غير من خططه القديمة في ضرب مقومات الفكر الإسلامي وأنه اليوم يستخدم أسلوب براقاً خادعاً ليحقق به هدفه المدفون، ولكننا نحن المسلمون نعرف أن اللغة العربية : هي لغة القرآن ولذلك فنحن لا نقبل إخضاعها لأي تطور من هذا النوع الذي يدعونا الغرب إليه ، ولكننا نقبل التطوير في الأساليب والأدوات مع المحافظة على القيم الثوابت واللغة العربية الفصحى هي أهم هذه الثوابت .
تصحيح المفاهيم في مواجهة
هذه الحملة المكثفة على اللغة العربية والتراث والتاريخ(2/101)
... هناك حملة ضخمة مكثفة على العناصر الثلاثة في بناء العقل المسلم والفكر الإسلامي ( اللغة العربية والتراث التاريخ ) يحمل لواء هذه الحملة مجموعة من الكتاب العلمانيين واليساريين والشعوبيين والباطنية بهدف إثارة السموم والشبهات في وجه الشباب المسلم للتنكر لمقومات بناء وجودهم الثقافي ، ومن عجب أن هذه الحملة تمتد من الدار البيضاء إلى استانبول إلى أرض الملايو في محاولة مستميتة لخلق جو من الكراهية والانتقاص للإسلام نفسه من خلال هذه المقومات الأساسية ، وهي حملة ترتبط بحملات أخرى على القرآن الكريم والسنة والرسول - صلى الله عليه وسلم - تديرها مجموعة متوزعة .
... وقد وجدت هذه الحملات أذاناً سامعة في ندوات تقام هنا وهناك على طول الوطن العربي وعرضه وتنشر في صحف تغذيها القوى الكارهة والحاقدة على الإسلام من وراء ستار .
( 1 ) اللغة العربية :
... ولما كانت اللغة العربية الفصحى هي وعاء القرآن الكريم والشريعة وتراث الإسلام العظيم الممتد خلال أربعة عشر قرناً في مئات من العلوم والتي هي ( الأمل الكبير ) الممتد في مستقبل الوحدة الإسلامية الجامعة ، واستئناف العمل العلمي والتقني في الأمة الإسلامية وصولاً إلى مكانته الرائدة والقائدة للثقافة العالمية المستقبلية .(2/102)
... كل هذا يدور في خلد أعداء الإسلام فيثير الأحقاد ويدفع إلى المحاولات التي تجري الآن لتحجيم اللغة العربية في الوقت الذي تنفق فيه دول النفوذ الغربي المبالغ الضخمة لنشر لغاتها وفي مقدمتها الإنجليزية والفرنسية وإقامة الجامعات المشبوهة في بعض العواصم العربية لخدمة الفرنكفونية وغيرها ، فالعمل على إحلال اللغات الأجنبية محل اللغة العربية في عالم الإسلام يجري في خط عريض من أجل حرب العقيدة الإسلامية وأساسها وعدم تمكينها من توصيل ثقافتها القرآنية المستمدة من السنة والشريعة والتاريخ إلى البلاد غير العربية ، سواء أكان ذلك بإحلال أبجديات لاتينية على تلك اللغات ( أمثال السواحلية وغيرها ) أو إعلاء عامياتها وجعلها لغات للكتابة .
... ومن أجل هذا نحن مطالبون بالعمل على حماية الفصحى من كل محاولات حجبها أو إضعاف مكانتها بوصفها اللغة القرآنية أساساً والمشتركة لكل مسلمي العالم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وبها تؤدى الصلوات ومناسك الحج وهي اللغة الثانية المصاحبة لكل لغات الشعوب الإسلامية .
... أمامنا تجربة الجزائر بعد مائة سنة من الاحتلال الفرنسي ، وتجربة تركيا بعد أن غيرت أبجديتها العربية ( وكذلك فعلت إندونيسيا وبعض بلاد أفريقيا ) تحت تأثير النفوذ الأجنبي ولحساب اللغات الغربية .
... وفي البلاد العربية يتمثل الخطر في مزاحمة الكلمات والألفاظ والمصطلحات الأجنبية للكلمات العربية ومحاولة إحلال ألفاظ لاتينية وإشاعتها سواء في الإعلانات أو اللافتات أو غيرها بدعوى التحضر والحداثة حتى تموت الألفاظ العربية نتيجة إهمال استخدامها ، وبعد استخدام جمل كاملة البناء وفي بعض البلاد العربية لم يعد هناك مشروع تجاري أو صناعي لا يحمل اسماً أجنبياً ، وفي هذا المجال نذكر قصيدة حافظ إبراهيم : ( رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ) التي يقول فيها :
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن أي به وعظات(2/103)
... إن اللغة العربية في الحقيقة جزء من عقيدة الإسلام ويجب أن نحميها ونغار عليها ونفتديها .
( 2 ) الحملة على التراث :
... لم يكن التراث الإسلامي شبيهاً بالتراث الغربي ، الذي قام على الأسطورة ولكنه مادة العلم المتجدد في عقول وأقلام نوابغ الإسلام .
... وقد اعترف سارتون وسجريد هونكه وسميث ولورنس وهولمبارد بسبق العرب في العلوم التجريبية وفضلهم على الحضارة العالمية ، ولم يقف دور المسلمين في حفظ ما قدمته الحضارة السابقة بل في تمثل الإسلام هذا التراث وتصحيح أخطائه والإضافة إليه حتى قام بدوره الخطير في تقديم ( المنهج التجريبي الإسلامي ) الذي لم تعرفه حضارات اليونان والرومان فضلاً عما أهدى الإنسانية من نظام الترقيم العشري الذي ابتدعه أحد روادها ( محمد بن موسى الخوارزمي ) بدلاً عن حساب الجمل العقيم واختراع الصفر والنظام المكاني لكتابة الأعداد الصحيحة وهو دور خطير لم يقوّم حتى الآن في عدالة لأن الغرب ما يزال يحبس عنده أصول هذا التراث حتى لا يعرف فضل المسلمين ولا يستطيعوا أن يستأنفوا النهضة من جديد والتي يجب أن يقوم على آخر مقررات التراث الإسلامي .
... وقد اعترف في العصر الحديث كثيرون بفضل الإسلام والدور الذي قاموا به ولكن النفوذ الأجنبي ( الممثل في التغريب والاستشراق والتبشير ) ما يزال يشن حملات خطيرة على التراث بأقلام عربية على النحو الذي عرف في كتابات لويس عوض وغالي شكري ومحمد عناني وهم تلاميذ المدرسة التي حملت لواء التنكر للتراث واللغة من خلال تنكرهم للإسلام والقرآن ، وليس صحيحاً ما يدعي هؤلاء من أن الانشغال بالتراث تركيز على الماضي والقديم وإلا فلماذا يحيون أساطير اليونان القديمة التي تسبق تراث الإسلام بآلاف السنين والفرق واضح بين تراث أصيل قائم على القرآن والسنة وحي السماء وبين تلك الأساطير التي لا تحمل سوى سموم الإباحيات والماديات القديمة التي تجاوزها الزمن وأنكرتها عصور العلم الحديث .(2/104)
... كيف يقبل أن يدعى المسلم إلى التنكر لتراثه العظيم الذي قام على الفطرة والعلم والعقل والذي استمد مقوماته من كتاب أحكمت آياته هو القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن السنة المطهرة ، ليقبل أسطورة اليونان التي هي نتاج مجتمع الكهوف والغابات ، ففسر طفولة البشرية حين كانت عاجزة عن فهم ظواهر الكون فكانت تصوراً ساذجاً لفراغ فكري عن عالم الغيب ( الميتافيزيقا ) أما الإسلام فقد قدم للمسلم تصوراً كاملاً لهذا العالم غير المرئي وكل ما يتصل بعالم الغيب والآخرة والبعث والجزاء فلم يعد في حاجة إلى النظر في هذه الأساطير الساذجة التي دخلت إلى بعض الكتب القديمة مع الأسف وجاء العلم الحديث ليكشف زيفها وقد عالج هذا في توسع الدكتور موريس بوكاي .
... وقد أعلن أن الدين الحق جاء منذ خمسة عشر قرناً ليدحض الأسطورة ، ثم جاء العلم الحديث ليكشف فسادها وليصدق ما أورده القرآن الكريم ، إنها ردة خطيرة أن يحاول بعض الكتاب ترجمة أساطير اليونان والفارسية القديمة ليقدمها لشباب المسلمين اليوم في محاولة لخداعهم عن حقائق الكون والوجود التي جلاها القرآن الكريم ، ثم جاء بعض الفلاسفة الماديين ليربطوا الأسطورة بالعلوم الإنسانية كما فعل فرويد حين اعتمد على الأساطير في بناء مفهومه للتحليل النفسي ليأخذ منها مدخلاً إلى إغراء خادع ولإذاعة مفاهيم التلمود والماسونية التي تدعو إلى تدمير النفس الإنسانية ودفعها إلى الإباحة والجنس وتبرير ذلك لهم عن طريق ما يسمى نظريات علم النفس وهي نظريات دحضها علماء النفس الأصلاء .
... وليست الأساطير إلا امتداد لمفهوم الأنثربولوجيا الذي يدعو إلى إحياء صورة 'إعادة رسم صورة المجتمع البدائي بكل مفاهيمه الساذجة التي تمثل طفولة البشرية .(2/105)
... ومع الأسف فإن أدباء الشعر الحر وقصيدة النثر دخلوا في هذا المستنقع حين اتخذوا الأسطورة وصفاً لإلهامهم في محاولة لتقديم تصور مادي أو إباحي كما فعل صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وغيرهم .
( 3 ) الحداثة : ذروة الانحراف الأدبي :
... وجاءت الدعوة إلى الحداثة - وهي غير الدعوة إلى التحديث - لتمثل آخر صيحات السريالية والفرويدية والوجودية ، في محاولة لاقتلاع قيم الأمة الإسلامية الاجتماعية والاخلاقية والثقافية جميعاً .
... ويصف الدكتور شكري عياد هؤلاء الحداثيين : بأن أحدهم لا يحسن قراءة صفحة واحدة بلغة أجنبية ولكنه يستمد نماذجه من ترجمات أكثرها مشبوهة أو من شيوخ الحداثيين الذين لا يماري أحد في سعة ثقافتهم ولكنهم يلبسون أقنعة أجنبية ويكتبون باللغة العربية وفي أذهانهم جمهور قارئ أجنبي .
... هذا التيار ككل تيار فيه المادي الصافي وفيه الزبد الفارغ ، أما أكثره فغثاء وأكثر ما يشكو منه القراء أنه غير مفهوم وغير مستساغ وأكثر ما يشكو منه الناس أن هذا الأدب الحداثي يقحم الجنس في كل شئ بفظاظة وإلحاح وغل .
... قال أحد رؤساء تحرير الصحف : ماذا أصنع وأنا لا أستطيع أن أحمل هذه الرواية إلى بنتي ، ومسألة الجنس ليست إلا مظهراً واحداً لرغبة محمومة من تقليد الآداب الغربية .
... وهم يسرفون في الجنس ، وما أحسبه عندهم إلا نوعاً من الرفض لقيم مجتمعهم ولكنه رفض أعمى إذ أن الرفض يجب أن يتضمن الإيحاء بقيم أفضل فالحداثة كما جاءتنا نبت غريب لا تسيغه حلوقنا ولا معداتنا وما أظنهم يهضمونه ولكنهم يجعلونه زياً لهم وشارة "
( 4 ) سقوط الفلسفة :
... واليوم تنكشف حقائق حول سقوط الفلسفة بعد أن اعترف العلم التجريبي بكثير من الحقائق المقررة في الدين ، وبقيت الفلسفة سادرة في أوهامها كسلاح في يد القوى التغريبية لهدم قيم المجتمعات .(2/106)
... يقول الدكتور عبد القادر محمد : إن المباحث الفلسفية أما التقدم العلمي والكشوف العلمية قد أصبحت مجرد تاريخ لأقوال وتأملات من أبراج عاجية بعيدة عن الحياة الصحيحة الواقعية ، فقد عجزت الدراسات الفلسفية تماماً عن حل مشاكل الإنسان وحريته بالنسبة للإرادة الإلهية وصلتها بالإرادة الإنسانية ومشاكل الوحدة الكونية ومفهوم الوعي الكوني ومفهوم الأثير وتركيب المادة وقضايا الخير والشر ، والعجيب أن العلم رغم تقدمه الرهيب قد أعلن عن عجزه في فهم هذه المسائل الأمر الذي يؤكد الحكمة الإلهية العظمى وضرورة العودة إلى الدين في الأمور الغيبية والميتافيزيقية مع كل ما وراء المحسوسات والمعطيات الحسية .
... يقول بيلجيه : إن المباحث الفلسفية أمام التقدم العلمي الكبير قد أصبحت ساحة رهيبة للرعونات والضلالات أو الخيانات الفلسفية فما أكثر النماذج الضالة للفلسفة ، لقد حملت الفلسفة حركات هدامة ومذاهب باطلة قوامها العدمية والدادية والعبثية ، ويقول برترأندرسل : أن الفلسفة تطلب وتبتغي على النحو الذي يؤكد عدم يقين إجاباتها .
... وأظن أنه قد حان الوقت ليكون معروفاً أن الفلسفة لا تستطيع أن تحل مشاكل هذا الكون عن طريق العقل والنظر ، وأن الدين هو وحده الذي قدم هذه المفاهيم والقادر على إقناع القلوب والعقول معاً .
( 5 ) تصحيح قانون المادة والطاقة :
... كذلك فإن قضية تخليص العلوم التجريبية من مفاهيم الفلسفة ، فنظرية دارون ليست علماً حقيقياً وإنما هي فروض يمكن أن تصدق أو تخطئ فروض عقل بشر ، وقد أكدت الأيام والتجارب فسادها .
... وهناك قانون يدرس على كل المستويات في بعض البلاد العربية والإسلامية وهو قانون بقاء الطاقة وهذا القانون يقول :" إن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وكذلك الطاقة " .(2/107)
... يقول الدكتور زغلول النجار: " إن منطوق هذا القانون معارض للإيمان ، فمعنى ذلك أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم يعني أنه لا يوجد خلق أزلي وهذه هي القضية التي بدأ بها الملاحدة في القرن التاسع عشر ونفاها العلم ، فالعلم اليوم جاء ليثبت أن الكون له بداية ويحاول العلماء حسابها بدقة بالغة ، ويؤكد العلماء أنه لابد أن تكون في يوم من الأيام نهاية لهذا الكون إن قانون بقاء المادة والطاقة يمكن تصويبه بكلمتين بسيطتين لو أضيفتا إلى القانون لتصحيح مساره فنقول : " إنه في حدود القدرة الإنسانية المادة لا تفنى ولا تستحدث في العمل وبذلك لا تتعارض مع العقيدة لأن قدرة الله تبارك وتعالى لا تحدها الحدود ، أكبر أخطاء الفكرة المادية أن الإنسان بدأ يقيس على الله ( جل علاه ) بمقاييسه هو وهذه مغالطة كبيرة لأن قدرة الإنسان محدودة للغاية أما قدرة الله تبارك وتعالى فلا تحدها حدود "
* ... * ... *
... الحق أننا نحن المسلمون في هذه المرحلة من تاريخ الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي في حاجة إلى تعقب هذه السموم المبثوثة هنا وهناك في كتب الثقافة والتي يروج لها دعاة التغريب والغزو الثقافي ويذيعونها في دعاوى عريضة مضللة ينخدع لها شبابنا الغض الذي ليست له خلفية إسلامية راسخة والذي هو في حاجة إلى وعي ويقظة حتى لا يخدع ولا يحتوى .
الإسلام واللغة
تعقيب على التساؤلات الموجهة
... علينا لتكون القضية واضحة من مختلف جوانبها أن نؤكد على الحقيقة التي تقول : إن اللغة العربية هي لغة أمة ، وهي في نفس الوقت لغة فكر وثقافة وعقيدة ( هي جميع المسلمين الذين يبلغ عددهم اليوم ألف مليون ) ومن هنا فنحن العرب مطالبون بحماية هذا الوجود الضخم المتعاظم للغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم ولغة العقيدة والثقافة الإسلامية .(2/108)
... ولعل هذا هو ما كان واضحاً في تقدير القوى المختلفة في التعامل مع الفصحى، ومن هنا جاء ذلك البحث عن المواجهات التي وقفتها اللغة العربية إزاء اللغات الأجنبية فقد كان من الأمور الطبيعية أن تسير اللغة العربية في ركاب الإسلام أين ذهب فتكون لغة المسلمين في كل مكان الذين يستمدون منها مفاهيم عقيدتهم وثقافتهم وتعاملهم ، وهذا هو الأساس المتين للوحدة الإسلامية الجامعة .
... ولما كان الهدف هو إبقاء المسلمين في قوالب الإقليميات والقوميات فقد وجهت إلى اللغة العربية المدفعية الثقيلة بهدف تحطيم حاجز الفصحى ، وإدخال العاميات واللغات الأجنبية ، ومن هنا ظهرت دعوات إحياء العامية أو ما يسمى اللغة الوسطى أو مشروع العربية الأساسية كل هذا كان يهدف إلى إيقاف نمو الفصحى وتوقفها عن حركة الإسلام من ناحية ، وعلى إيجاد مسافة واسعة بين البيان العربي القرآني وبين الأسلوب الجاري على ألسنة الكتاب والصحف بهدف شق وحدة اللسان والكلمة في محاولة كشف عنها الكثيرون وهي إدخال العربية إلى المتحف كما أدخلت اللاتينية في الغرب وإقامة لغات إقليمية من خلال اللهجات كما فعلت أوروبا .
... ومن هنا يحمل هؤلاء الدعاة الذين يصفون أنفسهم بالتجديد والتقدم مقولة باطلة هي القول بأن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها ، وهو قول باطل بكل المقاييس وغير صحيح ومردود ، يرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي ويرده أن هذه اللغة أمانة لدينا للأمة الإسلامية كلها التي تملك فيها مثل ما نملك ، والتي لم تفوضنا في مثل هذا التصرف وربما يكون هذا صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية ، أما العربية فإنه منذ أن نزل بها القرآن فقد أعطاها واقعاً مختلف ، إذ لم تصبح العربية به لغة أمة هي العرب وحدهم ، وإنما هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة.(2/109)
ثانياً : حين يصفون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة يجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة اللاتينية أصلها وإنما ترجم إليها ومن هنا فإن ارتباط الفصحى بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تحول لهجاتها إلى لغات مستقلة ، وسيظل هذا الترابط قائماً بين المسلمين وبين لغة الضاد الفصحى ، لغة القرآن ، قائماً إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها .
* ... * ... *
... ومن هذه النقطة ، نقطة علاقة القرآن باللغة العربية نرد تلك النظريات الوافدة التي تريد أن تحاكم اللغة العربية إليها ، للاختلاف العميق بين هذه اللغات التي وضع منهم علم اللغة في ضوئها وقد وقف أعلام الفكر الإسلامي في وجه هذه المحاولة وكشفوا مفارقاتها . ويعنيني بالأكثر في هذا المجال أن أركز على محاولة زحف اللغات الأجنبية على الساحة ، تاركة الفصحى عاجزة عن امتلاك إرادتها في بلادها ، وقد حجبها النفوذ الأجنبي أكثر من ثلاثمائة عام عن النماء والامتداد في محاولة خطيرة ترمي إلى أن تسيطر اللغات الأوربية على الثقافة العربية والإسلامية ، في الوقت الذي تعرف فيه أن إقصاء اللغة هو قضاء على المفهوم الأصيل للفكر الإسلامي والثقافة العربية على أساس أن اللغة هي أحد وجهي الفكر بمعنى أن سوقنا إلى اللغات الأجنبية يعني بالتبعية صهر المسلمين والعرب في فكر الأمم التي تفرض علينا لغتها .
... وقد وقف الغزو الفكري والتغريب في وجه امتداد اللغة العربية إلى كل مكان ذهب إليه الإسلام ، وجرت المحاولة في عدة محاور :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكان تكتب أساساً بالحروف العربية كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد أفريقيا وآسيا .
ثانياً : إعلاء شأن اللهجات العامية لحجب العربية الفصحى .
ثالثاً : التوسع في فرض اللغات الأجنبية لغة المحتلين :(2/110)
... فالمعروف أن النفوذ الأجنبي يغزز تعلم اللغات الأوربية في بلادنا بهدف أن يتقبل الفكر والذوق والوجدان مع اللغات الأجنبية فيغرب تماماً .
* ... * ... *
ولذلك فإننا نطالب بأمرين أساسين :
( 1 ) أن يكون هناك منهج لتعلم اللغات الأجنبية في بلاد العرب والمسلمين قائم على أساس أن تكون هذه اللغات في خدمة العربية الفصحى وأن تعيش في ضوئها .
( 2 ) أن يكون هناك منهج للترجمة قائم على أن يقدم للمسلمين والعرب كل ما من شأنه أن يحمي كيانهم الفكري من التمزق أو الاحتواء ، وفي القارة الأفريقية وفي جنوب شرق آسيا ما زال المسلمون يقاومون احتوائهم ويصرون على التمسك باللغة العربية ، لغة القرآن ويرسلون أبناءهم إلى المدارس القرآنية والأزهر وخلاوي القرآن وقد نشأت في السنغال ونيجريا والنيجر ( غانا ولاجوس وزنجبار ) أقسام كاملة لدراسة العربية في جامعاتها وهي في حاجة إلى تمويل ومعونة ولذلك فنحن ندعو إلى التحفظ على منهج تعلم اللغات الأجنبية من أجل حماية الفصحى ، وأن تكون اللغة العربية وفكرها هو الأساس في تكوين ثقافة المتعلمين فالأمم تفكر باللغة قبل أن تفكر بالفكر نفسه .
* ... * ... *
... وما زلت أرى أن مناهج علم اللغة الحديث هي أكبر التحديات التي تواجه الدارسين العرب والمسلمين من حيث إن هذا المنهج يعارض مفاهيم الفكر الإسلامي وهو لم يجد في اللغة العربية استجابة لأنه لم ينشأ في رحابها وإنما نشأ في رحاب اللغات التي انشقت عن اللغتين اليونانية واللاتينية والتي لم تكن في الحقيقة إلا لهجات عامية حلت محل اللغة الأم وهو ما يملأ وجدان خصوم العربية والقرآن والإسلام بالظن أنه طريق سيؤدي إلى انحلال اللغة العربية إلى عاميات وبذلك يتحقق الهدف الخفي المستور وهو الحرب على القرآن الكريم .(2/111)
... ومنهج علم اللغة الحديث يتركز في المنهج الوصفي الذي يجعل أساس دراسة اللغة دراسة اللهجات والتركيز على الكلام المنطوق دون الكتابة وصرف الأنظار عن علاقة اللغة بالدين في سبيل إحياء القوميات الحديثة في الغرب .
... ولا ريب أن هذا المنهج قد وضعته القوى التي عملت على تمزيق وحدة الغرب أساساً فلماذا نقبله ونحن دعاة وحدة عربية هي أساس لوحدة إسلامية كبرى لنا فيها حفاظ على عقيدتنا وتراثنا وقيمنا .
... وقد أشار كثير من الباحثين الذين ناقشوا تفاصيل هذا المنهج الوافد إلينا إلى أخطاره ومحاذيره ومعارضته لمفاهيم اللغة العربية ( التي تختلف أساساً عن اللغات الأوربية الحديثة تاريخاً ووجهة وهدفاً ) .
... وقد رأى الباحثون العرب والمسلمين في هذه المناهج تحدياً حقيقياً للغة والتراث ولمستوى البيان القرآني ، ووجدوها حلقة في سلسلة الأخطار والتحديات التي رصدها النفوذ الأجنبي لمواجهة الإسلام ولغته وهي في رأيهم مؤامرة لا يختلف عن الدعوة إلى العامية وإحلالها محل الفصحى أو مبدأ الحروف اللاتينية .
* ... * ... *
... نحن طلاب وحدة عربية وإسلامية ، ولا ريب أن هذه المحاذير ترمي أساساً إلى الحيلولة دون تحقيق هدفنا ولذلك فنحن نطالب بأن تكون علاقتنا باللغات الأجنبية علاقة إفادة من الأساليب والوسائل دون أن تحتوينا مذاهب الغرب أو يسيطر علينا .(2/112)
الجزء الثاني
1 - التاريخ الإسلامي
2 - التراث الإسلامي
أولاً : التاريخ الإسلامي
( 1 ) وحدة التاريخ الإسلامي .
( 2 ) الإسلام بعد خمسة قرون .
( 3 ) بعد خمسمائة سنة من سقوط الأندلس .
( 4 ) عودة بيت المقدس مع صلاح الدين .
( 5 ) أخطاء التاريخ الإسلامي الحديث .
( 6 ) آفاق وطنية في مطلع العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري .
( 7 ) من الثورة الفرنسية إلى الحملة الفرنسية .
( 8 ) عبر التاريخ والأحداث .
وحدة التاريخ الإسلامي
أساس وحدة الأمة الإسلامية
... لا بد أن يتولد في المسلم إحساس عميق بالتاريخ : تاريخه كمسلم وعربي أساساً يرى أن هذا التاريخ هو أضخم ثروة ورثها المسلم فهو يعتز بها ويجعله كنزاً يرجع إليه في كل موقف وفي كل أزمة .
... وإذا كان كل إنسان يجب أن يعتز بتاريخه وتراثه فإن المسلم يقف من هذا الأمر موقفاً أشد قوة واعتزازاً : ذلك أن هذا التاريخ مازال حياً متفاعلاً متصلاً لم يحدث بينه وبين المسلمين انقطاع خلال خمسة عشر قرناً ، وما تزال نجومه وأعلامه واضحة الأثر والعطاء بين المسلمين والعرب ، وما يزال كل يوم نرى مسلماً جديداً من كبار المثقفين الغربيين ، وما نزال نرى كل يوم كتاباً جديداً ، وما تزال أسماء محمد الفاتح وصلاح الدين والظاهر بيبرس ونور الدين محمود قائمة لامعة لا تخفت أبداً وهي تصل في قوتها ونفاذها إلى درجة خالد وسعد بن أبي وقاص والقعقاع وحمزة وأسد ابن الفرات وموسى بن نصير .
... وما يزال تاريخه يدور حول الدولة العثمانية التي هي الصورة القريبة لآخر إمبراطورية إسلامية استمرت خمسة قرون وما تزال آثارها قائمة في البلقان وفي قلب أوربا ، ولم يكن أمر سقوط الخلافة عام 1924م قد انتهى حتى الآن فلا يزال الباحثون والمؤرخون يدرسون أسباب هذا الحدث الخطير .(3/1)
... وما يزال فتح القسطنطينية 1492م حدثاً لا ينساه المسلمون خاصة وأنه جاء بعد سقوط الأندلس بخمسين عاماً حيث ما أحدث هذا التاريخ لا يزال حياً ومؤثراً ومتفاعلاً مع الحاضر الذي يعيشه المسلمون وخاصة أن سقوط الخلافة قد ارتبط بدخول الصهيونية إلى بيت المقدس وهي معركة لم تحسم حتى اليوم وإن كانت القدس قد سقطت 1967م وما تزال الأحداث تتجدد وتطالبنا بإعادة النظر فيها فإذا كان الغربيون يحتفلون بمرور خمسمائة سنة على دخول أمريكا فإننا نحن المسلمون نذكر ذلك مرتبطاً بحادث سقوط الأندلس 1492م ، ونحاول أن نفهم لماذا أنهزم المسلمون بعد حصارهم لأسوار فينا مرتين وكيف تقدم الغربيون في مجال البحار وخروجهم بأساطيلهم من البحر إلى المحيط .
... إن تاريخنا هو تجربتنا الأثيرة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً وهي مفتاح حاضرنا ومستقبلنا ونحن عائدون إليها بالبحث والتحليل والتمحيص وإني أرى عشرات من شباب الباحثين يراجعون هذا التاريخ في إنصاف وسماحة ليقدموا لأجيالنا الجديدة المتطلعة إلى النصر وإلى استعادة القوة للأمة الإسلامية خلاصة التجربة .(3/2)
... فنحن أساساً لا نثق فيما يقدمه الاستشراق لأنه لا يخلص لنا النصح ولا يدرس الجوانب الإيجابية وإنما يكتفي بالجوانب السلبية ، وإذا قصرت المناهج الدراسية والجامعية في هذا المجال فإننا سوف نقدم دراسات منصفة وصادقة في مجالات المؤسسات الإسلامية وسوف نعاود النظر في خاصية هذه البطولات الخالصة وخاصة في عصر الحروب الصليبية والتتار لأن الاستعمار يحاول أن يقدم القرون الأولى باعتبارها صورة الدولة الإسلامية التي انطوت في محاولة لادعاء بأن الإسلام لم يطبق إلا في عصور الخلفاء الراشدين أو يتنكر للدور الضخم الذي قام به أقطاب البطولة الإسلامية في الحروب الصليبية والتتار والفرنجة في المغرب ومصر والشام ونحن نقدم تاريخنا في إنصاف وسماحة فلسنا حاقدين ومتعصبين والأيام دول ، غاية ما هنالك إننا نتعلم من تاريخنا ونظر إليه في تجرد فلا نقدسه ولا نتجاهله ، وسيظل هؤلاء الأبطال الذين قدموا أمانتهم موضع الفخر بهم وتقديمهم للأجيال ليثق شبابنا أن هذه الأمة لا تموت وأنها تقدم في كل عصر بطولات جديدة وأن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ، ومن يقودها إلى النصر وإلى تطبيق منهج الله وإقامة مجتمعه وإلى دفع الحضارة الإسلامية الأخلاقية الوجهة أساساً إلى أداء دورها في خدمة أمة الإسلام وأن هذه المحاولات في السيطرة على المسلمين واحتوائهم ونهب ثرواتهم هي بمثابة مرحلة ضعف وقع فيها المسلمون نتيجة خروجهم على منهج الله تبارك وتعالى وعجزهم عن متابعة أحكام الدين القيم ودخولهم في مرحلة الترف والانحلال والفساد وقد عجزوا عن مقاومة التحديات والأخطار التي فرضها عليهم النفوذ الأجنبي حين قدم لهم الترف والفساد والخمر والإباحيات وشغلهم بأمور أعجزتهم عن حماية الثغور وعن امتلاك الإرادة ولكنهم في هذه الجولة التي امتدت أكثر من قرنين الآن لم يستسلموا فسرعان ما استيقظوا وقاوموا وتدافعوا بالأجساد حين(3/3)
عجزوا عن مقاومة السلاح .
... وإن تاريخنا الإسلامي هو عصارة تجربتنا البشرية ومدى انطباقها للمنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية أو مغايرتها فلن نغفل عنه أبداً وسنواصل إعادة بعثه وتقديمه في ثوب عصري قديم بعيداً عن الأهواء والأحقاد ولن تفلح كل محاولات التبشير والاستشراق في صدنا عن تاريخنا وتراثنا ، أما منهج الله تبارك وتعالى فهو فوق المراجعة والنقد بثوابته ومتغيراته .
... ولقد آن الآوان أن نقف وقفة حريصة واضحة أمام دعاوى المستشرقين والعلمانيين وأتباعهم في تقديم ما يسمى التاريخ الإقليمي وخاصة دعاوى ربط حاضر الأمة الإسلامية بماض سابق لفجر الدعوة الإسلامية وهذه هي المحاولة الثانية : الأولى حجب الجوانب الأساسية في علاقة المسلمين بالغرب وحذف بعض الوقائع والبطولات من تاريخ الإسلام بالباطل .
... أما هذه فهي محاولة إنشاء تاريخ إقليمي لكل بلد إسلامي تحت عنوان القومية وهي دعوة باطلة وكاذبة فليس هناك شخصيات قومية في الأمة الإسلامية منفصلة تماماً عن الذاتية الإسلامية أساساً التي تشكلت عليها هذه الأمة منذ أربعة عشر قرناً ، وأن محاولة إقامة تصور إقليمي مستقل لكل وطن سواء أكان مصر أم سوريا أو العراق أم غيرها فهو وهم باطل يراد به أمرين خطيرين ( الأول ) : تمزيق وحدة هذه الأمة التي عاشت طوال حياتها متكاملة جامعة لم تتفرق إلا في خلال هذه الفترة القصيرة التي كان الاستعمار فيها عاملاً لهدم الوحدة الإسلامية وإسقاط الخلافة الإسلامية .
... ولقد كانت كل العوامل تؤكد وحدة هذه الأمة وتوجد إحساس أبعدها في المغرب بأبعدها في المشرق في أحاديث أو أزمة ذلك لأن هذه الأمة تشكلت على وحدة الفكر التي أقامها الإسلام والقرآن .
... فكيف يمكن اليوم أن نجعل لكل قطر تاريخ مستقل وكيف يمكن فصله عن الكل الجامع ، هذه محاولة باطلة عجزت خلال العقود الماضية كلها عن تحقيق أي هدف صحيح .(3/4)
... وقد تبين بالدراسة المنصفة أن عوامل الوحدة والتشابه والتكامل تمثل تراث هذه الأمة ، أما عوامل الخلاف حول الجو أو الجغرافيا أو تنوع الثروات فقد جاء ليمثل تكامل عناصر هذه الأمة فما هو موجود في أحد أقطارها مكمل لغيره في القطر الآخر.
... أما الهدف الآخر منة خدعة ( الشخصية الخاصة ) فهو ذلك الحقد الذي يملأ قلوب المستشرقين والتغريبين نحو الدولة العثمانية التي حمت الوجود الإسلامي أربعمائة عام والتي أدخلت في نطاقها كل أقطار الإسلام من المغرب إلى الشام حيث لم تكن هذه الوحدة قسرية أو جبرية وإنما كانت ضرورة ملزمة قبلت بها كل الأطراف .
... أما اعتماد هؤلاء الكتاب على بعض كتب التاريخ التي كتبها الإقليميون أمثال ابن نفري بردي والمقريزي وابن اياس وغيرهم فهو عمل باطل أساساً وكيف يمكن أن يقال أن كتابة تاريخ إقليمي لقطر كمصر يؤدي إلى دراسة الشخصية الإقليمية ، إذا كانت هذه الشخصية قد صاغها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً وأن كل المؤرخين المنصفين ومن بينهم بعض الغربيين قد قرروا أن الإسلام حين جاء فقد أحدث ( انقطاعاً حضارياً ) فاصلاً بين ما كان قبل الإسلام من أديان وعقائد وما بعده بل لقد اعتبر بعض الباحثين هذه الأديان مقدمة للإسلام الدين الخاتم الذي جاء للبشرية كلها وإلى يوم القيامة .
... إنك ترى في كلمات هؤلاء الدعاة إلى الباطل روح الحق والكراهية للدولة العثمانية وهي كراهية مستمدة من التبعية للغرب الذي يحمل خلافاً مع الإسلام أساساً ومع الدولة العثمانية التي اقتحمت أوربا وأقامت دولة استمرت أربعمائة عام 1517م - 1917م كانت خلالها موضع المؤامرة المستمدة التي لم تتوقف والتي لم تمكن المسلمين العثمانيين من نشر الإسلام في أوربا .(3/5)
... إن الشخصية المصرية ليست شيئاً آخر غير الشخصية الإسلامية التي صنعها القرآن وكل عوامل الطقس والجغرافيا هي عوامل جانبية إضافية لم تؤثر في بناء الشخصية التي أقامتها العقيدة والثقافة والتراث الإسلامي على مدى هذا التاريخ الطويل
... إن دعوى إقليمية التاريخ إنما تعتمد في أقلام هؤلاء الكتاب على معطيات يسخر منها الباحثون الأصلاء وهي لا تقل فساداً وتفاهة عن التفسير الماركسي للتاريخ الإسلامي الذي حاول البعض أن يقدمه خلال العقود الأخيرة وهي المحاولة القومية ساقطة لا يقوم لها قيامة لأنها تخدع الناس بوسائل عارضة ليس لها وزن حقيقي .
الإسلام بعد خمسة قرون
... منذ أن طرح الإسلام ( منظومته الربانية ) متمثلة في تصور واسع مرن خالد لمنهج الحياة والمجتمع والحضارة وبوصفه خاتم رسالات السماء المرسلة إلى البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا يقضى أمر في هذا الكون ولا في أي مجال من مجالاته إلا كان له به صلة مهما بدا ظاهر الأمر غير ذلك .
... قدم الإسلام منهجه للبشرية كلها وجعل رسالته منطلقة من هذه الأمة التي عاشت طوال حياتها في عزلة عن الحضارتين الرومانية والفارسية ، حيث حملت لواء الدعوة ومضت بها إلى أفاق الأرض فاستطاعت في خلال أقل من ثمانين عاماً أن تنشر كلمة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) من حدود الصين إلى حدود نهر اللوار بالغة الآفاق في جبال آسيا الوسطى نازل إلى الحبشة وأرتيريا حتى أصبحت تقف في مواجهة عالم الروم على الضفة الشرقية للبحر المتوسط في زحف استمر أربعمائة عام قام بها المسلمون الأتراك في قلب أوروبا إلى أسوار فينا وحدود فرنسا وشواطئ إيطاليا ، وكانت الأندلس هي قاعدة انتقال العلم الإسلامي التجريبي من مكة ودمشق وبغداد والقاهرة إلى بلنسيه وقرطبة وغرناطة .(3/6)
... وفي هذه المرحلة الحاسمة جاء الموقف الخطير الذي تراجع فيه المسلمون أولاً من الأندلس ثم بعد أربعمائة سنة من أوربا والبلقان في محطة فارقة هي توقف الامتداد الإسلامي 1492م هنا لك لم تتوقف الحضارة الإسلامية بل امتدت لتشكل منهجاً جديداً قوامه الفلسفة اليونانية والقانون الروماني والمسيحية الغربية لتنشأ هذه الحضارة الحديثة التي قامت بعلوم المسلمين ومعطيات حضارتهم التي حملها المسلمون إلى قرطبة وقلب أوربا وما لبثت أن دخلت في الصراع مع الأمة الإسلامية في جولة حاسمة بدأت من سقوط الأندلس وامتدت إلى المغرب والجزيرة إلى الخليج في اندفاعة ترمي إلى تطويق عالم الإسلام وحضارة الجنوب امتداداً إلى الهند والملايو وحدود الصين .
... ولم يعد الموقف إلا حضارة الغرب تحاول السيطرة على عالم الإسلام بعلومه أولاً ثم بثرواته التي نهبتها واستنزفتها وبلغت الغاية حين حملت أكثر من خمسة ملايين أفريقي إلى العالم الجديد بعد أن قضت على الهنود الحمر السكان الأصليين ( هؤلاء الذين قاسوا أشد ألوان العذاب وأهلكهم الطريق فلم يصل منهم إلا القليل )
... وهنا وقف المسلمون وقفة النظر والتأمل وأخذ العبرة والبحث عن الأسباب التي دفعتهم إلى التراجع والاحتواء والسقوط في هاوية التبعية حين اندفع أهل الغرب إلى الخروج من الوثنية الغربية والرهبانية القاتلة إلى انطلاق نحو آفاق العلوم والتكنولوجيا وبناء حضارة مادية حاكمة تسيطر اليوم تماماً على الاقتصاد العالمي على مذهب الربا وتضع الأمم جميعاً وفي مقدمتهم المسلمين أتباعاً لها يفرض عليهم التحلل الاجتماعي وليعملوا في تبعية لا تليق بأصحاب المنهج الرباني والذين ابتعثهم الله تبارك وتعالى لإخراج الناس من عبادة أوثان العصر إلى عبادة الله الواحد القهار .(3/7)
... كان على المسلمين ( أصحاب أمانة تبليغ رسالة الله إلى العالمين ) أن يتدبروا هذه القضية الخطيرة في سبيل التوصل إلى معرفة الأسباب الأساسية والجذور العميقة لهذا التحول الخطير وإن كانت هذه الحضارة الطاغية قد عجزت عن السيطرة الكاملة على المسلمين الذين قاوموا الاستعمار الغربي ومن بعده الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لأطهر بقاع الأرض : بيت المقدس ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقبلة الأولى ، في مقاومة حاسمة متصلة بتراص الأجساد وكان الإسلام هو الأداة الحقيقية التي اعتمدوا عليها في مقاومة الاستعمار وإذا كان النفوذ الغربي قد سيطر على مقدرات الأمة الإسلامية وفرض أساليبه وقوانينه وحجب الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي فقد ظل المسلمون قادرون على التحرك والعمل عل حماية وجودهم الإسلامي واستعلان حقيقة المنهج الإسلامي بعد أن حاول الغرب أن يدعو المسلمين إلى مفهوم لاهوتي للإسلام ( بدعوى أن الإسلام دين عبادة ) لم يستمر طويلاً حين استعاد المسلمون الدعوة إلى حقيقة منهجهم الرباني بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع على نحو حال بين الغرب وبين السيطرة الكاملة ، واستطاع المسلمون أن يقفوا أمام تلك المنظمات الخطيرة التي قام بطرحها في أفق الأمة الإسلامية كالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والدعوة إلى العلمانية والحداثة والتنوير الغربي ، كذلك فقد باءت تجربة الغرب لفرض مفاهيم الإقليمية والقومية والشيوعية بالهزيمة ولم تستطع أن تحقق شيئاً ذا بال .(3/8)
... وما أعتقد أن الحملة التي قادها الغرب على الأمة الإسلامية لتحطيم قيمهم العقدية والأخلاقية والاجتماعية بالغة ما بلغت ولن تستطيع أن تدمر الوجود الإسلامي فقد كان الإسلام الذي شكل وجودهم النفسي والروحي والاجتماعي خلال أكثر من أربعة عشر قرناً متصلة ، لقد طرح الإسلام منهجه الرباني الجامع عام 610 م في فجر الإسلام عندما نزلت ( اقرأ ) تستفتح هذا العصر الجديد الذي قدره الحق تبارك وتعالى ليكون علامة على بلوغ البشرية رشدها وتأهبها لتلقي الرسالة العالمية الخاتمة التي جاءت كل الأديان السابقة ممهدة لها وجاء كتابه مهيمناً على الكتب المنزلة ولتفصل في قضايا الإنسان وترسم له نظام حياته وقواعد مجتمعه وتكشف له عن زيف كل الدعوات التي حاولت أن تحتويه سواء الوثنية أو التعددية أو الدعوات التي دعت إلى الفردية أو الجماعية فقد جاء الإسلام ليقدم منهجاً ربانياً خالداً مرناً قادراً على تقبل كل معطيات الحضارة والعصر دون أن يتخلى عن جوهر عقيدته ( القائمة على الإيمان بالله ) وحدود الله تبارك وتعالى وقواعد الحلال والحرام وفق منهج خالد هو منهج الثوابت والمتغيرات حيث تقوم المجتمعات على أساس المسؤولية الفردية والقيم الأخلاقية ( وتكون الأخلاق المتصلة بالعقيدة قاعدة بناء التعامل بين البشر ) ، كما كشف القرآن عن سقوط وانهيار كل الحضارات والمجتمعات التي لا تخضع لإرادة الله والتي تنحرف عن الطريق الصحيح وكذلك التي عجزت عن أن تستجيب لمنهج الله تبارك وتعالى ما لم يعد أصحابها من جديد إلى الله ويلتزمون بمنهجه .(3/9)
... وقد تأكدت سنة الله تبارك وتعالى في قيام الأمم والحضارات وسقوطها وقد وضع المنهج لتكون الأمة الإسلامية هي أول من يطبق عليها : ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) ، ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ) وهكذا عندما تراخى المسلمون بعد ألف عام وغلبتهم الدنيا وتراجعوا عن إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى في العالمين وحراسة الموانئ أخذتهم هذه السنة وتداولت الأمم الحضارة التي لم تكن تتوقف لتخلق أمة من الأمم فسيطر الغرب على الاقتصاد والاجتماع والسياسة واستعلى بعنصره وما أعطاه الله وتمكن من محاصرة الأمم والسيطرة عليها وحوصر المسلمين ولكن قانون الحق تبارك وتعالى في العودة إلى الله كان لا يتوقف واستطاع الإسلام أن يستعيد اتباعه بعد أن ذهبت بهم الأهواء وتبين أن هذه الأمة التي شكلها القرآن خلال أربعة عشر قرنا لا يمكن أن تموت أو تنهار وهي قادرة بمنهج الله تبارك وتعالى القائم في أعماقها من أن تعود مرة أخرى إلى الحياة وأن تجاهد محاولة القضاء عليها وأن تستعيد قدرتها على المقاومة والخروج من الحصار وتحرر فكرها وتصحح مقوماتها على نحو يدفعها إلى طريق اليقظة ثم الصحوة ثم النهضة بإذن الله .
... وكان امتحان الأمة الإسلامية بالقوى الزاحفة متصلاً ، لم يتوقف منذ تدافعت قوى الروم على ساحة الشام ثم تدافعت من بعدها جحافل التتار والصليبين والفرنجة والاستعمار الغربي والصهيونية في معركة متصلة مستمرة لا تتوقف في سبيل القضاء على منهج الله تبارك وتعالى ، وكانت هزيمة المسلمين في الأندلس وفي البلقان وفي بيت المقدس وهي لا تزال تدافع عن نفسها وتلتمس من القرآن الكريم منطلق حريتها وطريق النهوض .
انتقال الحضارة إلى الغرب(3/10)
... سلم الله تبارك وتعالى أمانة الحضارة إلى أوربا والغرب بعد أن سابق المسلمين وسبقهم في عديد من المحاولات وخاصة في استعمال البخار والانتقال من البحار إلى المحيطات وكان لابد من أن تمضي الحضارة إلى غايتها في خلال القرون الخمسة ( 1492م - 1992م ) حيث ذهب الغرب آخر الشوط حين خرج عن منهج الله تبارك وتعالى واستعلى بنفسه وبالمادة التي يسرها له الله وعلمه إياها ومكنه منها ، هناك تجاهل دعوة الله بالإذعان لأمره والانطلاق من نقطة الاستخلاف التي ترد الأمور أساساً إلى الحق وتقيم منهجه وتقضي على معطيات الأرض وثرواتها التي تملكها الإنسان الغربي وتصرف فيها بالنهب والسلب واستهلاكها والسيطرة عليها لتكون للرجل الأبيض وحده في استعلاء بالعنصر والدم على البشرية كلها حيث جعل من الإنسان السيد المسيطر المتصرف منكراً الاعتراف بفضل الله تبارك وتعالى الذي أسبغه على الإنسان حين علمه وأعطاه أسرار العلوم والمخترعات وعلمه ما لم يكن يعلم ليكون مستخلفاً في الأرض يحكم فيها بأمر الله ومن خلال منهجه عن طريق الإرادة البشرية والمسؤولية الفردية في حدود الالتزام الأخلاقي لتكون ثروة الأرض لأهل الأرض جميعاً وليست لعنصر ولا فئة ولا جماعة ما .
... وقد كان لهذا الانحراف الخطير في قيادة الحضارة ومجتمعاتها أثره البالغ في توالي الأزمات والاضطرابات التي واجهت الغرب في صراعه الشديد بين الرأسمالية والماركسية من ناحية وبين السيطرة على الأمم الضعيفة ومن وراء ذلك نفوذ الصهيونية العالمية في مخطط جامع لنهب ثرواتها وإنشاء مجتمعاتها والحيلولة دون تمكين هذه الأمم من امتلاك إرادتها وإقامة منهجها الرباني .(3/11)
... وكانت أشد حملاتها على الأمة الإسلامية وقرآنها ورسولها - صلى الله عليه وسلم - متصلة من خلال التبشير والاستشراق والغزو الفكري والتغريب في محاولة لا تتوقف لصهر هذه الأمة في حضارة الغرب ولتزييف منهجها ولتحويل عقيدتها الإسلامية الجامعة ( منهج حياة ونظام مجتمع ) لتكون شبيهاً باللاهوت بمفهوم العبادة في الأديان الأخرى .
... ولم يتوقف عند حد محدود فهو مبثوث في السياسة والاجتماع والمسرح والفن والعلوم الإنسانية والاجتماعية يتمثل في تدمير مقومات الأخلاق في المجتمعات الإسلامية وبناء مناهجها التربوية والتعليمية والإعلامية على مقومات تحول دون تنامي الإسلام وامتداده مقدم في سبيل ذلك وسائل إغراء لا حد لها . ...
... ولما صمد المسلمون أمام هذه الحملات وصمموا على أن يقدموا الإسلام الحق وأن يقيموا مجتمعاتهم عليه ويطبقوا شريعتهم تحولت خطط الغرب إلى إعصار هائل يرمي بالشرر ويعمل على تدمير كل شئ ولكن يد الله فوق أيديهم .
* ... * ... *
... الموقف الآن بعد خمسة قرون أن المسلمين يستعيدون امتلاك إرادتهم ويعيدون بناء مجتمعهم الإسلامي بعد أن كان الاستعمار قد حجب منهجهم وفرض عليهم القانون الوضعي خلال أكثر من قرنين كاملين بعد أن نشأت طبقة من المثقفين المسلمين الذين كشفوا عن فساد المفاهيم والتغيرات وكتابات المستشرقين والتبشير التي حاولت تزييف التاريخ والتراث والتي هاجمت مقومات الفكر الغربي الإسلامي في السياسة والاجتماع والاقتصاد وبعد أن دخلت المرأة المسلمة مرحلة الإيمان والتحرر من مفهوم الغرب وكذلك ما دخل إلى دائرة الاقتصاد من مصارف ومفاهيم تدعو إلى تحرير المسلم من الربا ومن التبعية(3/12)
... وإن المسلمين اليوم مطمئنون إلى أنهم سيقيمون مجتمعهم خلال هذا القرن رغم كل المعوقات والمعطيات أما الغرب فقد تغير فيه الموقف تغيراً كبيراً يكشف حكمة الله تبارك وتعالى في استسلام الأرض كلها لخالقها : ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ، فالغرب يدخل الآن فعلاً مرحلة تغيير خطيرة تتمثل في عدة عناصر أساسية :
أولاً : ما تكشف لهم من حقائق حول الكتب القديمة تؤكد ما جاء في القرآن :
... ( ويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله )
ثانياً : ما تكشف لهم عن عظمة الشريعة الإسلامية في عديد من مؤتمرات عالمية اعترفت بعظمة هذه الشريعة وأنها من مصدر مختلف عن مصادر القانون الروماني وما للعلوم التجريبية من أثر أساسي في بناء الحضارة الغربية المعاصرة وقد كتب هذا بأقلام الغربيين أنفسهم .
ثالثاً : ما تكشف لهم من حقائق حول الإعجاز الطبي في القرآن ونشأة الجنين في ظلمات ثلاث .
رابعاً : ما كتبه علماء ومفكرون غربيون سواء منهم من أسلم ومنهم من لم يسلم على النحو الذي كتبه عبد الكريم جرماندس ، ومحمد أسد ( ليوبولد فالس ) واتيان رينيه وما كتبه جوستاف لوبون وتوماس أرنولو وتوماس كاريل وبرنارد شو وغيرهم وفي الأخير ما كتبه الدكتور موريس بوكاي وجاروردي ومراد هوفمان.(3/13)
خامساً : ما تكشف بين يدي المسلمين من اضطراب مناهج الغرب وفساد الأيديولوجيات التي طرحوها في أفق المسلمين بدعوى أنها مناهج علمية لتدير أمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة ثم تبين أنها لم تكن أكثر من ردود أفعال لظواهر المجتمعات الغربية نفسها وأنها قامت على أساس التصور الخاص وغلب عليها الهوى والمسطح الفردي والسيطرة وأنها لم تحقق أي نجاح يذكر في بيئتها ، يدل على ذلك اضطراب مذهب الرأسمالية الليبرالية الذي يترنح ومذهب الماركسية الذي سقط فعلاً مما يؤكد عجز هذه المناهج عن تقديم أسلوب صالح للمجتمعات الإسلامية التي تشكلت في ضوء منهج رباني سليم واسع الأفق مرن الجوانب قادر على العطاء دون الخروج عن حدود الله تبارك وتعالى .
... إن ما يقوم به الغرب إنما هي محاولات مستميتة للإبقاء على بناء متصدع يريد أن ينهار وقد تنبأ بسقوطه عشرات من مفكري الغرب أنفسهم ، وأن كل هذه المحاولات لإبقائه حيث إنه لا يمكن أن يبقى بمقاييس قوانين الله تبارك وتعالى وسننه في قيام وسقوط الحضارات والمجتمعات .
... كذلك وعلى هذه الوتيرة وهذا الاستعلاء والعنصر والغلو كانت سمة الحضارات الرومانية واليونانية والفارسية والفرعونية جميعاً حيث أنكرت وجود خالقها وتحررت من الولاء له والتسليم له وزادت هذه الحضارة على ذلك أشياء خطيرة منها أنها حاولت أن تبدل اسم الله باسم الطبيعة وأن تجعل الإنسان هو الإله .(3/14)
... إن ظاهرة ( العودة إلى الإسلام ) التي تبدو اليوم من وراء الأفق هي حقيقة واقعة لا يخطئها النظر وهي تدهش العلمانيين والشيوعيين الذين ظنوا أنهم قد حاصروا الإسلام وأخذوا يصهرونه في بوتقة الفكر العلماني مرة أخرى وأن محاولة الغرب احتواء العالم واحتواء المسلمين هي قضية مستحيلة ولن تحدث فإنها خارجة عن نطاق طبيعة هذه الحضارة وقدرتها الذاتية وليست ظاهرة العودة إلى الإسلام تدهش الملاحظين بالنسبة للمسلمين وحدهم ، ولكن الظاهرة تمتد إلى الكوكب الأرضي كله فنجد أن الإسلام يتحرك في ثقة وعمق وقوة على مساحات عريضة من الأرض ، وأن علماء الغرب أنفسهم الآن هم الذين ينصحون أهلهم بالتماس الخلاص من المحنة والخروج من الأزمة بالإسلام وبالإسلام وحده ، ولكن هل يستطيع الغرب أن يتخلى عن استعلائه ؟ .
... إن الإسلام يقتحم عالم الغرب في قوة ويعتنقه كل يوم مئات من المثقفين وليس على المسلمين اليوم إلا أن يتمسكوا بالحق حتى يأذن الله تبارك وتعالى بالنصر ..
على المسلمين أن يدرسوا عبرة الأحداث
بعد خمسمائة سنة من سقوط الأندلس 1492 - 1992م
... إذا كان الغرب يعمل على التذكير بمرور خمسمائة سنة على خروج المسلمين من الأندلس فإننا نحن المسلمون يجب أن نلتمس من هذا الحدث الضخم عبرة بالغة لتجربة ضخمة قام بها الإسلام في قلب أوربا من أجل نشر كلمة الله وتبليغ دعوته إلى العالمين في قضية كبرى ما تزال باقية وممتدة حيث يتجدد الإسلام في الأندلس اليوم ويتحرك في دائرتين أساسيتين : إحداهما إعادة تقدير دور الإسلام الذي أنكره الغرب وأصر على إنكاره طوال هذه القرون الخمسة ، والثانية عودة الإسلام وتجدده سلما في أسبانيا وفرنسا وأوروبا جميعاً(3/15)
... ففي عام 92 هجرية ( 711م ) فتح المسلمون الأندلس التي بدأها طارق بن زياد ثم تابعها موسى بن نصير حتى أخضعت أسبانيا كلها ، وقد هز دخول المسلمين إلى أرض الأندلس أوربا وأزعج القوى المسيطرة إزعاجاً شديداً حيث كانت ما تزال بيزنطة في الشرق مشتبكة مع الحدود العربية في طرطوس من أرض الشام وقد تراوحت الحملات الإسلامية الطامحة إلى فتح القسطنطينية .
... وفي خلال سبعمائة وثمانين عاماً أقام الإسلام دولة ضخمة سامقة تألقت في سماء المجد وحملت منهجه إلى الغرب وكان أخطر ما قدمته لأوروبا علوم المسلمين كلها من بغداد إلى دمشق إلى القاهرة حيث قامت جامعات بلنسيه وقرطبة وطليطلة وغرناطة التي تنقل فيها شباب الغرب يتعلم علوم المسلمين وينقل كتابات علمائهم وفي مقدمتها المنهج التجريبي حتى أصبحت أوربا وقد انتقلت نقلة ضخمة خلال القرون الثمانية من وضعها المتردي إلى مجال الحضارة الجديدة .
... ولكن ملوك أسبانيا المسيحية لم يتوقفوا عن بذل جهودهم في سبيل تمزيق أوصال الدولة الإسلامية حيث تجمع في أمارة صغيرة جماعة من الفرنج ظلت تنمو حتى أصبحت مملكة قشتالة وليون اللذين حملتا بعد ذلك لواء الحرب على المسلمين وقد تآمرت كل القوى المعادية لضرب هذه القوة النامية حتى تمزقت وحدتها وكان ذلك إيذاناً بسقوطها في أيدي الأعداء .
... ولا ريب كان حكام الأندلس قد شغلوا بالترف والسلطان وخرجوا عن منهج الله وجروا وراء المطامع والأهواء وكان أخطر ما أصيبوا به تفرق الكلمة والاستعانة على بعضهم البعض بالعدو ثم جاءت المرحلة الأخيرة بسقوط الأندلس كلها في أيدي القوى المتربصة والمتآمرة على الإسلام فلم تبق إلا مملكة غرناطة التي استمرت قرنين ونصف قرن .(3/16)
... وقد شاء الله تبارك وتعالى أن نجعل من تجربة الأندلس درساً وعظة للمسلمين جميعاً على مدى تاريخهم كله فهي الأرض التي خرج منها المسلمون بعد أن أقاموا ثمانية قرون ونصف القرن فعليهم دراسة العبرة من الحدث حتى يزدادوا إيماناً بالاستمساك بالمنهج الإسلامي هو وحده القادر على استبقاء إرادة الحياة في يدهم فإذا ما تهاونوا في هذه الرسالة وضعفوا عنها ضربهم الله بالذل وسلط عليم عدوهم ليسيطر عليهم وينتقم منهم حتى يعودوا مرة أخرى إلى الحق ويستمسكوا به ويؤمنوا بأنه لا سبيل لهم إلا طريق الله تبارك وتعالى ومنهجه .
... ونحن المسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى دراسة مأساة الأندلس لأننا منذ أكثر أربعين سنه قد وقعنا في أزمة قريبة الشبه بها ، تحدياتها توشك أن تضعنا في مثل أزمة الأندلس حيث تعمل الصهيونية العالمية على استلاب بيت المقدس وفلسطين كلها بل وهي تطمع في أن تقيم مملكة من النيل إلى الفرات ، ولابد أن يقف المسلمون موقف الحذر والاستعداد وأن يدربوا الأجيال على الجهاد المقدس في سبيل استعادة كل شبر من أرض الإسلام .
... ولقد كان الإسلام كريماً مع أهل أسبانيا غاية الكرم فقد ترك لهم كنائسهم وأديرتهم وحريتهم كما رفع الاضطهاد عن اليهود .
... كذلك فقد أدخل الإسلام إلى الأندلس الصناعات والزراعة فاستثمروا أرضها الخصبة ونقلوا إليها العلوم التجريبية وانتقل طلاب العلم من كل مكان في أوربا إلى جامعات الإسلام في الأندلس خلال ثمانية قرون كاملة حيث أقام المسلمون حضارة باهرة .(3/17)
... وقد كان الفتح الأندلسي حدثاً حضارياً امتزجت فيه حضارات سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة لاحقة هي الحضارة الإسلامية ونتج عن هذا المزيج حضارة أندلسية مزدهرة وصلت إلى الفكر الغربي الأوربي وأثرت فيه حتى أنه ليمكن القول بأن الحضارة العالمية المعاصرة قد نشأت أساساً في أحضان الأندلس ثم انتشرت في أوربا فغيرت وضعها وأخرجتها من عصور الظلمات إلى عصر النور مما ترك أثاراً عميقة مازالت معالمها واضحة حتى اليوم ، ولقد استمر الدور الإسلامي في بناء الحضارة أكثر من قرن من الزمان بعد سقوط آخر المعاقل الإسلامية لأن الشعب المسلم كان هو الذي يضطلع بالشطر الأعظم من النشاط الحيوي في أسبانيا من زراعة وصناعة وتجارة .
... هذا التأثير الحضاري والثقافي الذي استمر نحو من تسعة قرون عن طريق المعابر الثلاثة (1) بالرمو ( صقلية ) (2) الأندلس ( طليطلة ) (3) " الحروب الصليبية " ، وهذه هي العبرة التاريخية لانتقال المسلمين إلى قلب أوربا والتي تتمثل في حمل الأمانة إلى العالم كله وبعد أن اتسع نطاق الإسلام في آسيا وأفريقيا كان لابد أن يحمل إلى أوربا المسيحية التي كان قد أصابها الجمود والتخلف بعد تحولها من الوثنية اليونانية إلى المسيحية الأوربية ( التي تختلف عن المسيحية المنزلة ) ، وكان لابد أن يؤدوا هذا الدور في تمدين البشرية ، وهذا ما شهد به المؤرخون الغربيون أنفسهم الذين عارضوا موقعة بلاط الشهداء حين ظن الغرب أنه استطاع القضاء على القوة الإسلامية وهي التي كانت تحمل له الضياء والنور من خلال رسالة السماء الخاتمة وتحمل له الحضارة التي عرفتها الأندلس وامتدت فيها خلال ثمانية قرون ونصف القرن إلى أوربا كلها عن طريق جامعاتها .(3/18)
... ولا ريب كان للمسلمين الفضل حتى في مصادر القوة التي شنوها على المسلمين حين عرف الأسبان والبرتغال البخار وفتوحات العلم وحين وصلوا إلى الهند وإلى كانتون وإلى شواطئ أريكا بفضل كتب البحار المسلم أحمد بن ماجد والمغررين الثمانية ، وكانت إرادة الله تبارك وتعالى الغالبة هي التي بسطت كلمة التوحيد والإيمان في قلب أوربا عن طريق الأندلس من ناحية وعن طريق جزيرتي بالرمو وصقلية .
... ولم يسلم الأوربيون يوماً واحداً بالوجود الإسلامي بالرغم من كل ما قدمه إليهم من حضارة ونظم سياسية واجتماعية ، وظل الفرنجة يقاتلون ويتآمرون ولم يتوقفوا عن ذلك طوال عهد الدولة الإسلامية ولما دخلت مرحلة الضعف زاد تآمرهم وعاونتهم البابوية وبعض ضعاف النفوذ وتحققت الهزيمة كما جاء قانونها في القرآن الكريم من الأمة التي تخرج على سنن الله تبارك وتعالى وقانونه ومنهجه لابد أن تنهار .
وكان من أسباب الهزيمة :
( 1 ) الصراع الداخلي بين القوى الإسلامية واستعانة كل منها بالعدو في سبيل الانتصار على الآخر فقد جعل الله بأسهم بينهم شديداً ولو اتحدت كلمتهم على مقاومة العدو لاستطاعت أن تقيم سداً منيعاً في وجه أسبانيا النصرانية .
( 2 ) جعلوا الدنيا ومطامعها وترفها وزخرفها هو الغاية .
( 3 ) تمزق الوحدة الجامعة بين المسلمين عرباً وبربراً وعناصر أخرى تجمعها كلمة لا إله لا الله .
( 4 ) لم يتمكن المسلمون من إرساء قواعد الإيمان وشغل الفاتحون بالتمتع بخيرات البلاد المفتوحة وخدمهم أبناء الروم وأكثروا من زواج الأجانب فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فنالت منهم عوامل العصبيات العرقية والقبلية .
( 5 ) ترك المسلمون تلك الثغرة القديمة حتى تجمع حولها أعداؤها ومنها ضربوا كيان الدولة الإسلامية في الصميم .(3/19)
... خرج المسلمون من الأندلس ولكنهم بعد ألف عام ( 1492م - 1982م ) عادوا سلماً ليضربوا بالإسلام قلوب مئات الآلاف من أبناء الشعب الأسباني حيث يوجد 150 ألف مسلم ( يوجد 8 آلاف طالب عربي ومسلم في مدريد ) وقد تبين أن الذين يتوارثون الدين الحنيف منذ عهد الإسلام في الأندلس ظلوا يحفظون دينهم سراً ويعلمونه أبناءهم إلى أن جاء الوقت للخروج إلى ضوء النهار .
... وكانت غرناطة قد سقطت في أيدي الأسبان 1492م حيث لقي المسلمون أشد أنواع العنت الذي واجهته طائفة المورسكين حتى جاء موعد نفيها النهائي من أسبانيا عام 1609م .
... وكان المهجنين الأندلسيون في شرق الأندلس وهم الذين سبقوا المورسكين في تحديد أوضاعهم مع الملوك النصارى عقب سقوط أوطانهم في أيدي الأسبان وكان لظروفهم وإعتماد النبلاء والسادة على جهودهم وأعمالهم في الزراعة والصناعة أسعد حظاً وأقل شقاء من المرسكين في منطقة غرناطة ويذكر في هذا المقام ( زفرة العربي ) في 10 يناير 1492م وكانت من الساعات الفاصلة في مجال التاريخ عندما خرج أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر يودع البلاد وينظر إليها بعد أن غادرها وأمه تقول له : ( ابك كالنساء ملكاً لم تدافع عنه كالرجال ) .
... لم يتوقف الأسبان والبرتغال بعد خروج العرب من الأندلس بل طاردوهم مطاردة قاسية وسرعان ما توالت القوى الاستعمارية للزحف على أفريقيا للسيطرة على أجزاء من المغرب والجزائر وكان أخطر ما في ذلك احتلال مدينتي سبته ومليلة اللتين بدأ منهما الزحف الإسلامي إلى الأندلس وما تزال حتى الآن لم تتحررا وسرعان ما تذرعت فرنسا عام 1912م ببعض الأسباب الواهية للاحتلال التدريجي والبطئ للمغرب ( وجده - الدار البيضاء - الشاوية ) واحتلت أسبانيا مواقع من سبته وتطوان .
... وقاوم المغرب البير مقاومة ضخمة بعد أن انضمت إلى الدولة العثمانية حيث كتبت صفحة بيضاء لأبطال الإسلام بروح وأخيه الذين أنقذوا المسلمين المهاجرين من الأندلس .(3/20)
وقد امتدت حركة الالتفات حول عالم الإسلام بقوات أسبانيا والبرتغال ثم تبعتها فرنسا وإنجلترا حتى تم الاستيلاء على الهند والخليج العربي ثم أرخبيل الملايو الذي احتلته هولندا .
... ظلت أوربا تتنكر للدور الإسلامي الذي قامت به الأندلس بجامعاتها وعلمائها وقتاً طويلاً حتى بداية القرن التاسع عشر إذ بدأ بعض المستشرقين الأسبان في العمل على رد الاعتبار لدور العرب والمسلمين في صياغة الثقافة والمجتمع في أسبانيا ، ثم توقف هذا العمل فجأة حتى أعيد في السبعينات من جديد ونشأ اليوم جيل جديد من المتخصصين في العربية .
... غير أن بعض الباحثين ما زال يحذر من الدور الذي تقوم به إسرائيل في محاولة للادعاء بأن الحضارة العربية الإسلامية يهودية المنشأ والوجود ، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد موسى في دعوته لتصحيح هذه المحاولة الضارة ، وفيما سوى ذلك فإن الدوائر العلمية الأسبانية تتحدث اليوم بكل فخر واعتزاز عن القرون السبع التي عاشها المسلمون والعرب في أسبانيا حيث أوجدوا خلالها تراثاً ضخماً كان سبباً في ازدهار حضارة الغرب .
... ويقول الدكتور أحمد موسى : إن الدور الذي أداه المسلمون أبان وجودهم في أسبانيا هو دور بارز متميز لا يدانيه دور آخر باعتراف المنصفين والعلماء وإن ما أباح لليهود أن يكون لهم دور هو تسامح الإسلام والمسلمين واحترامهم لأهل الكتاب بما يجعل اليهود في واقع الأمر مدينين للمسلمين بهذا والمنصفون منهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه .(3/21)
... وقد عاد بعض المثقفين الأوربيين ( مؤرخين وعلماء ) إلى تقييم الحضارة الإسلامية الأندلسية وأعلنوا أنها جزء لا يتجزأ من تاريخ أسبانيا وأنه كان للعرب دور في تكوين الحضارة الأوربية بوجه عام وهو دور واسع المدى عميق الأثر شمل العلوم والصناعات ولم يقتصر على الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات وامتد إلى الأدب والفن والعمارة والموسيقى وقال أحدهم : إن الإسلام حين دخل أسبانيا فاتحاً لم يطلب من أهل البلاد أن يدخلوا في الإسلام بل تركهم بحريتهم وحسبه أنه نقلهم من الرق إلى الحرية وفتح لهم أبواب الحضارة والعلوم التجريبية ، وقد دخلت القواميس الأسبانية والبرتغالية أربعة آلاف كلمة عربية متداولة انتقل منها إلى اللغات الأوربية ومصطلحاتها الكثير بقي أن يشير إلى أن هناك جالية إسلامية جديدة تكونت في السنوات الأخيرة وقد أنشأت مجتمعاً إسلامياً تتجدد فيه الدعوة الإسلامية سلمياً .
عودة بيت المقدس
مع صلاح الدين بعد ثمانية قرون
... احتفل أخيراً بمرور ثمانمائة عام على رحيل القائد البطل صاحب معركة حطين فكان حقاً على المسلمين أن ينتهزوا هذه الفرصة الكريمة ليحيوا هذه البطولات الإسلامية الباذخة خاصة في هذه المرحلة التي يحاول بعض كتاب التغريب والعلمانيين والماركسين العمل على تشويه هذه الصفحة الناصعة من البطولة الإسلامية في محاولة لتزييف تاريخ المقاومة الإسلامية للغزو الخارجي على مدى تاريخه الطويل سواء من خلال الحروب الصليبية التي امتدت في حملات حربية ضخمة خلال قرنين كاملين أو بالنسبة لعاصفة التتار والمغول التي جرفت عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد وامتدت إلى الشام والتي هزمت في عين جالوت .(3/22)
... وكذلك المعارك التي قام بها المسلمون في مواجهة الفرنجة وحملات الاستعمار الحديث ومعركة بيت المقدس القائمة اليوم وما تزال هي أمانة المسلمين والعرب في استعادة القبلة الأولى ، وهي كلها تذكر المسلمين بالفريضة القائمة إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها : فريضة الجهاد في مواجهة زحف النفوذ الأجنبي والعمل على حماية الثغور والرباط الدائم .
... وقد ولد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي عام 1136م في تكريت بشمال العراق وهو من أصل كردي ونشأ في دمشق في بلاط نور الدين سلطان السلاجقة وقد رافق عمه أسد الدين شيركوه في حملاته ضد الفاطميين واستطاع الانتصار على الصليبيين والبيزنطيين قرب دمياط وأنهى حكم الفاطميين وشيد قلعة صلاح الدين على جبل المقطم بمصر عام 1176م وعرفت بقلعة الجبل ، وفتح في أثناء ذلك اليمن وفلسطين واستولى على دمشق وحلب وحقق مكانته الكبرى عندما أعلن الحرب على الصليبيين حيث جرت المعركة الفاصلة عام 1187م في سهل حطين ، وهزمهم فيها واستولى على بيت المقدس ثم واجه ريتشارد قلب الأسد بعد عامين في حطين وانتهى القتال بصلح الرملة عام 1192م ثم توفى صلاح الدين في دمشق عام 1193م ودفن بها .
... وقد دام عهد صلاح الدين اثني عشر عاماً قضى عشرة أعوام منها في الحروب بدأت حين انتهت جهود نور الدين الكثيرة لتركيز فكرة الجهاد وتوسيع قاعدتها وبناء الجبهة الداخلية وإعداد القوى .
... وكانت المجابهة الحاسمة للصليبيين والفرنجة خلال العامين الأخيرين ولم يكن انتصار الصليبين في الجولة الأولى بسبب قوتهم وإنما بانحلال قوى دار الإسلام وتفككها ومن هنا كان العمل العظيم الذي قام به نور الدين محمود وهو العودة إلى الإسلام بمفهومه الأصيل : مفهوم النضال من أجل حماية الأرض والعرض .
... وكان عماد الدين زنكي وولده نور الدين قد تمكنا من تحرير مدينة الرها حاضرة أول الإمارات الصليبية في شمال بلاد الشام .(3/23)
... ويقف صلاح الدين الأيوبي على قمة من قمم تاريخ الإسلام وجهاد العرب في سبيل الحرية والكرامة ومقاومة الاستعمار فإن جانباً خطيراً من تاريخ الإسلام يرتبط باسمه ارتباط ضخماً : ذلك هو احتلال الصليبيين للساحل الشامي وانتصار صلاح الدين عليهم في معركة حطين ثم استعادته لبيت المقدس وما أرتبط بذلك من وفاء ورحمة تميز بها الرجل مما أذهل الفرنجة والمستشرقين الذين كتبوا عنه صفحات ناصعة فأكبروا هذا العمل في البطل الإسلامي وهو في ذروة انتصاره .
... وتعطي معركة حطين وما بعدها صورة صلاح الدين وترسم ملامح هذه الشخصية بأقوى ما يمكن أن تصوره فقد كان محارباً شجاعاً بالغ الشجاعة خبيراً بفنون الحرب وضروبها وكان قبل ذلك صادق الكلمة يثق به العدو قبل الصديق .(3/24)
... وقد استطاع صلاح الدين أن يضطر الصليبيين إلى أن يحاربوا في وقت لم يكونوا مستعدين فيه للحرب إذ أمسك بيده عنصر المبادءة واختار زمن الموقعة ومكانها وقد أحتال لذلك فأخرجهم من مواقعهم ليحاربوه في منطقة جرداء خالية من الماء عندما هاجم ( طبرية ) ليغريهم بالإسراع لنجدتها فتركوا مواقعهم الحصينة واندفعوا حيث أراد لهم صلاح الدين الهزيمة الساحقة ، فقد تقدم بالجيش إلى أرض لا ماء فيها ولا زرع فقاسوا الأهوال والشدائد ولقى المشاة أعباء شديدة فتخلفوا عن الفرسان في الوقت الذي كانت قوات صلاح الدين تمطرهم وابلاً من السهام وهجم المسلمون على خيمة الملك ( لوزينان ) فسقط أسيراً في قبضتهم كما أسر ( أرناط ) ومقدم الدولية وكثيراً من الفرسان وقتل صلاح الدين أرناط بيده جزاء وفاقاً لما اقترفه من آثام مع حجاج بيت الله الحرام ، وتقدم صلاح الدين فأخذ بعض حصون الصليبيين التي لم تعد لها قيمة حربية بعد القضاء على الفرسان فاستولى على عكا ونابلس وقيسارية وصفورية ثم بيروت والرملة وعسقلان ثم حاصر بيت المقدس ( رجب 583هـ - سبتمبر 1187م ) حصاراً دام أربعة عشر يوماً ثم تمكن المسلمون من عمل ثغرات في الأسوار فاستسلمت المدينة .
... هنالك أحس صلاح الدين أن الله تبارك وتعالى قد أتم له النصر فوقف مناديه يوماً كاملاً من مطلع الشمس إلى مغربها ينادي : هل من فقير فنؤيه أو عاجز فنعفيه من فدية يؤوده دفعها أو يعجزه الحصول عليها .
... وسمح للفرنجة أن يغادروا المدينة في حمايته دون أن يصيبهم مكروه فيما يحملون معهم من غنائم أو أموال .(3/25)
... وخرج البطريق بمال كثير لم ينفق منه شيئاً في افتداء يتيم أو مسكين وأشار البعض على صلاح الدين بمصادرة ماله فرفض في شدة وقال : لا ، ما كان لنا من حق في أموالهم إلا العشرة دنانير وغيري من يغنم المال عن طريق الغدر : دعوه يخرج به ذلك لك هو صلاح الدين في قمة شجاعته الحربية وقمة وفائه ، بل إنه عندما فرض ملكا الإنجليز والفرنسيين في حصار عكا أرسل إليهما الثلج والفاكهة والطبيب ، وأهدى إلى ريتشارد جوادين عندما رآه يقود جموعه راجلاً .
... وكان صلاح الدين قد بذل جهوداً ضخمة متصلة حتى حقق هذا النصر ، وكان أول عمله أن وحد الجبهة كلها وكتلها لمقاومة الصليبيين وعزل الأمراء المتنازعين وتنقل في بلاد الشام يدعوا إلى الوحدة مؤمناً بأن الشام هي أصل بلاد الشام وقد زار الرها وبرقة ونصيبين ، وقد قاوم الصليبيين هذا العمل بجهود مضاعفة وبذلوا في سبيل معارضته وتحطيمها كل ما لديهم من أموال وإغراءات فقد أسرع الصليبيون فعقدوا مع بعض أمراء الموصل وحلب اتفاقات للوقوف في وجه تكوين جبهة عربية موحدة ولكن صلاح الدين استطاع عام 579هـ أن ينجح في جمع الشمل وأن ينسف كل الصخور التي كانت تقف في سبيل ذلك .
... ولا شك كانت طبيعة صلاح الدين المؤمنة عاملاً قوياً من عوامل الظفر الذي كسبه في معارك الحرب ومعارك التمهيد والتوحيد والتجميع ، وظل صامداً للأحداث يؤمن طريقه ويمضي على أسلوبه في الوفاء بوعده وكان يقول : " إني لأستحي من الله تبارك وتعالى أن يراني ناقضاً للعهد ، وأني لأستحي من نفسي أن أكون كاذب الوعد وما النصر إلا من عند الله " .
... وقد عامل الفرنجة خير معاملة عندما وقع معهم شروط الرحيل عن القدس وترك لهم المدينة حتى لا يؤذي شعورهم وأعفى من الضريبة سبعة آلاف عجزوا عن الدفع وعندما أخذوا في بناء سور القدس اترك في حفر الخندق ونقل الحجارة على عاتقه .(3/26)
وقد اعتمد صلاح الدين من بين وسائل النصر على سلاح ( دعاء السحر ) يطيل الركوع والسجود ويتوجه إلى الله في الملمات باكياً وداعياً وكان لا يجهز على جريح و لا يقبل من جاءه مستجيراً ، هذا في الوقت الذي لقي فيه من ظلم الفرنجة وعذرهم الكثير ومع ذلك لم يكن يفكر في أن يستخدم أسلوبهم .
... وكان يجلس للعدل بين الناس يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء .
... ولم يرد قاصداً ولا طالب حاجة ولم يترك مظلوماً دون إنصافه وكان يعطي فوق ما يأمل الطالب ويعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطة من لم يعطه شيئاً .
... ولم يخلف في خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ، وقد وقف على البحر مع القاضي الفاضل وابن شداد وقال : أنه متى يسر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت وركبت البحر إلى جزائره مجاهداً في سبيل الله .
* ... * ... *
... يقول هاملتون : لقد كان تاريخ الشرق الأدنى حافلاً بالملوك الفاتحين فهل كان صلاح الدين واحداً من هؤلاء ، أو أن في سيرته عناصر أخلاقية معنوية متميزة تخلع على انتصاراته الأولى وجهاده اللاحق ضد الحملة الصليبية الثالثة صفة منفردة ؟ .
ليس مما يكفي الإجابة بالإيجاب أن يقال إن صلاح الدين حارب الصليبيين في سبيل الإسلام .(3/27)
... إن شهرة صلاح الدين تقوم على مآثره الحربية التي تجلت في معركة حطين عام 1187م ، وفي استيلائه على القدس بعد ذلك وعليه فإن المؤرخين من مسلمين ونصارى يعتبرونه في المقام الأول ( قائداً ) ثم أن بين الظروف التي قام فيها كل من صلاح الدين ونور الدين بمهمته فروقاً أساسية فقد كان نور الدين يعمل من داخل البناء السياسي في عصره وكان يعمل فيما يمكن تسميته ( إعادة التسليح الخلقي ) وذلك بمنح الزعماء والمصلحين الدينيين كل تأييد ، لقد أظهر نور الدين قوة بصيرة ومقدرة تفوقان المستوى المعتاد ولو طال به الزمن لجاء الهجوم على الصليبيين أسرع عنفاً أما صلاح الدين فقد شعر عندما رأى الموقف الخطر الذي تعانيه مصر أن مسئوليته هي تكوين القوات المحلية كي يتمكن من حماية مصر .
... ولقد كان صلاح الدين يجيد فن الحركات الحربية وبهذه الحركات البارعة ربح معركة ( حطين ) وأروع أعماله العسكرية هي استيلاؤه عام 1183م على قلعة أحد ديار بكر التي اشتهرت بمناعتها بعد حصار دام ثلاثة أسابيع .
... ولم يكن صلاح الدين رجل حرب أو إدارة بحكم ميوله وتدريبه ولكنه نفسه الذي جمع حوله جميع العناصر والقوى التي كانت تستهدف " توحيد الإسلام في وجه الغزاة " فوجهها وألهمها ولم يستعمل في سبيل تحقيق هذا الأمر شجاعته وعزمه الدائبين في غالب الحيان وإنما ما حققه من ذلك بإنكار للذات وتواضعه وكرمه ودفاعه المعنوي عن الإسلام ضد أعدائه وضد من ينتمون إليه انتماءً اسمياً على حد سواء .(3/28)
... ولم يكن صلاح الدين نفسه ساذجاً ولكنه مع هذا غاية في البساطة فذاً في النزاهة ولقد جبر أعداءه من الأدنيين والأبعديين لأنهم كانوا يتوقعون أن تكون حوافزه مثل حوافزهم وأن يقوم بألاعيب والمناورات السياسية مثلما يفعلون وكان هو نفسه طيب السريرة ولذلك لم يكن يتوقع أبداً أن يفهم مكر الآخرين وذلك ضعف استغله أحياناً أقرباؤه إلا أنهم في آخر الأمر كانوا يصطدمون بصخرة مستقرة من إخلاصه لمثله العليا إخلاصاً لم يكن لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء أن يزعزعه من مكانه ، وهكذا فإن الحق ما شهد به الأعداء رحمه الله رحمة واسعة.
أخطاء التاريخ الإسلامي الحديث
... لما كان التاريخ بالنسبة لأية أمة هو : الضوء " الكاشف " لمسيرتها ، ولما كان التاريخ الإسلامي قد حقق نتائج خطيرة على مختلف مراحل مسيرة الدعوة الإسلامية ، فقد عمد النفوذ الأجنبي والتغريب ( الاستشراق والتبشير ) بالتركيز عليه لإثارة الشبهات وتأويله بما يغض من شأنه ويقلل من أهميته وذلك على طريقة اجتزاء النصوص وإخفاء الحقائق وتغييب الجوانب المعنوية والروحية والغيبية التي تمثل عامل النصر بمفهوم الإسلام الذي يجعل من الإيمان والتضحية بالنفس عاملاً أساسياً في المعارك يفوق العامل المادي من حيث تعداد الجيوش أو ضخامة العدة .
... ونحن نعلم أن عرض تاريخ الإسلام على وجهه الصحيح كفيل بأن يكسب له أنصاراً ويملأ قلوباً ويوصل قلوب المسلمين إلى اليقين من نصر الله تبارك وتعالى للعاملين بمنهجه والسائرين على طريقه وهذا من شأنه أن يحشد القوى للدفاع والمرابطة والقدرة على ردع العدو ويملأ القلوب إيماناً باستعادة الأرض والنصر على العدو وتحرير الأماكن المقدسة وحمايتها .(3/29)
... ومن هنا كان عمل الاستشراق والتبشير الغربي في محاولة تفريغ التاريخ الإسلامي من روحه وتفسيره في ضوء المفهوم المادي ، هذا فضلاً عن محاولة تزييف وقائع التاريخ الإسلامي الحديث والادعاء بأن اليقظة الإسلامية الحديثة كانت نتيجة وصول الحملة الفرنسية إلى الشرق ، وهي دعوة باطلة تماماً فإن المطالع لحقائق التاريخ ووقائعه يتبن أن هذه الحملة الفرنسية ما جاءت إلا لتهدم تلك النهضة التي كان الأزهر قد قام بها مع مجموعة من علماء المسلمين في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي كخطوة تالية لخطوة اليقظة والإصلاح التي عرفها تاريخ الإسلام ولم تتوقف : وكان قادة هذه النهضة هم : محمد بن عبد الوهاب والزبيري والشوكاني والبغدادي والجبرتي الكبير في مختلف نواحي الفكر الإسلامي وأساساً الفقه واللغة العربية .
... وكانت الحملة الفرنسية هي الخطوة الخطيرة لتصفية هذه النهضة وتدميرها هذا فضلاً عن أن المسلمين سواء في مصر أو ساحل الشام قد وقفوا موقفاً حاسماً إزاء هذا الخطر المسلح وقاوموه مقاومة صادقة أذنت بانتهاء هذه الحملة وعودة أهلها مدحورين.
* ... * ... *
... ولقد كانت الحملة على الدولة الإسلامية في مقدمة الأعمال التي قام بها الاستشراق من أجل هدم الوحدة الجامعة بين المسلمين من خلال الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية وقد أدعى المدعون أن الدولة العثمانية كانت مستعمرة للبلاد العربية وهي دعوة باطلة فإن العرب ومختلف القوى التي انضمت إلى دولة الخلافة وخاصة الجزائر وتونس والمغرب ، بالإضافة إلى مصر والشام وغيرها قد نقلت ذلك إيماناً بوحدة المصير وبمفهوم الإسلام في الترابط عند الخطر والتجمع لمقاومة النفوذ الوافد .
... وما يزال كتاب التغريب يحملون على الدولة العثمانية بعد أن تكشفت خلال السنوات الأخيرة حقائق كثيرة عنها وبعد أن حمت الوجود الإسلامي من خطر عودة الحروب الصليبية أكثر من أربعمائة عام .(3/30)
... ومن هذه الأخطاء مقولة : الاكتشافات الجغرافية : والحقيقة أن هذا العنوان قد وضع على الحملات التبشيرية الغربية التي أرسلتها دول أوروبا إلى قلب أفريقيا كمقدمة لاحتلالها وقد كان لها تاريخ طويل من الظلم والتدمير وإبادة المسلمين على أيدي قادتها الذين وصفوا بالأبطال : أمثال هنري الملاح وبوكرك ودى جاما وولنسجتون وقد كان أغلب هؤلاء وغيرهم يعملون في جمعيات التبشير الأوربية التي كانت تعد العدة للسيطرة على القارة العذراء ومع الأسف فقد صور أمثال هؤلاء في كتبنا المدرسية كفاتحين ومكتشفين في حين أن هذه البلاد قد جاءها كثير من رحالة المسلمين وكتبوا عنها وتخص بالذكر منهم : ابن بطوطة .
... كذلك فقد خدع هؤلاء المبشرين رجالاً من خبراء المسلمين أمثال أحمد بن ماجد ( أسد البحر الهائج ) الذي كان خبيراً بالبواغيز والخلجان الإسلامية في مناطق خليج الهند وغيره وكان قد سجل خبرته وتجاربه في كتب كان ربابنة السفن المسلمين يستعينون بها على معرفة المد والجزر وأحوال البحار والمواني فكان أن خدعوه وحملوه حملاً على أن يقود مراكبهم بعد أن استولى على تجربته المكتوبة .
... وكان هنري الملاح البرتغالي حاقداً على العرب والمسلمين وقد تصدى لمدينة طنجة المغربية ورد على أعقابه وأسس مدرسة بحرية ضمت رجالاً حملوا لواء تجديد الحروب الصليبية وخوله البابا نيقولا الخامس حق الفتح والاستيلاء عل جميع البلاد حتى الهند .
... أما الرحالة البوكرك فقد كتب إلى ملكه يفخر بأنه ذبح جميع مسلمي مدينة جوا وجعلهم أكداساً في المساجد ثم أحرقها وأنه أشعل النار في سفن المسلمين ومع ذلك فإن هذا السفاح يؤكد في كتب التاريخ العربية بأنه فاتح منتصر .(3/31)
... وكان فاسكودى جاما من طلائع الفتح الاستعماري ومن أقسى خصوم المسلمين ففي رحلاته إلى آسيا ضرب بمدافعه الثقيلة المراكب العزلاء التي تنقل الحجيج إلى مكة فأحرقها بعد أن نقل أموالهم وأمتعتهم إلى أسطوله وبعد أن حظر على رجاله إنقاذ الغرقى ومنهم النساء والرجال حتى هلكوا جميعاً إلا عشرين طفلاً بعث بهم ( دي جاما ) إلى البرتغال حيث حملوا على اعتناق النصرانية .
* ... * ... *
... ومن السموم الناقعات التي حاول المستشرقون بثها في مجال التاريخ الإسلامي فكرة ( تطوير الإسلام ) بادعاء أن الإسلام نزل في بيئة بدوية ومع التنكر لعالمية الإسلام وعطائه الرباني المتجدد وأطره الواسعة القادرة على الاستجابة لمختلف تطورات المجتمعات أو العصور ، وهي فكرة تغريبية يمكن أن تقال بالنسبة للأديان البشرية ولكنها ليست مقبولة مطلقاً في أفق الإسلام .
* ... * ... *
... كذلك فقد ابتكرت فكرة مضادة للفريضة المحكمة : فريضة الجهاد الماضية إلى يوم القيامة بدعوى أن هناك حديث منسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر : جهاد النفس ) ، ولقد كتب علماؤنا طويلاً وكثيراً حول عدم صحة نسبة هذا الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه من الملتقطات التي حاول الاستشراق التقاطها لمقاومة حقيقة أساسية هي فريضة الجهاد .
* ... * ... *
... ومن الدعوات المثارة في تاريخ الإسلام الحديث : نظرية السامية وهي نظرية مضللة من أخطر سموم الاستشراق اليهودي حيث ترمي هذه النظرية إلى حجب دين الحنيفية السمحاء الذي دعا إليه إبراهيم عليه السلام بإذن ربه وقد جاءت هذه المحاولة الخطيرة كمقدمة لإذاعة فكرة الصهيونية ومدخل إليها .(3/32)
... وترمي فكرة السامية إلى نسبة كل أمجاد التاريخ العربي القديمة وسلبه من أصحابه الحقيقيين وخاصة 'إسماعيل عليه السلام وأبنائه وأحفاده وإضافته إلى مصدر غامض ليس له سند علمي ويشمل مصدره الأساسي من التوراة الحالية التي كتبها أحبار اليهود بأيديهم وليس التوراة الحقيقية المنزلة على موسى عليه السلام وذلك بهدف إشراك اليهود مع العرب في هذه الأمجاد بينما لا يوجد لليهود أي اتصال بإنشاء هذه الحضارة .
... وترمي كذلك إلى التشكيك في رحلة إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز وإقامة ابنه إسماعيل وزوجته هاجر بمكة ، وهذا يبدو واضحاً من تجاهل التوراة لهذه الواقعة التاريخية ومحاولة إثارة الشبهات حولها ، كذلك ترمي إلى محاولة اعتبار التوراة مرجعاً للبحث العلمي مع أن شهادات كل علماء الغرب تؤكد أن التوراة الموجودة اليوم قد كتبها أحبار اليهود أبان النفي البابلي .
* ... * ... *
... ومن أخطاء التاريخ الإسلامي الحديث : ادعاء بعض المستشرقين إن القاديانية والبهائية حركتان للنهضة الإسلامية وقد كتب هذا عدد منهم في مقدمتهم المستشرق براون وقد نقل ذلك عنه أحد كبار كتابنا ، مع العلم بأن القاديانية في الهند والبهائية في إيران وهما دعوتان قام النفوذ الاستعماري بإعدادهما وتمهيد الطريق لهما من أجل تدمير مفهوم الإسلام من حيث أنه الدين الخاتم وأن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين .
* ... * ... *
ومن الحقائق التي يعمل الاستشراق على إنكارها حقيقة الانقطاع الحضاري التي أكدها كثير من الباحثين والمؤرخين الغربيين على وجه الخصوص وهي التي تقول بأن الإسلام جاء في مرحلة الرشد الفكري العالمي ديناً خالداً عاماً للبشرية كلها و إلى يوم القيامة وأنه جاء بالانقطاع الحضاري عما سبقه من رسالات وأديان كانت كلها بمثابة تمهيد له .
* ... * ... *(3/33)
... ولقد عمل النفوذ الأجنبي من خلال الاستشراق والتبشير الغربي إلى فرض عدة مناهج على المجتمع الإسلامي والفكر الإسلامي في محاولة لاحتوائه وإخراجه من مفهومه الجامع الأصيل ، وفي مقدمة هذه المناهج : الدعوة إلى القومية والدعوة إلى العلمانية والدعوة الماركسية .
... وقد أعطيت هذه الدعوات فرصاً لنشر مقولاتها المضللة وكان أن ألقت بظلها على التاريخ الإسلامي في محاولة لتدمير مقومات الوحدة الإسلامية وإقامة نظام القوميات من أجل تمزيق وحدة الفكر الإسلامي وخلق مناهج ودراسات تاريخية منفصلة يقوم كل واحدة منها على قطر من الأقطار وتمتد من التاريخ القديم إلى العصر الحاضر وبتجاهل أمرين : بتجاهل وحدة الأمة الإسلامية الجغرافية ووحدتها التاريخية ، وتستمد مفاهيمها من التصور الغربي الماركسي المستمد من نظرية الماسونية ( حرية - إخاء - مساواة ) وقد فشلت هذه المحاولة تماماً بعد أن عملت على هدم علاقات الأخوة والتعارف بين عناصر المسلمين ( العرب والترك والفرس والهنود ) .
... كذلك فقد حاولت القوى التغريبية فرض مفهوم التفسير المادي للتاريخ على التاريخ الإسلامي وعجزت أن تحقق شيئاً ذا بال لأن التاريخ لا يمكن تفسيره إلا بمنهج إسلامي وأن تنكر الفكر الغربي للوحي والغيب والنبوة ومعطيات الدين الحق ، كل هذا يجعل المنهج عاجزاً عن تقديم تصور صحيح للتاريخ الإسلامي .
... ولقد تبين بعد تجربة امتدت أكثر من مائة عام على فرض القانون الوضعي ، الاقتصاد الربوي ، والتعليم العلماني على الأمة الإسلامية تبين عجز مناهج الغرب على العطاء الحقيقي ومن هنا فقد رفض الجسم الإسلامي أي عنصر غريب ولم تجد العلمانية في أفق الإسلام أي تقبل لأنها قامت على الفصل بين المجتمع والدين بينما يقوم الإسلام أساساً على تكامل القيم : الروح والمادة ، والقلب والعقل ، والدين والدولة والدنيا والآخرة .
آفاق مضيئة مع مطلع العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري(3/34)
... إن المسلم دائماً يلتمس طريقه بين الخوف والرجاء فهو في نفس الوقت الذي يرى الآفاق تتفتح أمام الصحوة الإسلامية فيرجو أن يطلع الفجر مشرقاً ، يحس أن القوى المعادية تتجمع وتتآمر وتصعد ضرباتها حتى يتأخر بزوغ الفجر ، وتلك سنة الله تبارك وتعالى الغالبة التي لا تتحول ، يعيش المسلم بين الخوف فيحذر ويكون يقظاً متأهباً لمواجهة كل خطر ، وهو في نفس الوقت يتطلع إلى الأمور برجاء مملوء باليقين بأن نصر الله لابد آت وأن هذا الدين الحق لابد أن يظهره الله ، وهذه كلها بشائر تملئ القلب بالإيمان واليقين في تحقيق الغاية حتى لو ادلهمت الأحداث وأظلمت الأودية فإن نصر الله قريب ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ).
... ونحن الآن نرى أن العقد الأول قد حقق دفعات كبيرة على طريق النصر ، وأن الإسلام مازال يزحف في قوة وينطلق سلمياً فيكسب أرضاً جديدة ويقتحم قلوباً جديدة ويوسع دائرة الفتح سلمياً في الأرض التي زوته وصدته منذ قرون سواء عن طريق الأندلس أو عن طريق البلقان .(3/35)
... ونري الإسلام يقتحم الوجدان الأوربي فيقبل عليه المثقفون وأصحاب الرأي ، حتى أولئك القادة الذين يتصدرون الأحزاب والأنظمة والأيديولوجيات ما لبثوا أن وجدوا في الإسلام طمأنينة النفس وسكينة القلب والعطاء الروحي الذي يغمطه الفكر الغربي يشقيه حقه حين يصور الأمور كلها سوداء مظلمة في إطار المادة والوثنية والإباحية فيتنكر تماماً للعطاء الروحي والمعنوي فيحق للحضارة الغربية أن توصم بأنها تجاهلت البعد الرباني أساساً والبعد الأخلاقي جملة وأنها بذلك تسعى في طريق محفوف بالمخاطر إلى غاية مظلمة سوداء سعت إليها من قبل حضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة فارس وحضارة الفراعنة ، فانهارت حين أعلت من عبودية الإنسان للإنسان حتى قال أكبر أقطاب فكرهم ( أفلاطون وأرسطو ) أنه لا تقوم حضارة إلا على دعامة أساسية هي الرقيق الذي يعيش في السفح بينما يعيش السادة في القمة ، فجاء الإسلام لهدم هذا النظام كلية ولإفساح الطريق أمام الوحدة البشرية في قاعدة عامة : ( الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ) .(3/36)
... فكان طبيعياً أن يزحف الإسلام ليحقق منهجه وهو ما يزال منذ أربعة عشر قرناً يردد كلماته ويزود عن منهجه الجامع المتكامل كل محاولة لهدمه أو النيل منه ، وقد تصاعدت هذه الحقيقة حتى أصبحت في مطالع القرن الخامس عشر ، لا يقبل النقض وتطوعت الأقلام المؤمنة والألسنة الصادقة لتزود عنها في كل مكان من أرض الإسلام ... بل لقد تنامت الدعوة فأدخلت في دساتير الدول ، وتم بناء منهج قانوني للشريعة الإسلامية أعدته القوى الشرعية والقانونية ومضى ينطلق ليحقق هدفه في مواقع عديدة من عالم الإسلام ، فإن كان يتعثر ثمة فإن جذوره الراسخة في التربة سوف تحميه من الاجتثاث ، ومهما تضاعفت مؤامرات أعداء الإسلام للحيلولة دون فرض منهجه على أمته فإنه مازال يناضل في قوة وفي استماتة ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ) هذا شعار المسلمين في هذه المرحلة .
... ولقد كانت سنوات العقد الأول من القرن الخامس عشر حافلة بالعمل والمواجهة والثبات والتضحية في الميادين الثلاث التي عمل التغريب والغزو الثقافي على السيطرة عليها وهي : ( المحكمة - المصرف - المدرسة ) .
... وقد ترددت أنباء أولئك القضاة المكرمين الذين حكموا بالشريعة وردوا القانون الوضعي ، وأعذروا إلى الله في العمل على إقامة منهج الله .
... كما كشف المسلمون عن موقفهم من الربا ومصارفه ومؤسساته وأصروا على أن يلتمسوا أسلوباً إسلامياً لودائعهم ومعاملاتهم ، كذلك فقد حسمت المرأة المسلمة موقفها من الزينة والعمل ، ومن حقوق بيتها ومسؤوليتها ورفضت مؤامرة استرقاقها تحت اسم الحرية ، وما تزال القوى الإسلامية تجاهد أخطاء المناهج التعليمية والدراسية وتكشف زيف نظريات دارون وفرويد وسارتر ودوركايم وتدعو إلى إسلامية المعرفة الإنسانية .(3/37)
... كان الجهاد في سبيل ذلك واضحاً وممتداً خلال هذا العقد الأول من القرن الرابع عشر حيث عقدت مؤتمرات إسلامية في مختلف عواصم العالم الإسلامي تطالب بالزكاة ، وبالمنهج الإسلامي ، ويفتح الباب أمام إعانة القوى المجاهدة في فلسطين المحتلة وفي أفغانستان ، تدعو إلى تحرير الأقليات في مختلف أنحاء أفريقيا وجنوب شرق آسيا .
... ويقيني أننا سوف نواصل المسير في قوة الإيمان بمفهوم الإسلام الجامع ، وسوف لا نتخلى مطلقاً مهما بدت بوارق مضللة عن مفهوم الجهاد سواء في ساحة الحرب أم في ساحة السلم ، " وأعدوا " وأن نكون دائماً على تعبئة وأن نرابط في ثغورنا ونكون قادرين على الردع حتى لا نغفل عن أسلحتنا وأمتعتنا فيميل علينا العدو ميلة واحدة .
... ونحن نؤمن بأننا مطالبون باسترداد الأرض المغتصبة ، واسترداد القدس ، والعمل من أجل الوحدة الإسلامية والتجمع تحت لواء الخلافة الجامعة على الصورة التي يقتضيها العصر ، ولا تختلف مع أصول الإسلام ، وعلينا أن نقدم كل العون لأخوتنا الذين ينشئون المجتمع الإسلامي في الغرب ( سواء في فرنسا - أسبانيا - ألمانيا - الولايات المتحدة ) حتى نحفظ عليهم أصالتهم فلا يفتنون في دينهم وأن نحفظ لأجيالهم الجديدة قدرتها على الأصالة والحفاظ على عقيدتها حتى لا يغتالها النفوذ الغربي أو تحتويها الحضارة المنهارة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة .
... إننا مطالبون بأن نثبت في وجه العواصف المثارة وأن نلتمس منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نطمئن الناس على أن الإسلام لن يكون إلا رحمة وسلاماً وضياء وأن منهجه الجامع بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق هو المنطلق الصحيح لمجتمع رباني يحقق العدل والمساواة والرحمة والأمن .(3/38)
... لقد عاش الغرب بنفوذه وسلطانه عقوداً طويلة يعمل على تأخير وصول الأمة الإسلامية إلى إقامة مجتمعها وتبليغ رسالتها ويحاول أن يثنيها عن جوهر إسلامها ليردها إلى مفهوم لاهوتي ، وقد وضع في طريقها العراقيل وأقام المتاريس ، وعقد المؤتمرات حول الإسلام والقرآن والرسول والنبوة والغيب والبعث ، ولكن ضياء الحق النفاذ الوهاج لابد أن ينفذ من طبقات الظلام المتكاتفة ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره )
... وفي هذه اللحظات أتذكر قول أحد الصالحين : حيث يقول " أمتنا تمر بظروف المخاض التاريخي ، فلا يغرنك ما على السطح من مؤثرات واضطرابات فهذه الأحداث هي نفسها التي تبشر بقرب ابتلاج الفجر وإن هي إلا إرهاصات الميلاد الثاني للأمة الإسلامية " فليكن هذا العقد عقد كفاح وثبات ويقين فريد من الثقة في نصر الله وأن الله قوي عزيز .
من الثورة الفرنسية إلى الحملة الفرنسية
كانت الثورة الفرنسية منطلقاً للماسونية في العالم الإسلامي
وكانت الحملة الفرنسية منطلقاً للغزو الإباحي والهدم الاجتماعي
... كان السؤال يتردد عن الثورة الفرنسية والدور الذي أحدثته في العالم الإسلامي وذلك بعد أن جرى دعاة التغريب شوطاً طويلاً في كتاباتهم في الادعاء بدور للثورة الفرنسية في اليقظة الإسلامية انطلاقاً من أن الثورة الفرنسية عملت على تحرير البشرية أو أنها كانت مصدر تحرر للعرب والمسلمين نتيجة الحملة الفرنسية .(3/39)
... والواقع أن العرب والمسلمين قد استيقظوا قبل وصول الحملة الفرنسية بأكثر من أربعين عاماً ، استيقظوا بعامل داخلي من دينهم القوي كان قادراً دائماً على استعادة الأمة إلى الطريق الصحيح كلما انحرفت عنه وأن أعلاماً من المسلمين أعلنوا الدعوة إلى العودة إلى المنابع والتماس التوحيد الخالص قبل الثورة الفرنسية بوقت طويل بل إن علماء الأزهر استطاعوا أن يحملوا حكام مصر من المماليك على التوقيع على ميثاق حقوق الإنسان المستمدة من الشريعة الإسلامية قبل أن يفعل ذلك الغرب .
... وكل ما تؤكده كتابات المحايدين في الغرب أن الثورة الفرنسية كانت المنطلق لخروج يهود أوروبا من الجيتو ودخولهم الحياة الاجتماعية بعد أن قضت الثورة على القيود التي كانت قد فرضتها الكنيسة عليهم ، وقد استطاعوا بهذه الثورة نقل أوروبا من الولاء الديني إلى الولاء القومي ، ومن هنا تمكن اليهود من السيطرة على الحياة الاجتماعية والسياسية في الغرب في سنوات قليلة وبذلك نفذوا مشروعهم في السيطرة على العالم وإقامة إمبراطورية الربا ولا ريب كانت الثورة الفرنسية بما سبقها من دعوات إلى الاستنارة ( عصر التنوير) التي تعني الإلحاد والخروج عن الدين وإنكار الغيب بما دعا إلى رجال الموسوعة ( جان جاك روسو وديدرو ومن قبلهم فولتير ) كان كل هذا تمهيداً للسيطرة الصهيونية على أوروبا كمقدمة للسيطرة العالمية عن طريق إنشاء إمبراطورية العجل الذهبي .
... ولقد أكد كثير من المؤرخين وفي مقدمتهم جوستاف لوبون في كتابة ( فلسفة التاريخ ) زيف ما نسب إلى الثورة الفرنسية من أهداف وقال : الامتيازات التي ألغتها الثورة الفرنسية كانت سائرة نحو الزوال قبل حدوثها وأن تحرير الفلاحين كأحد النتائج الكبرى التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية تم مثل هذا من قبل في بلدان أخري منها حكومة فينا وتحققت نتائج أخرى في هنغاريا ورومانيا من غير حركة ثورية .(3/40)
... ولقد أوقد اليهود ولا يزالون الحماس حول هذه الأكذوبة ، وكل ذلك يرمي إلى إعلاء شأن مخططهم ، ولكن كثيراً من كتاب الغرب كشف هذه الأكذوبة كما كشفت أكذوبة حرق يهود ألمانيا في الحرب العالمية الثانية .
... أما بلادنا الإسلامية فإنها لم تكن في حاجة إلى هذه الثورة وقد كانت على أبواب نهضة حقيقية قبل وصول الحملة الفرنسية التي جاءت لهدمها وهدم مصدرها الأساسي وهو الأزهر الشريف .
... وقد حاول نابليون أن يستميل المشايخ من رجال الأزهر كي يستجيبوا له فلما رأى أتباعهم أطلق جنود الغزاة تدمر كل شئ وقد سجل الجبرتي كيف أنهم دنسوا الجامع الأزهر ودخلوه راكبين الخيول وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته ، وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القنابل والسارات وهشموا خزائن الطلبة ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها ، هذا فضلاً عما سرقوه من تراث إسلامي يتمثل في آلاف المخطوطات التي وصلت إلى السربون ، بل لقد كشفت الوثائق مؤامراتهم في محاولة إنشاء حزب لهم في مصر بجمع خمسمائة شاب ونقلهم إلى فرنسا لتدجينهم - على حد تعبير الأستاذ محمود محمد شاكر - حيث يلقنون كيف يحتقرون بلادهم ودينهم ، فضلاً عن تغيير تقاليد البلاد .
... ولقد ثبت المسلمون في مصر لهذه الحملة حتى خرجت تجر أذيال الخزي والعار ولم تحقق أهدافها ، فقد كان المصريون يقولون : إن الفرنسيين ليسوا إلا ورثة الفرنجة الذين هزموا في المنصورة فلم يخلفوا إلا مزيداً من الكراهية للنفوذ الأجنبي .
... وليس صحيحاً ما يدعيه البعض من أن الثورة الفرنسية أو الحملة الفرنسية قد أعطت العرب والمسلمين علماً أو ثقافة ما ، إلا ذلك الوجه الرديء من التغريب والتبعية الذي تشكل في أعوانهم وأتباعهم والذي نما في أيام محمد علي بواسطة المستشرق جومار ورفاعة الطهطاوي .(3/41)
... ولقد رجعت الحملة الفرنسية تجر أذيالها بعد مقاومة لم تتوقف خلال ثلاث سنوات منهزمة وقد تحطمت كل آمال فرنسا ونابليون في إنشاء إمبراطورية في الشرق ، ولم تكن دعوة أولئك الفرنسيين إلا الإقليمية والوطنية الضيقة في محاولة لتحطيم الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية ولم يحمل الفرنسيون إلينا إلا ثقافة الكشف والإباحة والقصص الجنسي الداعر والمذاهب الملحدة والإباحية .
... ولقد أثبت كثير من الباحثين أن نابليون جاء بالحملة الفرنسية إلى مصر انتقاماً لهزيمة لويس التاسع في المنصورة وكان حرصه الشديد على تصفية الشباب المسلم المثقف من طلبة الأزهر إيماناً بمبدأ القضاء على اليقظة الإسلامية التي ابتعثها علماء المسلمين فقد جاءوا لينتقموا لهزيمة مرت عليها خمسة قرون ولذلك فقد كان هدفهم الأساسي ( إدخال الخيل الأزهر وتعطيله ) ولقد تحدث الكثيرون عن ما جمعه علماء نابليون في كتاب ( وصف مصر ) وفي الحقيقة أن ما جمعوه عبارة عن ملتقطات رأوها تؤيد وجهة نظرهم من كتابات الجبرتي بينما تجاهلوا عدداً من الحقائق التي أشار إليها المؤرخ الكبير وكشف بها عن حقدهم وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ، فقد كتب الجبرتي ما يزيد عن ألفي صفحة عنهم أما ما نقله عنه المؤرخون الفرنسيون فلا يزيد عن فقرات لا تزيد عن مائة صفحة مما وجدوه مناسباً لهم ولا يمثل الحقيقة ، حيث غلب عليها التحريف الواضح ليستنتجوا منها بعض الأكاذيب ، وأهم ما تحدث عنه الجبرتي هو النهب والسلب والحرق والاغتصاب الذي قام بها الفرنسيون وهو ما أغفلوه تماماً وتجاهلوه لأنه يدينهم .(3/42)
... والحقيقة أن قومنا عرفوا الحرية والكرامة وحقوق الإنسان قبل وصول الفرنسيين بكثير فقد علمها لهم الإسلام وقد كتبوا مع الأمراء وثيقة حقوق الإنسان قبل أن تعرفها أوروبا ، وآية ذلك أنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الغزو الفرنسي بل قاوموه مقاومة شديدة ( وهي مقاومة في الأساس لفكرهم الإباحي والوثني الملحد ) ورفض علماؤهم أن يضعوا طيلسان فرنسا على صدورهم وداسوه بالأقدام ولم يكن شعبنا المسلم في حاجة إلى من يعلمه الوطنية والحرية ويكشف عن ذلك تاريخه الطويل ومواقفه من مقاومة الحروب الصليبية والتتار وهزيمة لويس التاسع وسجنه ، في صفحات فخار شاهدة ، وقد تأكد لنابليون منذ اليوم الأول شدة مراس علماء المسلمين الذين كانوا واثقين بالهزيمة لفرنسا ثم لم يلبث نابليون أن أعلن عجزه فهرب سراً وترك جنده يتصرفون .
... فإذا تحدث بعض خصوم الإسلام عن الدور الذي قامت به الثورة الفرنسية قلنا لهم إنها كانت تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي الأصيل وإحلال بديل له من حيث الإباحة الخلقية والتهوين من شأن الانتماء الإسلامي وهدم المجتمع الإسلامي فقد تحدث المؤرخون عن أن الغزاة حملوا معهم طائفة كبيرة من النساء كان لها أثرها في خلق سيئ القدوة وتجسيد المثل وفتح باب التقليد أمام النساء في مصر للتحول تجاه أسلوب الحياة الغربية وقد أشار الجبرتي إلى الأثر الذي أحدثته النساء المصاحبات للحملة من تغيير بعض العادات والتقاليد بصورة خطرة وهو ما يدل على أن الحملة كانت غزوة فكرية تغريبية ولم تكن نهضة إصلاحية أو تمدينية كما يدعي الذين كتبوا أخيراً وكانوا كاذبين .(3/43)
... كذلك فإن الحملة اتجهت منذ اللحظة الأولى للغزو إلى ضرب المماليك كأفراد ونظام باعتبارهم يمثلون واجهة حكم مصر في المجال الإداري والعسكري ومن هنا كان منشور نابليون الذي طبعه على ظهر سفينة القيادة ( أوروبان ) طافحاً بالحقد على المماليك مكيلاً لهم شتى التهم متخذاً منهم واجهة للعداء وكان هذا طبيعياً ومتسقاً مع وجهة الحملة في الحقد على من قاوموا الحملات الصليبية ، فقد كان المماليك هم الذين حطموا لويس والحملات الفرنسية الأخرى وحرروا المنطقة من نفوذ الصليبيين بعد أكثر من مائتي عام وأعادوهم مهزومين إلى الغرب .
... ولما كان المماليك هم القوة المؤثرة الوحيدة التي استمرت على الساحة خلال عمر الحملة ( ثلاثة سنوات ) تقود أعمال المقاومة لجيش الغزو ، فقد هاجمهم الفرنسيون بشراسة وإن كانت قدراتهم القتالية والعسكرية أمكنتهم من التغلب عليم فقد استخدموا حرب العصابات في المدن لتفتيت قوات نابليون وكانوا على درجة عالية من التنظيم في معاركهم ( إسماعيل عبد الله ) .
... وبالجملة فإن القول بإعلاء شأن الحملة الفرنسية ليس إلا من دعاوى دعاة التعريب والمستغربين وقد امتلأت الكتب المدرسية بفضل نفوذهم ، وجميع المراجع الصحيحة تجمع على أن الحملة الفرنسية لم تكن مصدر نهضة بقدر ما كانت عامل تعويق للنهضة الأصيلة ، والأمم لا تتجدد من خارجها وإنما تتجدد من مصادر فكرها ومن أعماق روحها ، وليس هناك إكراه على التمدن ، إن كل تمدن بالقوة فإنما معناها تمدن الأشكال دون الجوهر كما يقول شكري فيصل ، ولقد كان تأثير معاهد الإرساليات التبشيرية في سواحل الشام وبيروت ، وأنه لولا الحملة الفرنسية لاستطاع الشرق العربي أن ينهض نهضة حقيقية وإذا كانت الثورة الفرنسية قد قصدت إلى هدم وحدة الدين في الغرب فإن آثارها ومنطلقاتها في الحملة الفرنسية كانت تجري على نفس الهدف في سبيل إذاعة الفكر الماسوني الذي استشرى بعد ذلك في البلاد العربية كلها .(3/44)
عبرة الأحداث والتاريخ
... عندما يعود أول العام الهجري كل عام فإنه يذكر المسلمين بما يحملونه من مسؤوليات إزاء أمتهم ودينهم وحاجيتهم الدائمة إلى اليقظة والعمل الدائب للتحرر من التبعية وامتلاك الإرادة وبناء المجتمع الإسلامي على قواعد الشريعة الإسلامية والعودة إلى الوحدة الإسلامية الجامعة التي عمد النفوذ الأجنبي إلى تحطيمها .
... وذلك أن قضية المسلمين اليوم في حاجة إلى جهد ضخم وإلى متابعة وعمل ، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، ولقد شغل المسلمون عن أخوتهم في عدد من المواقع حيث يحاول النفوذ الأجنبي تدمير وجودهم وإذلالهم ، وبالرغم من تنامي الصحوة الإسلامية فإن الجانب الآخر من الصورة يبدو معتماً مظلماً حيث يجري طمس معالم الوجود الإسلامي وإزالته خاصة في فلسطين والهند والفلبين ، حيث ترى المسلمين وهم مشغولون بفتات الموائد غارقون في أهواء الحياة ومطامعها ، وقد انحصرت في الحصول على أكبر قدر ممكن من المادة دون تبين أوجه الحلال والحرام غير مقدرين مسؤولية عملهم من أجل أمتهم أو من أجل دينهم وهم فيما يحصلون عليه من قليل يسلمون الكثير إلى العدو الطامع ويفعلون ذلك في ذله وخضوع لا يبالون من أمر أوطانهم أو أقوامهم شيئاً .
... فقد حرص النفوذ الأجنبي منذ أن سيطر على العالم الإسلامي أن يمزق هذه الأمة الواحدة إلى شطائر يلهى كل شطر منها بحياته الخاصة وتاريخه القديم السابق للإسلام وذلك حتى يحول بين هذه الأمة وبين التكامل والتجمع مرة أخرى تحت لواء الوحدة الإسلامية .(3/45)
... وعاد فسيطر على موارد هذه الأقاليم ولم يعط منها أهلها إلا الفتات وفرض عليها نظام الربا وسيطر على اقتصادها وأخرجها من النظام الإسلامي سواء في مجال السياسة أو الاجتماع والاقتصاد أو التربية ، وإذا كان النفوذ الأجنبي قد سيطر على المجتمع الإسلامي فحجب عنه الشريعة الإسلامية وفرض القانون الوضعي ونظام الربا فإنه ذهب إلى أخطر من ذلك بالنسبة للتربية والتعليم والثقافة حيث دمر المنهج الإسلامي في التربية تدميراً شديداً وفرغ تماماً من مفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وأدخل إلى العلوم مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربي المعارض تمام المعارضة لمفاهيم الإسلام سواء في مجال النفس أو الأخلاق أو الاجتماع حيث فرض مفاهيم فرويد وسارتر وماركس ودور كايم وكلها مفاهيم تتعارض مع مفاهيم الإسلام وبذلك تنشئ الأجيال المسلمة على غير ما رسم لهم الإسلام ومن هنا كانت مسئوليتنا عن الأجيال القادمة من الأخطار : هذه الأخطار التي نعرفها جميعاً والتي أعلنها النفوذ الاستعماري والتبشير والاستشراق والتغريب في تصريحات علنية واضحة أنهم يعملون جميعاً على تفريغ هذه الأمة من مفهوم الإسلام الأصيل وحجب روح الإسلام التي صنعت تاريخه كله والتي أعطت القوة للمجاهدين والمقاتلين والمحاربين وصناع الحضارة أن يندفعوا تحت لواء لا إله إلا الله مؤمنين بالإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع : نرى ذلك ونقرأه واضحاً وصريحاً في ( بروتوكولات صهيون ) في فلسفات الماسونية جميعاً هذه الفلسفات المادية التي تنكر البعث والجزاء وتنكر النبوة والغيب بل لقد ذهبت البروتوكولات إلى أبعد من هذا إذ أنها رسمت الخطط للاستيلاء على الشباب المسلم وتدميره بفتح أبواب الإباحيات والفساد أمامه وإرساله إلى الغرب ليعود تابعاً وخادماً لفكر الغرب ومفاهيمه ، هذا وإغرائه في وطنه بالرحلات المشتركة بين الجنسين والمصايف والعري وبث المغريات كلها في طريقه وحياته(3/46)
وفي مقدمتها المخدرات وقصص الجنس ومفاهيم الإلحاد والإباحة وخاصة ما كتبه فرويد عن الجنس.
... ولقد عشت أجيالاً متصلة يتحدث فيها العصريون ليخدعونا ويقولون لنا إن طريق الوصول إلى النهضة هو التماس منهج الغرب وقد جرينا وراء هذا الاتجاه طويلاً مغمضي العيون ، فما لبث أن وصل بنا إلى النكبة والنكسة والهزيمة الذي وصل إلى ذروتها في هزيمة 1967م ، وكانت فلسطين قد ضاعت 1948م ، وضاعت القدس 1967م .
... وبعد أن فرض علينا النفوذ الأجنبي نظامه الربوي وسيطر على الاقتصاد الإسلامي وثبت وجوده على المدرسة والمحكمة والمصرف إذ بنا ندخل مرحلة الماركسية التي خدعنا بها دعاتها وأصحابها فكان أن سقط المجتمع الإسلامي كله بين نظامين وافدين لم يقبل بهما المجتمع الإسلامي وكان أن أعلن صبيحة " الصحوة " بعد أن تكشف زيف كل ما نصحه به أولياء الاستعمار وما وراء ه من تجربة الغرب وتجربة الماركسية وكان لابد من العودة إلى الإسلام فهو وحده القادر على العطاء وهو المنطلق الحقيقي لبناء النهضة الجديدة .
لقد آن الأوان لنفهم عدة حقائق تضئ لنا الطريق إلى استكمال الصحوة وتحقيقها :
1 - آن لنا أن نفهم أن الغرب يحمل على الإسلام وأهله نوعاً شديداً من الحقد القديم مع خوف شديد من أن يستيقظ الإسلام ويسيطر وهي حملة ظالمة فإن الإسلام منذ بزغ فجره وهو يعامل الذين أظلهم بالرحمة والعدل والحب .
... جاء الإسلام إلى مصر والشام وأفريقيا وكانت تحت سيطرة الرومان فأكرم أهلها وسمح لأصحاب الديانات بحرية العبادة ووضع المواثيق برعايتهم وإكرامهم وخلطهم في المجتمع ولم يظلم منهم أحداً .
... وفي كل مكان وصل إليه الإسلام كان العدل رائده والرحمة منطلقه والتاريخ يروي في ذلك عشرات المواقف ، ولم يكن الإسلام طالباً للغزو أو داعياً إليه ولكنه كان ينتشر بالدفع الذاتي والسماحة ولن يكون يوماً إلا هكذا .(3/47)
... وهو لم يعرف في تاريخه كله ما يسمى بالدولة الثيوقراطية التي عرفتها أوروبا بل كانت الدولة الإسلامية على مدى التاريخ دولة مدنية تقوم على شرع الله تبارك وتعالى ومنهجه الرباني المضيء الذي أسعد الأمم التي أخذت به .
... لقد عاش الإسلام أكثر من ألف عام وهو يضئ للبشرية طريقها ويقدم لها المدنية والحضارة ويفتح لها أبواب الخير والرزق الحلال ويحررها من التبعية للربا أو الإباحة أو الفساد .
2 - آن لنا أن نفهم : أنه ليس هناك منهج من المناهج الوافدة التي عرفتها البشرية في تاريخها كله والتي عرفتها اليوم وهي منذ تركت منهج الله فهي تدور في دوامة خطيرة نراها اليوم في انهيار الحضارة الغربية وفسادها وعجزها عن العطاء ولقد جرى الغرب للبحث عن منهج ( أيديولوجيا ) فلم تستطع الليبرالية أن تحقق العدل والرحمة ولما أنشأ الغرب الاشتراكية كرد فعل للرأسمالية وبعد سبعين سنة سقطت لأنها عجزت عن العطاء ومهما ذهب الغرب إلى مذهب أو آخر لتحقيق الأمن الاجتماعي فإنه لن يستطيع أن يصل إلى شئ .
... وليس غير الإسلام وحده القادر على هذا العطاء ، ومن هنا فإن على أمتنا أن تكون واعية لا يخدعها بريق هذه الحضارة المزخرفة فإنها لن توصل إلى شئ وأن الارتباط بها لن يحقق للمسلمين أصحاب المنهج الرباني أي شئ وسيظلون يعيشون في التيه حتى يخرجوا من هذه الدوامة المظلمة والدائرة المغلقة وهذا يتطلب العزيمة والقدرة على التغيير .
... وهناك علامات موجودة الآن في الفكر الإسلامي يمكن الانطلاق منها إلى الأصالة وإلى المنابع .
... وليس العودة إلى المنابع يعني العودة إلى تطبيق التراث وإنما نعني بالمنابع: ذلك المنهج الرباني ( القرآن والسنة ) وهو ليس داخلاً في التراث الذي يمثل ما كتبه علماء الإسلام والذي يهتدي به في النظر إلى الوقائع المماثلة .(3/48)
... إن التماس منهج الله تبارك وتعالى ليس مما يدخل في مصطلحات العلمانيين كالقديم والتراث السلفية ( وهي عبارات لها معناها في موضعها ) وإنما منهج الله هو ذلك الصراط المستقيم الذي هو المنطلق الوحيد لإعادة بناء هذه الأمة لمجتمعها ومستقبلها .
3 - أن الصحوة الإسلامية قد أخذت فعلاً طريقها الإيجابي فبعد أن عاش الفكر الإسلامي أكثر من خمسين عاماً في مجال الدفاع ورد عادية الشبهات التي يطلقها الاستشراق والاستعمار انتقل إلى مرحلة العمل فبدأت عمليات حقيقية جديرة بالاعتبار :
... أولاً : أسلمة العلوم والمناهج والمصطلحات .
... ثانياً : إيجاد البدائل الإسلامية للمطروحات الغربية .
... ثالثاً : التفسير الإسلامي للتاريخ .
... رابعاً : التأصيل الإسلامي للفكر المعاصر
... وهذه الخطوة الحاسمة في مطالع القرن الخامس عشر توحي بأن الطريق من الصحوة إلى النهضة أصبح قريباً وأصبح ميسراً .
... وسوف يظل القرآن الكريم والسنة النبوية هما منطلق الفكر الإسلامي وصولاً إلى قيادة الفكر البشري كله وتصحيح أخطائه والأدلة عن معطياته المنحرفة بالتعدد والتجسيم والإباحيات عودة إلى منهج الله ولقد كشفت التجارب العلمية في مجال الكواكب والأفلاك والإنسان حقائق حديثة أدخلت عشرات العلماء في الغرب في الإسلام وقد نشأت طوائف جديدة تؤمن بأن الإسلام وحده هو المنطلق الحقيقي للمجتمع الأصيل ، وهي خطوات تبدو وئيدة ولكنها ثابتة وسوف يتحقق الهدف في القريب وتزول الغواشي .
التراث الإسلامي
( 1 ) هل يمكن أن يتساوى التراث الإسلامي والغربي ؟.
( 2 ) الدور الذي يقوم به خصوم التراث .
( 3 ) أهداف تزييف التراث .
( 4 ) كتاب جديد يكشف عن عطاء التراث .
( 5 ) في مواجهة الحملة على التراث .
( 6 ) محاذير في محاولة فصل الحاضر عن الماضي والتراث .
التراث الإسلامي
هل يمكن أن يتساوى التراث الإسلامي
والتراث الغربي وأنه لا فرق بين الأخذ من أحدهما ؟(3/49)
... أصبح من الضروري اليوم أن يقف المسلمون موقفاً حاسماً من الفكر الغربي الذي فرض على مناهجهم المدرسية والثقافية والاجتماعية خلال أكثر من قرنين من الزمان من خلال الاستشراق والتبشير والإرساليات التبشيرية والصحف والأندية والهيئات المختلفة في محاولة لاحتواء الفكر الإسلامي وتدميره وإثارة الشبهات حول حقائقه ومحاولة إقناع الأجيال المختلفة من شباب الإسلام بأنه ( أي الفكر الغربي ) هو المنطلق الحقيقي للنهضة التي يتطلع إليها المسلمون .
... وفي البدء يجب التفرقة بين الفكر الغربي والعلوم التجريبية ، هذا الفكر الغربي الذي يتمثل اليوم في العلوم الاجتماعية والإنسانية والذي يدور حول النفس والاجتماع والأخلاق والتربية والذي يقوم أساساً على الفلسفة المادية والعلمانية والمصادر الوثنية للفكر اليوناني والروماني والتراث الغربي المستمد من الأساطير والخرافات وآلهة الرومان والهلينية والغنوص الشرقي وتراث المجوسية الفارسية والهندية .
... أما العلوم التجريبية فقد اتخذ الغرب قراراً منذ بدأ اجتياحه للبلاد العربية والإسلامية أن يقف سداً منيعاً دون حصول العرب والمسلمين عليه ليظلوا أبد الدهر بمثابة مصدر للخامات وسوق للمنتجات الغربية المصنعة ، ولقد بدأت محاولة احتواء الإسلام وفكره وعقيدته ومحاصرته في دائرة الفكر الغربي على مراحل متعددة خلال القرنين الماضيين :
المرحلة الأولى :
... مرحلة كرومر في مصر وليوتي في المغرب وهي محاولة تكوين أجيال من المتفرنجين ليكونوا خلفاء للاستعمار عند انسحابه وقد أقام كرومر ربع قرن يدعو إلى تكوين هذا الجيل لتسليمه قيادة الحكم وكذلك فعل كل ممثلي الاستعمار الفرنسي والبريطاني في الشرق والهند وفعل غيرهم في إندونيسيا والملايو مثل ذلك .
المرحلة الثانية :(3/50)
... ثم جاءت المرحلة الثانية من خلال الذين كونهم الغرب وهم يملكون مصادر القوى الثقافية : سعد زغلول ( التعليم ) ولطفي السيد ( الصحافة ) وعبد العزيز فهمي ( القانون الوضعي ) ، ثم جاء الجيل الذي صنع في الغرب من أمثال طه حسين ومحمود عزمي وعلى عبد الرازق وسلامة موسى كل في ميدانه وكانت الصيحات العالمية في الشعر الجاهلي والإسلام وأصول الحكم والدعوة إلى العامية ويمكن تمثيل هذه المرحلة بعبارة طه حسين الشهيرة :
( إن علينا أن نأخذ الحضارة الأوربية خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ما يحمد مناه وما يعاب ) .
... وقد كان هذا الجيل : جيل التنوير الظلامي قد خدع العرب والمسلمين خدعة كبرى حين ادعى أنه ناصح لهم بأن يأخذوا طريق الغرب وفكر الغرب فهو وحده الطريق الذي يمكنهم من التخلص من نفوذ الغرب .
... وكان هذا من التمويه الخادع الذي غش به قادة الفكر التنويري الوافد أممهم وبلادهم وأهليهم والذي لم يتكشف إلا بعد النكبة والنكسة حين سقطت فلسطين في يد الصهيونية 1947م ، وحين سقطت القدس في يد اليهود 1967م .
المرحلة الثالثة :
... حين جاء الماركسيون بنفوذهم الفكري والسياسي ليتحدثوا وهم مصدر هزيمة 1967م عن الدولة العصرية ولكن الأحداث كشفت أنهم كاذبين في معاداتهم للعرب إزاء إسرائيل وكانوا بحسب قانون العلاقة بين الشيوعية والصهيونية ، وأن الشيوعية من ثمار الصهيونية ، عاملاً خادعاً انتهي بهزيمة العرب الذين لم يقبلوا مفهوم الإسلام في الجهاد وأصروا على أن تكون قضية فلسطين قضية عربية قومية وليست قضية إسلامية .
المرحلة الرابعة :(3/51)
... كانت دعوى الجيل الذي تشكل من بعد : الجمع بين الإسلام والفكر الغربي ، وقال أحدهم : عقل أوربي وقلب مسلم ، وتحدث الكثيرون عن عملية مزاوجة بين الروحية الإسلامية والمادية الغربية ، كما دعا إلى ذلك زكي نجيب محمود ، وتحدث البعض عن تراث إسلامي ومعاصرة غربية ، ودعا البعض إلى تنقية التراث ودعا آخرون إلى أن نأخذ من التراث ما يتفق مع العصر وتحدث الآخرون عن القرآن والسنة بوصفهما من التراث وطالب بأن نحاكمهما إلى ما حاكم الغرب به تراثه الديني والوثني .
... وكان هذا كله بمثابة عملية تضليل وتمويه شديدة لخداع الشباب المسلم عن عقيدته وعن قرآنه وعن السنة المطهرة وعن منهجه الرباني الذي يختلف اختلافاً واسعاً وعميقاً عن الفكر الغربي ( البشري الأصل والمادي والإباحي ) .
المرحلة الخامسة :
... وتجئ المرحلة الخامسة اليوم في دعوى عريضة يحملها بعض المفكرين تحت اسم ( الاستغراب ) وهي التحرر من النموذجين السلفي والأوروبي جميعاً وذلك في محاولة لوضع التراث الإسلامي في صف الفكر الغربي الوافد والتخلص منها جميعاً لا يعني إلا التخلص من التراث الإسلامي وغلبة الفكر الغربي ، فإذا سألت إلى أين بعد ذلك ؟ : لم يكن أمامنا إلا الحضارة الغربية المنهارة الغاربة التي لم تقم حتى اليوم أي قاعدة إنسانية حقيقية ، وأخطر ما في هذه المحاولة الماكرة : وضع التراث الإسلامي في صف الفكر الغربي المادي الوثني الذي كشفت الأبحاث فساده واضطرابه وعدم قدرته على العطاء واستسلامه للأهواء والإباحيات والزيف بينما ما يزال التراث الإسلامي يعطي المسلمين أضواء كاشفة للتعرف إلى طريقهم الرباني واستمداد هذا التراث أصلاً من مصدرين ثابتين ربانيين هما القرآن والسنة .(3/52)
... ولقد أصبحت دعوة التغريب تتجاوز الوسطية والتوفيق بين الإسلام والغرب إلى عرض مسموم هو إلغاء التراث الإسلامي كله والوقوف أمام البشرية بغير إسناد حقيقي ، ذلك أن التخلص من الفكر الغربي ليس في حقيقته إلا دعوة لإلقاء أنفسنا في أحضان الحضارة الغربية القائمة اليوم والتي ليس أمام من يترك تراثه ومنهجه إلا أن يقبل بها وينصهر فيها مضطراً .
... وما كان المسلمون ليقبلوا بالانصهار في الفكر الغربي أو الحضارة الغربية وهم على أبواب الصحوة الإسلامية التي سوف تنقلهم إلى الطريق الصحيح ، إلى الأصالة وإلى العودة إلى المنابع بعد أن واجهوا هذه المراوغات الخادعة التي لم يكن منها شئ خالص للحق أو للفطرة أو للوصول إلى الغاية الحقيقية وإنما كان كل ذلك خداع وتضليل .
... يقول الدكتور إبراهيم عوضين : إن الحقيقة التي يجب أن تقوم عليها يقظتنا اليوم هي : أن الفكر الغربي محدود ناقص وأنه تشويه للفكر الإنساني أو تزييف له لأن الفكر الإنساني الحقيقي بذلك الوصف يجب أن يشمل كل المقومات الفطرية للإنسان من عقل وعاطفة ووجدان ومادة وروح وليس كما قرره الغرب من أنه الفكر الإنساني في العالم الذي لا يعدله فكر والذي يجب أن نظل مبهورين به ونفسح له الريادة ونجعله محور دراستنا العلمية التي لا يصح أن يتجاوز النظر فيما لدينا من فكر على ضوء الفكر الغربي ، لتقرير مدى قرب فكرنا من هذا الفكر السيد ( ! ) ، فإذا بالغ الدارس أضاف إلى ذلك ما يثبت أن هذا الفكر الغربي ليس جديداً وإنما هو مسبوق بما يماثله من فكرنا القديم .(3/53)
... ويقول : إن مذاهب الفكر الغربي في مجملها لم تكسب عالميتها من اشتمالها على المقومات الإنسانية الفطرية بنسبها المتوازنة ، ولكنها كسبت تلك العالمية من إعلاء صوتها والإلحاح على العالم بها في ظل التسلط الاستعماري الأوربي على الكثير من بقاع العالم خاصة عالمنا الإسلامي فهي شهرة وذيوع وليست عالمية كما نرى لأن العالمية كما نرى إنما تعني ارتباط الفكر بالعالم أي الإنسان شرقياً كان أم غربياً ، معاصراً كان أم طواه الماضي أم مازال رهن المستقبل الآتي .
... فالفكر الإنساني يتعامل مع الإنسان في مختلف بيئاته وفي شتى ظروفه وهذا هو الذي يميز تعامل الدين السماوي مع الإنسان وتعامل مفكر ذائع الشهرة ( مثل أفلاطون وأرسطو ) مع الإنسان ، فأفلاطون كان يتعامل بفكره مع إنسان بعينه وكان يعيش معه في زمن واحد وعلى أرض واحدة وفي ظل ظروف واحدة ، أما الدين السماوي فإن صدوره عن خالق الإنسان والكون يجنب فكرة الوقوع في هذه الخصوصية التي يقع فيها الفكر البشري الصادر بعيداً - أو مبتعداً - عن الوحدة الإسلامية الشاملة " أ.هـ(3/54)
... وبعد فقد تدرج التغريب في محاولة ربطنا بالفكر الغربي من خلال مراحل كثيرة كان فيها الفكر الإسلامي قادراً على الصمود وعلى الثبات في موقعه فقد علمه الإسلام أن يكون قادراً على الخروج من الأزمة لا تحتويه المناهج غير الربانية مهما بدا في ظاهر الأمر أنها مقبولة لديه أو فرضت عليه لقد كتب الباحثون عشرات الأبحاث والأطروحات حول الفكر الغربي وكشفوا زيوفه وأخطاءه ومعارضته للفطرة الإنسانية وكونه قصور بمثابة ردود أفعال لواقع مضطرب وليس حقائق علمية أساسية صالحة لكل زمان ومكان وأنها في الأغلب وجهات نظر وتجارب بشرية تخطئ وتصيب ، وشر ما فيها وأسوأ ما فيها أنها تتمثل في جانب واحد من النفس الإنسانية فهي مادية أساساً لا تعترف بالروح ولا بالنفس ولا بالوحي ولا بالغيب ولا بالآخرة ولا بالجزاء الأخروي فهي انشطارية عاجزة عن الاستجابة الحقيقية للإنسان المشكل من الروح والمادة ، ومن هنا كان الإسلام والفكر الإسلامي أوسع نطاقاً فهو مادة وروح ودنيا وآخرة وأنه جماع خبرة ما في المذهبين المتصارعين في العالم على مدى العصور الفردية والجماعية التي تمثلت في العصر الحديث في الصراع بين الرأسمالية والماركسية ، أو تتمثل في الفكر الهندي والبوذي الوثني في مقابل الفكر المادي الغربي .(3/55)
... وقد أكدت الدراسات والأبحاث أن الفكر الغربي المعاصر نشأ في ظروف خاصة ولم يكن فكراً عالمياً وأن خير ما فيه من فكر وإبداع ما نقل إليه من الفكر الإسلامي وأن التراث الغربي ليس تراثاً إنسانياً عاماً يحتوي على نموذج التجربة البشرية بل هو فكر مرتبط بالبيئة والعصر الذي نشأ فيه وليس فكراً إنسانياً أو صالحاً للأمم والشعوب وأن الفكر الإسلامي بالنسبة له عامر بالمعطيات الخالدة في الفقه والسياسة والاجتماع والاقتصاد فقد أضاء البشرية كلها ألف عام كاملة ذلك لأن هذه المعطيات التي كتبها العلماء والفقهاء والمسلمون إنما استمدوها من القرآن الكريم والسنة النبوية وهما المصدرين الخالدين على مدى العصور .
... لقد تكشفت هذه المذاهب العالمية التي انتشرت في القارات الخمس عن إنها ناقصة وجزئية وموقوتة ، وكذلك قال الباحثون عن فلسفات ماركس وسارتر ودوركايم وفرويد وفي عشرات المؤتمرات كشفوا الأخطاء والنواقص وتبين أن هذه لم تكن علوماً كما يدعي البعض في معاهد الدرس ولكنها فروض قدمتها عقولاً بشرية قابلة للخطأ والصواب ، وأنها موقوتة لا تصلح لعصور غير عصرها أو بيئات غير بيئاتها .
* ... * ... *
... إن مقولة أصحاب مذهب الاستغراب بأنه لا فرق بين الأخذ من السلف والأخذ من الآخرين باطلة تماماً ، وأن الموقف للعقل العربي ليس من التراث الإسلامي ولا من التراث الغربي ولكن من الواقع الحالي .
هذا النص غامض فما هو الواقع الحالي ؟ وهل يمكن أن تعيش أمة على واقع ليس له ماض وليس له تراث ، وهل يمكن تجريد الأمة الإسلامية من ماضيها لتعيش في واقع مجهول مظلم ليس فيه غير الطامعين في احتواء الإسلام والمسلمين ، وهل يمكن أن تعيش أمة بغير حصانة ، وهل يمكن أن يوضع التراث الإسلامي والتراث الغربي في مقايسة واحدة ، وأن يرفض التراث الإسلامي من أجل سيطرة التراث الغربي ، وما هو الواقع الحالي وما مكوناته ؟ .(3/56)
... إننا نحن المسلمين لا نأخذ من التراث ولكنا نستضئ به ونجعله هادياً لنا في تفسير منهجنا الرباني ( القرآن والسنة ) وليس الأخذ من التراث الإسلامي للمسلمين تقليد ولا يمكن أن يوضع التراث والفكر الغربي في درجة واحدة لأن التراث الإسلامي
يستمد من القرآن والسنة بخلاف الفكر الغربي المستمد من مصادر الوثنية والأساطير اليونانية والرومانية والفكر اليهودي والمسيحي وهل يستوي ابن تيميه والغزالي مع ماركس وجون ستوارت ، وكل يمكن اعتبارهما حركتان سلفيتان يجعلان من النقل أساساً للعقل .الحق أن فيلسوفنا قد تجاوز الحقيقة حين قال ( وإذا أنا تجاوزت التراث الإسلامي فلماذا أعود : أعود إلى الحقيقة إلى الطبيعة ! هل هذا كلام يقبله العقل ، وهل يقبل المسلمون أن يتركوا تراثهم لبناء مجتمعهم الجديد على ( الواقع ) و ( الطبيعة ) .
... وهل عاد الغرب إلى الطبيعة عندما بنى نهضته المعاصرة أم عاد إلى تراثه القديم بما فيه من أساطير وخرافات اعتمدها فرويد وسارتر وغيرهما في قواعد فكرهم الجديد .
... هذا كله يؤكد لنا أن دعوة الاستغراب بهذه الصورة دعوة باطلة ، ولكنا نرجو أن يكون كتابنا العصريون خير من المستشرقين والمبشرين ، نحن في حاجة إلى موقف حاسم يرد عنها عادية التغريب والاستغراب معاً ويعود بنا إلى الأصالة والمنابع : القرآن والسنة .
محاولة هدم التراث
هذا الدور الخطير الذي يقوم به الماركسيون القوميون
في العبث بالتراث الإسلامي وهدم البيان القرآني(3/57)
... إن هذه الظاهرة الخطيرة التي نجدها تتنامى هذه الأيام وتتسع رقعتها وتتماثل صورها وتتوحد منطلقاتها لتوحي أن الماركسيين حين أحسوا بعجزهم عن العمل تحت لواء المطرقة والسندان ، وقد سقطت أعلامهم وتكشفت مؤامراتهم ، ولم يعد أحد يستمع إليهم غيروا من جلدهم فادعوا انفصالهم عن المنظمات الشيوعية وأخذوا يتحركون في ميدان جديد هو ميدان التراث ، يتضح هذا حين تراقب هذه الفلول التي كانت سادرة في غيها منذ قليل وقد أخذت تغير طريقها .
... وتمتد الرقعة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، من خلال عابد الجابري وعزيز الجبالي و ....إلى أودنيس ( على أحمد سعيد ) إلى جمال الغيطاني ، وإلى يوسف القعيد ، إلى الأبنودي '، إلى غالي شكري وعبد المعطي حجازي إنها مؤامرة مدمرة ترمي إلى هدم البيان العربي والبلاغي وأسلوب الكتابة العربي بإدخال أساليب مضطربة غالية مسرفة في اللعب وإفساد المعاني وإعلاء العاميات واستغلال بأصالته وتماسكه وأحكامه الذي جاء من مصدره الأعلى : القرآن الكريم والسنة النبوية .
... ولقد مضى على هذا الطريق بعد أن سقطت محاولة المهجرين قوم آخرون في مقدمتهم القس يوسف الخال أستاذ أدونيس وصانع هذه المؤامرة الضخمة التي ما يزال أدونيس يخب فيها ويضع ، وخدع لهذا كثيرون من أبناء أمتنا الذين عجز تعليمهم العصري عن أن يكشف لهم عظمة البيان العربي وبلاغة القرآن وكرامة المنهج الرباني الأصيل فاندفعوا وراء هذه الأهواء وغرتهم الأماني وخدعهم بريق الأهواء التي تصاحب هذه الدعوات من ليال حمراء وخمر ونساء .
... ومن وراء ذلك كله قوى تريد أن تحطم وحدة البيان العربي وكسر قيد العربية وفصل اللغة العربية عن القرآن الكريم وهي محاولة مستميتة تتفق عليها قوى عظمى ، وتعمل لها أسماء لامعة ، وشخصيات ذوات نفوذ في كل قطر عربي .(3/58)
... لقد اتجه الماركسيون إلى اللغة والبيان العربي لإعلاء شأن الفكر الباطني وإحيائه : إحياء ابن الراوندي والحلاج وابن سبعين ، وجاء جماعة ليكشفان عن شخصيات أخرى من أمثال ابن النظري ، واتسعت الدائرة بشعر الباطنية الذين كانوا يعملون على هدم الدولة الإسلامية في سبيل إقامة دولة الزنج والقرامطة ودولة المزدكية وغيرها من دول فاسدة باطلة .
... وهو مخطط لم يجد الطريق مفتوحاً أمامه يوماً وقد يظن أن التغريب قد وصل بالمسلمين اليوم إلى الحد مفاهيم السريالية والحداثة في جولة واسعة تقتحم البيان العربي وتخلطه وتثير فيه مختلف أنواع الفساد والاضطراب على نحو يراد به استحداث أسلوب جديد بعيد عن الأسلوب العربي القائم على بلاغة القرآن .
... وتتصل هذه المؤامرة بكل أطراف العمل الأوربي ، والتراث والقصة ، واستغلال مفاهيم الخيال والظلال والأضواء وتتخذ من ميراث أسلوب المهجرين منطلقاً إلى غايات أبعد وأساليب أشد غموضاً ، ومعاني وكلمات من مصطلحات الباطنية والتصوف الفلسفي والأساطير وكتابات التحلل والإباحة من ناحية وكتابات الاغتراب والعبثية واستخدام أساليب الوجودية وشرائح الجنس التي رسمها فرويد مختلطة بمذاهب العدمية وذلك بخلق عوالم جديدة مما يطلق عليه جمال الغيطاني التجليات مزخرف ملئ بالفساد والإباحة والسموم الناقعات في عملية خلط مريبة عجيبة تصفق لها بعض الجهات وتحتضنها وتفسح لها المجال وتدفع لها الجوائز وترى أنها بمثابة فتح جديد في عالم الأسلوب العربي والقصة .(3/59)
... وبينما يجري هؤلاء في مجال القصيدة النثر ، أو الموال ، أو القصة ، ترى المجموعة الأخرى تحاول أن تصور الفكر الإسلامي وكأنه ربيب الفكر الباطني الوثني الذي جدده الزنادقة والملاحدة في العصر العباسي من أجل أن يدخلوا الفكر الغنوصي الشرقي والفكر الوثني اليوناني في آفاق الفكر الإسلامي ليذهبوا الذي يمكن لهؤلاء الدعاة في هذا الثوب الجديد من بلوغ غايتهم والواقع أنهم مخدوعون يغرهم ما يجدون من احتفاء بهم في أوساط حاقدة على الإسلام والقرآن وهي تحارب اللغة العربية والبيان العربي من أجل أن تجد منفذاً لحجب القرآن عن البشرية ظناً منهم أن ما حدث للغة اللاتينية يمكن أن يحدث للعربية .
... ومن هنا فنحن نحذر من كتابات هؤلاء جميعاً وعلينا أن ننظر إليها في حذر شديد ولا يغرنا تلك المحافل الضخمة التي قد تقام لهم هنا أو هناك أو ما يتحدث به عنهم المتحدثون في الصحافة أو التليفزيون فذلك كله جزء من المؤامرة المرسومة وسوف تتساقط أوراق الخريف تباعاً وسوف لا يبقى إلا الحق ، فالحق يعلو وهو في دولة قائمة إلى قيام الساعة .
* ... * ... *(3/60)
... لقد كان الفكر الإسلامي الأصيل أساساً قائم على جماع القيم العقلانية والوجدانية في توازن محكم ، ومن خلال منهج علمي سليم ، ولقد وقف هذا الفكر منذ اليوم الأول لكل محاولات احتوائه أو تزييفه أو هدم مقوماته ، ووقف أساساً أمام الفكر اليوناني والفارسي والهندي القديم القائم على الوثنية وأنكر إفرازاته سواء في الفكر المعتزلي أو الفكر الفلسفي أو الفكر الباطني ( التصوف الفلسفي ) ووقف علماء المسلمين من هذا كله موقف الرفض المطلق ودحض كل الأخطاء والشبهات حتى يجئ اليوم من يدعون أنهم أولياء التراث الإسلامي ودعاته من هؤلاء الخصوم المكره فإذا بهم يحاولون إحياء تراث الباطنية والرفض ويرون أن هذا من صميم الفكر الإسلامي ، على هذا النحو الذي يحاوله الجابري في كتاباته المضللة التي تحاول أن يجعل فكر ابن الراوندي والحلاج وابن سعبين وغيرهم من عتاة الباطنية فكراً أصيلاً ، بل إن ( أودنيس ) يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن هذا الفكر الرافض الهدام الذي قاد معارك الفرنج والقرامطة والراوندية وغيرهم هو الفكر الأصيل ، إنه مؤامرة خطيرة طرفاها من يعتبره فكراً إسلامياً ، أو من يعتبره أدباً رفيعاً وكل منهما يذهب بعيداً في الاغتراب والتضليل وما يمكن أن يقبل أحد منهم هذا الاتجاه المظلم الذي تحوطه شبهات وأهواء ومطامع ومن وراءه قوى كبرى تغذيه بهدف تدمير مفهوم الإسلام الأصيل .
... ثم تأتي بعد ذلك محاولات الغيطاني في الكتابة بهذا الأسلوب الرديء المقرر الذي يعتمد مفاهيم السريالية والوجودية وكلمات الاغتراب والتهويم والضلال فلا يقرأها القارئون إلا ساخرين مستهزئين ، معجبين لأن تفسح لهذه الكلمات التافهة مجالات النشر في صحف كبرى وفي دور نشر معلومه .(3/61)
... وبعد فقد انكشف هذه المخططات ولم تعد تخفى على أحد ولم تعد قادرة على أن تكسب إلا المغرورين والبسطاء والتافهين ومهما اتسعت الدائرة من مغربي المغرب إلى مغربي المشرق ، ومهما تعددت النزعات وجودية وعلمانية وإباحية وعدمية وباطنية فإنها تصدر عن قوس واحدة وأساسه الهدم ولن تجدي الخطط في كشف الزيف.
حول قضية كتاب سليمان رشدي
هذه المؤامرة الخطيرة لها جذورها وأبعادها
ولن تخدع أحداً أهداف تزييف التراث
... ركز الغزو الفكري والتغريب في سبيل تنفيذ مخططه الذي يرمي إلى تزييف مفهوم الإسلام الأصيل الجامع - بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع - على عدة عوامل أساسية :
أولاً : إحياء التراث الوثني الباطني القديم الذي أطلق عليه فكر طفولة البشرية والذي ... ضم إليه الإسرائيليات والفكر الإغريقي والفكر الغنوصي ومفاهيم التناسخ ... والزقانا والعقول العشرة ونظرية العنصرية وأساطير اليونان ( زيوس وباخوس ... وجوبيتر الخ ).
... هذا الفكر الذي جاء الإسلام لهدمه والكشف عن فساده والذي دحضه علماء ... الإسلام عندما ترجم تراث اليونان والفرس ، والذي أعاده الماسون إلى الحياة ... من أجل تسميم المنابع والحيلولة دون استطاعة البشرية الوصول إلى التوحيد ... الخالص .
ثانياً : تكوين أجيال من المسلمين أنفسهم تحتضنهم المنظمات المعروفة ( التبشير ... والاستشراق ) وتشكلهم في معاهد خاصة ليكونوا من المتصدرين لقيادة الفكر ... والمجتمع في بلادهم .
ثالثاً : تقديم " هدايا " فكرية معدة ومركزه لهؤلاء المغربين ليحملوا لواءها وليتقدموا بها ... إلى قومهم وهي عبارة عن سموم مستقاة من كتب الملاحدة والباطنية وبذلك ... يمكن أن تختفي الحملة على الاستشراق والتبشير ، بعد أن تركز في عناصر ... من أهل البلاد أنفسهم ممن تصعد أسهمهم وتركز عليهم الأضواء وتفسح لهم ... المجالات في الصحافة والجامعات ومختلف مجالات التبريز حتى يكونوا هم قادة ... الفكر الحقيقيين والمتصدرين.(3/62)
... وقد بدأت الخطة بطرح نظرية دارون التي فتحت الباب واسعاً أمام الإلحاد وأمام ماركس وفرويد وسارتر ودور كايم بكل سمومهم ، ثم كان أن فتح الباب واسعاً بالدعوة إلى ( الشك الفلسفي ) والذي ركز كثيراً على القرآن وحاول أن يصوره بصورة بشرية ، واستطاع أن يتخذ مما كتب أمثال جولد تسيهر ومرجليوث مدخلاً إلى قرآن مكي وقرآن مدني ، وفتح الباب واسعاً أمام الدعوة إلى نقد القرآن بوصفه كتاباً أدبياً جرياً وراء ما قام به الغربيون في فقه الكتاب المقدس .
... وجاء من يقول بأن القرآن ليس إلا ما جاء في كتب سبقت ، كانت كل هذه محاولات قام بها طه حسين ومحمود عزمي وأمين الخولي وعلى عبد الرازق في أحضان الدعوة إلى التجديد وإلى هدم القديم .
... لقد كانت محاولة خطيرة لحصار الدعوة الإسلامية ومفاهيم الإسلام في محاولة لحبسها في مفهوم الدين اللاهوتي القاصر على الصلاة والصيام حتى يظل الطريق مفتوحاً أمام القانون الوضعي والنظام الربوي والتعليم العلماني المفرغ من العقيدة والأخلاق ولم تسلم اللغة العربية من الحملة بوصفها وعاء القرآن الكريم .(3/63)
... وقد نجحت هذه الخطوات كلها وتحقق شئ كثير منها ، وقد كان النفوذ الغربي يرمي إلى تدمير بعض القيم الأساسية وإحياء بعض الشبهات والتركيز عليها لتصبح مسلمات في نظر الأجيال الجديدة ، ومن ذلك تلك المحاولة الخطيرة التي ركز عليها النفوذ الغربي حين حاول إعادة كتابة تاريخ الإسلام على نحو يوحي بأن الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي لم يطبقان إلا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخليفته أبو بكر وعمر ثم انتهى أمره ، حيث لم يجد قبولاً من النفس العربية وذلك على النحو الذي حاول الدكتور طه حسين أن يصوره بكتابيه عن الفتنة الكبرى ( عثمان - علي ) وكان الهدف من ذلك أن يتصدر كاتب مشهور لامع في محاولة للتشكيك في صحة المنهج الإسلامي وسلامته وهو ما تجدد من بعد على أقلام حسين أحمد أمين وفرج فودة وغيرهما ، وقد أهدى الاستشراق والتغريب ( رسائل كثيرة ) إلى كتاب كثيرين منها كتاب مرجليوث المستشرق اليهودي إلى الشيخ على عبد الرازق الذي صدر من بعد تحت عنوان ( الإسلام وأصول الحكم ) في محاولة لإنكار مشروعية الخلافة ( الإمامة العظمى ) والادعاء العريض الكاذب بأن الإسلام لم يكن إلا دينا روحياً ( لاهوتياً ) وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حاكماً ولا منظماً لمجتمع وإنما كان مجرد إمام للصلاة ، هي دعوى باطلة دحضها كل مفكري الإسلام وتبين أنها جزء من مخطط يرمي إلى التشكيك في أصالة النظام الإسلامي وإنه منهج أساسي لتنظيم المجتمع البشري .
...
ولا شك أن ذلك كله كان يهدف إلى أمرين أساسين :(3/64)
الأول : استبقاء المجتمعات الإسلامية مضللة ومسيطر عليها من النفوذ الأجنبي وخاضعة للقانون الوضعي ومهزومة في مجال ( المحكمة - المدرسة - المصرف ) حيث حجبت القوى الاستعمارية ومن بعدها القوى الحاكمة في أغلب بلاد الإسلام النظام الإسلامي استبقاء لنفوذ هذه القوى وقدرتها على السيطرة والتهام ثروات هذا المجتمع ولم يكن ذلك بقبول الأمة ولكن كان مفروضاً عليها مرغمة عليه .
الثاني : صد المتطلعين من أهل الغرب إلى الإسلام ومحاولة الحصول من علماء المسلمين على تصريحات وكتابات توحي بأنه ليس بين الأديان السماوية خلاف ما ، مع تجاهل عالمية الإسلام وحده وأنه الدين الخاتم الذي يحمل شريعة إنسانية للبشرية كلها ، وهذا ما حاولته خطه ( الحوار ) وبذلك يمكن صد المتطلعين من مثقفي الغرب إلى النجاة بالإسلام عن تطلعهم .
... واستكمالاً لهذه الغاية الخطيرة ( وفي جو أعلن فيه مئات من مثقفي الغرب إسلامهم إيماناً بأن الإسلام هو الدين الوحيد القادر اليوم على إعطاء النفس البشرية سكينتها وتمكينه لها من تحقيق كل رغباتها النفسية والاجتماعية في إطار من التنظيم والضوابط وإقامة الأمن والسكينة ، نقول استكمالاً لهذه الغاية الخطيرة ووضع معلم جديد هو تسديد هجمات شديدة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى القرآن الكريم وإلى الإسلام عن طريق بعض المسلمين الذين أمكن احتوائهم في دائرة الغرور النفسي والمطامع الفردية والحوافز العالمية ، في نفس الوقت الذي يجري النفوذ الغربي حمايتهم والدفاع عنهم
... ومن هنا أخذ بعض كتاب شرقيين ( مسلمون اسماً ) في جرأة شديدة إنفاذ حملات ضارية على الإسلام مستغلين بعض الأساطير والإسرائيليات وعبارات التهجم الصارخ التي قذفها أمثال كرومر ودنلوب وزويمر ليفتح الباب واسعاً أمام هذه المؤامرات .(3/65)
... ولقد كان التركيز في الحقيقة يرمي إلى التطاول على الذات الإلهية ( سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ) نجد هذا واضحاً في شعر عبد الوهاب البياتي وعلي أحمد سعيد ( أودنيس ) وصلاح عبد الصبور وشاكر السياب حيث تناولوا الحق تبارك وتعالى في عبارات سيئة جداً تعف أخلاقنا عن أن نرددها ، ولكنها موجودة في دواوينهم ويعرفها كل من اتصل بهذا الشعر ولا شك أن هذه محاولة ضخمة في مرحلة من مراحل الاستشراق والغزو الفكري تركز على ذات الله تبارك وتعالى من أجل الإساءة والتجريح والدعوة إلى الانحلال والإلحاد ، حيث ترتبط كلماتهم دائماً بهدم الخلق ونشر الرذيلة والسخرية من الأخلاق ، وقد اتسع نطاق هذه الدعوة التي قادها ( يوسف الخال ) وجند لها كثيراً من الأسماء المعروفة في البلاد العربية لتكون تياراً يطلق عليه اسم ( الحداثة ) ويستقطب الكثيرين ، ويرمي في حقيقته إلى هدم البيان العربي المرتبط بالقرآن الكريم حيث يؤازره من يدعو إلى إحياء التراث الباطني الوثني القديم ومحاولة إعادته مرة أخرى إلى الفكر الإسلامي من أمثال عابد الجابري وغيره على النحو الذي جرى عليه طه حسين من قبل حين كتب هامش السيرة وأعاد إحياء الأساطير التي حرر علماء المسلمين منها سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرتبط هذا من ناحية أخرى بمحاولات إحياء هذا التراث الزائف حيث جرى إحياء تراث رسائل إخوان الصفا وكتابات الحلاج وابن عربي والسهروردي وابن سبعين وكتابات ابن المقفع وابن الراوندي والدعوة إلى إحياء تراث ثورة الزنج و البابكية والقرامطة بدعوى كاذبة مضللة وهو أنهم دعاة العدل والحرية ، ونرى اليوم هؤلاء الذين يحتمون بالتراث والتصوف الفلسفي لإثارة الشبهات الخطيرة على التوحيد والنبوة والوحي ، كل هذا التطور الخطير يمكن أن يصل بنا اليوم إلى ( أولاد حارتنا ) وإلى ( آيات شيطانية ) حيث تتناول الذات الإلهية وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن على(3/66)
نحو قصصي حيث يفسح الفن والدراما أمام القصاص الطريق إلى أن يقدم كل سمومه دون أن يحاسب عليها بدعوى خضوعه لمفهوم سقيم هو ما يباح للقصاص والفنان من أن يزيف التاريخ ، وإذا كان هناك من ادعى أن للقرآن مفهوماً للفن القصصي يختلف عن منهج الإسلام الأصيل ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ) فإن هذه المحاولات كلها زائفة ومضللة ولن تخدع أحداً ، فقد أمكن لليقظة الإسلامية أن تخلق وعياً عميقاً في قلوب المسلمين يحميهم من الانخداع لهذه المؤامرات التي تحاول أن تزيف مفهوم الإسلام أو تصرف الناس عنه ، وسوف تزداد هذه المحاولات وتتنوع ولكن المثقف المسلم سيظل على وعي بها ولن تستطيع أن ترده عن يقينه وإيمانه بل لعلها ستزيده ثقة وصدقاً بأن كلمة الله هي العليا والنافذة إلى آخر الزمان ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) صدق الله العظيم .
كتاب جديد في التكنولوجيا الإسلامية يكشف عن أن عطاء التراث الإسلامي أكبر مما يظن خصوم الإسلام
... اختلقت مصطلحات الإسلام والغرب هو التراث ، فالغربيون ينظرون إليه من خلال خرافات فريزر وأساطير اليونان في صراع الإلهية مع البشر ، ومن خلال فلسفات مضطربة تعلى من شأن الجن وعبادة الأجساد العارية وعشرات الأحاديث المروية عن القياصرة الآلهة والحروب الدامية ومن ورائها استرقاق العبيد إلى مقولات تتصل باللاهوت هي خليط من الدين السماوي والأديان القديمة الوثنية ، فإذا ذهبت تبحث عن عطاء حقيقي صاف لم تجد إلا شذرات من تراث النبوة الذي اختلط بالوثنيات والأساطير ، مما استصفاه القرآن الكريم ، أما فيما عدا هذا فهو ركام من المقولات التي لا تخضع للفطرة أو العقل أو العلم .(3/67)
... أما التراث في الفكر الإسلامي فشئ آخر ، مختلف إنه ثمرة الميراث الأساسي ( القرآن الكريم والسنة المطهرة ) وهو مرتبط بها مفسراً لها موضحاً كاشفاً فهو منها لا ينفك عنها ، فإذا أردت أن تستوضح فإن في مكتبات أوروبا وأمريكا والفاتيكان ما لا يقل عن مليون مخطوط من تراث الإسلام في شتى فنون القول ، ويقرر الأستاذ محمد إبراهيم زعروت أن مكتبة الأمويين في الأندلس كانت بعيدة الأثر في شعوب أوروبا وخاصة مكتبة الخليفتين عبد الرحمن الناصر الأموي وابنه الحكم المستنصر فقد استقطبت كل الحركات العلمية والفكرية التي بزغت في بلدان الغرب وقد شجعوا أهلها على الهجرة إلى الأندلس حتى غدت قرطبة خلال هذه الفترة مهرجاناً علمياً ، كما فاضت تجربتها على شعوب أوروبا متخطية كل الحواجز المكانية والعنصرية لتجديد العون لهذه الشعوب ودفع حركة التقدم الحضاري لشعوب الأرض .
... وقد اعترف المنصفون من المفكرين والباحثين الأسبان وغيرهم بهذه الحقيقة التي لا مراء فيها ، حتى استولى الملك فرناندو على غرناطة آخر معقل إسلامي في الأندلس عام 1492م فأصدر أمره بجمع المخطوطات الإسلامية من أيدي المسلمين وقد جمع وقتذاك مليونين من المخطوطات وتم حرقها على باب الرملة في غرناطة ، وقد شهد ( انجل حيثالت الملسنا ) مؤلف كتاب الفكر الأندلسي الذي نقله من الأسبان حسين مؤنس بأن الفضل في قيام الدراسات الطبيعية في أوروبا يرجع إلى ما كتبه العرب ( يقصد المسلمين ) الذين كانوا يبعثون بالسفراء لجلب الكتب القيمة وإقامة المراصد .
... وقد فتح الأمويون في الأندلس مكتباتهم وجامعاتهم العلمية أمام كل طالب علم يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم ، ولم يقتصر التأثير الفكري على نصارى أهل الأندلس وحدهم بل امتد إليهم شعوب غرب أوروبا قاطبة فتأثر الإيطاليون والألمانيون والفرنسيون بمؤثرات الفكر الإسلامي عن طريق صقلية والأندلس في القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي ) .
* ... * ... *(3/68)
... كذلك فإذا نحن قرأنا رسالة جورج الثاني ملك إنجلترا إلى الخليفة هشام الثالث يشيد فيها بالرقي المادي الذي يعم بلاد المسلمين ويطلب الموافقة على تعليم عدد من الطلاب من طرف الملك جورج ( لينشروا العلم في بلاده التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربع ) حسبما جاء في الرسالة ، هذه هي الحقيقة التي يجب أن يعرفها شبابنا المسلم : لم يكن لدى الغرب شئ ذا بال ، فماذا كان يأخذ المسلمون الذين شكلوا منهجهم العقدي والفكري قبل ترجمة الفلسفات ، فلما ترجمت الفلسفات امتحنوها وكشفوا كثيراً من أخطائها ، ليس في الفلسفة فحسب بل وفي مجال العلم نفسه ، ردوا كثيراً مما قاله العلماء أمثال جالينوس وغيره بعد أن وضعوه موضع الاختيار أما أرسطو فقد ردوه وفندوا أخطاءه ورفضوا بشدة مقولته في الرق ودعواه بأنه قاعدة الحضارة ، وكشفوا عن فساد نظريته في الألوهية وردوا نظريته في الثبات المطلق ، وتجاوزه بمنهج التجريب حيث كان الفكر اليوناني كله - وهو أرقى فكر في عالم ذلك اليوم - يقوم على القياس والاستدلال حيث أقام الإسلام المنهج الحسي الاستقرائي التجريبي ورد المنهج القياسي وفتح بذلك فتحاً لا يمكن تصور أبعاده ، فهو الذي أنشأ الحضارة العالمية ثم جاء التغريب ليردنا في العصر الحديث إلى أرسطو عن طريق لطفي السيد وطه حسين ليرد المسلمين الذين كشفوا فساد مذهبه قبل أن يكتشفه الغرب نفسه ، وما نرى زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعاطف العراقي وغيرهم اليوم إلا راغبين في إعادتنا في ردة خطيرة إلى هذه المقولات بعد أن كشف زيفها الإمامين الكبيرين الغزالي وابن تيمية .(3/69)
... لقد أخذ الغرب منهج الإسلام التجريبي ولكنه لم يأخذ تحفظاته وحدوده وضوابطه ، وبالرغم من كل المحاولات التي عمد إليها الغرب لطمر تراث الإسلام المحبوس في خزانة جامعاتهم ، والادعاء بأنه لم يقدم شيئاً فإن ألسنة صدق دفعها الحق إلى كشف دور الإسلام في بناء الحضارة العالمية ( درابر وهونكه وسارطون )
... فقد صدر كتاب هز دوائر الغرب وهو كتاب التكنولوجيا الإسلامية بقلم حمدي الحسن والدكتور دونالد هيكل الذي حاول إبراز غنى التكنولوجيا الإسلامية وأصالتها ويرسم الطريق لاستكشافها على نحو أكثر تفصيلاً .
... وقد عرض الباحثان للإسهامات التي قدمتها الحضارة الإسلامية في ميادين العلم ولا سيما في مجالات الرياضيات والفلك بظهور الإسلام وانطلاقه اللغة العربية التي أصبحت لغة جميع الشعوب القاطنة بين بغداد وقرطبة .
... ولقد كشف الكتاب عن معطيات الهندسة الميكانيكية والمدنية متدرجة من التطبيقات العسكرية وبناء السفن والملاحة والعمليات العثمانية وصناعات النسيج والورق والجلود والزراعة لتنتهي باستخراج المعادن وصناعتها ( وقد أولت الدراسة اهتماماً خاصاً بالتكنولوجيا الكيمائية )
* ... * ... *
... وليس هذا العمل هو الأول وليس هو الأخير فما يزال التراث الإسلامي يشير إليه المنصفون ليكشفوا عن عطائه ودوره وآثاره ويخزي خصوم الإسلام الذين يثيرون حوله السخريات وهمم لا يعرفون قدره ، ولا بد أن يكون واضحاً أمام شبابنا المسلم أن الكتب الرائدة في التراث معدودة وهي تمثل قواعد الأساس في بناء الفكر الإسلامي :
1 - الرسالة للإمام الشافعي التي وضعت أصول علم الفقه التي تأثر بها فرنسيس بيكون .
2 - المنقذ من الضلال الذي وضع قاعدة الشك للوصول إلى اليقين التي تأثر بها ديكارت في كتابه ( المنهج ) .
3 - الشيباني وكتابه عن الكسب ووضع أسس الفكر السياسي العالمي .
4 - ابن خلدون والمقدمة التي كشفت عن ثلاثة مناهج :
((3/70)
أ) منهج تفسير التاريخ (ب) أصول الاجتماع (ج) أصول الاقتصاد
5 - المفهوم الإسلامي للأخلاق - رسالة الدكتور محمد عبد الله دراز .
6 - النظريات السياسية الإسلامية : قدمها الدكتور ضياء الدين الريس .
7 - ما كشفه الشيخ مصطفى عبد الرازق عن مفهوم الفلسفة الإسلامية . استمداداً من الفقه وعلم الكلام .
8 - ما كشفه المستشار عبد الحليم الجندي في كتابه القرآن والعلم الحديث عن ما أخذه فرنسيس بيكون من رسالة الشافعي .
9 - ما أورده كثيرون عن نظريات القانون والاقتصاد والسياسة أخذها علماء الغرب الحديث من ابن القيم والشاطبي وغيرهما .
10 - ما يقدمه علماء معاصرون اليوم عن تأسيس لعلوم النفس والاجتماع ( محمد المبارك ، حسن الشرقاوي )
11 - ما أحياه جمال الدين محفوظ ، محمود شيت خطاب من تراث الفكر العسكري الإسلامي وتاريخ الغزوات وأعلام القيادات الحربية .
12 - تراث الرد على الفكر اللاهوتي ومقارنات الأديان : الجاحظ وابن تيمية والغزالي وابن حزم وابن القيم ورحمة الله الهندي ؟ ، وفي الحديث أبو زهرة وأحمد شلبي ومحمد عبده .
13 - الرد على الدهريين لجمال الدين الأفغاني أول مواجهه مع الفكر العلماني وتبعتها كتابات محمد عبده ، وفريد وجدي ، والغلاييني في الرد على هانوتو ، وكرومر ، وفرج انطون .
14 - الرد على البهائية والقاديانية والكشف عنهما : الدكتورة بنت الشاطئ والمودودي والندوي .
15 - تأصيل الشريعة والكشف عن الفوارق بينها وبين القانون الوضعي ؛ عبد القادر عودة ، مصطفى السباعي .
16 - الكشف عن مخططات التبشير والاستشراق : عمر فروخ ومحب الدين الخطيب
* ... * ... * ...(3/71)
... إن عطاء التراث الإسلامي هو بمثابة ينبوع ذاخر ، ومنجم لم يكتشف بعد ونحن لا ندرس التراث لنقلده أو لنعيده أو لنخضع له وإنما ندرسه لأنه يقدم لنا الرؤية المضيئة التي عاشها وعمل لها علماء ومفكرون مسلمون مخلصون قدموا تجربتهم وجهدهم الذي مازال صالحاً للانتفاع به ولتجليته في ميادين كثيرة بعد أن انتفع الغرب به وأدخله في قوانينه ونظرياته واعتبره من نتاج أهله فضلاً عن أن كل الأبحاث تؤكد بأن استعادة الحضارة الإسلامية لحركتها ونشاطها لن يكون أصيلاً وصادقاً إلا إذا ارتبط محيطات هذا التراث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تختلف وجهات النظر فيها بيننا وبين الغرب على نحو واسع عميق وخاصة في مجال الأخلاق والاجتماع والنفس والتربية .
... إن معرفتنا للدور الذي قام به التراث الإسلامي في بناء الفكر العالمي اليوم هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للغرب الذي لم يكن يملك قبل أن يطرح الإسلام معطياته الذاخرة من القرآن والسنة والتراث إلا مجموعة من الأساطير وتركيبات الكيمياء وعبارات مستخلصة من نظريات تأملية لم تقم على تجريب أو استقراء وإنما وقف عند القياس والتأمل ، وقد جاءت معطيات الفلسفة اليونانية التي قامت على العقول العشرة والفيض وما اتصل بها من وحدة الوجود والحلول مجموعة من الأكاذيب والأضاليل التي جرى وراءها الفارابي وابن سينا شوطاً ثم تبين فسادها وكذبها كما تبين أن للقرآن الكريم منطق تختلف عن منطق اليونان على النحو الذي قدمه الإمام ابن تيمية ، والحقيقة هي أن تراثنا الإسلامي المستمد من القرآن والسنة شئ عظيم لم نصل بعد إلى أبعاده وحين يصل إلينا سيغير وجه البحث التاريخي تغييراً كبيراً .
في مواجهة الحملة على التراث الإسلامي(3/72)
... تجري محاولات متعددة اليوم بأقلام بعض العصريين والماركسيين والعلمانيين في محاولة للغض من شأن التراث الإسلامي والاستهانة به والنظر إليه على أنه من سقط المتاع في دعوة للتحرر منه على النحو الذي تحررت فيه أوروبا والغرب من تراثها القديم مع إعطاء الحرية لكتاب القصة والشعراء وأهل الفن من الخوض فيه بحذف أجزاء منه أو تجاوزه أو انتقاصه ظناً منهم أن التراث الإسلامي يمكن أن يجري عليه ما جرى بالنسبة للتراث الغربي ولا ريب أن هذا الظن خاطئ وإن هذا التوجه خطير وان التراث في الفكر الإسلامي له أصالته وله منزلته وتقديره دون وضعه موضع التقديس أو السيطرة .
... ولقد كانت ( اللغة والتاريخ والتراث ) من مقومات الفكر الإسلامي ينظر إليها بتقدير دون الخضوع لها في توجه واضح بأن هذه القيم الثلاثة يمكن الانتفاع بها والحرص عليها ودون إهمالها أو انتقاصها مع تقدير واضح لأنها من عمل البشر القابل للخطأ والصواب والذي يتغير النظر إليه مع تغير الأزمان والعصور .
... ولقد كان المسلمون في منهجهم الفكري يضعون " ميراث الإسلام " المتمثل في القرآن والسنة موضع التقدير الأعلى باعتبارهما المصدر الأصيل لمختلف قضايا الفكر الإسلامي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية ومع التقدير للضوء الكاشف الذي ألقاه العلماء في مختلف مجالات الفكر الإسلامي للتراث الذي استمده وجوده الحقيقي من القرآن والسنة وإن ارتبط بعصره فإنه ما زال قادراً على العطاء في النظرة المتصلة من خلال قاعدة الإسلام الأساسية : القائمة على الثوابت والمتغيرات وإيماناً بتغير الفتوى مع تغير الزمان في إطار الثوابت .
... ومن هنا يتبين أن لنا كمسلمين موقف خاص من التراث يختلف عن موقف الغرب الذي اختلط تراثه في عصور مختلفة بين تراث عصور الوثنية سواء كانت يونانية أم رومانية ثم اختلط مرة أخرى بتراث الأديان اليهودية والمسيحية .(3/73)
... وتحاول المقولة المضللة المطروحة اليوم القول بأننا غير ملتزمين إلا بالقرآن والسنة أما تراث الإسلام من فقه وعلوم كتبها أعلام الإسلام من فقهاء وعلماء ومفكرين في مختلف العصور فهو اجتهاد خاص بعصرهم ، ولذلك فنحن يجب ألا نخضع له ولا نعطيه صفة الولاء بحجة أن هذا التراث لم يكن أكثر من اجتهاد هؤلاء العلماء لعصرهم في مواجهة قضايا ومشاكل كانت تواجههم اجتهدوا فيها وخرجوا منها بأحكام ونحن نؤمن باختلاف الفتوى مع اختلاف العصور ولكن لا ننظر إلى التراث هذه النظرة ، وإنما نؤمن بأن هذا التراث له قيمته العامة الكاملة التي صدرت عنها قوانين وعلوم ومناهج لها أبعد الأثر في الحياة الفكرية والاجتماعية التي نحياها سواء أكان ذلك بالنسبة للعلوم التجريبية أو لقوانين الاجتماع والاقتصاد والتاريخ .
... إن من وراء دعاوى هؤلاء المغربين أهواء ومطامع ومحاولات لحجب هذا التراث أو النظر إليه بمقاييس الغرب التي تعلي من شأن العقل وإعطاء كتاب القصة والشعر حرية استعماله أو الحيلولة دون ربط المسلمين بتاريخهم الذي انقطع ومن هنا تكون هذه الدعوة جزء من مخطط الاستشراق في مهاجمة كل ما يتصل بالإسلام من تراث وسلفية وقديم من خلال دعوة ملحة لتجاوز القديم جملة وإلى تحرك وتطور منطلق غير منضبط على نحو مفاهيم النسبية والتطور الغربي ومفهوم المعرفة الناقص القاصر على العلم والعقل والذي يتنكر للوحي والغيب وهي جزء أصيل في مفهوم المعرفة الإسلامية .
... ولا ريب أن تلك النظرة الساخرة إلى التراث الإسلامي مرفوضة تماماً فهي تتناقض مع قاعدة الإسلام الأساسية القائمة على ( الضوابط ) وعلى مفهوم الثوابت والمتغيرات .(3/74)
... ونحن لا نقر تلك النظرة إلى التراث على أنه منجم يؤخذ منه للمستقبل دون تقدير للرابطة بين مراحل الفكر الإسلامي ودون تفرقة بين الميراث والتراث وتلك خطيئة الفكر الغربي الذي ورث تراثاً أسطورياً من أحاديث الخرافة والفلسفات المادية ونزوات المفكرين وخاصة ما يتصل بالتنكر للدين جملة كما تحمله دعاوى التنوير وهو المخطط الذي طرحته الصهيونية العالمية لتدمير مفهوم الدين في الغرب وإخراج الفكر الغربي من الاتجاه المسيحي وإعادته إلى التراث الوثني اليوناني الذي يقوم على ( علم الأصنام ) وبكل مفاهيمه في إنكار الألوهية والوحي والغيب وقد تحقق ذلك تماماً .
... ولابد أن يمضي الموقف من التراث الإسلامي كما هو منذ فجر الإسلام مفتوحاً على الحضارات وتراث الأمم يأخذ منها ما يتفق مع طابعه ومفاهيمه وأن يحول ما يأخذ إلى ذاته وتكوينه دون أن يخضع لأي تبعية ، وقد وقف المسلمون منذ فجر التاريخ مع التراث اليوناني والهندي والفارسي هذا الموقف فقبلوا منه ما يتفق مع القرآن ورفضوا ما يختلف معه بل وكشفوا أخطاء علماء اليونان في مفاهيمهم إزاء التوحيد والعلوم فقد أعطاهم الإسلام الأدوات القادرة على فحص تراث الأولين والكشف عن جوانب الوثنية والخلاف مع التوحيد .
... ولم يتم ذلك فقط بالنسبة للتراث اليوناني والفارسي والهندي بل أيضاً بالنسبة للتراث العربي والشرقي الذي شكلته اتفاقات الأمم السابقة للإسلام وخاصة ما يتعلق بالكتب المقدسة : التوراة والإنجيل ، وما يختلف منها مع مفهوم الدين الحق على النحو الذي كشف عنه القرآن الكريم ( ويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله )(3/75)
... وهناك موقف التراث الإسلامي من تراث الوثنية المتمثل في الغنوصية والوثنية الفارسية والهندوكية وتراث البوذية والكنفوشيوسية كذلك عمد المسلمون في العصر الحديث إلى مراجعة تراث الأمم الغربية مما يسمى ( الفكر الغربي الحديث ) وخاصة ما يتعلق بالماسونية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والوجودية والدعوات الجديدة : القاديانية والبهائية وقد تناولها الفكر الإسلامي جميعاً وكشف عن زيفها ودحض مقولة المستشرقين بأن بعضها يعد من تجديد الإسلام .
* ... * ... *
... ولعلنا لو تقصينا هذه المؤامرة التي ترمي إلى حجب التراث الإسلامي وتجاهله، أو التفريط فيه ( مع تقرير المسلمين بأنهم لا يقدسون إلا ميراثهم من القرآن والسنة ) وأنهم يرون في التراث عطاء علمائهم الذي هو ليس إلا ضوء كاشف اليوم للتجارب السابقة ولكيفية حل القضايا المعاصرة .
... الهدف هو حرمان المسلمين من ربط وجودهم اليوم بالتراث الإسلامي حيث لا يمكن أن تنشأ حركة حضارية إسلامية إلا إذا ربطت نفسها بالتراث ( بعد تحريره من العوامل التي دخلت إليه نتيجة ترجمة الفلسفات اليونانية وما يتصل بالتصوف الفلسفي والفلسفة المادية )
... فقد بدأ الغرب نهضته بالارتباط بالفكر اليوناني والروماني بعد انفصال ألف عام وكان الإسلام هو الذي أعطى الغرب مفاتيح العلوم التجريبية ، ولقد كان الإسلام والقرآن الكريم بالذات هو المصدر الأساسي للمنهج العلمي التجريبي فلم يكن الرومان أو اليونان أو غيرهم يعرفون شيئاً عن ذلك فقد جاء القرآن بدعوته الحاسمة
... ( قل هاتوا برهانكم ) .
... ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
... ( سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تبديلا ) .
... ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) .(3/76)
... ولقد ظهرت بواكير هذا في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ( معاذ ) حين أرسله إلى اليمن قاضياً حين قال : " أحكم بكتاب الله فإن لم أجد ففي سنة سول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم أجد فأجتهد رأيي لا ألو " .
... وقد أظهر الإسلام عدداً من المناهج منها : منهج ابن الهيثم الذي سبق منهج بيكون التجريبي وما صرح به روجر بيكون من أنه استفاد من المنهج التجريبي من العرب وليس صحيحاً أن ما يدعوا إليه الإسلام هو العلم الديني وحده وإنما كل علم يدفع الجهل
وهذا هو الاستنباط الذي نتج عنه الاستدلال على صحة العقائد النظرية فقد دعا القرآن إلى استخدام المشاهدة الحية واستقراء الجزئيات في عالم الطبيعة لتصل بنا إلى معرفة القوانين العامة التي تسير هذه الطبيعة بمقتضاها بما يؤدي إلى ما يسمى ( الاستبصار ) استمداداً من الآية الكريمة ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فالاعتبار هو القياس بنوعيه العقلي والفقهي كما يقول ابن رشد .
* ... * ... *
... هذه هي علاقتنا بالتراث ثابتة لا تنفصل مرتبطة بالحضارة والعلم فكيف يمكن تجاهل التراث الإسلامي أو حجبه أو وضعه موضع السخرية أو تمكين القصاصين والروائيين من انتقاصه ، وإذا كان الغرب قد تعرف في تراثه على نحو أو آخر فهذا لا يلزمنا نحن المسلمين الذين وضع لنا الإسلام تصوراً كاملاً مختلفاً عن تصورات الثقافات والديان الأخرى وفي مقدمته :
(1) التوحيد الخالص .
(2) الثوابت والمتغيرات .
(3) الوحدة الجامعة .
(4) الوحي والغيب أساس من أسس المعرفة .
الترابط بين الحاضر والماضي
محاذير محاولة فصل الحاضر عن الماضي والتراث(3/77)
... إن محاولة فصل حاضر الفكر الإسلامي والأدب والثقافة عن الماضي الإسلامي كلية وإلحاقه بالتيارات الوافدة من الفكر الغربي هي من أخطر محاولات التغريب والغزو الثقافي ، فقد بدأت المحاولة بالنظر إلى الماضي كله بازدراء سواء من ناحية الأسلوب والأداء أم ناحية المضامين ، ومنذ فرضت على الدراسات التاريخية مناهج الغرب المادية واستغلت فكرة العنصر في تصنيف الكتاب و الأدباء وربطها بما يكتبون كان يقال أن سر تفوق ( ابن الرومي ) أنه رومي الأصل وتفوق فلان على أنه فارسي أو تركي وذلك في محاولة لانتقاص الأصول العربية وفي مغالطة لإنكار الحقيقة الأساسية التي تؤكد أن الإسلام نفسه لا العناصر الخاصة بالدماء و الأجناس هي التي شكلت ثقافات وتعوق هؤلاء الأعلام ، ثم بدأت الحركة التغريبية تنظر إلى هذا التراث نظرة أخرى أشد خطورة وهي اعتبار العناصر التي تصل بالتبعية على أنها العناصر الأكثر تفوقاً .
... مع إبراز التابعين للفلسفة اليونانية أو الاعتدال أو التصوف الفلسفي باعتبار هؤلاء من أولياء الثقافة الغربية ، أما دعاة الأصالة والتماس المنابع والمحافظة على الذاتية الإسلامية فقد وضعوا في إطار التجهيل والتعتيم ومؤامرة الصمت .
... ثم بدأ القول بأن الدعوة إلى التراث دعوة رجعية ومتخلفة وأن أصحابها يودون إعادة التاريخ القهقرى ، وإذا تحدث المسلمون عن مواقف تاريخية وبطولات قالوا : أنهم يريدون أن يخضعوا الحاضر للأموات وهكذا كانت الخطة في محاصرة الأصالة حتى لا تستطيع أن تشق طريقها وتنصيب راياتها ولكن هذه المحاولات كلها سقطت واحتاج التغريبيون إلى البحث عن مؤامرات جديدة .(3/78)
... وكان أخطر ما يقال هو أن القديم كله تراث على مفهوم الغرب القديم ودون التفرقة بين الأصول الأصيلة للإسلام ( القرآن والسنة ) التي ليست بمثابة تراث لأنها من عند الله ، والتي يجب أن تتميز عن مفهوم التراث الذي هو العمل الإنساني والبشرى في تفسير الميراث الرباني والنبوي ، ولما كانت هذه الدعوات تصدر من عقليات مادية الفكر مرتبطة بتاريخ الكنيسة والغرب فإنها حين تضع الفكر الإسلامي موضع المشابهة أو المقارنة تخطئ خطأ كبيراً لعدة عوامل وأسباب منها أصالة مفهوم المسلمين للوحي والنبوة والرسالة المنزلة في الإسلام تختلف تماماً عن مفهوم الغرب التي تخلط بين الألوهية والنبوة من ناحية ويرى أن الكتب المقدسة ليست من السماء وإنما هي من أقوال حواري الأنبياء ومن عمل البشر .
... ولقد تبين للمسلمين من بعد مدى خطورة التراث : هذه الخطورة التي تدفع القوى التغريبية إلى محاولة عزله وإسقاطه أو تشويهه أو إحيائه عن طريق زائف على النحو الذي قام به بعض من كتبوا ( على هامش السيرة ) و ( الفتنة الكبرى ) وغيرها سواء على منهج الغرب في تفسير التاريخ ومنهج الماركسيين .
... إن التراث والتاريخ لا يزالان عدوان شديدي الخطر بالنسبة للغزو الفكري فهو يحاربهما حرباً لا هوادة فيها لإيمانه بقدرتهما على العطاء في بناء النهضة ولفضلهما في رفع الروح المعنوية وبناء الثقة في نفوس الشباب .
... ومن هنا تجري تلك المحاولات الخطيرة لعرض التراث والتاريخ من وجهة نظر النظرية المادية أو من وجهة نظر إحياء الفكر الوثني والباطني القديم ، وإحياء الفرق القديمة والخلافات التي كانت بين الفرق والصراعات التي قامت ودفنت منذ زمن طويل(3/79)
... والحق أنه لم تنل قضية الربط بين الماضي والحاضر في الإسلام ، بينما هي قضية واضحة كل الوضوح من التزييف والتمويه قدر ما نالت قضية في الغرب حتى إن الحضارة الحديثة كلها تنتمي إلى حضارة وتراث الرومان واليونان وبينهما ألف عام من الانقطاع ولا تضيق بهذا الانتماء ، بينما إذا ذكر الإسلام كانتماء للثقافة العربية المعاصرة نظراً إليه في شئ غير قليل من الامتهان والتشكيك ، بل إنه حين يدعي إلى الإسلام لا يجيب ، بينما عندما يدعي إلى ما قبل الإسلام كالفرعونية والبابلية والأشورية وغيرها يجد تقديراً وترحيباً .
... ولقد كانت قضية الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر قضية أصولية حتى في مجال العلم التجريبي نفسه ولكنها حين تطرح في أفق الفكر الإسلامي تجري المحاولات لإثارة الشكوك حولها .
... وتجد عبارات السلفية والقديم البالي والجحود هي العبارات الغالبة في وصف التراث والتاريخ الإسلاميين دون النظر إلى الفوارق البعيدة بين ماضي الأمم الأوربية الذي لا يقوم إلا على الأساطير والخرافات التي لا يقرها العقل ولا يرضاها الخلق بينما لا نجد في التراث الإسلامي إلا صورة السمو والإيمان والعفاف والكرامة .(3/80)
... وإذا كنا بين الميراث الذي هو ( القرآن والسنة ) وبين التراث الذي هو من عمل العلماء والفقهاء في تفسير أحكام الإسلام وشريعته وعلومه فإننا لا نجعل هذا التراث مطية للاستهانة أو الامتهان ، فقد أورثتنا تراثاً يختلف اختلافاً واسعاً وعميقاً عن تراث الغرب كله بل إنه لا يمكن أن يوزن بشيء منه فقد أورثنا الآباء تراثاً حافلاً من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون ومنجزات ثقافية وحضارية ومادية لا حد لها ، وإن كان يمكن أن يدخل في هذا التراث بعض ما أثاره المخالفون من مفاهيم زائفة وقضايا مضطربة جاءت نتيجة اختلاط تراث الإسلام بالفكر الفلسفي الذي قام بترجمته وخب فيه ووضع أمثال ابن سينا والفارابي وابن عربي والحلاج وغيرهم ، وكل هذا فكر زائف يجب أن ينحى حين يذكر التراث الإسلامي الأصيل ولكن يجب أن يذكر أيضاً بأن الأبرار من علماء المسلمين واجهوا هذه السموم وهذا الزيف كله وردوا عليه وكشفوا فساده ودحضوا وجهته وقالوا عن أصحابه أنهم ليسوا على طريق الإسلام ولكن هم مع المشائين اليونان في ضلالهم وفساد وجهتهم . ومن هنا فإنه من الزيف أن يتدخل التغريبيون في هذا التراث بالانتقاء أو التحوير ليجعلوه مبرراً لواقع حياة المجتمعات اليوم التي انحرفت عن منهج الله أو محاولة الادعاء بأن مرونة الإسلام قابلة لأن يكون متقبلاً لقيم خارجة عن الأصول الإسلامية أو عن الحدود التي وضعها النظام الإسلامي.(3/81)
الجزء الثالث
الإسلام : منهج حياة ونظام مجتمع
وسطية الإسلام
هي نبراس الصحوة ومنطلقها الحقيقي
... ما تزال الأمة الإسلامية منذ شكلها القرآن وأقامها محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنذ يومها الأول تواجه التحديات وتواجه الأحداث ، يقين لا يتزعزع وبإيمان صادق لا يلين بأنها على الحق ولها النصر في خاتمة المطاف حيث لا تلجئها الأزمات إلى اليأس ولا تملأها الانتصارات استعلاء أو فرحاً ، وهي سنة الله تبارك وتعالى القائمة فينا الماضية إلى يوم القيامة أن نبيت على تعبئة وأن نكون في رباط إلى يوم القيامة فإذا أدلهم وجه الأحداث رجعنا إلى أنفسنا لنسأل : هل نحن حقاً على الصراط المستقيم الذي رسمه القرآن أم اتبعنا السبل التي تفرق عن سبيله .
... فإذا ما عدنا إلى الله قبلنا وكتب لنا النصر ومكن لنا في الأرض ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ).
... ونحن منذ فجر هذه الصحوة ونحن نبحث عن المنطلق الحقيقي الذي يمكن هذه الأمة من امتلاك إرادتها وإقامة مجتمعها الرباني ، وتذهب بنا الرياح شمالاً ويميناً ، وقد آن لنا أن نثبت على الجادة ، آن لنا أن نثق ثقة أكيدة بأن منطلقنا الحقيقي هو ( الوسطية : وسطية الإسلام ) المتمثلة في مغالبة نواميس الكون لا نتعجل النتائج ولا نميل نحو التطرف أو نحو الجمود بل نلتمس طريقنا صامدين لا يتزعزع إيماننا بالنصر مهما طال أمر الباطل أو تمكن ما دمنا قد أخذنا بقوانينه التي قدمها لنا القرآن الكريم حين دعانا نثبت في مواقعنا : ... ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون )
... هذا الصمود مع الصبر والمجاهدة والتماس مرضاة الله تبارك وتعالى هو وحده المنطلق الحقيقي للأمة الإسلامية في هذه المرحلة من حياتها .(4/1)
... نحن نؤمن إيماناً صادقاً وأكيداً ولا يتزعزع بأن الإسلام إلى نصر وتمكين وأنه هو الحق المبين الذي سوف تستسلم له كل القلوب والعقول وصدق برناردشو حين قال : ( إن أوربا سوف تفيق للإسلام في أقل من مائة عام ولو تحت اسم آخر ) ، ونحن نرى عشرات من المفكرين والفلاسفة الغربيين اليوم قد تأكدوا تماماً من أن الإسلام وحده هو أمل البشرية ومنطلقها وإن كان مازال دون تحقيق ذلك عقبات وأهوال فإذا كنا على حق ، ونحن فعلاً على حق ، فلا نخاف إذا ادلهمت الأحداث وأحس المسلمون في عديد من الأقطار بالمحنة تحاصرهم وقد انقطع عنهم عون إخوانهم الذين يقاسون في أقطار أخرى ، ولا يزيدنا هذا إلا إيماناً ( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ) (الأحزاب:22) .
... فنحن مطالبون اليوم بتأكيد مفهوم ( وسطية الإسلام ) بعيداً عن التشدد والتعقيد والتأويل وبعيداً عن أساليب العنف والتعجل في اقتطاف الثمرة ، وبعيداً عن مفاهيم الفكر المتطرف الذي لم يقبل به المسلمون يوم أن حمل لوائه الباطنية والمتعصبون وقساة القلوب والخارجين وردوا عليه ودحضوه وغلبوا عليه مفاهيم أهل السنة والجماعة القائمة على سلامة القصد وصدق النية ونقاء السريرة والسماحة في التعامل مع العناصر المختلفة التي تعيش داخل المجتمع .(4/2)
... وليس معنى هذا : الرضا بالهوان أو التسليم بالأقل ، فنحن المسلمون نؤمن أساساً بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأن الإسلام يدعونا إلى صدق الإيمان والتضحية بالنفس في سبيل الحق ويجعل من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية أساسية ، ويدعونا إلى الجهاد بمفهومه الفقهي الصحيح في السلم والحرب وفي كل قضية ومجال ، وليكن شبابنا صادق الإيمان بالإسلام عاملاً على تطبيقه في مجتمعه وبين أهله حتى يصبح المجتمع كله ربانياً وفق مفهوم الإسلام الصحيح بوصفه منهاج حياة ونظام مجتمع حيث يقدم الإسلام تصوراً كاملاً في مختلف جوانب الاقتصاد والسياسة الاجتماع والتربية يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية وتأكيد اتجاه المرأة المسلمة إلى الحق والتحرر من الاقتصاد الربوي .
* ... * ... *
... وفي تقرير لهيئة الإحصاء العالمية تعلن فيه : أن تعداد المسلمين وصل إلى 12 مليار و500 مليون نسمة ، وهكذا صرح الخبير عبد الرحيم عمران بالأمم المتحدة موزعين على 52 دولة إسلامية في جميع القارات ( من بينهم 929 مليون يعيشون في صورة أقليات ) وكانوا في أول القرن الخامس عشر ألف مليون ، وقد أعطى المسلمون الطاقة والثروات المدفونة والتفوق البشري فضلاً عن البواغيز والخلجان التي تسيطر على اقتصاد على اقتصاد العالم كله ، ولابد أن يكون للمسلمين والعرب مشروعهم الحضاري المستقل الصحيح والسليم والمستمد من منهجهم الرباني ومنابعهم الأصيلة وهو منهج يقوم على التوحيد والغيب والنبوة إلى جوار العلم والعقل ، ولقد جاء هذا العطاء المادي والمعنوي إنما يرمي أساساً إلى حماية الوجود الإسلامي بالقوة والردع واستعادة الحق الضائع وتحرير الأرض السليبة .(4/3)
... وسيعطي منهج الإسلام الإنسانية كلها قاعدة التعامل مع البشر بالأمن والعدل على أساس العمل لا على أساس التفرقة العنصرية التي تحاول اليوم أن تجتاح الأمم بعد أن سقطت الأيديولوجيات وما كان الإسلام يوماً ظالماً أو مانعاً ولكنه أعطى البشرية المنهج العلمي التجريبي المستمد من القرآن ، وأعطاها الإخاء والمساواة والرحمة وقدم تلك النماذج الكريمة من السماحة والخلق الرفيع مع مقاومة العدوان من أمثال صلاح الدين ومحمد الفاتح وبيبرس وقلاوون وغيرهم .
... كما قدم الحرية المنضبطة وقدم الأخلاق كجزء من العقيدة ثابتة لا تتغير وربط الحرية بالالتزام وأقام العدالة الاجتماعية والشورى .
... ودعا المسلمين إلى قبول العلم والبحث عنه وهو يقصد العلم التجريبي وليس العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تملك كل أمة منها مفاهيمها وقيمها .
... وقد أدركت الأمة الإسلامية على مدى العصور متغيرات العصر وأحسنت التعامل معها عندما أقامت منهج الثوابت والمتغيرات وفي الفقه باب واسع لتغير الفتوى بتغير الظروف ودون أن يغير ذلك الثوابت التي أقامها الإسلام ، ودعا الإسلام إلى التوازن بين ملكات الجسم والعقل والروح ، ولعله ليس من المبالغة في شئ أن نقول إن كل الانتصارات التي حققها الفكر الحديث قدمها الإسلام قبل أربعة عشر عاماً واستطاع أن يحققها في مجتمعه حتى قطعها النفوذ الأجنبي عندما حجب النظام الإسلامي :
1 - نظرية حقوق الإنسان .
2 - إلغاء الرق أو تجارة العبيد .
3 - تفوق جنس على جنس .
4 - حرمان المرأة من حقوقها .
5 - الإكراه في الدين .
6 - حقوق الأقليات .
... كذلك فقد أعلن الإسلام حق العقل في النظر فضلاً عن أنه منطلق التكليف ولكن بمفهوم مختلف عن مفهوم الغرب فهو أولاً ليس مقدساً ، وثانياً أنه ليس مفرداً ، فالإسلام يجمع بين العقل والوحي ، ويجمع بين العقلانية والوجدانية ويقدم الوحي على العقل ويرى أنه هو نوره وضيائه .(4/4)
... وقد دعا الإسلام إلى التغيير والتطور ولكن من منطلق أصيل فهو لا يقر التغيير الدائم ولا التطور المطلق دون تقدير للثوابت ، ويعتبر الإسلام الثوابت أسساً دائمة غير قابلة للتطور أو التغيير ولكن يمكن تطوير أساليبها ووسائلها ، والمعرفة الإسلامية تقوم على قاعدتين ثابتتين هما الغيب والعقل ، فإذا حذفنا الغيب تصبح معرفة ناقصة منشطرة بعيدة عن الاستجابة الحقيقية للإنسان المشكل أساساً من قبضة الطين ونفخة الروح ، ولذلك فنحن لا نقر الدعوة إلى التعميم بين القيم دون مراعاة القيم الثوابت والقيم القابلة للتغيير ، والإسلام لا يفرض الجمود ولا الثبات الدائم ولا يقف أمام التطور والتغيير في القيم الجزئية .
... والإسلام لا يقدس الماضي ولا التاريخ ولا التراث ولكنه يراه طاقة ضوء وتجربة نستفيد منها ونبني على الصحيح منها وهو لا يغالي في نفس الوقت في الخضوع لقيم الحضارة الغربية لمخالفتها لمناهج الإسلام في بعض المواضع وهو لا يفصل التراث عن العصر ، ذلك أن تراثنا غير تراث الغرب .
... ومن هنا كان منهج الوسطية الإسلامية هو منطلق الصحوة الإسلامية ونبراسها الذي يحقق قيام المشروع الحضاري الإسلامي الجامع بين المادة والروح ، والعقل والقلب ، والدنيا والآخرة ، ولا ريب أن مفهوم الإسلام قائم على قاعدة أخلاقية أساسية تحميه من الوثنية والإباحية والكشف والعري والجنس وكل المحرمات التي تحاول أقلام كثيرة ضالة اليوم أن يفتح فيها الثغرات لهدم الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم ، ولقد عاش المجتمع الإسلامي خلال أربعة عشر قرناً على القيم الخلقية كالعفاف والشرف والبكارة والنقاء وهي ظاهرة قلما تستطيع الأقلام اليائسة أن تحقق لها وجوداً حقيقياً في قلب يملأه عطاء القرآن والسنة وكرامة الإنسان وارتفاعه عن الدنايا .(4/5)
... نحن المسلمون لا نؤمن بالعبثية ولا بالوجودية ولا بالفكر المادي مهما نشرت صفحاته ولن تخرج الأمة الإسلامية من إهابها الذي شكلها منذ أربعة عشر قرناً ، وسوف تعجز كل القوى أن تحتويها أو أن تصهرها في بوتقتها ، وستكون قادرة دوماً وفي كل أزمة على الخروج منها ، فالإسلام دائماً يرفض الجسم الغريب ويدفع أهله إلى العودة إلى المنابع ، ومعنى هذا كله أن نؤمن إيماناً صادقاً بالمنهج الإسلامي ، وأن نعرف وجوه الخطر والمؤامرات التي تحاول أن تجتاح الوجود الإسلامي وأن نكون قادرين على امتلاك الإرادة والصبر والمصابرة في صمود حاسم وفي أداء حقيقي لشريعة الله ، ليس في العبادات فحسب ، بل في المعاملات الاجتماعية والاقتصادية ، ونحن لا نبني في فراغ ، فإن لدينا الأصول الثابتة للشريعة الإسلامية واللغة العربية في دستور الأمة أساساً مكيناً لكل تحول نحو استكمال وجودنا الحضاري الأصيل ، ... وبالجملة فإنه إزاء كل التحديات القاسية والأوضاع المظلمة والمؤامرات التي تتجمع حولها قوى الطغيان والإلحاد والماركسية والعلمانية ، لا أمل للمسلمين ولا مخرج من الأزمة إلا بشيء واحد هو : " العودة إلى التماس منهج الله تبارك تعالى "
* ... * ... *
المجتمع الإسلامي
أخطر ما يواجه العالم اليوم غياب أخلاقية المجتمع والحضارة
... إن أخطر ما يتجاوزه المحاورون في أمر الشريعة الإسلامية وحضارة الغرب وقضايا التقدم والنهضة والأيديولوجيات والفكر السياسي والاجتماعي في المقارنة بين الإسلام والغرب يتجاوز الباحثون العلمانيون قضية القيم الأخلاقية ويتجاهلونها تجاهلاً تاماً ، تحت تأثير الفلسفة المادية التي تنكرت للدين الحق ، وقد أعلن كثير من الباحثين أن فساد الدراسات الخاصة بالمجتمع والحضارة ترجع إلى تجاهل الفكر الغربي لهذا البعد الخطير والأساسي للحياة الإنسانية والذي لا يمكن أن تستقيم بدونه .(4/6)
... أما نحن المسلمون فإننا نرى في أخلاقية المجتمع والحضارة دعامة أساسية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها أو تحريفها ، ونرى الأخلاق مرتبطة بالعقيدة فهي جزء منها وهي في موقع الثوابت التي لا يمكن أن تتغير بينما هم يرون أن الأخلاق هي من متغيرات المجتمعات التي تخضع لظرفه وأوضاعه ، وأن الأخلاق بمعنى الفضيلة وحماية العرض والغيرة وحفظ الأنساب مسألة لا أهمية لها ، بينما يراها الإسلام قاعدة أساسية ثابتة راسخة ، ويرى إن المجتمع الذي ينهار أخلاقياً لابد أن يسقط وأن يدمر ، وأن سر سقوط المجتمعات الحضارات هو الانهيار الخلقي التي وقعت فيه مجتمعات اليونان والرومان والفرس وغيرهم وأنها سنة الله تبارك وتعالى التي لا تتغير ولا تتبدل أن يتحطم المجتمع الذي لا يقيم منهج الله في الأخلاق .
... ولا ريب أن هذه القضية لها أهميتها الخطيرة في نظام الإسلام وقد وضع لها الإسلام الضوابط والحدود والقواعد حماية للإنسان نفسه من أن تدمره الشهوات والإباحيات وحماية للمجتمع نفسه ، أما دعاة العلمانية والتغريبيون فإنهم لا يتناولونها أبداً ولا يشيرون إليها ولا يحسبون حسابها في تقديرات قيام الأمم وسقوطها ، ذلك لأن المنطلق الذي ينطلقون منه هو المنطلق المادي البحت ، القائم على التقديرات الرياضية البحتة ، دون أي تقدير للقيم المعنوية والروحية التي يجب أن تحكم خطوات التقدم وحركة الحضارة .(4/7)
... ولما كانت القاعدة الأخلاقية في بناء المجتمعات والحضارات أساسية فقد تبعها سلامة التعامل الاقتصادي والاجتماعي في مجال المال والأسرة والعلاقات بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأبناء وبين عمليات البيع والشراء جميعاً على أساس الحلال والحرام ، من حيث أحل الإسلام البيع وحرم الربا ، ومن حيث إقامة شرعة التوجيه والرعاية بين الآباء والأبناء ومن حيث معرفة المرأة لدورها في الأسرة والمجتمع ومسؤولياتها وعدم تجاوزه ومن حيث احتفاظها بكرامتها في مجال العمل وحماية كيانها من أن تدفعها المغريات إلى الانحراف .
... ومن هنا فإن أخلاقية المجتمع والحضارة توجد عديداً من الخلافات الواسعة والعريضة بين مفهوم الإسلام وبين مفهوم الغرب ، ومنها أيضاً يكون موقف الإسلام من حضارة الغرب الاستهلاكية القاتمة ، وتدافعها نحو اللذات والشهوات والترف والفساد الاجتماعي وما نتج عن ذلك من عوامل الإباحة والزنا وتدمير الأسرة وظهور أجيال من اللقطاء ، ولا ريب أن تدافع الناس نحو الكسب الحرام هو عامل ضروري لمجتمع الربا الطامح إلى استنزاف الثروات في أمور كمالية وترفيهية خاضعة لما يسمى بالمودة المتغيرة دائمة التغيير التي تتطلب مزيداً من الإنفاق والاستدانة وهكذا تتسع دائرة الخطر الذي ينتج عن تدمير المجتمع لقاعدة أخلاقية المجتمعات والحضارة بما يؤدي في النهاية إلى سقوط هذه المجتمعات وانهيارها .
... لقد جاء الإسلام ليرسي منهج الفطرة القائم على قاعدتين أساسيتين :
القاعدة الأولى :
... الربانية وإسلام الوجه لله وتوجيه حركة الفرد والمجتمع الوجهة التي رسمها ... ... الحق تبارك وتعالى والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الخالق وأن كل حركة ... ... الإنسان تكون في الوجهة التي رسمتها أديان السماء إيماناً بالمسئولية الفردية ... ... والجزاء الأخروي.
القاعدة الثانية :(4/8)
... أخلاقية التعامل والحياة وهي قيام العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة وبين ... ... الآباء والأبناء وفي عمليات البيع والشراء على أساس أخلاقي محرر من الربا ... ... والزنا والفساد الأخلاقي .
... وقد سقطت القاعدتان في الحضارة الغربية وانهارتا تماماً فالفلسفة الغربية تنسب الكون والحياة إلى الطبيعة وتتنكر تنكراً تاماً للخالق الأكبر ، ثم هي توجه حركتها في الحياة وجهة مغايرة تماماً لمنهج الله ، وتجعلها للسيطرة والمطامع والأهواء ولإرهاب البشرية بالقنابل الذرية والصواريخ عابرة القارات والاستعلاء بالعنصر والدم واللون ، ومعاملة الأمم الأخرى معاملة الرقيق مع نهب الثروات وإذلال الشعوب والأمم الفقيرة وحرمان الشعوب من ثمراتها ومواردها والحيلولة بينها وبين امتلاك إرادتها ، ومعنى هذا أن الحضارة الغربية تعلن الحرب على الفطرة وعلى النظام العالمي الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وهو أكبر انحراف وقعت فيه البشرية في معارضة خط حركة الكون وأن امتلاك أدوات العلم والحرب والقوة تنحرف اليوم انحرافاً شديداً عن الوجهة الحقيقية وعن الغاية الصحيحة وأن تدفع دفعاً نحو تسخيرها لمطامع قوى بشرية محدودة في سبيل الاستعلاء والسيطرة واستعباد البشرية كلها ، واستخدام مقدرات هذا الكون كله لأغراضها الشخصية والتصرف فيه كما تشاء دون تقدير لمسئولية استخلافها في الأرض وهذا هو الخط المنحرف الذي وصلت إليه معطيات العلم والتكنولوجيا عندما خرج المسيطرون عليها عن الوجهة الربانية التي رسمتها الأديان المنزلة وهو ما تطورت إليه الحضارة الغربية والمجتمعات الغربية خروجاً من الدين إلى العلمانية والإلحاد والوثنية والإباحية في خطوات سريعة متدافعة دون تقدير لمسئولية الإنسان الذي استخلفه الله تبارك وتعالى على هذا الكوكب وذلك هو المأزق التي تندفع إليه البشرية بمقدراتها الهائلة التي أعطاها الله تبارك وتعالى لها حين فتح لها طاقة العلم والاختراع فكانت من(4/9)
تاريخها استنزاف مقدرات الأرض ودفعها نحو الشهوات والفساد على نحو سبقت إليه حضارات اليونان والرومان والفرس وغيرها وإن لم تكن قد بلغت هذا الشأن من التقدم العلمي .
... ولقد حذر القرآن الكريم في عشرات المواضيع من آياته من إهلاك القرى إذا ظلمت وخرجت عن منهج الله تبارك وتعالى وحاولت الادعاء بأنها ليست في حاجة إلى وصاية الدين أو وصلت إلى حد مقولة مضللة ( إن الله مات ) جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً وإذا كان هناك من الباحثين الغربيين من يحاول عن طريق الحوار مع الإسلام استنقاذ هذه الحضارة من الهلاك فإننا نرى أن القوى التي تمسك بمقاليدها من قادة إمبراطورية الربا والعجل الذهبي يدفعونها دفعاً إلى طريق اللاعودة .
... وأخطر ما في الموضوع تلك المحاولة التي ترمي إلى إدخالنا كمسلمين في هذه البوتقة بدعوتنا إلى الانصهار في مجالات الغرب الاقتصادية والحضارية وتقبل الاحتواء ، بما يفرض علينا الآن من قبول أسلوب ( الاستهلاك ) والترف وكل ما تقدمه الحضارة من خمر وإباحيات وربا على نحو خطير يؤدي إلى تدمير ذاتيتنا الخاصة والقضاء على قدراتنا على المقاومة بما يعطينا من حماية وجودنا ، ومن أخطر ما يخشى منه أن نقبل مفاهيم الغرب في الأخلاق فنرى أنها نسبية أو مرتبطة بالعصور والبيئات بما يخرجها عن وضعيتها الصحيحة من حيث أنها قيماً ثابتة لا تتغير : الحق والباطل ، الحلال والحرام ، الفجور والتقوى ، الإيمان والكفر .
... ونرى البعض يتحدث عن بعض الشخصيات فيصفها بالبطولة ويرى أنه ليس بالضرورة أن يكون من سمات البطولة الشرف أو العفاف أو التقوى ، جرياً وراء صورة البطل في النموذج الغربي حين يكون فاسقاً وفاجراً وظالماً وطاغياً .(4/10)
... إننا مطالبون بأن نكشف للبشرية عن مفهوم المسئولية الفردية للإنسان ومهمته في الأرض وحدود استخلافه والتزامه الأخلاقي وإيمانه بالبعث والجزاء بعد إيمانه أساساً بالتوحيد والغيب والوحي والنبوة وما أرسل الله تبارك وتعالى من كتب ورسل وملائكة .
... ومطالبون بأن نؤكد فساد نظرية الطبيعة التي يضعها الغرب بديلاً عن ذات الله تبارك وتعالى ، وأن يؤمن البشر بالألوهية الخالقة الرازقة التي تملك مقاليد الأمور كلها ومنه تبدأ حركة الإنسان وإليه تنتهي وأن المسلم مطالب بإقامة منهج الله في الأرض من خلال الأسرة المسلمة والأمة المسلمة والحكومة المسلمة وأن على المسلمين تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين ، فإذا فقدت المجتمعات والحضارات هذا البعد الرباني ، ثم فقدت البعد الأخلاقي فهي حضارة ضالة مضطربة ، تواجه كل يوم الضربات نتيجة انحرافها وأنها إذا أصرت على وجهتها ولم تستقم على الأمر فإنها تتقدم إلى الهلكة والتدمير الكامل ولها في الحضارات التي خرجت عن منهج الله من قبل أسوة ، فهل تعود الحضارة الغربية إلى الحق وهي الآن في مرحلة السقوط والانهيار ؟ .
المجتمع والقيم الإسلامية
... أبرز الظواهر التي نبرزها اليوم :(4/11)
... هي ظاهرة إفساد القيم الاجتماعية الإسلامية عن طريق المسلسلات التي أصبحت تفرض نفسها على الأسرة المسلمة ، كتاب هذه المسلسلات سوف تحرق أيديهم التي تحمل الأقلام نتيجة هذه الوجهة الخطيرة التي يدور حولها وقائع هذه المسلسلات وحوارها فهي تخلق في المجتمع مشاعر عدة أقواها أن المجتمع ليس إلا غابة تتصارع فيها النفوس الحاقدة والظالمة والباغية حول متاع الدنيا سواء من المال أو من الجنس ، فهي تدور حول مؤامرات خطيرة وأساليب ماكرة ووسائل خبيثة بحيث يتصور مشاهدها ومستمعها أن الحياة كلها معركة يقودها الظالمون ليفرضوا على الناس جميعاً بوسائلهم الماكرة والخبيثة نفوذهم وسلطانهم ، فلا تلمح أبداً في هذه المسلسلات أية بادرة خير أو أية نفس طاهرة تقية أو أية وجهة خالصة لله ، وكأنما قد انقطع من الدنيا كل عمل طيب أو كلمة طيبة أو حق واضح .
... فالحياة مظلمة تماماً لا بريق فيها ولا نور ، ولقد ازدادت هذه المسلسلات في الأيام الأخيرة حدة وعنفاً فغلب عليها طابع الجريمة والقتل والاستهانة بأمر الحياة من أجل تافه الأمور ، وهذا طابع جديد يتمشى مع الظواهر الجديدة التي يمر بها مجتمعنا في هذه الأيام ، وكأنما يراد القضاء بهذه المسلسلات على كل بارقة خير أو إيمان أو عاطفة براً أو مقولة سلام في مجتمعنا وإعادة الناس إلى مجتمع الغابة للقوي .(4/12)
... فإذا أضفنا إلى هذا ظاهرة التأثير الصارخ والصاخب عن طريق وسائل التسلية والترفيه أو الإضحاك بما وصلت إليه من فحش وفساد وخروج عن كل الآداب واللياقة وجدنا أن هناك حصاراً قاسياً يكاد أن يحتوي مجتمعنا الإسلامي الذي يتحدد اليوم من داخله على طريق الإيمان والعفاف والطهارة والصلاة أو البحث عن اللقمة الحلال ، وكأنما هي عملية إجهاض خطيرة تشترك فيها عناصر كثيرة أهمها تلك الأجهزة التي لا فكاها من سيطرتها على كل بيت وكل أسرة وكل شاب وكل فتاة ، بما تحمل من رقص خليع ، وحوار نازل ، وأغاني صاخبة ، وتجاوزات يراد أن تأخذ طابع القبول وكأنها أمر مشروع لا اعتراض عليه .
... لقد كان واضحاً منذ البداية أن النفوذ الغربي يعمل على تدمير المجتمع المسلم من خلال هذه الوسائل : المسرح والإذاعة والتليفزيون ووسائل الإضحاك والبث والترفيه وهي وسائل مشروعة إذ حملت وسائط برامج بريئة مقبولة ، أما وهناك تلك القوى القائمة وراء هذه الأجهزة والتي تصدر عن مخططات معروفة وقد سبق الكشف عن مخططها لهدم الخلق والعفاف والأمان في نفوس هذه الأمة وهدم كل ما تحاول أن تبنيه حركة الصحوة الإسلامية بما تقيم من أسباب الكرامة والعفاف والخلق ، فإن الأمر يصبح خطير شديد الخطورة بالغ الأثر مما يحب أن يكشف عنه ويتخذ من الإجراءات ما يحمي الأسرة المسلمة المؤمنة من أسباب الانهيار والتدمير .(4/13)
... يجب أن يكون معروفاً واضحاً أننا نختلف مع الغرب في أمر ( الترويح ) الإسلامي الذي يختلف عن ( الترفيه ) وعن الانطلاق وراء الأهواء والاندفاع وراء بواعث الشهوات فالإسلام يقيم قاعدة التوسط والاعتدال في كل الأمور ، وهو لا يحرم الترويح بل يدعو إليه ولكنه لا يجعله مطلباً فوق المطالب بل يدعو إلى حماية الوقت وإنفاقه في الخير والبناء والتشييد ، ولا يقر أن يطلق المسلم نفسه وراء هذه الأهواء لينفق فيها جل وقته أو يعكف عليها بالسهر والإسراف ، فيما يربط به أحياناً من اللذات المحرمة بحيث يفقد قدرته على العودة في الصباح إلى العمل الجاد ، فهذه النفس الإنسانية أمانة لدى المسلم يجب أن يحميها ويحافظ عليها ويحميها من الانهيار والتمزق وأن في ذلك حماية للأمة لها ، فالأمة اللاهية لا تستطيع أن تحافظ على وجودها أو تحمي ثغورها ، ونحن المسلمون في هذه المنطقة من العالم مطالبون بأن نكون على تعبئة دائمة ورباط كامل في وجه المؤامرات الخارجة التي تدبر لنا ، ويجب أن نعلم أن هذه القوى تريد تدمير قواتنا النفسية وكياننا الاجتماعي والروحي ، حتى تكون قادرة على احتوائنا والسيطرة علينا وإيقاف وجودنا واحتواءه .(4/14)
... ومن خلال هذا " الخطر " الذي يجب أن يكون واعين له لا نغفل عنه لحظة يجب أن ننظر إلى ما يسمى بالفن والترفيه ووسائل الإضحاك والتسلية ، فإن هذه الوسائل قد غلفت الآن بغايات بعيدة ، ومطامع كثيرة ، وقد أريد لها أن تتجاوز طبيعة التسلية والإضحاك وملء الفراغ إلى أمور خطيرة يراد بها هدم المفهوم الإسلامي الاجتماعي الجاد القائم على حماية الأسرة وحماية الفرد وحماية العلاقات بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأبناء ، فقد أوردت بروتوكولات صهيون نصوصاً كثيرة يجب أن تكون موضع اهتمام الباحث والعلماء فيما ترسمه من محاولات كثيرة لتدمير المجتمع ، ولتدمير المجتمع الإسلامي بالذات مما يمكن للقوى الأجنبية من السيطرة والاحتواء والقضاء على الحصانة الدينية الأخلاقية الإسلامية التي كانت ولا تزال على مدى القرون قادرة على أن ترد عن هذه الأمة موجات الغزو والسيطرة .
... ومن هنا فإننا نجد أن الذاتية الإسلامية المنفردة بطابعها الخاص تمتحن اليوم امتحانا شديداً في محاولة لهدمها وتذويبها والقضاء على تميزها ، بغية صهرها فيما يسمى الأممية أو الثقافة العالمية حتى يتوقف عملها في امتلاك إرادتها وفي قدرتها على تبليغ الإسلام إلى العالمين .
... إن مفهوم الفن ( الغربي المصدر إلى بلادنا ) إنما هو مؤامرة واسعة موجهة إلى الإسلام أساساً ، يراد بها تحطيم الأمة في قواها ورجولتها وعزيمتها في محاولة لخلق أجيال منهارة ممزقة غير قادرة على حماية وجودها أو إقامة منهجها أو بناء عزتها وكرامتها ، وهو موجه إلى الأمة الإسلامية في المقام الأول فهي وحدها المؤملة لحماية أمانة العصر والحضارة .(4/15)
... وربما وجد بعض ذوى الشأن في الفن وسيلة تدفع عنهم مطلب العدل أو الحرية ولكن ذلك لن يحقق للمجتمعات الحماية والصمود في وجه الأخطار ، فقد تجاوزت وسائل الترفيه والتسلية والإضحاك كل حدودها الطبيعية فهاجمت القيم ومقدرات الدين وسخرت من كل مقررات الخلق والعدل وأعلت من شأن الجريمة والجنس حتى جعلته مسيطراً على الحياة كلها ، وجعلته في نظر الشباب المسلم كالأمر المشروع الذي لا حرمة فيه فانفتحت بذلك أبواب كثيرة للحرام والشر والفساد ، وقلد الشباب أبطال الأفلام فأفسدوا في الأرض وازداد حجم الإرهاب والقتل والنهب وأحداث القلاقل .
إن هذا الفن الوافد هو مخطط سياسي استعماري خطير تشترك فيه قوى كثيرة غربية وماركسية وصهيونية ترمي إلى احتواء المسلمين أساساً وتعمل على تدمير القيم الروحية والأخلاقية وذلك حتى يفقد المسلم كرامته وأصالته وخلقه .
... ولذلك فنحن ندعو إلى تجلية مفهوم الإسلام للفن ، ذلك المفهوم القائم على الترويح والأخلاق وحماية الوقت ، وحماية الذات الإنسانية من التدمير والانهيار تحت تأثير المخدرات والسموم وحماية كرامة الإنسان وصيانة شرفه وعرضه وأسرته جميعاً
... إن علينا أن نكون على وعي واضح صريح بأن هناك محاولة لإفساد القيم الاجتماعية الإسلامية عن طريق المسرح والفن والغناء والرفض من خلال هذه التيارات العاصفة التي تقدمها وسائل التسلية والإضحاك لتخدعنا عن جوهر إيماننا وخلقنا وعقيدتنا فلنحذر .
مسؤولية المجتمع والأسرة عن انحراف الشباب
... يمثل المجتمع المسؤولية الكبرى في انحراف الشباب وعنه تصدر المخاطر والمحاذير التي وصلت به إلى مراحل الخطر التي يمر بها الشباب في هذه المرحلة ، وهذه المسؤولية ذات ثلاثة فروع أساسية :
(1) مسؤولية البيت .
(2) مسؤولية المدرسة والتعليم .
(3) مسؤولية الشارع وجماعة الرفاق .
أولاً : مسؤولية البيت : ...(4/16)
أما البيت فهو المسؤول الأول لأنه محضن الشاب والفتاة ، منذ الولادة والآباء والأمهات مسؤولون مسؤولية مباشرة في المراحل الأولى وهي مسؤولية تتطلب العناية والرعاية والتوجيه اليومي دون أن تشغل عنه أي مهمة أخرى فإذا قصر الأب والأم في ذلك فقد أسلما أبناءهم إلى خطر عظيم وهو أن يواجه الأبناء المجتمع دون حماية أو حصانة تجعلهم قادرين على شق طريقهم في أمان ولأنهم سوف يواجهون المجتمع بأمواجه ومخاطرة بدون إسناد من إيمان قلبي أو وعي عقلي أو فهم حقيقي للأخطار المحيطة والتي تهب كالريح العاتية من كل مكان .
ولقد برزت في العقود الأخيرة هذه الأزمة : حين فرط الآباء والأمهات في الرقابة الدائمة والرعاية المتصلة وغفلا عن التوجيه الدائم للأبناء ومتابعة كل ما يحدث في المجتمع والانتفاع به في التجربة الخطيرة ولخلق جو من الحماية يحول بين الأبناء وبين الوقوع في الأخطار والمحاذير .
... فقد غفل الآباء عن الأبناء تماماً وشغلتهم أعمالهم الدنيوية وجرفتهم عن متابعة أمور الأبناء متابعة فعلية ، وغلبت عليهم في ذلك مفهومين خطيرين ( وكلاهما وافد ومغرب ) :
أولهما : مقولة أن الأبناء يجب أن تعطى لهم الحرية الكاملة لاختيار طريقهم .
الثاني : مقولة أن المطلوب من الآباء هو العطاء المادي وحده وقد كان من أثر ذلك أن فقدوا الحضانة الواجبة وتحملوا ثمار ذلك التقصير من نتائج سيئة بالغة الخطر عندما وجدوا أبنائهم وقد سقطوا صرعى للمخدرات أو للتحلل أو للتطرف أو للفهم الخاطئ .(4/17)
... ولعل أخطر ذلك كله ظاهرة سفر الآباء للعمل في الخارج تاركين أولادهم في حضانة أمهاتهم اللائي لا يملكن من الوسائل ولا من المعرفة ما يمكنهن من رعايتهم فضلاً عن طبيعة المرأة التي تحول بينها وبين الحماية الحقيقية أو التوجيه السليم ، وبذلك يعود الأب من رحلته بمال كثير في نفس الوقت الذي يكون ابنه قد دمر تماماً خلقياً أو اجتماعياً ، وبذلك نضحي بأبنائنا في سبيل الحصول على قدر من الموارد التي لا تكاد تغطي الخسارة الحادثة من فقدان أبنائنا لأنفسهم .
... أما فكرة إطلاق حرية الشباب في اختيار طريقهم فهي نظرية مادية غربية دعا إليها ( فرويد ) وتبناها بعض المغربين أو المتفرنجين ، وكانت آثارها في الأبناء وفي البنات بعيدة الخطر ، ذلك : أن القاعدة الصحيحة هي حماية الأبناء في هذا السن وكسب ثقتهم حتى يسلموا قيادهم إلى التوجيه الصحيح وعبروا هذه المرحلة الخطيرة .
... ويستدعي هذا أن يوجه الآباء أبناءهم منذ الصغر إلى تربية دينية وأخلاقية سمحة ، بعيدة عن التزمت والتطرف ، وفهم الإسلام والقيام بفرائضه مع الأسرة ومعرفة الخير والشر والحلال والحرام ولابد من خلق جو نقي في داخل البيت يجعل الأبناء في المراحل الأولى قادرين على تكوين طبيعة رحيمة سمحة في قلوبهم ووجودهم حتى لا يشبوا قساة القلوب أو تذهب بهم الأحداث مذهباً غريباً وعلى الآباء تحاشي الخلافات والصراعات التي تكون بعيدة الأثر في نفسية الأبناء وخاصة إذا وقعت حالات انفصال أو طلاق فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انحراف الشباب وتأزمه وظهور طابع اليأس والتشاؤم في محيط الأسرة .
ثانياً : مسؤولية المدرسة والتعليم :(4/18)
فإذا تحرك الشاب إلى المدرسة فقد وجد جواً آخر حافلاً بالتحديات يمثل في سلوك المدرسين وفي سلوك جماعة الرفاق ومن هنا تتكشف مخاطر سوء اختيار سوء المعلمين أو مطامع البعض منهم واستغلال الفرص للكسب عن طريق الدروس الخصوصية فضلاً عن طريقة التعامل نفسها في داخل المدرسة مما يتطلب تعلمين المعلمين وتربية المشرفين لأداء هذه المهمة على نحو كريم .
ثالثاً: مسؤولية الشارع وجماعة الرفاق :
فهم في نظر علماء التربية من أخطر العوامل ذات الأثر البالغ في التصرفات الخاصة والرحلات والسهرات وما يتصل بها من أخطار مما يستدعي ضرورة حماية الآباء لأبنائهم والتعرف على زملائهم وأسر زملائهم وحسن اختيار هذه الرفقة ، وذلك حتى لا يقع الأبناء في أسر عائلات فاسدة أو شباب مغرر به أو الوقوع في أسر المخدرات أو الفساد الخلقي .(4/19)
... ويتصل بهذا منهج التعليم نفسه والمواد التي تدرس في المدارس وخاصة العلوم الإنسانية المستمدة من الفكر الغربي والتي لا تتفق من قريب أو من بعيد مع عقيدتنا وقيمنا ومفاهيمنا ، وأخطر ما في ذلك سيطرة مفاهيم اللغات الغربية على اللغة العربية والازدواجية في الفكر ( ومن أمثلة ذلك : قصة خلق الإنسان التي تدرس في حصص الدين بمفهوم وفي حصص العلوم بمفهوم آخر ) ولا شك أن العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تدرس في مدارسنا مأخوذة من مفهوم غربي قائمة على أساس الفكر المادي ومتنكر تماماً لمفهوم الدين الحق وهناك علوم كثير تتحدث عن الطبيعة بدلاً من التحدث عن خالق الطبيعة ، وهناك في هذا المجال الكتاب المترجم والذي يقدم على أنه من العلوم بينما هو في الحقيقة من النظريات التي قدمها العقل البشري والقابلة للصواب والخطأ ، فنحن في حاجة إلى توجيه أبنائنا إلى أن يفرقوا بين النظرية البشرية والعلم التجريبي وحقائق الدين وأهمها الألوهية والنبوة والغيب والمسؤولية الفردية وأخلاقية القيم ونجد هذه المفارقات واضحة في مختلف دراسات الأدب والنفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة بحيث يمكن القول بأن هناك منهجان مختلفان .
العودة إلى البيت :
... فإذا عاد الشباب إلى البيت واجهته مسألة أدوات الإعلام والترفيه كالتليفزيون والمسرح والسينما والمسلسلات وغيرها من الفنون التي تقدمها الإذاعة وكلها يقدم تصوراً مكشوفاً من المفاهيم حول المرأة والجنس وتقدم هذه المفاهيم من خلال مسلسلات هابطة الحوار منحرفة كتبت على نحو يخرج تماماً عن مفاهيم الإسلام الحقة ، فضلاً عن القصص الجنسية التي تملأ الأرصفة والتي تقدم مفاهيم منحرفة .(4/20)
... وقد تبين من خلال الدراسات التي قدمت عن طريق الإحصاء مدى خطورة ما تقدمه هذه المفاهيم وأثرها على الأسرة وعلى العلاقات بين الآباء والأبناء وبين الرجل والمرأة وغلبة التيارات الوافدة على مجتمعاتنا الإسلامية إلى حد التصور أن هذا " الانحراف الجنسي " ليس إلا أمر مشروع ومسموح به لأنه لا يوجد من يعارض ويرجع هذا إلى قصور القوانين الوضعية التي أباحت العلاقات المحرمة ولم تجعل لها عقوبة إذا كانت بالتراضي .
العامل الاقتصادي :
... ويأتي بعد ذلك العامل الاقتصادي وهو عامل خطير أشد الخطر من حيث وجود أسر لا توجد بها كفاية في الموارد ووجوه المقارنة التي تقع بين الشباب في الأسر الفقيرة والأسر الغنية وأثرها النفسي والاجتماعي وجاء ارتفاع السن في الشباب وعدم القدرة على الزواج مع العري والإباحة في المجتمع وأدوات الترفيه عاملاً خطيراً لانحراف الشباب ، مما دعا البعض إلى دخول حلقات المخدرات والفساد والعلاقات المنحرفة التي أدت إلى ظهور أخطار مرض المناعة في محيط الشباب فضلاً عن انتشار ظاهرة التدخين وغيرها ، ويمكن القول أن جميع الحوادث أو أغلبها التي يعرفها المجتمع اليوم ترجع إلى أثر ظاهرة ( الجريمة والجنس ) التي تقدمها المسرحيات والأفلام وأن الحوادث في المجتمع تجري على النحو من تقليد هذه الأفلام .
... وبعد: فإذا أردنا نتبين مدى هذا الخطر ومصدره فإننا نعتقد أن ( برتوكولات صهيون ) قد كشفت عن ذلك منذ وقت بعيد وأشارت إلى المحاذير والأخطار التي تواجهها المجتمعات الإسلامية من أجل تدمير أغلى ما تملك وهو الشباب ، ولا ريب أن بلادنا كانت مستهدفة دائماً ومعرضة ولا تزال معرضة ومستهدفة للتيارات الهدامة الوافدة من الشرق ومن الغرب مما يستوجب الحذر واليقظة الدائمة لمواجهة هذه الأخطار قبل أن تستفحل مما يستدعي وضع خطة شاملة تقوم على عدة محاور أساسية:(4/21)
أولاً : تعديل مناهج التربية والتعليم وتحريرها من التبعية للمفاهيم الوافدة والتحصن بالوجهة الإسلامية من ناحية الفهم الصحيح للإسلام بوصفه منهج التوحيد الخالص الذي يحمل لواء الإيمان بالبعث والجزاء والمسئولية الفردية ، والتصديق بالأديان السماوية جميعاً ومعاملة أهلها بالحسنى وجعل قيم الإسلام في العقيدة والمعاملات والأخلاق أساساً مكيناً وبديلاً عن عشرات المفاهيم الفلسفية المادية التي تخترق معظم المناهج الدراسة .
ثانياً : تعديل أساليب البث والتلقي في مختلف مجالات الصحافة والإذاعة وأدوات التسلية والترفيه وتحريرها من عنصر الكشف والتحلل التي تسيطر عليها من عدة نواحي : أهمها القصص المكشوف والأغاني الخليعة والصور العارية وتقديم تصور اجتماعي إسلامي أصيل بعيداً عن مفهوم الجمود والتطرف جميعاً وإعلاء مفهوم الوسطية الإسلامية .
... كذلك تقديم الفن ( في مختلف ميادينه ) بأسلوب إسلامي أصيل بعيداً عن الإثارة والإباحة ، والعمل على اتخاذ الفنون وسيلة للتربية وإصلاح المجتمع وتحرير الإرسال التليفزيوني والإذاعي من المسرحيات الهابطة والروايات النازلة والنظريات التي تحض على تقليد المجتمعات الغربية في الجوانب التي تصور الحياة الاجتماعية وكأنها ليست إلا هزلاً متصلاً دون تقديم ما عندهم من الجوانب الإيمانية في مجال العمل والبحث والكفاح من أجل الرزق والعمران .
... وأخطر ما في هذا المجال تلك الآثار السلبية التي تفرزها المسلسلات والتي تهدم كل قيم المجتمع والعلاقات التي رسمها الدين عامة في التعامل بين الأبناء والآباء والرجل والمرأة على نحو يترك أثاره الخطيرة الآن في الأسر والبيوت من تجاوز الرجال لحقوقهم مع الزوجات وتجاوز النساء واجباتهن مع الرجال .(4/22)
... وقد دعا كثير من الباحثين إلى تقديم ثقافة إسلامية ميسرة تملأ هذا الفراغ النفسي بمفاهيم سمحة ميسرة قوامها الإيمان بالله تبارك وتعالى وذلك تحذير من الخطر الذي وقع في غيبة مدارس التربية الإسلامية الرشيدة والذي أفرز هذه الانحرافات الفكرية ( خاصة وأن أولئك ) الشباب كانوا ضحايا التعليم المغرب الذي لم يوفر لهم حداً معقولاً من الثقافة الإسلامية أو يوفر لهم الحصانة ويكفل لهم التوازن النفسي والعقلي ، وكان إغلاق الأبواب المشروعة دافعاً لنفر من الشباب إلى طرق الأبواب غير المشروعة ، فازدادت ثقافة الظلام وكان نتاجها الطبيعي خليطاً من الشذوذ والانحراف الأمر الذي أوصلنا إلى مشارف العنف الفكري والمادي .
... ويقول الباحثون أن أجيال الشباب الأخيرة تفتحت على مفاهيم وافدة مضطربة تتغير بتغير القيادات مما أفقد الشباب معها كل ثقة ، وكان للإعلام أخطاره وآثاره شديدة التأثير ( فهمي هويدي ) ولو استطعنا أن نحقق تدريس مادة الثقافة الإسلامية في الثانوي والجامعات لتحقق أساساً سبباً لتكوين أجيال بعيدة عن العنف والانحراف .(4/23)
ثالثاً : تقديم خطة اجتماعية تسهل تمكين الشباب المتطلع إلى إقامة الأسرة من ذلك خاصة ذلك الشباب الذي يقدم لاختياره النصف الثاني ودخل مرحلة الخطوبة كمقدمة للزواج حيث يوجد المئات الذين أمضوا أكثر من خمس سنوات أو أكثر دون أن يتمكنوا من إقامة أسرهم الجديدة نظراً لعجزهم عن الحصول على مساكن ولارتفاع المهور وفي الإمكان وضع خطة لتخفيف هذه القيود سواء من ناحية إيجاد مساكن لطالبي الزواج أو تخفيض إيجاراتها أو تخفيف عمليات البذخ في شراء الأثاث والاكتفاء بغرفة أو غرفتين بما يمكن أن يكون عرفاً جديداً يدعو إلى كسر هذه الأزمة وليس من الضروري الانتظار الطويل الذي يفسر هذه العلاقة غير الرسمية إذ ليس من الضروري على الشباب الذي يمر بأولى مراحل حياته الاجتماعية من الحصول على الثلاجة والغسالة والبوتوجاز والتليفزيون .
رابعاً : عدم اتخاذ الممثلين والمغنيين مثلاً أعلى للشباب وذلك بالحديث المتصل عن حياتهم الخاصة وتقديمهم على أنهم نماذج من البطولة يمكن تقليدها من حيث الملابس وحركات اليد وغيرها وخاصة ما يجرى من إعادة التذكير بهم وتقديم أعمالهم في مناسبات متتالية بينما لا يقدم في هذا المجال أعلام الفكر أو الاجتماع أو الوطنية الذين قدموا لبلادهم الكثير .
خامساً : التحرر من التبعية الكاملة للمفاهيم الغربية في التعليم والإعلام والصحافة والثقافة وخاصة بعد أن كشفت الأبحاث العلمية الجادة فساد هذه النظريات المطروحة في مجال العلوم الإنسانية والأخلاقية والنفس والاجتماع - والتي يدرس الكثير منها في مناهج التعليم - بينما ثبت أن هذه الفلسفات ليست علوماً أصيلة وإنما هي نظريات وفروض قابلة للخطأ والصواب ، وقد سقطت الماركسية والوجودية وأصيبت مفاهيم القومية والليبرالية بالعطب وعجزت عن العطاء في بلادها وتأكد أن هذه النظريات تموت خارج أرضها وأنها لم توضع لتكون عالمية أو للناس جميعاً .(4/24)
... وآية ذلك أن الغرب يبحث الآن عن أيديولوجيات جديدة بعد أن أثبتت فلسفاته ومناهجه القديمة - التي مازلنا ندرسها ونظن أنها علوماً وليست فرضيات - أثبت أنها غير صالحة في بيئاتها وبالجملة فإن مسئوولية البيت والأسرة هي مسؤولية حاسمة خطيرة وأن توهينها هو مصدر كل الأزمات التي يعانيها المجتمع فلابد من العودة إلى إقرار هذه المسؤولية وتأكيد وجودها .
إسلامية الحياة والمجتمع
... الهدف هو حماية الذاتية الإسلامية والحفاظ على أصالة المفهوم الإسلامي في مختلف مجالات الفكر : سياسية واقتصادية واجتماعية ، فقد دأب خصوم الإسلام على تزييف مفاهيمه بالخلط والمراوغة والتزييف في محاولة لإعطاء المصطلحات المتشابهة صورة غير أصيلة ، خاصة في القضايا الأساسية وأهمها الدين والعقيدة والوحي والغيب والعلم ، حيث يوجد اختلاف واسع وعميق بين هذه المصطلحات في الإسلام والفكر الإسلامي وبينها في الفكر الغربي وخاصة مفهوم الدين .
... ذلك أن مصطلح الدين في الفكر الغربي هو اللاهوت أي العبادة حيث يقصر مفهوم الدين على العلاقة بين الإنسان وبين الله تبارك وتعالى ، فالفكر الغربي كله يقوم على أساس أنه لا يوجد أي التزام ديني بين الإنسان وبين المجتمع ولا يفرض الدين على المجتمع أية مسؤوليات أو التزامات أو ضوابط أو حدود يكون ملتزما بها في مجال المعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .(4/25)
... هكذا عرف الغرب حدود الدين ومسؤوليته الفردية بين الله والإنسان وأسقط أي التزام في حياته الاجتماعية فأعطى الحرية في التشريع لنفسه في أمور المجتمع ، وهذه هي النقطة الكبرى والأساسية في الخلاف القائم بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي . فالغرب يريد أن يفرض مفهومه هذا الذي عرف تحت اسم العلمانية ( أي الفصل بين الدين والمجتمع ) والمسلمون يصرون على تحقيق مفهومهم الأصيل الجامع الذي جاء به الإسلام مصححاً للبشرية طريقها في الجمع بين العلاقتين بين الإنسان والله تبارك وتعالى من جهة وبين الإنسان والمجتمع .
... ولقد حاول النفوذ الأجنبي أن يفرض على المسلمين مفهومه الجزئي زمناً بحكم سلطانه وسيطرته على المحكمة والمصرف والمدرسة ، ولكن المسلمين الذين لم يكونوا يملكون القوة التي تمكنهم من المعارضة صمدوا وثبتوا في موقعهم استطاعوا أن يثبتوا وجودهم ويؤكدوا كيانهم وأن يعلنوا أن الشريعة الإسلامية هي منهج حياتهم ، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك أن قرروا ذلك في أغلب دساتيرهم وقاموا بتقنين الشريعة ووضعها في صيغة قوانين عصرية ، وهم اليوم يمرون بمرحلة الصحوة ليؤكدوا حقهم في إقامة مجتمعهم الرباني الأصيل ويزيلوا هذه التي حجبت فيها الشريعة الإسلامية عن المجتمع خلال أكثر من قرنين من الزمان ، وهذه هي المرحلة الدقيقة التي تحتاج إلى مرونة فائقة وصبر وصمود وذلك عن طريق التربية الاجتماعية الداخلية بما يحقق للأسرة المسلمة أن تعرف واجبها وتصمد على تشكيل نفسها على منهج الإسلام حتى يؤكد المجتمع الإسلامي وجوده الحقيقي في مجال المعاملات الإسلامية من حيث علاقات الاقتصاد والتجارة وعلاقات الآباء والأبناء .(4/26)
... وإذا كان الغرب قد قصر العلاقة بين الله والإنسان ولم يجعل له أي التزام في حياته الاجتماعية فإن الإسلام يقرر أن المسلم ملتزم بالمسؤولية الفردية والقيم والضوابط في مختلف مجالات حياته كلها بحيث لا يستطيع أن يتصرف خارج هذه المنظومة التي رسمها له الإسلام في المعاملات في المجتمع كله سوء في مجال العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأبناء وفي شئون التعامل الاقتصادي ، وهي منظومة تقوم على مجموعة من القيم الثوابت التي لا تتغير ومجموعة أخرى من المتغيرات تختلف مع الزمان والعصر والمكان جميعاً .
... وقد مضى الإسلام في هذا الطريق الذي رسمه لأهله منذ بزوغ فجره إلى اليوم ولم يحدث الاختلاف والاضطراب إلا في هذين القرنين الأخيرين منذ أن دخلت قوى الاستعمار الغربي بلاد المسلمين وفرضت سلطانها في محاولة كاسحة لحجب الشريعة الإسلامية والنظام الاقتصادي الإسلامي والمنهج التربوي ونظام الحكم السياسي .
... فقد كان الغرب يطمح في السيطرة الكاملة على عالم الإسلام وتفريغه من وجوده الإسلامي وذلك بفرض القانون الوضعي والربا والإباحة وأن يصبح نفوذ الإسلام مثيلاً للأديان الأخرى قاصراً على العبادة والوقوف عند أبواب المساجد وكان الخطر بالغاً من ناحيتين : من ناحية أبناء المسلمين الذين تعلموا في معاهد تقوم على العلمانية والذين سافروا في بعثات إلى الخارج حيث تشكل من ذلك كله فئة من مثقفي المسلمين الذين يسير في ركب النظام الغربي سواء أكان الرأسمالي أو الماركسي وأخذ هذا النفوذ يملك من وسائل الدعوة ما يمكنه من إثارة الشبهات والتشكيك في عقائد المسلمين والادعاء بأن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان لعصر مختلف ولبيئة صحراوية وأنه لم يعد يصلح لمجتمع العصر وكان هذا هو الخطر الذي يمتد تحت أسماء التجديد والمعاصرة والحداثة والتنوير وغيرها من مصطلحات زائفة .(4/27)
... وكانت أخطر دعوات التغريب هي تقديم تصور ناقص ومغلوط عن المعرفة الإنسانية حيث ادعى أنها مستمدة من العقل والعلم وحدهما مع إنكار وتجاهل وحجب قوى المعرفة الأساسية وهي الوحي والغيب وهما أساس المعرفة الأساسي التي يكملها العقل والعلم اللذان يمضيان في ضوء الوحي أساساً ، فقد جاء الإسلام كما جاء الإنسان جامعاً بين العقل والقلب والمادة والروح ، وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بشطر وجوده وهو العقل والمادة فحسب وأن كل الاضطرابات الذي يواجه الحضارة الغربية والمجتمعات الغربية وهذه الأزمات اللاحقة التي يمر بها والفساد الخطير الذي يعيشه إنما يرجع إلى شئ واحد هو هذا التصور المعرفي الجزئي الخطير الذي يتنكر للروح والقلب والوحي والعقل .
* ... * ... *(4/28)
... واليوم والعالم كله يتطلع إلى التحرر من أخطاء الحضارة الغربية التي تنتشر في كل مكان في محاولة لتدمير الوجود الإنساني نجد أن الإسلام يتقدم بوصفه المخرج الوحيد من الأزمة والأمل الباقي وهي الحقيقة التي تتأكد كل يوم وتزداد ظهوراً ووضوحاً وتتمثل في الحقائق القرآنية التي وصل إليها علماء التجريب في مجالات كثيرة : الدورة الدموية ، كروية الأرض والجراحة والصيدلة والكيمياء العربية بالإضافة إلى منهج التجريب نفسه الذي صنعه المسلمون واستمدوه من القرآن الكريم ولم يكن موجوداً قبل ذلك أساساً . كذلك ما قرره علماء الإسلام من حقائق ووضعوا من قوانين حول علوم الاجتماع والاقتصاد والتربية والسياسة وفي مقدمة ذلك الشريعة الإسلامية التي شهد لها علماء القانون في الغرب خلال عشرات المؤتمرات خلال أكثر من خمسين سنة في نفس الوقت الذي كانت القوى الاستعمارية تحارب الشريعة في داخل المجتمع الإسلامي وتحجبها عن أهلها وما تزال مؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن تكشف عن عظمة عطاء الله في الخلق وفي خلق الإنسان وفي المؤتمر العالمي السادس للإعجاز العلمي في القرآن الذي عقد في باندونج خلال هذا العام 1994م يقول الدكتور لويس البو الأمين العام للمدرسة العالمية للعلوم في باريس ما يلي :
" إن الجنس البشري يتعرض بأكمله لأزمة حضارية تكاد تهدد مصيره بالفناء ، ولعل من أبرز أسباب تلك الأزمة التقني المتسارع في ظل غيبة ( الالتزام الأخلاقي ) والديني ومما جعل ثمار هذا التقدم يستخدم لغايات عسكرية ومدنية غير مسؤولة تهدد مستقبل الأرض وما عليها من حياة ، والطريقة الوحيدة للخروج من هذه الأزمة التي تتعرض لها البشرية بأسرها هي : إحياء الضمير الإنساني والإحساس بأمانة المسؤولية من أصحاب وحملة لواء المسئولية العلمية " .
* ... * ... *(4/29)
... وهكذا إن الوقت الذي تتكشف فيه أخطار الحضارة الغربية وانحرافها وتبين ذلك لعلماء فيتجردون من الأهواء ينذرون هذه الحضارة بالانهيار نجد أن القوى المتسلطة وفي مقدمتها القوى الماركسية واليهودية وغيرها تدفع الأمة الإسلامية دفعاً إلى السقوط في هوة هذه الحضارة وتحاول أن تعرض عليها مناهج اجتماعية خطيرة ترمي إلى إشاعة الفاحشة والفساد والانحلال الخلقي بالدعوة إلى الإجهاض والحرية الجنسية للشباب والأسرة المحرمة وهدم الأسرة الطبيعية ورفع ولاية الآباء على الأبناء وإباحة البغاء بإلغاء القوانين التي تحرمه وتعليم الجنس للأطفال والمراهقين ، كل هذا يراد تنفيذه في المجتمع الإسلامي تحت أسماء كاذبة براقة والحقيقة أنهم يريدون إنقاص المسلمين وقتلهم في الأرحام والإبقاء على الثروات في أيدي السادة على نفس الطريقة التي كانت تقوم في الإمبراطورية الرومانية تحت عنوان ( روما سادة وما حولها عبيد ) ، وهكذا تنكشف الغايات البعيدة في احتواء المسلمين والسيطرة على وجودهم وكيانهم وثرواتهم .
* ... * ... *
... لقد تكشفت الحقائق للمسلمين فلم يعد يخفى عليهم الهدف الخطير وراء المؤامرة التي تدبر لهم والتي ترمي إلى حصارهم واحتوائهم بالرغم من الخفاء الذي يجري وضع هذه المحاولات فيه ، وهي محاولات متعددة في مواقع مختلفة : الدعوة إلى التنوير والحداثة والعلمانية والدعوة إلى الفرانكفونية والجامعات المغربة التي تنشأ في بلاد المسلمين والعرب وهذا النوع الجديد من التبشير والتغريب بأساليب جديدة حيث يجري الغزو الثقافي اليوم في محاولة للسيطرة على الكيان الإسلامي العقلي والثقافي بحيث نخضع لمفهوم غريب هو تفريغ الإسلام من شريعته السمحة العالمية التي عم نورها هذا الكوكب أكثر من ألف عام ورغم كل المحاولات التي وجهت إلى هذه الغاية فقد ظل الإسلام قادراً على الثبات والصمود رغم ضعف قواه المادية .(4/30)
... ولقد تأكد للغرب ثبات الإسلام في وجه العلمانية حتى يقول أحد كتابهم : إن الإسلام ثبت في مقاومة العلمانية فبرغم العلم الحديث والإعلام الغربي بكل إمكانياته فقد استعصى الإسلام على العلمنة ولا يزال الإيمان الديني بالإسلام في أهله أشد مما كان منذ مائة عام ومن ثم فإن الثقافة الإسلامية هي التحدي الأول والوحيد للثقافة الغربية وحضارتها وهي حضارة الشك واللاأدرية والتحلل .
... نعم إنهم يحاولون خداع المسلمين عن حقيقة دينهم تحت اسم ( الإسلام المعدل ) أو المغرب ، ويعملون على التحول من الصدام إلى سياسة الاحتواء .
... ولكن الإسلام لا يخدع ولا يستسلم كما أنه لا يعتدي ولا يحمل أي رغبة في التحدي أو العدوان وإنما يدافع عن وجوده بالصبر والثبات واثقاً من أنه على الحق وأنه هو الأمل الباقي للبشرية بعد أن دمرت الفلسفات المادية كل قوى الخير وستظل خلية الأخلاق الإسلامية هي الحصن الحصين للمسلمين في مواجهة التحلل وسموم الإباحيات والمؤامرة الجنسية وهدم قوى الخير في نفوس الشباب المسلم .
... وستظل المرأة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ودينها بعد أن حطمت مؤامرة تحرير المرأة الخادعة وعلمت أن الإسلام وحده هو الذي حررها .(4/31)
... وقد تأكد الآن للمسلمين أن كل ما أنتجه الغرب من علوم اجتماعية وإنسانية لا يعدو كونه مفاهيم بشرية مبنية على افتراضات نظرية تعكس تصور الباحثين للقضايا المطروحة أمام أنظارهم بينما يقدم الإسلام منهجاً أصيلاً جامعاً يتجاوز كل محاذير الفلسفات المادية وانشطارية العلمانية وحماية النفس الإنسانية من التحلل والانهيار حيث يعتمد الإسلام على القرآن الكريم والسنة وهما المصدران الخالدان القادران على تأصيل منهجية البحث الاجتماعي والإنساني بما يحول للعقل المسلم إمكانيات الوصول إلى الهدف المنشود وهو إيجاد الإنسان الصالح الذي كرمه الله تبارك وتعالى وأعطاه أمانة تعمير الأرض وبناء الحضارة بمفهوم المسؤولية الفردية والالتزام الخلقي من منطلق أنها خالصة لله تبارك وتعالى .
... وما تزال الحضارة الغربية تمضي إلى الاغتراب والأفول لأنها استعلت على التسليم لله والإيمان به واغترت بما أعطاها الله من القدرة المادية والتكنولوجيا وسيظل الهدف الحقيقي لبناء الحضارة هو التربية والمحافظة على الفطرة والتماس منهج الله تبارك وتعالى في إقامة المجتمع الرباني وفق ضوابط الإسلام وحدوده في إطار الإيمان الخالص بالتوحيد الخالص ، وقيام المعرفة الإنسانية على أساس الغيب والوحي والعلم والعقل في وحدة واحدة .
الحيلولة دون تمكين الإسلام من قيادة الأمة الإسلامية وتعطيله عن إقامة مجتمعه(4/32)
... أخذت الحملة على الإسلام منعطفاً جديداً يحتاج إلى قدر كبير من اليقظة والمقاومة ، فقد اشتدت في الفترة الأخيرة الحملة على العرب بوصفهم واجهة الإسلام الفكرية والثقافية في محاولة لتقديم صورة مزدراة لهم في مختلف وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأمريكية ، ومن وراء هذه المحاولة قوى كثيرة تكره الإسلام وتعمل دون تمكينه من قيادة الأمة الإسلامية ، ومحاولة تعطيل الإسلام عن إقامة مجتمعه وتطبيق شريعته قضية قديمة تعمل القوى الأجنبية على استدامتها والحيلولة دون اقتحامها إيماناً بأن الإسلام قادر على امتلاك إرادته وإقامة مجتمعه وتقديم منهجه وبناء حضارته وأن العالم كله ينتظره ويتطلع إليه ، ولكن النفوذ الأجنبي استطاع أن يضع العقبات في وجه حركة اليقظة دون تحقيق هدفها وكان في مقدمة العقبات تحطيم أجنحة المجتمع الإسلامي وعدم تمكينه من تطبيق شريعته وبناء أجياله القادرة على حمل الأمانة .
... ومن العجيب أن تتوالى كتابات الغربيين وأتباعهم ناعية على المسلمين العجز عن اقتحام العصر الحديث وهم يعلمون أنهم هم الذين قصوا أطراف المسلمين وحالوا بينهم وبين إقامة مجتمعهم أو التصرف في ثرواتهم واقتصادهم على النحو الذي يمكنهم من بناء حضارتهم ولاشك أن الصهيونية هي وراء تقديم هذه الصورة المظلمة للعرب لسيطرتهم على الإعلام العربي والهدف هو الادعاء بأن هذه الصورة المزدراة مصدرها الإسلام وذلك في محاولة للسيطرة على المنطقة وخلق روح الكراهية للعرب والمسلمين في المجتمع الغربي .
... ومن أخطر التحديات اعتماد الغرب على المنهج العلمي المحايد كلما تناولوا الأمم وتاريخها ومجتمعاتها ولكنهم عندما يتناولون تاريخ الإسلام والمجتمع الإسلامي فإنهم يخضعون لأهدافهم وأحقادهم .(4/33)
... ومن أخطر الحملات المبثوثة الآن في أفق الفكر الإسلامي : الحملة على التراث الإسلامي في نفس الوقت الذي يدعون فيه إلى إحياء التراث الفرعوني والفينيقي والآشوري وكل ما سبق الإسلام ويرون أن التراث الإسلامي معوق عن النهضة ولكن التراث الوثني الذي سبق الإسلام لا عيب فيه .
... وهم يقدمون مفاهيم رفض التراث الغربي لتطبيقها على التراث الإسلامي دون تقدير للفوارق العميقة والبعيدة المدى بين تراث الإسلام المرتبط بالميراث الإلهي والرباني ( القرآن والسنة ) وبين تراث الوثنية السابق عنها والتراث الغربي كله ميراث وثني مستمد من الفكر الهليني واليوناني ومن مفاهيم الأديان الوثنية التي اختلطت بالمسيحية الغربية وهي غير المسيحية المنزلة .
... وهم يطلبون إلى المسلمين ترك ثرواتهم ودينهم ( بوصف الجمود والقديم والسلفي ) كوسيلة للدخول في دائرة الحضارة الغربية والحصول على عوامل التقدم والتكنولوجيا ويرون أن حرص المسلمين على التراث ( بمفهومه الواسع ) من الدين والأخلاق والقيم هو العامل الوحيد دون تقدمهم .
... والمسلمون لا يقبلون هذا التغيير ويرون أن الغرب حين أخذ المنهج التجريبي الإسلامي حرص على ألا يأخذ العقائد والقيم وأعتمد على مفاهيمه القديمة الوثنية .(4/34)
... والمسلمون يؤمنون بالمنهج الرباني الذي أعطاهم الله تبارك وتعالى إياه ولا يقبلون دونه بديلاً ولا يضحون به في سبيل الحصول على التقدم المادي مهما بلغ الإغراء مبلغه ، وهم يؤمنون بأن في استطاعتهم الحصول على معطيات العلوم والتكنولوجيا دون أن يفقدوا قيمهم ومقوماتهم فالحضارة الإسلامية والمنهج الإسلامي كله يقوم على جماع إعادة الروح ، فمفهوم التقدم مزدوج روحي ومادي ولن يكون مادياً خالصاً على النحو الذي قبلته الحضارة الغربية فأوقعها في الأزمات التي تدمرها اليوم تدميرا ، والحضارة الإسلامية التي تقدم نفسها الآن للبشرية تؤمن بالتقدم المادي من خلال القيم الأخلاقية والعقيدة وهنا وجه الخلاف الذي يحول دون انصهار المسلمين في الحضارة الغربية التي تنكر البعد الإلهي والبعد الأخلاقي .
* ... * ... *
... ويرفض الإسلام موقف الغرب من الأمم وخاصة في مجال حقوق الإنسان التي يعتني بها الغرب فضلاً عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين ذلك أن الغرب قد أقام حضارته أساساً على مفهوم روما ( روما سادة وما حولها عبيد ) وما يزال يطبق هذا المفهوم بالرغم من كل الظواهر والدعوات التي تقول بالمساواة أو الحرية وما تزال أوربا تتحدث عن حضارة الرجل الأبيض الذي يمثل السيادة على الأمم الملونة .(4/35)
... وجاءت قضية البوسنة والهرسك لتكشف زيف كل ما ادعاه الغرب من قبل باسم المساواة أو الحرية وقد تكشف موقفه من الإسلام حين تجمع فئاته على قبول مفهوم ما يسمى التطهير العرقي ، لقد خفيت دخيلة الغرب سنوات طويلة وراء عبارات التحضر والمرونة ولكن هذه الموقعة استطاعت أن تؤكد ما كان خافياً وراء خداع الألفاظ البراقة لقد جاء الإسلام ليصحح للبشرية طريقها المظلم ويفتح لها الطريق إلى نور الله تبارك وتعالى ( ليخرجهم من الظلمات إلى النور ) ، جاء الإسلام ليقضي على العبودية : عبودية الإنسان للإنسان وعبودية الإنسان للأوثان ، وتحرير البشرية من التبعية ، وإقامة منهج الحياة على المفهوم الأصيل لمهمة الإنسان في الحياة والمجتمع بوصفه مستخلفاً لله تبارك وتعالى في الأرض لإقامة المجتمع الرباني على أن يجعل سعيه خالصاً لوجه الله في إطار المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي .(4/36)
... وقد جاء الإسلام ليبني هذا المجتمع الرباني بعد أن سقطت حضارات الظلم والعبودية المتمثلة في الوثنية اليونانية والرومانية والفارسية والفرعونية وسرعان ما فرض الإسلام وجوده بالحق على هذا الكوكب الذي كان يقاسي من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة فاستطاع في خلال ثمانين عاماً أن يمد جناحه إلى نهر اللوار في قلب أوربا وإلى حدود الصين على نحو أذهل المؤرخين وسرعان ما قدم للبشرية ثمراته ، فقدم المنهج التجريبي المستمد من القرآن : ( قل هاتوا برهانكم ) الذي لم تكن تعرفه البشرية ، كما قدم منهج المعرفة ذي الجناحين وتحرير البشرية من الرق والعبودية بعد ألف سنة من قوانين أرسطو وأفلاطون اللذين قررا أن البشرية لا تستطيع أن تعيش بدون سادة في الأعلى وعبيد رقيق في الأسفل ، كذلك حطم القرآن الوثنية التي عاشت فيها البشرية وهاجم التجسيد والتعدد وفتح باب العلم والبرهان لإقامة حضارة إنسانية على مفهوم رباني ، ونقل الإسلام علومه ومناهجه إلى قلب أوربا حين دخل الأندلس ومنها إلى بلاد القارة فاستطاع الغرب أن يدخل في معركة مع الإسلام ليخرجه من قلب أوربا ، ومن الأندلس في جولة ومن البلقان في جولة أخرى ، وسرعان ما استطاع الغرب أن يسابق المسلمين بأدواتهم التي قدموها إليه حتى استطاع أن يتفوق في عالم البحار على المسلمين فاستطاع أن يخرج من البحر إلى المحيط .
* ... * ... *
... وتراجع المسلمون وسيطر الغرب وكان عام 1493م منطلق التحول وامتد هذا الموقف الآن خمسمائة سنة كاملة دار فيها الاستعمار دورة كاملة بالسيطرة على مقدرات الأمة الإسلامية حيث فرض حضارته وقوانينه ونظريته في الاقتصاد والاجتماع على هذه المنطقة الإسلامية الواسعة من رباط الفتح إلى أرخبيل الملايو .(4/37)
... وجرت المحاولة في تغريب هذه الأمة المنزوعة السلاح بعد احتلالها والتي فرض عليها نفوذ الاستعمار البريطاني والفرنسي والهولندي والإيطالي جميعاً واستطاعت هذه القوى أن تستنزف ثروات هذه الأمة وأن لا تبقى لأهلها إلا الفتات في معركة النهب التي عرفتها أفريقيا وجنوب شرق آسيا ، وظن في وقت من الأوقات أن الإسلام قد طويت صفحته وأن هذه الأمة التي بناها الإسلام في أربعة عشر قرناً يمكن أن تنطوي وتستسلم وتفقد ذاتيتها وخصوصيتها وأمانتها لتبليغ الإسلام وهو ما ابتعثها الحق تبارك وتعالى ليقدم هذا النور إلى العالم كله وتقيم للبشرية المجتمع الرباني الأصيل .
... إن هذا التحول الذي حدث عندما عجزت قوى المسلمين عن السيطرة وانهارت تحت نفوذ الغرب تحت أسوار فينا أو في معارك نفارين وغيرها ولكن الواقع أن المسلمين قاوموا النفوذ الأجنبي والاحتلال الغربي بالإسلام بشهادة كبار كتاب الغرب ولم يستسلموا أبداً في مراحل الليبرالية والماركسية والصهيونية ثمة إلى التبعية إلا أنهم سرعان ما كانوا يحطمون القيود ويعودوا إلى المقاومة .
... ولقد حاول النفوذ الغربي احتوائهم واحتواء الإسلام نفسه على نحو من التغريب والغزو الثقافي وتقديم الإسلام على أنه دين عبادة ولاهوت وظن التغريبيون والعلمانيون أنهم سيقيمون الدولة العلمانية بدلاً من الدولة الإسلامية ومضت الموجة تحمل أتباع الغرب والليبرالية في جولة طويلة ثم كشف الإسلام عجزهم وجاءت جولة الماركسية وانهارت وتبين أن الإسلام لا يغلب وأنه قادر على حماية وجوده وأنه لا يقبل الجسم الغريب وأن البذور الغريبة تموت في أرضه ، وجاءت اليقظة ومن بعدها الصحوة تصححان الإسلام وترده إلى حقيقة : منهج حياة ونظام مجتمع ، وتكشفان عن جوهر الشريعة الإسلامية وعظمة المنهج الإسلامي وقدرته على العطاء في الوقت الذي عجزت فيه الحضارة الغربية عن العطاء في أرضها واضطربت مذاهبها السياسية والاقتصادية وما تزال تتخبط .(4/38)
... ولقد واجه المسلمون هذه المعركة الجديدة ( ماركسية وصهيونية وغربية ) في قوة كما واجهوا من قبل معركة الحروب الصليبية والتتار والفرنجة والتي امتدت ثلاثة قرون تقريباً ، أما هذه المعركة فإنها أشد خطورة وأوسع ساحة حيث يواصل النفوذ الغربي ليس فرض سلطانه الاقتصادي وحده وإنما فرض نفوذه الفكري والثقافي في محاولة لصهر هذه الأمة واحتواء أهلها وتزيف منهجها في جولة ضخمة وفي محاولة ممتدة تتجدد فيها أساليب المؤامرة وأدواتها وحيث يجري كسب بعض الأنصار لها من معسكرات الماركسيين وغيرهم والعمل على تجميع قوى أعداء الإسلام ومحاربته في جبهة واحدة ( ماركسية غربية صهيونية هندوكية ) حيث تواجه الأقليات الإسلامية في العالم حملة ضخمة من الاضطهاد ، هذا فضلاً عن محاولة هدم قيم المجتمع الإسلامي نفسه بتدمير شبابه بالفساد والانحلال والمخدرات ( وفق بروتوكولات صهيون ) حتى يستسلم تماماً للتبعية وهذا ما يسمى بصراع القيم وأول ضحاياه المسلمون وليس أمام المسلمين إلا الصمود والتماسك وكشف الزيف المتجدد .
* ... * ... *(4/39)
... لقد قضت سنة الله تبارك وتعالى أن تصيب المسلمين في أوج مجدهم وبعد ألف سنة من العطاء عندما خرجوا عن منهج الله تبارك وتعالى ولم يشفع لهم أنهم يحملون كلمة الله أساساً ، وجاء هذا الدرس خلال خمسة قرون الآن ليتأكد المسلمون بأن أمامهم طريق واحد أنه لا سبيل إلى الوصول إلى امتلاك إرادتهم إلا به وحده ، هو أن يلتمسوا منهج الله ويعودوا إلى الأصالة والمنابع وحماية ذاتيتهم الربانية الخاصة وأن يقدموا أنفسهم رخيصة في سبيل حماية البيضة وتحقيق الهدف وأن يتعلموا صناعة الموت في سبيل الله ، ولينظروا في تاريخ الإسلام فيتخذوا العبرة واضحة ، فقد واجه المسلمون حملات الصليبيين والتتار والفرنجة والاحتلال الغربي الحديث والحملة الصهيونية وبالمقاومة وبيع النفوس لله خالصة في سبيل حماية الوجود الإسلامي وفي سبيل تبليغ رسالة الله تعالى إلى العالمين ، لقد نقل الله تبارك وتعالى قيادة الحضارة العالمية إلى الغرب وتراجع المسلمون بل لقد تولى الغرب السيطرة على المسلمين وفرض منهجه الفكري والاجتماعي والسياسي على بلاد المسلمين لأول مرة في تاريخ الإسلام يتوقف تطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية ويفرض القانون الوضعي بديلاً للشريعة التي حجبها النفوذ الغربي .
* ... * ... *(4/40)
... إن الغرب يعرف هذه الحقيقة : أن الإسلام هو وارث الحضارة الإنسانية بالحق بعد أن وصلت التجربة الغربية إلى غايتها وعجزت عن العطاء الحقيقي بعد أن قدم لها الإسلام كل عوامل النماء والقوة والأصالة ولكنها رفضت ذلك وأقامت منهجها على قوى المادة والوثنية والطبيعة والمحسوس ورفضت الألوهية والغيب والأخلاق ، أنهم يعرفون هذه الحقيقة التي كشف عنها علماء التاريخ العالميين عام 1907م حين أعلنوا أن هذه الأمة التي تعيش بين آسيا وأفريقيا وتملك مصادر الثروة والقوة والخلجان هي التي ستملك هذه المنطقة وقد دعا العلماء لتأخير هذه الخطوة وذلك بإقامة جسر من قوم من غير أهل المنطقة ليفصلوا بين شرقها وغربها وكان هذا هو ما حققته الصهيونية بالسيطرة على فلسطين .
... إن هذه المحاولة الماكرة الممتدة المختلفة الأدوار والأوضاع تعمل في سبيل تحقيق هدف لن يتحقق أبداً وهو : صهر المسلمين في بوتقة الحضارة الغربية الغازية التي تكشفت عن فسادها وانهارت مذاهبها وعجزت أيديولوجياتها عن العطاء سواء في منهجها الليبرالي أو الماركسي أو فلسفاتها العلمانية والفرويدية والدارونية والوجودية أو مذاهب العبثية والإلحادية والجبرية والوضعية المنطقية فذلك كله قد تبين فساد مضمونه وسقوط معطياته .
* ... * ... *(4/41)
الجزء الرابع
1 - الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة .
2 - العودة إلى المنابع .
الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة
الدعوة الإسلامية
( 1 ) الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة .
( 2 ) أثر الدعوة الإسلامية في بناء المجتمع الرباني .
( 3 ) الخطاب الإسلامي .
( 4 ) الإسراء والمعراج .
( 5 ) الصمود في وجه الإعصار .
( 6 ) دوائر المعارف وشخصية النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم - .
( 7 ) نحن أهل الحق على موعد مع النصر .
الدعوة الإسلامية
في مرحلة جديدة في عصر الأصالة(5/1)
... أكدت الصحوة الإسلامية خلال السنوات العشر الأولى من القرن الخامس عشر الهجري مجموعة من الحقائق أعتقد أنها فرضت نفسها على المجتمع الإسلامي والآفاق العالمية جميعاً ، فقد تأكد أن هناك ( أمة إسلامية ) لها شرعتها الخاصة ومنهجها الاجتماعي المستقل وطابعها المتميز الذي يؤكد أن كل المحاولات التي ترمي إلى احتوائها في دائرة الفكر العالمي أو الثقافة العالمية أو الحضارة العالمية ، هذه المحاولات باطلة ولم تعد قادرة على تحقيق هدف التغريب أو النفوذ الغربي ( بشقيه ) الذي يرمي إلى صهر هذه الأمة الإسلامية في بوتقة الحضارة العالمية أو النظام الغربي سواء الليبرالي أو الماركسي ، وتؤكد أيضاً أن التجربة التي بدأها الغرب منذ مائة عام وأكثر عن طريق وكلائه ( كرومر ودنلوب وزويمر ) على الأقل في هذه المنطقة من أجل " تغريب المسلمين " وتزييف منهجهم وفرض مفهوم اللاهوت على الإسلام بحيث يصبح عبارة عن " عبادة " ، وليس منهج حياة ونظام مجتمع : هذه التجربة التي مضت ثمة بفرض النفوذ الأجنبي والاستعمار لها ، قد عجزت عن العطاء وقد تبين فسادها .(5/2)
... وقد استطاع الإسلام القادر على تصحيح مسار المسلمين إذا خولطوا أن يكشف لهم عن طريق ( حركة اليقظة الإسلامية ) التي قادها الإمام الشهيد حسن البنا أن لا سبيل لصلاح هذا المجتمع وقدرته على امتلاك إرادته إلا بأن يلتمس أصالته ويعود إلى منابعه باتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في بناء المجتمع مع قدرة واسعة ومرونة طبيعية يمكن الإسلام بها المسلمين من أن يتقبلوا العصرية والتحديث والجديد في دائرة المتغيرات التي رسمها منهجه في إطار ثوابته الأصيلة ومقدراته الربانية والعالمية والإنسانية ، فلم يكن الإسلام في يوم من الأيام مغلقاً أمام العصر ولكنه كان منضبطاً أمام الحدود التي وضعها الحق تبارك وتعالى لإقامة منهج الحياة على الحق والعدل والرحمة ، نعم لقد أعظم معطيات العقد الأول من القرن الخامس عشر هو تأكد هذه الحقيقة : حقيقة أن الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع ، ولقد شهد بذلك علماء وكتاب ومستشرقون من الغرب ، بل لقد شهد علماء القانون بمدى عظمة الشريعة الإسلامية القادرة على العطاء فضلاً عن قدرة مفهوم التوحيد الخالص في تحقيق الطمأنينة القلبية والسكينة الروحية في مجتمع تصارعه المادية والوثنية .
... كما تأكد أن للإسلام وجهة نظر في مختلف أمور المجتمع والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية تختلف عن وجهة نظر الأيديولوجيين الغربية والماركسية وتقوم أساساً على الإيمان بالله تبارك وتعالى : ( بربوبيته وألوهيته ) إياك نعبد وإياك نستعين ، فمنه تبدأ الأمور وإليه تنتهي ، والإيمان بالبعث والجزاء والوحي والغيب والنبوة إيماناً يدخل في أعماق حياة المسلم ويواكب مسيرته في التعامل بين الفرد والجماعة ، والمرأة والرجل ، والآباء والأبناء على أساس أخلاقية الإسلام والمسئووليه الفردية .(5/3)
... ولقد أصبح واضحاً الآن بعد جهاد حركة اليقظة خلال ستين عاماً أن هناك تمايزاً بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية ، وأن للمسلمين ذاتية خاصة تكونوا في إطارها منذ أربعة عشر قرنا ولن يمكن إخراجهم منها مهما بلغت حدة المحاولات التي ترمي إلى تحطيم طابعهم ووجودهم المتميز ، وأن هذه المحاولات التي تجري عن طريق قوي عاتية مهما تشابكت غربية وماركسية وصهيونية فإنها لن تستطيع أن تزعزع هذا الأساس المكين الذي بناه القرآن في النفس المسلمة وفي الأمة الإسلامية ، وأن المسلمين في هذا المجال على تعبئة كاملة ويقظة لكل ما يحاك بهم ، وأن يواجهون هذه المؤامرات الجديدة التي ترمي إلى النيل من رسولهم وقرآنهم ودينهم بالقوى الغربية ( أمثال قصة سلمان رشدي ودعاوى الآخرين ) بكل ثقة في صدق رسالتهم وفي فساد الدعاوى الجديدة والمتجددة والتي لن تخرج أبداً عما رسمه العلمانيون والمستشرقون والمبشرون القدامى والتي ردت بقوة وانهارت وتحطمت من خلال أسلوبهم الكريم الحاسم البعيد عن العنف أو الإرهاب .
... فقد كان القرآن قادراً على تمكينهم من استعادة قدرتهم على المقاومة والثبات في مواقع الدفاع والمرابطة في الثغور والقدرة على الرد ، ونحن اليوم نتطلع إلى خطوة أوسع ترمي إلى تحقيق الصحوة وحمايتها من ضربها من الخارج ونود أن يكون هناك من سعة الأفق ما يسمح بعرض وجهة نظر الإسلام في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مقابل عرض وجهات النظر الرأسمالية والماركسية وأن تتاح الفرصة لتصحيح النظريات التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية بما يقدم مفهوم الإسلام كمنهج حياة ونظام مجتمع من خلال إقرار حق دستوري مقرر عن الدين واللغة والشريعة الإسلامية .(5/4)
... ونحن ندعو في هذه المرحلة إلى تجديد المناهج التعليمية والتربوية والثقافية على نحو يجعل مفهوم الإسلام الجامع قاسماً مشتركاً على كل العلوم بحيث لا يكفي أن يقرر رأي الإسلام من خلال دراسته كدين وعقيدة وصلاة وصيام ولكن بوصفه منهج حياة جامع متكامل يتمثل في مختلف فروع المعرفة والعلوم والثقافة واضحاً في تصوره المتميز الخاص : الرباني الوجهة ، الأخلاقي الهدف ، الذي يحكم تصرفات المسلم في حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .
... فنحن في الحقيقة لسنا أبناء حضاريين ( كما يقول نجيب محفوظ ) ولا أتباع ثقافيين ( كما يقول زكي نجيب محمود ) ولكنا أبناء حضارة واحدة وثقافة واحدة هي الإسلام الذي جاء ديناً عالمياً جامعاً ، والذي تحقق به الانقطاع الحضاري عن كل ما سبقه من حضارات ومدنيات حين أرسى مفهوم الإنسان المتحرر من الوثنية والرق ( كلكم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) .
... هذه الحضارة التي أقامها الإسلام جامعاً لكل إيجابيات المعارف السابقة وعصارة العلوم والتي هي ثقافة كل أهل المنطقة جميعاً من حيث مشاركتهم في تشكيلها وفي الإيمان بها .(5/5)
... إن أبرز معطيات العقد الأول هو تصحيح المفاهيم وكشف حقائق التاريخ والكشف عن تجاوزات أعداء الإسلام في قضية الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية وفي نظرية دارون ونظريات فرويد وماركس وسارتر ودور كايم فقد استطاع علماء المسلمين الكشف عن الفوارق العميقة بين منهج العلوم الاجتماعية الغربي وبين منهج العلوم الإسلامي ، وصيحة اليوم هي أسلمة العلوم والمناهج والمعارف وبناء الأجيال المسلمة القادرة على استرداد الأرض واستعادة الحق المسلوب وتأكيد ظاهرة المرابطة وحماية الثغور والقوة على الردع ممثلة في حماس الفلسطينية وجهاد الأفغان المشرف ، وما يزال المسلمون في الغرب والأقليات الإسلامية في حاجة إلى جهاد وبذل من أجل تحرير كلمة لا إله إلا الله من كل عدوان والله من وراء القصد .
أثر الدعوة الإسلامية
في بناء المجتمع الرباني وتشكيل العقل المسلم
... كان من أكبر أخطاء دعاة التنوير والغزو الثقافي ظنهم : أن النهضة ستشرق من الغرب وأن المسلمين والعرب لا بد أن يتخلوا عن كثير من مفاهيمهم في سبيل تحقيق القدرة على الدخول في دائرة الحضارة الغربية وامتلاك التكنولوجيا وظلت هذه الفكرة المسمومة مسيطرة على العرب والمسلمين دون أن تعطيهم تطورات الأحداث عبرة أو عظة حتى وقعوا في أزمات الهزيمة والنكبة والنكسة لينتبهوا أن هذا الطريق لا يؤدي ، وأن للمسلمين منهجهم وطريقهم الذي لا يمكن أن يتحقق لهم امتلاك الإرادة أو النصر إلا عن طريقه ، وقد تبين أن مشروع النهضة الذي أعده لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى لم يكن قائماً على الأسس الحقيقية التي يجب أن يقوم عليها مشروع نهضة أي أمة وهي القيم الأربع : العقيدة واللغة والتاريخ والتراث .(5/6)
... ومن هنا فإن كل ما اتهم به هذا المشروع من قصور وما نتحقق له من عجز عن إقامة مجتمع أصيل قادر على الاندفاع على طريق التقدم هو أمر صحيح ، فقد حرص هؤلاء على أن يعزلوا الأمة الإسلامية عن مجرى تاريخها وأن يسدوا القنوات التي بناها لهم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً وطرح أسماء جديدة قائمة على الإقليمية الضيقة ، كالأدب المصري ، والتاريخ المصري ، والتراث المصري ، علماً بأن مصر لم يكن لها خلال أربعة عشر قرناً من تاريخ مستقل عن الأمة الإسلامية ، فضلاً عن إعلاء شأن الفرعونية في مصر ، والفينيقية في لبنان ، والآشورية في العراق ، وبذلك تمزقت الأمة وراء تواريخ جزئية قاصرة بينما كانت الأمة تصدر عن تكامل جامع بوصفها الأمة الإسلامية الممتدة من أرخبيل الملايو إلى الدار البيضاء حيث تتوازن عناصرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتتلاقى .
... وكان واضحاً أن أصحاب مشروع النهضة الذي طرح على العرب والمسلمين من خلال مدارس الإرساليات وبعثات المدارس التبشيرية وقيادات المستشرقين وولايتهم على تلك الأسماء اللامعة التي ترجمت كتب الاستشراق لتجعلها أساساً لعصر جديد منفصل عن التاريخ الإسلامي يبدأ بالحملة الفرنسية ويتحرك في إطار إقليمي ، يرمي أساساً إلى تمزيق وحدة هذه الأمة والتمهيد لتصفية الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية وفتح الطريق أمام الصهيونية العالمية إلى فلسطين ، كان الهدف هو القضاء على الجامعة الإسلامية باعتبار ذلك منطلق حقيقي لتمزيق كل القيم والمقدرات التي عرفتها هذه الأمة من خلال العقيدة أو اللغة أو التاريخ والتراث .
... ولكن الأحداث استطاعت أن توقظ المسلمين وتكشف لهم المغالطة والمؤامرات ، ولتقرر في وضوح أن مشروع النهضة المغرب قد أعلن إفلاسه ، وأن الإسلام لم يشترك في قيادات الهزيمة والنكبة والنكسة حتى يتحمل أوزارها .(5/7)
... ومن قلب هذا الظلام الشديد بدأت خيوط الضوء تكشف نورها وكان أولها وأهمها استعلان روح المقاومة وإحياء فريضة الجهاد ، ظهر ذلك في معركة الجزائر ، وحرب رمضان ، ومعركة أفغانستان ( لا يزال ) وفي ثورة الحجارة الباهرة .
... وإن كانت الجزائر التي حاربت تحت لواء ( لا إله إلا الله ) قد سرقت ثورتها ليلة انتصارها ، فإن الأمر لم يكن إلا مجرد إغفاءة قليلة عادت فيها دماء الإسلام إلى عروق المسلمين قوية دفاقة على ما نرى اليوم ونسمع ، وهذا هو التيار الأصيل الذي قدمته الدعوة الإسلامية حين علمت أتباعها ( صناعة الموت ) وبدأت ذلك في معركة فلسطين في أول مراحلها على نحو لم يعرف له التاريخ الحديث مثيلاً ، وها هو يعود بعد أن عجزت كل وسائل أساليب الخداع السياسي ليقدم نفسه على أنه الحل الأمثل .
... ولقد وضح اليوم أن هذه الأمة يجب أن تكون على تعبئة وأن يكون أبنائها على استعداد للتضحية والاستشهاد وأن يعلموا صدق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة خطر العدو الماثل القائم على مجتمعنا اليوم في محاولة لاحتوائنا وإبادتنا " ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " والرمي في عصرنا اليوم هو الصاروخ القادر على حماية أمتنا وعلامة قدرتها على الردع .
هذه هي الدعامة الكبرى في مشروع النهضة الإسلامية اليوم ، أما الدعامة الثانية فهي : ( تحرير المال الإسلامي من حرمة الربا ) وتقديم منهج الإسلام في مجال الاقتصاد ، وإذا كانت هذه الدعوة تواجه اليوم امتحاناً شديداً فإن كل المحاولات التي جرت من أجل تزييفها أو حجبها أو هدمها قد باءت بالفشل وأن الأمة الإسلامية المؤمنة بربها ما تزال تطلب صيغة إسلامية للتعامل الاقتصادي .(5/8)
... أما الدعامة الثالثة : فهي المرأة المسلمة التي عرفت طريق ربها وأسلمت وجهها إلى الله تبارك وتعالى من خلال فهم حقيقة رسالتها ومسؤوليتها نحو بيتها وزوجها وأولادها ، وقد تكشف لها زيف تلك الدعوة المضللة التي قادها كرومر عن طريق قاسم أمين ونازلي فاضل تحت اسم ( تحرير المرأة ) .
... أما الدعامة الرابعة فهي : ( تحرير أدوات التسلية والفن والمسح من الإباحيات وسموم الجنس والإغراء والفساد الخلقي ) فقد أصبحت مطلباً عاماً ، وقد تبين للناس مدى الأثر الخطير لهذه المسرحيات المكشوفة في هدم الأسر والبيوت وإفساد أخلاق بناتنا و أولادنا ، وعرفوا ما وراء ذلك من أهداف وغايات ترمي إلى تدمير قوة الحصانة النفسية والجسمية والاجتماعية في شبابنا الذي يجب أن نعده لحماية هذه الأمة والمرابطة في ثغورها .
* ... * ... *
... وما يزال أمام الدعوة الإسلامية مراحل عديدة وتحديات خطيرة أهمها مجال التربية والتعليم والمخاطر التي تسببها التبعية لمناهج الغرب التي تحاول أن تقدم عقيدتنا ولغتتا وتاريخنا وتراثنا بأسلوب انتقاص كمال هذا المنهج في محاولة لخلق جو من الكراهية والاحتقار لمنهج الإسلام الذي أعطى البشرية الضياء والنور وأخرجهم من الظلمات .
... وهنا نركز على مخاطر مناهج الثقافة والتعليم الوافدة حيث تتصارع اليوم في أفق الفكر الإسلامي ثلاثة تيارات خطيرة :
الأول : مفاهيم الفكر الغربي الليبرالي المستمدة من التراث اليوناني والروماني ومفاهيم المسيحية الوافدة لا المنزلة .
الثاني : مفاهيم الفكر الماركسي الشيوعي المستمد من نظرية أنجلز ماركس ولينين ( وهي التي سقطت اليوم في بيئتها سقوطاً شنيعاً ) وإن كانت ما تزال تجد من أوليائها في بلادنا العربية والإسلامية من يدافع عنها وينادي بها .(5/9)
الثالث : المفاهيم المسمومة التي أوجدتها الصهيونية العالمية من أجل دعواها عن حق باطل من خلال الأسطورة القديمة وما يتبعه من نظريات باطلة يراد بها انتقاص العرب وكيانهم ووجودهم التاريخي .
وتمتد أثار الصهيونية والفكر التلمودي إلى الأدب واللغة والفن والثقافة وما يتصل بذلك من نظريات باطلة لهدم الإسلام والقرآن والنبوة والغيب وما تزال نظريات الدارونية والوجودية والفرويدية والعلمانية والفلسفة المادية والتفسير المادي للتاريخ والجدلية والجبرية المنطقية تدرس لأبنائنا في الجامعات والمدارس على أنها علوم وحقائق ، بينما هي لا تزيد عن أن تكون وجهات نظر تخطئ و تصيب ، وقد كتب الكثيرون في الكشف عن زيفها وأخطائها وقد تبين للناس كيف أنها عجزت عن العطاء واحتاجت إلى الإضافة والحذف
* ... * ... *
... وتبقى بعد ذلك القضية الأساسية الكبرى قضية الشريعة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي والعقبات التي تقف في وجه تطبيقها ، بالرغم من أنها ثابتة في كثير من دساتير البلاد العربية والإسلامية بوصفها المصدر الأساسي للتشريع فهي حقيقة أساسية وقاعدة الأساس ، وقد تبين مدى عظمة التشريع الإسلامي بالمقارنة إلى القانون الوضعي الذي فرض على المسلمين والعرب في فترة من فترات ضعفهم واحتلالهم ، فهم لم يأخذوه بإرادتهم ولكن فرض عليهم لصالح النفوذ الأجنبي الذي كان ولا يزال حريصاً على نهب ثروات الأمة الإسلامية والحيلولة دون امتلاك إرادتها ، وقد جاءت شهادة علماء القانون العالمي في عديد من مؤتمراتهم على مدى تاريخ طويل يمتد أكثر من سبعين عاماً بالاعتراف والتقدير بفضل الشريعة الإسلامية وسماحتها وكمالها واستقلاليتها عن القانون الروماني ومدى دهشة رجال القانون لقوم - هم نحن العرب المسلمين ) حين نترك هذا الكنز العظيم ونأخذ فتات موائد الغرب .(5/10)
... ولقد خطا المسلمون خطوات جديدة في هذا المجال حين قامت كثير من البلاد العربية الإسلامية بتقنين الشريعة الإسلامية ووضعها في نظام عصري وحين أقامت تلك التجمعات الجامعة بين رجال القانون ورجال الاقتصاد ورجال الفقه الإسلامي لوضع هذه القوانين في صورة قادرة على إسعاد المجتمعات الإسلامية حين يتم تطبيقها.
... وبالرغم من التوقف والجمود على عدد من جبهات البلاد العربية فقد حققت الدعوة الإسلامية خطوات في مجال الانتخابات البرلمانية وانتخابات هيئات التدريس والنقابات العامة على نحو يؤكد الثقة الكاملة بتلك العناصر المسلمة المخلصة وجدارتها بالقيام بدور إيجابي في قيادة الأوطان وتحريرها من النفوذ الأجنبي ، بدا ذلك واضحاً في الجزائر والأردن ومصر والسودان والباكستان فضلاً عن تلك الكتائب المؤمنة في تركيا وتونس وغيرهما ، مما يؤكد عمق أصالة الصحوة الإسلامية التي تواجه الآن حرباً عنيفة في الداخل والخارج ، ويأتي بعد ذلك النضال الذي يقوم به المسلمون في بلاد الغرب والتحديات التي يواجهونها والأزمات التي تحيط بهم والأجيال الجديدة التي يخشى عليها أن تنصهر في بوتقة الغرب فتفقد إيمانها بربها ، ويقف الغرب كله موقف الخصومة في وجه هؤلاء المؤمنين الذين ليس لهم مغنم مادي ولا هوى ولا مطمع ، يريدون أن يقدموا الإسلام للناس ويبلغوه لأهل الأرض ، وتكاد تكون هذه الصورة اليوم في مطلع العقد الثاني من القرن الخامس عشر وهي تحمل الإصرار والثبات في وجه الأحداث ،إيماناً بالله تبارك وتعالى وحق الإسلام في الحياة .
الخطاب الإسلامي(5/11)
... يجب أن يكون الخطاب الإسلامي قد حدد موقفه من التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الإسلام والمسلمين من حيث أحدثت الصحوة الإسلامية رد فعل خطير في أوساط النفوذ الأجنبي يتجمع الآن في محاولة لإجهاض هذه الصحوة مما يدعوها إلى ضرورة الثبات في وجه الأحداث والتماس منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والبعد عن العنف أو استباق الحوادث .
... والواقع أن الدعوة الإسلامية استطاعت في خلال العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر أن تحقق عدداً من الانتصارات بتثبيت القوائم الراسخة والأسس القادرة على الصمود في وجه الأخطار :
أولاً : استطاعت أن تؤكد أن حقيقة الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع وأنه ليس ديناً لاهوتياً قاصراً على العبادات ولكنه يملك نظاماً أصيلاً ربانياً في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة وأن مفهوم الإسلام للعلوم الاجتماعية والإنسانية ( النفس والأخلاق والتربية ) تختلف عن مفهوم الغرب .
... وأن هذا الفهم يقوم على أساس حقيقة الإنسان الذي جعله الحق تبارك وتعالى ... مستخلفاً في الأرض وأخضع له كل القوى ليكون قادراً على العمران .
ثانياً : قرر كثير من خبراء القانون العالميين في عديد من مؤتمراتهم عظمة الشريعة الإسلامية واستقلاليتها عن القانون الروماني وقدرتها على العطاء ودهشة هؤلاء الخبراء لعجز المسلمين عن تطبيق شريعتهم والتماس فتات موائد الأمم .
ثالثاً : تكشفت حقيقة عطاء الإسلام للحضارة الإنسانية والعلم العالمي بتقديم منهج التجريب الإسلامي ومنهج المعرفة وأسلوب البحث العلمي المحرر من الهوى والغرض ، والمستعلي على المطامع مما لم تعرفه البشرية من قبل ولا من بعد .(5/12)
رابعاً : تبين أن الأمة الإسلامية قادرة على الابتعاث من داخل منهجها عندما تمر بمرحلة الأزمة والحصار ، وأن الجسم الإسلامي لا يقبل العنصر الغريب بل يلفظه وفي نفس الوقت يكون قادراً دائماً على تقبل التنظيمات للانتفاع بها ولكنه لا يقبل أنظمة الأمم ومناهجها لأن منهجه أوسع منها جميعاً وأكثر مرونة فضلاً عن قدرته الخارقة على العطاء في مختلف البيئات والعصور دون أن يصبه ما يصيب المناهج البشرية من قصور أو تخلف نتيجة المتغيرات .
خامساً : تكشفت حقائق كثيرة كانت خافية على المسلمين من شأنها أن تعطيهم القدرة على حماية وجودهم مما كشفت عنه بروتوكولات صهيون خاصة فيما يتعلق بالفلسفة المادية ونظريات دارون وفرويد وماركس ودور كايم وما يدعي من نظريات حول الفلكلور والانفجار السكاني ونظرية مالتوس ودعاوى السامية التي أريد بها هدم ( الحنيفية السمحة ) التي جاء بها أبو الأنبياء إبراهيم والتي امتدت في إسماعيل عليه السلام .
سادساً : تبين أن هزائم المسلمين وقدرة النفوذ الأجنبي على السيطرة إنما كان نتيجة قصور المسلمين عن تطبيق منهجهم وغفلتهم عن قوتهم وعن حقوقهم وعجزهم عن المرابطة في ثغورهم ، مما مكن العدو من الانقضاض عليهم مع أن القرآن الكريم حذرهم من ذلك في كثير من آياته ( وخذوا حذركم ) و ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) .
كما تبين أن انشغالهم ببيئاتهم المحلية وقصورهم عن النظرة الجامعة قد فت في وحدتهم فاستطاع أعدائهم هدم هذه الوحدة وخاصة رابطتهم بالعناصر الإسلامية ( الفرس والترك والهند وغيرهم ) ، وكان من أثر ذلك سقوط الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية(5/13)
سابعاً : سقطت كل محاولات إحياء تراث ما قبل الإسلام ( الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية وغيرها ) وقد تبين أن الإسلام حين أشرق فجره قد وضع حداً بين عصره وبين العصور السابقة عليه مما أطلق عليه المؤرخون مصطلح ( الانقطاع التاريخي ) كما تبين أن هذه الدعوات لم تكن إلا موجات عربية خرجت من الجزيرة العربية وانزاحت في هذه المنطقة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا .
ثامناً : برزت بكل وضوح قاعدة الترابط بين الوطنية والعروبة والإسلام كحلقات ثلاث متداخلة توصل كل منها إلى الأخرى وصولاً إلى الوحدة الإسلامية الجامعة ، وقامت على قاعدة تكامل العروبة والإسلام وأن العروبة جزء من الأمة الإسلامية
هذه بعض المعطيات التي حققها الدعوة الإسلامية والتي هي من الركائز الأساسية التي يقوم عليها الخطاب الإسلامي .
... فالخطاب الإسلامي ليس خطاباً دينياً بمفهوم اللاهوت ولا خطاباً سلفياً على حد تصور العلمانيين ، ولا خطاباً تراثياً على حد تصور الماركسيين ولكنه خطاب جامع شأنه شأن مفهوم الإسلام الجامع يستشرف آفاق المستقبل في تفاؤل محسوب لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ، ومن المعروف أن نظرية الفكر اللاهوتي الغربي قد اختلف معها الفكر الحديث وأن نظرية الفكر الحديث المعتمدة على الفلسفة المادية قد أصبحت الآن موضع نقد شديد لأنها لم تستطع أن تحقق أشواق النفس الإنسانية ، ومن هنا فقد كان لابد أن يكون الخطاب الإسلامي خطاباً جامعاً بين العقلانية والوجدان ليس بمثابة تراتيل ومواعظ وليس علمانياً أو مادياً خالصاً إنه ثمرة العطاء القرآني الأصيل الذي تتطلع إليه البشرية الآن بعد أن فشلت كلا النظريتين الليبرالية والاشتراكية(5/14)
... إن أول سطور هذا الخطاب أن المسلمين لا يخضعون للاحتواء في أفق فكر آخر ، أو أنهم يقبلون ما يسمى الثقافة العالمية ، فليس هناك ثقافة عالمية في الحقيقة لآن الثقافة مرتبطة دائماً بالعقيدة والقيم الخاصة بكل أمة .
... وإذا كان المسلمون قد فرضت عليهم مناهج غربية في : المدرسة والمحكمة والمصرف فإنهم سرعان ما كشفوا عن عجز هذه المناهج عن العطاء ، ووقفوا وقفة حاسمة أمام القانون الوضعي ومناهج التعليم المغربة والنظام الربوي وقد قطعوا مرحلة في طريق تصحيح هذه المفاهيم في خطوات ثابتة نحو تطبيق الشريعة الإسلامية وأسلمة المناهج وتقييم تجربة المرأة ووضعها في مكانها الصحيح .
... وفي خلال هذه الفترة ظهرت دعوات ترمي إلى ما يسمى بالتوفيقية بين التراث الإسلامي والفكر الغربي وهي محاولة مضللة ثبت فشلها وهي ليست بخير من محاولات الاحتواء ، والواقع الذي تلتزم به الصحوة الإسلامية هو بناء القاعدة الإسلامية أساساً من القرآن الكريم والسنة النبوية ثم تعرض كلها على هذه المناهج الوافدة .
... ولقد حقق الإسلام في هذه المرحلة خطوات جديدة في أفاق الغرب وهذا مما يحمل أصحاب الدعوة الإسلامية مسؤوليات جديدة لحمايتهم من الذوبان في المجتمعات الغربية فضلاً عن ضرورة العمل لتحرير مناهج الدراسة والتعليم في الأمة الإسلامية كلها من الازدواج التعليمي وتحرير العلوم الإنسانية والاجتماعية من التبعية والكشف عن فساد مفاهيم الفكر الباطني والتصوف الفلسفي والبهائية والقاديانية ( وما انبثق عنها مما يسمى بالأحمدية ) ووحدة الوجود والحلول ، وأن يكون المنهج الإسلامي واضحاً في إيمانه بعقيدة التوحيد الخالص والإيمان بالوحي والنبوة والبعث والجزاء .
الإسراء والمعراج
نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية(5/15)
... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد واجه من الصعوبات في سبيل تبليغ الدعوة ما لا يطيقه إلا أولوا العزم من الرسل ، وتوالت الأحداث لتزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيماناً وثقة بنصر الله القريب وكان رد أهل الطائف له على هذا النحو حين أغروا به صبيانهم فقذفوه - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين مما اضطره إلى أن يلجأ إلى حائط ليجلس قليلاً ويناجي ربه هذه المناجاة التي تكشف عن صادق الإيمان واليقين :
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينالني غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى " .
... كان هذا الدعاء قمة الموقف ، فلقد كان موقفه مختلف عن موقف الأنبياء من قبله ، حين عرض عليه ربه أن يطبق عليهم الجبلين ، حيث قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من ظهورهم من يعبد الله " .
... ولقد جاء هذا الموقف من أهل الطائف في أعقاب فقدانه عمه أبو طالب وزوجته خديجة فيما سمى عام الحزن فكان لابد أن يعقب ذلك عطاء من الله تبارك وتعالى يشرح صدر هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي أوذي في سبيل دعوة الحق ، حين ردته ثقيف وردته كندة وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة ، ولم يسمع له أحد حين أتى منازلهم، وكان هذا العطاء هو رحلة الإسراء والمعراج حيث رأى من آيات ربه الكبرى وشاهد ذلك العالم العلوي الذي رفع إليه إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى حيث خاطب ربه وخاطبه ربه ، فأي تكريم لشخص هذا النبي العظيم الذي لم يحرزه نبي من قبل .
... ولقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتقرر مجموعة من الحقائق الكبرى :
الحقيقة الأولى :(5/16)
... صلاته عند المسجد الأقصى بالنبيين والرسل جميعاً إماماً لهم فذلك إقرار بمنزلته الكبرى من أنبياء الله فهو خاتمهم ، وصاحب الرسالة العالمية الجامعة الخالدة التي أخذ العهد على النبيين من قبل أن يؤمنوا به والتي وردت في التوراة والإنجيل حسبما تشير الآية الكريمة : ( الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) .
الحقيقة الثانية :
... كانت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إيذاناً بنقل أمانة الرسالة السماوية إلى أبناء إسماعيل بعد أن كشفت التجربة عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة وما أحدثوا من تغيير وأخفوا من حقائق ( قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً ) فكان أن نقل الله ( أمانة الدعوة ) إلى فرع إسماعيل وإلى هذا النبي الأمي الذي اختاره الله تبارك وتعالى لحمل أمانة الرسالة الخاتمة .
الحقيقة الثالثة :
... أن اختار الله تبارك وتعالى استدعاء النبي الكريم إلى الملأ الأعلى ليفرض عليه فريضة الصلاة لما لها من الأهمية الكبرى بوصفها الفريضة الكبرى .
الحقيقة الرابعة :
... كانت رحلة الإسراء والمعراج رحلتين : رحلة أرضية من مكة إلى بيت المقدس على ظهر ( البراق ) ، ورحلة إلى السماء السابعة وإلى سدرة المنتهى حيث رأى من آيات ربه الكبرى قال - صلى الله عليه وسلم - : لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر إليه ، وقد أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرحلة الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، والمغفرة لمن لم يشرك من أمته شيئاً .
الحقيقة الخامسة :
... كانت رحلة الإسراء والمعراج امتحاناً لإيمان المؤمنين فالذين آمنوا زادتهم هذه الرحلة العجيبة إيماناً ، أما الذين لم يؤمنوا بها فقد حرفهم الله عن الدعوة ، فكانت تمحيصاً وتثبيتاً وإعداداً لهذا الجيل الذي كان موضع الإعداد للهجرة بعد ذلك إلى المدينة وإقامة الدولة الإسلامية .(5/17)
... ولذلك فإنه لم يكد يعود - صلى الله عليه وسلم - من رحلته تلك حتى بدت بشائر النصر وفتح الله ... تبارك وتعالى طريق المسلمين إلى المدينة المنورة حيث جاءت الوفود عاماً بعد ... عام في موسم الحج توسد القاعدة العريضة للهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة ... من بعد وقيام الدولة الإسلامية .
* ... * ... *
... لقد كان الإسراء والمعراج حدثاً ضخماً في تاريخ الدعوة وإرهاصاً وعلامة على مرحلة جديدة شاء الله تبارك وتعالى أن يؤيد بها رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - بعد أن واجه المواقف الصعبة منذ حصار النبي وأصحابه في الشعب ثلاث سنوات ، حيث عانى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه خلاله ألوان الحرمان والمقاطعة ، وما أكثر ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في هذه السنوات العشر من عنت قريش ومساءتهم وهو صامد لا يلين حتى جاءوا إلى عمه أبو طالب يطلبون إليه أن يضع حداً للأمر فلما كلمه في ذلك قال : فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمته الحاسمة التي مازالت تدوي في أذن الدهر : [ والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته ] ، هناك أحس أبو طالب بأن الأمر قد بلغ غايته فقال له : ( اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله ما أسلمك لشيء تكرهه أبداً ) ثم شاء الله أن يفك أسر المسلمين فجاء من قال أن صحيفة المقاطعة التي علقت في جوف الكعبة قد بليت " .(5/18)
... هنا لك انطلق رسول الله في دعوته إلى القبائل والناس وشاء الله أن يفتح أفق يثرب فجاء منها أولئك النفر الذين قالوا لبعضهم سوف لا تسبقنا اليهود إليه وكانوا من قبل يستفتحون بالنبي الذي أظل زمانه في حروبهم فينتصروا ، وتوالت البعثات وجاءت بيعة العقبة معلنة عن وجهة الدعوة بعد ثلاثة عشر عاماً من الجهاد والمشقة البالغة هاجر المسلمون خلالها مرتين إلى الحبشة وكذلك آست رحلة الإسراء والمعراج كل الجراح وكانت علامة على التأييد الرباني الكريم ، وجاءت ممحصة للمسلمين الذين آمنوا بدعوة الحق فزادت الذين صبروا وصمدوا هدى ونوراً .
... وتحدث الناس كثيراً عما إذا كان الإسراء والمعراج بالروح أم بالجسد أم بهما معاً وقد حسمت الأحاديث الصحيحة هذا الموقف وجاء القرآن الكريم مؤيداً لذلك حيث قال تبارك وتعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) وصدق الله العظيم ، وكان بعض المؤمنين قد سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضيف لهم عبراً مر بها في الطريق فحدثهم في ذلك وأعطاهم البينات فلما جاءت القافلة صدقت ما روى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
... وكان أبو بكر الصديق قد أعلن كلمته الحاسمة عندما أخبروه بخبر الإسراء والمعراج حين قال إنني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء والله لئن كان قال لقد صدق وما يزال حادث الإسراء والمعراج علامة مضيئة في الدعوة الإسلامية نذكرها كلما جاء أوانها في 27 رجب الفرد من كل عام ، نذكرها ونتطلع إلى الأفق حيث سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس ثم يعرج إلى السماوات العلا حتى بلغ سدرة المنتهى ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) .
الصمود في وجه الإعصار
( فاستمسك بالذي أوحي إليك ، إنك على صراط مستقيم )(5/19)
... حدث تحول خطير في العلاقات بين الأمم والنفوذ الأجنبي المسيطر والزاحف ، هذا التحول يتطلب من المسلمين بالذات أن يمعنوا النظر ويتخذوا العدة لدفع الخطر الزاحف إليهم .
... وليس هناك سلاح يمكن أن يقاوم به المسلمون هذه ( الغارة ) الجديدة على العالم الإسلامي إلا الثبات والصمود وتأكيد الثقة في نفوسهم إلى درجة اليقين بأن ما هم عليه هو الحق الذي سينتصر في القريب وأن ما يواجهونه اليوم ما هو إلا امتحان جديد عليهم أن يصمدوا حتى يأتي الله بنصره ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) ، ( أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ، ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) .(5/20)
... هذه قضية الأزمة التي يواجهها المسلمون في هذه المرحلة واضحة في كتاب الله تبارك وتعالى وليست في حاجة إلى بيان ، فقد أكد القرآن هذا الموقف ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ) وإذا كان النفوذ الأجنبي قد فرض نفوذه على أجزاء كثيرة من الأمة الإسلامية في محاولة للسيطرة على مواردها ومقدراتها والحيلولة دون امتلاك الإرادة في اتخاذ الطريق الذي يتفق مع منهج القرآن الذي رسمه للمسلمين ولكن المسلمين ما زالوا قادرين على حماية ذاتيتهم من الانهيار والاحتواء أو الاختراق ولقد صمدوا صموداً شديداً في مرحلة الغزو وقاوموه بالأجساد المتراصة وثبتوا واتخذوا من عقيدتهم منطلقاً لمقاومة النفوذ الأجنبي حتى أكدوا وجودهم وكشفوا للناس عن حقيقة عقيدتهم التي ابتعثهم الله تبارك وتعالى لإذاعتها في الناس وحماية مقدراتها ولكن النفوذ الأجنبي استطاع أن يخدع المسلمين بالاستسلام إلى المتعة والإباحة والانحلال في محاولة لقطع الطريق بينهم وبين امتلاك الإرادة في اتخاذ الطريق الذي يتفق مع منهج القرآن الذي رسمه للمسلمين ولكن المسلمين قد تنبهوا إلى هذه المؤامرة وكشفت الأقلام الإسلامية عن هذه الغزوة الجديدة والخطوة الخطيرة وكان مفهومهم للإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع قد أعانهم على الثبات في الموقع وجعلهم قادرين على حماية ذاتيتهم من الانهيار أو الاحتواء أو الاختراق .(5/21)
... وتكشفت أمام المسلمين خطوط هذه المؤامرة وكانت الصحوة الإسلامية علامة على الثبات في وجه الأخطار ، ولكن النفوذ الأجنبي قد خطا اليوم خطوة أخرى بعد أن تصاعدت الصحوة الإسلامية وذلك في محاولة للسيطرة على المجتمع الإسلامي بهدف تدميره وانحرافه باللذات والشهوات والإباحيات في مخططات جديدة ترمي إلى تدمير بنية القيم الأخلاقية في الأسرة المسلمة عن طريق السيطرة على الزي والملبس وفرض تحولات جديدة تعارض الشريعة الإسلامية في تجارة الأسرة بالإباحة والشذوذ والإجهاض وإشاعة روح الإثارة والفساد الخلقي عن طريق الروايات والمسلسلات ( وهي خطط قديمة أثبتتها بروتوكولات صهيون منذ مائة سنة ) ومحاولة خلق مفهوم غريب من الاستهانة بروح الانتماء والعقيدة الدينية والقيم الأخلاقية التي قدمها الإسلام ، والهدف هو تدمير الأجيال الجديدة من الشباب والمرأة حتى تتلاشى الصحوة وتتراجع وذلك بإغراء الشباب المسلم بالاشتراك في رحلات مختلطة ومؤتمرات عالمية منحرفة متحللة تستهدف تدمير البنية الأساسية لهذا المجتمع والتي بناها القرآن والسنة خلال أربعة عشر قرناً في محاولة للقضاء على أمرين :
... (1) الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات .
... (2) الأخلاق في مجال بناء الأسرة .
... ومن هنا يأتي ذلك التحول الخطير في تقليص المناهج الدينية والتاريخ الإسلامي وانتقاص اللغة العربية ، وحجب شريحة كبيرة من جهاد المسلمين في سبيل مقاومة الغاصب خلال أربعة عشر قرناً سواء في مواجهة الصليبيين أو التتار أو الفرنجة أو الاستعمار الحديث أو الصهيونية وذلك في محاولة لطرح مفاهيم من شأنها أن تؤثر في أصالة الانتماء وصدق اليقين بالدعوة الربانية الخالدة القائمة إلى يوم الدين .(5/22)
... وذلك في محاولة لطرح مفاهيم مسمومة من الاستسلام لمفاهيم التراجع والقضاء على مفهوم المقاومة والثبات على القيم الأساسية : ذلك الذي حمى الأمة الإسلامية من عدوان الغاصبين ومؤامراتهم التي لم تتوقف يوماً واحداً ، ويعطي هذا كله مفهوم واحد واضح : هو أن المسلمين في موقف المقاومة الذي لا يتخلف وتصدق عبارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال : ( إنهم في رباط إلى يوم القيامة ) .
* ... * ... *(5/23)
... وأخطر ما تحاول القوى الأجنبية ( التغريب والغزو الفكري ) فرض مفهوم للإسلام يختلف عن مفهومه الأصيل والعمل على تركيز مفهوم الدين في قاموس الغرب على الإسلام الذي يختلف اختلافاً عميقاً عن التحولات التي وصلت إليها بعض مفاهيم الدين الحق وذلك بالإصرار على فصل السياسة عن الدين وعن المجتمع وقصر الإسلام على العقيدة والأخلاق مع تجاهل الشريعة الإسلامية التي هي الأساس الذي يقوم عليه التعامل في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية على نحو لا يمكن الفصل بينهما ومن هنا يصبح واضحاً : ( ماذا تعني العودة إلى الدين ؟ ) العودة إلى الدين أن نعود إلى تطبيق منهج الله تبارك وتعالى في كل مجالات الحياة ، العودة إلى الدين الجامع بين الدنيا والآخرة ، أما تصور الغرب في فصل الدين عن المجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية فهذا أمر يتصل بالغرب نفسه وبموقفه من المسجد ومن الكنيسة ومن الفلسفة المادية التي فرضت عليهم هذا التصور الذي يحاول العلمانيون والشيوعيون والملاحدة فرضه ومحاولة إقناع بعض الناس به فلن يقبله المسلمون ولن يصلوا إلى شئ يحقق لهم ما يرغبون ذلك أن تركيب المسلم العقلي والجسماني والفكري جميعاً يتأبى مع هذا التحول وقد تركزت فيه منذ أربعة عشر قرناً ذلك التصور الأصيل الذي يرفض الفكر الإلحادي والفكر العلماني والفكر الإباحي وهو حين حاولوا أن يقربوا من مفهومه الأصيل بالحديث عن العدل الاجتماعي ممثلاً في الاشتراكية أو الشورى ممثلة في الديمقراطية منذ أعرض العقل المسلم عن ذلك بحكم تكوينه كما أعرضت الأمة الإسلامية عن التصور الغربي كله لأنه تصور ناقص بالنسبة لمفهومه الأصيل الجامع لثوابت المعرفة الثلاث العقل والعلم والوحي ، وقد رفض الجسد الإسلامي الجسم الغريب في نفس الوقت الذي استرده الإسلام بعد أن ذهبت به المذاهب المادية مذهبها .(5/24)
... ولقد جاءت عودته قوية وحاسمة تحت عنوان واضح ( الصحوة الإسلامية ) في محاولة لقيام وحدة إسلامية جامعة من خلال المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية .
... ولقد كانت رابطة الإسلام تختلف عن رابطة أي دين آخر فكيف يدهش التغريبيون حين يرون المسلمين يتقدمون على طريق الأصالة والوحدة ومن خلال شريعة جامعة .
... ولما كانت العقيدة الإسلامية في أصلها الأصيل سمحة رحيمة عادلة قد قررت حسن العلاقات بكل العناصر التي تستظل بظلها وكانت على مدى التاريخ حاسمة في هذا العطاء فهي ليست في حاجة إلى دعوتها إلى ما ينتقص من أصالتها على نحو يراد به الاستسلام والخضوع والإذلال فقد خلق المسلم عزيزاً بغير استعلاء ولكن دون امتهان أو نكوص .
... ومن هنا يأتي مفهوم ( استيعاب حضارة العصر ) وهو مصطلح يستعمل الآن في غير موضعه مما يعني ذلك الخضوع أو التبعية أو قبول تلك العبارات الخداعة التي تقول بسبق الغرب وضرورة اللحاق به .(5/25)
... فما كان المسلم في أي فترة من حياته تابعاً أو متطلعاً إلى ما في أيدي الناس ، إن الإسلام له مفهوم للحضارة والعلم يستهدف بها عمارة الكون على النحو الذي رسمه القرآن الكريم والإسلام وليس على مفهوم المطامع والأهواء والجري وراء الثروات أو تدمير بنية الثروة التي حفظها الله تبارك وتعالى تحت عنوان خطير هو أن ثروات الأرض لا تكفي البشرية ملايين من السنين ولكن سوء التصرف هو في استئثار قلة من الغرب بالثروة دون أن يتركوا لباقي البشر ما يطعمهم ولا يقف الأمر عند ذلك بل هم يعملون على تحديد نسل البشرية خوفاً من تنامي المسلمين والملونين وأهل الجنوب مما يؤثر على التملك الظالم الذي يتصرف فيه الغرب بلا وعي ، ومن أجل ذلك يعمل الغرب على خفض نسل المسلمين وإشاعة روح الإباحة والتحلل والإجهاض والشذوذ الجنسي على نحو ما وصفه بابا روما بأنه أمر سيغتال ثقافة ومبادئ الشعوب الفقيرة كما وصف بأنه الاحتلال الثالث للدول الفقيرة والذي يأتي بعد الاحتلال الأول الذي سلب منه الغرب ثروات هذه الأمم والاحتلال الثاني وهو الغزو الثقافي .
... ومن هنا يأتي ذلك التركيز الخطير على قيم المجتمع الإسلامي الأخلاقية إيماناً من الغرب بأن احتواء الأمة الإسلامية لا يمكن أن يتم أو يقع إلا إذا دمرت حصانتها الأخلاقية التي رسمها القرآن الكريم لحماية وجودها واستمرار قدرتها على أداء رسالتها.
... ولكن ما يزال القرآن يقدم للمسلمين الإجابات الحاسمة عن كل ما يواجههم من أزمات وأحداث .(5/26)
... وما تظل رابطة الإسلام قائمة وقادرة على العطاء وما تزال الشريعة الإسلامية قادرة على تأكيد وحدة الأمة الإسلامية وحماية وجودها ، ولقد شهد لحضارة الإسلام كثيرون من أعلام الفكر الغربي وأكدوا أن الإسلام هو المخرج الوحيد للعالم وللغرب من هذه الأزمة التي تجتاحه وسوف يتأكد للغرب أن الطريق الذي سلكه لم يكن أصيلاً وأن الأمم التي اتبعته قد خدعها البريق كذلك فقد برأت الأحداث والمواقف ساحة الإسلام من العنف الذي يحاول نسبته إليه ويتبين أن تعاليم الإسلام تحض على العدل والمساواة والرحمة والمودة وحسن المعاملة لكل الناس عامة وأهل الكتاب خاصة .
... كذلك فقد تبين للغرب فساد مفهومه المادي الذي يحاول نشره تحت اسم العلمانية في حرب معلنة على الأديان وليس صحيحاً أن مستقبل الإنسانية يصنعه البشر وحدهم ولقد تكشف أن حقيقة الرؤية الغربية للإنسان والمستقيل مادية خالصة فالإنسان عندها مجرد رقم يضاف ويحذف والمستقبل قائم أسود ليس فيه ذرة من أمل في الله تبارك وتعالى .(5/27)
... أما مفهوم الإسلام فهو الإيمان بالغيب كأصل أساسي للمعرفة أما الغرب فليس لديه نقطة واحدة تتحدث عن حاجة سكان هذا الكوكب الأرضي إلى الله تبارك تعالى أو إلى الأخلاق أو الدين حيث ترمي العلمانية إلى نزع القداسة عن العالم حيث تؤمن العلمانية بالعقل بينما يؤمن الإسلام بالغيب والعقل وسوف تذهب هذه الجهود التي تبذل في فرض النموذج الغربي على عالم المسلمين سدى لأنه عالم متميز متكامل له حضارته وثقافته المغايرة تماماً ، ولا تتوقف العلمانية عند حدود الفصل بين الدين والدولة بل تمتد حتى تشمل محاولات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا شك أن هذا التصور الغربي الذي ترسمه العلمانية بالقول بأن العالم يحوي داخله كل ما يكفي لتفسيره والتكامل معه بغض النظر عن أي شئ خارجه ، هذا تصور باطل ومضلل وكاذب فرضته قوى إلحادية وإباحية على الفكر الغربي حين اختلف مع المسيحية الغربية وتحول الأمة إلى تصور قائم على الفلسفة المادية وحدها .
... هذا التصور لن يستطيع أن يحتوي وجودنا الإسلامي مهما بذل من جهد ومهما وجد من قوى تعينه وسوف يسقط كما سقطت نظريات الشيوعية والوجودية والفرويدية والدارونية بعد وقت قليل ذلك أن الإسلام أقوى وأصدق وأعمق أثراً في نفوس معتنقيه وما يزال يكسب عقولاً جديدة ونفوساً نقية صادقة ، ولن يستطيع الغرب تدمير مقومات الأخلاق في الإسلام فهي جزء من العقيدة ولن يستطيع فرض مفهوم الانحلال والإباحة والجنس إلا قليلاُ من مغريات وظروف .
... وما يزال الإسلام قادراً على أن يأخذ بحجز المسلمين من أن يلقوا بأيديهم في النار ، وسوف تكون العودة إلى الدين الحق كاسحة ، لا بمفهوم اللاهوت والعبادة ( كما يفهمه الغرب وتصوره موسوعاته ) ولكن بمفهوم أنه منهج حياة ونظام مجتمع ، إنه عود إلى الحق الذي هجره المسلمون منذ مائتي عام حين فرضت عليهم القوانين الوضعية والتحلل الغربي ولكنهم قد أوشكوا أن يعودوا إلى الحق .(5/28)
دوائر المعارف وشخصية النبي الخاتم
... الرد على الأخطاء التي وقع فيها كنت مادة محمد - صلى الله عليه وسلم - في دائرة المعارف العالمية مكسيم رودنسون عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أوردته دائرة المعارف العالمية :
Encyclopaedia corpus - Editor a paris
(Mahomet ص 517 - محمد 571-632 )
لم يكن من الطبيعي أن يكتب المستشرق اليهودي ماكسيم ردنسون مادة ( محمد ) - صلى الله عليه وسلم - في دائرة المعارف العالمية ثم تأتي مقولته منصفة أو معتدلة أو مقبولة .
ذلك لأن تاريخ مكسيم ردونسون في مجال الكتابات الاستشراقية منذ أكثر من ثلاثين عام معروفة في تحيزها وبعدها عن الموضوعية وانحرافها في التعصب لمفاهيم الفكر اليهودي في مواجهة الإسلام والقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك فلم يكن من المنتظر أن تأتي مقالاته عن محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا مليئة بالغضب مشحونة بالأكاذيب والأضاليل إلى الحد الذي يبعد بعداً شديداً حتى عن المعلومات العامة التي لم يعرفها أقل الناس فهماً لمبادئ الجغرافيا والتاريخ وذلك حين يصف الجزيرة العربية التي نزل فيها الإسلام بأنها ( السعودية ) فكيف يمكن أن توصف الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرناً باسم مملكة مستحدثة ظهرت منذ خمسين عاماً وهل يمكن أن يوصف ذلك بأنه موضوعية أو أنه يكسب ثقة أحد في دعواه بالتحقيق العلمي .
ويبدو خطأ مكسيم ردنسون في أمرين أساسين :
الأول : أنه يحاكم دين كالإسلام ونبي كمحمد وكتاب كالقرآن في مفاهيم لاهوتية تتعلق بدين آخر كالمسيحية ويحاول أن يطبق مفاهيمها على الإسلام دون أن يفرق - وهذه من الأمور الضرورية أساساً - بين مناقشة دين ودين آخر .(5/29)
الثاني : أن يحاول بكل ما يملك من أدوات الكذب والتضليل والمغالطة أن يجعل من الإسلام صورة من المسجد أو أن ينسب إليها كل ما في الإسلام من مواقف ونظم ، غير أن الأمر الخطير حقاً هو " علمانية مكسيم ردونسون وتورطه في النظرية المادية والفلسفة المادية إلى الحد الذي يجعله غير قادر على أن يفهم أموراً أساسية في الإسلام هي الألوهية والوحي والنبوة والغيب فهو يأخذ بمفهوم نظرية المحسوس ويتنكر لكل ما وراء ذلك فيصور النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه مصلح اجتماعي درس مشاكل قومه واستطاع أن يضع لها منهاجاً في الإصلاح .
ويركز في الاتهام والتشكيك على القرآن بوصفه المصدر الأول للإسلام فيدعي أن مواد النص القرآني مقدمة بلا أي نظام ، فأي نظام كان الدكتور مكسيم ردونسون أن يقدم به ، هل هو الأسلوب العصري الذي ليس هو الأسلوب عصر واحد من عدة عصور فضلاً عن أنه ليس أمثل الأساليب ، وبالنسبة لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل كان يريد من القرآن أن يقدم ترجمة لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على النحو الذي يكتبه معاصروه الآن ، إنه حين يقدم هذه الملاحظات يؤكد عجزه عن الإحاطة بمفهوم الإسلام وبالدور الذي يقدمه كتاب سماوي خاتم عن حياة رسالة الأنبياء وما واجهت البشرية به أنبياءها وكيف جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتماً للأنبياء .
... إن مواد القرآن في وضعها الموجود الآن بين دفتي المصحف لم يكن من عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته كما يتصور مكسيم رودنسون بالمقارنة إلى الكتب المقدسة الأخرى ولكنه نص منزل من لدى رب العالمين ليس مفروضاً أن يجد فيه المستشرق ترتيب الوقائع على النحو التاريخي المعروف لنا ولكنه أعد و رتب في إحكام شديد ليلبي غايات أخرى أكبر من ذلك وأبعد أثراً .(5/30)
... وأن من أي ناقد أو معترض أو خصم لأي منهج أن يسوق من الاعتراضات ما يشاء مما أورده المستشرق اليهودي المتعصب ولكن ليس كل ما يقوله يجد اهتماماً أو تقديراً ممن يقرأون ذلك ومن شأن أصحاب المفهوم العلماني الذي ينكر الوحي والنبوة والغيب أن يصوروا القرآن على أنه نتاج لله إبداع الرسول ولكنه ليس كذلك قطعاً وإنما هو من عند رب العالمين .
... ومن شأنهم أيضاً تحت تأثير أحقادهم العنصرية والتاريخية التي لم يستطيعوا أن يتخلوا عنها وهم يناقشون ديناً سماوياً منزلاً فهم يذهبون وراء الأضداد ويشككون في كل المسلمات حتى أنهم يشككون في تعداد المسلمين ويغضون من حجمهم بل يشككوا في تاريخ ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولهم أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك كذباً وبهتاناً حين يتحدثون عن الكعبة المشرفة ويقولون - كما يقول رودنسون - أنها تحوي في داخلها العديد من تماثيل الآلهة ، أو أن بها حجرة سوداء رمز الألوهية فما هكذا تورد نصوص التاريخ أو حقائق الدين ولو أن رودنسون رجع إلى أصغر مرجع من مراجع الإسلام لعلم أن الكعبة ليست كما وصفها ولكنه مع الأسف قد اعتمد في مصادر بحثه على كتب السابقين له من متعصبة المستشرقين والمبشرين الغربيين وهو يكذب حين يدعي أن أبا طالب كان يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فتي في رحلاته وإنما هي رحلة واحدة في سن معين لا يتسرب معها الشك في أن محمد - صلى الله عليه وسلم - تلقى شيئاً من علوم النصارى أو غيرهم . ...(5/31)
... ومن هنا فإن هذه المقولات التي تدعي أنه - صلى الله عليه وسلم - درس النظريات والتيارات الموجودة في عصره ليست صحيحة وكذلك تكذيب الوقائع الصحيحة ما يدعيه رودنسون من أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ يجوب بين أتباع دين عيسى وأتباع دين موسى في سبيل التعرف على فكرهم أو أنه أخذ ينتقد أيديولوجية مجتمعه أو أن ما كان لدى اليهود من مفاهيم قد وصل إليه - صلى الله عليه وسلم - بأي شكل من الأشكال ، فحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته صفحة بيضاء معروفة ، فهو لم يتصل بأي من هاتين الطائفتين ولم يطلع على كتبهما وقد حماه ربه بأن جعله أمياً فلا مجال لاتهامه بأنه قرأ كتب النصارى أو اليهود ، هذا فضلاً عن أن اليهود لم يكونوا يملكون أي منهج أصيل في هذه المرحلة فقد كانوا قد تجاوزوا الرسالة المنزلة إلى أساطير جمعوها من هنا وهناك ، ولذلك فإن مقولة رودنسون بأن محمد - صلى الله عليه وسلم - تعلم التوراة مكذوبة وقد سجل ذلك القرآن الكريم :
( قد تعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) .(5/32)
... أما الادعاء بأن روايات القرآن أشبه بما جاء في التوراة فهي مقولة باطلة مضللة ، فقد قدم القرآن الكريم أحداثاً ومواقف عن رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام ولم يكن يعرفها أهلوها ولم ترد في كتبهم كذلك فإن خلوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء لا يمكن أن توصف بأنها عمل أشبه بما يتعبد به الرهبان وإنما هي من أعمال الحنفاء الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السلام ، وليست اتهامات ردونسون للقرآن بأنه مكتوب في لغة مضللة بالمقولة الصادقة إزاء عشرات من اعترافات المنصفين من أهل الغرب أنفسهم بروعة بيانه وإعجازه ومع الأسف فهو لا يعرف أصول البلاغة العربية حتى يحكم على القرآن هذا الحكم أما عبادات الإسلام فكيف يمكن أن توصف بأنها مثيرة للسخرية أو الاحتقار أو الشفقة على حد قوله وهي التي أغرت العشرات من أهل الأديان على دخول الإسلام لما فيها من سماحة ويسر وبعد عن التعقيد والغموض الذي عرف عن عبادات أخرى .
... كذلك فليس صحيحاً على إطلاقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب إلى قريش وضع اسم الله جل جلاله إلى جانب آلهتهم ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - حاسماً في هذه المواقف ، إما أن يقبلوا الإسلام كاملاً وإلا فلهم دينهم ، وقد أشارت كتب السيرة إلى مواقف كثيرة عرض فيها أصحاب القبائل التوسط أو التيسير أو التخفيف فكان رده حاسماً إن هذا الدين لا يصدقه إلا من يأخذه من كل جوانبه وحواره مع عمه أبي طالب حين دعاه إلى مهادنة قومه حين قال : " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) تدل على ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم قبوله للمساومات مع أي وجه من الوجوه .
* ... * ... * ...(5/33)
... ويركز رودنسون على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويحاول عرضها من خلال مفاهيم التحليل النفسي لفرويد أو التفسير المادي وهي في كلا المنهجين الزائفين لا تحقق له شيئاً مما يريد وإنما هي ادعاءات باطلة ، حين يحاول أن يصور النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عصبي المزاج محموم الطبيعة ويرد ذلك إلى ما يسميه قهر طفولته أو أن عدم إنجابه الذكور كان له أثره في نفسه ، ولو كان رودنسون يفهم أصول الإسلام لوجد أن هذه أوهام الجاهلية التي جاء الإسلام لينقضها ، وأي عصبية في مزاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يستمع إلى المرأة الضعيفة فيقف معها حتى تحدثه ، أو الأعرابي الجاف الذي يناديه من وراء الحجرات ، أو من كانوا يرفعون أصواتهم أو يلقون الكلام اعتباطاً فقد كان - صلى الله عليه وسلم - سمحاً سماحة لم تعرفها العرب .
... ويحاول المستشرقون أن يجدوا منفذاً من قضية زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينسبونها إلى الميول الجنسية ونسوا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - له مواصفات خاصة بالدعوة ، وأن عدد الزوجات كان مطلقاً فما حدده الإسلام لم يتزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ، ويحاول أن يشير إلى ما وقع بين نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسلوب ردئ وعجز قبيح وليس صحيحاً ما تحدث عنه رودنسون من أن نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم عليه السلام كان مختلفاً ، أو أن بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة المشرفة كان من الدعاوى فتلك أمور لم يعد يمكن التشكيك فيها بعد أن ظهرت عشرات الحفريات والأوراق المطمورة في كهف قمران وغيره وكلها تؤكد ما جاء في القرآن الكريم .(5/34)
... ويغمز رودنسون في أمر خمس غنائم الحروب ويتحدث عن ثروة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في ذلك ظالم لنفسه فإن هذه الثروة إنما كانت تنفق في أمور الدعوة وفي مشاكلها ومتطلباتها وليست على معيشة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي كانت محدودة متواضعة خلال حياته كلها وآخر ما يصل إليه مكر رودنسون هو موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اليهود فتلك هي نهاية المطاف وغاية الغايات وعباراته في هذا الصدد ليست عبارات الباحث أو ليست بالموضوعية : فما طردت قبيلة يهودية من المدينة إلا بعد أن ثبت عليها التآمر والكيد بعد أن عاملهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن معاملة وحين أخرجوا من المدينة دبر لهم مقاماً آخر أشاد به كتاب اليهود ومؤرخيهم وشكروا للرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمته وعطفه .
... وبعد فإن كل ما أورده رودنسون من اتهامات إنما أملاه عليه الحقد الأسود الذي يأكل قلوب اليهود حين كانوا يتصورون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبعوث منهم فلما جاء من فرع إسماعيل تأمروا عليه وعرفوا أن الله تبارك وتعالى نقل الرسالة الربانية عنهم بعد أن حرفوها وأفسدوا في الأرض .
نحن أهل الحق على موعد مع النصر(5/35)
... يجب أن يكون واضحاً وضوح الشمس في رائعة النهار : أن الإسلام هو مستقبل البشرية كلها ، وأنه مهما وضعت أمامه العقبات فإنه سيحطمها ويتقدم إلى موقعه من قيادة العالم فإنما قد جاء منذ أربعة عشر قرناً لإنقاذ البشرية من الظلمات التي غشيته وأحاطت به والتي ما زالت تتفاقم وتتضاعف حتى بلغت اليوم أشد مراحل عنفها وشماسها ، ونحن المسلمون إنما جئنا لنحمل هذه الرسالة ونجاهد من أجلها ونقدم أروحنا وأموالنا رخيصة في سبيل هذا الهدف ومن هنا فإن علينا أن نستميت في سبيل هذا الهدف لا نحيد عنه ولا نرى لنا مهمة غيره بل لا نرى لنا مهمة أو مطمعاً وأن نكون في سعينا هذا واثقين كل الثقة بنصر الله وتحقيق الهدف الذي يجب أن يأخذ مراحله الطبيعية وفق سنن الله في الكون وقوانينه في تطور المجتمعات وعلينا أن نكون على هذه الثقة بنصر الله مستشرفين الهدف مقابلين كل ما يواجهنا بصبر وطمأنينة نفس وثقة بالغة أن كنا نحن الذين شرفنا الله تبارك وتعالى لحمل هذه الأمانة والسير بها والدفاع عنها .
... هذه واحدة ، أما الأخرى فإننا يجب أن نعلم علم اليقين أن هذا الاضطراب الخطير الذي تمر به الأوضاع وهذا الصراع الشديد إنما هو نتيجة فعلية لتجاوزنا طريق الله ومحاولتنا التماس مناهج البشر وغفلتنا عن الحقيقة الأساسية القائمة على إسلام الكون كله لله ، وخضوعه لمنهج ربه ، فإن هذا الانحراف والتجاوز الذي يقع فيه الإنسان بحكم حرية إرادته هو مصدر هذا الاضطراب الخطير الذي أصاب المجتمعات وزلزل قواعدها وأعجزها عن أن تجد الأمن والأمان في حياتها وأنه لا سبيل إلى تحقيق هذا الأمن إلا بالعودة مرة أخرى إلى منهج الله وتقبله والنزول على ما قرره في تدبير أمر المجتمعات والتعامل بين الناس على النحو الذي ارتضاه لهم ، وما تزال البشرية تقاسي الغربة وتواجه الأزمات وتتصدع بها الأوضاع مادامت تسبح ضد التيار وتغفل عن حق الله تبارك وتعالى عليها .
* ... * ... *(5/36)
... ولذلك فإنه لا يدهشنا أن نرى تلك الظواهر الخطيرة التي تروع النفس الإنسانية نتيجة عجزها عن الاحتفاظ بتوازنها أو التزامها بمنهج الله حيث تبدو مظاهر لم يعرفها أسلافنا الذين كانوا أكثر تقديراً للمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي .
... إن الانحراف عن سنن الله وتوازنات المجتمع من شأنها تبرز أوضاعاً خطيرة تبدو في ظهور الأوبئة ونقص الماء والطعام ، واندفاع البلاد دون أن تفكر في مرد هذه الظواهر ولا في آثارها ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يصير حطاماً ) أما المؤمنون فإنهم يعتبرون بهذه الظواهر ويردوها إلى مخالفة الأمم لسنن الكون وانحرافهم عن الطريق السوي ، ومن ثم يعودون إلى الله ويلتمسون منهجه ويتطلعون إلى رحمته ومغفرته ، أما الغافلون المندفعون في طريق الاستعلاء الظانين أنهم يملكون تصريف الأمور ، الذين ينكرون قدرة الله تبارك وتعالى وامتلاكه مقاليد السموات والأرض فما أعظم الخسارة التي تلحق بهم ، إننا مطالبون بأن نفهم سنن الله في الكون والمجتمعات والأمم وأن نتعرف على عبرة التاريخ والأحداث التي وقعت وكيف أزيلت حضارات ضخمة من فوق ظهر الأرض لأنها عتت عن أمر ربها وخالفت قوانينه .
... ونعلم أننا نمتحن اليوم بأخطر التحديات التي واجهت الأمم والحضارات وأن تجمع الأمم علينا في محاولة لامتلاكنا هو أمر يجب أن نحتشد له وأن نواجهه بإيمان قوي ونضال لا يهدأ ولا يلين حتى تتكشف هذه الغمة كما انكشفت عن المسلمين من قبل غمم الصليبيين والتتار والفرنجة ولنؤمن بأن الله تبارك وتعالى حذرنا من هذا الخطر وأنذرنا بأننا سنواجه الأمم وهي تتآمر من قوس واحد وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً )(5/37)
... إننا نجدنا الآن في قلب مؤامرة لها أطراف ثلاثة النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية التي استطاعت أن تسيطر على رأس جسر في قلب أمتنا الإسلامية وفي مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن مخططات هذه القوى الثلاث تكاد تجمع على التآمر لاقتلاع الإسلام واحتواء المسلمين وإذلالهم واستعبادهم وفي كل مكان تجد المسلمين يواجهون حملات مكثفة ومؤامرات مستمرة ونحن نلهو ونلعب ، وقد شغلتنا المطامع والأهواء ، فنحن نجري وراء اللذات والشهوات ، وهناك قوى ترسم لنا الطريق إلى السقوط في حمأة هذه الهاوية .
... وقد غرتنا هذه المعطيات من الثروة والطاقة والنفط فذهبنا ننفق في إسراف وسفه ، ونسينا أن هذه الثروة إنما جاءت في هذا الوقت بالذات لتكون حجة علينا لأننا نستطيع بها أن ندفع الخطر وأن نحشد القوى وأن نحرر الأرض وأن نرابط في الثغور فلا يستطيع العدو أن يقتحم وجودنا أبداً وفي هذه المرحلة من تاريخ أمتنا تزداد عملية الضغط وتشتد في مواجهة الصحوة الإسلامية وتلك الخطوات التي تخطوها نحو تحقيق الهدف بالعودة إلى المنابع والتماس منهج الله وإقامة المجتمع الرباني .
... وعلينا أن نستبسل ولا نخاف هذا الاقتحام فإننا قد وعدنا النصر ونعلم أننا على الحق ، فلنثبت ولنصمد فإن النصر قريب ووعد الله لا يرد ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم الظالمين ) ، ونحن نؤمن بأن الأرض لله يورثها من يشاء وأنه تبارك وتعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه ، ( إن الذين كفروا سينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) .
... إنا لنؤمن صادق الإيمان بأننا على الحق وأننا حملة الرسالة الخاتمة التي سترث كل هذه الحضارات المنهارة وعلينا أن نصمد في وجه الإعصار فسوف ينكشف عن النصر المبين المؤزر .
العودة إلى المنابع(5/38)
(1 ) العودة إلى المنابع .
( 2 ) تصحيح المسيرة والعودة إلى المنابع .
( 3 ) العودة إلى منهج الله .
( 4 ) التيار الإسلامي الأصيل .
( 5 ) المسلمون والعودة إلى المنابع .
( 6 ) العودة إلى المنابع ضرورة حتمية .
( 7 ) في مواجهة إحياء الفكر الباطني والوثني .
( 8 ) تصحيح المفاهيم وتحرير القيم .
العودة إلى المنابع
... عندما جاء الإسلام بمنهجه الجامع المتكامل ( القرآن الكريم والسنة المطهرة ) وضع ركيزة ضخمة وقاعدة أساسية عالية الذرا للنظر والنقد والتقويم لكل ما تملك البشرية من حصيلة فكر بشري تداولته حضارات اليونان والفرس والهنود والفراعنة ، فكأنما فصل - بل بالقطع فصل بين تراث البشرية المختلط المضطرب وبين الإسلام الذي جاء ناصعاً مشرقاً .
... وكان لابد أن يقف الفكر الإسلامي بقيمه وقوانينه التي رسمها القرآن الكريم والسنة النبوية موقف واضحاً إزاء ذلك الركام الضخم المتعدد الوجهة المختلط بتراث رسالات السماء في بعض جوانبه وفي معطيات الفلاسفة والمفكرين الذين خلطوا بين التوحيد والوثنية وقال الكلمة الحاسمة في كل هذا الفكر من ناحيتين :
(1) من ناحية أن ما لا يتعارض مع مفهوم التوحيد لا بأس من النظر فيه .
(2) من ناحية أن كل ما يتقبل من الفكر القديم يجب أن يكون مادة خاماً تنصهر في بوتقة الفكر الإسلامي .
وقد كان من الضروري اتخاذ هذا الموقف من بعد بالنسبة للفكر الغربي الوافد منذ بدأت حركة الاستعمار والنفوذ الأجنبي تعرض فكرها ومفاهيمها في أفق الفكر الإسلامي .(5/39)
... وقد حاول الفكر الغربي أن يضع مبررات للاحتواء تحت أسماء منها : تلاقي الحضارات وتفاعلها ، وتلقيح الفكر وغيرها من مصطلحات خادعة فقد كانت خطة المسلمين واضحة في غربلة التراث القديم وتقبل ما لا يتعارض منه مع التوحيد ورفض كل ما لا يتفق معه ، ولما جاء الغرب ليأخذ من تراث الإسلام كان حريصاً على أن لا يقبل مفهوم العقيدة وأن قبل ما يتصل بالعلوم التجريبية وغيرها ، مما صهره في بوتقته وربطه بماضيه ومضي به خطوات أخرى .
... غير أنه لما جاء الغرب للسيطرة على بلاد الإسلام حاول أن يفرض فكره وثقافته ومفاهيمه في محاولة لصهر الفكر الإسلامي في دائرة الغرب ، ولكن حركة اليقظة الإسلامية استطاعت أن تكشف هذه المحاولة وأن تعمل على تحرير الفكر الإسلامي من التبعية بالرغم من سيطرة المنهج الغربي على التعليم والثقافة والصحافة .
... ولقد ظلت القاعدة قائمة ( وهي قاعدة التوحيد الإسلامي الخالص وما يتصل بالإيمان بالغيب والنبوة والبعث والجزاء ) وهي العلاقة الأصيلة لسلامة منطلق الفكر الإسلامي .
... وتقرر موقف واضح من الاقتباس والنقل يختلف عن المنهج الذي حاول دعاة العلمانية والتغريب أن يفرضوه : هذا المنهج القائم على الأصالة والعودة إلى المنابع والذي يفرض وضوح وسلامة الاتصال بين القيم على النحو الذي يحول دون الانصهار في الفكر الغربي أو الأممية أو انهيار الذاتية الإسلامية الأصيلة التي تعتبر المحافظة عليها من الفرائض الأساسية ، إيماناً بالتميز الخاص الذي أقام منهجه الإسلام لأمة تحمل لواء تبليغ الرسالة العالمية للناس على مدى الأيام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
* ... * ... *
... ومن هنا كان لابد من أن يقف القرآن الكريم نبراساً وفاصلاً وكاشفاً لحدود القبول والرفض من كل ما يطرح من فكر على الساحة الإسلامية ، ومن هنا يأتي خطر دراستين : دراسة الفلسفات القديمة ودراسة الفلسفات الحديثة .(5/40)
أولاً : أننا مطالبون أساساً بأن نقدم كل مفهوم الإسلام من خلال التوحيد الخالص البعيد عن كل مفاهيم الفلسفات أو تصورات علماء الكلام أو المنطق محرراً من مفاهيم التصور الفلسفي ووحدة الوجود والحلول وفي نفس الوقت محرراً من مفهوم العقول العشرة ونظرية الفيض وهذا كله يدرس في بعض كلياتنا على أنه علم وقد كان من الأولى أن يعرض على أنه نظريات مضللة قد جاء التوحيد الخالص الذي حمل لوائه الإسلام ليكشف زيفها .
ثانياً : لم يكن أرسطو معلماً للمسلمين ولم يأخذ المسلمون الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية التي ترجمت في عصر المأمون قضايا مسلمة ولكنهم عرضوها على مفهوم التوحيد الخالص وردوا ما كان منها مرتبطاً بالوثنية وكشفوا عن منهج اليونان المسمى ( علم الأصنام ) ووقفوا من الفارابي وابن سينا موقفاً واضحاً خاصة بعد أن تبين من صلاتهما مع الباطنية والقرامطة .(5/41)
ثالثاً : رفض الإسلام فكرة المزج والتركيب مما يسمى بالنظرية التوفيقية ( وإن كان قد قبلها مرحلياً في عصور الاستعمار للضرورة ) ومنها رفض هيمنة المعقول على المنقول أو هيمنة النظرة العقلية على الوحي . وقد واجهت قضية التوفيق بين المناهج الإسلامية والغربية أشواطاً كثيرة من المراجعة والجدل وإن كان الإسلام في قاعدته الأساسية يقوم على تكامل القيم والعناصر وعلى أساس ( الثوابت والمتغيرات ) ولكنه يقف موقف الحذر الكامل إزاء الدعاوى التي ما زالت تثار حتى اليوم بأقلام زكي نجيب محمود وغيره عن الربط بين ما يسمى التراث الإسلامي والفكر الغربي ( بدعوى أن المسلمين قبلوا ذلك في عصر الترجمة وهو ما يكذبه ألف دليل ) فالدعاوى المثارة تقول الربط بين نهوض العلم مع الاحتفاظ بالتراث على حد عبارة الدكتور زكي نجيب محمود وهي عبارة ماكرة ، أو قوله قبول الحضارة في حدود تقاليدنا وتراثنا وهذا المصطلح مرفوض أيضاً لأن القاعدة الأساسية هي قيام ( الوجود الإسلامي الفكري والاجتماعي والثقافي ) أولاً ثم تقبل أي تيارات خارجية على ضوء ما يتفق مع التوحيد ولا يتعارض أو يؤثر في التصور الإسلامي القرآني الصحيح .
... أما القول ( بأن الدين أو التدين ) فهذا يجب الوقوف عنده ، فما هو مفهوم الدين الذي يتحدثون عنه ؟ هل هو المصطلح الغربي الذي يحتويه دوائر المعارف الغربية والذي يصور المعنى اللاهوتي أو يتحدث عن قضية الغرب مع المسيحية ؟ ، إن الفكرة التوفيقية التي يدعو إليها البعض عن الجمع بين تراث الإسلام وعلم الغرب لا تنفعنا ولا نقبل بها ، لأنها تجعل الإسلام تراثاً وهو ما ليس صحيحاً وتجعله تكملة للعلم الحديث أو خاضعاً له وهو ما لا نقبله .(5/42)
... إن مفهومنا يقوم على تكامل الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً ويجعل أساسه الإيمان بالغيب والوحي والبعث والجزاء والطاعة لمنهج الله تبارك وتعالى والإيمان بأنه هو الذي إليه ترجع الأمور ومنه تبدأ أساساً مع الإيمان بثبات الشريعة الإسلامية وخلودها مما لا يمكن التوفيق بينه وبين الفلسفة المادية وليس مقبولاً لدينا إعلاء العقل أو تقديسه وإنما يوضع العقل موضعه الصحيح حيث يظل الوحي هو ضوءه الكاشف ولا يقبل هيمنة العلم على الوحي ولا هيمنة العقل على الشريعة ، هذا فضلاً عن أنه ليس هناك تناقضاً مطلقاً بين الإسلام والعلم ، أما فكرة المزج بين الحضارتين والتركيب بين الثقافتين - في هذه المرحلة بالذات التي يستعلي فيها الغرب بسلطانه المادي فهي طمس لهويتنا المتميزة ومحاولة لحصارها وتذويبها في بوتقة العالمية والأممية .
رابعاً : إن المحاولة الماكرة المنظمة التي ترمي إلى إعلاء شأن الفلسفة في أفق الفكر الإسلامي قضية خاسرة ، وكل ما يحاول بعض دعاة المادية إثارته من هجوم على التوحيد الخالص من خلال الهجوم على بعض أئمة الإسلام مثل الغزالي هو قول مدحوض ، فالغزالي هو الذي كشف أكبر أخطاء الفلاسفة ( الفارابي وابن سينا ) مما ترجم من الفكر اليوناني وخاصة القول بقدم العالم وأن الله تبارك وتعالى لا يعلم الجزئيات وهي مقولة حق ردت شؤم الفلسفة عن المسلمين قروناً عديدة ، وقد جاء ابن تيمية مرحلة أخرى أكبر وأوفى حين كشف عن زيف منهج ( منطق أرسطو ) وأبان أن للقرآن منطقاً يختلف وهذا هو سر الحملة الشديدة في الغرب وعند العلمانيين على الإمامين العظيمين .(5/43)
... ولقد خاض علماء المسلمين معارك ضخمة في سبيل تحرير الفكر الإسلامي من مترجمات الفكر الوثني سواء اليوناني أو الفارسي أو الهندي ومخلفات المجوسية والزرادشتية والمانوية والغنوصية حتى بدا الإسلام من جديد نقياً خالصاً كما كان يوم أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وقد رفض علماء المسلمين الأبرار المعتقدات الوثنية وأساطير الآلهة وآداب اليونان وفنونها وكشف زيفها وكان سعيه إلى ترجم العلوم الطبيعية والرياضية والطب والكيمياء .
... ولقد جرت المحاولات في العصر الحديث لإعادة الكرة فدعا لطفي السيد وطه حسين إلى عودة أرسطو الذي لفظة المسلمون ومن بعد لفظه الغرب بأدلة المسلمين ، وكانوا يرغبون في أن يعيدوا المسلمين إلى أرسطو بينما هم أخذوا مذهب التجريب الإسلامي وقد تكشفت هذه المؤامرة وتحطمت قواعدها التي أقامها صناديد الفلسفة .
... واستطاع المسلمون عن طريق حركة اليقظة الإسلامية تحقيق هدف أكبر هو الخروج من دائرة الاعتزال والكلام إلى دائرة النظرة القرآنية الأصيلة .
... ومن هنا فإن ما يجرى الآن ليس ردة إلى الماضي كما يتصور البعض ولكنه تصحيح موقف وعودة إلى الأصول والمنابع - فقد كانت المرحلة الماضية مرحلة اضطرار ، فرض فيها النفوذ الغربي أهواءه من أجل إخراج المسلمين من ذاتية فكرهم الأصيل الجامع الرباني ، ولا ريب أن عودتنا إلى المنابع اليوم هو تصحيح لموقف يحدث مع الأمم المغلوبة ولكن الشيء الوحيد الذي يجب أن يكون واضحاً دائماً هو العمل على العودة إلى الأصالة وإلى الطريق الصحيح وهو ما نرجو أن نكون اليوم على طريقه إذ كيف يتصور مستقبل أمة لها تاريخ ضخم وميراث عظيم تنسلخ من تراثها وماضيها وقيمها كما يتصور البعض واهماً أو يدعو إليه ؟ .
تصحيح المسيرة والعودة إلى المنابع(5/44)
... إن مجموعة كبيرة من الحقائق تكشفت في السنوات الأخيرة كانت محجوبة ومغيبة داخل دائرة الصمت والتجاهل لعظمة الإسلام ودوره الكبير في بناء الحضارة الإنسانية ، وكان المقصود ألا يعرف المسلمون أبعاد دورهم الذي أضاء العالم كله أكثر من ألف عام :
أولاً : كانت مؤامرة الصمت شديدة الخطر بالنسبة لدور الإسلام في بناء المنهج التجريبي والعمل الضخم الذي قام به علماء المسلمين في مختلف المجالات سواء في مجال العلوم الطبيعية ( ابن الهيثم كتابه المناظر ) أو الشافعي في كتابه ( الرسالة ) أو ابن خلدون في بناء منهج تحليل التاريخ ومنهج قوانين الاجتماع ، كل هذا كان قد وصل إلى الغرب عن طريق ( قرطبة - بلنسيه - ... وجامعاتها ) ، ثم قلبت الصفحة بالإنكار والتجاهل أكثر من مائة عام حتى قام بعض المنصفين الذين حاولوا أن يردوا الأمور إلى حقيقتها فيما كتب درابر ، وجوستاف لوبون وسجريد هونكه .
ثانياً : مصداقية الفكرة الإسلامية وقدرتها على العطاء الحقيقي للنفس الإنسانية الحائرة المتطلعة إلى رحمة الله ، وموازاتها للفطرة على النحو الذي نراه في انطباعات أولئك العلماء العلمانيين الذين دخلوا الإسلام أو درسوه أو وجدوا فيه ( كوة الضوء ) نحو فهم جديد لأبعاد الكون والحياة والمجتمع من خلال فهم الألوهية والغيب والجزاء الأخروي .
جاء هذا في الأخير بعد مرحلة طويلة عسيرة من الغرور والاستعلاء الذي حاول العلم فيه أن يطاول رسالة السماء ثم تبين أن العلم لا يستطيع إلا تقديم مفهوم محدود مرتبط بالمادة وأنه لا يستطيع أن يقول شيئاً يمكن أن يكون بديلاً للدين الحق المنزل .(5/45)
ثالثاً : كشفت تجربة الحضارة الغربية ( بالرغم من كل عطائها المادي ) عجزها عن منح الإنسان طمأنينة القلب وسكينة النفس وقد تبين أن أكثر مناطق الحضارة رخاء أكثرها اضطراباً وأعلاها نسبة في الانتحار وأقربها إلى الغربة والقلق ، ذلك لأن هذه الحضارة لم تقم أساساً على مفهوم الإيمان بالله تبارك وتعالى وإسلام الوجه له ، فضلاً عن أنها بعدت عن مفهوم ( الأخلاقية ) وهي القيمة الأساسية لسلامة حركة الحياة وقد رسم الإسلام منهج الحضارة الربانية ، وكشف عن أن لها سنن إذ لم تتبع فهي تدمر ، وتذهب أدراج الرياح .
رابعاً : تكشف أن كثيراً من القوانين والنظريات التي يفخر الغرب بأنها من إبداع مفكريه وفلاسفته مأخوذة أساساً من التراث الإسلامي الذي استطاع الغرب الحصول عليه حين قام بعملية ( نهب ) المخطوطات القديمة من مختلف أنحاء البلاد الإسلامية وهو يحاول اليوم أن يحجبها عن علماء المسلمين حتى لا يكتشفوا مدى تلك الأبعاد للعطاء الإسلامي في العلوم الإنسانية والاجتماعية ( فضلاً عن علوم الفلك والطبيعة والكيمياء ) وغيرها .
خامساً : عودة المسلمين إلى منهجهم واكتشافهم عجز مفهوم الغرب عن العطاء ، وقد تبين للمسلمين بعد التجربة الطويلة المريرة أن محاولة إخضاعهم لمنهج الغرب ومفاهيمه قد باءت بالفشل وعجزت عن أن تقنعهم أو تستميل قلوبهم ، وآمنوا بأن لهم منهج أصيلاً له طبيعته الذاتية المتميزة ، وأن قوانين المجتمعات والحضارات التي رسمها الإسلام هي منطلقهم الحقيقي ، ومنهجهم الأصيل وأنه قد تبين تماماً أن خداعهم بمنهج الغرب والمؤامرات التي رسمت لهم خلال أكثر من مائة عام قد تكشف زيفها وسقطت الرؤوس والرواد المضللين الذين رسموها(5/46)
سادساً : كشف التاريخ كل الحقائق حول الدور العظيم الذي قامت به الدولة العثمانية في حماية المنطقة العربية من جولة جديدة للحروب الصليبية لمدة أربعمائة عام ، كما كشف التاريخ الدور الذي قام به المماليك في تصفية الوجود الصليبي والتتري في الأرض العربية بجهود قطز وبيبرس وقلاوون ، وتبين أن الحملة على الدولة العثمانية وعلى المماليك إنما تصدر عن حقد الغرب ضدهما .
سابعاً : صحح التاريخ المعاصر بالوثائق الواضحة موقف السلطان عبد الحميد : ذلك الموقف المشرف الذي وقفه أمام المؤامرة الصهيونية ورفض عروضهم التي عرضها هرتزل من أجل دخول اليهود فلسطين والقدس وكشف عن صمود هذا الرجل الكريم وتضحيته بمنصبه في سبيل عدم تمكين الصهيونية من الوصول إلى فلسطين .
ثامناً : كشفت الحقائق ذلك الترابط الوثيق بين الإسلام والعروبة ، وأن العروبة هي من صنع الإسلام وأن الإسلام هو الذي أعطى العرب وجودهم وتاريخهم ودورهم الخطير في بناء الحضارة ، وبذلك دحض مفاهيم القوميات التي حاول الكثيرون إحلالها في السياسة العربية كما دحض مفاهيم الإقليميات ، وتوضح أن العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة وأنه لا عروبة بغير إسلام .
تاسعاً : أوضحت الحقائق التي كشفتها حركة اليقظة مكانة اللغة العربية بالقرآن في عالم الإسلام ، وكيف أنها تختلف عن اللغات الأوربية في علاقتها باللغة اللاتينية ودحضت مفاهيم العاميات ، كما زيفت ما يسمى بعلوم اللغة الوافدة من مفاهيم الغرب للغاتهم ، وكيف أن اللغة العربية بالقرآن قد أصبحت مفهوماً مختلفاً كل الاختلاف عن مفاهيم اللسانيات الوافدة ، وهكذا نجد أن هذه الحقائق التي ظهرت في السنوات الأخيرة قد صححت المسيرة الإسلامية وأغنت الصحوة الإسلامية بأن أقامتها على طريق الأصالة والعودة إلى المنابع .
على طريق العودة إلى منهج الله تبارك وتعالى(5/47)
... منذ وضع كرومر ودنلوب وزويمر مناهج التعليم والتربية استمداداً مما رسمته مدارس الإرساليات التبشيرية التي غزت العالم الإسلامي ممهدة لتوسيع نفوذ الاستعمار والتغريب والغزو الثقافي ، منذ ذلك الوقت وما تزال مناهج التعليم في المدارس والجامعات والمعاهد على مستوى العالم الإسلامي كله متلبسة بالآثار الأولى بالرغم من التحولات التي حدثت في ظل عهود الاستقلال وتعالي صيحات الوطنية والقومية في عديد من الأقطار .
... وما تزال تجري المحاولات على مدى السنوات الماضية لتحرير التعليم والتربية من التبعية وإسباغ النهج الإسلامي عليها وما تزال قوى كثيرة تقف أمام تحقيق هذه الغاية التي هي المنطلق الحقيقي لبناء المجتمع الإسلامي الملتزم القادر على تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة منهج الله تبارك وتعالى في حياة الفرد والمجتمع والحضارة أيضاً .(5/48)
... وما تزال الرغبة المتواضعة التي تتطلع إلى تدريس مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات محبوسة ، ولا ريب أن الانفتاح أمام تأصيل الفكر الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية الانتماء يتطلب إعداد أجيال جديدة من المثقفين الذين يستطيعون الجمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية خاصة في مجال القانون والاقتصاد حيث نجد أن رجال الشريعة لم يدرسوا القانون الوضعي ولم يدرس رجال القانون الشريعة الإسلامية فلا بد من قيام منظومة شرعية قانونية اقتصادية من رجال الشريعة والقانون والاقتصاد حتى يمكن إعداد الطبقة القادرة على حمل أمانة العمل في هذا المجال وأن يكون حصيلة الثقافة الغربية كلها في خدمة الإسلام وشريعته وكذلك إعداد أجيال من الشباب تجمع بين العلوم التجريبية والرياضة والطبيعية من خلال مناهج اللغة العربية وذلك بترجمة هذه العلوم إليها وقيام طبقة قادرة على تغذية العلوم المعربة بالإضافات الجديدة من المصادر الأجنبية على أن يتم ذلك كله ليس على النحو الذي يعرض الآن ، وإنما يقوم على أساس الأصالة وقيام الطابع الإسلامي الصحيح ، بوجهته القرآنية ولغته العربية في مختلف هذه المجالات ، وعلى طريق تأصيل العلوم والمناهج فنحن في حاجة إلى تحريرها من التبعية للفكر الغربي المادي وخاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تختلف مع الفكر الإسلامي في القاعدة الأساسية مثل نظريات النشوء والارتقاء والتطور ونظريات فرويد ودور كايم وهيجل وماركس ، وهي نظريات مخلوطة بالإلحاد والإباحة .(5/49)
ثانياً : حماية المجتمع من إشاعة روح الانحلال والتفسخ بتعلم الرقص والموسيقى الصاخبة والغناء المكشوف أو محاربة اللغة العربية بتشجيع اللهجات العامية والإشادة باللغات الأجنبية مع تدريس كتب أجنبية للغات وسواها يحتوي على تحريض سافر لغرس العادات الغربية والمبادئ والنظم غير الإسلامية وتدرس الأشعار الإباحية والفلسفات المنحلة مثل فلسفة الوجودية الداعية إلى حرية الفساد كما هي عند مؤسسيها سارتر وكامي وإباحية سيمون دى بوفوار في مفاهيم المرأة المنحرفة ، والواقع أن هناك اليوم محاولة خطيرة لاحتواء التعليم في مدارس اللغات وغيرها من أجل تحويل الانتماء المصري : الإسلامي الوجهة والعربي الطابع إلى انتماء غربي من خلال مذهب ديوي وفلسفته البرجماتية التي تفصل بين التعليم والقيم الأخلاقية أساساً .
ثالثاً : أكبر كثير من أساتذة كليات التجارة بمختلف الجامعات أن المناهج الدراسية بهذه الكليات مخالفة للدستور والشريعة معاً لأنها تقوم على تدريس مفاهيم الاقتصاد من متطلبات ماركسية ورأسمالية فقط وتتجاهل تماماً مفاهيم الاقتصاد الإسلامي ، وأن الدراسة تجري من منظور وضعي غربي مخالف للشريعة ، وهذا الشأن نفسه في كلية الشريعة والقانون في الأزهر .
... والمعروف أن مؤتمر تطوير التعليم رفض الاستجابة لما دعا إليه علماء الإسلام وبعض أساتذة الجامعات من ضرورة ( أسلمة المناهج التعليمية ) لإصلاح منطلق التعليم ، وأن المؤتمر رفض إدراج ورقة العمل التي قدمها نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة ضمن المؤتمر الذي أصدر 136 توصية ليس منها سوى توصيتين غامضتين عن دور التربية الإسلامية في إصلاح حال التعليم :
إحداهما : بناء الشخصية المصرية القادرة على مواجهة المستقبل مع التأكيد على الهوية الثقافية العربية والإسلامية للشخصية المصرية .
والثانية : الاهتمام بالتربية الدينية لطلاب الجامعات وتجاهلت الدعوة إلى أسلمة المناهج التعليمية .(5/50)
... ونحن نرجو أن تدخل مناهج التعليم الديني المفاهيم الأساسية للإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وأن التشريع الإسلامي هو المصدر الأساسي للقوانين ، والمأمول أن يزول انفصال مادة الدين عن مواد العلوم الاجتماعية هذا الفصل الذي يخلق الشعور بالفصل العلمي بين الدين والدنيا وبين علوم الدين وعلوم الدنيا وحبذا لو اصطبغت جميع المواد بروح الإسلام فلا تدرس نظرية دارون على أنها بديل لحقيقة خلق الإنسان وانفراده بالنوع الخاص كما يقرر الإسلام .
... ومن هنا فنحن في إطار الدعوة إلى إعداد المجتمع للتحرر من كل ما يخالف الطابع الإسلامي نركز على هذه الحقائق :
أولاً : هذا التاريخ الإسلامي والعالمي الذي يدرس لأولادنا يحتاج إلى غربلة وإعادة نظر دقيقة لتحريره من الأصداء الخطيرة التي يحدثها في نفوس الشباب المسلم لأنه كتب بمنهج استعماري منذ وقت طويل ولم يجر تصحيح منطلقه ليكون التاريخ ضوءاً كاشفاً على كرامة هذه الأمة ودينها وعقيدتها وأن يكون عظماء الإسلام أهم كثيراً من عظماء الغرب في الدراسة والتعريف بهم .
ثانياً : التحرر من مفاهيم دارون وماركس وسارتر ودوركايم وغيرهم وتجاوز محاولات فرض مفاهيم الفلسفة المادية ، أو التنكر للدور الإسلامي الواضح في مجال العلوم التجريبية والرياضية والطبيعة وفي مجال علوم التاريخ والاقتصاد والتربية ، فإن هذه المناهج من شأنها أن تخلق نوعاً من انتقاص شأن علماء المسلمين ومفكريهم .(5/51)
ثالثاً : الحيلولة دون كل ما يؤدي إلى التأثير على مفهوم التوحيد الخالص مما تطرحه نظريات دارون والبيولوجيا مما هو مخالف لمفهوم الإسلام والقرآن في خلق الإنسان ، وتحرير المناهج من دراسة النظريات والأيديولوجيات الغربية الصادرة عن المفهوم المادي وذات الأصل الوثني في ( النفس - الأخلاق - الاجتماع ) وتقديم كل فكر غربي مسبوق بدراسة عن ظروفه وأوضاعه بالنسبة لمجتمعه ، والحيلولة دون إطفاء نور التاريخ الإسلامي بوصفه تحت مجاهر نظرية التفسير المادي للتاريخ ، أو الغض من شأن التراث الإسلامي أو إعلاء العاميات على الفصحى ، وإعادة صياغة كتب التاريخ ليطهر المقررات الدراسية من التأثيرات الأجنبية وتقديم مفهوم الإسلام السمح الكريم الذي يقوم على احترام الفطرة الإنسانية وإعلان شأن الإنسان المستخلف في الأرض وإقرار مسؤوليته الفردية والتزامه الأخلاقي ودفعه إلى الكسب والسعي وفق مفهوم الحلال وطيبات الرزق وتجاوز تلك المفاهيم الزائفة التي تحدث عن المسؤولية الجماعية للمجتمعات والتي تنكر المسؤولية الفردية أو تدعو إلى الانطلاق في طريق الشهوات والحرام ، وتأكيد الإيمان بأن الدنيا مزرعة للآخرة ، فلا فصل بين الدين والمجتمع ولا بين الدنيا والآخرة ، وأن الإسلام ينظم الحياتين معاً : ولذلك جاءت التربية جامعة بين بناء العقل والقلب والجسم على نحو يحمي المسلم من أن يتصدع وجوده نتيجة انطلاقة وراء المطامع والأهواء .(5/52)
... وإن علينا أن نجعل المثل الأعلى الذي ترسمه سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بين أيدينا وفي أعيننا لنلتمس منها الأسوة الحسنة وأن تقدم مناهج القرآن في العقيدة والأخلاق والمعرفة ذات الجناحين وقيام المجتمعات والحضارات وسقوطها بين أيدي شبابنا ، كل هذا نحن نحتاجه في هذه المرحلة من حياتنا الاجتماعية قرب نهاية العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري نلتمس به الدخول في مرحلة الإرادة القادرة على العودة إلى منهج الله تبارك وتعالى .
التيار الإسلامي الأصيل
ماذا يمثل التيار الإسلامي الأصيل ؟
... في وسط هذه المفاهيم المطروحة على الناس باسم الإسلام ، سواء من دعاة القوميات أو من دعاة العلمانية أو من دعاة التصوف أو من دعاة التوحيد يجب أن يكون هناك نقطة ضوء واضحة كاشفة يتعرف بها المسلم على التيار الإسلامي الأصيل البعيد عن التعصب أو الانحراف أو الجمود ، هذا التيار يجب أن يستمد مفاهيمه وقيمه من مفهوم أهل السنة والجماعة القائم على العنصرين الأساسين : القرآن الكريم والسنة الصحيحة في ضوء الحقائق التي تداولها المسلمون قبل ظهور الخلاف .
... أول هذه الحقائق هي عقيدة التوحيد الخالص ، قائمة بكل ما يتصل بها من إيمان بالنبوة والوحي والغيب والبعث والجزاء الأخروي ، والإيمان بأن منهج الإسلام في بناء الفرد والجماعة والأمة والدولة إنما جاء حاكماً على الحضارات والمجتمعات ، ومنظما لمعاملاتها وعلاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية .
... وإن أي نظام آخر يحاول أن ينظم هذه الحياة الاجتماعية والسياسية من صنع البشر هو نظام جزئي - يتصل بعصر معين أو أمة معينة ولكنه لا يستطيع أن يكون نظاماً عالمياً خالداً ، فإن حدود قدرة الفلاسفة وصناع الأيديولوجيات البشرية ستبقى محدودة ، عاجزة عن العطاء الشامل الجامع ، ولذلك فإن هذه المذاهب والمناهج سرعان ما يعتورها النقص وتحتاج إلى الإضافة والحذف .(5/53)
... ولقد جرت المحاولة بطرح بعض الأيديولوجيات في محيط الإسلام تحت أسماء ديمقراطية الإسلام واشتراكية الإسلام ثم اتضح أن هذه المحاولة باطلة وفاسدة وتبين استحالة التركيب والخلط بين الإسلام والعناصر الأخرى .
... كذلك تبين قدرة الإسلام على الموازنة بين جناحيه الرئيسيين وعنصرية المتكاملين : العنصر العقلي والعنصر الروحي وقد جمع الله تبارك وتعالى بين العنصرين في كيان واحد ( لهم قلوب لا يعقلون بها ) فربط بين العقل والقلب ، وقد جاء العقل مصدراً للتكليف ، ولكنه مصباح يأخذ زيته وضوءه من الوحي .
... وقد ارتفع مفهوم الإسلام الأصيل عن مفاهيم الاعتزال والتصوف الفلسفي وقد كانت التجربة التي مر بها الفكر الإسلامي بإعلاء العقل بالاعتزال أو إعلاء الوجدان بالتصوف في مرحلتين مختلفتين عاملا من عوامل الاضطراب الذي أخر حركة الفكر الإسلامي وجمدها .
... ولقد وصف الإمام الغزالي علم الكلام بأنه دواء يأخذه المريض أما القرآن فهو كالماء يحتاج إليه السليم والمريض جميعاً ، فنحن مطالبون أن نحافظ على فهم الإسلام بمصطلحات القرآن والسنة ، ونحاذر من إدخال مصطلحات أخرى من شأنها أن تعقد التغير الإسلامي الرباني والنبوي الذي يصلح لكل العصور والثقافات والبيئات ، ولقد كانت هذه المصطلحات الفلسفية مدخلاً لتحريف مضمون الإسلام وأنتجت ذلك القدر الضخم من ركام الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية والتي حاولت أن تصيب مفهوم الإسلام الرباني في مقتل لولا أن تداركها علماء المسلمين الذين فرقوا بين ( أرجاتون ) اليونان أو الفكر البشري عامة وبين ( منهج الإسلام ) الذي جاء لهدم القاعدتين التي قام عليها الفكر الوثني :
الأول : تحرير الإنسان من عبودية السادة الجالسين على القمة والذين يقررون عن طريق فلاسفتهم الكبار ( أرسطو وأفلاطون ) بأن الرق شريعة الحضارات .(5/54)
الثاني : تحرير العقل البشري من عبودية الوثن والصنم وكل ما عبدت البشرية غير الله تبارك وتعالى والعودة إلى التوحيد الخالص .
? وفي مجال التجديد والتطوير والتحديث يكون موقفنا دائماً هو حماية قاعدة ( الثوابت والمتغيرات ) حيث لا يقبل الإسلام مفهوماً يقوم على التأويل بشأن الحدود والثوابت والقيم الأساسية والمحرمات التي قررها الإسلام وخاصة فيما يتعلق بالربا والزنا والخمر من أجل إرضاء أهل الحضارة الغربة ، وأن الاجتهاد المسموح به يجري في دائرة المتغيرات والمسائل الفرعية التي لم يرد فيها نص وعلينا أن نقف بحزم أمام ثوابت الإسلام دون القبول بالتفريط فيها تحت أي اسم من أسماء التأويل أو التقارب أو غيرها من الأسماء .
? كذلك فنح مطالبون بالالتقاء والامتزاج بين العناصر الثلاث : العقيدة ، المعاملات ، الأخلاق وتزكية النفس ، بحيث تتكامل في جوهر واحد ، هو مفهوم الإسلام الكامل الذي يجمع بين دعاة التوحيد ودعاة تزكية النفس ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية ، على نحو ما كان يطلق عليه تصوف السلفيين ، وتسلف الصوفيين بحيث تلتقي القوى العاملة في الحقل الإسلامي جميعاً على هدف واضح .
ولا يقر التيار الإسلامي الأصيل تجزئة مفهوم الإسلام فيقبل منه العقيدة وترفض الشريعة ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) كما لا يقر الفصل بين النظرية والتطبيق ، أو القول والعمل ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .
... وقد كانت نظرية الفصل بين الفكرة والتطبيق من أكبر خطايا الحضارة المعاصرة ، كذلك فإن التيار الإسلامي الأصيل يرفض تجزئة القيم ويقرر تكاملها فالأدب قطاع من الفكر الإسلامي يخضع لقيم الإسلام الأخلاقية ولا ينحرف عنها ، وكذلك المسرح والقصة والأغنية والفنون جميعاً يجب أن تكون خاضعة للمفهوم الجامع للإسلام .(5/55)
? وفي مواجهة ما يسمى بمفهوم كتاب اليسار والاشتراكيين من حيث إعلاء قضية الغنى والفقر ، والصراع الطبقي ، واعتبار الخلاف بين الصحابة والأمراء في التاريخ الإسلامي مرجعه إلى عوامل اقتصادية ومحاولة تطبيق نظرية التفسير المادي للتاريخ والمفهوم الماركسي للمجتمعات ، وكل هذا ليس صحيحاً على إطلاقه وهي محاولة مضللة ترمي إلى تفريغ التاريخ الإسلامي من أصالته ومن وهجه الرباني وضوئه الحقيقي الذي تحقق به قيام الأمة الإسلامية من حدود الصين إلى حدود نهر اللوار خلال ثمانين عاماً ، بينما قامت الإمبراطورية الرومانية خلال ألف عام ، وما كانت انتصارات المسلمين في معاركهم مع أعدائهم ترجع إلى عدة ولا عدد وإنما ترجع إلى قوة الإيمان واليقين والفداء والاستشهاد وبيع الأنفس والأموال لله وهي معاني لا يعرفها التفسير المادي للتاريخ ويحاول بعض الكتاب إغفالها وحجبها ، والإسلام أساساً ليس قضية الغنى والفقر ، ولا يعرف مجتمعه الصراع الطبقي ، وإنما الإسلام منهج جامع وليس قضية اشتراكية أو ديمقراطية حسبما جرت كتابات بعض الكتاب .
... وبعد : فنحن مطالبون بالمحافظة على الذاتية الإسلامية التي بناها الدين الحق منذ أربعة عشر قرنا ، وبالدفاع عنها وحمايتها من التعرض للتيارات الوافدة وهذه قاعدة أصيلة في الاجتماع الإنساني كله أن تحافظ كل أمة على كيانها الذي شكل وجودها وتحميه من أن يدمره أي تيار وافد في نفس الوقت الذي تصل القاعدة بقبول تجارب الأمم والانتفاع بما يصلح منها لأمتنا .
... ومن أكبر ما يمثل التيار الإسلامي الأصيل : تصحيح المفاهيم والعمل على إعادة المجتمع الإسلامي إلى قاعدته في التماس المنابع الحقيقية بالتربية والتوجيه ، من خلال خطوات متأنية ، وفق منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، ودون إقحام لعوامل العنف أو التعصب أو استعجال سنن الله في الكون أو قوانينه في المجتمعات .(5/56)
وفي ذلك تكون الدعوة'إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أقرب الطرق بين نقطتين ، وأصح الخطوات وأثبتها ، وليكن منطلق الإصلاح من الواقع نفسه ، بعيداً عن مواطن الخلاف وأن نلتقي فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه وقد دعينا إلى أن لا نصادم نواميس الكون لأنها غلابة ولكن نغالبها ونستخدمها ونحول تيارها ونستعين ببعضها على بعض ونترقب من الله تبارك وتعالى النصر والتأييد .
المسلمون والعودة إلى المنابع(5/57)
... على المسلمين أن لا يغفلوا عن قضيتهم الكبرى وهي الأصالة والعودة إلى المنابع وإيجاد البدائل التي تخرجهم من التبعية وتفتح لهم آفاق المحافظة على الذاتية الخاصة وامتلاك الإرادة ويمكن القول أن المسلمين قد دخلوا فعلاً هذه المرحلة : مرحلة القدرة على استعادة الخصوصية الإسلامية المتميزة بحيث يمكن القول بأن للإسلام ومفاهيمه وقيمه ومناهجه رأى عام ووجهة نظر في مختلف القضايا المثارة على الساحة في البلاد الإسلامية كلها ، وأن المسلمين فعلاً قد حطموا ذلك الحاجز الذي كان يحصرهم في دائرة الاحتواء الغربية تحت أسماء مختلفة منها أن مناهج الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها لا دخل لها بالدين الذي هو عمل قائم بين الإنسان وربه ، هذا المفهوم قد انتهي تماماً اليوم في العالم الإسلامي كله ، وكان من أكبر القضايا التي أحيطت بالغش والتدليس في ظل التصور الذي فرضه النفوذ الأجنبي وردده وحاول إقناعنا به أناس من جلدتنا يتكلمون بلغتنا كما أشار إلى ذلك الحديث الشريف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان المنطلق الحقيقي لسيطرة التغريب والغزو الثقافي هي تزيف مفاهيم الإسلام الأساسية التي هي الركيزة الحقيقية له والتي تختلف بها عن الأديان الموجودة في العالم اليوم ، وبذلك تختلف عن مفهوم كلمة دين ( Religion ) الغربية التي تتمثل في اللاهوت أو العبادة فقد جاء الإسلام بوصفه الدين الخاتم لكل الأديان والعالمي لكل البشرية بمفهوم جامع بين العبادة وتنظيم المجتمع بحيث قدم للإنسانية المنهج القادر على حل مختلف مشاكل الناس وقضاياهم ووضع لهم الركائز الحقيقية ( للأمن النفسي والطمأنينة والسكينة ) التي يفتقدها العالم الغربي اليوم ولا يجدها بعض كبار المفكرين والفلاسفة إلا في الإسلام .(5/58)
... فقد جاءت النظرية المادية القاصرة على الظواهر والمحسوسات عاجزة عن العطاء الحقيقي للإنسان ، مجحفة بجناحه الروحي والنفسي الذي تحجبه المفاهيم المادية عن الاستجابة الحقيقية لوجوده بوصفه قد أنشئ أساساً من قبضة الطين ونفحة الروح .
... ولا شك أن التماس الغرب ( صاحب الحضارة والتكنولوجيا والذرة ) للأمن النفسي في ظل الإسلام من شأنه أن يعطي الدعاة إلى الله سلاحاً جديداً يشحذ هممهم للعمل ، فهو يزيدهم ثقة فيما في أيديهم من منهج مضيء مشرق تتطلع إليه البشرية كلها ولا تحجبه إلا بعض القوى الضالة التي تظن أنها قادرة على أن تسيطر على البشرية وأن تقودها إلى مزالق الإلحاد والإباحة وأن تهدم مقومات النظام الرباني الأصيل الذي جاء لإخراج الناس جميعاً من الظلمات إلى النور والذي قطع الآن أربعة عشر قرناً في السعي نحو الغاية الكبرى : " ليظهره على الدين كله " .
... ولا ريب أن العمل اليوم ما زال يحتاج إلى غرس الركائز القادرة على تقديم النموذج الإسلامي للبشرية من جديد متمثلاً في الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم ودعاها الله تبارك وتعالى لأن تكون خير أمة أخرجت للناس .
... ولقد قطع المسلمون خلال القرن الرابع عشر الهجري خطوات في مجال المقاومة والرد على الشبهات ودحض الأكاذيب ومقاومة خصوم الإسلام بالفكر والكشف عن معطيات الشريعة الإسلامية وحقائقها في جو ملبد بالمقاومة التي يمتلكها النفوذ الأجنبي ويحاصر بها الوجود الإسلامي محاصرة شديدة .(5/59)
... ولقد ذهب أكثر الليل وبدأت تباشير الفجر ، وأوشكت البشرية أن تذعن لأمر ربها وتعرف أنه هو الحق ، ولذلك فنحن في حاجة دائماً أن نتذاكر القضايا التي يجب أن نوالي تأييدها ودفعها إلى الأمام وإقناع الناس بها ونحن على يقين كامل بأننا نملك كلمة الحق ، وندعو إلى دين الله ، المؤيد بنصره والذي إن تخلينا عنه يأساً أو استهانة أو ضعفاً فإن الله تبارك وتعالى سوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله حتى يصل الإسلام إلى غايته ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) وفي هذه المجالات لا يزال هناك عمل كثير وجهد يبذل :
أولاً : الوحدة الإسلامية :
فقد كان العمل على هدم وحدة الأمة الإسلامية هو الهدف الأكبر للنفوذ الغربي والاستعماري وما زال استبقاء الأمة الإسلامية ممزقة إلى إقليميات وقوميات هو أمل الغرب والماركسية والصهيونية جميعاً لأن هذا هو المنطلق لتفتيت القوى وإزكاء نار الخصومة والأحقاد بينها .
... ... ولقد تعالت الصيحات بالدعوة إلى الإقليميات والقوميات وحشدت لذلك كل القوى ، ومع ذلك فقد ثبت فشل الهدف وعجزه عن العطاء وإيماناً بالترابط القوي بين الوطنية والعروبة والإسلام في ضوء الوحدة الجامعة ، وما زال هذا الهدف في حاجة إلى جهود واسعة حتى ينكسر الاتجاه الإقليمي والطائفي وحتى يتحقق الإيمان بين المسلمين جميعاً بالرابطة الجامعة بين العناصر الثلاثة في ظل منهج الإسلام نفسه ، وما تزال هذه الوحدة أمل المسلمين تحت أي أسم من أسمائها .
ثانياً : الشريعة الإسلامية :(5/60)
كان هدف النفوذ الغربي إسقاط المنهج الإسلامي منذ اليوم الأول وقد حرص على حجب الشريعة الإسلامية وإعلاء القانون الوضعي ، غير أن التجربة أثبتت عجز هذا القانون وانكشفت ثغراته واضطرابه مما كان له أسوأ الآثار في تدمير قوى المجتمع الكبرى وخاصة الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأبناء.
... ... غير أن المسلمين قد تنبهوا إلى ذلك وقطعوا خطوات واسعة في تقديم الشريعة الإسلامية من جديد والاقتناع بالفقه الإسلامي وما حواه من عطاء وافر وتحقق إعداد قوانين إسلامية في عدد من البلدان الإسلامية في مجال المدني والعقوبات والتجارة والحدود وما زالت تنتظر الفرصة المواتية لتطبيقها وإزالة العقبات التي تحول بينها وبين أن تحل محل القوانين الوضعية التي فرضت على المسلمين في ظل حكم الاستعمار ، وما زال هناك الأمل الكبير في وضع خطة للتدرج في التطبيق وإعداد المجتمعات الإسلامية لتقبل ذلك بإزالة بعض الأوضاع المتعارضة وقد قدم علماء المسلمين الكثير في هذا المجال ولا زالوا مهيئين لتقديم الكثير .
ثالثاً : أسلمة التعليم :
وكان أكبر ما وجه النفوذ الأجنبي إليه العمل هو هدم المناهج التعليمية القرآنية وإحلال مناهج وافدة مفرغة من التربية الإسلامية ومن بناء الشخصية الإسلامية في الفرد المسلم ، وقد قدم علماء المسلمين في هذا المجال جهداً ضخماً من خلال عديد من المؤتمرات التي عقدت في مكة والجزائر والرياض والقاهرة تتمثل في خطة واسعة طموحة لتصحيح المفاهيم وأسلمة المناهج والعلوم والمصطلحات ، وقدم كتاب الإسلام أعمالاً واسعة تدعو إلى أمرين :
( الأمر الأول ) التعريف بالدور الأساسي والأصيل الذي قدمه المسلمون في بناء المنهج العلمي التجريبي ومنهج المعرفة وقوانين قيام الأمم والحضارات على النحو الذي تمثل القاعدة الأولى للمناهج العلمية الغربية القائمة اليوم .(5/61)
(الأمر الثاني ) تقديم وجهة نظر الإسلام من خلال المناهج الدراسية والجامعية في مجالات الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق والتربية ، والكشف عن أخطاء مناهج دارون وماركس ودوركايم وسارتر وغيرها من المناهج الضالة التي فرضت على المسلمين ، وما تزال في حاجة إلى بذل الجهد في ( أسلمة العلوم والمناهج ) وقبول ذلك من خلال تدريس منهج ( الثقافة الإسلامية ) في مختلف جامعات العالم الإسلامي .
رابعاً : الإعجاز القرآني :
كان لظهور هذا المنهج في السنوات الأخيرة أثره البعيد في تصحيح كثير من الأخطاء التي ظلت سائدة باعتبار بعض الكتب المقدسة مصدراً تاريخياً بينما كشف العلم الحديث عن اضطراب هذه الكتب وعجزها عن العطاء بينما أثبتت هذه الأبحاث جدارة ( القرآن الكريم ) وحكمته الحاسمة في تقديم أصول ثابتة في مجال العلوم وخاصة في عملية خلق الإنسان وأطوار الجنين وعشرات غيرها من الحقائق التي كشفها العلماء الغربيين وأدخل ذلك كثير منهم في الإسلام ، وما زلنا في حاجة جهود كثيرة في هذا المجال .
خامساً : عودة المرأة المسلمة إلى الأصالة :
كان النفوذ الغربي إيماناً منه بأن السيطرة على المرأة المسلمة سيكون هو عامل هدم المجتمع الإسلامي وسوقه إلى التغريب الكامل وذلك بإذاعة مؤامرة ( تحرير المرأة ) التي أريد بها إخراج المرأة المسلمة من مهمتها الحقيقية ومسئوليتها الأصيلة في بناء الأجيال الجديدة ، ولذلك فقد كان التماس المنابع في عودة المرأة المسلمة إلى فهم المؤامرة التي أريد بها تحطيم وجودها ، وإيماناً بمنهج الإسلام من حيث الحجاب ونوعية عمل المرأة وحماية الوجود الاجتماعي والأسري من أكبر الانتصارات التي حققتها الدعوة الإسلامية في العقود الأخيرة مما هز دوائر النفوذ الغربي وبحثه عن سر عودة المرأة المسلمة إلى الحجاب ، ولابد من العمل على ترسيخ هذه القاعدة ودعمها بما يفسد أهواء العاملات في مجال التغريب من أجل هدم الأسرة المسلمة .(5/62)
سادساً : الاقتصاد الإسلامي :
وكان النفوذ الاستعماري منذ سيطر على بلاد المسلمين قد فرض نظامه الربوي واستحوذ على كل العوامل الاقتصادية وسير مجتمع المسلمين في ظل نظام مضطرب خطير عن طريق مصارفه الربوية ومناهجه في الاقتصاد الذي يرفضه المسلمون وإن فرض عليهم قسراً ، وقد تنامى شعور المسلمين بالتحرر من نظام الربا على نحو أصبح قادراً على أن يطالب بقنوات جديدة للمضاربة والمشاركة وصولاً إلى الربح الحلال وقد استجابت المصارف الإسلامية لهذا المطلب وبقى أن تقوم فيه شهادات استثمار على مفهوم الإسلام في التعامل حتى تظفر بثقة الممولين المسلمين .
ولابد أن يدعو هذا إلى تحرير الاقتصاد الإسلامي ويدعو المصارف إلى التماس أساليب أكثر إيجابية لتحقيق غايات المسلمين في الوصول إلى الكسب الحلال .
* ... * ... *
... وقد يندهش بعض دعاة التغريب من هذه الدعوة إلى التماس المنابع ، بعد أن خيل إليهم زمناً أن مفاهيم التغريب قد فرضت نظمها ولكنهم ما عرفوا قدرة الإسلام على استعادة أهله إلى الحق وردهم عن الباطل والانحراف ، فقد كان الإسلام قادر على مدى العصور في إعادة أهله إلى المنابع إذا التمسوا العون من الله في الخروج من الأزمة والحصار .
العودة إلى المنابع ضرورة حتمية بعد فشل التجارب الوافدة الثلاث : الغربية والماركسية والقومية(5/63)
... عندما قدم النفوذ الاستعماري الغربي إلى العالم الإسلامي والوطن العربي كان حريصاً على أن يطفئ كل مصباح مضيء ، فقد عمل على حصار الأمة الإسلامية بالالتفاف حول آسيا ومن هنا كانت سيطرته المبكرة على الهند وأرخبيل الملايو لوضع العالم الإسلامي بين حجري الرحى والعمل على إسقاط الدولة العثمانية التي كانت تمثل وحدة جامعة بين العرب والترك وقد امتد نفوذها على شاطئ البحر المتوسط من خلال مصر وأفريقيا إلى تونس والجزائر والمغرب وتساقطت الأقطار العربية في يد العدو واحدة بعد أخرى مقسماً بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بعد أن استولت هولندا على بلاد الملايو وسيطرت بريطانيا على قارة الهند وانتزعت قيادتها من الدولة المغولية الإسلامية .
... في هذه المرحلة التي حاول الاستعمار السيطرة على الأمة الإسلامية وانتزاع مقدراتها وثرواتها قاوم المسلمون وحشدوا القوى للوقوف في وجه هذا النفوذ الزاحف فظهرت قيادات إسلامية مقاتلة لم تتوقف عن تقديم الأرواح والاستشهاد في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض وظهرت قيادات : أحمد بن عرفان في الهند ، وشامل فيما وراء النهر ، وأحمد عرابي في مصر ، والسنوسي في أفريقيا ، والمهدي في السودان وعشرات في كل مكان من أرض الإسلام .(5/64)
... ولقد قاتلت هذه القيادات دفاعاً عن أوطانها وعقيدتها ولم تنهزم إلا بفعل الخيانة بعد أن كبدت النفوذ الاستعماري خسائر لا حد لها ، لم يحس المستعمر يوماً بالأمان إلا حين أخذ يصطنع له أولياء وأتباعاً من أبناء الأوطان يشكلهم على مفاهيمه ويجعلهم قادة له يحملون لواء القيادة في أوطانهم ، وكذلك فعل كرومر حين أقام أكثر من ربع قرن مسيطراً على مصر ويعلن أن مهمته هي تكوين جيل من المتفرنجين الذين يؤمنون بالولاء مع المستعمر وقبول وجوده ، وما فعله كرومر في مصر فعله لافيجري في المغرب ، وغيرهم في الهند وإندونيسيا : حيث تقدمت مجموعة من المبشرين والمستشرقين أتباع الكنيسة وعملاء الاستعمار لتفرض نفوذها الذي تمثل فيما يطلق عليه اليوم اسم التجربة الغربية حيث ظهرت قيادات وطنية في بلاد المسلمين تطالب بالحرية والاستقلال لأوطانها في نفس الوقت الذي تؤمن فيه بالنموذج الغربي وترى أنه وحده الوسيلة لتحرر الأوطان وقيام النهضات .
أولاً : التجربة الغربية :(5/65)
... لقد فرض النفوذ الغربي على الأقطار الإسلامية التي سيطر عليها واستعمرها نظاماً سياسياً مختلف عما كانت عليه ، فرض عليها هذا النفوذ فلم يكن باختيارها ، لقد حجبت النظم الإسلامية في الاقتصاد والمحكمة والتعليم والمجتمع ، وفرضت قوانين مستمدة من النظم الغربية تفتح الأبواب لتحولات خطيرة في مجال العلاقات بين الرجل والمرأة والزوج والزوجة والآباء والأبناء ، فتحت الباب واسعاً أمام الحرية الأخلاقية في التعامل ، حيث أزالت الضوابط والحدود والكوابح التي رسمتها الشريعة الإسلامية لهذه المعاملات فقد حجبت قوانين الإسلام في التعامل القضائي وفي التعامل الاقتصادي حيث انطلق التعامل الربوي ووجد في كل قرية ( مرابٍ ) يبيع الخمر ويقرض بالفائدة ويتحاكم إلى المحكمة المختلطة ويستطيع عندما يتأخر السداد أن يستولي على الرهن حتى أنه في خلال عشر سنوات من قيام الاحتلال البريطاني أن استطاع المرابي الأجنبي أن يسيطر على ثلث الأرض الزراعية .
... ولقد كانت هذه التجربة ممثلة في جوانبها السياسة والاجتماعية والاقتصادية ذات أثار خطيرة حيث تهدمت بيوت كثيرة تحت تأثير الانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي وولاء التابعين للمستعمر الطامع في ثروات البلاد ، فقد جاءت التجربة الغربية في بلاد الإسلام معارضة لطبيعة تكوين هذه الأمة التي شكلها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من وجوه كثيرة : وإن كانت في بعض مظاهرها تخدع الذين لا يعرفون جوهر الإسلام بالمقارنة مع الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية وبينهما فوارق بعيدة وخلافات عميقة .(5/66)
... ولقد جاءت النظم الغربية إلى بلاد الإسلام على سبيل القسر والتحكم ولم يكن عن رغبة أو طواعية فقد فرض النفوذ الأجنبي بالاحتلال السياسي والعسكري هذا النظام بعد أن عطل منهج الشريعة الإسلامية الذي عاشت الأمة الإسلامية في إطاره عمرها كله ، ولم يكن النظام الوافد البديل لمنهج الإسلام ( الذي ظل مطبقاً حتى جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بشهادة الجبرتي ومؤرخو الحملة أنفسهم ) ، ولم يكن إلا عاملاً من عوامل تهديم المجتمع الإسلامي وضربه في الصميم فقد فرض عليه القانون الوضعي ونظام الربا وأباح فيه أسلوباً من التعامل قريباً من الإباحية وحمى التفسخ مما أتاح لكل عوامل الفساد أن تنمو في أحضان القانون الوضعي وحمايته ، هذا فضلاً عن النظام السياسي الذي لم يكن إلا مظهراً كاذباً يحمل طابع الديمقراطية وحكم الشعب بينما يضمر في أعماقه تسلط الفرد .
... وهكذا وفي خلال أكثر من سبعين عاماً لم يستطع النظام الغربي أن يحقق للمجتمع الإسلامي ما كان يطمح 'إليه من تقدم أو سلامة وقد شهد بذلك كثير من كتاب الغرب أنفسهم ، وقد جاء ذلك لأول مرة بعد أربعة عشر قرناً من التجربة الإسلامية القائمة على تطبيق حكم الله تبارك وتعالى وإقامة المجتمع الرباني ، وقد بدا واضحاً أن المسلمين إنما يريدون مجتمعاً أصيلاً يستمد وجوده من مفاهيم الإسلام وقيمه ولا يرضون عن هذا المجتمع الذي يحجب كل قيم الإسلام الحقيقية .
ثانياً : التجربة القومية :
... غير أن المجتمع الإسلامي في الوطن العربي لم يلبث أن دخل في تجربة أخرى : هي التجربة القومية التي رافقت جلاء القوات الأجنبية وقيام أنظمة سياسية جديدة لمواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين حيث تعالت الصيحات بالدعوة إلى القومية العربية ، ولقد كانت الأمة الإسلامية تنادي إلى الوحدة العربية بعد سقوط الخلافة الجامعة كمرحلة أساسية للعودة إلى الوحدة الإسلامية .(5/67)
... غير أن الفكرة التي طرحت كانت وافدة تماماً ، وكانت مفرغة من الأصالة الإسلامية ، بل لقد كشفت بعض الأبحاث أن نظرية القومية التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي بواسطة بعض الذين تعلموا في الغرب أو الذين درسوا تجربة البلقان في محاولة التحرر من النفوذ العثماني ، فقد غلب عليها الطابع العلماني ، المفرغ من مفاهيم الإسلام فضلاً عن ارتباطها بالمفاهيم الاشتراكية والماركسية بحيث ظن الكثيرون أنها كانت بمثابة مؤامرة استهدفت تمزيق الوحدة الإسلامية ( السياسية والاجتماعية والفكرية ) وأنها هي أخطر المحاولات لتفريق عقد الأمة الإسلامية التي كانت متراصة تحت كلمة التوحيد .
... وقد أتيحت الفرصة واسعة للتجربة القومية وأيدتها أحزاب وقوى وزعامات تملك القدرة على التطبيق ، غير أن التجربة لم تحقق نجاحاً حقيقياً لأنها كانت غير مطابقة للروح الإسلامي الغالب على العقل والوجدان وقد بدت غريبة عنه .
ولقد حملت النظرية الغربية الوافدة في القومية ثلاثة محاذير خطيرة :
أولاً : طابع الاستعلاء الجنسي المغلق في مواجهة الأمة الإسلامية .
ثانياً : طابع الانعزال الكامل في التاريخ والتراث والمعوقات الإسلامية .(5/68)
ثالثاً : خلق وجود معاصر منفصل تماماً عن الإسلام وعن العالم الإسلامي متصل بالغرب مندغم في تفسيراته وقيمه وطوابعه ، وقد غاب عن الذين طرحوا النظرية الغربية في القومية أن هناك عاملاً ضخماً لا سبيل إلى تجاهله أو إغفاله في أية نظرة علمية ذلك هو الطابع الفكري العميق الذي صاغه الإسلام للتشكل العربي في أول مراحل وجود العرب كأمة بعد أن كانوا مجموعة من القبائل المتصارعة ، وأن هذا الطابع قد أقام حداً فاصلاً عميقاً ( فكرياً وسياسياً واجتماعياً ) بين ماضي العرب والمصريين والشاميين والمغاربة والهنود وكل من عاش في هذا العالم الممتد ، الذي سيطر عليه الإسلام وشكله الفكر الإسلامي وخاصة تلك المنطقة التي تعربت وأصبحت تسمى مجال العروبة وأنه لا سبيل إلى إعادة هذه الأمم إلى ماضيها القديم بعد أن نقلها الإسلام تلك النقلة الواسعة إلى ذلك الطابع المتكامل من التوحيد والعدل والحق والمقومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية الواضحة في ذلك النظام المحكم الذي نزل به القرآن الكريم ورفع لواءه الإسلام .
... ... ولقد حاولت الدعوة القومية ما حاولته من قبل الدعوة الغربية بتفسير التاريخ على هواها ، هناك مقولة ديمقراطية الإسلام وهنا مقولة القومية العربية بدعوى أنها أقدم من الإسلام ، وانتهى ذلك الهشيم المحترق المتطاير إلى لا شئ ، وذلك لأن الذين قاموا على تلك الدعوات لم يكتشفوا جوهر الإسلام وقدرته على عدم تقبل العنصر الغريب فضلاً عن قدرته في العودة إلى المنابع.
ثالثاً : التجربة الماركسية :(5/69)
... وسرعان ما أسلمت التجربة القومية بعض الأقطار العربية إلى التجربة الماركسية التي حاولت أن تلتمس من مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعي ومحاربة الفقر والزكاة وإعطاء الفقير حقه ، حاولت أن تلتمس من هذه المفاهيم مقوماً لما أطلق عليه ( الاشتراكية الإسلامية ) ولكن النفوذ الغربي كان يطمع في الاشتراكية العلمية المنفصلة عن الدين والقائمة على إنكار وجود الله وقيام مجتمع الإلحاد وهدم كل ( مقومات الأخلاق ) واعتبارها مسائل نسبية مرتبطة بالعصور أو بالمجتمعات .
... وسرعان ما انهارت هذه التجربة في البلاد التي حاولت تطبيقها : مصر وإندونيسيا وبعض أقطار أفريقيا ، نعم انهارت في بلاد الإسلام قبل أن تعلن إفلاسها في مصادرها الأولى ومواقعها الأساسية .
* ... * ... *
... وهكذا كشفت التجربة للمسلمين سقوط وانهيار التجارب الثلاث : وقد جاء ذلك بعد نكسة 1967م التي حطمت كل مقولات قادة الفكر العلماني في الوطن العربي والتي ردت المسلمين إلى حقيقة أساسية هي أنه لن يستطيع المسلمون بناء مستقبلهم إلا من خلال منهجهم الأصيل الذي تشكلوا عليه منذ أربعة عشر قروناً وكانت دفاتر القانون والقضاء في الغرب بالرغم من الخلاف بين العرب والنفوذ الأجنبي قد اعترفت في ثلاثة مؤتمرات عالمية كبرى خلال مسافة تزيد عن ربع قرن 1936م - 1965م بأن الشريعة الإسلامية منهج قانوني أصيل رفيع القدر يستطيع أن يحقق للبشرية أملها في الأمن والسلامة وتحقيق أشواق النفس وبأن أهل هذا المنهج ليسوا في حاجة إلى مناهج وافدة كتلك التي فرضها عليهم النفوذ الغربي خلال مائة عام ويزيد والآن ليس هناك غير الخيار الإسلامي المطروح لحل مشاكل المجتمعات الإسلامية حيث " المستقبل للإسلام بعد فشل المناهج الوافدة " ، وليس هذا بالنسبة للعرب والمسلمين وحدهم ولكنه للبشرية جميعاً .(5/70)
... ومن هنا فان المجتمع الإسلامي اليوم بعد أن خاض معاركه الثلاث :مع الليبرالية ، والقومية والماركسية فقد جاءت صيحة العودة إلى المنابع والتماس منهج الإسلام من جديد كمنقذ للمسلمين أساساً في نفس الوقت الذي تسعى فيه قوى مثقفه غربية إلى دراسة الإسلام باعتباره منقذاً للبشرية كلها .
... ولقد كانت التجربة للإسلام مع الغرب قديمة منذ أن أدخل المنهج العلمي التجريبي في القرن الخامس عشر إلى أوربا فأنهى أكثر من ألف سنه من الرهبانية والجمود الفكري.
... لقد تعالت الصيحات التي تعلن سقوط الشيوعية وفساد منهجها كما تعالت الأصوات بأن الليبرالية هي المنطلق والبديل والواقع أن الليبرالية والشيوعية ( وهما جناحا منهج واحد هو العلمانية وإنكار الألوهية والغيب والجزاء الأخروي ) وخلافهما يتمثل في الفعل ورد الفعل ، ومن هنا فالقول بأن الليبرالية سوف ترث الشيوعية وتحل محلها قول مبالغ فيه ، ولقد أعتنق الشيوعية في بلادنا العربية والإسلامية من أحسوا بأنهم لم يحققوا شيئاً في ظل الليبرالية وخدعهم منهجها وظنوا أنهم سوف يجدون حلولاً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في ظل منهج يدعو إلى العدل الاجتماعي باسم الاشتراكية ولكنهم عندما طبقوها عجزت عن العطاء وكشفت عن أنها لا تزيد شيئاً عن الليبرالية التي عجزت قبل ذلك ولا ريب أن هذا كله يوصل إلى غاية واحدة هي :(5/71)
... " أن الغرب حاول أن يفرض على مجتمع عربي إسلامي تشكل في ظل مفهوم رباني جامع خلال أكثر من أربعة عشر قرناً حاول أن يفرض عليه منهج وافد مقطوع الصلة تماماً من حيث الثقافة أو العقيدة أو السلوك ، ولما كان هذا المنهج قد فرض قسراً وفي ظل سلطان سياسي وعسكري قائم على البلاد العربية والإسلامية فإن النتائج التي حدثت كانت قاسية وعنيفة خاصة حين حجبت الشريعة الإسلامية والنظام الاقتصادي الإسلام وأسلوب التربية الإسلامية وفرضت العلمانية والربوية وحطمت قوائم الحدود الإسلامية والضوابط الأخلاقية التي كانت تحمي المجتمع وتكسبه حصانة وتحول بينه وبين الانهيار والتدمير . وقد آن الآوان الآن للعودة إلى المنابع ، فقد انتهت مرحلة التبعية الوافدة التي فرضت هذا الوضع المؤقت خاصة بعد أن ثبت عجزها عن العطاء ، فضلاً عن الآثار الخطيرة التي أخرت امتلاك الأمة الإسلامية لمقدراتها وبناء منهجها الاجتماعي الأصيل وخاصة بعد أن تأكد بأن المنهج الإسلامي له صلاحيته لا لتحقيق قيام المجتمع الإسلامي وحده بل المجتمع العالمي كله .
العودة إلى المنابع في مواجهة حملة إحياء الفكر الباطني والوثني(5/72)
... إن هناك إصرار شديد على عملية خلط الأوراق من أجل تزييف المفاهيم الإسلامية وإفسادها في قضية من أخطر القضايا وأشدها أهمية : تلك هي قضية الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية التي ترجمت في فترة ما ورفضها المسلمون منذ اليوم الأول ووقفا في معارضتها بالمرصاد كاشفين الحقيقة المضيئة التي لا تقبل المعارضة وهي أنه لم يكن لهذا الفكر الوافد أي فضل في تشكيل معالم الفكر الإسلامي القرآني المصدر الذي تشكل في صورته النهائية التي لم يتغير قبل أن يختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرفيق الأعلى والذي كان خاتمته الآية الكريمة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) وليس صحيحاً ما يدعيه المستشرقون وأتباعهم من التغريبين من أن المسلمين أخذوا من الفكر الوافد ( سواء مترجمات العصر العباسي وغيرها ) قواعد لبناء فكرهم القائم على التوحيد الخالص والذي يختلف في الأساس مع الفكر البشري كله الذي قامت عليه الفلسفات التي قادت حضارات الفرس والهند واليونان والرومان والفراعنة جميعاً ، فقد شاء الله تبارك وتعالى أن يحكم منهج هذا الدين أحكاماً يجعله بمثابة دين الإنسانية العالمي الخالد الباقي إلى يوم القيامة والمرسل للناس جميعاً ، صحيح أن الإسلام قد فتح الباب واسعاً أمام تجارب الأمم وأمام وسائطها وتنظيماتها ولكنه رفض تماماً تقبل نظم الأمم القديمة أو مناهجها ، ثم جعل ما يقتبس في مجال الاستفادة أمراً يصهر في ثقافة الأمة ، انصهاراً تاماً شريطة أن يكون أساساً مما يتفق مع منهج التوحيد ولا يتعارض معه ، ولأول مرة كشف الإسلام عن رفضه للجسم الغريب وتأكيده على أن البذر لا ينبت في أرضه إلا تحول أساساً إلى مادة خاماً لا تشكل تغيراً في الصورة الأصيلة .(5/73)
... أقول هذا في مواجهة إعادة طرح هذه المحاولة الخبيثة التي ترمي إلى القول بأن الإسلام ( والفكر الإسلامي الأصيل ) قد تشكل في ظل مترجمات الفلسفة اليونانية والفارسية القديمة ( أو في مجال ما يدعى أنه وفد إلى دار الإسلام في ظل الحملة الفرنسية وغيرها ) سواء في مجال الاعتزال أو الكلام أو التصوف الفلسفي على أنه جزء من الفكر الإسلامي والاهتمام بترجمة أعلامه ، وأخطر من ذلك إغفال مواد هذه الفرق الضالة والباطنية والغالية على دوائر المعارف الإسلامية سواء بسواء من المذاهب الإسلامية الأصيلة ، واعتبار أمثال الحاج وابن عربي وابن سبعين والسهروردي وابن الرواندى وغيرهم من أعلام الفكر الإسلامي سواء بسواء مع الشافعي وابن حنيفة والغزالي وابن تيميه ( وتلك أخطر المؤامرات التي تفتفت عنها مؤامرة الاستشراق في تقديم هذا الفكر الوثني الباطني المحرف المرفوض من علماء الإسلام وأئمته في دوائر المعارف على أنه منها وهو ليس منها .(5/74)
... ثم كانت الموجه الثانية : وهي أنه بعد أن استقر في الأذهان هذه المغالطة الشديدة أن يحي كتاب من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ( حسبما يشير الحديث الشريف ) ليقولوا مدعين أن الفكر الإسلامي يتمثل في ثلاثة عناصر : أولهم : هذا الفكر الفلسفي اليوناني المتعلق بالمنطق والاعتزال والكلام ويطلقون عليه ( البرهان ) ، و ثانيهم : فكر التصوف الفلسفي المتصل بوحدة الوجود والحلول والاتحاد والنتائج والتناسخ وغيره ويطلقون عليه اسم ( العرفان ) ثم يضيفون الشريعة الإسلامية على أنها الجزء الثالث وهي التي ينظرون إليها في ازدراء شديد لأنها تمثل الضوضاء ( أولاً ) قديمه وثانياً ( جامدة ) وثالثاً : لا تتقبل التطور ثم تطبق عليها مفاهيم العلمانية والتفسير المادي للتاريخ ونظرية النسبية وكلها محاولات للقول بأن العصر لم يعد قادراً على تقبل مناهج قديمة وضعت لعصور سابقة أو على الأقل استنفدت أغراضها وهكذا يعلون من شأن العرفان والبرهان وهما اللذان يمثلان ما رفضه الإسلام أساساً من الفكر اليوناني الوافد المستمد من ( علم الأصنام ) والذي كشف الإمامان الغزالي وابن تيمية فساده وضلاله ، ولم يقبله علماء المسلمين منذ اليوم الأول ، والذي جاءت الشريعة الإسلامية الخالدة بمنهج رباني أصيل يقوم على قاعدة ( الثوابت والمتغيرات ) ، ويرسم للإنسانية الطريق الصحيح من خلال قيم أساسية هي بمثابة الضوابط والحدود الأصيلة لحركة الإنسان والمجتمعات ثم يفسح الطريق إلى المتغيرات من داخل حركة الثوابت بحيث تستطيع الإنسانية أن تقبل كل جديد وأن تواجه متغيرات الأزمنة المتتالية والبيئات المختلفة .(5/75)
... وبهذه الدعوة المدعاة يصبح الأصيل وافداً والوافد أصيلاً ، فيعلى من شأن الفلسفات المادية والوثنية والباطنية والإباحية ، والتي جاء الإسلام للقضاء عليها وهدم مقومات أرجانون ارسطو وأفلاطون القائم على العبودية البشرية وعلى جعل ( الرق ) قاعدة الأساس في بناء الحضارات ، فضلاً عن العبودية للصنم والوثن ، وكان هذا هو مظهر الحضارات العالمية التي سبقت الإسلام وانهارت لأنها قامت على الظلم والعبودية والإباحية والفساد ، فأوصلها ذلك إلى التدمير .
... ثم جاء الإسلام ليحرر البشرية من عبودية الإنسان للإنسان ومن عبودية الإنسان لغير الله تبارك وتعالى ، ومن هنا كان ( أرجانون ) الإسلام إن صح التعبير مخالفاً بل معارضاً تمام المعارضة لارجانون الحضارة اليونانية والرومانية التي تشكل من جديد تحت اسم الحضارة الغربية المعاصرة .
... وكيف يمكن أن يشكل الفكر الإسلامي من منهج هدمه علماء المسلمين وهو منهج المنطق اليوناني ومفاهيم الفلسفات على النحو الذي قدمه الغزالي وابن تيمية الذي أعلن أن للقرآن منطلقاً مختلفاً ؟ ثم كيف يتصور أن يكون التصور الفلسفي المستمد من وثنيات المجوسية الفارسية والهندوكية ومفاهيم الزفانا ومصطلحات بوذا وغيره عنصراً أساسياً في الفكر الإسلامي ؟ بينما تتراجع الشريعة الإسلامية على نحو تصور فيه على أنها الجانب التقليدي الذي ينظر إليه في استهانة وانتقاص .
* ... * ... *(5/76)
... وتتمثل القضية الأساسية الخطيرة اليوم في العودة إلى هذا التراث المضطرب المختلط الذي دخلت عليه زيوف كثيرة منذ بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية وما تأثر به من الفلاسفة المشائين الذين تابعوا أرسطو وأفلاطون ( الفارابي وابن سينا ) ، وما دخل بعد ذلك على كثير من الشعراء والكتاب على النحو الذي نجده عند المعري وابن الفارض وغيرهما وتلك هي المؤامرة التي أعدت بأحكام لإعادة إحياء هذا الفكر الوثني من خلال تصور وهمي بأنه يمثل فكر العدل والحرية ممثلاً في كتابات ( إخوان الصفا ) وما اتصل به من مؤامرات الزنج والقرامطة والبابكية والمزدكية وغيرها مما اتسع اليوم نطاق دراسته وتقديمه في عدد من البلاد العربية في أطروحات جامعية على أنه يمثل فكراً يسارياً يدعو إلى العدل الاجتماعي ، وما أعيد كتابته من جديد في محاولة لتصوير الفكر الإسلامي وهو ضحية للفكر اليوناني في تشكيله وصياغته .(5/77)
... ومن هنا فقد كانت دعوة حركة اليقظة الإسلامية تهدف أساساً إلى العودة إلى المنابع وإلى مفاهيم الإسلام الأصيلة قبل هذه المرحلة المضطربة التي يريد التغريب والغزو الثقافي إعادة فرضها علي المسلمين من جديد من خلال كتابات أحمد أمين وعابد الجابري وأدونيس وطه حسين وحسين مروه ومحمد غلاب .وتجئ حملات أمثال عاطف العراقي وغيره على الإمام الغزالي كجزء واضح من هذا المخطط الذي يريد إعلاء شأن فكر مسموم هو الفكر الباطني الوثني الذي استمد مفاهيمه من علم الأصنام في الفلسفة اليونانية ومن الغنوصية الشرقية وما يتصل بها من مواريث الفكر المجوسي والبوذية وكل ما يتصل بالتناسخ والزفانا وكلها سموم قديمة عفنة جاء الإسلام ليكشف زيفها وللقضاء عليها ثم جاءت القوى الغاصبة الهدامة لإحيائها من جديد حيث نرى أدونيس اليوم ينطلق من القول بأن الفكر الباطني والوثني والإباحي الذي رفضه علماء الإسلام وردوه ، هو الفكر البناء وحيث يعمل هو لإحيائه في مجال الشعر والفن من خلال نظرية الحداثة الباطلة الزائفة نجد أن غيره من أمثال الجابري يريدون إحيائه من ناحية إعلاء فكر وحدة الوجود والمنطق الأرسطي على كل قيم الإسلام الحقيقية التي جاء بها الإسلام ففتح للإنسانية صفحة جديدة من العطاء الإلهي في مجالات التعامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتربوي ، والذي أقام مفهومه على الأصالة الحقيقية والفطرة مما يتفق مع العلم ذلك هو مفهوم ( التكامل الجامع ) ولا أقول ( الشمولية ) بين الروح والمادة ، والقلب والعقل ، والدنيا والآخرة .(5/78)
... وأخطر ما في هذه المؤامرة أنها ترابط بين مناهج التعليم وبين مناهج الثقافة فالكتب التي تدرس في معاهدنا وجامعاتنا تحاول أن تؤكد هذه الوجهة وتفرض هذا التصور فهي تقدم تاريخ الفلسفة على نحو زائف رديء يبدو فيه الفكر الإسلامي الأصيل العملاق المستمد من القرآن المنزل والسنة النبوية وكأنه ذيل لها ، مكتوب بأقلام ماكرة خبيثة وكذلك يقدم منهج التاريخ الإسلامي على نحو يوحي باضطراب المجتمع الإسلامي وانحرافه وغلبة الفكر الوافد عليه ، والحقيقة أنهم فرضوا في مجال الأدب والتاريخ والفلسفة أسماء معينة ووجهات نظر معينة خلطوها على طريقة توحي بأن المسلمين خضعوا للعلوم اليونانية أو أن المنهج اليوناني أو الغربي عموماً كان مؤثراً في وجهتهم أو أنه صنع لهم طابعاً معيناً فتلك هي دعاوى المستشرقين الذين يريدون أن يصورونا وقد انسلخنا من مفهومنا المستقل المتميز الإسلامي الأصيل وانصهرنا في الفكر الغربي العالمي والحقيقة أن هذه النظريات ( التي لا ترقي لتكون حقائق علمية ) كالفلسفة والمنطق والتصوف الفلسفي وعلم الكلام لم يقبلها المسلمون وردوها منذ اليوم الأول ، فإذا جاءوا هم في هذا العصر ومن خلال مرحلة كبل فيها الفكر الإسلامي تحت ضغط سيطرة النفوذ الأجنبي على مقومات التعلم والثقافة والصحافة فأمكنوا لهذه السموم أن تترجم وتلقي في أفق الفكر الإسلامي مع نشر كتب الطعن في الإسلام تحت اسم حرية البحث العلمي والتشكيك في قيمة الجوهرة الأصيلة ( الفقه الإسلامي ) واللغة العربية فإن ذلك كان إلى حين .(5/79)
... ولقد ظن البعض أنه إذا كانت بعض المناهج الوافدة استطاعت أن تمتد عقداً أو عقدين أو جيلاً أو جيلين ، فإنها قد أصبحت مقبولة وأن دخائلها قد فرضت نفسها وأنها استطاعت أن تحول مفهوم الإسلام من أصالته وذاتيته الخاصة فصبغته بصبغة أخرى لتجعله شيئاً أشبه باللاهوت أو الأديان البشرية فإن ذلك لم يكن إلا عارضاً ولم يكن ليستمر أو يمتد إلا قليلاً حتى يكشفه ضوء القرآن القائم في الأمة الإسلامية بالحق والذي هو المنار الذي يهدي إلى طريق الله تبارك وتعالى العزيز الحكيم .
... والواقع أن منهج الإسلام هو منهج متميز مستقل له ذاتيته الخاصة منذ بزغ فجره وأنه كان شديد الحرص على توالي العصور والأجيال ألا ينصهر في أي منهج آخر مهما بدا له بريق شديد يخطف الأبصار ولقد كان أكبر مجاهدات علماء المسلمين على مدى العصور هو الحفاظ على استقلالية المنهج الإسلامي وخصوصيته ، وكان موقفهم من كل فكر وافد الحرص الشديد فإذا أخذوا فإنما يأخذون تنظيمات ووسائل وليس نظماً وما يأخذوه يصهروه في بوتقتهم دون أن يكون له مظهر واضح يغير الطبيعة الأصيلة والموقف الآن هو العودة إلى المنابع وتجاوز هذا التراث الزائف من الفكر الباطني والوثني والتماس منهج القرآن في السنة النبوية وفي كتابات أهل السنة والجماعة نوراً يستضاء به على طريق العصر حتى يمكن أن ينتزع في وقت قريب ذلك الضوء الساطع الذي يرسم قواعد المجتمع الإسلامي الجديد .
تصحيح المفاهيم وتحرير القيم من تبعية الفكر الوافد
... ما هي الاتهامات والمغالطات التي يوجهها العلمانيون والملاحدة إلى الدعوة الإسلامية والمسلمين ليلبسوا عليهم دينهم وما حقيقية الأمر في هذه الاتهامات حتى تكون المفاهيم الصحيحة واضحة أمام شباب الإسلام وحتى لا تختلط بالمفاهيم الوافدة(5/80)
الحقيقة أن لنا نحن المسلمين مفاهيم أساسية مستمدة من القرآن الكريم والسنة الشريفة عن الدين والألوهية والغيب تختلف تماماً عن مفاهيم الثقافات الأخرى وخاصة ثقافة الغرب ، وقد تأكد منذ وقت طويل أن المفاهيم الغربية ( في مجال العقيدة والثقافة والمعارف والفلسفات ) مستمدة من ثلاثة مصادر أساسية هي أولاً : الفلسفة اليونانية والوثنية الرومانية وما توصل إليه أهل الغرب من مفاهيم الأديان القديمة وما نقلوه من اليهودية والمسيحية ( وهما دينان سماويان تأثرا بالفلسفات والعقائد القديمة على حد قول القرآن الكريم ( يضاهئون قول الذين كفروا ) وأول هذه المفاهيم التي يجب أن تكون محررة تماماً هو مفهوم كلمة " دين " التي تمثل في الفكر اللاهوتي والفكر الغربي الاقتصار على العبادات وحدها دون أن تكون لها صلة بأنظمة المجتمعات وقوانينها ومعاملاتها في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع .
... أما في الإسلام فالدين : " مفهوم كامل جامع " يمثل منهج الله تبارك وتعالى في تعريف أمور حياة الإنسان سواء في علاقاته مع الله تبارك وتعالى أم مع المجتمع نفسه ومن هنا يقدم الإسلام ذلك التصور الصحيح الذي يتمثل في عبارة ( منهج حياة ونظام مجتمع ) ، هذا المفهوم للإسلام يفتح أبوابا واسعة من الخلاف والتباين بين ما يعتقده المسلم وما يعتقده أهل الغرب الذين قد وصلوا بعد معارك كبيرة بين الكنيسة والعلم التجريبي إلى ( صيغة ) أطلق عليها " العلمانية " والتي بها تحرر الغرب من المسؤولية الدينية حول المعاملات والأخلاق والجزاء الأخروي ، كما تحرر من شطر العقيدة وهو " عالم الغيب " وتشكلت لديهم من أجل دعم هذا التصور ما يسمى :
(1) النسبية : أي أن كل شئ نسبي وليس هناك شئ ثابت .
(2) الأخلاق هي التقاليد وهي مبعثرة مع العصور والبيئات .(5/81)
... ومن منطلق تفسير هذين الأمرين أصبح للفكر الغربي مفهوم مختلف ، يمكن أن يوصف بأنه هدم لقاعدة ( الثوابت والمتغيرات ) أو تحويل الثوابت إلى متغيرات والمتغيرات إلى ثوابت ، وهذا يتعارض تماماً مع مقررات الإسلام ، وكان الغرب في عصر أرسطو يؤمن بالثبات التام ولا يؤمن بالتغير أو التطور ثم تطور الفكر الغربي حتى عصر ( هيجل ) عندما دخل مرحلة التغيير الكامل بعد ظهور ( نظرية التطور ) التي كانت نظرية بيولوجية محضة ثم أصبحت قانوناً اجتماعياً واتخذت وسيلة للقضاء على الدين والأخلاق من حيث ثباتهما ، وأدخلت مفاهيم التغير والتحول والتطور الاجتماعي فأصبح لكل عصر أخلاقه وقيمه وساق علماء الاجتماع البشرية 'إلى ما يسمى التغيير الدائم والمتصل والمستمر ( دون تحفظ إزاء الثوابت ) ، وجاءت العلوم الاجتماعية والإنسانية لتضع قواعد للأخلاق والنفس والمجتمع والتربية تقوم كلها على التغيير وامتدت إلى نظريات الحداثة والبنيوية وعلم اللغات في محاولة خطيرة لهدم كل ما هو من الثوابت ( الدين ، القديم ، التراث ، التاريخ ، اللغة ) في محاولة خطيرة مصدرها الفكر الوثني القديم ومفاهيم التلمود والماسونية وخطط برتوكولات صهيون والوثنيات جميعاً لهدم شئ واحد هو الدين المنزل الذي أصبح يزحف بقوة في قلب المجتمعات الحرة : هذه هي المؤامرة الأساس التي هي مصدر كل النظريات والفلسفات والمؤامرات التي يجري طرحها في أفق الفكر الإسلامي اليوم في محاولة لاحتوائه وضربه في أعماقه ، مع أن هذه القضية أساساً هي قضية الفكر الغربي في اتصاله بعقائده ومخططاته الصهيونية والمسيحية حوله .(5/82)
... ولكننا نحن المسلمون والعرب لأننا خدعنا منذ قرنين من الزمان بالإعجاب بالفكر الغربي من خلال الحملة الفرنسية والاحتلال الغربي والتبشير ومخططات الاستشراق وفرضيات العلوم الغربية على مناهج مدارسنا وجامعاتنا ، من أجل ذلك أصيب مفهومنا للدين بشكوك وشبهات ترمي إلى خلق تصور للإسلام يختلف عن حقيقته ، كما نزل به القرآن وجاء به النبي وهذا هو أخطر المحاذير التي تواجهنا وأشد مخاطر " التلبيس " ومن منطلق فهم الإسلام بوصفه دين ودولة - أي نظام مجتمع ومنهج حياة ، يجري تفسير كل الأمور المتعلقة بعلاقة الإنسان بالدين وفي مقدمتها مهمة الإنسان نفسه ومسؤوليته الفردية والتزامه الأخلاقي من حيث أنه يحاسب ( فرداً ) وليس في الإسلام " مسؤولية الجماعية بمفهومها الغربي " فضلاً عن أن الإسلام يحتم الالتزام الأخلاقي في كل التصرفات سواء الخاصة بالفرد أم بالمجتمع عامة .
... ويقوم الإسلام على الشورى والعدل الاجتماعي والحرية وهي مفاهيم تختلف عن الديمقراطية والاشتراكية ، كما أن العلاقة بين العروبة والإسلام يختلف عن مفهوم القومية الغربي الوافد .
... كذلك فإن نظام الحكم في الإسلام يقوم على أساس مفهوم الحكومة المدنية حيث لم يعرف الإسلام في تاريخه كله ( الحكومة الدينية ) أو التي يسمونها في الغرب الدولة الثيوقراطية ، ويختلف نظام الحكم في الإسلام عن مفهوم النظام الغربي لأنه يستمد مصادره من القرآن والسنة وأنه يفيد الحاكمين والمحكومين بقيود تمنعهم من الانطلاق وراء الأهواء أو تحول بينهم وبين الخضوع للشهوات .
... وأخطر ما تختلف فيه المفاهيم الاجتماعية الإسلامية عن الفكر الغربي هي : عدم الفصل بين سلوك الإنسان وحياته الخلقية حيث لا يقبل الإسلام من الرجل المسئول أن يكون موصوما بأي وصمة تتعلق بالأخلاق أما في الغرب فإنهم لا يفرقون بين الحياة العامة والحياة الخاصة .(5/83)
... فالإسلام يشجب محاولة فصل الحياة العامة عن الحياة الشخصية وخاصة للفرد وبالتالي للمجتمع حيث لا يمكن أن يكون الإنسان غير أمين في بيته وأميناً في دائرة عمله ، فمسألة الشرف والعرض والكرامة مقوم أساسي للرجل المسئول في الحياة العامة في الإسلام ، ومن عجيب أن يقبل المجتمع الأوربي تعدد العشيقات ولا يقبل تعدد الزوجات .
* ... * ... *
... ويصف الغرب الشريعة الإسلامية بالقصور عن متطلبات العصر وعدم تلبية الاحتياجات الجديدة ، وهذا القول يمكن أن يوجه لغير الشريعة الإسلامية من القوانين والشرائع البشرية القيمة ، أما الإسلام فإن الشريعة فيه من صنع الخالق تبارك وتعالى وقد أحكمت أحكاماً شديداً يجعلها مرنة قابلة لمتغيرات العصور والأزمان بقدرتها على الاستيعاب والتعرفة بين الثوابت والمتغيرات وبين الأزلي والزمني .
... وقد كان من عظمة الشريعة الإسلامية عطاء الفقه الإسلامي على أيدي علمائه وفقهائه بما يتفق مع ظروف المجتمعات والاجتهاد في الفتوى دون الخروج على أصول الشريعة نفسها فتركوا لنا هذا التراث الضخم الذي ما يزال نبراساً للفتوى مع العمل على مقابلة متغيرات الزمن وفق ثبات أصول الإسلام ، حيث يدور التشريع الإسلامي حول الإنسان : وطبيعة الإنسان التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، فقد يتغير مظهره الخارجي وتتغير الأوعية والأساليب ولكن لا يتغير مخبره ، فطبيعة الإنسان باقية كما هي على الرغم من اختلاف العصور ومتغيرات الزمن والبيئة وتطورها مع بقاء الركائز الثابتة الإنسانية للشخصية الإنسانية .(5/84)
... أما بالنسبة لمقولة : أن العصر الحديث لا يقبل الأحكام القاسية في العقاب فيقول الدكتور محمد شامة : أن هناك مندوحة من الحاكم فقد وضع الحق تبارك وتعالى للشريعة قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور وتتمشى مع ما ينبغي أن تكون عليه الحياة من الاستقرار حسب كل عصر وبيئة وحسب متطلبات الظروف المحيطة ودون أن تخرج عن الخط الرئيسي الذي رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع .
... فالقضايا الكلية في الإسلام هي : قواعد التشريع الأساسية التي تصلح لكل شعب وتلبي احتياجات كل المجموعات البشرية على اختلاف ألوانها وأجناسها .
... وقد زخر الفقه الإسلامي بالفروض التي تعدد الأحداث في الأزمان المستقبلية وهذا أكبر دليل على براعة الفقه الإسلامي وصلاحيته لمواجهة الأحداث على مدى العصور ومختلف البيئات .
* ... * ... *
... ومن ناحية أخرى فإن الإسلام ينمي في المسلم الاتجاهات النفسية الإيجابية الصحيحة نحو فكره إعداد القوة ، فالنظرية الإسلامية تربط العقيدة العسكرية بالدين ، يقول اللواء جمال الدين محفوظ : إن إعداد القوة والقتال لإعلاء كلمة الله تبارك يعتمد على بناء الشخصية الإسلامية على الإيمان والتوحيد في العقيدة والأخلاق والعمل في مراحل التربية والتنشئة الاجتماعية المختلفة على تحرير الشخصية الإسلامية من خوف الموت وحب الدنيا ثم توفير الصحة النفسية للمسلم ليكون ذا شخصية سوية وقادراً على التوافق مع نفسه ومع المجتمع .
... والنظرية الإسلامية تربط العقيدة العسكرية بالعقيدة الدينية وبذلك فهي تتميز بالثبات والاستقرار والنبل والشرف والعدل في الغاية والوسيلة وتوليد أقوى الدوافع على الإطلاق وتنزيه المقاتل عن دوافع المفاخرة أو حب الظهور فهو لا يستحق الجنة إلا إذا كان جهاده خالصاً .(5/85)
... ولا ريب أن مفهوم " الجهاد " في الإسلام هو فريضة أساسية لا تختلف في أي زمن على عدة عوامل أهمها المرابطة في الثغور والقدرة على الردع وحماية الكيان واسترداد الأرض الإسلامية المحتلة من قبل العدو .
* ... * ... *
... ويتمثل المفهوم الإسلامي في " الوسطية " : ووسطية الإسلام تختلف عن وسطية أرسطو التي تقول بأنها الفضيلة بين رذيلتين أو موقف بين نقيضين ، وكأنها نقطة رياضية في الوسط لا علاقة لها بالنقيضين ، وهذا يخالف معنى الوسطية في الإسلام فهي عندنا تمثل موقفاً ثالثاً يختلف عن النقيضين ولكنه غير مستقل عنهما ، فالموقف الوسطي هنا يجمع ما يمكن جمعه من النقيضين ، فالكرم وسط بين البخل والإسراف ولكنه ليس مغايراً للصفتين وإنما فيه من تدبير البخل وعطاء المسرف .
... وهنا يأتي التميز للوسطية الإسلامية في نظرتها لمكان الإنسان في الكون ، فهو ليس الحقير المنبوذ كما تصوره بعض الأديان البشرية أو الفلسفات الوثنية الهندوكية والبوذية وليس سيد الكون كما تصوره الحضارة الغربية المادية وإنما هو المستخلف في الأرض الذي فضله الله تبارك وتعالى عن كثير مما خلق تفضيلا .
... لقد كان الإنسان في التراث الهندي القديم هو الحقير الفاني الذي لا خلاص له إلا باختصار المادة وتعذيب الجسد وإدارة الظهر للدنيا وهي مذاهب تسللت إلى فكرنا الإسلامي تحت تأثير التصوف الفلسفي ، أما الفكر الغربي فيرى الإنسان سيد الكون لدرجة أن الهلينية الجاهلية اليونانية قد جعلت الأبطال آلهة وأطلقت العنان لحريته حيث يحل الحرام ويحرم الحلال ويقهر الطبيعة ، وكانت الحضارات الكبرى السابقة للإسلام : اليونانية والرومانية والفارسية والهندية تؤمن بالتفرقة بين الإنسان السيد الجالس في الأعلى والعبد المتعبد الرقيق الذي ليس له أي تقدير أو حساب حتى قيل إن العبد إذا أصبح سيداً فيظل عبداً وإن السيد إذا صار عبداً فيظل سيداً .(5/86)
... جاء الإسلام فهدم كل هذه المفاهيم الوثنية وقدم مفاهيم ربانية تسمو بالإنسان وتكرمه وتجعله موضع المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي وأباح له من الطيبات ما شاء على أن يؤدي حق الله عليه من الزكاة والصدقة ، وهكذا جاء الإسلام ليقدم للبشرية ذلك المنهج الذي أصبحت مؤهلة له خاتماً لرسالات السماء وليجعلها مستعدة للارتفاع فوق مطامع الحياة وأهوائها وشهواتها .(5/87)
الجزء الخامس
الصحوة الإسلامية والشباب المسلم
الصحوة الإسلامية
( 1 ) حقيقتان كشفت عنهما الصحوة .
( 2 ) ستمضي الصحوة إلى غايتها .
( 3 ) ترشيد الصحوة .
( 4 ) حقائق مضيئة في مواجهة شبهات مثارة .
الصحوة الإسلامية
حقيقتان كشفت عنهما الصحوة الإسلامية ...
أولاً : أن الحضارة الغربية اليوم في طريق الانهيار وأنها ينقصان البعد الإلهي والبعد الأخلاقي .
ثانياً : أن الحضارة الغربية مدينة لما قامت الحضارة الإسلامية التي قدمت المنهج التجريبي ومنهج المعرفة ذي الجناحين الروح والمادة ، ومن هنا فقد حرصت الحضارة الغربية ونفوذها الممتد في مجالات السياسة والاقتصاد أن يظل المسلمون محاصرون وفي تبعية كاملة ، عاجزاً عن بناء قاعدتهم العلمية التجريبية الخاصة على النحو الذي أرشدهم إليه القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ومن هنا جاء حرمان المسلمين من العلوم المتقدمة ليظلوا في مرحلة الضعف والتخلف والتبعية .
... وواضح تماماً أن هناك تواطؤ عامة على محو علائم الحضارة الإسلامية وإزالة كل ما يذكر بها بحيث لا يكاد يتحرر كاتب غربي من ربقة التبعية ويجهر بذكر الفضل لذويه حتى يجد كتائب من الأقلام لتفسر رأيه من الحقدة الذي استخدمتهم الكنيسة ودوائر الاستعمار خلال فترات طويلة لتزييف الحقائق الصريحة .
... وهكذا كانت الكنيسة ترسل مبشريها إلى بلاد الإسلام يحملون سموم الاستشراق وأخذ نفر من القسس يدعون البحث العلمي ويسمون أنفسهم بالمستشرقين ليحرفوا الحقائق السافرة عن الإسلام والقرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كما استطاعوا تكوين فريق عمل من أبناء العرب والمسلمين ظهروا وكأنهم أشد حماساً للمغالطة والهجوم والحقد على الإسلام - وهو دينهم - من أساتذتهم وقد كشف جارودي وغيره عن أن النهضة الأوربية بدأت من الأندلس ولم تبدأ من إيطاليا كما يدعون .(6/1)
... كذلك فقد اعترف الغربيون أنفسهم أن معركة ( بلاط الشهداء ) قد أخرت الحضارة الغربية ثمانية قرون وأن الأوربيين لو كانوا قبلوا المد الإسلامي بقيادة عبد الرحمن الغافقي الذي دق أبوابهم لتقدموا سريعاً ولما تأخرت الحضارة سبعة قرون وقد اعتبروا ( كارل مارتل ) وجولته نصراً وهو هزيمة ، قال المؤرخ كلوب فاير : لقد حدثت عام 732م فاجعة كانت من أشأم الفجائع على الإنسانية في العصور الوسطى هي الانتصار البغيض الذي ظفر به على مقربة من ( بواتيه ) أولئك المحاربون من الإفرنج بقيادة ( كارل مارتل ) على كتائب العرب المسلمين التي كان يريد أن ينقذها الإسلام العمراني المتسامح .
* ... * ... *
... كذلك فقد كتب من الأوربيين يكشفون عن ظلم أهليهم لمسلمي الجزائر ، وما قاموا به من فظائع ومنهم بيرلوتي الذي قارن بين همجية جنود الاستعمار وبين أهل أفريقيا ليثبت أن هؤلاء الفدائيين لهم من تقاليد الرحمة والمودة ما ليس للأوربي المتحضر وكذلك فعل جارودى بإحصاء مظالم هؤلاء الذين كونوا الإمبراطورية وفي نفس الوقت كشف كثير من رحاله الأوربيين عن كرم العربي وحمايته لمن يلوذ به من السائحين الأجانب ورعايتهم وفي كتابات جديدة ومعاصرة لا تتوقف كشف الباحثون الأوربيون عن فساد حركة الحضارة الأوربية اليوم بما يؤدي إلى كارثة محققة لقيام الكسب المادي بعيداً عن كل قيم الأخلاق والشريف وحيث ينفق ألف مليون من الدولارات سنوياً على الأسلحة في نفس الوقت الذي يموت خمسون مليونا من البشر من الجوع ( جارودي ) ، وفي نفس الوقت كشف الباحثون الأوربيون عن أن الإسلام لا يلغي الديانات السابقة بل تصحيحها ويردها إلى منهجها الذي نزلت به .
* ... * ... *(6/2)
... إننا في حاجة إلى رد اعتبار لحضارتنا الإسلامية التي تعرضت خلال القرنين الماضيين إلى ما وصفه جلال مطهر من عملية من أبشع عمليات التضليل التاريخي ، هذه الحركة التي قام بها نفر من علماء أوربا لأغراض سياسية ودينية ، وأنهم دسوا وروجوا أراء كان لها أثر كبير في البلبلة الفكرية التي أصابت الشرق العربي والإسلامي وهزت شخصيته وأعقبت النتائج التي تعاني منها الآن .
... وقد زعم بعض الباحثين في سبيل إنكار دور المسلمين أن هجرة علماء القسطنطينية بعد سقوطها على يد العثمانيين هو الذي أنشأ عصر الإحياء الغربي ، بيد أن المنصفين كشفوا القناع عن وجه الحقيقة عندما أكدوا أن شرق أوربا كان أسوأ حالاً من غربها وأن المسلمين وحدهم هم أباء النهضة العلمية الحديثة في أوربا وأن تحويل الأنظار عن هذه الحقيقة إنما يمثل أحقاداً صليبية وأكاذيب على التاريخ الإنساني.
... وحين تستعلن مثل هذه الحقائق نجد دعاة التغريب يتحدثون عن نتاج الحضارة المادي وكيف قبله المسلمون في العصر الحديث وليس في ذلك أى بأس ، وإنما الأمر هو أن تستخدم هذه الأدوات المادية من خلال مفاهيم الإسلام لا مفاهيم الغرب فليس من بأس على أحد أن يأخذ من نتاج الحضارة المادي ما يشاء ولكن البأس هو التبعية والخضوع لفكر أمة أخرى ، والفكرة باطلة أساساً فإن الربط بين أدوات الحضارة وبين الفكر الغربي المادي أمر لم يسبق أن قبلته حضارة ما ، سواء الحضارة الإسلامية أو الحضارة الغربية حين أخذت منهج التجريب الإسلامي فإنها ظلت محتفظة بقيمها وعقيدتها .(6/3)
... وليس صحيحاً أن يطلب من المسلمين أن يأخذوا الحضارة بفكرها وأن يتجاوزوا عن منهجهم الرباني الأصيل الذي تشكلت عليه عقلياتهم ووجداناتهم خلال خمسة عشر قرنا ، ويرجع هذا الإلحاح البغيض إلى تجاهل الحقيقة الإسلامية وهي أن الإسلام ليس ديناً لاهوتياً قاصراً على العلاقة بين الله والإنسان ولكنه دين كامل جامع يقدم منهجاً للحياة ونظاماً للمجتمع ، والعلم جزء منه ليس منفصلاً عنه وهو في جوهره خاضع لمفهوم التوحيد الخالص والعدل والرحمة والإخاء الإنساني .
... ومن هنا فإن على شبابنا المسلم أن يعرف أن هذه الثقافة التي يتلقاها مدخولة ، لأنها لا تمثل مفهوم الإسلام الأصيل ، وأن مناهج التعليم والتربية والثقافة جميعاً ما تزال محتواه لخدمة النفوذ الغربي وأنه في حاجة إلى دراسة منهجه الإسلامي الذي لا يعرف منه إلا هوامش قليلة ، وأن عليه أن يحقق ذلك حتى يعرف في ضوئه أخطاء النظريات والمناهج والفلسفات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي اليوم والتي لا تمثل الأصالة والتي تجعله تابعاً للغرب ولياً لمناهجه ، وأول كل ذلك أن يفهم الإسلام على أنه منهج رباني وليس منهج بشري ، وأنه يقوم على تقديم إطار جامع لحياة المسلم الاجتماعية والاقتصادية والسياسة ، وأن يعرف أن التجربة التي قام بها المجتمع الإسلامي خلال أكثر من مائة عام ( في حضانة قانون نابليون ) وقد انتهت إلى حقيقة أساسية هي الخراب والدمار والنكسة ، وقد قدمت حقيقة واضحة هي فساد المنهجين الغربي والماركسي على السواء .
* ... * ... *
... واليوم هل يستطيع الغرب وهو يتقدم نحو القرن الواحد والعشرين أن يصحح مساره بعد أن سقطت شرفات النظرية المادية والماركسية وفشل المنهج الليبرالي وأنهار من قبل ، أم أنه سيظل مندفعاً في طريقه إلى الهاوية .(6/4)
... وهل في استطاعته أن يقضي على غرور الاستعلاء بالعنصر ، أو أن يحقق العدل في توزيع الثروة العالمية ، وهل في استطاعته التحرر من الأحقاد القديمة المترسبة التي سببتها الخلافات العقدية وغيرها ، مادام هو الآن يملك من المقدرات العلمية ما يصل به إلى أعلى الغايات أم أنه عاجز عن أن يعدل مساره ؟ وهل هو على استعداد أن يؤمن بالعالمية الإنسانية القائمة على البعد عن صراع المعسكرات وبناء القوى الذرية الشامخة التي يرمي إلى حزب المخالفين أم أنه يندفع إلى مزيد من المطامع والشهوات والأهواء ، نحن المسلمون نطالب الغرب اليوم أن يعترف للمسلمين بوجودهم المتميز وأن يرفع يده عن مناهجهم وعقائدهم حتى يتمكنوا من إقامة نظامهم الخاص المسالم الذي لا يعتدي ولا يزاحم ، ولكنه يطمع في أن يمتلك إرادته الخاصة ويوجه ثرواته الخاصة الوجهة التي تجعله قادراً على إقامة العدل والحرية في الأرض.
ستمضي الصحوة
إلى غايتها رغم كل العقبات
... منذ طرح الفكر الغربي نظرياته وفلسفاته ومفاهيمه في أفق الفكر الإسلامي والمسلمون يواجهون أخطار هذا التحدي الكبير الذي بدأ ممثلاً في نظرية دارون أساساً وبروتوكولات صهيون ونظرية فرويد عن الجنس .
... ولقد تواصل الدعاة إلى هذه المفاهيم التي طرحتها هذه النظريات جيلاً بعد جيل ونشأت مجلات كبري تبنت هذه الدعوات وحملت لوائها وأخفت مقاصدها عن الإعلان الكاشف إلى وقت بعيد .(6/5)
... ومما كان موضع الغرابة والدهشة أن بروتوكولات حكماء صهيون التي ظهرت 1897م في مؤتمر بازل في سويسرا قد ترجمت إلى جميع اللغات وانتشرت في كل مكان ، بينما أخفيت عن العالم الإسلامي العربي حتى كتب عنها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1946م تقريباً الدكتور نقولا حداد ولأول مرة عرف العرب والمسلمون أن هناك مخططاً شديدة الخطورة قد أعد لتنفيذه بواسطة أقزام خبراء في علوم السياسة وتطور الأمم على النحو الذي تكشفت عنه بروتوكولات صهيون عندما ترجمت وخاصة في جانب تدمير الوجود الأخلاقي في المجتمع الإسلامي على النحو الذي أوردته المخططات بالدعوة إلى تحرير الشباب من قيد الأخلاق وما أسموه تعليم الشباب كيف ينظر إلى ( أدواته الجنسية من غير حياء ) وهو ما أطلق عليه بعد فترة من الزمن التربية الجنسية ، التي انطلقت من خلال القصة المكشوفة التي كتبها قصاصو الغرب من الإباحيين وترجمت إلى اللغة العربية ، وأغلب ما ترجم منها من اللغة الفرنسية وقد بلغ ما ترجم منها في مرحلة ما بين الحربين أكثر من عشرة آلاف قصة تحكي قصة الجنس والعلاقات المحرمة بين المرأة والرجل .(6/6)
... ولم يترك هذا الحصاد من القصص التي كتبها قصاصون هم جزء من التخطيط الخاص بتدمير أخلاق الشباب المسلم بالذات إذ قد حشدت هذه السموم في المجلات الشهرية والأسبوعية ، وحشدت لها صور عارية ورسوم إضافية فيما أطلق عليه ( أدب الفراش ) الذي هز قوائم المجتمعات وحطم كثيراً من الأسر والمجتمعات ، وقد جاء ذلك في نفس الوقت الذي ترجمت فيه إلى اللغة العربية مفاهيم دارون وفرويد وسارتر على نحو يجعلها تتكامل بصورة غريبة وتتلاقى على نحو كان بعيد الأثر في نفوس وعقول الشباب المراهق الذي وضح ذلك وضوحاً شديداً في بلاغات الشرطة وقضايا المحاكم في نفس الوقت الذي حجبت فيه الشريعة الإسلامية وحدودها القادرة على مواجهة المواقف ، أما سارتر فجاء ليقول للناس : أن تحامي الشباب لهذه الأخطار من شأنه أن يكون العقد النفسية والكبت الذي يؤدي إلى أخطر الأمراض وقد ثبت بعد ذلك فساد هذا التصور الخادع الذي كان يريد أن يخدم الهدف الأساسي وهو تدمير الحصانة النفسية والاجتماعية للشباب والشابات المسلمات .
... أما دارون فقد أعلن أن الإنسان من فصيلة القردة وأنه حيوان ناطق وبذلك أنزله إلى الحضيض من منزلته التي أعطاها له الله تبارك وتعالى وجاءت على أثر ذلك نظرية الأجناس فأعلنت ارتفاع الجنس الأبيض صاحب الحضارة وانخفاض الأجناس الملونة بما يبيح للسيد أن يسود ويتجدد مفهوم ( روما سادة ومن حولها عبيد ) الذي رسمته الحضارة الرومانية والذي جعل السيادة والديمقراطية للسادة الجالسين في أعلى ولم يجعل للأجناس الأخرى أي كرامة أو مكانة بوصفهم الرقيق الملون الذي يباع ويشتري ، ولقد جاء الاستعمار وجدد هذا المفهوم وجعله في غلاف خادع حين نهب ثروات الأمم الأفريقية والأسيوية ونقل ملايين الأفارقة السود من بلادهم ليعملوا عبيداً في الأراضي الجديدة في أمريكا الشمالية وغرق منهم الألوف قبل أن يصلوا إلى مقارهم بعد استئصال الهنود الحمر .(6/7)
... وإذا كان الاستعمار قد سيطر على التجمع الإسلامي ( العرب والترك والفرس والهنود ) وفرض نفوذه السياسي والاقتصادي عليه فإن هذا المجتمع ظل قادراً بفضل الإسلام على المقاومة وعلى حماية وجوده حتى اقتنع الاستعمار بأن فكرة إزالة الإسلام أو أهل الإسلام فكرة خيالية ليس لها وجود حقيقي ولكن ما زالت للنفوذ الاستعماري مأرب يحاول منها هدم قواعد المجتمع الإسلامي ، وكان من أخطرها تدمير الشباب المسلم ، وإخراج المرأة من مسؤوليتها الحقيقية ووجودها الصحيح ، وقد استعان على ذلك بعوامل كثيرة كان أبرزها ( تحديد النسل ) بهدف إنقاص المسلمين والحيلولة دون تمكنهم من حماية وجودهم وهدم مقوم أساسي من مقومات وجودهم وهو العنصر البشري الذي تنامى وأصبح قوة أساسية بجوار القوى الأخرى التي يملكها العالم الإسلامي وهي الموقع الجغرافي والثروة المادية من كنوز الأرض من بترول وكوبلت ومنجنيز وغيرها .
... ولكن ظل الهدف الأساسي الرامي إلى هدم " قيم الأخلاق الإسلامية " في نفوس الشباب أمراً وارداً ، تقوم قوى كثيرة بالعمل على تحقيقه ، وكانت مدرسة العلوم الاجتماعية والإنسانية ركناً أساسياً في تحطيم مقومات الأخلاق والقيم الاجتماعية والنفس .
... وبالرغم من أن النظريات التي قدمها فلاسفة الإباحة : دوركايم وفرويد و سارتر قد اخترقت وتبين فسادها وضلالها وانكشف زيفها قبل أن تتحطم الشيوعية بوقت طويل ، فإن القوى الغازية ظلت تحمي هذا الفكر وتفرضه في المعاهد والجامعات في بعض بلاد الإسلام معارضة به مفهوم الإسلام الذي ظل محجوباً عن ثقافة الجامعات حتى اليوم .(6/8)
... ولقد كذبت المفاهيم الأصيلة خدعة دور كايم الذي قال : إن الأسرة ليست من الفطرة وأن الجريمة من الفطرة ، وكذبت مقولات فرويد الذي أعتمد في نظريته العالمية التي كان يريد أن يجعلها ديناً للبشرية على مائة مريض استقبلهم في عيادته ودرس أزماتهم النفسية ، فضلاً عما تبين من فساد نظريات الفكر الغربي من حيث أنها محلية أساساً وأنها ردود أفعال لأوضاع في مجتمعها وأنها بذلك لا تصلح لتكون قوانين ثابتة وحقائق أساسية يمكن أن يطبقها الإنسان في كل مجتمع .
... وانهارت هذه النظريات كلها وتكشف فسادها مع مرور الزمن وتبين عجزها عن العطاء وقصورها عن أن تقف إلى جانب المنهج الإسلامي الرباني الواسع الأفق المرن القابل لكل متغيرات الأزمان والحضارات والمجتمعات لأنه من عند العليم بشأن هذا الإنسان لأنه خالقه أساساً.
* ... * ... *(6/9)
... كذلك فقد اشتغل النفوذ الأجنبي ببعض القضايا الداخلية في محاولة لتحريف مفهوم الإسلام الأصيل ، وفي مقدمة هذه الأمور فكرة ( تحرير المرأة ) على النحو الذي دعا إليه خصوم الإسلام بهدف تدمير وجود المرأة المسلمة وتحطيم الأسرة المسلمة وفتح الطريق أمام المرأة المسلمة إلى السهرات والمراقص والاختلاط الحرام ، وكانت بروتوكولات صهيون قد دعت إلى رحلات مشتركة بين الرجال والنساء ، بل لقد ذهب البعض إلى أخطر من هذا حين دعا إلى مساواة المرأة والرجل في الميراث والدعوة إلى الاختبار بين الرجل والمرأة قبل الزواج وعشرات من الدعوات المسمومة التي طرحها النفوذ الأجنبي بواسطة أتباعه ودعاته من التغريبيين والإباحيين وكان الهدف المبيت هو ( إشاعة الإباحية في المجتمع الإسلامي ) والدعوة إلى تحريره من الضوابط والحدود وشغل المرأة بالمراقص والسهرات حتى تتنكر لعرشها الحقيقي في تربية الأبناء وحماية الأسرة على النحو الذي ذهبت إليه المرأة الغربية التي فقدت اليوم قدرتها على الإنجاب تماماً ، وعرفت من الفساد الخلقي ما يراد بنا تقليده خاصة ما يسمى صديق العائلة وتبادل الزوجات وتعدد المحاولات في حجب الوازع الديني والخلقي عن الشباب والفتيات وخاصة في مرحلة المراهقة .(6/10)
... ثم جاء الفن المنحرف ليحقق أهداف الغزو التي رسمتها الدارونية والماركسية والفرويدية ومدرسة العلوم الاجتماعية عن طريق المسرحيات والمسلسلات التي ترمي إلى تدمير المفهوم الأخلاقي ومفهوم القيم الثوابت التي قررها الإسلام وجعلها حماية للمجتمعات وحصانة من صواعق الإباحة والتحرر والفساد الخلقي .إنهم يريدون أن يدمروا هذا الحجاب الحاجز الذي يحمي المجتمع الإسلامي خلال خمسة عشر قرناً من الذوبان في إطار الشهوات والتحلل والفساد الخلقي الذي سقطت فيه الأمم والحضارات الأخرى ، ولقد وعى المسلمون فساد هذه الدعوات والنظريات وانكشفت له أنها ليست حقائق علمية ولا مقررات ثابتة أو صالحة لكل المجتمعات ، ولكنها تصدر عن الهوى والمطامع والشهوات وفي المرحلة التي تتصاعد فيها الصحوة الإسلامية اليوم وتصل إلى مرحلة الوضوح نتيجة سقوط الأيديولوجيات وهزيمة المذاهب الفلسفية وخاصة الفلسفة المادية والشيوعية نجدنا أمام إعصار جديد ترمي إلى فرض مخططات ترمي إلى إنقاص المسلمين باعتبارهم الخطر الأكبر على الاستعمار والنفوذ الأجنبي حيث يعيد الغرب نظريات دارون وماركس وفرويد مرة أخرى بالدعوة إلى الإباحة بغرض الإجهاض والانحلال الخلقي حتى يردد بعضهم مقولة خطيرة : [ إن الدين يمثل عقدة كبيرة في وجه ما ندعو إليه ] وحيث يرمي بعضهم إلى فتح أبواب الجنس والإباحة على مصاريعها والدعوة إلى الإجهاض وإباحة الشذوذ وإعلان الحرية الجنسية وذلك كله بوصفه ليس حلاً لزيادة النسل بل لإبقاء نفوذ الغرب ولقد ثبت فساد كل هذه الدعاوى التي تطرح اليوم حول الكبت الجنسي والعقد النفسية ، وكذلك فساد نظرية المساواة المطلقة بين الذكورة والأنوثة ونظرية تكافل الرجال بالرجال والنساء بالنساء .(6/11)
... ولقد نوقشت هذه الأفكار المسمومة خلال قرن كامل وثبت فسادها ومعارضتها للإسلام ولاشك أن ترديدها اليوم دليل على إفلاس الدعاة إليها ، وسوف لا تستطيع هذه القوى مهما بلغت أن تنال من النظام الإسلامي الذي اعتنقته الأمة الإسلامية منذ أربعة عشر قرناً وهي مستعدة لأن تنافح عنه وتقاوم في وجه كل موجة ترمي إلى النيل منه وسوف تمضي هذه الصحوة إلى غايتها المرتجاة بإذن الله تبارك وتعالى .
ترشيد الصحوة
التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية
... نحن - بعون الله - مقتنعين أملاً في نصر الله تبارك وتعالى وتأييده لنخطو بإذن الله خطوات جديدة وهذا الأمل لا يقوم على الخيال وإنما يقوم على أساس أحجار البناء التي أرستها الصحوة الإسلامية خلال العقد الأول من هذا القرن .
ولكي نبدأ القضية من أولها علينا أن نعي هذه الحقائق :
أولاً : لقد كان الإسلام يحمل دائماً في طيات منهجه تلك القدرة النافذة إلى إعادة المسلمين إلى الطريق الصحيح ، إذا انحرفوا عنه وتوجيههم إلى التماس منهجه الأصيل ، وقد حدث ذلك أكثر من مرة ( حدث في مواجهة التتار وفي مواجهة الصليبيين ) وفي مواجهة ترجمة الفكر اليوناني .
ثانياً : كشف الإسلام للمسلمين فساد أيديولوجيات الغرب واضطرابها وعجزها عن العطاء الحقيقي حتى في بيئاتها الخاصة ، كما كشف لهم عن عظمة الشريعة الإسلامية وكرامتها ومكانتها على أيدي أساطير القانون في الغرب .
ثالثاً : كشف الإسلام للمسلمين حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة ومسؤوليته والتزامه الأخلاقي ، ورسم له أسلوب العمل من خلال شريعة سمحة كريمة مرنة قادرة على العطاء جامعة بين العقل والقلب ، والروح والمادة ، وتستمد منطلقها من قبضة الطين ونفخة الروح .(6/12)
رابعاً : سقطت كل النظريات الفلسفية والاجتماعية مما يسمى العلوم الإنسانية في بلادها وعجزت عن العطاء وخاصة نظريات دارون وفرويد وماركس ودوركايم وسارتر ، فقد تبين أن هذه النظريات كلها قد انطلقت من النظرية الفلسفية المادية وعجزت عن فهم حقيقة الإنسان فانهارت لأنها لم تعمل حساباً للبعد الإلهي ولا للبعد الأخلاقي .
* ... * ... *
... ثم جاءت الصحوة كنتيجة طبيعية للجهاد الطويل الذي قام به المصلحون الأبرار خلال القرن الرابع عشر في مواجهة الحملات القاسية التي قام بها الاستشراق والتبشير في سبيل تدمير قواعد المنهج الإسلامي من خلال سيطرة النفوذ الغربي على [ المدرسة - المحكمة - المصرف ] ، حيث سيطر عصر ما يسمى قانون نابليون حيث حجب الظالمون منهج الإسلام في الاقتصاد وفي القانون وفي التعليم بعد أن ظلموا الوحدة الإسلامية بإسقاط الخلافة وغرس رأس جسر في قلب الأمة الإسلامية هو الكيان الصهيوني .
فلقد أكد المسلمون وأكدت الأحداث التي عاشوها من النكبة إلى الهزيمة إلى النكسة إلى سقوط القدس فساد المنهج الغربي الذي حاول البعض من قادة الفكر فرضه على الأمة الإسلامية ، وتبين مما لا يدع مجالاً للشك أنه ليس للمسلمين من ملجأ إلا في أحضان شريعتهم الربانية المنزلة فهي وحدها العاصم لهم من كل هزيمة أو تراجع .
أولاً : تصحيح العقيدة :
... ولقد تبين أنه من الضروري للصحوة الإسلامية أن تبلغ غايتها أن يعود المسلمون إلى المفهوم الأصيل والنبع الأول لمفهوم العقيدة بعيداً عن كل ما يتصل بعلم الكلام أو المنطق أو التصوف الفلسفي أو الاعتزال ، فقد ثبت أنه لابد من تحرير النظرة الإسلامية من هذه الدخائل التي اختلطت بالفكر الإسلامي بعد ترجمة الفلسفة اليونانية والعودة إلى المنابع .(6/13)
... لقد حاول بعض المفكرين التماس مفهوم المعتزلة ومضوا به شوطاً ولكن ذلك لم يحقق الوصول إلى الفهم الأصيل كما حاول البعض التماس مفهوم التصوف الفلسفي وكلا الرافدين ليس مفهوم الإسلام ، وقد تبين أن المفهوم القرآني - وليس المفهوم الفلسفي - هو وحده القادر على العطاء ولا بد من التماسه وهو ما دعا إليه الإمام حسن البنا وكشف عن عجز الأساليب الأخرى في تحقيق الهدف ومن يراجع ما أوردته الكتب المقررة على المدارس والجامعات في هذا الشأن يجدها قد قدمت صورة مظلمة بعيدة عن الحقيقة ترمي إلى إثارة الشكوك في عقول الشباب بطرح مفاهيم الشك الفلسفي والمادية بينما نجد أن علماء المسلمين في الحقيقة قد واجهوا هذا الفكر الفلسفي المترجم عن اليونانية بالرفض التام وقدموا بدلاً منه منهجاً إسلامياً أصيلاً يتمثل في رسالة الإمام الشافعي وما كتبه الإمام الغزالي وما قرره الإمام ابن تيمية حيث قدم منطقاً للقرآن الكريم يختلف عن منطق أرسطو .
ثانياً : كذلك الأمر في التاريخ الإسلامي :
... فقد جرت المحاولات لتفسيره وفق المناهج المادية سواء منها الغربية أو الماركسية ، ووضع في عدة قوالب ليست هي قالبه في الحقيقة : القالب الوطني ، والقالب القومي ، وذلك في محاولة لإعلاء مناهج القوميات والإقليميات .
... ونحن نعرف أن القوميات قد أعطيت فرصة كبرى لتثبت قدرتها على العطاء ولكنها مع الأسف عجزت عن ذلك لأنها انفصلت عن مفهوم الإسلام الجامع بين العروبة والإسلام وحاولت أن تلحق بمناهج الماركسية والعلمانية .
... وقد أكدت كل التجارب التي مرت بالأمة الإسلامية أنها ترفض الجسم الغريب ، كذلك فعلت بالنسبة لليبرالية والاشتراكية وكذلك فعلت بالنسبة للوطنية والقومية ولم يعد هناك من سبيل غير مفهوم الإسلام الأصيل الجامع بين العروبة والإسلام والمتفتح بمفهوم التعارف على العالم الإسلامي كله .
ثالثاً : مفهوم الإنسان بين الإسلام والفكر الغربي :(6/14)
أما القضية الكبرى التي تحتاج إلى عناية كبرى فهي مفهوم الإنسان بين الإسلام والفكر الغربي ، والاختلاف الواسع العميق بينهما ، فالإسلام يقرر عدة أسس راسخة :
1 - خلق الإنسان لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض من منطلق إقامة المجتمع الرباني في الأرض .
2 - أمده الله تبارك وتعالى بمفاتيح العمران ووسائل السعي من خلال مسؤوليته الفردية والتزامه الأخلاقي والإيمان بالبعث والجزاء الأخروي .
3 - من هنا كان لابد له من الانطلاق إلى العمل من نقطة البدء الحقيقي : وهي الإيمان بالله تبارك وتعالى خالقاً ورازقاً ( إياك نعبد وإياك نستعين ) تبدأ الأمور منه تبارك وتعالى وإليه تنتهي .
4 - قدم القرآن منهجاً كاملاً للميتافيزك ( ما وراء المادة ) يقرر من خلال الإيمان بالله الواحد الأحد وبالرسالة الخاتمة والوحي والغيب ومن خلال هذا المنهج يتحدد موقف المسلم من الفكر الغربي الذي يقوم على أساس انشطارية الحياة من حيث إنكار الغيب والبعث وإحلال مصطلح الطبيعة بدلاً من الألوهية واعتبار المسؤولية هي مسؤولية المجتمع لا الفرد وتقرير مذهب النسبية الأخلاقية المرتبطة بالعصور والبيئات بينما يقرر الإسلام : ثبات القيم الأخلاقية واستمرارها والخضوع لها .
... هذا الاختلاف العميق الواسع بين مفهوم الإسلام للإنسان ومسؤوليته الفردية والتزامه الأخلاقي وبين مفهوم الفكر الغربي هو مصدر الخلاف الأساسي والفوارق البعيدة عن المسلمين والفكر الغربي الذي هو في حقيقته ليس إلا نظريات وفرضيات لعقول بشرية وضعت في ظروف وتحديات معينة ، ومن ثم فهي تحتاج دائماً إلى الإضافة والحذف لأنها لا تستطيع مواجهة متغيرات العصور والبيئات .
... وهذا هو الفرق البعيد من الإسلام بوصفه منهج حياة رباني المصدر إنساني الوجهة عالمي المنطلق له قدرته الفائقة على مقابلة العصور بمرونة واتساع أبعاده بحيث يستطيع استيعاب كل متغيرات العصر والبيئة وهي قدرة دائمة مستمرة إلى قيام الساعة .(6/15)
... وهذه هي النقطة الخطيرة التي التفت إليها مثقفوا الغرب في الأخير والتي دفعتهم إلى اعتناق الإسلام والإيمان بقدرته على حل مشاكل البشرية المعاصرة ، وكان أبرز ما أولوه اهتمامهم ( البعد الرباني ) و ( البعد الأخلاقي ) اللذين يتميز بهما الإسلام ، وتنقصهما الحضارة المعاصرة التي تسير بخطى واسعة إلى تدمير نفسها والدخول في مرحلة المحاق .
رابعاً : فكرة الفصل بين الدين والدولة :
إن فكرة الفصل بين الدين والدولة هي فكرة ماكرة كانت من إخراج العقلية الغربية في صراعها مع المسيحية الغربية ( لا المنزلة ) ، وهي قضية منفصلة تماماً عن منهج الإسلام الذي لم يكن ديناً لاهوتياً ( أي بمعنى العبادة وحدها ) بل كان ولا يزال جامعاً بين علاقة الإنسان مع الله تبارك وتعالى من ناحية دين المجتمع من ناحية أخرى .
... وقد أورد القرآن هذا المعنى في بضعة عشر آية :
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله )
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم )
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم )
خامساً : عدم نسيان فريضة الجهاد :(6/16)
علينا أن لا ننسى فريضة الجهاد تحت ضغط أي ظرف من الظروف ، وأن نزداد وثوقاً بأن هذا الطريق الذي قطع فيه إخواننا في أفغانستان شوطاً طويلاً ، والذي سار فيه أبطال الحجارة ( حماس ) منذ عشرين شهراً هو وحده الطريق الصحيح لاستخلاص الحقوق وتحرير الأرض الإسلامية واستعادة الهوية ، ولنذكر دائماً أن انتصارات المسلمين كلها في العصر الحديث لم تكن إلا من منطلق الجهاد ، وتجربة الجزائر وتجربة العاشر من رمضان تؤكدان هذه الحقيقة ، وليس شيء أشد خطراً على النفوذ الأجنبي من إعداد المسلمين للمقاومة والمرابطة والاحتشاد في الثغور والقدرة على الردع ، ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله ) فعلينا ألا ننسى فريضة الجهاد والقدرة على الردع تحت أي ظرف من ظروف الأمن الخادع ، فإن العدو يقف لنا بالمرصاد .
حقائق مضيئة
في مواجهة شبهات مثارة
... واضح أن هناك تصور للإسلام مختلف عن مفهومه الحقيقي يمثل وجهة نظر الغرب وهو تصور مستمد من مجموعة من المشاعر والتصورات القديمة التي كانت قائمة بين المسلمين والغرب .
... ويجري خلال سنوات طويلة فرض هذا التصور على المناهج الدراسية حتى ينشأ من المسلمين على تصور مختلف عن الحقيقة أو على فهم لا يستوعب حقيقة أصالة منهج الإسلام الجامع في سعته ومرونته وعطائه المتصل وقدرته على تقبل كل المتغيرات التي تأتي بها الحضارات والتحولات التي تمر بالمجتمعات الإنسانية دون أن يؤثر ذلك في ثوابته الأصيلة وذلك استمداداً من قدرته على تقبل المتغيرات التي لا تتعارض مع قواعده الراسخة .(6/17)
... وقد حرصت اليقظة الإسلامية منذ فجرها الحديث أن تقدم التصور الصحيح والسليم للفكر الإسلامي وللعلاقات التاريخية بين المسلمين والغرب : هذا التصور الذي يقدمه الدعاة إلى الإسلام في محاولة لتأكيد ثقة المسلمين بمنهجهم الرباني الأصيل والقرآني الصادق بعيداً عن الروايات الضعيفة وكتابات عصور التحلل والضياع وغلبة تقليد الفرق الضالة كالقاديانية والباطنية وأهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والإشراق والعقول العشرة التي أدخلت إلى الإسلام نتيجة ترجمة الفلسفة اليونانية في القرن الثاني والثالث والتي اتسع نطاقها في العصر الحديث حين لم يتمكن المسلمون في مرحلة السيطرة الاستعمارية من تقديم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وليس بوصفه ديناً لاهوتياً كما يفهم الغرب كلمة " الدين " لقد قدموا مجموعات من النظريات كلها مرتبطة بمفاهيم الفلسفة المادية والعلمانية ونحن في حاجة إلى فهم موقف الإسلام منها وسنعرض لها في حلقات .
أولاً : الإسلام : هل هو دين أم دين ومنهج حياة ؟ :
... إن الخطأ الأول هو جهل فهم حقيقة الإسلام ، فهل الإسلام دين عبادي بمفهوم اللاهوت على النحو الذي عرفته المسيحية الغربية أو وصلت إليه بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والملوك من ناحية وبين الكنيسة والعلماء حيث فصل فيه بين السلطة الدينية وبين السلطة السياسية حيث قصرت الكنيسة على السلطة الدينية وتركت لرجال السياسة السلطة السياسية .
... كل كتابنا العلمانيين والماركسيين الذين تكونت ثقافتهم في ظل هذا التصور الانشطاري للفكر الغربي يحاولون تصوير الإسلام على هذا النحو ، والحقيقة أنهم يعلمون أن الإسلام دين ومنهج حياة وأنه نظام جامع ولكنهم يريدون أن يقدموا تصوراً لاهوتياً قاصراً وذلك حتى يعطوا لأنفسهم الفرصة للقول بأن نظام المجتمع يمكن أن يكون علمانياً : ليبرالياً أو ماركسياً .(6/18)
ثانياً : الحكم الإسلامي : هل هو أشبه بالحكم الديني الذي عرفته أوربا في العصور الوسطى ؟
... يقولون إنه من الخطأ قياس الحكم الإسلامي الذي عرفه العالم لفترة تزيد على ألف سنة كان حكماً مدنياً ولم يكن العلماء يتولون فيه أي عمل سياسي ، وإنما كانوا دائماً يقومون بدورهم بوصفهم علماء الدين وليسوا رجال الدين .
... إن النظر إلى الحكومة الدينية التي عرفتها أوربا في العصور الوسطى حيث مارست من العسف وكبت الحريات وما قام به رجال الكهنوت المسيحي يجاوز حدود وظائفهم الكنيسية ، هذا النظر فيه ظلم كثير لتاريخ الإسلام والدور الذي قام به في إقامة العدل والرحمة والإخاء ذلك أن الحكومة في الإسلام تدير المجتمع الإسلامي وفقاً لمبادئ وأهداف الإسلام ، فالإسلام هو المهيمن على تشريعات وقيم ومفاهيم هذا المجتمع .
... وقد كان الإسلام دائماً هو المهيمن على تشريعات البلاد وليس لعلماء الدين بوصفهم غير معصومين فالشريعة الإسلامية تحكم وتخضع الحاكم والمحكوم لها على السواء .
ثالثاً: مقولة إن الإسلام مكانه القلب والوجدان :
... أما مقولة إن الإسلام مكانه القلب والوجدان ، وإنه قائم على التراتيل والأدعية وطلب الآخرة فحسب وأنه لا صلة له بالحكم والنظام السياسي والاجتماعي وتشريعات الاقتصاد والمال وغيرها ، وهو مفهوم واحد ، وقد جاء الإسلام ليصحح هذا المفهوم ويقدم حقيقة الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع ، فالإسلام لا يجمع القلب والعقل فحسب ، ولكنه يجمع بين الروح والمادة والدنيا والآخرة
رابعاً : تصحيح نظرية المعرفة :(6/19)
... يحاول خصوم الإسلام تصور نظرية المعرفة الإسلامية على نحو قريب من مفهوم الفكر الغربي ، غير أن الإسلام قد وضع للمعرفة تصوراً أساسياً قائماً على الجمع بين الوحي والعقل ، حيث يقوم الارتباط بين المعرفة والقيم الإلهية ورد الاعتبار للوحي كمصدر أساسي من مصادر المعرفة وإعادة فهم المعرفة بأنها معطى إلهي حقيقي للإنسان ليمكنه من مهمة الخلافة والعمران ، وفي نفس الوقت لا يقر المسلمون نظرية المعرفة القائمة على التصور المادي على أساس العقل والمحسوس فحسب وبالجملة فإن الإسلام يقدم مفهوم المعرفة قائماً على عنصرين أساسين الأول الوحي والثاني هو العلم والعقل ، وأسلمة المعرفة والعلوم في العصر الحديث توضح مكانة الوحي أو النص ( أي النقل ) كمصدر للمعرفة وتكاملها مع العقل والتجريب فالوحي أساس مكين في قاعدة المعرفة ، ولابد للعودة إلى هذا المفهوم الصحيح حفاظاً على هوية الأمة وحماية لأصالتها .
خامساً : موقف الإسلام من العلوم التجريبية :
... وتجرى على ألسنة بعض الباحثين مقولة أن الفكر الإسلامي يختلف مع العلوم الإنسانية والاجتماعية ولكنه لا يختلف مع العلوم التجريبية لأنها علوم تصدر عن أنابيق وتجارب مادية ومعامل ، فهي بذلك غير عرضة للنقد من حيث سيطرة الفلسفة المادية عليها ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً فإن قاعدة العلوم التجريبية تخضع للفلسفة المادية وتنظر إلى الكون والوجود والحياة على أنها قوى طبيعية قائمة بنفسها وأنه ليس وراءها خالق ، وهي بهذا تجعل للإنسان حرية السيطرة عليها وتوجيهها والتصرف فيها دون تقدير للحقيقة الذاتية وهي وجود الله تبارك وتعالى وراء هذا الكون يديره لحظة بلحظة ، ويحفظه من أن ينهار : ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) .(6/20)
... وليس هناك خطر في مفهوم العلوم التجريبية من مصطلح ( الطبيعة ) الذي يصنعه العلماء مكان كلمة الله الخالق تبارك وتعالى ، ولا ريب أن موقف علماء التجريب من فكرة الطبيعة وإنكار وجود الخالق تبارك وتعالى يؤثر تأثيراً كبيراً على توجيه العلوم التجريبية ، ويؤدي إلى حدوث كثير من المحاذير .
... فليس هناك أخطر من الاعتقاد بأن الطبيعة خلقت نفسها ، وأنها تتحرك بإرادة الإنسان ، وأن الإنسان يمكن أن ينطلق مع سياسة الاستهلاك والتكديس والنهب وتدمير مقومات الأمم وإعلاء شأن الترف والإباحيات على نحو يحول دون إقامة العدل الإلهي بين الأمم وبين مقدراتها التي أوجدها الحق تبارك وتعالى لها .
... فالإسلام يضع الضوابط على مقدرات الأمم حتى لا تدمر من أجل أهواء وشهوات ومطامع الرأسماليين وأصحاب النزوات ، ولذلك فنحن لا نقبل هذا المفهوم بالنسبة للعلم التجريبي لأنه يتنافى مع مفهوم الإسلام من حيث العدالة والرحمة ومن حي الاحتفاظ بالثروات وعدم تبديدها ، والدعوة إلى إسعاد البشرية جميعاً وليس صنفاً واحداً منها على حساب الباقي .
سادساً : خطأ التعميم بين القيم :
... هذه من أخطر دعوات التغريب والغزو الثقافي واتباع الفلسفة المادية بهدف طعن الدين في مقتل ودفع المجتمعات بعيداً عن ضوابط الدين وثوابت العلم والأخلاق .
... فهناك القيم الثوابت والقيم القابلة للتغير ، والإسلام لا يفرض الجمود والثبات الدائم ولا يقف أمام التطور والتغير في القيم الجزئية .
... أما الدعوة الخطيرة المسمومة التي تقودها الماسونية والعلمانية والفلسفة المادية والإلحاد فهي الدعوة إلى التغيير الدائم دون تقدير للثوابت ومنها نظرية النسبية للأخلاق أيضاً : ذلك أن الإسلام يعتبر تلك الثوابت أسساً دائمة مستمرة غير قابلة للتطور أو التغيير ولكن يمكن تطوير أساليبها ووسائلها .
* ... * ... *(6/21)
... وبالجملة فإن الإسلام يؤمن بحق العقل في النظر فضلاً عن أنه مصدر التكليف ولكن بمفهوم مختلف عن مفهوم الغرب ، أولاً : أنه ليس مقدساً ، وثانياً : أنه ليس منفرداً فالإسلام يجمع بين العقل والوحي ويجمع بين العقلانية والوجدانية ويقدم الوحي على العقل ويرى أنه نوره وضياؤه .
محاذير يجب توقيها وحماية الشباب المسلم منها
محاولات التفكيك والتزييف والتدمير
... ظواهر كثيرة تتجمع كالسحب السود في أفق الفكر الإسلامي وتكشف عن مخطط خطير تعده عقول ماكرة وقلوب حاقدة تحاول وضع مفهوم للإسلام مغاير لمفهومه الأصيل على نحو يرضي عنه النفوذ الغربي على نحو ما يبرز من وراء عديد من تصريحات أجنبية تكاد كلها تجمع على مقولة : ( إنه ينبغي أن يكون هناك إسلام ذو صبغة غربية ) وقد تواترت هذه المقولات حتى قال أحد المسؤولين " إن كل هم الاستعمار الثقافي أن يخرجنا من الإسلام نهائياً وإما أن يجعلنا صورة زائفة للإسلام ولعل هذا ما نجح فيه في كثير من الأمور " .
... فإذا أردنا أن نستعرض ظواهر هذه المؤامرة وجدنا عديداً من المحاولات التي تحتاج إلى الإشارة إليها والتذكير بها حتى نكون على وعي بما يدبر ويحاك من خطط تجري في الخفاء ولا يظهر منها إلا خيوط قليلة غير واضحة على وجهها الصحيح :
... غير أن أخطر محاولة تجري لتمزيق الأمة الإسلامية هي محاولة تفكيك القيم الثوابت التي يؤمن بها العرب والمسلمين ( على نحو ما عبر عنها الأستاذ فهمي هويدي ) هذا التفكك يرمي إلى خلخلة مختلف الثوابت في وعي الأمة وواقعها وإضعاف الأصول التي يقوم عليها انتماؤها واستمرارها بحيث تنهار الأعمدة التي ينهض عليها البنيان " .
... ولقد كان ضرب وحدة الأمة الإسلامية هدفاً أساسياً في مخطط السيطرة الغربية على الأمة الإسلامية وهي التي انتهت بتفكيك الدولة العثمانية وإسقاط الخلافة وإقامة نظام القوميات والإقليميات وإحياء النعرات العرقية والعصبيات الدينية .
* ... * ... *(6/22)
... ويأتي بعد عملية تمزيق الوحدة : خطة الفصل بين القيم التي يجمعها الإسلام في كل جامع فكانت الدعوة إلى : الفصل بين الإسلام من ناحية وبين النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي ، ثم كانت الدعوة إلى تفكيك البيان العربي واللغة العربية وخلق تصور فكري لا يقيم اعتباراً للضوابط اللغوية والنحوية من خلال هدم قوانين النظم والكتابة .
... وقد تبين أن الدعوة إلى ( الحداثة ) إنما ترمي إلى إحياء فكر الباطنية والإباحية وإدخال مصطلحات تختلف عن الأصول التي قدمها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ويدخل ( مصطلح الإبداع ) كعنصر لقيط وغامض يرمي إلى خلق جو من الوهم ويحاول أن يأخذ مكان الاستعلاء بما يماثل الخلق الإلهي ، وكذلك فإن محاولة إقرار مفهوم ( المحاكاة ) الذي ابتدعه أرسطو بما يضفي على الفن والأدب صورة التفوق على الخلق الإلهي ، كل هذا معارض معارضة تامة لمفهوم ( أخلاقية الأدب والفن والاجتماع ) التي هي قاعدة أساسية رصينة لا يمكن دحضها حيث أقام الإسلام قاعدة الثوابت والمتغيرات وجعل ( الأخلاق ) من القيم الثوابت في مواجهة الدعوة إلى ( النسبية ) وهي دعوة ضالة مدمرة .
... وكذلك مصطلح ( التنوير ) الذي يصفه مراد وهبة بأنه يعني بأن لا سلطان على العقل البشري إلا العقل نفسه ، ونحن نعرف التنوير الذي نقلد مصطلحه كان عبارة عن الإلحاد في الفكر الغربي والفرنسي بالذات وللعقل في الإسلام مفهوم مختلف.
* ... * ... *
... وهناك ما يسمى ( حرية الإبداع ) وقال عنها فؤاد زكريا إن المحرمات الثلاثة ( الدين والسياسة والجنس ) هي المجال الحيوي الذي يتحرك فيه الإبداع ، والواقع أننا بمفهوم الإسلام لا نقر ما يسمى حرية الإبداع فلكل حرية ضوابط وحرية الإبداع تعني الإباحة والكشف وتقديم الصور التي تحمل صور الفساد والإثم والإسلام يقيم مفهومه في الأدب والفن على أساس الأخلاق وضوابط القيم وحدودها المحددة .(6/23)
... وإذا كانت الماركسية قد سقطت فإن المادية والتنظير المادي لا يزال يحكم كثير من القضايا وليس معنى قبول الشيوعية بالاقتصاد الحر أنه يغير نظرتهم إلى التفسير المادي للتاريخ ولنا موقفنا نحن المسلمين من العقل ومن المعتزلة ومن التصوف الفلسفي ، ونعترف بأن هناك قضايا دخيلة على الإسلام هي خلق القرآن والرجعة والوصية ، والسبأية والبهائية والقاديانية .
* ... * ... *
... ولقد قام الإسلام والفكر الإسلامي على أساس ( التكامل الجامع بين القيم ) بينما يقوم الفكر الغربي على أساس ( الانشطارية ) حيث يتمثل في استعلاء الجانب المادي والتنكر للجانب الروحي والمعنوي وأخطر ما يتنكر له الفكر الغربي هو : الوحي وعالم الغيب والبعث والجزاء والمسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي .
... ومن هنا يظهر عمق الخلاف بين ( تكامل القيم في دائرة واحدة وتلاقيها في سمت واحد ) بينما يظهر الفكر الغربي وهو قائم على التضاد والتعارض والانشطارية ، ولعل هذا هو أخطر علامات الاختلاف والتباين بين ( الإسلام والفكر الإسلامي ) القائم على جماع المادة والروح ، والعقل والقلب ، والدنيا والآخرة وبين الفكر الغربي الذي تنقسمه نظريتان هما ( الفردية ) الفكر الليبرالي و ( الجماعية ) الفكر الماركسي بينما يجمع الإسلام بين الفردية والجماعية في تناسق تام .
... بينما يتحدث الفكر الغربي عن صراع الأجيال والصراع الطبقي يتحدث الفكر الإسلامي عن لقاء الأجيال وتكامل الطبقات ، ومن هنا كان هذا الخلاف هو مدخل النظرية المسمومة التي صنعتها العقول الماكرة والقلوب الحاقدة ليمزق وحدة الفكر الإسلامي وتفكيكه حيث ترى الفكر الغربي يطرح في أفق الفكر الإسلامي مجموعة من الصراعات القاسية : كالصراع بين العروبة والإسلام وبين المنهج والتطبيق ، وبين الدنيا والآخرة .(6/24)
* فالنظرية التفكيكية هي أداة خطيرة في يد القوى الاستعمارية التي ترمي إلى إدامة السيطرة على الإسلام والمسلمين بتحطيم النظرة الجامعة سواء في ميدان الأدب أو اللغة أو ميادين الفكر والاجتماع ومن هنا ظهرت نظريات الحداثة والبنيوية واللامعقول والعبثية وغيرها ، وكلها نظريات ترمي إلى تفكيك القيم وتمزيق وحدة الفكر الإسلامي .
* بل أن خطر هذه التفكيكية يمتد إلى مجال الأمة الإسلامية نفسها حيث يجرى العمل على تمزيق الوحدات الجامعة ومحاولة خلق صراع طبقي أو عقدي أو عرقي في كل قطر من الأقطار يهدف إلى إقامة كانتونات صغيرة متصارعة في كل قطر من الأقطار حتى لا يتمكن المسلمون من العودة إلى الوحدة الجامعة .
... هذا فضلاً عن محاولة إحلال مصطلحات ذات معنى مختلف مكان مفاهيم مغايرة كإحلال مفهوم الديمقراطية بديلاً عن ( الشورى ) ومصطلح الاشتراكية بديلاً عن ( العدل الاجتماعي ) على ما بين المصطلحين من خلاف واسع وعميق .
... نحن نطالب اليوم بأسلمة العلوم والمصطلحات وأسلمة المجتمع ، وندعو إلى قيام علم النفس الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي وعلم الإنسان الإسلامي بديلاً عن الفرويدية ومدرسة العلوم الاجتماعية والأنثربولوجيا .
ثم إن علينا أن نتحفظ إزاء بعض المسائل الأساسية من أجل تأكيد الهوية الإسلامية .
أولاً : العلوم الاجتماعية والإنسانية : هي عبارة عن فروض فلسفية وليست حقائق ثابتة ، وهي نتاج مجتمعاتها وتحديات أوضاعه وظروفه وهي لا تصلح لقيم عامة وصالحة لغير مجتمعاتها فضلاً عن أنها مستمدة من الفلسفة المادية ، أما المسلمون فإن لديهم مفاهيم أساسية قدمها لهم القرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا المجال تتفق مع ظروفهم ومعتقداتهم وقيمهم ، فالإنسان في الإسلام له كرامة ومسؤولية وإرادة وله وضع مختلف تماماً عن النظرية المادية .(6/25)
ثانياً : علينا أن نأخذ من الغرب المعارف البشرية الحديثة أما روح حضارتهم وفلسفاتهم فهي تتعارض مع مفاهيم الإسلام ونحن نرفض أساساً نمط الاستهلاك والاستمتاع القائم على النظام الربوي ، فضلاً أن في الحياة غايات أكبر من مجرد المتعة والجري وراء المنافع المادية واللذات العاجلة من خلال منهج لا يلتزم بالضوابط والحدود الإسلامية .
ثالثاً : الحذر من نوعين من أنواع التأليف خاصة ما يتعلق بالفكر اليوناني والفارسي والهندي القديم وما يتصل بكتابات القاديانية والبهائية والفلسفة المادية . ومخطوطات السحر والشعوذة والدجل وكتابات النوادر والأحاجي والتسلية التي كتبت في القديم لإرضاء رغبات بعض الأمراء أمثال : ألف ليلة والأغاني وغيرها وخاصة رسائل إخوان الصفا ونظرية وحدة الوجود والحلول والاتحاد وغيرها .
* ... * ... *
... وبالجملة فإن مفهوم الإسلام الجامع هو منطلق الصحوة وهو الحصن الحصين في مواجهة حملة التفكيك ، حيث تؤمن إيماناً وثيقاً بالترابط الجامع بين الثوابت والمتغيرات ، والتوازن الجامع بين الروح والمادة ، والعقل والقلب ، وتؤمن بقدرة الإسلام على العطاء في كل العصور والبيئات ، كما تؤمن بقدرة الإسلام على استعادة المسلمين دون أن تنحرف بهم الأوضاع ، وتؤمن برفض الإسلام للعنصر الغريب ، وقدرة الإسلام على الجمع بين الأصالة والمعاصرة ، والاستفادة من التاريخ دون استعارته ، وتكامل المعرفة وقيام المعرفة الإسلامية على عناصرها المادية والروحية ، فالوحي عنصر أساسي في المعرفة الإسلامية لا يمكن تجاوزه أو تجاهله .(6/26)
... ونحن نضع العقل في موضعه الصحيح يستمد نوره من الوحي ، حيث يتكامل الوحي والعقل ( النقل والعقل ) وعدم تعارضهما ، وتقديم الوحي ، ونحن نؤمن بأن التجربة الغربية قد انهزمت ، وعجزت عن العطاء في أفق الإسلام ، وأن سقوط الشيوعية لا تعني قدرة الغرب على امتلاك قيادة الفكر البشري ، فإن العلمانية نفسها نتاج غربي جاء كرد فعل لموقف الكنيسة من العلم ، وفي الإسلام تتكامل القيم وفي مقدمتها تكامل الدين والدولة .
... ونحن نؤمن بالانتماء الإسلامي الجامع في حلقاته الثلاث للوطنية والعروبة والإسلام ، ونحن نؤمن بالجهاد وبمعناه الجامع وعالمية الرسالة الخاتمة ، ونؤمن بالتوحيد الخالص الجامع بين الربوبية والألوهية ، وبالقرآن الكريم المهيمن على كل الكتب والرسالات والإيمان بالغيب والبعث والجزاء الأخروي ، وبالمسئوولية الفردية والالتزام الخلقي وتكامل المعرفة الجامع في إطار المعرفة الإسلامية ذات الجناحين ( المادة والروح ) ونؤمن بعطاء الإسلام في بناء المنهج التجريبي وقانون قيام الحضارات والأمم وسقوطهما ، حيث تسقط الأمم حين تصاب بالانحراف عن منهج الله ويغتالها الترف والتحلل ، هذه هي الأمة الوسطى التي حمّلها الله تبارك وتعالى لواء التبليغ عن دينه والدفاع عن عقيدته وجعل أهلها خير أجناد الأرض وفي رباط إلى يوم القيامة .
هذه مجموعة من الحقائق
يجب أن يتدبرها الشباب المسلم
أولاً : إن الغرب اليوم يحول بين عالم الإسلام وبين امتلاك إرادته وإقامة مجتمعه واستئناف حضارته للبث مرة أخرى ، وهو من أجل تحقيق هذه الغاية : يفرض وجوده على مساحات واسعة من المجتمع الإسلامي ومؤسساته التعليمية والثقافية ، من أجل :
(1) الحيلولة دون تكون الشخصية المسلمة الواعية المتحررة من أهواء المجتمع ومطامعه في الكسب الحرام ، القادرة على الصمود في وجه المؤامرات الخارجية التي تحاول احتواء الأمة
((6/27)
2) من أجل القضاء على المقومات الثلاثة التي تمثل القوة الإسلامية الحقيقية اليوم وهي : الثروة والطاقة والتقدم البشري ، حيث توجه الحرب الخفية إلي تدمير هذه الثروة في وسائل الاستهلاك أو مجالات المقامرة والمغامرة والإباحيات ثم ذلك المخطط الذي يرمي إلى تحجيم عدد المسلمين بإثارة ما يسمى الانفجار السكاني وتحديد النسل .
ثانياً : فرض النموذج الغربي بديلاً عن السمت الإسلامي في مختلف مجالات الحياة والاجتماع والملبس والمسكن وآداب الطعام والتعامل وهو نموذج مادي جاف ، خال من كل عوامل الوفاء والرحمة والإخاء والحنان ، وهذه العوامل التي تمثل الشمائل الإسلامية في التعامل بين الآباء والأبناء ، والأزواج والزوجات والكبار والصغار والفقراء والأغنياء .
... ويقوم النموذج الغربي على جنون الاستهلاك وتغيير المودات والإنفاق والترف الزائف الذي يقوم بين الطبقات الفقيرة التي لا تملك وفي سبيل اندفاعها وراء الأهواء تستدين ومن أجل دفع عجلة البذخ الاستهلاكي الذي لا يتوقف يجري قبول أكبر محاذير الإسلام وعامل هدم المجتمعات وتدميرها : الربا والسرقة والرشوة والحصول على المال من مصادر الحرام ، ومن ناحية أخرى توسع دائرة الانحراف في العلاقات الاجتماعية وظهور تلك البؤر المضطربة التي يطرحها النموذج الغربي مما يؤدي إلى صديق العائلة وتبادل الزوجات وغيرها من مدمرات الحياة الاجتماعية وإصابتها بالشروخ التي لا تلتئم .
ثالثاً : احتواء الذوق والفكر والوجدان العربي الإسلامي عن طريق سماسرة الفن وتجار ثقافة الجنس ، بإطفاء نور الإيمان والحفاظ على العرض ، ومن خلال حوار المسلسلات الرديء النازل ، والذي يتنكر لكل قيم الأخلاق والآداب في العلاقة بين الآباء والأبناء وبين الأزواج والزوجات بهدف تدمير الأسرة وتحطيم مقوماتها وإفساد كيانها .(6/28)
رابعاً : إنكار ما سوى المحسوس وإقامة منهج الحياة على أساس إنكار الغيب والوحي والبعث والجزاء ومحاولة نفي القداسة عن القرآن والادعاء بأنه من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - .
خامساً : جعلوا كتاباتهم مصدراً لأبحاث المسلمين وجعلوا التراث الإسلامي في مكتباتهم حكراً على وجهة نظر معينة مع إحياء تراث الشعوبية والباطنية وكل ما يعارض مفهوم الإسلام الصحيح والاحتفال بالكتابات التي توحي بالتأثر بالفكر اليوناني القديم والتي اعتمدت عليه شيئاً ما كالكلام والاعتزال والتصوف الفلسفي ، والاهتمام بالحركات الهدامة التي ظهرت في محيط المجتمع الإسلامي وإحيائها ووصفها بأنها دعوة إلى العدل والحرية ( ومنها الحركات الهدامة كالقرامطة وحركة الزنج والمزدكية والبابكية ) وقد وجهوا دعوة إلى إحياء هذه الفرق وقدمت في مجالها أطروحات كتبها تغريبيون وعلمانيون وماركسيون .
سادساً : روجوا لكثير من النظريات الهدامة والباطلة : منها نظرية إسقاط ما لا يدركه الحس ، وهذه نرفضها لأننا نقيم منهجنا الفكري على أساس الاعتراف بعالم الغيب وما وراء الحس ونظرية التجسيم المرتبطة بقضية المحاكاة وهي محاولة لإقامة عالم وهمي في مواجهة عالم الواقع ويرتبط بهذا قضية الدراما والحبكة المسرحية .(6/29)
... لقد آن الآوان أن يقرر المسلمون سقوط التجربة الغربية بعد أن عجزت بعد تطبيقها خلال قرن من الزمان أن يقدم للمسلمين الخطة الناجحة لإقامة مجتمعهم الرباني وحل مشكلاتهم ، وأن المسلمين قد جربوا كلا المنهجين ( الرأسمالي والماركسي ) وقد فشلت التجربة وقد ثبت أن الغرب هو الذي أدخل الشيوعية والصهيونية إلى بلادنا بهدف تدميرها وتأخير نهضتها ، وعلى المسلم المثقف أن يكون واعياً لتناقضات العصر متنبهاً لدعوات التيئيس وإزالة روح التصدير لتاريخنا وأمتنا وأن يكون على وعي بالرياح التي تهب على أبوابنا ونفوذنا الخارجية ، وعلينا النظر إلى ما وراء النصوص والكلمات وإلى أبعاد المخططات التي تراد بالأمة الإسلامية لإبقائها في دائرة التبعية والحيرة ، وحتى لا تتمكن من الدخول في دائرة بناء حضارتها ومجتمعها وعلينا إعادة صياغة المجتمع الإسلامي بالدعوة إلى :
( أولاً ) العودة إلى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( ثانياً ) العودة إلى فريضة الجهاد بمفهومها الواسع الجامع ومراجعة قوانين سقوط الأمم والحضارات من نصوص القرآن .
... وأن علينا أن نحافظ على عناصر التميز الذاتي لأمتنا الإسلامية القرآنية وأن تنطلق بذلك على نمو عضوي يجددها دون أن تقع في مأزق الجمود أو الانصهار وأن نقيم قاعدة ( الثوابت والمتغيرات ) حيث لا تتغير الأمم من حيث الإطار العام والملامح الأساسية ولكنها تتغير من داخل الإطار في الأساليب والوسائل والفروع ، حيث لا تتغير القيم الأساسية ولكن الذي يتغير هو طريقة المعالجة والتناول والنظر إليها من زوايا مختلفة .(6/30)
... ووجوه الالتقاء بين عناصر الأمة الإسلامية واسعة مستفيضة ، بينما عناصر الخلاف قليلة ضئيلة ، والإسلام يعمل على نقل المسلمين من عاطفة القومية الضيقة إلى دائرة الإخاء الإنساني الشامل ، وما بين المسلمين من خلاف هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، وأننا نحن المسلمون لن نقبل التكنولوجيا والعلوم الحديثة التجريبية فقط إلا كمواد خام نشكلها في دائرة فكرنا ونضع فيها التصور المحدد المستمد من قيم الإسلام ولن نكون أتباعاً أو قابلين لدائرة الاحتواء . كما أننا بين نجمع النظرة الفردية والنظرة الجماعية فلا نحتاج إلى الليبرالية أو الاشتراكية ، ونجمع بين المادي والمعنوي ، نزاوج بين ثقافة القلب وثقافة العقل ، ونربط بين الدين والعلم وندعو إلى تكامل العناصر الثلاثة : دعوة التوحيد ، ودعوة الشريعة ، ودعوة التربية وتزكية النفس ، فالإسلام هو العناصر الثلاثة متكاملين .
... وأن الإسلام قادر على تحرير الشخصية ( المصرية - العربية جميعاً ) من سلبياتها التي تفرض عليها التخلف اليوم ، وقادر على تحريرها من الفردية والأثرة واللامبالاة وتراخي الشعور بالانتماء وأعظم معطيات الإسلام : هي قدرة الإسلام على الانبعاث من الداخل أبان المحنة ، وعلى استعادة النظر في الانحرافات والتجاوزات وتصحيح المسار وتحمل الدعوة الإسلامية في أعماقها عوامل الأصالة والعودة إلى المنابع عندما تنحرف بها الطريق .
... ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام في حاجة إلى قوة خارجية تعيد إليه قدرته على اليقظة أوالنهوض ، وقد بدأت اليقظة الإسلامية من قلب عالم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد الخالص وتحرير مفهوم العقيدة ، ولقد كان المسلمون على تقدير واضح من أن الله تبارك وتعالى إذا أحسنوا أقام لهم ملكهم وإذا أساءوا ودخلوا في مرحلة الترف والانحلال سقطوا وغلبتهم الأمم فإذا عادوا إلى الله كرة أخرى قبل منهم وفتح لهم أبواب النصر والتمكين .(6/31)
... ولذلك فلابد أن يعود المسلمون إلى مقاييس الإسلام في كل الأوضاع وأساليب عقيدتهم في جميع المواقع فلا يستسلمون لشعارات حرية الغرب أو انحلاله أو تبريره للسقوط فالمسلمون هم المطالبون بإعادة البشرية إلى الله وإعادة البعدين الأساسين للحضارة : البعد الرباني والبعد الأخلاقي .
أقول هذا للشباب المسلم الذي طلب منا إجابة سؤاله .
العلوم والعلوم التجريبية
( 1 ) علم الإنسان .
( 2 ) التوجيه الإسلامي للعلوم التجريبية .
علم الإنسان
بين مفهوم الإسلام ومفاهيم الفكر الغربي
... يتحدث الفكر الغربي في العقود الأخيرة من القرن الماضي والقرن الحالي عن ما يسمى بعلم الإنسان في محاولة لطرح تصور مادي يهدف إلى فرض مفاهيمه من ناحية وفي محاولة لحماية العقل الأوربي من مفاهيم الإسلام للتشكيك فيها وإزاحته من المجتمع الشرقي تمهيداً للسيطرة عليه على حد تعبير الدكتور طه العلواني :
... والحق أن الإسلام قدم منهج " علم الإنسان " منذ أربعة عشر قرناً حيث اشتمل القرآن الكريم على سورة كاملة باسم الإنسان وحيث رسم مهمة الإنسان ومسؤوليته في خمس وستين موضعاً بين فيه مسئولية الإنسان في الحياة والتزامه إزاء الخالق الكريم الذي صنعه في أحسن تقويم ، وقد بينت هذه الآيات المحاذير والمخاطر التي تواجهه من ناحية نفسه ومن ناحية الشيطان في تساؤل واسع عريض .
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) ، ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) كما كشفت الآيات الكريمة عن عوامل ضعف الإنسان حين ينصرف عن منهج الله تبارك وتعالى ، وقد أفاضت السنة المطهرة في بيان ذلك كما كشف عنه الفقهاء وعلماء النفس والأخلاق .(6/32)
... أما ما يقدمه الفكر الغربي في العصر الحديث مما يسمونه ( علم الإنسان ) الأنثربولوجيا فقد ظهر هذا العلم في حقيقة الأمر ليدرس الإنسان الأول الذي تحجر عقله وأوقف تطوره وما تزال له بقايا في قارتي آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وذلك بهدف السيطرة على هذا العالم وإحداث التبديل الثقافي والحضاري له تمهيداً لإلحاقه بالعالم الأوربي ، كما يذكر الدكتور طه العلواني في بحث ضاف يصدق عشرات الأبحاث التي كتبها الغيورون من الباحثين المسلمين لكشف مؤامرات التغريب والغزو الثقافي ، حيث يقول : ومن هذا الصدد فإن علاقة الأنثربولوجيين بالاستعمار ليست في حاجة إلى إثبات ، ثم جاءت نظريات التنمية بكل فروعها الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها لتتلائم مع طبيعة المرحلة والأهداف السياسية الكامنة وراء النظريات أو فروع العلم الأوربي حيث برز الاستشراق في فترة كان يراد به مواجهة الإسلام " .
... ولما كان أغلب الدراسات الاستشراقية موجهة لخدمة هدف سياسي هو السيطرة الغربية التامة والممتدة على كل ما هو عربي أو إسلامي ، يقول الدكتور ( أكبر . س . أحمد ) رئيس المركز القومي للعلوم الاجتماعية والإنسانية ( إسلام آباد ) : لقد اعتمدت باكورة مؤلفات الغربيين في علم الإنسان على المادة التي كتبها الرحالة وبعثات التنصير في القرن 18 و 19 ، وهي من مجموع المعتقدات الشائعة عند الأهالي ، وقد جاءت كتاباتهم نتيجة تصوراتهم ولم تقم استنتاجاتهم على شواهد يمكن فحصها ، بل على العكس نتائج مبادئ مما تتضمنته ثقافاتهم فهم لم يكونوا من علماء الإنسان كما يفهم هذا المصطلح اليوم .
... ويعد كتاب فريزر أكبر جامع لممارسات البدائية في العقائد وفي السحر وكان فريزر يعني بدراسة العادات التي كان يكتب عنها في مختلف أنحاء العالم أناس لم يتوافر لأغلبهم سوى القليل من التدريب العلمي ، وبهذا كان يدرس تلك العادات خارج إطارها الاجتماعي الذي يعطيها معناها الاجتماعي .(6/33)
... وهكذا كانت المغالطة الكبرى في اعتبار دراسة معتقدات الشعوب البدائية كمدخل طبيعي لدراسة الحضارة الإنسانية في عمومها وكان أهم ما جرى التركيز عليه فن السحر وقضية التابو حيث تسيطر فكرة التابو على كثير من الأذهان لدى الشعوب السوداء والبدائية كما تخصص بحث عند ثلاثة من الآلهة الفرعونية والفينيقية ( أدونيس - وازيس وأزوريس ) أي أن فريزر يربط بين أوزريس المصري واثنين من الآلهة في ثقافتين مختلفتين هما ازيس الفرنجي وأدونيس الإغريقي ، والثلاثة يتعرضون للموت والبعث بأشكال مختلفة ويرنو بعثهم إلى الدورة الكاملة للحياة النباتية ، أي موت الزرع والنبات ثم ظهوره من جديد .
... ومن هنا يتبين مدى خطورة اعتماد مفاهيم الغرب وتأثيرها على العقلية الإسلامية التي عرفت مفهوم رسالة الإنسان ومهمته قبل أربعة عشر قرناً من الزمان وهي تطويع المجتمع لأحكام الله تبارك وتعالى والسعي في الحياة لعمرانها من خلال مفاهيم الحلال والحرام .
... ولقد كانت دعوة أسلمة المعرفة والعلوم بالغة الأهمية في هذا الميدان من أجل تحرير القيم الإنسانية والاجتماعية من التبعية الغربية القائمة على انشطارية المعرفة وإعادة هذه القيم إلى طبيعتها الأصلية في الارتباط بين المعرفة والقيم الإلهية ورد الاعتبار للوحي كمصدر أساسي من مصادر المعرفة .
... وفي مقدمة مناهج أسلمة المعرفة : تقديم علم إنسان إسلامي بديلاً لما يسميه الغربيون ( أنثربولوجية ) ، وتقديم الإنسان من مفهوم الإسلام يقوم على عدة أبعاد أساسية :
أولاً : نشأته ( الخلق - التطور - الوراثة ) .
ثانياً : تركيب مكوناته ( الجسم - النفس - الروح ) .
ثالثاً : تنوع بني الإنسان : رجل وامرأة .
رابعاً : علاقة الإنسان بغيره من الناس وحقوقه .
خامساً : الهدف من خلقه ورسالته على الأرض وتكليفه وشروط حريته ، وعلاقته مع ... الخالق تبارك وتعالى ومع الكون ومع المجتمع .(6/34)
... ويوجه الدكتور أكبر أحمد النظر إلى أن صورة الباحث المسلم في علم الإنسان ... في العالم تأتي على الوجه التالي :
... إن المسلم من وجهة النظر المثالية يعيش حياته طبقاً لما أمر به الله تبارك وتعالى وجل ثناؤه ولكن من وجهة النظر العملية فإنه قد لا يفعل ذلك فهل الذي يحرك المجتمع في نظر المسلم هو الرغبة أو عدم الرغبة في فعل ما أمر به الله جل ثناؤه ؟ إذا كان الأمر كذلك فإن على المسلم أن يبذل قصارى الجهد ليتطابق الواقع مع المثال .
... أما الشموليون على الجانب الآخر فيرون أن الذي يحرك الإنسان هو نظام للأوضاع في الاقتصاد وفي المجتمع يتجاوز مستوى الأفراد ، ولنسأل الآن : أي إطار نستعمل حين نحلل السلوك الاجتماعي للمسلم ؟ هل ينطلق من مبدأ الربح والخسارة الفردي الذي يكسبه أو يصيبه في سجله الشخصي أم يقدر الأمر على حسب فائدته أو ضرره للمنظومة الاجتماعية الذي هو جزء منها ، إننا نرى أن المسلم يفضل الأمر الثاني .
... إن الإسلام يأمرنا بأن نعنى بالمصالح الأساسية الخاصة بالفرد والتي لها علاقة بالبيئة وعلاقاتنا بالناس ( أفراداً وجماعات ) من أهم مقومات بيئاتنا ، فالإسلام إذن دين اجتماعي وأثر ذلك على المسلم واضح فهو جزء من الأمة وجزء كذلك من المجتمع الذي ينتمي إليه ويحدد له هويته الاجتماعية والوضع المثالي للمسلم هو أنه من ناحية مرتبط بمجتمعه الذي يعيش فيه ومن ناحية أخرى مرتبط بالأمة وهي تمثل المجتمع الأكبر بالنسبة له .
... وفيما يتعلق بالمسلم وأن أحكام الزواج والميراث ومجموعة أحكام أخرى تشمل أدق التفاصيل الخاصة بالسلوك الإنساني قد وضعت له جميعاً بكل وضوح بحيث أصبح نظام المجتمع المسلم وسلوك أفراده أمراً واضح الحدود ، فمشاكل الحياة الدنيا بالنسبة للمسلمين إذن قضية قد حسمت ورسالة الإنسان في الإسلام تنحصر في تطويع المجتمع لأحكام الله جل ثناؤه .(6/35)
... أما الجدل بين مدرسة وأخرى من مدارس الفكر لا يعدو أن يكون عند المسلم تدريباً عملياً فحسب ، والحياة كما جاء تكراراً في كلام الله جل ثناؤه لم يخلق عبثاً : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) ، إنها جهاد من أجل الارتقاء ببني الإنسان والنهوض بالقيم الخلقية في حياتنا القصيرة على الأرض والجهاد من أجل تحقيق ذلك يجب أن نؤيده .
... إن المسلم يبقى دائماً جزءاً من الأمة ومن جماعته ، وإن أي تغيير جامح من الفرد عن طموح أهوائه لا يلبث أن يثير استهجان الجماعة وليس معنى ذلك أبداً أن الفرد المسلم لا يخرق القوانين أو أنه لا يخطئ فيسلك سلوكاً غير إسلامي قط ولكن الذي يعنينا هو أمر الجماعة المسلمة وليس أمر أفرادها وهذا الدستور الخلقي على نقيض ما هو قائم في الغرب حيث الإنسان هناك عبارة عن فرد من الأفراد أولا وأخيراً ، والسياسة والعمل بل والحياة الخاصة في الغرب كلها من نصيب الفردية ، وهذا التباين في النظرة يحول أحياناً دون أن ترى الحضارتان بعض القضايا الرئيسية بعين واحدة .
* ... * ... *
... ويرى كثير من الباحثين الإسلاميين أن علم الإنسان الإسلامي يقوم على توحيد الحق جل ثناؤه ، وعلى الإيمان بالغيب وعلى التفكر وإثبات الحق في أمور الحياة وعلى شمولية النظرة للإنسان ، وفكرة الأمة الواحدة ، والنظر إلى الأخلاق كمقوم أساسي من مقومات الإنسان يلحق بدونها بعالم الحيوان .
... وكذلك يجب أن يقدم علم الإنسان من خلال نظرة جامعة تقوم على تكريم الإنسان والنظر إليه على أنه المخلوق الذي استخلفه الله تبارك وتعالى في هذه الأرض وائتمنه على عناصر الوجود وابتلاه بتلك الأمانة وسخر له سائر مخلوقاته وملكه كل عناصر الطاقة والثروة ليعمر هذا الكون وليوجد فيه التوازن والانسجام الكامل .(6/36)
... ومن هنا فإن منهج المعرفة يجب أن يقوم على جماع العقل والنقل وأن يكون الوحي ( الذي هو النقل ) مقدماً على العقل وهو المصدر الأول للمعرفة والثقافة ، كما يقوم التصور الإسلامي على أساس التكامل الجامع بين الروح والمادة والقلب والعقل والدنيا والآخرة ، وأن تكون [ الأخلاقية ] هي الصبغة الأساسية لكل حركة الحياة ، فالأخلاق من الدين والثوابت الأساسية .
* ... * ... *
... هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإننا قد تأكدنا أن جميع النظريات التي طرحتها ( الأنثربولوجيا ) لم تكن إلا ظنية وأنها مستمدة من مجتمعات بادت ، وأن فكرة الطموطمية لم تكن سلالة سائدة في الجزيرة العربية كما يدعون ، وقد أكد لنا القرآن الكريم أن العربي لم يكن طموطمياً بمعنى أنه ينتمي إلى الجماد أو الحيوان أو النبات ، فالعربي عَبَد الأصنام لأنها كانت تقربه إلى الله زلفى ولم يكتف الإسلام بعدم انتمائه للطموطميه وأنما وحاربها وحارب التجسيد في كل مستوياته .
* ... * ... *
... وبعد فإن قضيتنا الأساسية هي التفرقة الواضحة في مفهوم أي مصطلح أو نظرية أو قيمة من القيم بين تصورها الإسلامي وتصورها الغربي إيماناً منا بأن الإسلام قدم منهجاً ربانياً سابقاً لكل المناهج العصرية المتداولة الآن سواء الليبرالية أو الاشتراكية أو الديمقراطية أو النظريات الوجودية والماركسية وغيرها ، أما الإسلام فقد سبق بها الفكر الحديث بأربعة عشر قرنا من ناحية وبأنه قدمها من خلال تصور رباني مرن واسع الأفاق قادر على العطاء في كل العصور والبيئات بينما النظريات الحديثة تقوم على التصور المادي وحده ، وتصدر أحياناً كردود أفعال لمجتمعات تختلف عن المجتمع الإسلامي فتأتي وهي حلول محدودة سواء بالعصر الذي جاءت فيه أو بالبيئة ومن ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى يعتورها القصور والنقص وتحتاج إلى الإضافة والحذف.
* ... * ... *
التوجيه الإسلامي للعلوم التجريبية
الوحي مصدر أساسي لقانون المعرفة الإسلامية(6/37)
... تجري على ألسنة بعض الباحثين مقولة مضللة هي أن الفكر الإسلامي يختلف مع العلوم الإنسانية والاجتماعية ولكنه لا يختلف مع العلوم التجريبية لأنها علوم تصدر عن أنابيب وأجهزة ومن خلال معامل فهي بذلك غير عرضة للنقد من حيث سيطرة الفلسفة المادية عليها ، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً فإن قاعدة العلوم التجريبية تخضع للفلسفة المادية وتنظر إلى الكون والوجود والحياة على أنها قوى طبيعية قائمة بنفسها وأنه ليس وراءها خالق .
... وهي بهذا تجعل للإنسان حرية السيطرة عليها وتوجيهها والتصرف فيها دون تقدير للحقيقة الغائبة وهو وجود الله تبارك وتعالى وراء هذا الكون يدبره لحظة بلحظة ويحفظه من أن ينهار ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) .
... وليس هناك أخطر في مفهوم العلوم التجريبية من مصطلح الطبيعة الذي يضعه العلماء الماديون بديلاً عن كلمة الله الخالق تبارك وتعالى ، ولا ريب أن موقف علماء التجريب من فكرة الطبيعة وإنكار وجود الخالق تبارك وتعالى تؤثر تأثيراً كثيراً على توجيه العلوم التجريبية وتؤدي إلى حدوث كثير من المحاذير .
... فليس هناك أخطر من الاعتقاد بأن الطبيعة خلقت نفسها وأنها تتحرك بإرادة الإنسان ، وأن الإنسان يمكن أن ينطلق مع سياسة الاستهلاك والتكديس والنهب وتدمير مقومات الأمم وإعلاء شأن الترف والإباحيات على نحو يحول دون إقامة مجتمع العدل والرحمة بين الأمم وبين مقدراتها التي أوجدها الحق تبارك وتعالى لها .
... فالإسلام يخضع الضوابط على مقدرات الأمم حتى لا تدمر من أحل أهواء وشهوات ومطامع الرأسماليين وأصحاب الثروات ولذلك فنحن لا نقبل هذا المفهوم بالنسبة للعلم التجريبي لأنه يتنافى مع مفهوم الإسلام من حيث العدل والرحمة مع الإخاء البشري ، ومن حيث حماية الثروات من التبديد والتدمير والتصرف فيها بحكمة بما يؤدي إلى إسعاد البشرية كلها وليس ليكون حكراً على أمة دون أمة أو جنس دون جنس .(6/38)
... ومن هنا يجب أن نقدم هذا المفهوم الإسلامي في مختلف دراسات العلوم الطبيعية والكيمائية وعلوم الحيوان وغيره ، فقد حفلت الكتب المقررة وخاصة كتابي الفلسفة والمنطق بعقائد وافدة مضللة كانت خطراً شديداً على المجتمعات الإسلامية عندما ترجمت ، وغاية ما تقدمه هذه الدراسات إنكار ما وراء المحسوس والذي يترتب عليه إنكار حقائق الوجود الكبرى وأولها وجود الله تبارك وتعالى فهل يصح في منطق العلم والعقل أن تكون الحواس وحدها هي الحكم في قضية الإيمان بالغيب ؟ وهل يعتبر كل ما يقع تحت الحس غير موجود ؟
... إن الإجابة بمنطق العلم الحديث ( لا ) ، فهناك مثلاً من الأصوات ما لا نسمعه الآن ، وهذا من نعمة الله علينا وإلا كان لضربات القلب ضجيج لا ينقطع عن أسماعنا ، وكوننا لا نحس بها ليس معناه إنها ليست موجودة ، وبالمثل باقي علم الغيب الذي لو قدر وكشف لنا بعضه لصعق الإنسان ، لأن طاقة حواسه لا تقوى على استقباله كما حدث لموسى عليه السلام ، وحتى المادة المحسوسة التي لا يؤمن ملاحدة العصر إلا بها أثبت العلم الحديث أنها ليست إلا طاقة شكلت وفقاً لقوانين معينة فمن الذي وضع تلك القوانين التي تقف خلف هذه الطاقة .
... ويجيب على هذا التساؤل عالم الذرة ( أنشتين ) الذي يعد أعلم علماء الأرض أو الظواهر الكونية حيث يقول يوم أن فرغ من تسجيل نظريته الفذة ( النسبية ) إن العقل البشري حين يتأمل هذا ( الخفاء الكوني ) يدرك أن وراءه حكمة هي أحكم ما تكون الحكمة وجمال أجمل ما يكون الجمال : إنه الله تبارك وتعالى .
... وفي هذا يقول كريس مورسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك : أن المعارف الحديثة التي كشف عنها العلم تجعلنا نعتقد بوجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة .(6/39)
... وبذلك جاء تفجير الذرة محطماً لكل الفلسفات المادية حيث أصبح تحالف حقوق العلم التجريبي الذي أخذ يؤمن بعالم الغيب ووجود الخالق القادر وراء هذا الكون يديره ويدبره وأصبح الفلاسفة الماديون يعرفون هذه الحقيقة ولكنهم سادرون في غيهم يضلون الناس ويسخرون من وجود الله تبارك وتعالى ( من بحث لعلي لبن ) .
* ... * ... *
... وتركز كل المناهج العلمية المقررة في المدارس العربية والإسلامية مفاهيم تتحدث عن الطبيعة وكأنها هي الموجود من غير خالق وهي في مجموعها لا تعكس أي قيمة إسلامية بل على العكس من ذلك فإن الأسلوب العلماني المعادي للإسلام هو الأسلوب المتبع في تدريب رجال العصر ، هذا الأسلوب الذي يبدو واضحاً في كتب العلوم التجريبية يحجب تماماً المبدأ الإسلامي الأساسي للعلم وهو أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق ظواهر الكون كافة .
... فالله تبارك وتعالى هو مصدر الإلهام لكل مسلم ويجب أن يكون تقرير الطفل لعظمة الله وجبروته من خلال مادة العلوم بل يجب أن يكون تقديره لله تبارك وتعالى من خلال الإعداد الجيد الذي يؤدي إلى تقدير قدرة الله ، ولذلك يجب التركيز على مفهوم أساسي وهو أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وخلق الحيوان ، وأن الإنسان يختلف اختلافاً كاملاً عن الحيوان ، كما يتعلم في نفس الوقت ذاته أن الله هو الخالق ومع الأسف فإن الإنسان قد وضع في كتاب العلم مع فصيلة الحيوانات وفقاً لنظرية دارون المعروفة بنظرية التطور .
... ويجب الفصل بين الإنسان والحيوان حتى تعرف المتلقي أن الإنسان يختلف اختلافاً تاماً عن الحيوانات .(6/40)
... وعندما تذكر الأشياء المادية يجب أن تضاف عبارة : ( خلق الله المادة وصنع الإنسان منها الأشياء ) ، كذلك أن توضع قاعدة أساسية هي : ( وهب الله الإنسان القوة ، وهو يستخدمها ليحرك الأشياء ) وقاعدة أخرى هي : ( خلق الله الحيوانات للإنسان ، والحيوانات تنقل الأشياء للإنسان ) ، وعند الحديث عن الرياح والأمطار والسحب يجب أن يتقدم ذلك عبارة ( أن الله هو الذي يسير العالم فالرياح والأمطار والسحب تغير الطقس بأمر ربها )
... ومن الضروري تغيير مناهج العلوم ومعطياتها لتتفق مع روح الإسلام ومتطلباته ، فإذا كان الحديث عن ( البرتوبولازم ) يجب أن يبدأ بالقول بأن الله تبارك وتعالى قد اختار مادة البروتوبولازم لتنقل الحياة بواسطتها فالبرتوبلازم في حد ذاته لا يستطيع أن يمد الكائن بالحياة .
... كما يجب التأكيد على حقيقة أساسية هي : أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان ولم يكن وجود الإنسان نتيجة التطور والارتقاء وأن مجرد إنكار نظرية دارون سوف يحد من أهدافنا ، ويجب على علماء الأحياء المسلمين أن يحاولوا التوصل إلى الأساس الذي يبرز الإنسان باعتباره كائناً متميزاً من الناحية البيولوجية بشكل مختلف عن بقية المخلوقات .
* ... * ... *
... وفي مجال علوم الكيمياء يجب أن نزرع في قلوب المتعلمين الإيمان بالله تبارك وتعالى عن طريق علم الكيمياء ، على أساس أن مشيئة الله تبارك وتعالى هي السبب الحقيقي وراء وجود هذا الكون ، كما أن أوامره هي السبب الأول والأخير لكل هذه الظواهر الطبيعية ، ولا يكفي أن يعلم أولادنا أن الماء مركب كيميائي يتكون من الأوكسجين والهيدروجين ، بل يجب أيضاً أن نعلمهم أن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي أمد هذه العناصر بخصائص مكوناتها حتى تكون ذلك العنصر القيم المعروف باسم الماء وإلا لاحترق الهيدروجين بكل سهولة في وجود الأوكسجين ويعد هذا مثلاً على خضوع المادة لإرادة الله تبارك وتعالى .(6/41)
... والله هو الذي من علينا بالعقل الذي نستعين به في تسخير خواص المادة لما ينفعنا وعلينا أن نوسع آفاق تفكير طلابنا حتى يهتدوا إلى الأسباب الفعلية بدلاً من الأسباب الظاهرة ، فالله تبارك وتعالى سخر كل الأشياء للإنسان وجعلها طوع بنانه يستخدمها بالأسلوب الذي يراه .
... وهذه المادة الكيماوية من العناصر والمركبات والنظائر المشعة بعضها مرئي وبعضها غير مرئي ، ولكنها في خدمة الإنسان سخرها لصالحه وفقاً لمشيئة الله وقدرته فكل عناصر المادة لها من الصفات والخصائص ما خصها الله تبارك وتعالى به من خلال قدراته الخلاقة وبديع صنعه .
* ... * ... *
... هذا المدخل الإسلامي يجب أن يسيطر على العلوم الطبيعية والتجريبية حتى لا يكون هناك تناقض أو تعارض بين مفهوم الإسلام كعقيدة وبين مفاهيم العلوم التجريبية التي أقام صرحها المسلمون ، ثم أدخل عليها الغربيون كثيراً من المفاهيم المادية وخاصة الإدعاء بأزلية المادة والطاقة ثم أزلية الكون وانتقاء الخلق ونسبة كل شئ جهلاً إلى الطبيعة أو رد الخلق ظلماً إلى الصدفة ، بينما احتمالات الصدفة في نشأة الكون معدومة تماماً ، هذا الكون الذي قد وجد بتدبير مسبق وحكمة بالغة كما أنه لا يمكن أن يستمر في وجوده هذه الألوف الملايين من السنين إلا برعاية خالقه .(6/42)
... وكذلك خطأ محاولة تفسير التدرج في عمران الأرض على أنها عملية مادية تلقائية بحتة، ونحن المسلمون نؤمن بأن المعرفة تقوم على ثلاثة محاور : هي العقل والتجريب والوحي أو النص ( النقل ) ، أما المعرفة في الثقافة الغربية فهي قاصرة على المعرفة التجريبية التي تلغي المصادر الأخرى للمعرفة مثل الوحي أو النقل ومن ثم تركزت الجهود بأسلمة العلوم على توضيح مكانة الوحي أو النقل كمصدر للمعرفة وتكاملها مع العقل والتجريب ، ومن هنا فإن أسلمة المعرفة هي إعادة صياغة منهجية ومعرفية للمعارف وقواعدها وقوانينها يمثل الوحي فيها المصدر الأساسي بمعنى إعادة الارتباط بين المعرفة والقيم الإلهية ورد الاعتبار للوحي كمصدر أساسي من مصادر المعرفة وإعادة فهم المعرفة بأنها معطي إلهي للإنسان لتمكنه من تحقيق مهمته في الاستخلاف والعمران ( بتصرف عن محمد عمارة ) .
... وأسلمة المعرفة تبدو ضرورة عالمية تقتضيها عمليات المراجعات لإعادة توظيف العلوم ضمن إطار منهجي معرفي مهتد بهداية الله تبارك وتعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهكذا يتحقق أن ( الوحي مصدر أساسي من مصادر المعرفة ) .
... ويقرر الدكتور زغلول النجار - أستاذ الجيولوجيا - أن التأصيل الإسلامي لكل المعارف العلمية منها والإنسانية يجب أن يبدأ بالعلوم الكونية وتصحيح صياغتها على هدى من معطيات العقيدة الإسلامية بغير تكلف أو انفعال .(6/43)
... وعلى كواهل علماء المسلمين تقع مسؤولية غربلة تلك المعارف بمعايير الإسلام المنضبطة بضوابط الكتاب والسنة وتصفيتها من كل شائبة تتنافى مع معلوم من الإسلام بالضرورة لأن رفض المعارف الحديثة كلية خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية هو رفض لكم هائل من العلم بدونه تتخلف الأمة الإسلامية عن مسايرة العصر علمياً وتقنياً وتقع في مخالفات شرعية جسيمة لأن الأصل في الإسلام ألا تتخلف أمة المسلمين عن أي علم أو فن مفيد تحتاجه الأمة في تنمية قدراتها المادية والمعنوية وفي نهضتها العلمية والتقنية .
... ومن هنا فقد ناديت بضرورة إعادة صياغة المعارف الإنسانية على نور الهدى الإسلامي لأن في ذلك إنصاف للعلم ذاته وللحق كله ، ولأن المعطيات الكلية للعلوم الكونية هي مدخل هائل للإيمان ووسيلة أساسية من وسائل التمكين في الأرض ، ومن هنا لزاماً على الأمة الإسلامية أن تجمع كل المعارف الإنسانية المتاحة ، وأن تبدأ في غربلتها بمعايير إسلامية منضبطة بالكتاب والسنة من غير تعسف ولا افتعال .
... وأرى أن تكون إعادة صياغة المعارف الكونية من المنظور الإسلامي لابد أن تكون الخطوة الأولى في الطريق إلى أسلمة المعرفة ، ثم تأتي بعد ذلك المعارف الإنسانية خاصة في مجال العلوم السلوكية والإدارية ( علم النفس ، علم الاجتماع ، الاقتصاد ، السياسة ... إلخ ) فهذه اختلطت أقوال البشر فيها اختلاطاً كبيراً بغير ضوابط أو سنن كونية واضحة .
... ويحدد الدكتور زغلول النجار قاعدة البحث كله في النقاط التالية :
( 1 ) يتقرر مفهوم العلم المستمد من الإسلام القائم على الإيمان بالله تبارك وتعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر والعمل على تطوير الكتابات العلمية دون إية إشارة تشكك في ذلك من قريب أو بعيد في غير مساس بالمنهج العلمي ذاته أو حجر على العقل البشري في انطلاقه للتعرف على هذا الكون وسنن الله فيه .
((6/44)
2 ) والتأكيد على الإقرار بأن العلم في الإسلام فريضة لأن الإسلام يطالب العقل البشري بالنظر في هذا الكون والتأمل في بديع صنع الله فيه ليتعرف بذلك على خالقه ، وعلى شئ من صفاته كما يستخلص عدداً من السنن الكونية التي تمكنه من القيام بواجب الاستخلاف في الأرض وعمارة الحياة فيها ، والآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
( 3 ) إبراز عظمة الكون وروعة ما فيه من مخلوقات ( من الجماد ، والأحياء ، والطاقات ، والظواهر ) والتأكيد على أن هذا الكون الشاسع الاتساع المحكم البناء الدقيق الحركة لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه ، كما لا يمكن أن يكون قد نتج بمحض الصدفة بل لابد له من موجد عظيم قد أوجده بعلمه وحكمته وقدرته وتدبيره وهو الذي يرعاه بعنايته ورعايته ويكلأه برحمته .
فالاحتمالات الرياضية للصدفة في نشأة الكون معدومة فعلاً مما يجزم بأن الكون الذي نحيا فيه لا يمكن أن يكون قد وجد إلا بتدبير مسبق وحكمة بالغة ، كما أنه لا يمكن أن يستمر في وجوده هذا لآلاف الملايين من السنين إلا برعاية خالقه .
... وكذلك التأكد على أن هذا الكون المتنامي من الاتساع مبني على نفس النظام من أصغر وحداته إلى أكبر مجموعاته ، كما أن مكوناته على تباين أشكالها وهيئاتها يمكن ربما إلى لبنات أربع هي : ( المادة و الطاقة و المكان و الزمان ) .
( 4 ) وقد توصل العلم إلى أن المادة على اختلاف صورها ترد من أصلها إلى غاز الهيدروجين ( أخف العناصر المعروفة ) وأن الطاقة بمختلف أنواعها ( بما في تلك الجاذبية ) لابد أن تلتقي في شكل واحد للطاقة ، كما أثبت العلم أن المادة والطاقة شئ سواء ، وأن المكان والزمان شئ متواصل وبذلك تتحلل مركبات الكون المعلومة لنا إلى شئ واحد لا نعرف كنهه تتساوى فيه المادة والطاقة ويتواصل الزمان والمكان .(6/45)
وهذا الشيء الواحد أن تتحلل إليه مركبات هذا الكون المعلومة لنا يؤكد الوحدة العظمى في هذا الكون كله مما يؤكد وحدة الخالق العظيم سبحانه وتعالى .
( 5 ) كذلك لابد من النص على التأكيد على أن هذا الكون ليس أزلياً فقد كانت له في الأصل بداية يحاول العلم التجريبي حسابها ، كما أنه لا يمكن أن يكون أبدياً فكل ماله بداية لابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية والعلوم الكونية بمختلف شعابها تؤكد على تلك الحقيقة ، ولابد من الإشارة إلى هذا المعنى في معرض المناقشات العلمية كلما لزم الأمر بلا تكلف أو افتعال .
( 6 ) كذلك لابد من التأكيد على أن العلم في جوهره هو محاولة جادة للوصول إلى الحقيقة ، وعلى ذلك فلابد لكل مشتغل به من التسلح بصفات الأمانة والدقة والرغبة السابقة في التوصل إلى معرفة الحق ، وكذلك لابد من التأكيد على أن البحث العلمي المتميز بالإخلاص والتجرد هو نوع من الجهاد الذي يؤجر عليه الإنسان ، وأن المنهج العلمي هو أسلوب في العمل والتفكير يوصل كل من يتبعه بصدق إلى قدر من المعرفة وهو مجال يتنافس فيه المتنافسون .
( 7 ) وإبراز أن العلم في منظوره الحالي لا يتعدى كونه محاولة بشرية لتفسير الظواهر الكونية المحيطة بالإنسان والاستفادة منها في عمارة الأرض ، وعلى ذلك فليس في مقدور الإنسان أن يصل إلى جوهر الأشياء لأنه لا يستطيع أن يضيف سوى مظهرها الخارجي واطراد تأثيرها ، ومن هنا فلا يمكن للاستنتاجات العلمية أن تمثل الحقيقة المطلقة ذلك لأن العلم البشري محكوم بحدود إمكانات الإنسان وإمكانات حواسه وعقله كما أنه محكوم بخلفية الإنسان الفكرية وأحاسيسه وعواطفه .
... ذلك أن استنتاجات الإنسان العلمية محدودة كذلك بوضعه على كوكب الأرض في فترة زمنية محدودة ومكان محدود وعلى ذلك فإن استنتاجاته كلها محدودة ومكان محدد وعلى ذلك فإن استنتاجاته كلها محدودة بنسبة الزمان والمكان وبحدود حسه وعقله .
((6/46)
8 ) ويؤكد مفهوم الإسلام للعلم على أخلاقية العلوم ، فقد حدد القرآن والسنة المطهرة للمسلمين الأسس الكلية في مجال العلوم السلوكية والإدارية لأنها تقوم في الأصل على قاعدة أخلاقية ثابتة ، والأخلاق لا يمكن أن تكون صناعة بشرية لأنها من صلب الدين والإنسان محتاج فيها إلى بيان كامل من الله تبارك وتعالى مثلها في ذلك مثل العقيدة والعبادة والمعاملات ، ويتحتم التأكيد على قيمة العلم في الإسلام والإقرار بأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة لأن الإسلام يطالب العقل البشري بالنظر في الكون الشاسع الاتساع ، المحكم البناء ، الدقيق الحركة لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه ، كما لا يمكن أن يكون قد نتج بمحض الصدفة بل لا بد له من موجد عظيم قد أوجده بعلمه وحكمته وقدرته وتدبره ، وهو الذي يرعاه بعنايته ورعايته ويكلأه برحمته فالاحتمالات الرياضية لصدفة في نشأة الكون معدومة فعلاً ، فلا يجزم بأن الكون الذي نحيا فيه لا يمكن أن يكون فد وجد إلا بتدبير مسبق وحكمة بالغة ، كما أنه لا يمكن يستمر وجوده إلا برعاية خالقه .
* ... * ... *
... هذا التأصيل الواضح لأسلمة العلوم التجريبية أساساً يقوم كما يقرره الدكتور زغلول النجار على أساس ثابت واضح هو : أن الإسلام هو رسالة السماء إلى الأرض منذ أن وجد الإنسان وإلى أن تقوم الساعة وعلى أن القرآن هو آخر الكتب السماوية التي أنزلها ربنا تبارك وتعالى لهداية الإنسان ، وأنه الكتاب الوحيد من بينها الذي لم يتعرض إلى أدنى قدر من التحريف أو التزييف أو التغيير ، وعلى أنه هو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو في الأصل كتاب هداية لا أن يحوي عدداً كبيراً من الإشارات إلى أشياء هذا الكون في مقام الاستدلال على قدرة الله ومحاجة المفكرين والكافرين والجاحدين ، ولكن هذه الإشارات وردت صياغتها بدقة علمية بالغة وإحكام شديد يذهل له علماء اليوم في مختلف المجالات .(6/47)
... وإن من واجب العلماء اليوم استخلاص هذه الإشارات العلمية والاستفادة بها لموقع على طريق الحق ونقطة بداية من الخالق سبحانه وتعالى للبحث وشهادة على صدق نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى أن القرآن كلام الله وأنه مغاير لكل كلام البشر .
والتأكيد على أن العقل البشري يمثل إحدى أعظم النعم التي منّ الله تبارك وتعالى بها على الإنسان ، وأنه من قبيل الشكر لله على هذه النعمة استخدمها إلى أقصى حدود إمكاناتها في تجرد وأمانة وصدق وإخلاص .
... وعلى علماء المسلمين إبراز الاستنتاجات العلمية ذات المغزى الأهم بالنسبة للإنسان خاصة ما يؤكد فيها على وجود الخالق سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته وتفرده بالسلطة في الكون وعلى حقيقة الأخوة وإمكانية الوحي السماوي بل ضرورة كل ذلك والتأكيد على أن الإنسان محصى عليه كل عمل يأتيه مسجلة عليه كل كلمة ينطق بها .
... كذلك يجب إبراز إسهامات علماء المسلمين في مختلف مجالات المعرفة عبر العصور ، وكيف أنهم قاموا في صدر الإسلام بجمع تراث الإنسانية من كل الحضارات السابقة وغربلوه بمعيار الإسلام وأضافوا إليه إضافات أصيلة ومنطلقة من إيمانهم العميق بالله تبارك وتعالى وفهمهم الدقيق لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - .
... وأخيراً التأكيد على أن القرآن الكريم يحمل الإنسان مسؤولية حواسه وعقله ، ويأمر باستخدامها جميعاً من البحث عن الحق ، وينهي عن الغفلة ويحارب الجمود على الآراء الخاطئة الموروثة ويحرم الحكم بالظن والهوى وينشر العلم اليقيني ولذلك يطالب دوماً بالبرهان ويأمر بتأسيس الأحكام على الدليل العقلي الذي لا يقبل النقض ، وهو في ذلك واضع المنهج العلمي التجريبي ومؤسس الأخلاق العلمية الفاضلة (أ.هـ) .(6/48)
الجزء السادس
المؤامرة على الإسلام
المؤامرة على الإسلام
( 1 ) هذه جذور المؤامرة .
( 2 ) كرومر ودنلوب وزويمر رسموا المؤامرة .
( 3 ) هدم الأصالة الإسلامية .
( 4 ) فلتردد هذه السهام إلى صدور أصحابها .
( 5 ) ما موقف المسلمين اليوم ؟.
( 6 ) كيف نفهم مهمتنا في مواجهة الأخطار التي تحاصرنا؟.
جذور المؤامرة
هذه هي جذور المؤامرة
... إن تنامي التيار المعادي للأديان والمغلف بالعداء الحقيقي للإسلام وتوسعه واقتحامه جميع مجالات الثقافة والصحافة والمسرح وأدوات الترفيه والإعلام على نحو واضح يتمثل من وراء كل القصص والمسلسلات والحوار وألفاظ الغناء والرقص الجماعي يوحي بأن هناك مؤامرة خطيرة تستهدف استقطاب الشباب المسلم في كل مكان واحتوائه ، فليس أقرب إلى السيطرة على الشباب من الدعوات التي تعمل على نشر (الإباحية ) بتوسيع دائرة اختلاط الجنسين عن طريق الأندية والرحلات والحفلات الساهرة التي تقام هنا وهناك عن طريق بعض الجمعيات ذات الطابع الثقافي والتي تفرد لها الصحافة مكاناً واسعاً .
... ذلك أن هدف هذا التيار القضاء على التحرر من الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى وإقامة مفهوم العلمانية الذي يتمثل في فصل الدين عن الدولة وعن التعليم وعن الاقتصاد وعن القانون .(7/1)
... ولا ريب أن هذا التيار ليس جديداً وليس اعتباطي الوجهة أو الهدف ، ولكنه عمل منظم منذ قرون باسم ( عصر التنوير ) الذي يعني في وضوح وصراحة : عصر الإلحاد ، ولما كانت التجربة التي تقوم بها قوى معروفة ذات نفوذ وسلطان في مجال الدول والأمم ، قد نجحت في الغرب وحطمت وحدة الفكر المسيحي الأوربي ومزقته وأعلت من شأن الفلسفة المادية ، وعزلت مفاهيم الدين تحت اسم اللاهوت في دور العبادة وحدها ، فقد ظنت هذه القوى أنها قادرة على تطبيق التجربة في العالم الإسلامي ظناً بأن الإسلام لا يزيد عن أن يكون ديناً لاهوتياً من السهل فصله عن المجتمع وعن واقع الحياة خاصة وقد مهدت حلقات الاستعمار المتصلة منذ مائة عام وأكثر على عزل المجتمع تماماً عن الشريعة الإسلامية وخاصة في مجالات ثلاثة هي : ( المدرسة - المصرف - المحكمة ) وقد توالت حلقات التجربة التي قام عليها كرومر ، دنلوب ، زويمر في طريقها إلى تحقيق خطوات واسعة كان أبرزها إسقاط الخلافة والدعوة إلى القوميات والإقليميات ، وطرح مفهوم الاستعمار الغربي بالعنصر والدم على الأمم الإسلامية المتخلفة ، وتوالت الدعوات التي بدأت بفكرة حيوانية الإنسان استمداداً من نظرية دارون ، فالناس في نظرهم حيوانات ، ومنها نشأت نظريات النقد الأدبي وعلم النفس والأخلاق والاجتماع ، ومن ناحية أخرى تعالت الدعوة إلى نظرية الدين البشري ( الهومنيزم ) والهجوم على اللغة العربية ونشر العاميات ، ومضت في طريقها إلى الدعوة إلى تحطيم القيم الإسلامية على النحو الذي صوره أحدهم بقوله : ( نريد أن نخلق الناس الذين لا يخجلون من أعضائهم التناسلية ) ومن هنا بدأت الكتابة للأطفال لهدم مقوماتهم الخلقية والدينية ، وقد صدق أوسكار ليفي حين قال : إن هذه الفلسفة الماسونية وضعت لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ونشر الفساد والفوضى وتحليل الحرام وتحريم الحلال وإفساد الشباب والنساء ، والدأب على عمل موصول لهيمنة اليهود(7/2)
على العالم .
... هذا هو المنطلق الحقيقي للمؤامرة التي تخفت الآن وراء المسرح والثقافة والصحافة ومناهج الدراسة الجامعية حيث يرتبط البناء الفلسفي والفكري للماسونية بالبناء الفلسفي والفكري اليهودي الوضعي من عام 1717م حيث كانت بريطانيا نقطة أنطلاق المحافل الماسونية إلى جميع قارات العالم في العصور الوسطى ، ثم شاركت فرنسا في القيام بهذا الدور ويرجع دخولها إلى البلاد العربية إلى القرن التاسع عشر وإلى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر ، وتمتد فروع الفكر الماسوني إلى الفكر الوجودي الشيوعي ، العدمي ، الإلحادي ، العلماني ، حيث كانت الموسوعة والثورة الفرنسية وعصر التنوير هي الخطوة الأولى ، وهدف الفكر الماسوني في جملته تدمير الإنسانية ، أما المفاهيم فهي مأخوذة من العهد القديم والتلمود والقبالة وبروتوكولات حكماء صهيون من حيث الدعوة إلى العقيدة الجامعة التي يوافق علمها كل البشر ( حيث إن الأديان تفرق ) واستلهام شئ يقال له مهندس الكون الأعظم على طريق الكفر بكل حقيقة مقدسة والحرب على الأديان ، ومن هنا كانت الماركسية واللاقومية وليدتا الماسونية لأن مؤسسها كارل ماركس وإنجلز هما من ماسوني الدرجة الحادية والثلاثين ، وأبرز أهدافها العامة هي :
( 1 ) الحط من شأن علماء ورجال الدين والإساءة إلى معتقداتهم ومحاولة تشويشها .
( 2 ) زعزعة صفوف المسلمين وتحريف تعاليمهم وقد نجحوا في تحقيق أكبر هدف وهو تقويض الخلافة الإسلامية وعزلوا السلطان عبد الحميد الذي رفض أن يبيع فلسطين لليهود فخسر عرشه .
( 3 ) نشر التسامح الديني حتى يخفف هذا من حدة الكراهة الإنسانية لليهود ، فليس التسامح الديني في حقيقته التي يتشدقون بها إلا قناعاً يحاولون به خداع غير اليهود .
((7/3)
4 ) إطلاق الغرائز ونشر فوضى الجنس وتمزيق العفة شر تمزيق وتحبيب المنكر إلى النفس . ( و مما ذكره جرجي زيدان : لو أنك دخلت بيتا فوجدت رجلاً في فراشك فماذا تعمل - لكي تكون ماسونياً تتسامح )
( 5 ) فرض الأمر الواقع والاستسلام لما هو كائن من تحكم اليهود وسيطرتهم والبعد عن التنوير بممارساتهم العدوانية وأعمالهم الوحشية .
( 6 ) تهيئة المناخ السياسي لسيطرة القرار السياسي العالمي وتقبل القوى المختلفة له .
( 7 ) السيطرة على رأس المال والتحكم فيه .
( 8 ) التحكم في وسائل الإعلام المختلفة ( صحافة ، وإذاعة ومرئية ودور نشر ) والقضاء على الدين والأخلاق .
( 9 ) إزالة الولاء الديني والتعقيد المذهبي لجمع الأسرة الإنسانية على مذهب واحد تزول فيه الخلافات المذهبية ، ( وهذا ما تقوم به الآن هيئة اليونسكو ) لإلغاء التميز الخاص للأمم والذاتية المتميزة لكل أمة .
( 10 ) نسخ فريضة الجهاد والعمل على توهين القوى الإسلامية حتى تستمد عونها من الخارج ، وخلق أجيال تعمل على تحقيق أهدافهم .
( 11 ) طرح مفهوم الشك الفلسفي لإشاعة روح الانتقاد والهجوم على القرآن بوصفه كتاباً أدبياً شأنه شأن التوراة وغيرها .
* ... * ... *
... المحاولة كلها ترمي إلى تثبيت دعائم وضع غير شرعي جرى بنائه خلال أكثر من مائة عام بكل وسائل التضليل والإغراء والمفاهيم الزائفة ، غير أن هذه المفاهيم التي تكشفت خلفياتها ومصادرها لما كانت تختلف مع الفطرة والعلم والدين الحق ، فقد كان لابد أن تتهاوى وتسقط ومن هنا أنهم في الحقيقة يدافعون عن وجود منهار وكيان باطل تهدم ، عن أي تسأل اليوم ؟ عن الوجودية ، عن البهائية ، عن العلمانية ، عن الفكر الحر ، عن الفكر الباطني ، عن الحداثة ، عن السريالية ، عن التطور ، عن كفكا ويونسكو وبيكاسو ، عن فكر صهيوني ، وفكر شيوعي امتزجا وهما من أصل واحد ، الإجابة واحدة .
كرومر ودنلوب وزويمر
( رسموا المؤامرة ضد الإسلام )(7/4)
... على الشباب المسلم أن يتعرف عل أصول المؤامرة التي رسمها النفوذ الأجنبي ضد الإسلام ، بعد أن فشلت الحروب الصليبية التي شنها الغرب خلال أكثر من ثمانية قرون ، وتأكد للغرب عن عجز الغزو العسكري في تدمير الوجود الإسلامي ، انطلاقا من مفهوم الإسلام عن فريضة الجهاد الماضية إلى يوم القيامة والتي يحتشد لها المسلمون بالأجساد للوقوف في وجه الغزو ، ومن هنا نبتت فكرة ( حرب الكلمة ) التي دعا إليها لويس التاسع والتي بدأت بمخطط التبشير والاستشراق عن طريق تزييف مفاهيم الإسلام واحتوائه وإخراجه من جوهره الأصيل عن طريق الانقلاب الفكري والسيطرة على الثقافة والتعليم واستغلال ضعف المرضى والضعفاء بإغرائهم بالخروج من الإسلام على النحو الذي قامت عليه مخططات التبشير الذي هو في حقيقته ( التنصير ) ، ولقد جاءت الجولة الاستعمارية بعد الحملة الفرنسية وسيطرة الاستعمار البريطاني والفرنسي على الوطن العربي قام مخطط التغريب الذي كان أبرز نجومه وأبطاله في المشرق : الدهاقين الثلاثه كرومر ودنلوب وزويمر .
( 1 ) أما كرومر :
... فقد كان حاكم مصر الفعلي خلال أكثر من خمسة وعشرين عاماً أعلن خلالها أنه لن يسلم مصر إلا إلى الطبقة المغربة من المتفرنجين الذين شكلهم التعليم الذي أقامه الاستعمار الغربي في مصر امتداداً للتعليم الذي أقامته الإرساليات التبشيرية في ثلاث عواصم كبرى : استنبول ( تركيا ) ، بيروت ( لبنان ) ، القاهرة ( مصر ) ، وكان التبشير الذي سبق حملات الاستعمار هو الذي رسم مخططات التربية والتعليم والثقافة ، التي جاء التعليم الوطني فأقام قواعده على أساسها على النحو الذي أقامه ( دنلوب ) في مصر ، وقد أوفى كرومر بوعده وتمكن من السيطرة الثقافية على مصر ، ولم يترك مصر إلا بعد أن سيطر أتباعه على الفكر والثقافة والتعليم ( سعد زغلول : المعارف )، ( لطفي السيد : الصحافة ) ، ( عبد العزيز فهمي : القضاء ) .(7/5)
... وأخطر أعمال كرومر هو أنه وضع هذا المخطط التغريبي الذي مازال معمولاً به حتى اليوم ، وأنه أرسى هذه الشبهات حول الإسلام والقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - التي مازال يرددها المستشرقون ، ثم حمل أمانتها دعاة التغريب من بعد ذلك .
... ومما يؤثر عنه قوله : إن الساعين لإرجاع مجد الإسلام يحاولون أن يحييوا في القرن العشرين المبادئ التي تكونت قبل أكثر من ألف سنة لقيادة أمة بدوية في حالة الفطرة ، وأن من تلك المبادئ ما يخالف الفكر العصري ويناقضه من إباحية الاسترقاق وما جاء عن العلاقات بين الجنسين وقد دحض آرائه كثير من الباحثين ولكنه استطاع تكوين جيل يحمل هذه الآراء وأهم ما دعا إليه كرومر :
( 1 ) القضاء على الإسلام دينا ودولة .
( 2 ) القضاء على الوحدة الإسلامية
وقد وضع ( لطفي السيد ) على رأس صحيفة الجريدة لسان حال حزب الأمة الموالي للاستعمار منذ عام 1907م ليبث يومياً فلسفة استعمارية إقليمية تمثل المنهج الغربي الاستعماري الذي ورثناه خلال فترة الاحتلال البريطاني كله والذي ما تزال آثاره ممتدة إلى اليوم بالرغم من كل محاولات التحرير والإصلاح .
... كما وضع ( سعد زغلول ) على رأس نظارة المعارف تأكيداً للمعاني التي حرص النفوذ البريطاني على تحقيقها من خلال التربية والتعليم وأهمها فرض اللغة الإنجليزية على مختلف مناهج التعليم ، ورفع مناهج القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي ، والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية الإسلامية من المناهج .
... وكان كرومر حفياً بتكوين جيل يرث الاحتلال البريطاني ويكون من متفرنجة المصريين الذين يؤمنون بصداقة بريطانيا ويوالون النظريات الغربية في مختلف مجالات الاجتماع والسياسة ، وقد تحقق هذا فعلاً وتحققت ثمرته بعد الحرب العالمية الأولى وكان أعظم ثمار هذا المنهج ( طه حسين ) الذي غرب التربية والتعليم والثقافة جميعاً بسيطرته عليها أكثر من خمسين عاماً .(7/6)
... ويقول كرومر في أحد تقاريره عن التعليم : لا أعتقد أن التعليم الذي يلقن في المدارس يجعل المصريين أكثر كفاءة للحكم الذاتي ما لم يقرن ذلك ببعض الانقلاب والتغير في أخلاق الأمة وسجاياها ، وهذا الأمر لابد أن يكون السير فيه بطيئاً على أن ذلك ليس النقطة التي يجب أن نهتم بها في الوقت الحاضر ، فإني أود فقط أن أبحث أمر نفقات التعليم وأبين عدم الحكمة في اتباع سياسة واسعة فقد تقضي بفرض الضرائب التعليمية وأوصى بإلغاء التعليم المجاني وازدياد أجرة التعليم في المدارس المتفرنجة ( العصرية ) وليس ذلك مضراً بمصلحة البلاد وأن العلاج الشافي للطلبة الفقراء هو فرض مصاريف ؟ !! .
... ومن يطالع تقارير كرومر السنوية يصل إلى وجود خطة عمل كاملة للقضاء على مقومات الفكر الإسلامي وتمزيق وحدة العالم الإسلامي ومقاومة القيم والمفاهيم العربية الإسلامية ، ويعد عمله هذا دستوراً جرت عليه منظمات التبشير ، ومعاهد الإرساليات من أجل تأكيد النفوذ الأجنبي عن طريق الفكر ، وقد تبلورت حملات كرومر في نقاط هامة قليلة :
( 1 ) إثارة الشبهات حول الإسلام وذلك بالادعاء بأنه مناف للمدنية ولم يكن صالحاً إلا للبيئة والزمن الذي وجد فيهما .
( 2 ) أن المسلمين لا يمكن أن يرقوا في سلم الحضارة والتمدن إلا إذا تركوا دينهم ونبذوا القرآن وأوامره ظهرياً لأنه يأمرهم بالخمول والتعصب ويبث فيهم روح البغض لمن يخالفهم والشقاق وحب الانتقام وأنه المناع الأعظم والعظمة الكؤود في سبيل رقي الأمة .
( 3 ) إن الإسلام يناقض مدنية هذا العصر من حيث المرأة والرقيق وأن الإسلام يجعل المرأة في مركز منحط .
( 4 ) الطعن في شريعة الإسلام وسياسته ومعاملاته .
((7/7)
5 ) أن الشباب المصري المسلم أثناء ممارسته التعليم الأوربي يفقد إسلامه أو أفضل قسم منه ويقطع حبل المرساة التي يربطه بمرفأ إيمانه ، وأن الشباب الذين يتلقون علومهم في أوربا يفقدون صلتهم الروحية بوطنهم ولا يستطيعون الالتجاء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافية ، فيتأرجحون في الوسط ويتحولون إلى مخلوقات شاذة ممزقة نفسياً .
( 6 ) هاجم القرآن وقال أنه ينافي العمران ، وهاجم الإسلام لأنه أباح الطلاق وأنه حرم الربا والخمر .
( 7 ) قال إن الإسلام خال من التسامح ويغلب عليه التعصب وأنه يغرس في العقول والانتقام والكره اللذان يجب أن يكون أساساً للعلاقات بين الرجل والمرأة بدلاً من المحبة والإحسان .
( 8 ) دعا إلى إطلاق الحرية للمرسلين والمبشرين في مصر والسودان وأن ينشؤا مدارسهم .
( 9 ) دعا إلى خلق طبقة من المتفرنجين المستغربين ، وقال إن هؤلاء جديرون بكل تنشيط ومعاونة وقال إن هؤلاء هم حلفاء الأوربي المصلح ومساعدوه وسوف يجد محبو الوطنية المصرية أحسن أمل في ترقي أتباع الشيخ محمد عبده للحصول على مصر مستقلة بالتدريج .
وهذه النصوص المنقولة من تقارير كرومر وكتابه ( مصر الحديثة ) تمثل جماع ما دعا إليه المبشرون والمستشرقون والشعوبيون وما يزالون يدعون إليه حتى الآن وهي مجموعة من الأكاذيب المنبعثة من التعصب والحقد والاستعلاء الأوربي والبريطاني وذلك في سبيل القضاء على معوقات الأمة الإسلامية وقيم فكرها بعد أن تأكد الاستعمار والنفوذ الأجنبي من أن هذه المعوقات هي مصدر القوة في الأمة الإسلامية لمقاومة كل ضغط أجنبي ، وقد استهدفت هذه الحملة أساساً قتل روح المقاومة وخلق روح تدعو إلى تقبل الاستعمار والرضى به والاستسلام له ، وقد رد على كتابات كرومر وشبهاته الكثير من دعاة اليقظة وفي مقدمتهم رشيد رضا وفريد وجدي ومصطفى الغلاييني وسفهوا أدائه .
* ... * ... *
( 2 ) وكان من أخطر أعمال دنلوب :(7/8)
... تمكين القس دنلوب من قيادة التعليم والتربية وتغريبهم وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية ، إيماناً منهم بأن القضاء على التعليم هو مصدر تأكيد مخطط الغزو ، وهي جوهر هدف الاستعمار الأساسي فإن خلق طبقة من المتفرنجة الذين ينكرون الدين والخلق معاً ( الإلحاد والإباحية ) هو عمل أساسي فعلى هؤلاء يعتمد الاستعمار مستفيداً في تنفيذ مخططه وتكوين ركائزه التي يعتمد عليها بعد جلاء قواته المحتلة ، وقد قام دنلوب بدور كبير في هدم مقومات الفكر الإسلامي وتدين له كل الحركات المناهضة للإسلام منذ ذلك اليوم إلى اليوم وما بعده ، بالأثر الحقيقي الذي لم يمح بعد من مناهج التعليم في مختلف أنحاء البلاد العربية .
... وكان أهم ما عمل له دنلوب : نزع اعتقاد الشباب المسلم في القرآن الكريم ومن دعاواه ( متى نواري القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة ) .
... جاء دنلوب إلى مصر مبشراً 1860م واستطاع بذكائه أن يسيطر على وزارة المعارف ، وأن يفرض مفاهيم الاستعمار على مناهج التعليم ، وأن يمهد للدور الذي جاء بعده : دور نفوذ مدرسة ديوي في التربية التي حمل لوائها إسماعيل القباني وطه حسين ، وكان من أبرز أعمال دنلوب :
أولاً : العمل على محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر ( ولذلك عمل على اضطهاد معلمي اللغة العربية من الأزهر ) .(7/9)
ثانياً : نشر لواء اللغة الإنجليزية وتأهيلها للسيطرة الكاملة على كل شئون التعليم وبذلك أمكنه القضاء على نفوذ اللغة العربية ، ولقد مضى في ذلك إلى حد أنه جعل تعليم سائر العلوم كالرياضيات والتاريخ والكيمياء والجغرافيا والرسم باللغة الإنجليزية وضيق على اللغة العربية تضيقاً شديداً ، وكان يستقدم أكثر المدرسين الإنجليز كراهية للإسلام واللغة العربية ، وكان محرماً على كل أستاذ مصري أن يتحدث عن تاريخ مصر أو تاريخ الإسلام وكل ما يمكن أن يقال إنها بلد زراعي ، وإنها ظلت محتلة طوال تاريخها بالفرس والرومان والأتراك والعرب وأنها لن تحكم نفسها أبداً .
ثالثاً : حرص دنلوب بتوجيه من كرومر العمل على وقف انتشار التعليم العالمي وأن هدفهم هو إعداد طبقة الأفندية الذين يتولون الوظائف الإدارية في الحكومة .
رابعاً : تشجيع انتشار المدارس الأجنبية وفق غايات سياسية تسير في نفس الاتجاه الاستعماري وهو تحطيم كيان الأمة وإفساد معنوياتها .
... وقد ألغى ( دنلوب ) جميع الكتب والمقررات الإسلامية حول العقيدة أو التاريخ الإسلامي من المناهج وركز على عظمة الغرب وتاريخ أوربا وظل خلفاء دنلوب في المحافظة على هذه الخطة فلما رفعت وضعت بديلاً منها خطة إعلاء التاريخ الإقليمي لكل قطر حتى لا تتكامل الأمة الإسلامية .
... وكان حرص دنلوب أن تخلق المناهج ولاء أوربي في النفس المصرية والعربية يستهدف احتقار القيم الإسلامية ويؤمن بأن المصري والعربي كان طوال حياته مستعبداً بالفرس واليونان ، وكان التركيز على التوسع في الفكر الغربي والأدب الإنجليزي بالتراث بهدف خلق طاقة إعجاب وتقدير للمستعمر وإعلاء شأن الحضارة الغربية والنظر إلى الأوربيين على أنهم محدثي الشعوب المتأخرة .(7/10)
... وكان أخطر أعمال دنلوب ( إنهاء ) دور الأزهر الشريف حصن اللغة العربية فعملوا على تطبيق سياسة مضادة بإنشاء مؤسسات غير الأزهر لإبعاد الجيل الجديد عموماً عن ثقافتنا الإسلامية ( هي الجامعة المصرية ) وكانت وزارة المعارف في عهده بمثابة معهد يعد الطلاب بعيداً عن البيئة الإسلامية وقد امتد هذا العمل في بلاد عربية كثيرة وخاصة في العراق والشام والمغرب .
... وهكذا كان ( دنلوب ) هو أداة النفوذ الأجنبي في تغيير مناهج التعليم المصري - والعربي من بعد - ونقله من أسلوبه الإسلامي إلى الأسلوب العلماني الذي ما زال سارياً حتى الآن ، وقد أشار دنلوب إلى اللغة العربية في حديث له مع جريدة الأهرام في سبتمبر 1901م مقال أنها فقيرة لم يدون بها علم من العلوم الحديثة فأوقفت التلاميذ عند حد الحاجة فقط فهم يتلقون بها العلوم الأولية التي تؤهلهم لفهم الكتب العربية أما العلوم الحديثة فلا واسطة لها إلا إتقان لغة أجنبية .
... وقال المعلق : نراه يهددنا ليبقى بيننا طويلاً ليذهب ببقية لغتنا فلا يعود يحقق قلب مصر . وقد واجهت مصر الحملة على اللغة العربية ودفاع سعد زغلول عن تدريس العلوم باللغة الإنجليزية بعاصفة عنيفة ردت الإنجليز على أعقابهم .
( 3 ) أما ( زويمر ) :
... فقد اختص بالتبشير ، جاء في أوائل القرن الميلادي فكان أجرأ المبشرين وأخطر الدعاة المقاومين للإسلام ، والرجل الذي استطاع أن يقتحم الأزهر ويوزع منشوره المعروف تحت عنوان ( ارجع إلى القبلة القديمة ) .
ولم يكن أحد يعرف أن له ولاء صهيوني وأن هذا العنوان يكشف ذلك إلا منذ سنوات قليلة عندما تكشف ولاءه اليهودي وقد رأس زويمر عديداً من مؤتمرات التبشير العالمية التي عقدت في القاهرة ولكهنؤ ( الهند ) والقدس وأدلى فيها بتقارير ضافية عن الخطوات التي حققها محاولته في ( تنصير المسلمين ) .(7/11)
... قدم إلى البحرين أول الأمر ، وانتقل منها إلى الإحساء وتردد بينهما وكان يلقب نفسه باسم ( ضيف الله ) فتح أول مرة حانوتاً في السوق لبيع الكتب المختلفة ، ثم تخصص بالتدريج في بيع الكتب التي تفرق بين الأديان ، ثم لم يلبث أن أسس مدرسة ومستشفى صغيراً للتبشير ، ثم استقدم عدداً من المراسلين والدعاة إلى البحرين من رجال ونساء أمريكيات ولكنه طرد من البحرين شر طرده .
... ولقد كشف زويمر في أخطر مؤتمراته عن فشل التبشير خلال ربع قرن وتراجع عن دعوته فقال أنه لا يدعو مغامرة لإدخال المسلم في المسيحية وإنما يدعو إلى إخراجه من الإسلام لقول " لقد صرفنا من الوقت شيئاً كثيراً وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة وألفنا ما استطعنا أن نؤلف وخطبنا ومع ذلك كله فإننا لم ننل من الإسلام إلا عاشقاً بنى دينه الجديد على أساس الهوى فالذي نحاوله من نقل المسلمين من دينهم هو باللعب أشبه منه بالجد ، وقال : وعندي أننا يجب أن نعمل حتى يصبح المسلمون غير مسلمين ، إن عملية الهدم أسهل من عملية البناء ، في كل شئ إلا في موضوعنا هذا ، لأن هدم الإسلام في نفس المسلم معناه هدم الدين على العموم " وقد دعا زويمر إلى توسيع نطاق التعليم التبشيري تحت أسماء أخرى لخداع المسلمين ودعا إلى توحيد هيئات التبشير ، وبالجملة فإن كل ما خططه زويمر ما يزال العمل به الآن من وراء مناهج التعليم والتربية والثقافة في مختلف البلاد العربية والإسلامية .
هدم الأصالة الإسلامية
مؤامرة جديدة لهدم الأصالة الإسلامية(7/12)
... إن مؤامرة الغرب كلها تركز على تفسير الإسلام تفسيراً يخرجه عن طبيعته القائمة على التوحيد والعبودية لله وحده وعلى العزة والقوة والمرابطة ويجعله هيناً مطواعاً للاستجداء والاستغراب حتى يستنوق الحمل ويقبل مفاهيم الغرب ومضامينه تحت اسم التجديد والعصرية والحداثة ، وبذلك يفقد عروته الوثقى ويخرج عن طبيعته الأصلية ، فتهمد حركة وينضو عنه لبسته الربانية التي شرفه الله بها وميزه بها عن كل عقائد الأمم ومفاهيمها وقيمها ، فيصبح الإسلام ديناً ( لاهوتياً ) قاصراً على العلاقة بين الإنسان والله تبارك وتعالى ويسقط تميزه الخاص بأنه جامع بين العلاقتين - مع الله ومع المجتمع .
... إن هذا الجزء الخاص بعلاقة المسلم بالمجتمع هو التحدي الخطير الذي يواجه الحضارة المعاصرة والعالم كله اليوم ، وهو موضع الخطر الذي يتهدد المجتمعات المنهارة ، وكل مخططات الاستشراق والتبشير والغزو الفكري والتغريب وكل مؤامرات الدعوات الهدامة وكل ما ترسمه قوى الغرب والماركسية والصهيونية يتركز حول هذه الخاصية التي ظن الغرب أنه استطاع حجبها وتزييفها والقضاء عليها في النفس المسلمة بقبول مناهج الغرب الاجتماعية والاقتصادية .
... إن الخطر كله حول الإسلام يتركز في هذه النقطة التي انبثق عنها في علاقة الغرب بالدين نظرية العلمانية ، وفصل الدين عن المجتمع ، ولكن الغرب حين صارع مفهوم الدين الغربي كان يواجه مفهوماً آخر مختلفاً وديناً آخر غير الإسلام ، ولا يمكن أن يطبق ما حدث في الغرب من جهاد بين الغرب وعقيدته ، على الإسلام الذي يختلف أساساً وفي عمق شديد ، عن مفهوم اللاهوت الذي يتمثل في أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله ، من حقه أن يظهرها أو يحتفظ بها ولكنها لا دخل لها مطلقاً في شئون المجتمع أو التربية أو الاقتصاد أو السياسة .(7/13)
... ذلك أن الإسلام أقام منهج بناء الفرد والمجتمع من نقطة البدء إلى نقطة النهاية في كل تصرفاته وأعماله وحركته وذلك هو الجانب الذي حاربه الغرب منذ استعمر عالم الإسلام وعمل على أمرين : إما حجبه نهائياً أو تزييفه وتفريغه من محتواه ، وهو ما فرضه النفوذ الغربي على الأمة الإسلامية خلال أكثر من مائة عام من خلال سيطرته على مناهج التعليم والتربية والسياسة والاقتصاد والمصرف والمحكمة والمدرسة والصحافة والثقافة .
... وهذا هو وجه الخطر الذي يحس به الغرب اليوم ، حين يرى أن مؤامراته هذه التي غذاها قرناً كاملاً قد انكشفت ووضح زيفها وفسادها ، وكيف أعرض عنها المسلمون تماماً وهم لم يقبلوها أصلاً حين فرضت عليهم وقد أحسوا بعد أن بلغت به الأمور غايتها في الهزيمة والنكبة والنكسة .
... إن الطريق الذي يسيرون فيه وهواه إليها العلمانيون والمغربون هذا الطريق لا يؤدي ، ومن هنا كانت يقظتهم وكانت صحوتهم من بعد ، واليوم يحاول النفوذ الغربي أن يحتوي هذه الوجهة ، ويتآمر حول تزييف المفاهيم من خلال الدعوة إلى عدة بدائل ضالة كاذبة :
* البديل الأول الذي يدعو إليه زكي نجيب محمود هو الجمع بين تراث الإسلام وثقافة العصر ، وذلك في خداع جديد يراد به إغراق تراث الإسلام في مفهوم القديم والجامد.
* البديل الثاني الذي يدعو إليه أدونيس وعابد الجابري وهو إحياء التراث الباطني والتصوف الفلسفي مما يطلق عنه اسم العرفان وهو تراث القرامطة ورسائل أخوان الصفا .
* البديل الثالث الذي يدعو إليه طه حسين ومن تابعه أمثال عاطف العراقي وهو إحياء التراث الإغريقي اليوناني : تراث علم الأصنام والعقول العشرة ، ونظرية الفيض ودعوى قدم العالم ، وأن الله خلق الكون وأدار له ظهره ، وأنه جل شأنه لا يعلم الجزئيات ، وأن الله لا يبعث الأجساد ولا يحشرها .(7/14)
... إنها محاولة باطلة ولكنها مستمرة تحت أسماء كثيرة وبصور متعددة ، وفي كل مذهب تتعرض للجانب الذي تستطيع أن تهدمه وهي عملية لا تهمد ، تتردد بصور مختلفة وتعاد بألوان متعددة وتحاول أن تواجه كل جيل بصورة تختلف علها تكسبه أو تخدعه أو تؤثر فيه .
* ... * ... *
فلترتد هذه السهام المسمومة إلى صدور أصحابها
( إن مؤامرات الكارهين والساخطين على الإسلام
هي سراب خادع وزبد راب سوف تجرفه كلمة الحق )
... كان السؤال عن محاولات بعض الكتاب العلمانيين والتغريبيين لخلق روح اليأس والقنوط والتشكيك في جدوى الاتجاه نحو منهج الله ، بإثارة الشبهات والأباطيل التي لا تثبت أمام ضياء الإسلام ، نعم ، فنحن نؤمن أن : هذه المحاولات ترمي إلى خلق روح اليأس في الشباب المسلم ولكن الواقع أنها تزيد شبابنا استمساكاً بعقيدته وثقة بسلامة منهجه الرباني ، ولا تلقى سوى الابتسام الساخر من هذا الشباب الواعي الذي يعلم هوية هؤلاء الكتاب ومدى كراهيتهم للإسلام وحقدهم عليه فقد تعلم هذا الشباب أن لا يثق إلا بأصحاب الصفحة البيضاء الذين لا يدفعهم طمع ولا هوى وقد تعلم أن هذه المحاولات كلها لا تنقص إيمانه بالإسلام ولا ثقته بمنهجه ، مهما حاول ( فرج فودة ) أن ينتقص الصحابة أو يدعي أنهم أشبه بالسياسيين المحترفين فقد سبقه إلى ذلك طه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي ، ولا يثق بدعاوى حسين أحمد أمين المبطلة في الهجوم على السنة ولا في إنكار فؤاد زكريا للوحي أو إنكار زكي نجيب محمود لعالم الغيب أو ادعاء بيكار بأن البهائية دين بعد محمد .(7/15)
... ذلك بأنهم على حد تعبير الدكتور محمود قاسم : نقلوا المسلمين إلى أرسطو ونقلوا أنفسهم إلى منهج المسلمين ( جابر وابن الهيثم والبيروني ) ، ذلك أن أرسطو هو الذي سيضع المسلمين مرة أخرى داخل القوقعة المنطقية التأملية ويحرمهم من ثمرات منهج التجريب الذي أنشئوه ونماه الغرب ، وهكذا نجد أن هذا المنطلق على يد لطفي السيد وطه حسين وجماعة من أتباعهم يتسع ويمتد حتى يؤثر : إن الغرب خضعوا لمنهج اليونان وأرسطو في القديم ، ولما كان الفكر الحديث هو ثمرة فكر اليونان فإن تبعية المسلمين والعرب له لا تعد شيئاً غريباً ولا جديداً ، لأنهم كانوا تابعين لليونان من قبل ، فلا عجب أن يتبعوا ما جدده أحفاد اليونان ، لم يكن أستاذ الجيل صادقاً إذن ولم يكن الدكتور طه حسين صادقاً في هذا ، فإن المسلمين لم يقبلوا أرسطو ولم يعتنقوا فكر اليونان ، وإنما العكس هو الصحيح ، ذلك أنهم قاوموه ونقدوه وأبانوا عن وجوه الخلاف العميق بينه وبين منطق القرآن وتصدى كثيرون منهم لهذا وفي مقدمتهم الشافعي وابن حنبل والغزالي وابن تيمية .(7/16)
... وإذا كان الخلاف ما زال واسعاً حول ما كتبه الفارابي وابن سينا ، وهل هو فلسفة إسلامية أو متابعة للمشائين اليونان من المشائين المسلمين ، فإن رجلاً كريماً قد ولي قسم الفلسفة في كلية الآداب هو الشيخ مصطفى عبد الرازق ، قد فصل في هذا الأمر على نحو صحيح ، ومن خلال دراسات الجامعة نفسها ، وبالرغم من سيطرة طه حسين على عمادة كلية الآداب حين قال : إنما تلتمس الفلسفة الإسلامية في كتب المتكلمين والفقهاء ، وإن الإمام الشافعي واضع علم " أصول الفقه " هو أول الفلاسفة في الإسلام ، وأن مقامه في العربية هو بمثابة أرسطو في اليونانية ، وبذلك نشأت مدرسة الأصالة في مجال الفلسفة وامتدت من بعد واتسعت وكان من أتباعها الخضيري وأبو زهرة وعلى سامي النشار ، ومنذ ذلك الوقت وقد صدر كتاب ( تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية ) عام 1947 م ، وقد كان منهجه قد تقرر قبل ذلك بوقت طويل ، فقد تحررت الفلسفة من التبعية الغربية وبرزت مدرسة الأصالة منها وهو ما يزال عسيراً في مجال الأدب والنقد الأدبي فإن التبعية لمذاهب النقد الغربي الوافد ما زال قوياً .(7/17)
... وقد أثبتت مدرسة الأصالة في الفلسفة الإسلامية ( مصطفى عبد الرازق - أبو زهرة - النشار ) أن المنطلق الأرسطوطاليسي : هو منهج الحضارة والفكر اليوناني لم يقبل في المدارس العقلية وأن المنهج التجريبي الإسلامي هو الذي عرفته أوربا بعد قرون من مطلع حضارتها الحديثة لمباينته للحضارة اليونانية ، وأن اكتشاف وجود هذا المنهج لدى المسلمين يفسر روح الحضارة الإسلامية ، فالحضارة الإسلامية حضارة عملية تجريبية تتجه إلى تحقيق الفعل الإنساني في ضوء نظرية حية ملموسة كذلك ، فقد كشفت الأبحاث المتعددة عن اضطراب خطير في المراجع التي اعتمد عليها الفارابي ، وباعتراف الدكتور محمد عبد الرحمن : " إن الفكر الذي نقل إلى المسلمين من اليونان والإغريق لم يكن صحيح الأصول ، بل كان صور زائفة دخلت عليها مفاهيم السريانية والناظرة المترجمين وعقائدهم وكانت تهدف إلى خدمة مفاهيم دينية ، ومن هنا كان فسادها في أن تعطي الفكر الإسلامي شيئاً " ، ومن ناحية أخرى فقد تبين أن المقاومة للفلسفة اليونانية ، ومذهب أرسطو بالذات قد بدأت منذ أن تمت الترجمة وأن المعارضة بدأت منذ اليوم الأول ، ذلك أن الفكر الإسلامي كان قد تم تشكيله قبل الترجمة على أساس قيمه القرآنية من التوحيد والأخلاق ، ومن الربط بين الوحي والعقل ، ولذلك فإنه كان من العسير أن تنصهر فيه الفلسفة اليونانية أو ينصهر فيها ، خاصة وهي فلسفة مجتمع وثني قام على العبودية وإعلاء الشهوات ، وعبادة الجسد فضلاً عن أن محاذير الترجمة من فساد وانتحال وتحريف نصوص وإن كانت طائفة من الفلاسفة أطلق عليها اسم المشائين قاموا بمحاولة شاقة وعسيرة لإدخال الفلسفة اليونانية في إطار الإسلام ولكن المحاولة فشلت تماماً ، وكانت وقفة الإمام الغزالي في وجه الفلسفة اليونانية وقفة صارمة ردت السهم إلى صدور أصحابه ، فقد كشف عن الفرق بين الفلسفة الرياضية والطبيعية وبين الفلسفة الإلهية ورفض الأخيرة لأنها متعارضة(7/18)
مع التوحيد وأعلن أن الكلام في الطبيعيات برهاني ، أما في الإلهيات فهو تخميني ، وفي الفلسفة الإلهية عارض الغزالي القضايا الكبرى الثلاث : التي تقرها الفلسفة اليونانية وتختلف مع مفهوم الإسلام :
( 1 ) ما يقولون به من قدم العالم .
( 2 ) وأن الله ( جل وعلا ) لا يحيط علماً بالجزئيات .
( 3 ) وإنكارهم البعث .
... وهاجم الفلاسفة الذين جحدوا الصانع وزعموا أن العالم قديم كالدهرية والزنادقة ، والذين قالوا إن النفس تموت ولا تعود ومن أنكروا الآخرة .
... ويقول الدكتور النشار : إن المنطق الأرسطاليسي قد نقل إلى العالم الإسلامي وأثر فقط في المدرسة المشائية الإسلامية وبقيت المدارس الأخرى المنبثقة عن النظام الإسلامي بعيدة كل البعد عنه ، تحاربه وتجاهده ، وكانت قد وضعت منطقاً مختلفاً تمام الاختلاف في روحه وجزئياته .
... وقد وصل علماؤنا في مجال البحث عن منهج أرسطو إلى حقيقة أساسية هي أن : منطق أرسطو يعبر تعبيراً دقيقاً عن المجتمع اليوناني العبودي المنقسم إلى سادة يتأملون وعبيد يعملون ، السادة هم الصورة والعبيد هم المادة ، ولكن المجتمع الإسلامي يختلف عن المجتمع اليوناني اختلافاً كثيراً .. دولته تقوم على الأخوة والمساواة وتنطلق من نقطة النظر في السماوات والأرض والعمل والكسب والسعي والتجريب ، ومن هنا اختلف منهج المجتمع الإسلامي عن مجتمع اليونان من جملة جوانب أهمها : التوحيد وإلغاء العبودية والممارسة في مجال العلم وبذلك بدأ ذلك التعارض الواضح العميق بين مجتمع ومجتمع ، وفكر وفكر .(7/19)
... خرج الفكر الإسلامي من النظرة الأرسطية التي ترى أن العلم لا يكون إلا بالكلي أما العلم الجزئي فليس علماً ، فتقدم الفكر الإسلامي فحطم هذه القاعدة ، وبدأت النزعة التجريبية من الجزئيات وبذلك خرج المفكرون المسلمون عن المفهوم الأرسطي للحد والتعريف ، واستطاع رجال الأصول والفقه أن يقيموا نظرة جديدة للتعريف يقوم على أساس الواقع ، وأدى ذلك الخروج عن حدود القياس الأرسطي إلى الحصول على نتائج عملية وأصبح طابع الفكر العلمي الإسلامي هو طابع التجريب ، ونقد المفكرون المسلمون قياس أرسطو وقال عنه ابن خلدون : إنه قياس ذهني أما المسلمون فقد عرفوا ما لم يعرفه اليونان وخطوا أخطر خطوة في تاريخ البشرية وهي بناء قاعدة العلم الحديث نفسه : تلك هي التوحيد بين التأمل والممارسة العملية .
... وأولى المسلمون اهتمامهم بالرابطة العلية بين الأشياء وعلى هذه الرابطة بين الأشياء قامت التجارب ، وعلى هذه الرابطة العلية ( البحث عن العلة ) أقام البيروني والرازي وجابر بن حيان وابن سينا تجاربهم العلمية وفي نفس الوقت قام المنهج العلمي في الفكر حيث فسر ابن خلدون حركة التاريخ وتطور العلاقة البشرية .
... وبهذه النظرة المتطورة للكون والإنسان اختلف الفكر الإسلامي اختلافاً كبيراً عن الفكر اليوناني المترجم وتناقض معه في مختلف فروع الثقافة من علم وأصول وفقه وفلسفة عقلية ونظرة إلى الإنسان ، ولم يكن هذا الاختلاف عابراً أو طارئاً وإنما كان نتيجة طبيعية لاختلاف التكوين الاجتماعي للدولة الإسلامية عن الحضارة اليونانية ، وبذلك ظهر الفكر الإسلامي في جوهره فكراً تجريبياً تجاوز منطق أرسطو وأطلى على التجربة العلمية رابطاً بين التأمل النظري والممارسة العملية وخرج بذلك على الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية .(7/20)
... وقد صور كثير من الباحثين أثر منهج أرسطو فوصفه الدكتور محمود قاسم : بأنه كان منهجاً عقيماً ، وأنه ضلل كثيراً من مفكري العرب ثم وقف حائلاً دون ازدهار الحضارة العربية ويرجع عقمه إلى أنه كان خلوا من الخيال ، وأنه كان أكثر اهتماماً بالقضايا العامة المجردة منه لدراسة التفاصيل والجزئيات ، يستدل على صدق دعوانا وتواضعها بتاريخ النهضة الأوربية فإنها لم تتحرر من الجمود الذي فرضته عليها منهج اليونان إلا بعد أن عرفت مناهج العرب في العلم والفلسفة ولنا أن نستشهد برينان نفسه ، ذلك أنه يصف ( روجر بيكون ) بأنه الأمير الحقيقي للفكر الأوربي في القرن الثالث ، ويجب أن نعلم كيف جاءته إمارة الفكر ، أو ليس في هذا المجال خلق من العدم ومن اليسير أن تكتشف سر أصالته إذا نحن بينا أنه أول من نادى بمهاجمة المنهج الأرسطاليسي في أوربا ، ودعا إلي اصطناع نهج العرب فهو يأخذ على معاصريه بأنهم يصبون لعناتهم على الرياضة مع أنه من الممكن أن يبرهن بالرياضة على كل ما هو ضروري لفهم الطبيعة ولولا الرياضة لاستحال علينا أن نعرف أشياء هذا العالم معرفة صحيحة تعود علينا بالنفع في الأمور الإنسانية والأمور الدينية أيضاً ، كذلك يأخذ عليهم الانصراف عن استخدام الملاحظات والتجارب مع أن الطبيعة لا تكشف أسرارها إلا بدراسة الأمور الجزئية حتى تصدق بنا إلى القوانين الكلية )
... وهكذا انتصر المنهج الإسلامي على المنهج الأرسطي وحطمه في عقر داره بعد أن حطمه في مجال الفكر الإسلامي نفسه .(7/21)
... فإذا أردنا أن نبين فكر أرسطو وجدناه يقول بالنظام العبودي اليوناني ويرى أن ( نظام الرق ) هو أصلح نظم للبشرية وأن العبد إذا تحرر من عبوديته فهو عبد والأمير إذا استعبد فهو أمير ، ومفهومه لله تبارك وتعالى ناقص وضال وماديته في التفكير بكونه أساس المذهب المادي واضح لا شبهة فيه ، ولذلك فقد كان لابد أن يصحح الفكر الإسلامي موقفه من أرسطو وفلسفته وخير ما يذكر في ذلك ما كتبه الإمام الجليل ابن تيمية في كتابه منطق القرآن في مواجهة منطق أرسطو مما فصلناه في دارسات أخرى .
ما هو موقف المسلمين اليوم في مواجهة
المؤامرات التي تتجمع في سمائهم وخاصة في مواجهة
الهجرة اليهودية الجديدة إلى فلسطين المحتلة وغيرها ؟
ج - أعتقد أننا مطالبون كمسلمين في أبان الأزمات الكبرى وعندما تحاصرنا الأحداث بمخاطرها ومؤامراتها أن نعيد النظر في ضوء توجيهات ديننا ونلتمس أسباب مواجهة الأحداث كما علمنا إياها ديننا في توجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وكما كان يفعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأعتقد أننا مطالبون اليوم في ظل هذه الأزمة الجديدة التي تواجه الأمة الإسلامية بمزيد من التحدي والخطر ، وحتى لا تجتاحنا الأحداث :
أولاً : العودة إلى أصالتنا ومنابعنا فنأخذ منها القوة والمنعة ، فنصحح عقيدتنا ونحررها من كل تبعية ونلتمس قوانين المقاومة والنصر من الإسلام فهو وحده القادر على أن يهيئ لنا الطريق إلى النصر وإلى الخروج من الأزمة .
ثانياً : أن نلتمس أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الأحداث والأزمات ، ولقد وضع المنهج الإسلامي أصولاً وقوانين لهذه الموجهة أهمها : العودة إلى الله تبارك وتعالى ، وإقرار مفاهيم الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبذل والفداء وتقديم النفس والمال رخيصة في سبيل درء الأخطار وحماية البيضة .(7/22)
... ولما كان القرآن الكريم قد دعانا في أكثر من موقع إلى الإعداد والمرابطة في الثغور والاخشيشان والبذل وإقراض الله تبارك وتعالى ، وإذا لقينا فئة فلنثبت ونذكر الله كثيراً ، وقد وعدنا النصر بالعدد الأقل وتتابعت وعود الله تبارك وتعالى بنصر المسلمين إذا صدقوا النية والعزيمة واستطاعوا الخروج من الذلة والخضوع والاستسلام والتحرر من قيود المطامع والأهواء التي تكبل المسلم وتجعله خاضعاً للترف والانحلال مستسلماً لمطامعه وأهوائه .
... واليوم وقوى البغي والشر تتكالب على الأمة الإسلامية ، وتتجمع فليس لنا طريق غير بناء الأجيال على الفداء والتضحية وعلى الفهم العميق لأبعاد المؤامرة ، والإيمان الأكيد بنصر الله للمسلمين إذا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وأعتقد أننا بعد تجاربنا الطويلة مع النفوذ الأجنبي خلال أكثر من قرن من الزمان قد تأكد لدينا بأنه لا سبيل أمامنا إلا التماس منهج الإسلام في مواجهة التحديات وبذل الروح والمال خالصاً ونحن نؤمن بأنه لا خروج للأمة الإسلامية من أزماتها إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية وتحرير المجتمع من التبعية لمفاهيم الفن والاجتماع والنفس الغربية وإعادة النظر في مناهج التعليم والتربية والثقافة وتأصيل العلوم الاجتماعية ، وعلينا أن نحرر وسائل التسلية والترفيه من المسلسلات والأفلام الهابطة والمفاهيم المتعارضة مع مفهوم التوحيد والغيب والمسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي .(7/23)
... إن انهيار الماركسية في الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوربا كان أمراً متوقعاً منذ وقت بعيد ، ذلك أن الماركسية لم تكن منهجاً عالمياً ولكنها كانت الوجه الآخر للفكر الصهيوني الذي أنشأ الرأسمالية من قبل ، وأراد بها تمزيق المجتمع البشري إلى قوتين متصارعتين وقد أعلنت جماعة المفكرين الغربيين منذ سنوات طويلة فساد النظام الغربي وعجزه عن العطاء وارتفعت أصوات تدعو إلى قيام نظام عالمي مختلف ، ولذلك فلم يكن مستغرباً أن تسقط الماركسية أيضاً وبذلك يعرف العالم كله أن هذه الأيديولوجيات لم تحقق إلا الدمار والفساد الخلقي وأكل أموال الناس بالباطل واستنزاف ثروات الأمم التي سيطر عليها وحرمها من القدرة على النماء وامتلاك الإرادة ، ومن شأن هذا الموقف الجديد أن يدعونا إلى تأكيد المطالب التي يجب أن يلتزم بها لمواجهة الخطر وتتمثل في :
1 - بناء الأجيال القادرة على استرداد الأرض واستعادة الحق المسلوب وتأكيد ظاهرة الحرابة وحماية الثغور والقدرة على الردع .
2 - العودة إلى منهج جامع يمكن المسلمين من استعادة الوحدة الإسلامية تحت اسم أو آخر ، وليس هناك منطلق لذلك سوى العودة إلى الشريعة الإسلامية فهي وحدها القادرة على إعطاء المسلمين وحدة الفكر والهدف والمنطلق إلى امتلاك إرادتهم .
3 - توسيع دائرة الوطنيات والقوميات لتصب في الدائرة الإسلامية التي تجمع المسلمين جميعاً من خلال عقيدة واحدة وثقافة واحدة ووجهة واحدة حيث يتكامل الوطن الإسلامي كله في معطياته الموزعة في أقطاره المختلف .
4 - التأكيد على أن للمسلمين ذاتية خاصة تكونوا في إطارها ولن يمكن إخراجهم منها مهما بلغت حدة المحاولات التي ترمي إلى تحطيم طابعهم الخاص ووجودهم .
5 - التحرر من التبعية للربا والنظام الاقتصادي العالمي وإقامة نظام إسلامي من خلال المضاربة والمرابحة يتفق مع منهج الإسلام .(7/24)
6 - تأكيد منهج الإسلام في أمور المرأة والأسرة وحماية الأجيال الجديدة وتحصينهم والتربية القرآنية .
7 - تعريب العلم وأسلمته وإدخاله في دائرة المنهج الإسلامي للحضارة والمجتمع .
8 - المحافظة على التميز الإسلامي والتماس المنابع وتأكيد العلاقة بين المنهج والتطبيق وبين العقل والقلب والمادة والروح والدنيا والآخرة .
... إني أطالب قادة الأمة الإسلامية بدراسة إعلان التعبئة العامة كأسلوب مقاومة في وجه الأخطار التي تجمعت كالسحب الداكنة في أفق الإسلام وتضافرت على التآمر علينا قوى مختلفة في مقدمتها الصهيونية والنفوذ الأجنبي والشيوعية فلم يبق أمام المسلمين إلا المرابطة والاستعداد الجماعي لدفع العدوان والقدرة على الردع وليقدموا هذه الثروات التي أفاء الله عليهم بها في مجال الإعداد والحماية لمقدساتهم وأرضهم وعقيدتهم قبل كل شئ .
... إن وحدة المسلمين ضرورة حتمية وهي لا تتحقق إلا بالعودة إلى مصدر التوحيد الأول والأكبر وهو تطبيق شريعة الله الخالدة التي تجمع الأمة على أصول عامة تختفي معها كل وجوه الخلاف التي أحدثتها الأيديولوجيات البشرية والقوميات والتعصب القبلي .
مواجهة الأخطار
كيف نفهم مهمتنا في مواجهة الأخطار التي تحاصرنا ؟
... يجب أن نعلم أن هذه الأمة الإسلامية هي الأمة الخاتمة المصطفاة لحمل رسالة التوحيد إلى العالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وأن جميع الرسالات التي سبقت كانت بمثابة تمهيد وإعداد لهذه الرسالة الخاتمة ، وأن الصحوة في هذه الأمة تنبعث دائماً من داخلها من منطلق تصحيح المسيرة كلما انحرف المسلمون عن الجادة .
... وصدقت مقولة شيخنا أبو الحسن الندوي حين قال : بأن الصحوة الإسلامية هي صفة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقاً في حلقاتها لأنها الأمة المختارة والأخيرة والمبعوثة للإنسانية كلها .(7/25)
... وقد امتاز الإسلام بأنه يختلف عن الدعوات السابقة بأن له ميزات إصلاحية فورية جذرية تدعو إلى العودة به إلى الأصول الأولى حيث لم تخل فترة من وجود مصلح أو مجدد أو داعية للصحوة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك على اختلاف المساحات والأرجاء ، فالصحوة الإسلامية في الحقيقة من طبيعة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقاً في حلقاتها في رقاب بعض لأنها الأمة المختارة أو الأمة الأخيرة المبعوثة للإنسانية جميعاً .
... ومن هنا نفهم معنى الأمانة الكبرى التي يحملها المتصدرون للدعوة الإسلامية وخطر المسؤولية الملقاة على عاتقهم وأهمية الدور الذي هم مكلفون به والتي يجب أن يصل بهم إلى اليقين الصادق في صدق هذه الدعوة وانتصارها وضرورة بذل النفس والنفيس في سبيل تبليغها وحمايتها وتصحيح المفاهيم ، ويبدو ذلك واضحاً في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وزيف المبطلين وتأويل الجاهلين " ، فمهما ادلهمت الأحداث ، واستعلى الباطل ، وارتفع صوت الضلال وظن الناس أن الأمور كلها قد أسلمت نفسها إلى هذا الانحراف الذي تنطلق فيه عجلة الحضارة المعاصرة والدول التي تسوقها نظم السيطرة الربوية العالمية بكل ما تمثله من فساد خلقي وانحراف وإسراف ، واندفاع نحو الهاوية ، فإن نور الحق لابد أن يسطع ، وأن ترتفع كلمة الحق ، فإن ميزان الحق لابد أن يغلب وكل من يسير في غير اتجاه الحق فإنما يسير ضد تيار التاريخ والفطرة ، ومن سار ضد تيار الفطرة لابد أن يتحطم ويدمر .(7/26)
... ولقد استعلت الحضارة الغربية بالباطل وساقت العالم كله وراءها الآن ، وفرضت مفاهيمها وقيمها وبقى ضوء الإسلام ممتداً ، وإن كان خافتاً ، وما تزال الضربات تتوالى على المسلمين في كل مكان ، ضربات الاقتصاد ، وضربات التحلل الاجتماعي وهي تستهدف أن يستسلم المسلمون ويقبلون بالانصهار في هذا النظام المنهار العفن الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ولكن بقى على المسلمين أن ينظروا إلى بعيد ، وأن يؤكدوا موقفهم المسئول من الأمانة التي حملهم إياها الحق تبارك وتعالى ، ولا ينزعجوا أما هذا التضخيم والاستعلاء والاتساع لمتطلبات الباطل وظلمه وفساده وتعدد معسكراته وعليهم أن يثبتوا واثقين من نصر الله لهم .(7/27)
... يجب أن يعلم المسلم أن كل هذا الفساد إلى زوال وأن الله تبارك وتعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها ومن هنا يجب أن يكون المسلم مقاتلاً لا يستسلم أمام أهواء الحضارة أو فساد التيارات الفكرية العصرية غير مستسلم لها ، فالمسلم لا ييأس أبداً ولا يتقبل صور التشاؤم أو ظلام الأحقاد مهما كان قائلها بارز الصيت أو مكتوبة في صحف لامعة أو شهيرة ، فذلك هو ما يزينه العدو الذي يطمع في أن يصل المسلم إلى درجة الاستسلام باليأس ، وكيف ينفض المسلم يده من الأمر وهو يعلم مسؤوليته أمام الله تبارك وتعالى على هذه الأمانة القائمة في عنقه ، وذلك الوعد الصادق الأكيد بالنصر مهما ادلهمت الأحداث أو زاد طغيان القوى المحاربة والمتآمرة عليه ، بل لعل هذا هو موضع الطمأنينة إلى قرب نصر الله ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ) و ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) ، إن المسلم كما يقول الشيخ الندوي : لا يستطيع أن يغمض عينيه عما حوله ، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يستسلم وباب السماء مفتوح ، ونصر الله قريب ، إن مسؤوليتنا أن نصمد في موقعنا مؤمنين بأننا على الحق ، نحن مطالبون بأن نكون مرابطين لا نستسلم ولا نخدع ، علينا أن نؤمن بمسئوليتنا و بالأمانة المنوطة بها ، وأن نعرف أن الإسلام هو الذي تعد له الوسائط كلها ليكون دين الإنسانية كلها وملاذ كل المتطلعين إلى سكينة النفس وتحقيق أشواق الروح والمادة معاً .
الحضارة الغربية
( 1 ) الحضارة الغربية وهدم الدين .
( 2 ) ليس أمام الغرب من منقذ إلا الإسلام .
( 3 ) قصتان عالميتان : نهاية التاريخ وصراع الحضارات .
الحضارة الغربية وهدم الدين
فلنحذر محاولة احتوائنا في مؤامرة هدم الدين الحق
التي تقودها الحضارة الغربية(7/28)
... كانت محاولة الفكر البشري في العصر الحديث بقيادته الخطيرة من الفلاسفة الماديين والعلمانيين وخصوم الدين المنزل جملة من أخطر المؤامرات التي حاصرت البشرية وزلزلت عقيدتها في الإله الواحد وفي الإيمان بالغيب والبعث والجزاء ، وما تزال هذه المحاولة منذ بدأت أولى حلقاتها بالخلاف الذي وقع في أوربا بين رجال الدين وبين العلماء التجريبيين فاستحدث محاكم التفتيش واضطهاد ومحاكمة الذين قدموا حقائق ومفاهيم تختلف عما في الكتب المقدسة ( التي كانت في الحقيقة مما كتبه الأحبار والرهبان ولم يكن من الحقائق التي جاء بها الدين الحق والتي لم تكن في الواقع مما تختلف مع الوقائع الصحيحة ) .
... ولقد كان من نتيجة هذا الصدام الشديد بين رجال الدين وبين العلماء التجريبيين آثاره البعيدة والخطيرة والتي شكلت مع الزمن ومع توالي الأحداث هذه الصورة الخطيرة الموجودة اليوم من سيطرة الإلحاد والعلمانية والإنكار الخطير لرسالات السماء والاستعلاء على الدين بصفة عامة ، واندفاع الفكر البشري إلى مراحل خطيرة وآفاق عنيفة ، وقيام دعاوى تنكر وحي السماء جملة وتعمل على إقامة دين بشري ومنهج حياة يستغني جملة عن ( الدين ) بل ويصل في المغالاة إلى حد القول بأن البشرية أصبحت اليوم غير محتاجة إلى وصاية السماء بعد أن نضجت ، وهو ادعاء زائف مغرور .
... ذلك أن ما قدم للناس باسم الدين في الغرب والذي قامت عليه معركة الصراع بين رجال العلم وبين الكنيسة لم يكن هو الدين الحق المنزل على سيدنا عيسى عليه السلام ، وإنما كان ذلك التصور الذي تشكل في عصر تالٍ على يد القديس بوليس والذي تجمع كل المصادر على أنه وضع روعي فيه التقريب بين المسيحية المنزلة وبين أديان روما والغرب الذي عبرت إليه الديانة المسيحية وأنه أخذ الكثير من العقائد التي كانت قائمة في ذلك الوقت في أوربا وفي روما بالذات .(7/29)
... ومن هنا فإن التنكر للدين المنزل على هذا النحو الذي وصل في غلوه إلى أبعد الأبعاد لم يكن موفقاً لأنه لم يكن صحيحاً .
... كذلك فإن الغرب حين تنكر للدين جملة ولرسالة السماء عامة على أساس نظرة في الصورة التي وقعت في مجتمعه لم يكن منصفاً ولا عادلاً ولا مقيم نظرته على أساس صحيح لأنه لم يدرس الأديان دراسة سليمة منصفة بعيدة عن الأهواء والتعصب ، وأنه لو درس الإسلام دراسة صحيحة مرتفعة عن الأحقاد القديمة والخلافات والصراعات لوجد فيه الأساس الصحيح للنظرة العلمية التي يتطلع إليها ، ولما احتاج إلى أن يتجاوز بعناد وعنف النظرة إلى الدين جملة اعتماداً على الصورة الأولى التي صدمته .
... ولذلك فهو حين أقام نهضته اعتمد الأصول الإسلامية في العلوم وقوانين الوجود وسنن الكون وأعتمد تراث المسلمين الزاخر في قوانين الاجتماع والاقتصاد والتربية ، غير أنه نقل ذلك كله إلى إطار مختلف قوامه تراث اليونان وفلسفة الرومان وبذلك صهر المعطيات الإسلامية في العلوم التجريبية في وضع قائم على الفكر الوثني والمادي والإباحي فظهرت الحضارة المعاصرة وهي عاجزة عجزاً كاملاً عن الاستجابة الصحيحة لمطامح الإنسان وأشواقه الروحية لعجزها الأساسي وقصورها في الجانب الإلهي والجانب الأخلاقي ، فهي قد استعلت عن إسلام وجهها للخالق الكريم وللوجهة التي رسمها للبشرية عن طريق الدين الحق ، كما أنها تنكرت للقيم الأخلاقية ومن ثم أخذت تتحرك في إطار التعصب للجنس وللون ، واتجهت إلى الاستعمار والسيطرة وإبادة الأجناس الضعيفة والملونة ونهب ثروات الأمم وإفقارها فضلاً عن إنشاء أدوات الدمار الشامل وتعريض البشرية للأخطار وإقامة طبقة الأمم العليا ذات الثراء الفاحش والأمم الفقيرة التي اتنهبت ثرواتها وتعيش تحت خط الفقر .(7/30)
... وما تزال الحضارة المعاصرة انطلاقاً من هذا التصور الفكري الذي عزل نفسه تماماً عن مفهوم الدين الحق وعن مفهوم الإسلام نفسه كمنهج حياة يقوم على أساس العدل والإخاء البشري والرحمة والسماحة والعطاء ، ومن ثم فقد أحدث تلك الآثار الخطيرة التي تعيشها البشرية اليوم حين حجبت تماماً منهج الدين السماوي المنزل واندفعت وراء الفكر البشري الذي انطلق من أهواء الفلاسفة وأحقاد العلمانيين الذين حاولوا أن يرسموا للبشرية منهجاً مختلفاً يقوم على أساس نظريات دارون وفرويد وماركس في تصور للإنسان بأنه من سلالة القرد وأنه خاضع لشهوتي البطن والفرج وأنه حيوان ناطق له حريته المطلقة في المطامع البشرية والجنسية والاندفاع وراء اللذات إلى أبعد الحدود .
... وفي خلال هذه التجربة الخطيرة منذ عصر النهضة الأوربية 1500م تقريباً وإلى اليوم في هذه القرون الخمسة واجه الفكر البشري ضربات صاعقة وهزائم شديدة وأزمات مريرة أكدت للناس فشله وعجزه ، وقصوره عن العطاء الحقيقي للنفس الإنسانية المتطلعة إلى الجمع بين روحها وماديتها وبين قلبها وعقلها وبين دنياها وآخرتها ، فقد استعلت بالمادة والعقل واندفعت من خلال منهجيها الرأسمالي والماركسي ، فلم تحقق إلا ذلك الاضطراب العالمي الخطير الذي يتحرك فيه العالم اليوم حين أقام نظامه على الاقتصاد الربوي والقانون الوضعي وعلى العلمانية والمادية والإباحية .
... أما نظرية دارون التي كانت القاعدة الأساسية لكل الفكر المادي والفلسفة المادية فقد لقيت هزائم شديدة مضطردة أكدت فسادها وعجزها عن إقناع الناس بها - سواء من خلال الدراسات الأكاديمية العلمية ، أم من خلال الحفريات التي كشفت عن أن الإنسان قبل ملايين السنين كان منتصب القامة كما هو الآن ، وأنه خلق من جنس مستقل غير مختلط بأجناس أخرى ، هذا ما يقرره العلماء التجريبيون منذ أكثر من ثلاثين عاماً وما تزيدهم الحفريات والأبحاث إلا تأكيد له .(7/31)
... أما نظرية فرويد فقد أثبت فسادها وعجزها منذ اليوم الأول عندما قرر علماء النفس أن عوامل كثيرة تشكل الحافز النفسي في الإنسان وأن الجنس هو أحد هذه العوامل ولكنه ليس أكبرها ولا أوحدها .
... أما نظرية ماركس فقد تحقق لها الفشل المتصل والهزيمة الكبرى بعد أن تبين أن البشرية أقرب إلى الالتقاء والتعارف والائتلاف أكثر من الصراع الذي اعتبره ماركس مصدراً لقيام المجتمع الشيوعي .
... وليست هذه النظريات الثلاثة وحدها التي واجهت الفشل ولكن الحقيقة أنه لا توجد نظرية واحدة لقيت النجاح ، ومصدر ذلك أنها خالفت في الأصل سنن الله في الكون وقوانينه تبارك وتعالى في بناء الأمم والمجتمعات والحضارات وأنه ما من نظرية بشرية إلا أصابها الاضطراب وتجاوزتها الأيام وغلبتها قوى التغيير والتحول فاحتاجت إلى الإضافة والحذف .
... ولقد تبين أن قوى التدمير التي عملت منذ قرون عديدة على هدم المجتمع الإنساني وتحطيمه من خلال إقامة كل الوسائل لهدم الدين المنزل فيه ودفعه إلى الإباحة والإلحاد رغبة في تدميره والسيطرة عليه لحساب إمبراطورية الربا التلمودية هي التي كانت وراء هذه المؤامرة كلها ، وأنها كانت وراء ماركس وفرويد ودارون ودوركايم وقد اعترفت في ( بروتوكولات صهيون ) بهذا صراحة وأنها هي التي خلقت ذلك الصراع بين المجتمع البشري بإقامة أيديولوجيتين هما الرأسمالية والشيوعية لتحقيق الهدف الأكبر الخفي .
... ولقد كان منطلقها : الدعوة إلى هدم القديم جملة ، ووصفه بالبالي والرجعي ، وهي تخفي وراء القديم كل مقدسات الأمم من دين وخلق وعقيدة وقيم وتراث كريم وصولاً إلى رسالات السماء الخالدة .(7/32)
... إن دعاوى الاستعلاء بكشف أسرار الطبيعة والقوى الكامنة فيها ونسبته إلى قدرة العقل الإنساني هي دعاوى باطلة لأن الله تبارك وتعالى هو الذي وجه العقل الإنساني لفهم أسراره وكشف له طريقها ، ولكن الإنسان الظالم لنفسه وجه هذا العطاء وجهة الاستعلاء والغرور والسيطرة والدعوى الكاذبة بأنه من قدرة العقل البشري ، ومن هنا كانت تلك المحاولة الخطيرة التي جرى عليها العلم الحديث وهو تسمية الحقائق بغير أسمائها ومنها اسم ( الطبيعة ) ومحاولة وصفها بالقدرة والعطاء هو اسم مضلل يراد به إخفاء الاسم الحقيقي وهو الله تبارك وتعالى وهذا مغمز خطير في الحضارة الحديثة : إنكار صاحب العطاء الأول والذي إليه ترجع الأمور والذي تقوم وجهة الحضارة كلها والمجتمع كله والإنسان كله منه وإليه ، والإقرار بعبوديتة وتوجيه كل معطيات الحياة إلى ما أقام للإنسان من منهج حياة ، فلا تكون للمطامع الفردية أو الاستعلاء أو استعباد البشر ، وإنما لتكون للناس كافة وفق النظام الرباني الذي جعل للفقراء حقاً في مال الأغنياء وجعل للضعفاء مصادر لحفظهم من التكفف .
... أما دعوى تحرير الجنس البشري من أوهام الماضي وتحطيم الأغلال التي عاقت العقل عن التقدم والانطلاق الحر فهي عبارات يراد بها التنكر للدين الحق وإلا فإن الدين هو الذي حرر الجنس البشري من أوهام الوثنية التي أعادتها الحضارة الحديثة مرة أخرى وبصورة أشد عنفاً وقوة مما كانت في عصور اليونان والرومان .
...
إن أخطر ما يدعو إليه الفكر البشري لهدم ( الدين الحق ) هو :
أولاً : فكرة التطور المطلق : وهي فكرة مسمومة يراد بها إنكار وهدم الثوابت التي أقامها الإسلام والدين الحق وهي الحدود التي رسمها الله تبارك وتعالى للبشرية(7/33)
ثانياً : فكرة المسئولية الجماعية وهي الادعاء بأن المجتمعات هي المسئولة عن الأخطاء وليس الأفراد وهو مفهوم مضلل خطير فإن المسؤولية في الحقيقة وفي تقدير الدين الحق : هي مسئولية فردية وأن كل إنسان مسئول عن عمله ومحاسب عليه .
ثالثاً : فكرة ( حرية الانطلاق ) وحرية الفكر وهي دعوى باطلة إذ أن هناك في الإسلام الحرية المسئولة ، أما حرية الفكر بالصورة التي يتحدثون عنها فهي فكرة ماسونيه يراد بها حرية تدمير القيم وإشاعة الإلحاد ، والإسلام يرى أن كل إنسان حر في معتقده ولكنه لا يقبل إن يجاهر أهل الإلحاد بإلحادهم ليفسدوا المجتمعات .
رابعاً : فكرة الحرية الجنسية والاندفاع وراء المغريات والملذات وهي حرية باطلة لأن فيها اعتداء على حريات الآخرين ، والإسلام لا يقر الاغتصاب ولا الإغراء ولا كل محاولات الخداع ويطالب بحماية المرأة من مغريات الإباحية والفساد .
... ... والواقع إن كل هذه المحاذير التي سقط فيها الفكر البشري بدعوى حريته وبلوغه الرشد وعدم حاجته إلى وصاية الأديان السماوية قد تكشف فسادها وظهرت آثارها الخطيرة في تدمير المجتمعات الغربية وهم اليوم يحاولون نقلها إلى المجتمع الإسلامي ولهم وسائل خطيرة ، وهناك من يسمع لهم ولكنا نحذر وندعو شبابنا إلى اليقظة والوعي وعدم الاستسلام للمغريات وفهم الغايات الخطيرة التي تراد بالأمة الإسلامية .
* ... * ... *
... إن هذا الانحراف الذي أصاب الفكر الغربي والحضارة الغربية بانحيازهما إلى الفلسفة المادية ( الإلحاد والإباحية ) ووقوفهما موقف العناد والحرب والتعصب إزاء حقيقة أزلية أساسية لا سبيل للأمم والحضارات إلى تجاوزها أو إنكارها : هذه الحقيقة هي ( الدين المنزل ) بكل ما يمثله من إيمان بالله تبارك وتعالى والعقيدة والبعث والجزاء وبما يحمله من منهج رباني لبناء الحياة الإنسانية على أساس ( إسلام الوجه لله ) ومن خلال القيم التي أرساها .(7/34)
... هذا الإعراض عن هذه الحقيقة الأزلية وإقامة الحياة والمجتمع والفرد على شطره المادي وحده هو مصدر كل الأزمات التي تواجه الحضارة الغربية والمجتمع الغربي وهو النذير بتدمير هذه الحضارة .
... هذه الحقيقة التي وصل إليها اليوم عشرات من الباحثين الغربيين الذين دخلوا الإسلام فعلاً والذين لم يدخلوا ، وأمامنا الآن مجموعة من الحقائق :
أولاً : فشل الأيديولوجيتين : الرأسمالية والماركسية وانهيارهما بعد عجزهما عن العطاء في بيئاتهم أساساً وفي العالم الإسلامي تبعاً لذلك .
ثانياً : سقوط جميع النظريات الفلسفية الاجتماعية والاقتصادية ابتداء من نظرية دارون إلى نظرية فرويد إلى نظرية ماركس ، إلى الوجودية إلى نظرية دوركايم إلى نظرية مالثوس إلى نظرية ميكيافيلي ( هذا الحصاد المسموم المدمر الذي يفخر به العلمانيون والملاحدة ) .
ثالثاً : تبين مدى الفارق البعيد عن العلم والفلسفة ، فالعلم اليوم يقرر وجود خالق عظيم وراء هذا الكون يدبره ويحفظه لحظة بلحظة ، أما الفلاسفة فهم الذين ما زالوا يوقدون نار الإلحاد ويشكون في وجود الله تبارك وتعالى والأديان والكتب السماوية .
رابعاً : تبين عدم إمكان خضوع العلوم الإنسانية للتجربة المادية ، فضلاً عن موقف الإسلام من استخدام العلم لخدمة البشرية لا لاستعلاء الجنس الأبيض وتهديد البشرية بنذر القنبلة الذرية .
* ... * ... *
... وبعد فلم يكن المسلمون في حاجة إلى أن يتسولوا فتات موائد الغرب سواء في قانونه أو علومه الاجتماعية أو منهجه السياسي ، فهم لهم منهجهم الأصيل : المنهج الرباني الذي عاشوا به أربعة عشر قرناً دون أن تخترقه متغيرات العصور أو البيئات لأنه من صنع الله تبارك وتعالى .(7/35)
... وليست لهم حاجة إلا إلى العلوم التجريبية والتكنولوجيا لتنصهر في بوتقة فكرهم لا ليكونوا خاضعين لأصحابها ، حتى يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي الرباني الأصيل ليصحح هذا الانحراف الذي أصاب البشرية منذ خمسة قرون ، من خروجه على منهج الله تبارك وتعالى وليستقيم أمر البشرية في وجهتها إلى الحق وإقامة مجتمع العدل والرحمة والإخاء البشري .
ليس أمام الغرب من منقذ إلا الإسلام
الإسلام يضئ الطريق أمام المؤمنين ويكشف زيف أعدائه
... في قلب الأعاصير التي تلف أرض الإسلام اليوم وتنكشف عن تحديات ومؤامرات فما يزال الإسلام - وسيظل - قادراً على أن يقدم نفسه للبشرية وهدى وضياء في كل عصر وجيل ، وكلما ادلهمت الخطوب وأظلم الطريق وتعددت صيحات الظالمين الذين يظنون أن التقدم المادي قد حقق لهم قوة يستطيعون بها إطفاء نور الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى أو تحجيم الرسالة الخاتمة الممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ) ومن صميم الأحداث يكشف الإسلام عن جوهره ويظهر الله نور رسالته التي جاءت لتهدي البشرية إلى الحق وتردها عن الباطل وتخرجها من الظلمات .
* ... * ... *
... ويجيء الدكتور مراد هوفمان على رأس القائمة في كتابه ( الإسلام هو البديل ) في محاولة لإعلان هذه الحقيقة التي تأخر إعلانها كثيراً والتي هي أن لا سبيل إلى الغرب لإنقاذ حضارته إلا التماس الإسلام طريقاً له .(7/36)
... لقد كشف ( هوفمان ) : أن الإسلام لا يسمح بأي تدخل خارجي في العلاقة بين الفرد وربه فليس في الإسلام وسيطاً سواء كان خليفة أو إماماً أو قديساً وقد أدرك ( هوفمان ) أن تحرير المسلمين من الوصايا التي تفرضها المؤسسات الدينية على علاقاتهم بالله هي أنسب وسيلة لبناء العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان الناضج ، الإنسان العصري ، وكان ( هوفمان ) قد تحول إلى الإسلام وفهم أن الإنسان لا يستطيع إلا أن يؤمن بشئ ما وأن الخليقة من حولنا في كل مكان واضحة وثابتة وأن الإسلام يتفق ويتوافق تماماً مع كل ما هو واقع وحقيقي .
ويقول مراد هوفمان في كتابه :
... " إنه كإنسان غربي بدأ بالضرورة ينظر إلى بلاده بنظرة مختلفة تماماً منذ اكتشافه الإسلام ومن خلال إيمانه بدأ يحكم على الحضارة الغربية وعلى مدى قوة الإسلام بالمقارنة بضعف تلك الحضارة .
... فقد رأى ( هوفمان ) كيف أن الإسلام استطاع حماية نفسه ومقاومته أية محاولات من الغرب للقضاء عليه سواء كان ذلك في الماضي خلال فترة القمع الأسباني أو في ظل الحكم الشمولي السوفيتي أو في مواجهة الحضارة التكنولوجية الغربية ، ففي ظل الحكم الشمولي في الاتحاد السوفيتي لم تستطع الدعاية العلمانية في دول آسيا الوسطى أو الدبابات السوفيتية في أفغانستان أو القمع في صين ماوتسي تونج وأسبانيا فرانكو القضاء على الإسلام كدين .
... ولقد تعرض الإسلام لكل الضغوط التي تعرض لها في الغرب على مدى سنوات طويلة لأن الغرب لم يدرك أن محاربة هذا الدين بالذات عن طريق مصادرة القرآن الكريم وإغلاق المؤسسات الدينية واعتقال رجال الدين أمر محال ولقد باءت جميع المحاولات بالفشل لسبب بسيط وهو أن مصدر قوة المسلمين تكمن في استقلاليتهم وتنوع شعائرهم ، فالآلاف منهم من حفظة القرآن يمكنهم أن يتلوه بدون كتاب كما أن المسلم يستطيع أن يصلي في منزله وحده أو في أي مكان نظيف ولا يضطر لأن يتوجه إلى الجامع .(7/37)
... وفي الوقت نفسه يستمد الإسلام قوته من مواجهة عداء الغرب له عن طريق تنوع الأسلوب الذي يقيم بع الشعائر الدينية والتي تختلف بسبب غياب الطقوس المحددة وبالتالي غياب دور الوسيط الذي يلعبه رجال الدين ، كما أبدى الإسلام تسامحاً كبيراً في مسائل التفسير الشرعي فهو يعتبر المرء مسلماً مادام أشهر إسلامه وطبق الفرائض الخمس ، ولذلك فإنه من المستحيل أن يقوم مسلم بتكفير مسلم آخر أو إعلان عدم إسلام طائفة من طوائفه .
... هذا الإسلام اقترحه ( مراد هوفمان ) على مستمعيه ( وهو سفير ألمانيا في المغرب ) في المؤتمر السنوي الذي عقدته منظمة حلف الأطلنطي في بروكسل 1984م وحضره كبار المسئولين عن الإعلام في وزارات الإعلام في الدول الأعضاء كان موضوع المحاضرة التي ألقاها هوفمان هو : ( ظاهرة التغيير التدريجي في الضمير العام خاصة بين أبناء الجيل الجديد ) .(7/38)
... وقال هوفمان : " إن الجيل الجديد معظمه من المثاليين بل الأخلاقيين الذين يرفضون القيم المادية للحضارة الغربية ويبحثون عن زعيم قوي ليتبعوه ، وقد وصف ( هوفمان ) هؤلاء الشباب بأنهم يعيشون في ضياع تام بعد أن فقدوا الثقة في تطبيق الديمقراطية وهي منبر المؤسسات الشرعية لدولهم وفي السلطة عامة ، وحذر ( هوفمان ) مستمعيه من أن قيم المجتمع الغربي ستتغير إلى أسوأ ، فالفردية ستتحول إلى نرجسية ، والحكم الذاتي إلى فوضى ، والتسامح إلى نسبية ، والتساهل إلى كراهية التقاليد ، والازدهار إلى متع حسية ، والعمل النشيط إلى استهلاك ، والمنافسة إلى مزاحمة قاتلة ، والرقة والحساسية إلى ضعف ، والأخوة إلى شمولية ، والمساواة إلى خضوع ، والإيمان بالله إلى الخوف من اتخاذ القرارات ... وهكذا أعطى ( هوفمان ) مستمعيه صورة للأعراض المرضية التي ستؤدي إلى انهيار الحضارة الغربية ويتساءل ( هوفمان ) عما إذا كانت العوامل الديموقراطية قادرة على التكيف مع هذه التغيرات أم أن الغرب سيقع ضحية أعماله ؟ وإذا كانت هناك فرصة لإنقاذ الغرب عن طريق صحوة دينية جديدة بعد أن استبعد انبثاق أيديولوجيات جديدة بديلة لتلك التي انهارت ، وأوضح هوفمان أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يستطيع أن يجذب الشباب في اهتمامه بالإخاء بين الناس ورفضه الطبقية واهتمامه الأكيد بالحياة " .
... ولما كان الإسلام لا يزال غريباً في العالم الغربي لذلك فإن اعتناق مثقف غربي يعمل في السلك الدبلوماسي ويحاضر في المسائل العسكرية للإسلام يثير حتماً بلبلة ذهنية واضطراباً نفسياً ، ذلك لأن اعتناق مثقف غربي للإسلام أكبر دليل على أن تلك الفكرة التي تسيطر على عقولهم عن الإسلام والمسلمين غير صحيحة ، ودليل آخر على أن الإسلام هو عدو الحضارة الغربية بل إنها هي في الحقيقة أكبر أعداء نفسها .(7/39)
... ويؤكد ( هوفمان ) أن المرء عدو ما يجهل خاصة وأنه إذا حاول الرجوع إلى جذور الحضارة التي يجهلها يتكشف له الكثير ، ويصبح قريباً إلى الفهم ، وأن الغربي لو رجع إلى جذور الحضارة الإسلامية لتبين له أن مصطلح ( الحرب المقدسة ) الذي استهلك باستخدام وسائل الإعلام له في السنتين الأخيرتين مصطلح لا علاقة له بالإسلام ولا يمت لمصطلح الجهاد بصلة ، ويمضي الباحث في توضيح الكثير من الأحكام الظالأمة التي الصقت بالإسلام عن سوء فهم وخطأ في القياس المنطلق من المعايير الغربية .
... ويرد ( هوفمان ) أسباب تدهور العالم الإسلامي إلى عوامل ثلاثة :
أولاً : أن العالم الإسلامي قد حورب في وقت واحد من المغول والمسيحيين وضرب في مقتل عندما هوجم مركزاه الرئيسيان في قرطبة وبغداد .
ثانياً : ترك الاجتهاد والاتجاه إلى التقليد في العالم الإسلامي وقد ظهر هذا في القرن الرابع عشر وأدى إلى ركود الحياة الفكرية .
ثالثاً : وهو الأهم في نظر المؤلف فهو سبب لا يتعلق بالعالم الإسلامي بل بالعالم الغربي ، وكان ذلك بظهور النظريات الرافضة للغيبيات والتركيز على الدنيويات بهدف جعل النظريات العلمية سبباً لكل الظواهر الكونية بدلا من إرجاعها إلى القدرة الإلهية .
... وهكذا تفجرت في الغرب طاقة محمومة لكشف أسرار الكون وزادت الاكتشافات وازدهرت العلوم بالتالي وزاد هذا من قوة الغرب وتمكنه من أسباب القوة وظل الغرب يسبق الشرق حتى الستينات والسبعينات .(7/40)
... ويقول : يرى المنصفون من مفكري الغرب أن الإسلام ليس هو الطريق الثالث بين الرأسمالية والشيوعية فقط وإنما هو الملجأ الأخير بعدهما ، واليوم أخذ الإسلام يستيقظ من جديد بينما المجتمع الصناعي الغربي يواجه العديد من الأزمات ذلك أن العالم الرأسمالي بدأ يدمر نفسه بنفسه بعد أن تسبب النجاح الذي وصل إليه في هدم القيم التي أسس عليها وهكذا تبدلت معاني تلك القيم في مجتمعات الرفاهية والبذخ وتحول مفهوم الفردية إلى نرجسية وأنانية وأسفر مفهوم التسامح عن تنحية المبادئ والقيم وتحولت المنافسة إلى جنون استهلاكي .
... ولقد كانت هذه الظروف هي التي مهدت للاتجاه مرة أخرى نحو الدين ونحو الإسلام بالذات ، أما العالم الإسلامي فقد ذهب إلى تقليد الأنظمة الغربية ( الليبرالية والجمهورية والاشتراكية والشيوعية ) ولم يلعب الإسلام في هذه المرحلة دوراً معنياً حيث إنها لم تكن حركات إسلامية وقد فشلت هذه الأنظمة التي اتبعتها الدول الإسلامية .
* ... * ... *
... وهكذا جاء صوت هذا المثقف المسلم القادم من الغرب ليكشف هذه الحقائق وليؤكد رسوخ الإسلام وصدق وجهته وأنه المنقذ الوحيد للبشرية كلها وللحضارة الغربية في المقدمة .
* ... * ... *(7/41)
... ويأتي في نفس الوقت بحث الدكتور ادوارد غالي ( المسيحي المصري والمستشار القانوني ) ليؤكد سلامة معطيات الإسلام بالنسبة لغير المسلمين يقول : " دراستي للإسلام أكدت أنه دين العدالة والمودة للبشر جميعاً لقد كان المكسب الوحيد الذي تحقق لي شخصياً من الأحداث المؤسفة المسماة بالفتنة الطائفية هو أنني عكفت على دراسة الإسلام دراسة منصفة وأن تلك الدراسة قد صححت عندي كثيراً من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام إذ تبينت أن الإسلام دين العدالة والمساواة والرحمة والمودة وحسن المعاملة للبشر جميعاً وخاصة أهل الكتاب منهم بل إن الإسلام يأمر بالرحمة والشفقة على الحيوان ، وليس على الإنسان فحسب ، وأن الإسلام يرفع شأن الإنسان من حيث هو تكوين بشري وقبل إن يصبح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً أو بوذياً والنصوص القرآنية في هذا الصدد شديدة الوضوح لأنها تتحدث عن الإنسان أو عن بني آدم أي عن الناس .
... وقد بينت الآيات القرآنية حرية العقيدة وأنه لا إكراه في الدين كما بينت أن التاريخ قد سجل التزام المسلمين بقاعدة ( لا إكراه في الدين ) بغاية الدقة فأبقى المسلمون في جميع البلاد التي فتحوها على الديانات و الملل وحموها ومكنوا أهلها من أداء شعائرهم ، وأن العدل في الإسلام قيمة مطلقة وليست نسبية وأنه لا رخصة فيه من قريب أو بعيد ، كما قال ابن تيمية أن العدل نظم كل شئ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة وهذا ما جعل السلف من قبل يتجاوزون عن الكافر العادل دون المسلم الجائر .
... كما يكشف الإسلام عن منزلة خاصة لأهل الكتاب وقد اعترف الإسلام بأنبياء اليهود وبالسيد المسيح وبذلك أضاف وشيجة إيمانية إلى الوشيجة الإنسانية محورها الرئيسي أن هذه الأديان الثلاثة تؤمن بالله ( تبارك وتعالى ) إلهاً واحداً أحداً لا شريك له .(7/42)
... ولقد ذهب جمهور المؤرخين إلى أن نقاط الالتقاء بين الإسلام والمسيحية والأرضية المشتركة الواسعة للدينين هي التي ساعدت على تحول الأقباط من المسيحية إلى الإسلام فقد رأو في الإسلام مخرجاً مريحاً من متاهة الخلاف المذهبي الذي كان محتدماً في ذلك الوقت حول الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين للسيد المسيح ورأى الكثير منهم أن الانتقال إلى الإسلام ليس خروجاً من دين إلى دين .
... وفي ضوء هذا التقارب بين الإسلام والمسيحية يمكن فهم الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الأنبياء أخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه شئ ) .
... وقد وضع الإسلام القاعدة الذهبية عن حقوق غير المسلمين ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) وقد التزم المسلمون على مدى أربعة عشر قرناً باستثناء بعض عهود الضعف والتهور التي لم ينج منها المسلمون أنفسهم - بهذه القاعدة ووضعوها موضع التنفيذ الدقيق في كافة معاملاتهم مع غير المسلمين عامة وأهل الكتاب خاصة .
... والشواهد على تطبيق هذه القاعدة من الكثرة بحيث يصعب حصرها منها : أن الذمي يتساوى مع المسلم من حيث حرمة الدم والعرض والمال وأن التضامن الاجتماعي مبدأ عام ، ويشمل جميع أفراد المجتمع مسلمين وغير مسلمين ويكفي أن نشير إلى قصة القبطي الذي شكا إلى عمر بن الخطاب ما حاق به من ظلم على يدي ابن عمرو بن العاص ، فأمر أمير المؤمنين بأن يقتص القبطي من ابن حاكم مصر قائلاً : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ .(7/43)
... كذلك أجاز الفقه الإسلامي أن يتولى غير المسلمين الوظائف القيادية في الدولة الإسلامية إلا الوظائف التي تغلب عليها الصبغة الدينية كالإمامة ، وقد ذكرت أمثلة عديدة لكثيرين من أهل الكتاب الذين شغلوا أرفع المناصب في العصور الإسلامية المختلفة ، وبينت أن تعبير ( أهل الذمة ) لم يعد متفقاً مع الواقع الراهن وأن الجميع يستمدون حقوقهم ويتحملون بواجباتهم من صفة المواطنة ثم انتقلت إلى موضوع ( الجزية ) وبينت أنه لم يعد وارداً في المجتمع الإسلامي الحديث لأن المقرر في الفقه الإسلامي أن الجزية تسقط عن الذمي إذا ما حارب في صفوف المسلمين .
... ويقول الدكتور ادوارد غالي : لقد بينت أن المؤرخين المسلمين والمسيحيين قد أجمعوا على أن الأقباط قد ساعدوا العرب المسلمين على فتح مصر وأنهم وقفوا إلى جانبهم ضد الرومان وأن اللقاء الأول بين عمرو بن العاص والبابا بنيامين ( الذي كان هارباً في الصحراء وأعاده عمرو إلى كرسيه ) ، وكان لقاءً ودياً .
... ويقول المؤرخون : ( وقرب عمرو إليه البطريق بنيامين حتى قد أصبح من أعز أصدقائه عليه ) ، وقد أجمع المؤرخون على أن الأقباط تمتعوا في ظل الحكم الإسلامي بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية واستعادة كنائسهم التي اغتصبها الروم .
ولقد بلغ الإسلام شأناً عظيماً في حسن معاملة الأقليات والبر بهم والقسط إليهم حتى ولو كانوا من الأعداء ومن الظلم البين أن يحاسب الإسلام بتصرفات بعض المسلمين ، فالعدالة تقتضي بأن تقاس تصرفات المسلمين بمعايير الإسلام .
* ... * ... *
ولا يتوقف العطاء وما يزال نور الإسلام يشرق من قلوب مؤمنة وتتواصل أضوائه على نحو معجز .
قضيتان عالميتان في ضوء الإسلام
نهاية التاريخ وصراع الحضارات
الإسلام يعرف لقاء الحضارات وليس صراع الحضارات(7/44)
... إذا كان للتاريخ نهاية بعد سقوط الماركسية كما يدعي بعض الباحثين الغربيين فإن هذه النهاية لن تكون بأي حال لحساب الحضارة المعاصرة أو الغرب الرأسمالي الليبرالي ، ذلك لأن الأزمات المتصلة بالغرب لا تقل خطورة عن الأزمات التي أودت بالماركسية والنظام الشيوعي أساساً ، هذا فضلاً عن أن الماركسية التي سقطت لم تكن جزءاً مستقلاً ، وإنما كانت قطاعاً من تجربة كاملة هي " الحضارة الغربية " فقد جاءت الماركسية كرد فعل للتجربة الرأسمالية الليبرالية أساساً غير أن السبب الذي عجل بسقوط الماركسية كان في عجزها عن التحرك والتطور ودخولها مرحلة القداسة التي حاولت أن تجعل منها نظاماً قريباً من نظام الأديان ، أما الغرب فإنه على الرغم من الأزمات والضربات التي وجهت إليه فإنه ما زال قادراً على تغيير المواقف والتحرك في سبيل الخروج من الأزمات .
... ومن هنا فنحن بشهادة الغربيين أنفسهم نرى أن مصير الغرب ومصير الرأسمالية الليبرالية مهما طال به الأمر فإنه سينتهي إلى نفس النهاية التي وصل إليها اليسار ، وذلك للأخطاء الأساسية التي ما تزال تنخر في جداره والتي هو عاجز الآن عن التحول عنها أو الخروج منها لأنها أصبحت من ثوابته الأساسية .
... أما ( نهاية التاريخ ) فهي تأتي بالنسبة لنظام آخر تترقب البشرية تناميه وامتلاكه القدرة لتحقيق وجوه العدل والرحمة والإخاء البشري الذي تتطلع إليه الإنسانية ، ذلك أن النظام الغربي القائم الآن قد استطال وتنامى على أساسين لابد أن ينتهي به إلى السقوط وهما :
( 1 ) عجزه عن الإيمان بالله تبارك وتعالى الذي أعطى علماء الغرب مفاتيح القدرة وأسرار العلم والقوة المسماة ( بالتقنية ) لإقامة هذا النظام :(7/45)
... إن أول الأدلة على سقوط الغرب هو سقوط الأيديولوجيات التي صنعتها العقول المسيطرة على المجتمعات المتقدمة صانعة الحضارة التي بدأتها منذ أكثر من خمسة قرون عندما استقلت بالعلم وجاءهم بغياً بينهم وعندما بدأت عصر التنوير فتنكرت للدين جملة واستغنت تماماً عن رسالة السماء بكل عناصرها وأعلت من شأن الإنسان على النحو الذي يجعله مسيطراً وسيداً للكون .
... هذا الانفصال الذي أحدثه العصر والتقدم بين عنصري الحياة فتنكر للألوهية وللوحي والنبوة والغيب والبعث والجزاء وتجاهل الإنسان مهمته الحقيقية التي قررها له الدين الحق ورسمها له الخالق الأكبر وحصل ذلك الانفصام الخطير بين الدين والمجتمع والدين والدولة وقامت فكرة العلمانية المسمومة الخطيرة التي تقرر أن الحياة هي العقل والحس وما سوى ذلك لا يدخل في دائرة التعامل .
... ومن هنا فقد أعطى الإنسان نفسه الحرية في تكوين نظام بشري للتعامل في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية مما أسموه الأيديولوجيات التي عجزت عن العطاء ولم تحقق للإنسان إلا الاضطرابات والأزمات ، فلما انتقلت هذه المعاني إلى بلادنا الإسلامية أوجدت صراعاً شديداً بين مفهوم خلق الإنسان الذي جاء به القرآن وما جاءت به نظرية دارون .
... وجاءت الأيديولوجيات الرأسمالية والماركسية متصارعة عاجزة عن العطاء وسرعان ما أصابتها التحديات فلم تكد تخرج من مأزق إلا لتقع في مأزق أشد منه .(7/46)
... هذه الأيديولوجيات لم تلبث أن أصابها العطب لأنها خرجت عن منهج الله وحاولت أن تقيم مناهج مضطربة بشرية عاجزة تخدمها الأهواء والمطامع ، وعجز الإنسان عن فهم مسؤوليته الحقيقية ورسالته الأصيلة وحين سقطت الأيديولوجيات وفي مقدمتها الليبرالية والماركسية سقطت إلى الأبد مذاهب الفلسفة المادية كلها : الدارونية ، والفرويدية في شأن النفس ونظرية سارتر ونظرية دوركايم عن العلوم الاجتماعية : كل هذه النظريات أصابها العطب وخرجت مفاهيم أخرى تدحضها وتصف قصورها وعجزها ، ذلك لأن هذه المذاهب قامت على الفلسفة المادية التي قررت أن للإنسان طبيعة واحدة هي : ( المادة ) وتتنكر لوجوده الحقيقي الذي شكلته ( قبضة الطين ونفخة الروح ) فهي قد عجزت عن إقامة المجتمع الحقيقي مجتمع الأمن والسلام .
... وكان الانحلال الاجتماعي هو أخطر أدوار هذا المجتمع فقد تفشت الشهوات و( ظهر الفساد في الأرض ) وفتحت أبواب التحلل والحرام في مجال المجتمع والمرأة كما تفشى في مجال المال والاقتصاد والتعامل المادي وأعانت القصة والمسلسل والإباحيات والقصص المكشوف والداعر وأدب الفراش إلى هدم الشباب الناشئ الذي أعجزته هذه الأهواء عن التمسك فسقط منهاراً .
... وكان خطر هذه المفاهيم بالغ الأثر في مجتمعها المتفكك المنهار ، ولكن الخطر الأشد قوة : هو خطر ما لحق بمجتمعنا الإسلامي القائم على القيم والضوابط والحدود التي رسم العلاقة بين الثوابت والمتغيرات .
* ... * ... *(7/47)
... هذه هي أخطر التحديات التي تواجه الحضارة والمجتمع الغربي كله ، وقد استتبعت التنكر للغيب والنبوات والبعث والجزاء ، وحولت مهمة الإنسان تحويلاً خطيراً : كل هذا هو الذي حطم وجهة الحضارة الغربية وأعجزها عن أن تكون حضارة عالمية أو إنسانية وأخطر من هذا كله تحطيم الثنائية التي تضم في مركب واحد : الروح والمادة وإقامة مفهوم المعرفة على العقل وحده وحجب الجوانب الروحية والمعنوية وتدمير قيم الأخلاق التي هي جزء من الدين نفسه : هذه الانشطارية التي فصلت بين الإيمان بالله تبارك وتعالى من جانب والتعامل مع الإنسان فرداً ومجتمعاً وهما في الحقيقة وحدة ثنائية القطب.
... كذلك فقد أخطأ الغرب في فهم ( الدين ) : على أنه تجربة فردية خاصة لا تذهب إلى أبعد من العلاقة الشخصية بالله تبارك وتعالى وتجاهل علاقات المجتمع السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها .
... كل هذا يوحي بل يؤكد أن البشرية التي تتطلع إلى منهج أصيل جامع قوامه الأمن النفسي ، وسكينة القلب والسلام الاجتماعي لا يمكن أن تجد نفسها في هذه التجربة التي امتدت الآن أكثر من خمسة قرون ثم لم تستطع أن يحقق للبشرية ما ترجو من سلام أصيل ومن ثم فإن تطلع الإنسانية إلى أشواق الروح وأمان المجتمعات ما يزال يبحث عن منطلق أصيل من داخل النفس لا يمكن أن يتخلى عنه الإنسان ولا أن ييأس من وجوده ، هذا الأمل العميق المستقر في أعماق النفس الإنسانية لن يتحقق إلا بالدين الحق الذي أرسل الله تبارك وتعالى به خاتم رسله .
... وبالجملة فإن سقوط الشيوعية هو نهاية التاريخ ولكن منهج الله هو نهاية المطاف بالبشرية .
( 2 ) الإسلام يعرف لقاء الحضارات وليس صراع الحضارات :(7/48)
... لقد عرف الإسلام في تاريخه كله : ( لقاء الحضارات ) وعرف لقاء الأجيال ولم يعرف الصراع لحظة واحدة في تاريخه كله ، ولقد أعطى الإسلام المجتمعات الغربية كل ما عنده من العلوم والتجارب والمعارف وسمح لأهل الغرب بتحصيلها في معاهد الأندلس ولم يضع أي قيد عليها ، وذلك لإيمانه بأن العلوم والمعارف هي من حقوق البشرية كلها وأنه لا يجوز حبسها أو حجبها لأنها من عطاء الله تبارك وتعالى الوافر ، ولذلك استطاع الغرب أن ينقل العلوم التجريبية والكيمياء والفلك وعلوم البحار والصناعة جميعاً ، بينما لم يفعل الغرب ذلك بعد أن أصبح نماء هذه العلوم في يديه ، بل لقد حجب عن المسلمين كتب التراث في خزائنه وما يزال يحجب عن المسلمين مقدرات العلوم حتى يحول بين المسلمين وبين الوصول إلى مرحلة الانتفاع الحقيقي وإيماناً منه بأن يظل عالم الإسلام مرتبط به ارتباط التبعية والحاجة المتصلة في محاولة ضخمة واسعة لحصاره ولجعله مصدراً للمواد الخام وسوقاً لبيع المصنفات ، ومن هنا جاءت فكرة صراع الحضارات مرتبطة بفكرة الصراع العامة التي يفرضها الغرب على مجتمعات المسلمين حيث لا يسمح لهم بأن يمتلكوا إرادتهم أو يقيموا حضارتهم المستقلة ومجتمعهم الخاص .
... ولقد ذهب الغرب إلى أبعد حد في محاولة تغريب العالم الإسلامي واحتوائه وصهره في الحضارة الغربية وفرض الكثير من جوانب الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد عليه .
... وما يزال العالم الإسلامي يجاهد جهاداً شديداً في الحفاظ على ذاتيته والعمل على الإبقاء على أصالته وانتمائه قائماً وكاملاً .
... إن علينا أن ننتبه إلى المحاولة الخطيرة التي ترمي إلى إدخال المسلمين في دائرة التسليم والخضوع وقبول الواقع وإنهاء المقاومة ، وإنما يرمي من وراء ذلك في الأساس إلى صهر المسلمين في بوتقة الحضارة الغربية ( اليونانية ، الرومانية أساساً والمسيحية واليهودية حديثاً ) .(7/49)
... إن التجربتين موجودتان : تجربة المسلمين في لقاء الحضارات حين جاء فقبل من الحضارات الغربية ولم تقبل ، قبل ما يتفق مع أصول الإسلام وقيمه ومفهومه الجامع من التوحيد والغيب والنبوة والبعث والجزاء وبأسلوبه القائم على الثوابت والمتغيرات .
... فلما جاء الغرب ليأخذ العلوم الإسلامية لم يتوقف وسمح له بأن يأخذ كل ما يشاء ، ولقد ظل الغربيون يأخذون إلى الوقت الذي أعلنوا فيه كفايتهم وعدم حاجتهم إلى قبول معطيات المسلمين فلما دارت الدائرة وتقدم الغرب في مجال العلوم التجريبية لم يقف من المسلمين نفس الموقف ولكنه حجب ذلك عن المسلمين ولم يقبل منهم إلا أن يكونوا مرتبطين به برباط التبعية التي لا تسمح بقيام حضارة مستمدة من أصلها القرآني الجامع .
... إن كل ما يدعي الغرب إليه الآن من حوار مع الأديان أو تعاقدات إنما يرمي إلى السيطرة ولكن المسلمين الذين شكلهم القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً على الأصالة والانتماء إيماناً منه برسالته الربانية التي وكلها إليه تبارك وتعالى لإبلاغها للعالمين .
... هذا فضلاً عن أن النظريات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي إنما ترمي إلى تفكيك الوحدة الجامعة بين المسلمين والحيلولة دون امتلاك إرادتهم وإقامة مجتمعهم الأصيل : وهذه النظريات المقدمة للمسلمين سواء أكانت الحداثة أو البينيوية أو العبثية أو غيرها إنما تهدف كلها إلى تمزيق الجبهة الصامدة التي شكلها الإسلام ، وتلك دعوة قديمة متجددة : بدأها المستشرق جب حين دعا في الثلاثينات إلى إقامة ثقافة محلية في كل قطر إسلامي مستقلاً عن الآخر حتى تتمزق الوحدة الثقافية الجامعة التي صنعها الفقه الإسلامي ، والهدف : هو انصهار المسلمين في بوتقة الماسونية والعلمانية والفلسفة المادية .(7/50)
... لقد أعطى الإسلام للمسلمين الحق في قبول كل صالح مما تعدمه تجارب الحضارات والأمم خلال العصور وفي مختلف البيئات ما دام لا يتعارض مع منهج الإسلام ، لقد أخذ المسلمون كل ما وجدوه إيجابياً من علوم الأمم وحضاراتهم إيماناً بحكمة رسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال : ( إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ) .
... ولقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يصهروا كل ما يأخذونه من علوم الأمم وحضارتهم في بوتقتهم الأصيلة حتى لا يكون هذا الذي أخذوه عاملاً على صهرهم في بوتقتهم الأصيلة حتى لا يكون هذا الذي أخذوه عاملاً على صهرهم في ثقافات الأمم أو تضيع ملامح ذاتيتهم وحتى ينفي مفاهيم الأصيلة الجامعة الأساسية القائمة على التوحيد الخالص قائمة في الثوابت ، فالإسلام لا يكره أحداً على قبول فكرة ولا يقبل إن يكرهه أحد على قبول فكر الأمم .
* ... * ... *
... إن سماحة الإسلام التي وسعت البشرية كلها تكشف عن الحقيقة الجوهرية بما يؤكد لقاء الحضارات ، فقد اعترف الإسلام بالدينين الكريمين ( ما أنزل على موسى وعيسى ) واعترف بالكتابين المنزلين ( التوراة والإنجيل ) وكان كريماً في معاملة أهل الأديان وعمل ما وسعه الجهد في المحافظة على معابدهم وأتاح لهم حرية العبادة وفي كل مكان دخل إليه استقبلوه بالقبول فقد خلصهم من عنت الرومان وظلمهم وحكم قاضيهم في سمرقند بخروج الجيوش المسلمة بعد دخولها لأنها لم تعلن قدومها نحو ما رسمت الشريعة ، أما صلاح الدين فقد رفض دعوة رجاله في الانتقام عند خروج الصليبين من بيت المقدس على النحو الذي عمله الفرنجة عند دخولهم فقتلوا سبعين ألف مسلم ، رفض صلاح الدين ذلك وقال : " إن ديني لا يسمح لي بمثل هذا العمل " ، بل إنه ذهب إلى أصحاب السفن الذين رفضوا أن يحملوا الصليبيين العائدين وفرض عليهم ذلك وتحمل الجزية عن آلاف الفقراء وسمح لرجال الدين عند خروجهم من القدس بحمل كل ما يستطيعون حمله .(7/51)
... هذه هي سماحة الإسلام التي ستظل قائمة ونافذة على مدى العصور مما يؤكد مفهوم الإسلام في لقاء الحضارات وليس صراع الحضارات .
* ... * ... *
... إن الحقائق التي كشف عنها الإسلام حتى الآن لتوحي بأنها تمثل الثروة المخبوءه التي يتطلع إليها العالم كله ، وقد مرت به العصور وهو يواجه الأزمات نتيجة تنكب منهج الله تبارك وتعالى وإقامة المناهج المادية والبشرية بديلاً عن منهج الله وشريعته التي أنزلها لتهدي البشر إلى الطريق الصحيح .
... وإذا كانت الحقائق التي كشف عنها الإسلام واضحة تحقيقاً للآية الكريمة : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) فإن المذاهب والمناهج والدعوات التي سقطت وعجزت عن العطاء : كل هذا يكشف الطريق الواضح لقرب تحقيق الأمل الذي تنتظره البشرية .
... إن دعوة الغرب إلى عالمية أو عالمية الثقافة لا تهدف إلا لغاية واحدة هي احتواء الإسلام في دائرة حضارة الغرب أو ثقافته ، وهو أمر لم يعد في الإمكان تحقيقه بعد أن جرب الغرب ألف مرة وفشل في التجربة وقد تبين له أن عالم الإسلام لا يمكن أن ينصهر في عوالم أخرى مهما كانت تملك اليوم القوة أو السيطرة : ذلك لأن منهج الإسلام لا يزال يمثل غاية الإنسانية وقمة العالمية وحاجة البشرية كلها والأمل الذي يملأ القلوب والعقول والذي تسعى إليه البشرية كلها اليوم : هو أملها الوحيد لتصل إليه .
المناهج الوافدة
( 1 ) مناهج وافدة كشف الإسلام زيفها .
( 2 ) تصحيح المسيرة .
( 3 ) حطم الإسلام مؤامرة التبعية وأمام منهج الأصالة .
مناهج وافدة كشف الإسلام زيفها(7/52)
... في خلال أكثر من مائة عام حاول النفوذ الأجنبي بسلطانه المفروض على الأمة الإسلامية أن يقدم مجموعة من المفاهيم الوافدة والمناهج الغربية لزرعها في تربة المسلمين القرآنية كبديل لمفاهيم التوحيد الخالص ولكن الأرض رفضت الجسم الغريب واستطاع العقل الإسلامي والوجدان الإسلامي استعادة إيمانه بأصالته بالعودة إلى المنابع .
... وكان منطلق ذلك هو تصحيح الفهم لحقيقة الإسلام بأنه دين عالمي إنساني رباني خاتم رسالات السماء وصاحب المنهج الجامع بين المادة والروح والقائم على إقرار العلاقتين الأساسيتين : بين الإنسان والله تبارك وتعالى وبين الإنسان والمجتمع.
... وكان هذا هو المفهوم الذي حاول النفوذ الأجنبي حجبه وإقرار مفهوم ( العلمانية ) في الفصل بين الدين والمجتمع في سبيل إيجاد تصور قائم على العبادة واللاهوت وإحياء مواسم الهجرة والمولد النبوي فحسب .
... ولقد كان الفهم الصحيح للإسلام الذي انطلق بعد سقوط الخلافات الإسلامية بمثابة يقظة جديده لهذه الأمة المتجددة دائماً بتأثير إحياء القرآن الكريم والسنة النبوية ، في جولة جديده ظلت تتنامى اليوم حتى بلغت أشدها ودخلت مرحلة الصحوة في طريقها إلى مرحلة النهضة بإذن الله :
( 1 ) لقد كانت ( العلمانية ) هي أخطر هذه المناهج الوافدة التي حاولت أن تفرض نفسها من خلال حجب الشريعة الإسلامية وإحلال القانون الوضعي وفرض نظام الربا على الاقتصاد وتغيير المناهج الدراسية وإخراج مادة " الأصالة " ومادة " التميز " ومادة " الربانية " وحجبها جميعاً في محاولة لوضع الإسلام في صف الأديان البشرية والمحرفة وإزالة ذاتيته الخاصة وهيمنته على الدين كله وحجب حقائقه الأساسية التي كشف بها زيف الانحرافات التي وقعت في الأمم السابقة .(7/53)
... ... ولقد جاءت تجربة العلمانية إلى العالم الإسلامي منقولة من وضع خاص قام في الغرب فيما يتعلق بالخلاف بين العلم والكنيسة بينما لم يشهد الإسلام مثيلاً لذلك حيث جاء الإسلام منذ اليوم الأول نظاماً للحكم وجاء في نفس الوقت مرناً قادراً على العطاء لا يمكن أن تتجاوزه المتغيرات لقدرته على الانفتاح على الحضارات دون أن يفقد ( ثوابته الأساسية ) .
... ولقد أريد بالعلمانية حجب التطبيق الإسلامي خاصة في مجال الاقتصاد تحت سيطرة القوى العاملة التي تعمل على إقامة إمبراطورية الربا ، وفتح الطريق لهدم الضوابط والمقومات والحدود التي أقامها الإسلام للمجتمع القائم على الأخلاق التي هي جزء أساسي من العقيدة .
((7/54)
2 ) ولقد كانت ( نظرية دارون ) هي منطلق لمحاولة الاحتواء التي فرضها الغرب على الأمة الإسلامية ، فقد استغلت القوى المسيطرة هذه النظرية من أجل عدة محاذير أرادت بها هدم المفهوم الإنساني الكريم الذي رسمه الإسلام للبشرية ، فقد جاءت بديلاً لنظرية ( روما سادة ومن حولها عبيد ) من حيث حاولت أن تدعو إلى بقاء الأصل وإفناء الضعيف والمريض ومن حيث إعطاء حق السيادة للأقوى المتغلب ، وكانت بهذا سلاحاً خطيراً في وجه الاستعمار للسيطرة على مناطق واسعة في أفريقيا وآسيا ، كما أنها وضعت موضعاً خطيراً من حيث تأثيرها في المجتمعات ، حيث أخرجها ( هربرت سبنسر ) من نظرية بيلوجية قائمة على وضع علمي إلى فلسفة اجتماعية عامة تدعو إلى التطور المطلق إلى ما لا نهاية وعدم إقرار مفهوم الثوابت أساساً فكان ذلك خطراً شديداً على الدين وعلى المقدسات حيث تنتج فكر يقول : بأن الماضي كله لا قيمة له وأنه من الفكر البالي المتأخر ، وكان الهدف في هذه المرة هو مهاجمة الأديان جملة ، وفي أفق العالم الإسلامي كان الهجوم على ثوابت الإسلام وظهرت دعوات مضللة تتحدث عن تطوير الإسلام في مراوغة خادعة ترمي إلى وضع الإسلام : ( الدين المنزل بالحق والذي ما زال كتابه غضاً طرياً محفوظاً من التحريف ) وضعه موضع الأديان البشرية والتي غيرت نصوصها أو حرفت كتبها .(7/55)
... ولقد فشلت نظرية دارون في أن تقنع أحداً بما ادعته من صلة بين الإنسان والقرد ، وتجاوزتها الأحداث والحفريات التي أكدت بأن الإنسان خلق مستقل عن الحيوان ، وأنه كان مستقيم القامة منذ ملايين السنين ، كذلك فشلت في دعواها لأنها هدمت نفسها منذ اليوم الأول بأن بها حلقة مفقودة ، وقد استطاع كثير من آباء التلاميذ في الغرب كسب قضايا في المحاكم الأمريكية برفع دراسة هذه المادة المضللة في المدارس ، وهي ما زالت في مدارسنا الإسلامية تثير كثيراً من المتاعب للتناقض بينها وبين المفهوم الديني الذي قدمه القرآن الكريم في خلق القرآن .
... ولقد كشفت بروتوكولات صهيون عن أن القوى الهدامة استعانت بنظرية دارون من أجل إقرار مفهوم باطل مضلل ما زال يستعمل على أوسع نطاق وهو أن الإنسان حيوان مع أن الإنسان كرمه الله تبارك وتعالى على جميع خلقه ، ولقد قدم علماء المسلمين عشرات الأبحاث في كشف زيف هذه النظرية وفسادها .
((7/56)
3 ) وحاولت المناهج الوافدة تضليل شباب المسلمين في المدارس والجامعات وعن طريق التعليم والصحافة قبول مفهوم ( الليبرالية ) المرتبط بالرأسمالية في ظل مفهوم ( الربا ) وما يتصل به من نهب ثروات الأمم في مقابل تقديم بدائل قليلة واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة ، ثم إعادة تصدير هذه الموارد مصنعة إلى نفس البلاد بأسعار مرتفعة مما أدى إلى اعتصار الموارد في البلاد الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة النفوذ الأجنبي ، وما تزال غير قادرة حتى اليوم على التخلص منه ، مما نتج منه ذلك الوضع الذي يسمونه دول الشمال الغنية التي تفيض فيها الخيرات والموارد عن حاجة الناس ودول الجنوب ذات الموارد الضخمة ( كالبترول والمنجنيز والكوبالت ) وهي ما تزال معتصرة في دائرة سيطرة البنك الدولي وسلطانه ، ومن الناحية الأخرى جاءت الماركسية بدعوى عريضة ترمي إلى إقامة الجنة الموعودة ، ثم ما لبثت الأحداث خلال سبعين عاماً أن كذبت دعواها وكشفت عن عجزها عن تقديم الأمن والأمان لأهلها المطحونين وراء نظريات الصراع الطبقي ، والإيمان بالمحسوس وإنكار وجود الله تبارك وتعالى ، والتفسير المادي للتاريخ ، واحتقار الأديان : كل هذا كشف عن فساد في التصور استمد مفاهيمه من التلموديات ومفاهيم برتوكولات صهيون وإلحاد التنوير مما يتعارض مع الفطرة والعلم الصحيح .
... ولقد جربت أمتنا الإسلامية كلا الأيديولوجيتين وقد تبين عجز كل منهما عن العطاء ، وكشفت الماركسية جواً من الظلام والقتامة ورياح السموم وأعاصير الظلم والفساد مما أكد للأمة الإسلامية أنه ليس هناك غير منهج واحد : هو منهج الإسلام صاحب العطاء الرباني الأصيل والقادر على إخراج المسلمين من الأزمات والأخطار والتحديات .(7/57)
... ليست الرأسمالية وليست الماركسية أو الاشتراكية بقادرة على العطاء في بلادها فكيف تكون قادرة على العطاء في أفق الإسلام الذي حمل للبشرية أكرم منهج في العدل والرحمة والسماحة والإخاء ، ولقد تنادت الدول العالمية اليوم مطالبة بنظام عالمي جديد يحقق الأمن والسلام والعدل للمجتمعات البشرية بعد أن فشلت التجربة خلال أكثر من قرن من الزمان وعجزت عن العطاء الحقيقي .
... وفي تقدير كثير من الباحثين الغربيين أنه ليس غير الإسلام : فهو القادر على حل مشاكل البشرية وإحلال الأمن والسلام في ربوع هذا الكوكب .
( 4 ) ولقد حاول الغرب أن ينتقص من قدر الأمم التي تمر بمرحلة الضعف والتخلف بعد جولة طويلة امتدت أكثر من ألف عام ، فدفع إلى الوجود ( نظرية الأجناس ) في محاولة للادعاء بأن الشعوب البيضاء وحدها هي صانعة الحضارة ، وأن الشعوب الملونة كانت وستظل مستعبدة تخدم وجود السادة البيض ، وتعلل في سبيل ذلك بعلل كثيرة ، ولكن جميع الأبحاث العلمية الصحيحة أكدت فساد نظرية الأجناس وكشفت عن أن التركيب البيولوجي والبشري والعقلي في الإنسان الملون لا يختلف وأن البيئات نفسها هي التي تمكن من ظهور التفوق .
وقد أسقط الإسلام نظرية الأجناس منذ أربعة عشر قرنا وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى الناس لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .
((7/58)
5 ) كذلك حاول الغرب إنقاص المسلمين والحد من وجودهم حين أطلق كلمته المضللة ( الانفجار السكاني ) وكانت الوجهة هي مواجهة الخطر الذي يتمثل الآن في نضوب النمو السكاني في الغرب وما يزلزل عقول السياسيين والمفكرين الغربيين حين يزداد عدد المسلمين ويتحول الغرب عن سيطرته الاقتصادية وسلطانه ونفوذه ، فلا شك أن هناك مؤامرة خطيرة ترمي إلى فرض ( تحديد النسل ) على المسلمين وحدهم دون غيرهم ، في نفس الوقت الذي تتزايد فيه أعداد اليهود المهجرين إلى فلسطين المحتلة وغيرهم من الأديان في محاولة لمحاصرة المسلمين وعدم تمكنهم من استرداد القدس أو القيم بدولهم في تبليغ الإسلام إلى العالمين .
( 6 ) ولقد قاوم الإسلام المحاولة الرامية إلى تشكيل خليط من الإسلام والقومية أو الإسلام والماركسية أو الإسلام والليبرالية وهي محاولة باطلة وفاسدة ومستحيلة : ذلك أن الإسلام يستحيل على التركيب والخلط ، وأنه منهج رباني يعلو على المناهج البشرية وتميز بذاتيته الخاصة ، ومن هنا فإن الدعوة إلى التوفيقية التي يحاولها بعض العلمانيين اليوم لن يستطيع أن يحقق شيئاً كما لن يستطيع الذين يريدون أن يجعلوا من الإسلام مبرراً لانحرافات الحضارة وفسادها عن طريق الموائمة أو الالتقاء وذلك لأن الإسلام منذ يومه الأول وقد تقررت استقلاليته وأنه لن يكون يوما ما أداة في سبيل تبرير انحرافات الأمم والحضارات وعلى الأمم والحضارات أن تعدل طريقها أساساً حتى تلتقي بمفاهيمه الثابتة وقيمه الأصيلة ، وقد أقام الإسلام منهجاً جامعاً بين الثوابت والمتغيرات وهو منهج مرن واسع الأطر ، قادر على استيعاب كل تطور وتغير دون المساس بالأصول الثوابت .(7/59)
... وعلينا أن نفهم القانون الأساسي للحركة والتطور وهو قانون مترابط بين عنصر الثبات وعنصر الحركة وبين القيم الموروثة والقيم المكتسبة وبين الثبات والتغيير ، وعلينا أن نحقق الموائمة بين روح الأمة ، وروح العصر دون إذابة الشخصية أو تضيعيها ، إن الحقيقة الأساسية هي أن مفهوم الإسلام الأصيل قد تأكد اليوم بحيث لا يمكن خداع المسلمين عنه أو تزييفه ، وتلك هي أبرز حقائق الصحوة الإسلامية ، أما ما بعد ذلك فهو إقامة البدائل الإسلامية وتحرير القيم والمفاهيم وقيام منهج التأصيل الإسلامي للخروج من التبعية والدخول في دائرة الأصالة .
ليس انسحاباً من العصر وارتداداً إلى الماضي
ولكنه تصحيح المسيرة إلى المنهج الأصيل
بعد أن هزمت المناهج الوافدة
... لا أعتقد أن أمة من الأمم تدخل في تجربة ثم يتبن لها فسادها أن تظل مصرة على المضي فيها أو مفارقتها خاصة إذا كانت هذه التجربة وافدة عليها مفارقة لمعالم عقيدتها وفكرها وقيمها ، وبماذا يمكن أن توصف أمة تضل طريقها الأصيل وتعجز محاولتها تقليد الآخرين عن تقديم أي شئ نافع أو إيجابي لها ، هل تظل مصرة على الوجهة الخطأ أم يحسن بها أن تعود إلى منهجها الصحيح الذي بناها خمسة عشر قرناً وكون لها عوامل مزاجها ونفسيتها وعقليتها وقدم الضياء للدنيا كلها ألف سنة كاملة على مساحة تمتد من حدود الصين إلى حدود اللوار .
... فإذا جاء دعاة الحق فوجهوا هذه الأمة إلى المنابع وطريق الأصالة وإلى المنهج الرباني بعد أن تحطمت كل الخطط الوافدة خطة بعد خطة على مدى أكثر من قرنين من الزمان صاح المضللون في وجوههم وصخبوا واتهموهم بالارتداد إلى الماضي أو الانسحاب من العصر في دعاوى عريضة تحملها صحف ذات انتشار واسع وفي خداع من ألفاظ التمويه والتضليل التي عرفوا بها وهي بضاعة العاجز المهزوم .(7/60)
... والحق أن معسكر التغريب والغزو الفكري يهتز اليوم اهتزازاً شديداً حين يرى سهام الصحوة تنفذ إلى قلب الباطل فيسقط مضرجاً بجراحه مهزوماً مدحوراً ، وقد كانوا يظنون أن المؤامرة قد وصلت إلى غايتها وحققت هدفها وأن الأمة الإسلامية قد غربت تماماً واندحرت فيها كل عناصر القوة والنضال والمقاومة وأصبحت الأرض ممهدة للاحتواء الكامل والانصهار التام في بوتقة الحضارة الغربية بكل عوامل فسادها وزيفها وخروجها على منهج الله .(7/61)
... لقد كانت تلك القوى المتربصة بالإسلام تعمل في مختلف ميادين التعليم والثقافة والصحافة لتفرض مفاهيمها وقيمها وتدمر كل مقومات الفكر الإسلامي الحقيقية في مجالات القانون والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتحتويها في دائرة مغلقة تتنكر للدين المنزل بالوحي وكل ما يتصل به من غيب وقيم وحقائق في سبيل إعلاء النظرية المادية العلمانية التي ظنوا أنها قادرة على احتواء العقل الإسلامي والوجدان الإسلامي وحسبوا أنهم قادرون على فرض الليبرالية أو الاشتراكية أو القومية ( وهي نظم وضعها الغرب لنفسه في وجه تحدياته الخاصة ) وإنها ليست أيديولوجيات عالمية ، ولذلك فقد عجزت حين طبقت في عالم الإسلام أن تحقق عجزاً كاملاً عن العطاء ، لأن المجتمع الإسلامي كان قد عاش ثلاثة عشر قرناً قبل سيطرة النفوذ الأجنبي عليه من خلال منهج رباني جامع ، ومن هنا فإن هذا المنهج الوافد الذي فرض على المسلمين إبان مرحلة الاستعمار التي لم يكونوا خلالها يملكون إرادتهم لا يمكن أن يصبح لزاماً أن يخضعوا له مدى الحياة ، وأن من حقهم متى استطاعوا أن يعودوا إلى طريقهم الأصيل الذي تجاوزوه رغم إرادتهم قرناً من الزمان ، ولقد فرضت على أمم كثيرة أوضاع سياسية واجتماعية في ظروف احتلال أو تسلط قاهر ، ولكن ذلك لم يكن ملزماً لها أن تظل مدى الحياة مستعبدة لهذا الوضع المؤقت ، ولا ريب أن أزمة الأمة الإسلامية كلها في تخلفها وضعفها هي من الأمور العارضة التي حذرها منا منهجها القرآني ودعاها إلى المرابطة والإعداد والقدرة الدائمة على الردع حتى لا تتعرض للسيطرة والاحتواء ، ولكن أن يحاول بعض دعاة التغريب أن يصور الأمر على نحو زائف بأن الوضع السياسي والقانوني الذي خضع فيه العالم الإسلامي للقانون الوضعي هو الأصل ، وأن المحاولة التي تجري الآن هي تصحيح الوجهة عملية مشتبه فيها يرمي القائمون بها بأنهم يدعون إلى الارتداد للماضي أو الانسحاب من العصر ، وها هو كذلك فليس(7/62)
هناك ارتداد ولكن عودة إلى المنابع وتصحيح لأوضاع خاطئة فرضت على أمة تدين بمنهج رباني وشريعة محكمة ، حال الاستعمار بينها وبين تطبيقها تحت ضغط نفوذه العسكري ثم فرض عليها تشريعاً وضعياً ثبت خلال أكثر من مائة عام ، أنه لم يستطع أن يحقق لهذه الأمة إلا فساداً خلقياً واضطراباً اجتماعياً ومآسي لا تعد ولا تحصى دمرت الأسر والعائلات وأصابت المجتمع بالاضطراب واعجزته عن أن يتطابق مع أخلاقيات الإسلام ، وأعجزت العلاقات بين الرجل والمرأة والآباء والأبناء أن تكون سوية ناجحة .
... فليس في هذه الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ارتداد ، بل إن الردة الحقيقية في أن يقبل المسلمون القانون الوضعي ويستسلمون له .
... أما العصر فإن له مفهوماً آخر ، فليس للعصر في الحقيقة قداسة تجعله يرتفع عن قبول منهج الله والإذعان له .
... وإن دعاوى روح العصر والاستسلام للعصر أمور لا يمكن أن يقبلها الفكر الإسلامي على النحو الذي تطرح به في أفق الفكر الغربي أو فيما يرسمه مخططات الماسونية والعلمانية الوافدة ، إن روح الأمة أعظم من روح العصر ، وأن العصر قادر على تقبل المنهج الذي يدفعه إلى الأصالة والسداد ، وعلى العصر أن يكون قادراً على الموائمة مع منهج الله تبارك وتعالى يتحرك في دائرته ، إما أن يطلب منا أن نستسلم للعصر فتلك وثنية جديدة غير مقبولة .
... وإذا كان العصر منطلقاً وراء الأهواء والشهوات والطامع والاستعلاء فإن ذلك لا يكون مبرراً أبداً لقبوله ، وإنما يطلب العمل على تصحيح مسيرته ، ومن هنا فإن رفض أسلوب العصر المنحرف لا يعد خطأ يحاسب عليه دعاة العودة إلى منهج الله .
... ليس للعصر قداسة تجعل الانسحاب منه جريمة يرتهن بها طلاب الأصالة والعودة إلى المنابع ، وليس هناك علاقة بين قبول منهج التقدم ورد انحراف العصر ومفهوم التقدم في الإسلام مزدوج : مادي ومعنوي .(7/63)
... لقد كان الإسلام ولا يزال هو منهج الله تبارك وتعالى وخاتم رسالات السماء والضياء المبين للبشرية في طريق حركتها وحياتها ، فليس التماسه والكشف عن جوهره ودعوة الناس إليه على أنه منقذ الإنسانية مما يتردى فيه اليوم ، ليس هذا مما يطلق عليه ارتداد للماضي أو ما يوصف بالتراثية أو السلفية أو شئ من هذا كله ، فذلك جوهر أصيل رباني لا يمكن أن تطبق عليه أوصاف الحادث مما يوصف به التراث أو التاريخ أو الماضي .
... إن هذه المصطلحات المقذعة التي تطلق اليوم سخرية واستهانة بالتيار الإسلامي وانتقاصاً من قدره ، إنما تدل على العجز الحقيقي عن تقدير مكانة هذا الجوهر الذي تهتدي به البشرية في مسيرتها خلال هذا العصر وكل العصور ، وأن إعراض بعض ذوي الأهواء عن نور الحق وجوهر العطاء الرباني لن ينقص من قدر هذا الكنز الذي يبدو الآن وكأنه مختلط بالتراب ، بينما نرى فتات موائد الغرب ومذاهبه وأيديولوجياته البشرية المضطربة المختلفة بالأساطير والخرافات الملتبسة بالوثنيات والماديات والإباحيات وكأنها ضوء ساطع متوهج ولو إلى حين ، كل هذا لا ينقص من قدر منهج الله الذي وعد الحق تبارك وتعالى بنصره وتأييده وإظهاره على كل هذه الدعوات والفلسفات .
... إن الإسلام لا يدعو إلى الانسحاب من العصر ، وليس استلهامه في مسيرة الحياة ارتداد إلى الماضي فهو فوق عامل الزمن وعامل حركة الحياة ، ولكنه تصحيح للمسيرة إلى المنهج الأصيل بعد أن هزمت المناهج الوافدة في أفق الأمة الإسلامية ولم يعد أمام المسلمين إلا إلا طريق واحد : هو طريق الله تبارك وتعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) صدق الله العظيم .
التبعية والأصالة
حطم المسلمون مؤامرة التبعية
وأقاموا منهج الأصالة(7/64)
... حمل الاستعمار معه إلى بلاد المسلمين مفهوماً مختلفاً عن مفهوم الإسلام ، حمل معه ( العلمانية ) التي تفرض نظاماً مختلفاً للتعليم والاقتصاد والحكم والقضاء يستمد مناهجه من النظم الغربية وحاول في نفس الوقت تصوير الإسلام بصورة اللاهوت ( العلاقة بين الله والإنسان ) وحجب العلاقة بين الإنسان والمجتمع وفرض مفاهيم الغرب على هذه الأوضاع في محاولة لجعل الإسلام ديناً لاهوتياً صرفاً .
... ومن أجل إقرار هذا المنهج عمد النفوذ الأجنبي إلى تربية جيل جديد يحمل هذه المفاهيم وكانت الصحافة والتعليم هي المجال الخصب لتحقيق هذه الغاية .
... وطرحت في هذا المنطلق مجموعة من المفاهيم المسمومة التي كانت ( الماسونية ) قد أعدتها للتبشير بها بين أتباعها .
أولاً : إعلاء الإقليميات وهدم الوحدة الإسلامية :
ومن هنا كانت الحملة شديدة على الروابط الجامعة بين القطار العربية والإسلامية وكان ذلك توطئة لهدم الوحدة الممتدة في الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية .
وقام بهذا الدور لطفي السيد وعلى عبد الرازق وغيرهم كثيرون ( لطفي السيد يمثل مدرسة الجريدة وحزب الأمة ) وكان هدف تحطيم وحدة الأمة الإسلامية هو أكبر أهداف النفوذ الأجنبي حتى لا يتجمع المسلمون في وحدة قوية تحول بين الغرب وبين السيطرة ونهب ثروات الأمة الإسلامية .
ثانياً : " التبشير " وفتح المجال أمام الإرساليات المسيحية سواء منها الكاثوليكية أو البروتستانتية للعمل ، وعمل الخديوي إسماعيل على إعانة هذه الإرساليات بعد أن فتح لها إبراهيم باشا الطريق إلى بلاد الشام ، وكان أخطر وجود التبشير في مجالات التعليم والثقافة في محاولة لاحتواء الأجيال الجديدة .
ثالثاً : الحرب على الإسلام أساساً :(7/65)
... وهذه معركة اشتركت فيها كل القوى المعادية للإسلام والمخالفة له غربية ومسيحية ويهودية وهندوكية وبوذية في محاولة لاقتلاع جذور الإسلام ، ولما كان ذلك عسيراً فقد اتجهت إلى إثارة الشبهات حول أسسه وقواعده وقيمه ، وكان أخطر ما دعت إليه عن طريق قنوات التغريب والغزو الثقافي تفريغ الإسلام من منابعه وجذوره وتصويره على أنه دين لاهوتي ليس له نظام اجتماعي ولكنه قاصراً على العبادة ، وكان هذا هو مفهوم العلمانية بصورة أو بأخرى ولكن هذا المفهوم لم يجد تقبلاً من الوجدان المسلم الذي تشكل خلال أربعة عشر قرناً ونما واتسع وأصبح حقيقة واقعة .
* ... * ... *
... وقد ظل المسلمون والعرب يراوحون بين تقبل النموذج الغربي أو رفضه حتى أحسوا بعد نكسة 1967م بأن كل محاولات ودعاوى العصريين في تقبل النموذج الغربي بوصفه منقذاً للأمة الإسلامية أو محققاً لأهدافها أو عاملاً لامتلاك إرادتها هو محض وهم خطير .
... وإن الأمة الإسلامية لها من خلال عقيدتها منهجاً مختلفاً وقوانين وسنناً لا يختلف سواء في الحرب أو في الحضارة أو في الاجتماع .
... وقد استطاع رواد اليقظة ودعاة الصحوة خلال العقود الأربعة الماضية تصحيح هذه المفاهيم وكشف زيف هذه الدعاوى التي قدمتها فلسفات الغرب المادية ومناهجه ونظمه .
... وكان لابد من العودة إلى المنابع أساساً بتصحيح مفهوم التوحيد الخالص على النحو الذي جاءت به دعوة التوحيد قبل قرن ونصف قرن كما حملها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما اتصل بها من محاولات للنهوض حمل لواءها الشوكاني والزبيري وجمال الدين ومحمد عبده والألوسي وابن عرفان وصولاً إلى مفهوم لا يتغير ولا يتبدل وهو أن الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع .(7/66)
... ولقد أعلن حملة لواء الصحوة الإسلامية ومن قبل حملة لواء اليقظة : أن هذه الحضارة الغربية لا تصلح منهجاً لحياة المسلمين وأنه لابد من كشف زيفها وإعلان فسادها وعجزها عن العطاء ، وقد تبين سقوط التجربة الغربية كلها بعد أن طبقت معظم بلاد المسلمين هذا النظام ، وقد تبين مدى الخطر الذي أصاب المسلمين والعرب عندما فرض القانون الوضعي وحجبت الشريعة الإسلامية وكان لها أثارها الخطيرة على تدمير الأسرة المسلمة واضطراب المجتمع الإسلامي .
... وقد بلغت هذه الآثار مداها في سيطرة النظام الربوي على الاقتصاد الإسلامي وسيطرة النظام العلماني على التربية والتعليم ، وكيف أن هذه النظم قد فرضت على المسلمين والعرب نتيجة مرحلة الضعف والتخلف التي مرت بها أبان الاحتلال الغربي ، وأنهم لم يصلوا بهذه النظم اختياراً .
... وقد كان من الضروري أن يكون نضال اليقظة والصحوة خلال العقود الثلاثة الماضية منصباً على تحطيم المفهوم المضلل الذي ظل يبثه الغرب أكثر من سبعين عاماً بين المسلمين والعرب وهو مفهوم سيطرة الغرب بالتبعية على وجودنا ومجتمعنا أو الدعوة إلى أن نكون ذيولاً لحضارة منهارة ، أو نقبل منهج وافد بشري بديلاً عن المنهج الرباني الأصيل .(7/67)
... فهذه هي أولى عمليات هدم النفوذ الأجنبي وتدميره ، واليوم قد سقطت التجربة الشيوعية على هذا النحو الخطير ، فقد انكشف فساد الولاء للغرب جملة وتأكيد للمسلمين أنه ليس لهم منهج صحيح أو طريق صاعد غير منهجهم الرباني الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وبشر به القرآن الكريم خاتماً لأديان السماء ، ديناً عالمياً ليظهره على الدين كله ، وليقيم للبشرية المجتمع الأصيل والصحيح بعد أن تفرقت بها السبل وتعرضت لأخطار المنهج البشري بأهوائه وسمومه وماديته وإباحيته ، وهكذا حطم المسلمون مؤامرة التبعية وقد تحولت مناهج مدارس الإرساليات التي زرعها النفوذ الأجنبي في عواصم البلاد الإسلامية ( استانبول ، بيروت ، القاهرة ) من بعد إلى مناهج التعليم في المدارس العصرية التي قامت بديلاً للأزهر والقرويين والزيتونة وغيرها .
رابعاً : الترويج للإلحاد والمناهج المادية :
وكان من أخطر ما عمل النفوذ الأجنبي على نشره سموم الفلسفة المادية ، وكانت ( الدارونية ) في مقدمة هذه الفلسفات ثم جاءت الفرويدية والوجودية وتقديمها على أنها علوم وحقائق وكلها فلسفات تقوم على إنكار وجود الله تبارك وتعالى ، وإعلاء مفاهيم خادعة مضللة والانخداع بالدعوة إلى الإباحية والجنس والتحرر من القيم الأخلاقية والجري وراء الشهوات والمطامع والحصول على المال الحرام .
خامساً : فرض مفاهيم الرأسمالية والماركسية على مناهج التعليم العصرية :
واستطاع النفوذ الأجنبي بسلطانه ونفوذه فرض مناهج الرأسمالية والماركسية على مناهج التعليم فدرست في بعض أقطار الإسلام وحجبت ورائها منهج الإسلام في الحكم والأخلاق والمعاملات والمجتمع .(7/68)
سادساً : قام الاستشراق بتزييف مفاهيم اللغة العربية والقرآن والتاريخ والتراث : وحشد مجموعة من الشبهات المضللة بهدف تدمير مقومات الشخصية الإسلامية والعربية في نفس الوقت الذي أفسح المجال في التعليم لدراسة الحضارة الغربية وتاريخ أوربا وبطولات الغرب في محاولة لخلق تصور في النفس العربية والمسلمة وفي العقل العربي المسلم باحتقار بطولات الإسلام والإعجاب ببطولات الغرب .
الحملة على الإسلام
( 1 ) تصاعد الحملة على الإسلام .
( 2 ) موقف الإسلام من العلمانية والحداثة والتنوير .
الحملة على الإسلام
تصاعد الحملة على الإسلام
محاولة لتشويه الصحوة الإسلامية واحتواء منطلقاتها
... إن ظاهرة تصاعد الحملة على الإسلام وشريعته الخالدة في هذه المرحلة من تاريخ الدعوة الإسلامية إنما يؤكد حقيقة أساسية هي أن ظاهرة الصحوة قد ثبتت جذورها في التربة وأكدت وجودها في المجتمع وجاوزت خطر الاقتلاع وتأكد إجماع كل القوى على إنها واقع لابد من التعامل معه سواء في ذلك رأى كبار مفكري الغرب الذي يتطلعون إلى الإسلام على إنه المنقذ لوجودهم أو رأى عامة أهل الأمة الإسلامية التي تأكد لها عجز معطيات الأيديولوجيات والمناهج الغربية وفشلها في تحقيق أمن المجتمع الإسلامي أو إعطائه مطامحه النفسية والعقلية .
... كذلك فقد تحددت وجوه النظر في موقف المجتمعات الإسلامية من منهج الله ، ووضع المشرعون يدهم على النواقض التي يحتاج إليها القانونين المدني والجنائي ، وهي إلغاء الفوائد وعقود الغرر في القانون المدني وإقامة الحدود الستة في العقوبات ، وبذلك يفصح الوجه الإسلامي عن نفسه كمدخل إلى إقامة الحياة الاجتماعية كلها وفق منهج الله .(7/69)
... ولقد كانت الدعوة الإسلامية بحق هي العملاق الذي ولد ونما وشب في وجه الشدائد ، واستطاع أن يقاوم كل عوامل الفناء والإبادة لأنه من نور الله ، فهو حين حوصر خرج إلى الفضاء الواسع فنشر كلمة الله تبارك وتعالى في الآفاق ، وإذا فتح له الطريق مضى يشقه ويؤكد وجوده بقوة الفطرة التي تتصل بسنن الله في الكون ونواميسه في بناء المجتمعات والحضارات ، وقد تنامى وجوده في مواد أساسية من الدستور تتعلق بالإسلام واللغة والشريعة فأصبح كياناً حياً موجوداً متمثلاً في قاعدة لتشريع يحب أن تخضع لها كل القوانين ، أما المرحلة التطبيقية التي هي مطمح النفوس وأمل القلوب في كل بلاد أرض الإسلام فإنها قادمة وكل العوامل تدل على اقترابها وفي وسط غمرات الأزمات التي تمر بالمسلمين والعرب اليوم حيث يتنادى البعض بالعودة إلى القومية العربية ، نقول : إن الإسلام هو الراية الوحيدة التي يجب أن ترفع وهي وحدها القادرة على الوقوف في وجه تلك المخططات التي ترمي إلى تمزيق المنطقة إلى كانتونات تخضع لمخطط ( غربي - يهودي - ماركسي ) في محاولة لإحياء الأسس العرقية والطائفية والمذهبية والدينية وهي أسس يحتويها الإسلام ويستوعبها ويتجاوز تصورها بدعوته السمحة إلى الإخاء الإسلامي ، فليس غير الإسلام قوة قادرة على جمع العناصر كلها تحت لوائه السمح الكريم وليس غير تطبيق شريعة الله سبيل إلى الوحدة والتجمع الفكري والاجتماعي والاقتصادي بعد أن فشلت كل الأنظمة البشرية والمناهج المادية والأيديولوجيات التي حاولوا تصديرها للأمة الإسلامية وسوف تتحطم السدود التي ما زال يصيغها النفوذ الأجنبي للحيلولة دون بلوغ الصحوة الإسلامية غايتها وقيام النظام الإسلامي حاكماً ومسيطراً على مجتمعه آسياً لجراحه ، محققاً لأشواقه ، ناشراً ظلال الأمن والأمان في ربوعه ، ويقيني أن كل تلك المخططات التي تحاول إثارة الشبهات أمام الإسلام لن تستطيع أن تقف أمام الرأي الصحيح ، ولا(7/70)
المفهوم الأصيل :
( 1 ) فالإسلام أساساً لم يعرف شعار الحكومة الدينية ، وإنما عرف الحكومة الإسلامية ، فالإسلام دين ودولة ، وهو نظام كامل للحياة أجمع العلماء والمؤرخون على أنه قاد مسيرة المجتمع الإسلامي حيث لا يعرف الإسلام ( رجل دين ) على الصورة التي عرفتها أوربا في أبان معركتها وصراعها بين الكنيسة والملوك المطالبين بالحق الإلهي في الحكم ، هذا النمط لم يعرفه الإسلام.
( 2 ) كذلك فليس صحيحاً ما ادعاه المدعون من أن الشريعة الإسلامية لم تكن مطبقة إلا في عصر الراشدين ، والحقيقة أن هناك من الأدلة التاريخية ما يكذب هذه الدعوة المدعاة فإن كتاب ( وصف مصر ) الذي كتبه علماء الحملة الفرنسية يؤكد أن المجتمع الإسلامي كان خاضعاً للشريعة الإسلامية مطبقاً لها ، بل إن الجبرتي في تاريخه الكبير يتحدث عن أن السارق قطعت يده في عهد محمد علي ، وأن نابليون أجرى محاولة ضخمة مع رجال الأزهر لإلغاء الشريعة الإسلامية وقد عارضه رجال الأزهر ووقفوا ضده وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي الذي اضطهده نابليون من بعد - هذا ما أكدته الأبحاث التي قدمها كتاب مسلمون اليوم في مقدمتهم الدكتور محمود سلامه الذي أكد أنه لم يتم إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في مجال القضاء إلا بعد أن وطئت أقدام الإنجليز مصر 1882م وبعد هزيمة العرابيين .
... والإجماع منعقد على أن المجتمع الإسلامي ظل سليماً نابضاً بالاستجابة للنظام الإسلامي على الرغم من الخلافات التي كانت تقع بين الأمراء والحكام ، ولاريب أن كل ما أوردته كتب التاريخ عن الخلافات بين الأمراء والملوك إنما قصد به إيجاد دليل كاذب على تفسخ المجتمع ، فإن هذه الخلافات لم تكن بهذه الصورة ، ثم أن نسيج المجتمع نفسه ظل سليماً قوياً متماسكاً .
((7/71)
3 ) كذلك فقد تبين ضلال القائلين بتطوير الشريعة الإسلامية ، وكيف أنهم تجاهلوا الحقيقة الأساسية وهي التفرقة بين الشريعة والفقه ، فالشريعة هي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وهي علاقة قيم ( الثوابت ) التي لا يحق تجاوزها ، وهي نصوص بلغت كمالها واكتمالها منذ اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الرفيق الأعلى ، أما الفقه فأمره يختلف ، وهو في جملته مجهود علماء المسلمين لفهم نصوص الشريعة واستنباط الأحكام منها سواء أكانت تتعلق بالجزئيات أو بالقواعد الكلية التي تتفق مع أهداف النصوص العامة .
... وهنا نؤكد أنه لا وجهة لهذه التفرقة التي يثيرها خصوم الإسلام حين يهونون من شأن الفقه ويرون أنه نتاج بشري بما يعني انتقاصه وتجاوزه في دعوى عريضة للتفرقة بين الشريعة والفقه .
... ولما كان الفقه الإسلامي ثروة ضخمة عرف قدرها فقهاء الغرب وأشادوا بها واستخرجوا منها عشرات القوانين المعمول بها الآن في العالم كله ، فقد جاء هؤلاء ليهونوا من قدرها ويفرقون بينها وبين الشريعة ، ولا ريب أن قول الفقيه المجتهد إذا كان كاشفاً لمدلول النص وفق قواعد الاستنباط وأصوله فهو ملزم ، لأنه ليس تشريعاً جديداً ولا رأياً من بنات أفكار الفقهاء ، وإنما هو فهم سليم لمراد النص ، كذلك فإن الإجماع والقياس ( وهو من عمل الفقهاء ) هما دليلان مرجعهما إلى اعتبار الكتاب والسنة ولذا فهما بإجماع الأصوليين من الأدلة المعتبرة وتثبت بهما الأحكام الشرعية ( كما أورده الدكتور عجيل النشمي في كتابه ) .
((7/72)
4 ) كذلك فإن القضية الأساسية في تطبيق الشريعة الإسلامية تنحصر في تطبيق قوانين الحدود والمعاملات فحسب ، فهذه ليست إلا مجرد جزئية في قضيتنا الكبرى ( العودة إلى الإسلام ) فإن القضية الأساسية هي التماس منهج الله في الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية جميعاً ، أما القوانين الإسلامية فهي بمثابة المنطلق لرد اعتبار أساسي لحق الله تبارك وتعالى وحق المجتمع الذي يسقطه القانون الوضعي في جريمة الزنا حيث لا يعتبر المشرع الوضعي ( هتك العرض ) جريمة متى كان الفعل بالتراضي ، ونحن نؤمن بأن تكون مداخل القوانين إسلامية أساساً من حيث إن القانون الوضعي نشأ وتشكل من أجل أوضاع تختلف وغايات تتباين ومن حيث أن التشريع العقابي الإسلامي إنما يرمي في أساسه إلى الردع لمنع وقوع الجريمة قبل حدوثها وليس للعقاب عليها من بعد .
... ولقد كان من حق الشريعة الإسلامية أن تتدخل في حرية الفرد وتحد من تجاوزاته وأن تجعله يسير في الطريق الذي رسمه الله تبارك وتعالى والأمر في الغرب خلاف ذلك حيث يستبيحون المباشرات الجنسية العلنية ومقدماتها في الشوارع والمنتزهات ، إلى الحد الذي قبل التشريع الإنجليزي إباحة اللواط .
* ... * ... *(7/73)
... تلك هي أبرز الشبهات المثارة وها أنت ترى أنها كلها شبهات مضللة يراد بها التشويش على التيار الإسلامي العام ، المتيقن بأنه على الحق ، وبأن محاولات هؤلاء المشككين باطلة وظالمة ، وأن علينا دائماً أن نكون قادرين على أن نواجه هذه الحملات بمزيد من اليقين بأنها صيحة الباطل الذي يطمع في تعويق خطوات الصحوة ، ولقد اتسعت مناطق الوعي والفهم في مجال الشباب المسلم المثقف اليوم بحيث لم يعد تخدعه هذه الأكاذيب ، وكل هذه الاتهامات التي توجه إلى الصحوة الإسلامية يجب أن تحسم على نحو واضح صريح ، فالإسلام لا يعرف ظاهرة العنف ولا ظاهرة التطرف ولا ظاهرة التزمت ، ولا ينطلق إلا من منطلق الأصالة والعودة إلى المنابع ، بالحكمة والموعظة الحسنة ( وأن هذا صرا طي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
* ... * ... *
... إن الحقيقة الأساسية أن المسلمين اليوم قد خرجوا من دائرة الأيديولوجيات الغربية الليبرالية والماركسية على السواء ، وإنهم يتطلعون إلى العودة إلى منهجهم الأصيل الرباني بعد أن حجبوا عنه أكثر من مائة عام ، وذلك مطمح شعبي يؤيده نص دستوري .
موقف الإسلام من :
العلمانية - الحداثة - التنوير
... يحاول الفكر الغربي فرض مصطلحاته العلمانية المشتقة من قيمه ومفاهيمه في الفلسفة المادية على الفكر الإسلامي الذي يتميز بأن له أصالته وعقيدته التوحيدية الخالصة على نحو ما رسمه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتي تمثل قاعدة الثوابت الأساسية التي يقبل الفكر الإسلامي في ضوئها ما ينقل إليه من تراث ومفاهيم وفي الأساس يقوم الفكر الإسلامي على :
1- الثوابت والمتغيرات .
2 - المعرفة : وحي وعقل .
3 - الإنسان مسئولية فردية وإلزام أخلاقي .
4 - رفض مفاهيم وحدة الوجود والحلول والاتحاد والتصوف الفلسفي .
* ... * ... *
... وفي مقدمة هذه المصطلحات المطروحة اليوم بشدة :
" العلمانية " ، " الحداثة " ، " والتنوير "
أولاً : العلمانية :(7/74)
... فإنها نبات غريب مختلف تمام الاختلاف عن مفاهيم الإسلام ، ذلك أن الإسلام إنما جاء ليقدم منهجاً جامعاً قوامه : " الروح والمادة " و " العقل والقلب " لبناء المجتمع الأصيل .
... فقد أقام الإسلام كل القيم على أساس العقيدة وجعل قوامها : المسئولية الفردية والجزاء الأخروي والالتزام الأخلاقي ، أما العلمانية فإنها في القاموس الإنجليزي هي النظرية التي تقول : إن الأخلاق والتعليم يجب ألا يكونا مبنيين على أسس دينية ، وتقرر دائرة المعارف البريطانية أن العلمانية حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدنيا .
... أما الإسلام فيقرر أن الدنيا مزرعة الآخرة ، والإلحاد في دائرة المعارف البريطانية قسمين : إلحاد نظري وإلحاد عملي والعلمانية إلحاد عملي ، وهي في الجملة : عزل الدين عن التأثير في الدنيا من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها ، والواقع أن التجربة كلها تمت خارج دائرة الإسلام .(7/75)
... ولقد كان الدين الذي كان في أوربا ( المسيحية الغربية ) وليس المسيحية المنزلة - يتعارض مع مصالح الناس في دنياهم ويتعارض مع حقائق العلم الثابتة ، ذلك أنه لم يكن دين الله تبارك وتعالى الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام ، ولكنه كان ديناً مختلطاً أطلق عليه المؤرخون ( المسيحية الغربية غير المنزلة ) ولقد حاكمت الكنيسة العلماء المكتشفين والمخترعين وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية واتهمتهم بالزندقة والإلحاد ، وبذلك تشكلت مفاهيم تخالف الدين المنزل وجاء المستشرقون وأتباعهم فنقلوا هذا الفكر القائم على الفصل بين الدين والدنيا جملة بما يسمى العلمانية إلى ديار الإسلام وروجوا له في نفس الوقت الذي حجبوا فيه الشريعة الإسلامية ومنهج الإسلام ونظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي فاستطاعت مفاهيم العلمانية أن تسيطر إلى حين ، وما تزال العلمانية بضاعة بائرة في بلاد المسلمين مهما ارتدت من مسوح ماركسية أو قومية أو ليبرالية وكان الهدف تثبيت وجود النفوذ الأجنبي من خلال مفهوم القومية الغربي والليبرالية والماركسية ، فحاول أن يقيم منها نظاماً لم يلبث إلا قليلاً حتى تبين ضعفه وعجزه عن العطاء بديلاً عن الإسلام ، بل لقد كانت مفاهيم الاستعلاء العرقي والعنصري تناهض عقيدة الإسلام ولا تعترف بتكامل الإسلام وضرورة هيمنته على كل تصورات الإنسان للكون والحياة .
... فالعلمانية نبت غريب في بلادنا لا تمثل موقفاً حيادياً من الدين كما يقولون بل تمثل موقفاً معادياً يستمد مفهومه من قاعدة ( أعطو ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) فهي تضع المسلم العربي في تناقض حاد مع قاعدة : تكامل الإسلام وتنظيمه الواضح لأمور المجتمع من خلال توازنه ووسطيته وارتباطه بالمنابع وقيامه على الفطرة .(7/76)
... وكانت مرونة مناهجه قادرة على تقبل كل متغيرات المجتمعات وهي في الوقت الذي تؤكد فيه ( ثوابت الإسلام ) تقبل الجديد والمتطور وفق مفهوم التقدم الجامع بين الروح والمادة ، ولقد كانت " الأخلاق " في الإسلام قيمة أساسية مرتبطة بالعقيدة وليست من منطلق القيم النسبية المتغيرة .
... ولقد أعطى الإسلام الإنسان منظومة جامعة قوامها الإيمان بالله تبارك وتعالى من خلال التوحيد الخالص والاستفادة من قوة العقل ومن قوة كل ما هو مادي ، فالإسلام يدفع إلى العمل بكل ما هو دنيوي والأخذ بكل ما هو دنيوي وأخروي في نفس الوقت .
ثانياً : الحداثة :
... " الحداثة " كلمة تمثل مفهوماً مختلفاً عن مفهوم ( التحديث ) الذي هو بمعنى التجديد ، وقد استعمل مصطلح الحداثة لتصوير ذلك الاتجاه الذي اتخذه الماركسيون والعلمانيون لخلق تصور في مجال الشعر والقصة ( أو الفن جملة ) فتتعارض مع المفهوم الإسلامي العربي الأصيل ، وهو الاتجاه الذي حمل لوائه القس يوسف الخال وتبناه لويس عوض وأدونيس لهدم قاعدة الثوابت الإسلامية وقاعدة البلاغة والبيان القرآني وإحياء تراث الوثنية والباطنية القديمة التي عملت على تفريغ اللغة العربية والفكر الإسلامي من الأصالة .
... وتجمع المصادر الوثوق بها على أن ( الحداثة ) دعوة إلحادية صدرت في أوربا في نهاية القرن الماضي وهي لا تتناول الأدب وحده ، ولكنها تتناول جوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع وتطالب بتدمير المجتمع تدميراً كاملاً وإعادة بنائه لأنها تؤمن بأن ( الماضي عندنا يختلف فإنه يحمل معه الميراث والتراث ويحمل أكرم ما ورثته الإنسانية ) ، ولذلك فهي لا تؤمن بالتراث أما الحاضر فهو في نظرها بشع وكريه والمستقبل حلم جنين لا شكل له ، ولكن يتعلقون به ، ومن هنا فهي دعوى صهيونية وماركسية وإلحادية لأنها تركزت على نفي الدين أساساً وهي تعتبر الخطيئة مساوية للتوبة .(7/77)
... وأخطر مفاهيم الحداثة . أنها تضع الدين في صف الثبات والجمود والتخلف والماضي بينما تضع مفاهيم العلم والعقل في صف التغيير والتجديد والتقدم ، ومن ثم فهي ترى أن الدين والقيم من علامات الجمود والتخلف بينما تمثل السخرية من الدين رمزاً من التعبير الذي يؤدي إلى التقدم .
... ولقد تركزت ( الحداثة ) بوصفها ( الباطنية الجديدة ) على الفن أساساً وقدمت مفهومها الخطير في هذا الشأن حيث ترى الحداثة أن مهمة الفن هو هدم القيم والدعوة إلى الانطلاق ثم الانقلاب ، وقد دعت أساساً إلى ما يسمى تجاوز الواقع والتغيير المستمر .
... ( أما الإسلام فقد وضع منهجاً جامعاً متكاملاً بين الثوابت والمتغيرات ) وفي عرف الحداثة أن الفنان لا يكون فناناً حقاً إلا إذا شن هجوماً مدمراً على كل ما هو ( ثابت ) ولن يتحقق ذلك إلا إذا كانت لدينا طاقة إنشائية ( ويسمونها إبداعية ) متطرفة تبلغ حد الهوس لتقوى على التخلص من كل شئ على طريق المغامرة وارتياد المجهول .
... وذلك بزعمهم حتى يفتح الآفاق أمام الإنسان ليمارس حريته دون قيد أو شرط ، وقاعدة ذلك التغيير الدائم من أجل التحرر الكامل ، ومن هنا يأتي :
(1) الهجوم على القيم .
(2) الهجوم على الأخلاق التي هي جزء لا ينفصل عن العقيدة الدينية .
(3) الهجوم على كل ما يسمى الخوف من الله تبارك وتعالى .
(4) الجرأة على اللغة العربية لهدم أسلوب القرآن وتأسيس الجملة التوراتية
... ولا ريب أن هذه مرحلة جديدة من مراحل هدم الدين والقيم أشد خطراً من المرحلة السابقة التي قادها المهجريون ( جبران وميخائيل نعيمة ) الذين دعوا إلى ما يسمى كذباً وتضليلاً عما يقولون علواً كبيراً .(7/78)
... وهي في مفاهيم الفكر الغربي وتطور الآداب الأوربية مرحلة تالية وأشد عنفاً من السريالية والدادية والعبثية واللامعقول وهي فلسفتها الملحدة والمستمرة في الطغيان والغلو ( ولا تغلوا في دينكم غير الحق ) أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك إنها تتضمن كل المذاهب والاتجاهات الهدامة وهي لا تخص العطاء الفني أو النقد الأدبي ولكنها تعم الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء ، وهي تمثل رأي أصحابها في تدمير القداسة ومقاربة الخطيئة وتقديس المدنس ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) و ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ) ومن هنا فإن كل الدعوات التي :
( 1 ) تعلي من شأن الفلسفة الصوفية ( الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ) هي من الحداثة .
( 2 ) والتي تهاجم اللغة العربية وتتحدث عن تفجير اللغة في كتابات ابن عربي والحلاج وغيرهما هي من الحداثة .
( 3 ) والتي تقدم مسرحيات ومسلسلات تحمل الإثم والفاحشة وتتنكب طريق القيم والأصالة والأخلاق هي الحداثة نفسها .
ثالثاً : التنوير :
... جاء مصطلح ( التنوير ) من أسماء الأضداد ومن حصيلة التحول الخطير الذي أحدثته العلمانية في الفكر الغربي الحديث حين خرج من إطار المسيحية إلى الفلسفة المادية على أثر الصراع المعروف بين علماء الغرب والكنيسة .(7/79)
... ولم تكن في حاجة إلى البحث في القواميس للوصول إلى التعريف ويكفينا أن واحداً من العلمانيين قادة الفلسفة المادية هو دكتور مراد وهبة يقول بالنص : " التنوير يعني في عبارات مبسطة أنه لا سلطان على العقل البشري إلا العقل نفسه وهو عمل ومردود الذي قال بالتأويل ومعناه : إعمال العقل في النص بحيث يمكن أن تتعدد الرؤية " فهم يهدفون إلى إعلاء العقل وحجب الوحي والغيب والإسلام لا يقر هذا الفصل بين القيم ويعتبر أن قاعدة المعرفة الإنسانية الحقيقية تقوم على : [ الوحي والعقل ] معاً أي الجمع بين ( النقل والعقل ) بتعريف جهابذة الفكر الإسلامي ، فالتنوير الغربي يقصد به إظلام الفكر الإسلامي ، وحجب أصالته حين يقوم على أساس الوحي والغيب أساساً والعقل أداة لذلك الأساس ، والهدف هو تزييف مفهوم الأصالة الحقيقية في بناء التصور الإسلامي للكون والحياة والمجتمع والحضارة ، وضرب المسلمين في القاعدة الأساسية التي تجمع بين الثوابت والمتغيرات وبين الأصالة والمعاصرة وبين الميراث والتراث ( الميراث هو القرآن والسنة ) والتراث ( هو العمل الإنساني لفقهاء الإسلام ومفكريه ) ، إنهم يقصدون بذلك ربط نهضتنا بما يسمونه ( عصر التنوير ) في أوربا وهو العصر الذي بدأت فيه حملة الفلسفة المادية على الدين بصفة عامة )
... وبذلك يربطون تاريخنا بتاريخ أوربا ويصورونها على إنها وافدة من الخارج ولا فضل لأصالتنا وثقافتنا وعقيدتنا بل يدعي البعض أن الحملات الفرنسية التي وجهت إلى المسلمين والعرب في عهد نابليون ثم الجزائر بعد ذلك فإنها بداية ما يسمونه ( عصر التنوير ) ويسعى دعاة العلمانية إلى توظيف هذا الإدعاء الخاطئ لمهاجمة الثقافة العربية الإسلامية والسخرية من تاريخنا وحضارتنا وإبعاد شعوبنا عن مقومات الإسلام .(7/80)
... لم تكن الحملة الفرنسية أو الغزو الاستعماري عملاً تنويرياً بأية صورة من الصور بل كان إظلاماً وحجباً لمنهج القرآن وفرض مفاهيم الغرب وخاصة القانون الوضعي بديلاً للشريعة الإسلامية .
... وقد واجه المسلمون ذلك بالرفض والمعارضة والإصرار على العودة إلى الأصالة والمنابع وتصحيح مفهوم الإسلام على أنه منهج حياة ونظام مجتمع ، وليس الإسلام ديناً بمفهوم الغرب عن اللاهوت .
... الحقيقة أن الحملة الفرنسية وغيرها جاءت لتحطيم النهضة التي كان قد بدأها المسلمون على أيدي الزبيري وعبد الوهاب والجبرتي الكبير .
... إن كتاب التنوير الغربي لن يخدعوا شعوبنا ولن تقبل أمتنا مفهوم التنوير في إعلاء العقل وحجب الوحي وهي مؤمنة بمفهوم الإسلام الجامع للمعرفة الذي يتكامل فيه الوحي والعقل : هذا المفهوم الذي فتح أمام المسلمين باب التجريب والنظر وبناء العلم التجريبي الذي نماه الغرب من بعد ولقد فتح الإسلام للإنسانية آفاقاً جديدة في مجال الحضارة لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل .
هزائم العلمانية
( 1 ) هزائم العمانية وانتصارات الإسلام .
( 2 ) ماذا وراء مخططات استقطاب كتاب المسلمين .
هزائم العلمانية
هزائم العلمانية وانتصارات الإسلام
... في مواجهة خمس مؤامرات :
1- الوحدة الإسلامية .
2 - الانقطاع الحضاري .
3 - منهج التجريب الإسلامي .
4 - الشريعة الإسلامية .
5 - تحرير المرأة .(7/81)
... عندما حقق النفوذ الأجنبي الخطوة الحاسمة : خطوة إلغاء الخلافة الإسلامية - إلى حين - عن طريق المخطط الذي رسمته الصهيونية بالاشتراك مع العلمانية إلى قطع أواصر الوحدة الإسلامية التي كانت تتمثل في الدولة العثمانية التي كانت تضم عنصري العرب والترك المسلمين والتي وسعت آفاقها في عهد السلطان عبد الحميد لتكون وحدة جامعة تضم كل عناصر الإسلام ( الهند وأفغانستان وإيران وجزر الملايو ) وكانت الخطة قد بدأت فعلاً عن طريق البعوث التي أرسلها السلطان عبد الحميد إلى مختلف الأنحاء حاملين لواء دعوة حارة ( يا مسلمي العالم اتحدوا ) والتي بدأت خطوات العملية فعلاً بإنشاء سكة حديد الحجاز - تركيا وغيرها من الخطوات التي عجلت بالعمل على إسقاط السلطان عبد الحميد عن طريق المؤامرة التي رسمتها الدونمة بالاشتراك مع الاتحاديين الذين شكلوا وجودهم داخل المحافل الماسونية .
... ولقد امتدت هذه الخطوة بعد إسقاط السلطان عبد الحميد 1909م إلى هزيمة الدولة العثمانية 1918م إلى إسقاط الخلافة 1924م .
... كان هذا في تقدير التغريب والعلمانية والنفوذ الأجنبي أكبر نصر حققته في العصر الحديث نتيجة سيطرة المحافل الماسونية وتشكيل مدارس الإرساليات في القاهرة واستانبول وبيروت ، وكانت الوحدة الإسلامية هي أولى خطوات الحرب المعلنة على المسلمين والإسلام ، وكان الظن بأن إسقاط الخلافة هو إسقاط للوحدة الجامعة مما يفتح الطريق إلى إقامة رأس جسر في قلب الأمة الإسلامية يحول دون وحدتها هو الكيان الصهيوني في قلب فلسطين ثم السيطرة على بيت المقدس أولى القبلتين .
... ولقد تحقق هذا تماماً كما خطط له النفوذ الأجنبي الذي أشعل نار الإقليمية والاستعلاء بالعنصر والعرق والدم والذي فرض مفهوم القومية الغرب المفرغ من مفهوم الإسلام .(7/82)
... وكانت هذه القضية هي كبرى التحديات التي واجهتها حركة اليقظة من حيث الشكل حيث مزقت الأقطار ودفعت كل منها إلى أن ترفع علم العزلة الذي عمد إلى إحياء " تاريخ ما قبل الإسلام " عن طريق الحفريات الفرعونية والبابلية والآشورية في دعوة حارة إلى استعادة هذا التاريخ المنقرض وإحياء هذه الروابط البالية .
... ومن ثم فقد عمد كل قطر إلى تشكيل تاريخ خاص مستمد من هذه العناصر القديمة منكراً ( وحدة التاريخ الإسلامي ) الذي جمع هذه الأمة أساساً خلال عقيدة وقيم ومنهج وفكر جعلتها متكاملة مترابطة بحيث يقضي هذا الفصل على طابعها الحقيقي وصورتها الجامعة .
... وقد حاولت قوى النفوذ الغربي أن تنفتح في نار التفرقة والعزلة طوال عدة عقود من الزمان فقي محاولة لفصل الأقاليم عن العروبة وفصل العروبة عن الإسلامية الجامعة ، وبدت تلك المناهج التاريخية مجتزأة قاصرة ، ولكن الرغبة في القضاء على الوحدة الجامعة كانت تدفع تلك القوى ومن ورائها المغربين إلى رفع أعلام موجات قديمة انهارت وماتت ولم تخلف أي تراث ثقافي حقيقي يمكن من إعادتها .
... وسرعان ما انتصرت أصالة الإسلام حين اتضحت جملة حقائق :
( أولاً ) أن هناك ( انقطاع حضاري ) أكيد بين عصور ما قبل الإسلام وبين عصر الإسلام ، وأن الفرعونية والآشورية والبابلية والفينيقية لم تخلف وراءها شيئاً غير التوابيت والأصنام وكتاب الموتى .
( ثانياً ) أن الفرعونية والآشورية والبابلية والفينيقية لم تكن إلا موجات عربية خرجت من جزيرة العرب وانداحت على ثرى المنطقة ممتدة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا ، وأن هذه الموجات قد مهدت للفتح الإسلامي الأكبر الذي جاء بعد ذلك فهي ليست قوى معترضة وإنما هي قوى منصهرة .(7/83)
(ثالثاً ) تبين أن الوطنية والعروبة والإسلام هي حلقات ثلاث متكاملة ليست متعارضة تتراوح حسب الظروف ولا يعترض الإسلام على الوطنية بل يدعو إليها كما أنه هو الذي أنشأ العروبة ونماها وأمدها بالقوة والحيوية وجعل العمل لها ممهداً لعودة الوحدة الإسلامية .
( رابعاً ) تأكد أن أية وحدة عربية يجب أن تكون مقدمة لوحدة إسلامية ، ومن هنا فيجب أن تقوم على مفاهيم الإسلام وقيمه وثقافته ، هذه الثقافة الجامعة التي هي ثقافة كل العناصر التي تعيش في المنطقة الإسلامية بما يصدق معه قول المثقفين الأقباط ( أنا مسيحي ديناً مسلم ثقافة ) .
... وهكذا نجد أن كبرى معضلات العلمانية التي فرضها النفوذ الغربي قد تصدعت وتراجعت أمام أصالة الإسلام الذي تختلف اختلافاً عميقاً وواسعاً في مواجهة هذه الأمور مع المسيحية الغربية ( وهي غير المسيحية المنزلة التي عقدت الأمور وأثارت الصراع في مجال العلاقة بين الكنيسة والقوميات في حين أن الإسلام يعترف بالقوميات ويدعو إلى الانفتاح بينها وبين البعض الأخر بما أسماه ( التعارف ) .
أما من الناحية الأخرى :
... فقد كانت المؤامرة ترمي إلى فصل الدين عن السياسة وفق منهج العلمانية ، وكانت تركيا ( التي تشكلت على أنقاض الدولة العثمانية دولة الخلافة والتي وضعت موضع النموذج أمام العالم الإسلامي كله لفرض العلمانية ، هذه التجربة التي قام بها كمال أتاتورك بتغيير حروف الكتابة العربية ، وإلغاء الشريعة الإسلامية وإنشاء القانون الوضعي ، وهدم مفهوم الإسلام لمسئولية المرأة ، واعتبار الدولة لا دينية ولا تنتسب إلى دين معين وترفض أن يكون للإسلام أي نفوذ على حركة المجتمع أو الاقتصاد أو السياسة أو التربية ، هذه التجربة التي امتدت أكثر من ستة عقود من الزمان قد أوقب اليوم على الغاية وأثبتت عجزها عن العطاء . .(7/84)
... وتراجعت الأمة التركية في محاولة لتصحيح موقفها مما يؤكد ما قاله أحد أساطير الاستشراق ( هاملتون جس ) عندما قال : إن العرب لن يقعوا في براثن التجربة العلمانية التي وقعت فيها تركيا ، فما يزال المثل الأعلى في البلاد العربية إسلامياً وأن نظام القومية لم يستطع أن يحقق شيئاً يذكر ، وقد خطت الأمة التركية في السنوات الأخيرة خطوات حاسمة نحو الأصالة والعودة إلى المنابع ، يؤكد هذا ما أورده أحد التقارير التي كتبها بعض المدافعين الغربيين حيث يقول :
" أكد قادة اليقظة الإسلامية في تركيا أن الغرب فشل في إبعاد الأتراك عن هويتهم الإسلامية ، وأن محاولته قد باءت بالفشل ، فقد سجلت تركيا في السنوات العشر الأخيرة انتصارات في معاركها الشرسة التي تتعرض لها من قبل الحصار الصليبي المتمثل في دولة الفاتيكان توازي انحسار الروح الإسلامية بها في ثلث قرن ، وأن اللغة العربية آخذة في الانتشار في تركيا ، وقد أصبحت المادة الأساسية في كليات الدراسات الإسلامية التسع ، كما أن هناك العديد من المناهج العلمية في كليات أخرى تدرس باللغة العربية ، وأن في تركيا اليوم أكثر من 2700 مدرسة تدرس اللغة العربية لملايين الطلاب بعد أن أصبح إنشاء مثل هذه المدارس مطلباً شعبياً عاماً " أ.هـ .
* ... * ... *(7/85)
... وهناك الآن رأي عام في العالم الإسلامي كله يجمع على الوحدة الجامعة ، ويسعى إليها ويعتبرها أساساً في مواجهة أخطار النفوذ ، وأن تاريخ الشرق الأدنى الحديث يدل على أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة الأجنبي ، كما أصبح هناك توجه صحيح أن العروبة منطلق للوحدة الإسلامية ، وأن مفهوم القومية الغربي المفرغ من القيم والعقائد ، ليس له وجود حقيقي اليوم ، وأن التجربة الطويلة المريرة التي مرت وقد تركت آثارها الواضحة من ضرورة إيجاد صيغة جديدة للالتقاء بين العروبة والإسلام بعد أن أعلن الدكتور حامد ربيع أن ( أن الفكر القومي في البلاد العربية قد عفا عليه الزمن ) .
... وقد عادت تركيا مرة أخرى إلى الترابط والالتقاء مع العرب وتجددت روابط ثقافية واجتماعية ، وكذلك اتسعت الروابط بين العرب ومختلف العناصر ، وعلت الدعوة إلى التقريب بين المذاهب بما يدحض كل ما يدبره التغريب من مخططات .
هزيمة إنكار فضل المسلمين على العلم والحضارة :
... وإذا كانت قد هزمت محاولات ( الفصل بين القوميات الإسلامية ) فإن مؤامرة أخرى قد دخلت مرحلة الهزيمة منذ وقت طويل ، تلك هي مؤامرة الصمت إزاء الدور الخطير والتاريخي الذي حققه الإسلام في مجال العلوم التجريبية وبناء الحضارة العالمي .
... وهو دور أنكر الاستشراق زمناً طويلاً وادعى أن دور المسلمين لم يزد عن ترجمة الفكر اليوناني ، غير أن صوت الحق كان لابد أن يعلوا ، حين كتب داربر وجوستاف لوبون وكارليل وسجريد هونكه وغيرهم عن عظمة الدور الإسلامي في بناء منهج التجريب الذي أخذه الغرب من المسلمون والذي أقام دعائم الحضارة المعاصرة ، وتأكد أن الغرب واليونان بالذات لم يكونوا يعرفون هذا المنهج الذي أبدعه المسلمون استمداداً من القرآن الكريم ومن دعوته إلى إقامة البرهان .
ومن الدعوة إلى النظر في السماوات والأرض ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) و ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) .(7/86)
... كما دعا إلى عدم اتباع الظن وما تهوى الأنفس وبذلك أرسى أعظم قاعدة للمنهج العلمي في مجال المعرفة القائم على جناحين هما : الروح والمادة ، وقد احتضن الإسلام العلم وفتح له مجالاته ، ودعا إلى العلم بمفهومه الجامع وليس العلم الديني فحسب .
... لقد امتدت مؤامرة الصمت وإنكار فضل المسلمين على الحضارة والعلم والتجريب أكثر من ثلاثة قرون ، ولكن هذه المؤامرة قد هزمت تماماً اليوم خاصة بعد أن انكشفت مخططات ( فرنسيس بيكون ) الذي أقام دعائم منهجه على النصوص التي أوردها الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة ) ، وبعد أن تكشف أن ديكارت ( الذي دقت له طبول كثيرة بدعوى المنهجية ) كان قد أخذ مفهومه عن الشك قبل اليقين من رسالة الإمام الغزالي ( المنقذ من الضلال ) ووجدت نسخة مترجمة من كتاب الغزالي في مكتبته بباريس ، وقد أشار بقلم أحمر في هامشها إلى هذا النص لينقل إلى كتابه المشهور ( مقال عن المنهج ) ، هذا بالإضافة إلى عشرات النظريات التي عرفها الغرب ونقلها من كتب علماء المسلمين وخاصة في قوانين معروفة - كما أخذ من الإمام الشاطبي والإمام ابن القيم صراحة .
هزيمة الغرب في مواجهة الشريعة الإسلامية :(7/87)
... كذلك فقد هزم النفوذ الغربي ( الاستشراق والتبشير والغزو الفكري في قضية الشريعة الإسلامية ، فقد أمضى رجال الاستعمار النفوذ الغربي أكثر من خمسين عاماً وهم يرددون الاتهامات حول الشريعة الإسلامية ووصفها بأنها صحراوية مره ومرحلة مؤقتة ، وإنها مأخوذة من القانون الروماني ، وقد تولى كبر هذا العمل اللورد كرومر في مصر ومضى على خطته : جولد تسيهر وشاخت وهاملتون جب ومرجليوت في كتابات ينقصها المنهجية وتغلب على الأهواء الحاقدة سواء أكان ذلك خدمة للكنيسة أو دوائر الاستعمار ولكن لما كانت الشريعة الإسلامية هي المنهج الرباني الأصيل الحقيقي بالظهور والانتصار فقد جاءت مؤتمرات علماء القانون في الغرب خلال سنوات متوالية كاشفة لكل هذه الأكاذيب مقررة أصالة الشريعة الإسلامية وتميزها الخاص وعالميتها وقدرتها على العطاء حتى لكان من عجب كثير من رجال القانون الغربي أن يكون لدى المسلمين هذا الكنز وهم يفترضون من الغير مما لا يساويه ولا يصل إلى معشار جزء من قدره .
... وبالرغم من أن النفوذ الأجنبي حجب الشريعة الإسلامية عن الأقطار التي وقعت تحت نفوذه وفرض عليها قانون نابليون إلا أنها ظلت تؤكد ولم تتوقف يوماً واحداً عن فشل القانون الوضعي وعجزه عن العطاء كاشف عن الأخطار والمحاذير والأسواء التي أصابت المجتمع الإسلامي نتيجة هذه المواد الخطيرة حول الربا والزنا وشرب الخمر .ولم يتوقف المسلمون يوماً عن المطالبة بحقهم في العودة إلى شريعتهم ، وقد تحققت لهم خطوات هامة تتمثل في إدراج الشريعة ضمن الدساتير ، وما قام به العلماء من تقنين لقوانين البلاد وفق منهج الإسلام وتبقى الخطوة الحاسمة القادمة بإذن الله في العودة إلى الشريعة واقعاً تطبيقياً .
الموقف من حركة المرأة :(7/88)
... وكانت محاولة الاستعمار والنفوذ الأجنبي الخطيرة حقاً ، هي موقفها من المرأة المسلمة ودفعها للخروج عن المنهج الذي رسمه لها الإسلام ، وهي مؤامرة خطيرة حقاً ، كشفت عنها وثائق كثيرة واتصلت بالتبشير الغربي والخطة التي رسمها الغرب لاحتواء المرأة المسلمة في دائرة مدارس الإرساليات لهدم الإسلام في عقلها ووجدانها وإخراجها مغربة مفرغة من المهمة الأساسية التي تتركز في أعداد الأجيال الجديدة من الأبناء وحمايتهم وبنائهم على الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه .
... وكان من أخطر ما في المؤامرة محاولة تصوير الإسلام بأنه عدو للمرأة ، وأنهم يحررون المرأة من الأسر الذي وضعها الإسلام ، حين يدفعونها إلى الأهواء والانطلاق وتدمير الأسرة على النحو الذي عرفه الغرب ، وقد مضت الحركة خطوة نحو ما قدر التغريب ولكن أصالة الإسلام كانت قادرة على أن تكشف زيف هذا الاتجاه أو استجاشت البيئة الإسلامية بالعودة إلى المنابع والتماس الأصالة ، فعرفت المرأة المسلمة أبعاد المؤامرة التي خطط لها النفوذ الأجنبي ، وعادت مرة أخرى إلى مسئوليتها الحقيقية وأفسدت على التغريب الذي كان يطمع في أن يحققه ، وترى المرأة المسلمة اليوم وقد التمست منهج الله فتحس أن هذه أربع مؤامرات خطط لها الغرب واستطاعت اليقظة الإسلامية أن تكشف زيفها وتدحض شرها .
* أما مؤامرة النفوذ الغربي على المصارف والربا وعلى المناهج والتعليم فإنها ما تزال في حاجة إلى جهود ضخمة يجب أن يبذل للوصول إلى الجادة .
الهجوم على الإسلام
ماذا وراء مخطط استقطاب كتاب المسلمين
للهجوم على الإسلام في هذه المرحلة بالذات ؟
وما هي عبرة حادث سلمان رشدي في الحقيقة ؟(7/89)
... يجب أن لا تشغلنا وقائع الأحداث عن دراسة خلفياتها ومصادرها الخفية أو المختفية وراء ستار كثيف ، كذلك فيجب أن تشغلنا عن ترابطها مع الأحداث السابقة في مواقع أخرى مختلفة فقد كان المسلمون في فترات من الزمن يغفلون عن النظرة الواسعة الشاملة لمخطط التغريب والغزو الثقافي المترابط الجامع الذي ترسمه قوى متعددة ، وتحاول أن توزع وقائعه على خريطة الأمة الإسلامية في أماكن متفرقة وأزمان مختلفة حتى يظل خافياً على المسلمين المصدر الحقيقي للخطر ، كذلك فقد كان مما يأخذه المستشرقون على المسلمين أنهم مولعون بالأحداث ليعيشونها ويتحدثون عنها منفصلة عن خلفياتها ومصادرها الحقيقية .
... ولذلك فإن حادث رواية سلمان رشدي ( آيات شيطانية ) يجب أن لا ننظر إليها على أنها عمل مستقل قائم بنفسه ، كتبه كاتب هندي يعيش في بريطانيا دون أن نربطه بالخطة العامة والمؤامرة الأساسية التي يحيكها النفوذ الأجنبي منذ قرون في سبيل التوهين من شأن الإسلام ، هذه الخطة التي أخذت طابعاً من التوتر والعنف في العقود الأخيرة عندما تنامت الصحوة الإسلامية وأصبحت واقعاً محسوساً بعيد الأثر قوي الصدى ، فهذه الحادثة لا تنفصل عن ظواهر أخرى كثيرة قائمة الآن في أقطار الأمة الإسلامية تتآمر وتتفاعل وتحاول أن تضرب هذه الصحوة أو تنال منها أو تؤخر خطوها .
هذه الحادثة لا تنفصل عن دعاوى أدونيس في هدم الثوابت حيث يقول في صراحة ويعمل هو وجماعته ومن أغراهم وخدعهم على طول البلاد الإسلامية وعرفها على ما أسماه ( نريد تحطيم الموروث الثابت )(7/90)
... فما معنى هذا إلا هدم الإسلام والقرآن والسنة والتاريخ الإسلامي واللغة العربية من منطلق قد يظن أنه ضيق أو فرعي : وهو هدم البيان الإسلامي بيان القرآن ، ويؤازره في هذا جماعة من الشعوبيين الذين كانوا يدعون الماركسية ثم تخلوا عنها خداعاً ليخدموا الماسونية والنفوذ الغربي كله من خلال التراث وهدم القيم الأساسية لهذه الأمة ، أمثال عابد الجابري وغيره .
... هذا على جانب وفي الجانب الآخر نرى استغلال القصة والمسرحية والفن والدراما في محاولة هدم اللغة والبيان من ناحية وهدم القيم الاجتماعية باستغلال نظريتي الفرويدية والنسبية إلى جانب مدرسة العلوم الاجتماعية ( الفلكلور والأنثربولوجيات ) في مخطط واسع ، وليس عجيباً أن يكتب سلمان رشدي في آياته الشيطانية فيتعمد التركيز أساساً على فرية من الفرى التي جمعها المستشرقون من زمن طويل وجعلوها ( هدايا ) يهدونها لأتباعهم ليكشفوها ويثيروها وجعلوا لهم معها كل الشبهات والعناصر التي تعتمد عليها الكتاب المغربون سواء أكانوا من كتاب القصة والرواية أمثال نجيب محفوظ أم سلمان رشدي .
... وأنه من العجيب أن تجد رابطه قوية بين أولاد حارتنا وبين آيات شيطانية ، في محاولة إقحام شخصية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على نحو غير كريم سواء من ناحية أمهات المؤمنين على نحو ما فعل نجيب محفوظ وسلمان رشدي أو من ناحية الوحي المنزل وترديد الدعاوى الباطلة التي لم تكن إلا شبهات كشف علماء المسلمون أمرها ودحضوها كقصة الغرانيق ولكنه الكيد والحقد الذي يغمر نفوس الكارهين للإسلام والمحاربين له هي التي تسعى لتأجيج هذه النيران وتجديدها .(7/91)
... وليس أدل على حقد الغرب من هذه الوقفة الخطيرة للغرب كله في تأييد رجل مارق أهان دينا عالمياً ووقف في وجه الإسلام ، ولا شك أن هذا المظهر من الحماية لهذا الظالم تكشف عن تواطؤ الغرب في إهانة الإسلام وتعري حملته الشائنة وتجنيده لأمثال هؤلاء من المغربين لشتم دينهم نظير إغراءات ضخمة من العطاء المادي والحماية والتكريم ، ولذلك فإن الغرب عندما أحس أن واحداً منهم قد أصبح معرضاً للموت بذل كل ما لديه عن طريق حلف الأطلنطي والسوق الأوربية لحمايته .
... ولاشك أن هذا يعطي درساً حاسماً للمغررين من أبناء أمتنا الذين قد خدعوا أو يخدعوا ، وأنه دليل على كذب الإدعاء المردد بسماحة الغرب أو حيدته أو موضوعية كتاباته ، وليعرف أنه يصدر عن قوس واحد في وجه الإسلام ، وأن تلك الصورة من الموضوعية أو الحيدة ليست إلا غشاءً خفيفاً يخفي وراءه حقداً بالغاً وأنياباً وأظافر ، ومن هنا فقد كان لابد أن يحس الغرب بأن العالم الإسلامي اليوم ليس هو بالأمس ، حين كان يستسلم إزاء حملات الغرب على الإسلام الموجهة على يد أبنائه أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق وغيرهم ، وليعلم الغرب أن عالم الإسلام لم يعد يقبل الضيم ولابد أن يكون هناك موقف حاسم يعطي درساً لهذه القوة المناوئة ، وحتى يعرف الذين يقبلون القيام بهذا الدور أنهم لن يسلموا وأنهم يواجهون أمة إسلامية تغار على دينها ونفتديه بكل عزيز وغال .(7/92)
... ذلك أن الواضح الآن مما تكشف معالمه أن هذه المرحلة هي مرحلة تجنيد أكبر عدد ممكن من المسلمين الذين يعيشون هنا وهناك ، لكلما تقدم لهم هذه ( الهدايا ) التي أعدها التبشير والاستشراق من نصوص زائفة أو دعاوى باطلة - ترددت في الكتب القديمة - وكانت من الإسرائيليات ليعاد تشكيله من جديد في أحدث أساليب الإعلام وهو القصة التي أصبحت تستطيع أن تؤدي دوراً خطيراً في التبشير وإثارة الشبهات على هذا النحو الذي نراه ممثلاً في الروايات آيات شيطانية ومن قبل في ( أولاد حارتنا ) فقد استطاع كتاب الرواية أن يدعوا بأن الفن تسمح لهم بتغيير لحقائق وباصطناع الظلال والأضواء ووسائل الخداع بأنهم يعيشوا في عوالم الخفاء والخيال ودخان الحشيش لكي يهاجموا الدين وهم في حماية الخيال والخبال ، وهذه من أخطر الظواهر الجديدة للهجوم على الإسلام .
... فإذا ذهبنا نستكشف مهمة نجيب محفوظ ، ومهمة سلمان رشدي وجدنا هناك تشابهاً وتقارباً فهذا يصور الأنبياء وهم يعيشون في غرز الحشيش ، وذاك يصور البغايا في خيام ويطلق عليهن أسماء زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما يحتقر المقدسات وهي في اعتقادي مرحلة من مراحل المخطط الذي تنفذه الفلسفة الماسونية من أكثر من تسعين عاماً ، وهذه المرحلة يستخدم فيها المسلمون أنفسهم للتحدث بسخرية واحتقار عن دينهم .
... ومن هنا جاء الإغراء بجائزة نوبل وجوائز أخرى كثيرة توزع الآن على الكتاب الذين هاجموا الدين أو الإسلام أو القيم أو الأخلاق ، ولقد كان الإغراء بالمال والشهرة إحدى الوسائل للطعن في الإسلام واستقطاب ضعفاء النفوس .
... وسوف يستمر هذا الاتجاه وقتاً طويلاً لأن الغرب ما يزال يعلم أبناءه في مدارسه كراهية الإسلام واحتقاره وهي عقبة تحول دون وصول المفاهيم الصحيحة إلى طلاب الحق ولابد أن يكون مفهوماً أن هناك فوارق عميقة بين حرية الفكر وبين حرية الهدم.(7/93)
ما هي عبرة الأحداث الأخيرة ؟ (1)
أولاً : أن يكون معروفاً أن أوربا والغرب كله يصدر عن قوس واحدة في مواجهة الإسلام ، وأن الشعور المضاد للإسلام والكاره له ما يزال يملأ القلوب وما تزال قوى كثيرة توقد ناره من جديد بحيث لا يهدأ أواره ، وما تزال مناهج الدراسة في الغرب تعلم الأجيال الجديدة كراهية الإسلام بحيث لا تتاح أية فرصة لتخفف هذا الحقد وهذه الكراهية .
ثانياً : إن الاستشراق ما يزال في المرحلة الجديدة يستقطب نفراً من المسلمين ليحملوا أراءه ويكتبوا سمومه على أنها فكر إسلامي ، وما تزال هذه القوى تفرز ثبوراً جديدة تنقل من بعض كتابات زائفة أو مضللة لتوضع في صورة جديدة من أجل خداع بعض البسطاء .
ثالثاً : ما يزال النفوذ الأجنبي قادراً على حماية هؤلاء المغربين الذين يصطنعهم حتى لا يقعوا تحت طائلة العقاب من المسلمين في محاولة عريضة للعودة لما يسمى ( حرية الرأي وحرية الفكر ) ، في حين أنها ليست في الحقيقة إلا أسلوب يفتح أبواب التشكيك والسخرية بالقيم الإسلامية .
__________
(1) كتب الأستاذ أنور الجندي - يرحمه الله - هذا العنوان في عام 1993 م .(7/94)
الجزء السابع
1 - التغريب والفكر المادي
2 - الاقتصاد الإسلامي
1 - التغريب والفكر المادي
( 1 ) هي أزمة التغريب والتبعية .
( 2 ) الأباطيل التي أثارها التغريب .
( 3 ) بل هم قادة فكر التبعية للنفوذ الغربي .
( 4 ) الفلسفة المادية .
( 5 ) الإعصار الخطير الذي يضرب ثغورنا وحصوننا .
( 6 ) في مواجهة احتواء الإسلام ومحاصرته واختراقه .
أزمة التغريب والتبعية وليست أزمة الأصالة(8/1)
... هل التوجه الإسلامي المتنامي والمتطلع إلى الأصالة والتحرر من التبعية الذي تمر به الأمة الإسلامية اليوم بدرجات متفاوتة هل يمكن أن يسمى بالأزمة أو يوصف بأنه تراجع عن نهضة التنوير والتحديث الغربية الوافدة التي لم تكن في منطلقها أو خطواتها إلا محاولة لاحتواء هذه الأمة وفكرها وعقيدتها في دائرة التغريب والغزو الثقافي من خلال مخطط مرسوم على نحو ماكر ثابت الأهداف متغير المراحل والخطوات يرمي في النهاية إلى صهر هذه الأمة في بوتقة الحضارة الغربية العالمية التي تمر اليوم بمرحلة الانهيار والتحلل والسقوط ، هي مؤامرة دبرتها عقول تصدر عن هوى وتنطوي في أعماقها على حقد وكراهية للإسلام وأمته وأداتها الأساسية هي فرض العلمانية على الأمة الإسلامية وتحطيم أصالة الإسلام بوصفه ليس ديناً لاهوتياً وإنما هو منهج حياة ونظام مجتمع تختلف اختلافاً واضحاً عن العقائد والأديان التي انفصلت فيها العلاقة مع الله تبارك وتعالى عن العلاقة مع المجتمع ، وعندما يتحدث العلمانيون والماركسيون عن أزمة الفكر الإسلامي فإنما يركزون على هذه النقطة بالذات فهم يرون أن خطط التغريب والغزو الثقافي في فترة استطاعت بنفوذ الاستعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في محيط الأمة الإسلامية أن تفرض القانون الوضعي وتحجب الشريعة الإسلامية وتجعل من التصور الغربي المسيحي الذي لا يرى في الدين أكثر من أنه علاقة بين الله والإنسان على النحو الذي وصل إليه الغرب بعد معركة طويلة مع الكنيسة كانت نتيجة للدولة الثيوقراطية ( الدينية ) التي فرضتها الكنيسة على أوربا ، وبعد أن قاومت الكنيسة العلم والعقل وحكمت على الألوف من العلماء بالموت ، وانتهى الأمر إلى أن تكون الدولة علمانية وتكون الكنيسة لاهوتية ( مع ملاحظة أن الإسلام لم يعرض الدولة الدينية في تاريخه كله ) .(8/2)
... إن الذين يرون أن الأمة الإسلامية في هذه المرحلة التي تتنامى فيها الصحوة الإسلامية تمر بأزمة إنما يقصدون ( أزمة التغريب ) أزمة تراجع الغزو الثقافي إزاء الأصالة الإسلامية حين عادت الأمة الإسلامية إلى ربها وعرفت أن منهج الله تبارك وتعالى هو وحده الذي يخرج هذه الأمة من التبعية والتخلف والحصار الذي يراد بها التقوقع في دائرة مغلقة حتى تسقط .
... ولقد ظنوا أن تلك المرحلة الاستعمارية التي سقطت فيها الأمة الإسلامية حين فرضت عليها مناهج القانون الوضعي ومفاهيم التبعية والفلسفات المادية خلال قرنين كاملين ، هي تحول قد قبلته ورضيته ، فلما رأوا أن الأمة الإسلامية تتجه اليوم إلى امتلاك إرادتها وإقامة مجتمعها وتطبيق شريعتها وتبليغ رسالتها إلى العالمين أدهشهم ذلك وعجبوا لهذا التحول وأخذوا يتحدثون عن المراحل الماضية من التبعية كأنما كانت تطوراً حقيقياً في نظرهم غافلين عن قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الأزمات والعواطف والتي تبدو في أول الأمر كأنها قبول للمغايرة ، ثم لا تلبث أن يتكشف جوهرها الحقيقي القادر على التماس الأصالة والعودة إلى المنابع .
... ولقد كان الإسلام بوصفه المنهج الرباني الأصيل قادراً على استعادة المسلمين إلى طريق الحق إذا انحرفوا عنه ، وكان دائماً قادراً على رفض العضو الغريب متقبلاً لما يتفق مع منهج التوحيد الخالص وقادراً على حماية هذا الذي يتقبله في دائرة وجوده الأصيل ( من خلال دائرة المتغيرات مع بقاء دائرة الثوابت قائمة ) .
... ولقد كان الإسلام على مدى أربعة عشر قرناً قادراً على تقبل عصارات الثقافات والحضارات التي تتفق مع منطلقه ومضمونه بوصفه منهج التوحيد الخالص ، وكان في نفس الوقت قادراً على العطاء ولكنه لم يكن في يوم من الأيام مبرراً لأخطاء الحضارات أو مدافعاً عن انحرافها أو منصهراً في دائرتها .(8/3)
... فهو بمرونته قادر على تقبل مفاهيم التجدد والتقدم والتحديث دون أن يقع في انحرافات التبعية أو التغريب منطلقاً من مفهوم جامع للمادة والروح والعقل والقلب والدنيا والآخرة من منطلق ( الوسطية ) الأصيلة .
فالحقيقة أن الأزمة هي أزمة التغريب التي ظنت أن الأمة الإسلامية ابتلعت طعم ( الانصهار ) ومضت به لتدخل دائرة العبودية للحضارة الغربية التي تقوم أساساً على أساس انشطاري والتي تتصدع كل يوم نتيجة تجاهلها لمنهج الله تبارك وتعالى وعجزها عن العطاء الحقيقي والتي أكدت كل أيديولوجياتها وفلسفاتها وتصورها عن تقديم المنهج الذي تتطلع إليه النفس الإنسانية جامعاً بين مطامع المادة وأشواق الروح وهو ما دعا إليه كل الذين عرفوا الإسلام من الغرب : من أمثال محمد أسد ( ليوبولد فالس ) وجارودي وبوكاي وجرمانوس وأخيراً ( مراد هوفمان ) الذي دعا الغرب إلى التماس المخرج من الأزمة التي يمر بها من خلال الإسلام في كتابه ( الإسلام كبديل ) ، وكلهم يتطلع إلى الإسلام كمنقذ للحضارة من الانهيار .
... إن الذين يريدون احتواء الإسلام في أمة الإسلام ويصهرونها في بوتقة التبعية يجهلون الخطوات التي قطعتها في اقتحام قلوب الأمم وعقولها ليكشف لها عن حقيقة المصدر الرباني لإقامة حضارة التوحيد ودخول الأمم فيها كمنقذ لها من الوثنيات والماديات التي تحاول أن تقتحم البشرية كلها اليوم .
... وسوف تنهار هذه القلاع التي بنوها لأنها لا أساس لها وخطوات الانهيار ما زالت تزحف على هذه الحضارة وأيديولوجياتها من رأسمالية ووجودية واشتراكية وفرويدية ودارونية لتحل محلها مفهوم الحق ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) .
الأباطيل التي أثارها التغريب
يقول الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه ( غريب القرآن ) :(8/4)
... " إن الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ( ذلك بأنه الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ) وقوله : ( لم يلبسون الحق بالباطل ) وقال تعالى : ( ليحق الحق ويبطل الباطل ) وقال : ( وخسر هنالك المبطلون ) الذين يبطلون الحق .
وقيل الباطل هو الذي لا يثبت عند الفحص ، والأباطيل ضد الحق ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) فالباطل هو الوهم الخادع والكذب المموه : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) والباطل هو اللغو واللهو ، ( ربنا ما خلقت هذا باطلاً ) ، وهو الظلم والبغي ( ليأكلون أموال الناس بالباطل ) ( وما يبدئ الباطل وما يعيد ) ، هذا عرض سريع للمصطلح .
* ... * ... *
... ومن هنا فإن كل ما جاء به خصوم الإسلام هو من الأباطيل التي تكشفها وتسقطها حقائق الإسلام .
... ولقد كانت مهمة أعداء الإسلام العمل على إقامة الدعاوى الباطلة من أجل تزييفه والطعن فيه والتشكيك في حقائقه وخداع أهله أو الذين يحاولون التعرف عليه في الغرب ، كان هذا عملهم منذ نزل القرآن وبزغ نور الإسلام ، فقد رأى خصوم الإسلام أنه سيكشف زيفهم وأضاليلهم ، وأنه سيفضح باطلهم فعمدوا إلى الخداع والمكر فغيروا مفاهيم رسائل السماء الحقيقية وحذفوا وأضافوا وغيروا وبدلوا حتى حقت عليهم كلمة الله تبارك وتعالى حيث قال : ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله ) ولقد أوضح القرآن الكريم بأجلى بيان أنه جاء ليكشف زيف دعاوى أهل الكتاب المدعاة : ( ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذين اختلفوا فيه ) وقوله تعالى : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) .(8/5)
... وقد تواصلت عملية تزييف الحق وطرح الأباطيل على مدى تاريخ الإسلام وعصوره المختلفة حتى جاء العصر الحديث فأنشأ أعداء الإسلام وخصومه والطامعين في السيطرة على أهله واستنزاف ثرواتهم مخططاً خطيراً يرمي إلى احتوائهم عن طريق الغزو الفكري بواسطة مؤسسات الاستشراق والتبشير في محاولة لتغريب أمة الإسلام وإخراجها من قيمها وذاتيتها وعقيدتها وصهرها في بوتقة الحضارة الغربية التي تمر الآن بمرحلة المحاق والنهاية بعد أن فقدت قدرتها على العطاء الحقيقي ، وبعد أن فشل منهجها الليبرالي والماركسي في إقامة المجتمع الأصيل الذي يحقق كرامة الإنسان ويقدم له أشواق الروح مع معطيات المادة ، فشل هذا المنهج في بلاده وبين أهله لأنه معارض للفطرة وطبائع الأشياء فكيف يمكن أن يكون صالحاً لقوم يختلفون معهم كل الاختلاف في العقيدة والأخلاق والقيم .
... ولقد ظهر ذلك واضحاً اليوم في كتابات عشرات من مفكري الغرب الذين اقتنعوا أخيراً بأن الإسلام وحده القادر على إنقاذ البشرية وهو المنطلق الحقيقي لحل مشاكل العصر والعالم المستعصية .
* ... * ... *
... وبعد فقد استطاع النفوذ الغربي بسيطرته على الأمة الإسلامية من حيث النفوذ الاقتصادي والسياسي بعد أن انحسر الاستعمار العسكري حيث يتقاسم العالم نظامين : هما الرأسمالية الغربي ( أمريكا وأوربا الغربية ) والماركسي ( الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه ) هذه السيطرة جعلته قادراً على توجيه الثقافة والتعليم وفرض مفاهيم غريبة على أفق الفكر الإسلامي ويختلف اختلافاً واسعاً وعميقاً عن مفاهيمه الأصيلة .(8/6)
... هذه هي المفاهيم التي يمكن وصفها بأنها ( أباطيل ) لأنها تحاول أن تزيح الحقائق الأصيلة الربانية القرآنية وتشكك فيها وتصورها بصورة النقص والقصور والقدم في محاولة للقول بأن العصر قد سبقها ظناً منهم أنها مجرد ( تراث ) تاريخي يمكن أن يجري عليه ما يجري على الأوضاع الاجتماعية المتغيرة دون أن يذكروا الحقيقة الأساسية وهو أن : المنهج الرباني المتمثل في الإسلام يتميز بأنه قادر على العطاء في مختلف البيئات والعصور وأنه يتسم بالقدرة على التعامل مع كل المتغيرات وليس شأن التراث الغربي الذي هو فكر بشري ونظريات وضعها أناس على أنها فروض تخطئ وتصيب ، ويحتاج إلى إعادة النظر فيها بين حين وآخر .
... ويختلف الفكر الإسلامي الذي كونه العطاء الرباني ( القرآن والسنة ) عن الفكر الغربي في عناصر أساسية حاسمة : أهمها الإيمان بالله تبارك وتعالى والإيمان بالنبوة والغيب والوحي والجزاء الأخروي والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي الذي هو في الإسلام من الثوابت التي لا تتغير بتغير البيئات والعصور ، وهذا هو أخطر اختلاف بيننا وبين الفكر الغربي الذي يقوم مفهومه على مجموعة من ( الأباطيل ) التي تنكر وجود الله تبارك وتعالى وتضع بدلاً منه كلمة ( الطبيعة ) وتنكر الوحي والنبوة والغيب بل وتستعلي على المنهج الرباني بمفهوم خاطئ مضلل وهو أن البشرية قد وصلت إلى مرحلة الرشد ولم تعد في حاجة إلى وصاية السماء ، أما الأخلاق في مفهوم ( أباطيل الغرب ) من صنع المجتمع ومن ثم فالفكر الغربي يؤمن بحرية الانطلاق ويعلي الفنون الإباحية والمكشوفة والفاحشة وينطلق من نظريتي الجنس لفرويد والمعدة لماركس .(8/7)
... وأخطر ما تحمل هذه الأباطيل الفصل بين الدين والمجتمع ، والنظر إلى الأديان على أنها علاقة بين الله ( تبارك وتعالى ) والإنسان علاقة فردية تختص بالعبادة وتقف عند حدود ما يسمى ( اللاهوت ) وأنها تدعو إلى العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة ولا تقر ما يحمله الإسلام أساساً أصيلاً وهو تنظيم العلاقة بين الإنسان والمجتمع ، وهذه أخطر الأباطيل تتمثل في محاولة التركيز على أن الدين صلة روحية فردية بين العبد وربه ولا علاقة له بتنظيم المجتمع كله بواسطة منهج متكامل جامع يقوم على العقيدة ويشمل كل جوانب الحياة والإنسانية وتتولى بتنفيذه حكومة تطبيق الشريعة كما هو الحادث في الإسلام .
* ... * ... *
... وتحاول مؤامرة ( الأباطيل ) التي يحاول النفوذ الأجنبي أن يطرحها في أفق الإسلام : إحياء الفكر الباطني والوثني والفلسفي القديم الذي كشف القرآن زيفه ودافع علماء المسلمين من أمثال ( الشافعي وابن حنبل والغزالي وابن تيمية ) عن مخالفته لمفهوم الإسلام الذي يقوم على التوحيد الخالص وتحرير الإنسان من عبودية الوثنية .
... ولقد كان من أخطر محاولات أصحاب الأباطيل التخصص في الهجوم على الإسلام من خلال دراسات مسمومة كتبها المستشرقون والمبشرون على مدى أكثر من مائة عام ثم جمعوها في عمل واحد كبير هو ( دائرة المعارف الإسلامية ) التي كان أخطر ما فيها أنها أدخلت كل الفرق الضالة والدعوات الهدامة إلى داخل الدائرة كمواد أساسية بحيث يرى المطالع لها أن الزنج والقرامطة والباطنية والملاحدة والبهائية والقاديانية جميعها تورد كأنها فرق إسلامية ومن ثم فإنها تخفي على القارئ المسلم الذي لا يملك خلفية ثقافية واعية بهذه التيارات الهدامة .(8/8)
... والواقع أن ( الأباطيل ) التي عمل النفوذ الأجنبي عن طريق الاستشراق والتبشير طرحها في أفق الفكر الإسلامي قد اتسع نطاقها على نحو خطير بحيث أصبح يتطلب وعياً شديداً من الشباب المسلم ، ولقد عملوا على تقديم ثلاث دوائر :
( أولاً ) : نظريات زائفة .
( ثانياً ) : كتب زائفة .
( ثالثاً ) : أعلام زائف .
( 1 ) قدموا عشرات النظريات الزائفة سواء في مجال الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو التربية بما يحقق هدفهم في تمزيق وحدة المسلمين وإشاعة روح الإقليمية والقومية والدعوة إلى فصل الدين عن السياسة وفصل الأخلاق عن الاجتماع وإشاعة روح الإباحية وإعلاء شأن الجنس والكشف والاستهانة بالدين والقيم .
... ومن هنا كانت دعوتهم إلى تحرير المرأة ، بإخراجها من بيتها ومجتمعها ، وإذاعة الدعوة إلى تحديد النسل وإشاعة نظام الربا وفرضه على مصارفنا ومعاملاتنا المالية وحجب النظام الإسلامي وقوانين الإسلام في الحدود والضوابط وإشاعة الدعوة إلى المذاهب القديمة التي قضى عليها الإسلام كالفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية وإحياء التاريخ الباطني القديم بإحياء القرامطة والبابكية والمزدوكية والزنج والادعاء بأنها دعوات حرية وعدل اجتماعي .
... وكذلك ذهبوا إلى هدم التراث وإشاعة روح الاستخفاف به والسخرية منه ، وإعلاء العاميات في دعوة إلى هدم روح الارتباط بين البيان العربي والقرآن الكريم وإذاعة مفاهيم الفكر اليوناني والاعتزال والتصوف الفلسفي وإدخال مفاهيم التفسير المادي للتاريخ والإلحاد وحاولوا الادعاء بأن المسلمين بدأوا نهضتهم بالحملة الفرنسية في حين أن المسلمين بدأوا يقظتهم قبل ذلك بأكثر من أربعين عاماً بدعوة من صميم الوجود الإسلامي حمل لواءها محمد بن عبد الوهاب والزبيري والشوكاني وغيرهم .
((8/9)
2 ) أحيوا عديداً من الكتب الزائفة التي كشف علماء المسلمين فساد منهجها أمثال : الأغاني وألف ليلة وليله ورسائل إخوان الصف وكتابات دعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد والتناسخ من أمثال الحلاج وابن عربي وابن سبعين والسهروردي ومن كتابات غلاة المتكلمين والاعتزال وخاصة ابن الراوندي وجهم بن صفوان في القديم وكتابات المنجد والموسوعة العربية الميسرة ويقظة العرب وعلى هامش السيرة وفي الأدب الجاهلي والحركات الفكرية في الإسلام ومحمد رسول الحرية وقصة الحضارة وشمال المصريين المحدثين وعشرات من كتب المستشرقين والمبشرين وأتباعهم من المغربين ، كل هذه الكتب والأسماء في حاجة إلى يقظة كاملة وتحفظ شديد في قراءة ما تبنته .
( 3 ) أعلنوا أسماء كثيرة وأعطوها شهرة زائفة سواء من الأسماء القديمة أو الحديثة فأحيوا أبو نواس والضحاك وجماعة المجانين من شعراء الخمريات والغلمة وفي الحديث طه حسين ولطفي السيد وسعد زغلول وسلامة موسى ولويس عوض وتوفيق الحكيم وساطع الحصري وشعلي شميل وسارتر وميكيافيلي ويعقوب صنوع وأديب أسحق وجرجس زيدان وماركس وفرويد ونيتشه وكرومر ودنلوب ودارون ولوتس وجبران وقاسم أمين وهرتزل وزويمر وأتاتورك ويوحنا الدمشقي ونصر الدين الطوسي والمأمون وابن المقفع .
... وفي نفس الوقت أخفوا الأعلام الأصلاء الذين كان لهم دورهم الحاسم في بناء مجد هذه الأمة بعد الصحابة والتابعين أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح والظاهر بيبرس وقلاوون والسلطان عبد الحميد ، وكان حقدهم شديداً على جماعتين لهما الفضل الأكبر في نصر الإسلام هما المماليك والعثمانيين الذين حفظوا بيضة الإسلام أربعمائة عام .
((8/10)
4 ) لقد عمد أصحاب الأباطيل إلى انتقاص الشخصيات الإسلامية البارزة ذات الأثر الحقيقي في بناء الأمة وتجاهل الدور الخطير الذي قام به الإمامين الغزالي وابن تيمية في ضرب قوائم المؤامرة الخطيرة التي جرى المأمون وجماعة المعتزلة على إذاعتها في فتنة خلق القرآن وفي القضاء على مفهوم التوحيد الخالص حيث لا ينسى موقف الغزالي من الفلسفة اليونانية حين أكد فسادها ومعارضتها لمفهوم القرآن ، وموقف ابن تيمية في ضرب مفهوم المنطق الأرسطي والكشف عن حقيقة أساسية هي أن ( أرسطو ) لم يكن يوماً معلماً للمسلمين ولم يكن المسلمون يوماً تابعين للمنطق اليوناني بل إن للقرآن منطقه المستغل المستقيم وقد كره خصوم الإسلام كل من حاول دفع أكاذيبهم وأضاليلهم التي أجمعت على أمرين ( أحدهما ) أنهم لم يأخذوا من المسلمين شيئاً بينما قدم لهم المسلمون الأساس العتيد الوحيد لبناء حضارتهم المعاصرة وهو ( المنهج العلمي التجريبي ) ، وثانيهما : أن كل ما شكله المسلمون كان من أثر الفلسفة اليونانية وهذا باطل فقد قاوم المسلمون هذه الفلسفة منذ اليوم الأول وردوها وكشفوا عن معارضتها للإسلام فهي قائمة على علم الأصنام المعارض لمفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام .
* ... * ... *
((8/11)
5 ) علينا أن نكون على وعي بأن كثيراً من الكتب التي تدرس في معاهدنا وجامعاتنا على طول العالم الإسلامي وعرضه معطوبة ، فقد وضعت على أساس المنهج الغربي فتجاوزت بذلك حقائق الإسلام وانغمست في ( أباطيل ) خصوم الإسلام وخاصة في مجال الفلسفة والتاريخ الإسلامي وعلوم الطبيعة والكيمياء وعلم الحيوان فهذه كلها لا تبرز قدرة الله تبارك وتعالى وإنما تعلي من شأن مفهوم غامض يطلق عليه الطبيعة ، كما أنها تحاول أن تخضع تاريخ الإسلام للتفسير المادي للتاريخ وهي جميعها تحاول أن توحي ظلماً وعدواناً بأن المسلمين خضعوا للفلسفة اليونانية في القديم أو الغربي في الحديث فتلك هي دعاوى المستشرقين الذين يريدون أن يصورونا وقد انسلخنا من مفهومنا الإسلامي الأصيل .
... إننا يجب أن ننظر بوعي شديد إلى مصادر ما يقدم لنا ، فإذا لم يكن مصدره عالم أو ثقة أو كاتب مخلص ، علينا أن نتحفظ في قبول ما يعرضه فإن في عالمنا اليوم أسماء كثيرة لامعة ترددها الصحف والكتب ولكنها معطوبة ولها تاريخ في الولاء لأعداء الإسلام مهما تخفي ، ومهما يدله صاحبه اليوم فعلينا أن نعرف الرجال بالأعمال وأن نعرض ما يقدم لنا على موازيين الإسلام وأولها التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي .
وبعد فض مواجهة أباطيل أعداء الإسلام تقرر الحقائق الآتية :
أولاً : إن القرآن الكريم هو الأصل الأصيل للمفهوم الإسلامي مرتبطاً بالسنة النبوية وهما المرجع الأول والأخير للتصور الإسلامي الجامع بين المادة والروح والعقل والقلب والمرتبط بالتوحيد والنبوة والوحي والغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي والجزاء الأخروي .(8/12)
ثانياً : أن النبع الأول للعقيدة الإسلامية هو التوحيد الصافي في وفق المفهوم الأول والنبع الأول بعيداً عن كل ما يتصل بعلم الكلام أو المنطق أو التصوف الفلسفي أو الاعتزال بحيث تتحرر النظرة الإسلامية من كل الدخائل التي اختلطت بالفكر الإسلامي بعد ترجمة الفلسفة اليونانية .
ثالثاً : أن يكون كل ما كتب في الفلسفة أو الكلام أو المنطق أو التصوف الفلسفي ، هو ... فكر دخيل يتحقق عليه مفهوم الأباطيل ويجب أن يقرأ بتحفظ شديد لأنه يختلط ... فيه الكثير مما يجافي الحقائق الأصيلة وما يعارض مفهوم القرآن والسنة ... الصحيحة ، وأن نكون على ثقة مما أورده الإمام الشافعي حين قال : ( ما جهل ... الناس ولا اختلفوا إلا بتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو ... طاليس ) .
رابعاً : أن الإسلام جعل منهجه في المعرفة جامع بين العقل والقلب والماد والروح وأن العقل والقرآن في القرآن مترادفان وأن العقل سراج زيته الوحي ولذلك فإن مفهوم سيادة العقل كمصدر وحيد للمعرفة إنما تعني في حد ذاتها انتقاص شأن ( الوحي ) .
خامساً : أن نكون على وعي بالمؤامرة الخطيرة التي تعمل من وراء مناهج الثقافة والتعليم والعلوم وهي مؤامرة الماسونية التي تحاول أن تدمر مفهوم الدين جملة والإسلام خاصة ، وهي التي تحمل لواء كل الدعوات الهدامة قديماً وحديثاً وهو يمثل في العصر الحديث في العلمانية وهدم الخلافة الإسلامية وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية وفي إشاعة الفلسفة المادية ومحاولة هدم مفهوم الإسلام دين ودولة من أجل تصوير الإسلام بصورة اللاهوت ( قيام الدين على العبادة وحدها ) وتجاهل النظام الاجتماعي للتعامل بين الناس في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية .(8/13)
سادساً : أن الإسلام منهج متميز مستقل له ذاتيته الخاصة منذ بزغ فجره ، جاء للعالمين جميعاً وإلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها ، وأنه دعا أصحابه إلى أن يكونوا شديدي الحرص على ألا ينصهروا في أي منهج آخر مهما بدا له من بريق شديد يخطف الأبصار ، ولقد كان أكبر مجاهدات علماء المسلمين على مدى العصور هو الحفاظ على استقلالية المنهج الإسلامي وخصوصيته وكان موقفهم من كل فكر : موقف الحرص الشديد فإذا اقتبسوا أخذوا بتنظيمات وليس نظماً ، ثم صهروها في بوتقة عقيدتهم دون أن يكون لها مظهر واضح بغير طابعه الأصيل .
سابعاً : أن للإسلام منهج تطبيقي يلتزم به المسلم في حياته الخاصة وفي مجتمعه هو الشريعة الإسلامية المحجوبة الآن وراء القانون الوضعي ، وهو من عمل أصحاب الأباطيل فعلينا أن نكون على وعي بضرورة العودة إلى منهج الإسلام لبناء المجتمع من خلال الشريعة - الجهاد - الأخلاق - الإيمان بالغيب والبعث والجزاء .
التبعية
بل هم قادة فكر التبعية للنفوذ الغربي
... استعمل مصطلح ( قادة الفكر ) بمعنى قيادة البشرية كلها وهو ما استعمله الدكتور طه حسين حين اعتبر سقراط وأرسطو وأفلاطون هم قادة البشرية ، وهو تجاوز خطير لحقائق التاريخ الإنساني فإن هؤلاء لم يقودوا البشرية يوماً ما وإن كانوا قد سيطروا في فترة معينة على الفكر في اليونان وامتد أثرهم بعد ذلك حتى جاء القرآن الكريم والإسلام فكشف عن خطأهم وانحرافهم وخاصة في موقفهم من الرقيق حين اعتبروه دعامة الحضارات ، وقبلوا أن تكون عبودية البشر للبشر أساساً للتمدن .
... وكذلك استعمل مصطلح ( قادة الفكر ) في الأخير بمعنى الذين قادوا النهضة الأدبية في مصر والبلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حيث حشد الدكتور لويس عوض عشرات الأسماء وقدم عليهم لطفي السيد وهيكل وطه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وتوفيق الحكيم وحسين فوزي .(8/14)
... والواقع أن هؤلاء الذين حشدهم الدكتور لويس عوض في محاولة لفرضهم على الفكر المعاصر لم يكونوا أكثر من قناطر وأتباع للفكر الغربي في محاولتهم صبغ الفكر العربي الإسلامي بتلك الألوان العلمانية والمادية والوثنية والإباحية التي استقدموها من الفكر الغربي في محاولة لتشكيل عقلية الأمة على أساس من مفهوم زائف قائم على التبعية للفكر الغربي سواء في تياره الليبرالي أو الماركسي أو الصهيوني .
... إن هؤلاء الذين صدرهم الدكتور لويس عوض لقيادة الفكر لم يكونوا إلا أدوات التبعية وناقلوا الفكر الغربي إلى بلادنا دون تقدير لمواءمته لوجودنا وكياننا أم اختلافه معه ، وقد فتحوا بذلك أبواباً من التغريب والغزو الفكري لا حد لها وحجبوا بذلك مناهج الفكر الإسلامي الأصيلة وأعانوا المستعمرين على فرض التبعية الكاملة على هذه الأمة ، فإن واحداً منهم لم يقدم شيئاً في مجال الأصالة والقيم الإسلامية الأساسية ، وإنما كانوا أولياء للنظام الربوي والقانون الوضعي والتعليم العلماني ينظرون في استهانة وسخرية إلى مفاهيم الإسلام لأنهم لا يعرفونها ، وفي نفس الوقت الذي كانوا يطالبون فيه بالاستقلال والتحرر من النفوذ الأجنبي كانوا يقبلون في غير معارضة مناهج الغرب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية جميعاً .
... ومن هنا فإن هؤلاء لم يكونوا قادة فكر أمة ولكنهم كانوا قادة فكر التبعية سواء للغرب في مرحلة أو للماركسية في مرحلة أخرى ، وكانوا في كلا المرحلتين خاضعين لمفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية التي كانت يهودية الأصل على حسبما كشف عنها الدكتور صبري جرجس في كتابه ( التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي ) .(8/15)
... فقد كان علم النفس الذي قدمه فرويد مستمد من مفاهيم التلمود وكان علم الاجتماع الذي قدمه دوركايم خاضع لنظرية دارون التي تبناها اليهود ، وقد خاض هؤلاء في تلك النظريات والمفاهيم الغربية الوافدة في مختلف مجالات التعليم والتربية والأدب والفن إلى أبعد حد ، وزينوها للأجيال الجديدة ودرسوها لهم في الجامعات والمدارس وأعلنوها في الصحف والكتب حتى ظن أن الأمة الإسلامية قد تخلت عن قيمها وعقيدتها ومفاهيمها واستسلمت للوافد وتغربت فعلاً على النحو الذي كشف عنه هاملتون جب في كتابه ( وجهة الإسلام ) .
... وعندما أشرق فجر اليقظة الإسلامية لتعلن مفاهيم الإسلام الحقيقية الأصيلة سارع هؤلاء جميعاً ليأخذوا مكانهم في الركب الجديد فكتبوا في السيرة وحملوا نظريات الغرب بأسلوب شرقي وعربي ليخدعوا بها الناس عن حقيقة الإسلام ، فمنهم من أنكر المعجزات ومنهم من أخفى النبوة وأعلن العبقرية ، ومنهم من أنكر الوحي والإسراء بالجسد وأدعى أحدهم أنه إنما يكتب حياة محمد بالأسلوب العلمي .
... ولكن الشيخ المراغي في مقدمة كتاب حياة محمد نفسه صحح ذلك قال : أن هذا المنهج المعاصر إنما أخذه الغرب من المسلمين أساساً .(8/16)
... ولقد كان قادة الفكر هؤلاء هم الذين حملوا لواء الإقليميات والدعوة الفرعونية وهم الذين وصفوا الفتح الإسلامي بأنه احتلال أشبه بالاحتلال الفارسي والروماني ، وهم الذين دعوا لنظريات فرويد وماركس ودور كايم ومنهم من قال إن الدين خرج من الأرض ولم ينزل من السماء ولقد كان هؤلاء قادة الفكر هم أتباع المستشرقين وأوليائهم والسائرين في ركابهم ، فلما وجدوا أن الإسلام الصحيح يسبقهم عادوا يلتمسون الكتابة في السيرة وفي الإسلام ولكنهم مع الأسف لم تكن لهم أرضية أصيلة ، فكانت مفاهيمهم مستمدة من نظريات الغرب وكتاباتهم فخلطوا سواء من كتب منهم عن الألوهية فادعى أن البشرية بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد مع اليهودية ، وكان معنى هذا إنكار دعوة التوحيد الخالص التي جاءت مع آدم ونوح أساساً وكانت لهم أخطاؤهم في تفسير التاريخ وفي تقدير البطولة فقد اعتمدوا المناهج الغربية كنظرية لمبروزو وغيرها ، وبالجملة فإن هذا التراث الذي قدمه هؤلاء قادة الفكر قد وجهت إليه ملاحظات كثيرة وتبين أنه لم يكن يصدر عن أصالة أو عقيدة راسخة ، ذلك أن هؤلاء الكتاب جميعاً لم يكونوا ملتزمين أساساً بالإسلام كعبادة أو منهج حياة ومن هنا كان خلطهم وقد سقطوا في أخطاء شنيعة .
... أما إذا كنا نريد حقاً أن نتعرف على قادة الفكر العربي الإسلامي في هذه المرحلة فإننا نجدهم في غير هذه المجموعة من العلمانيين وكتاب جريدة السياسة وأتباع المستشرقين الذين لمعوا وبرزوا وتصدروا .(8/17)
... إنما نجد هؤلاء في الصحف الإسلامية التي لم تكن واسعة الانتشار أمثال عبد العزيز جاويش وعبد الحميد سعيد ومحب الدين الخطيب وشكيب أرسلان ومصطفى صادق الرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وحسن البنا والخضر حسين وفريد وجدي ومنصور فهمي ورشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي وحسين الهراوي وعبد الصبور شاهين وعلي سامي النشار وعمر فروخ ومالك بن نبي ومحمد أبو زهرة ومحمد أبو شهبه ومحمد محمد حسين ومحمد مصطفى هدارة ومصطفى السباعي ومصطفى صبري .
... هؤلاء الذين قدموا في إيمان وصمت عصارة فكرهم في الطريق الصحيح ونحو إحياء المنابع والعودة إلى المصادر الحقيقية وبناء الفكر الإسلامي من جديد على أصليه الأساسيين ( القرآن الكريم والسنة المطهرة ) ، ولكن هؤلاء لا يذكرهم أحد ولا يدخلون في بوابة قادة الفكر التي تقتصر على المشاهير الأعلام الذين أبرزهم الاستشراق ورفع أسماءهم النفوذ الأجنبي وصدروهم ليكونوا قادة وقدوة ، هؤلاء هم الذين ما زال الدكتور لويس عوض وجماعة التغريبين يحاولون إحيائهم من جديد بعد أن فاتهم الزمن وتجاوزتهم الأحداث .
الفلسفة المادية
صياغة منهج الفلسفة في المدارس
والجامعات تهدف إلى فتح الطريق أمام الإلحاد والماركسية(8/18)
... يهدف منهج الفلسفة الذي وضعه رجال التغريب إلى هدف واضح ، أساس ذلك هو أن يصبح عقل المسلم الذي تشكل على التوحيد الخالص لتلقي الزيف والأغاليط والوثنية والإلحاد ووكل مقررات الهدم التي يحتويها ذلك الحصار النكد المجمع من فلسفات قديمة مدمره ، ليكون المسلم بعد دراسته وامتحانه وخلال هذه السنوات ومن خلال هذه المصطلحات المظلمة المضلله ، أن يكون قابلاً لتلقي مفاهيم أكثر تسمماً وفساداً وإباحة وهي مفاهيم فرويد وماركس ودوركايم خاصة وقد جمع إليه مع الفلسفة الغربية القديمة ( الذي يصور فيها دور الإسلام متضائلاً وتبعياً ) مادة أخرى أشد خطورة هي نظرية دارون والتطور ، ثم تقدم العلوم ( الرياضة والأحياء والطبية ) مفرغة من السبب الأول لنشأة الحياة وهو الخالق جل وعلا فلا يرى المسلم فيها إلا أن الحياة مادة وأنه لا إله وأن الكون يسير بقدرته الخاصة وأنه لا يوجد غير المحسوس ، وبذلك تنشأ في نفس المسلم خاصة خطيرة هي التنكر للغيب والبعث والجزاء والسخرية منها واحتقارها وبذلك يفقد إيمانه بالله تعالى بعد أن يقع الصراع في نفسه بين نظرية الخلق كما جاء بها الإسلام وكما تقدمها كتب الفلسفة .
... ولقد وضح هذا لي بعد أن جرت المحاولات لتعيد منهج الفلسفة ، ورأيت الماركسيين يثورون ثورة شديدة ويغضبون كثيراً لمس هذه المقررات الملحدة التي تقدمها الفلسفة ذلك لأنهم كانوا يعرفون مقدماً أنها هي المدخل للإلحاد والعلمانية والماركسية المنكرة لوجود الله تبارك وتعالى .(8/19)
... وهكذا نجد أن صياغة منهج الفلسفة على هذا النحو إنما يهدف أساساً إلى فتح طاقة الشك في نفس المسلم الصغير الذي لم يكن قد وعى إلا قدراً ضئيلاً من الفهم للإسلام فإذا به يخر صريعاً ويسقط تحت أقدام الإلحاد والشك وانهياره ، فإذا به يجد من الفلسفات الرأسمالية والاشتراكية والوجودية وغيرها منطلقاً ليذهب بعيداً عن الإسلام وتنهار قدرته على المقاومة ويستسلم للإلحاد وينكر وجود الله تبارك وتعالى .
* ... * ... *
... وقد ثبت بالمراجعة أن كتب الفلسفة في المرحلة الثانوية تشيد ببعض المذاهب الفلسفية وهذا من شأنه أن ينفصل الطالب المسلم عن الانتماء لدينه - خاصة وأن أرضيته الإسلامية ضعيفة أصلاً وليست قادرة على أن تقدم له ما يكشف له فساد مناهج الفلسفة أو وجهة العلوم الطبيعية في التخلي عن ارتباطها بالخالق .
... وقد لاحظت كثيراً من الدراسات أن في كتب الفلسفة انحرافات شديدة عن العقيدة الإسلامية في تفضيل بعض المذاهب المادية والإشادة بها وهذا مما يجعل الطالب المسلم مفرغ من الانتماء لعقيدته وأمته .
... والمعروف أن هذه المناهج أعدت أولاً في مدارس الإرساليات التي أنشأها المستشرقون والمنصرون في استانبول وبيروت والقاهرة قبل سيطرة الاستعمار ، فلما جاء النفوذ البريطاني والفرنسي في بلاد العرب نقلت هذه المناهج إلى المدارس الوطنية وفرضت فرضاً وقد صيغت هذه المناهج على نحو يسلب المسلمين عزتهم وكرامتهم فلما استقلت البلاد وخرج الاستعمار بقيت أغلب هذه المناهج ووجدت من يدافع عنها من أولياء النفوذ وأتباعه من المغربين .(8/20)
... وكان كرومر قد قال : إن مهمة الرجل الأبيض تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس ، ولذلك قام بتعيين القس دنلوب مستشاراً لوزارة المعارف وأعطيت له السلطة الفعلية وبدأ في محاربة الإسلام واللغة العربية وتعليمهما بهدف إخراج المسلمين من الإسلام الصحيح ، وكذلك كان في كل قطر عربي ( دنلوب ) ثم جاءت موالاة التبشير ( زويمر ) و ( الكردينال لا فيجري ) وغيرهم لاستكمال طريق التعليم والثقافة جميعاً .
... ومن ناحية أخرى جرى تجميد الأزهر والزيتونه والقرويين وخلاوي القرآن وإطلاق الإرساليات ، وبدأ العمل على تخريج مدرسين وفق مذهب ( ديوي ) وتأخير خريجي الأزهر كل هذا بهدف إلغاء الولاء الإسلامي وقصره على المفاهيم الإقليمية المفرغة من الدين تماماً .
... ومن هنا وجب التنبيه على خطورة هذه المحاولة الغربية التي ترمي إلى إغلاق طريق الأصالة والمنابع ومناهج القرآن والسنة ومصادر التراث الإسلامي وفتح الطريق إلى الفلسفات المادية والوثنية وعلم الأصنام اليوناني .
... ولا تتوقف الفلسفة الوافدة عن الفكرين الهليني والغنوصي سواء المرتبط بإعلاء العقل أو بإعلاء الحدس ، ولكن يدخل إلى ذلك كثير من النظريات والمقولات والأساطير .(8/21)
... وأغرب ما في هذه المناهج وأسوأها : وضعية الفلسفة الإسلامية التي ترسم على أنها تابع للفلسفة اليونانية وأن ما قام به الفارابي وابن سينا وغيرهم هو فكر إسلامي وليس هذا صحيحاً على إطلاقه فقد رفض علماء المسلمين هذه الفلسفات المترجمة وأنكروا صلة الإسلام بها وعارضوها وكشفوا عن أخطاء أفلاطون وأرسطو وجاء الغزالي ثم ابن تيمية من بعده ليدحضوا هذا التصور اليوناني مما أسقط هذه الفلسفة تماماً ، غير أن النفوذ الأجنبي عاد في أوائل العصر الحديث ففرض علينا مرة أخرى أرسطو وأفلاطون حتى قال لطفي السيد وهو يترجم لأرسطو أنه المعلم الأول والحقيقة أن أرسطو لم يكن معلماً للمسلمين وأنهم رفضوه منذ اليوم الأول سواء من ناحية تصوره القاصر والناقص للألوهية أو من ناحية دعوته إلى الرق واعتباره - وكذلك أفلاطون - أساس المجتمعات والحضارة ، ولقد هاجم الغربيون في أول عصر النهضة وبعد أن نقلوا المنهج العلمي التجريبي الذي وضعه المسلمون - هاجموا أرسطو بنفس الكلمات والأدلة التي قدمها علماء المسلمين من قبل وجاء كتاب التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية الذي كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق ليصحح هذه المسألة وليضعها في مكانها الصحيح فقد أبان أن علم أصول الفقه هو فلسفة الإسلام الحقيقية ، وأن الإمام الشافعي هو وليس أرسطو أول من أرسى هذه القواعد في ( الرسالة ) .
... وهكذا استكشف النواة الأولى للنظر العقلي الإسلامي مقرر أن القرآن الكريم قد ذكر الحكمة التي عرفها العرب وكانت شرفاً لأهلها ، ومن هنا تأكد أن منهج علم الكلام ليس هو الطريق الصحيح لفهم العقيدة الإسلامية وأن الفكر المعتزلي الذي نقله أصحابه عن الفكر اليوناني لا يمثل التصور الإسلامي الصحيح ، كما أن التصوف الفلسفي لا غير مفهوم الإسلام : هذا المفهوم المستمد من القرآن، الكريم والسنة النبوية ، وهو مفهوم أهل السنة والجماعة .(8/22)
... ومنذ أن كشف الإمام الغزالي أمر فساد الفلسفة اليونانية وعجزها عن العطاء ثم جاء الإمام ابن تيمية فأسقط المنطق اليوناني وقدم منطق القرآن الكريم وقد توضح الموقف تماماً ، وكل ما يحاولون اليوم إعادة عرضه في هذا الأمر بإحياء المفاهيم التي عرفتها مدرسة المشائين اليونان هي مفاهيم باطلة ومضللة .
الإعصار الخطير الذي يضرب ثغورنا وحصوننا
... لا ريب أن الإيمان بالغيب ركيزة أساسية في الإسلام وقاعدة ثابتة في مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به هذا الدين الخاتم ، وقد ركز القرآن الكريم على الإيمان بالغيب تركيزاً شديداً وفرضه فرضاً على التصور الإسلامي في مواجهة أمرين خطيرين :
أولاً : هو التصور الغربي القديم الذي قام على الأسطورة والخرافة على النحو الذي تجده واضحاً في أدبيات الفكر الهليني .
ثانياً : التصور الذي قدمته الفلسفة المادية قديماً وحديثاً والقائم على الإيمان بالمحسوس وإنكار ما سواه .
... هذا التصور الذي استشرى في العقود الأخيرة وسيطر سيطرة كاملة على الفكر الغربي نتيجة لتغذية القوى الهدامة له وتوسيع نطاقه وفرض سلطانه على الأيديولوجيتين الغربية والماركسية ومن خلال تطورات واسعة حملتها مذاهب الوضعية المنطقية والبرجماتية والمادية الجدلية والفرويدية والوجودية استمداداً من نظرية التطور بتحولاتها الاجتماعية والنسبية .
... فالحقيقة أن هذه المذاهب كلها منذ نشأة عصر التنوير الذي قادته القوى الهدامة التي رسمت منهجها كاملاً في فلسفة الماسونية ثم في بروتوكولات صهيون أقامت صرحاً خطيراً من المفاهيم الوثنية الباطنية المستمدة من التراث الهليني القديم وفكر طفولة البشرية ، لتقدمه من جديد إلى الفكر البشري في محاولة مستميتة لحجب مفهوم التوحيد الخالص والغيب والألوهية والنبوة والبعث والجزاء .(8/23)
... وقد وضحت في العقود الأخيرة تلك الحملة الضارية المكثفة على مفهوم الغيب والسخرية به وانتقاصه ووصفه بالتخلف والرجعية والجمود فضلاً عن التركيز على إبراز تصور كامل للهجوم على الإسلام من خلال مصطلحات ( القديم والسلفية والتراث و ......) حتى تجدهم جميعاً كالببغاوات يرددون مقولة واحدة ( لا تبكوا على التراث وانفتحوا على التيارات العالمية ) ولا مجال للخوف من الثقافة الغربية والغزو الفكري أكذوبة كبرى .
... وتلك دعاوى باطلة لأنها لم تقدم الدليل الذي يخلق الثقة في نفوس الشباب المسلم الذي يعرف ولاء هؤلاء جميعاً للغرب وللفكر المادي الوثني وإنكار هؤلاء جميعاً للألوهية والنبوة وعالم الغيب .
... وإنك لتجد أخطر ما في هذا كله أن تبني مؤسسه عالمية يدعي أنها فوق الأهواء العنصرية والعرقية والسياسية ( هي هيئة اليونسكو ) تتبنى في مؤتمر عقدته منذ عامين في محاولة لفرض مفهوم يقوم على إلغاء الغيب من مناهج المدارس والجامعات مستمد من مضامين الفكر الماسوني الذي بشرت به جماعات وصحف ومنظمات ومحافل منذ مؤامرة عزل السلطان عبد الحميد كمقدمة لإسقاط الخلافة الإسلامية .(8/24)
... بل لم يعد أمرالغيبيات قاصراً على دراسات الأديان والفلسفات بل لقد استطاع أن يغمس خنجره المسموم في صدر الأدب والشعر والفنون والقصة جميعاً ، فأصبح هناك فلسفة للإبداع الفني منقولة من الغرب يراد فرضها على الأدب العربي والفكر الإسلامي في محاولة لخلق تصور مظلم ملئ بالأحقاد الضاربة والفساد الخلقي والقبح بدا على يدى بودلير ونمته السريالية الضارية ثم مضى به كفكا إلى غايات ثم جاء نونسكد وتيكاسو ليضعا له تلك الصورة السوداء لمحاولة إخراج اللغة من مضمونها الذي عرفته إلى صور باهتة ساخرة مضللة ، ويجرى فرض ذلك اليوم على اللغة العربية : الفصحى لغة القرآن بهدف هدم القديم كله ( الذي هو العقيدة والدين والغيب ) ويقوم على هذه المؤامرة مجموعة من المؤسسات التي يخيل إليك استقلاليتها وكلها تلتقي على مفهوم واحد هو إحياء تراث وثني باطني قديم جاء الإسلام لهدمه وجاء القرآن لكشف زيفه في صوره المختلفة ، فترى هذا الذي يتحدث عن التراث الإسلامي ( ويسمونه العربي ) فيركز على الجانب المعرفي : أي هذا الجانب المتصل بالغنوصية ووحدة الوجود والحلول والاتحاد والمرتبط من ناحية أخرى بالعقول العشرة ونظرية الفيض ( وكل هذا ينكره الإسلام ولم يقبله علماء المسلمين عندما ترجمه حنين ابن اسحق وردوه عليه ) أما اليوم فيقال أنه أحد ثلاثة عناصر تتكون منها الثقافة الإسلامية وليس هذه الدعوى إلا صورة منقولة تماماً من أصحاب نظرية الحداثة الذين يحتقرون اللغة العربية ويحتقرون نوابغ الفكر الإسلامي ولا يرون وجوه التقدمية والأصالة إلا في جماعة الزنادقة والملاحدة أمثال : ابن الراوندي والحلاج وابن سبعين والسهروردي إلى ابن سينا والفارابي ( وذلك كله بعد أن تكشفت تلك العلاقات التاريخية بينهما وبين القرامطة .(8/25)
... وليس هذا كله ببعيد على من يقول إن الإسلام ليس من حقه اختبار النظريات العلمية وأن القرآن الكريم لا يحتوي رأياً نهائياً في مسائل علمية كنظرية دارون أو غيرها ، وذلك انطلاقاً من المفهوم المضلل الذي يصدر منه هؤلاء جميعاً وهو أن الدين ليس إلا مفهوم لاهوتي قائم على العبادات وحدها ( أما مفاهيم المجتمع والسياسة والاقتصاد ) فليست من شأنه على نحو من الأنحاء وذلك مفهوم غربي مستمد من الخلاف الذي استعر بين المسيحية وعلماء الغرب وليس له صلة مطلقاً بمفهوم الإسلام الجامع الذي تصدى لكل قضايا الإنسان والمجتمع وقدم رأيه في مفهوم الخلق ومفهوم الغيب ومفهوم المسئولية الفردية والجزاء الأخروي والبعث والنشور .
... فأنت ترى أن هذه المجموعة كلها تصدر عن مفهوم واحد فإذا ذهبت تعرف عقيدتها وجدتها في الأغلب تؤمن بوحدة الوجود على نحو ما صرح كبيرهم منذ سنوات وعلى النحو الذي عرف عن جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة من خلال الأدب المهجري الذي أنشأ أجيالاً تحمل الآن لواء الحداثة والإبداع الفني وكل المفاهيم التي تحتقر القيم الثوابت وتؤمن بأن اللغة والأدب والشعر كلها تتطور بدون قيود إلى ما لا نهاية له .(8/26)
... والموقف الآن واضح : أنه في هذه المرحلة التي تتنامى فيها الصحوة الإسلامية وتحاول أن تستعلن في منهج أصيل متميز له خصوصيته الإسلامية الربانية في مختلف مجالات الفكر والثقافة والفن والعلوم الإنسانية والاجتماعية بما يكشف عن عوامل الاختلاف الواضحة والعميقة مع المنهج الغربي ، وتعلن رفضها للمفاهيم الغربية في مجال الأخلاق والنفس والاجتماع متحررة من التبعية وعائدة إلى المنابع ، ومن حيث تستقطب الشباب المسلم كله أو أغلبه نحو هذا اليقين الصادق نجد حملات المؤامرة تزداد ضراوة ونواجه هذا الإعصار الخطير الذي يحاول أن يضرب المسلمين في كل موقع دون هوادة في محاولة لتدمير قيم الخير والإيمان والتوحيد من منطلقات مختلفة المداخل مترابطة الهدف والغاية تحت أسماء الحداثة أو النسبية أو التطور أو الإبداع الفني أو الفكر الحر أو روح العصر أو العقلانية فكلها كلمات تحتوي على مضمون واحد ، هو إطلاق الأدب والفن من كل قيود الأخلاق ، وإطلاق الأداء من كل قيود النظم أو البيان ، في انطلاقة خطيرة تريد تدمير كل شئ .
... وتحويل هذه المفاهيم الزائفة المستمدة من الفكر الباطني والوثني القديم ( فكر طفولة البشرية ) إلى مسلمات تغري بالإلحاد والإباحية والكشف والاندفاع وراء الشهوات وتدمير كل قوى الإنسان وقيمه في محاولة يائسة لهدم الدين الحق ، ويجري التركيز الشديد على مفهوم ( الغيب ) لإخراج المسلمين منه إلى مفهوم يائس مضلل هو مفهوم ( المحسوس ) في خداع كاذب مصدره المغالطة حيث لا يدعو الإيمان بالغيب إلى الاستسلام للخرافة أو الشعوذة ، حيث لا يوجد ضوء كاشف كذلك الضوء الذي يقدمه القرآن للمنهج العلمي حين يطالب بالنظر والتجربة وتقديم الدليل والبرهان وينعى على أصحاب الأهواء والظنون .
... ( قل هاتوا برهانكم ) ، ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) .(8/27)
... فقد جاء الإسلام ليضع البشرية كلها على طريق العلم الصحيح ، فيكشف زيف دعاوى أصحاب النحل المختلفة والمذاهب المضللة ، ودعا إلى إسلام الوجه لله تبارك وتعالى وحده ، كما قدم منهجاً كاملاً ( للميتافيزيقا ) حتى لا يحتاج المسلم إلى النظر في تلك الأساطير والوثنيات التي كان الفكر البشري يرسمها في محالة لتقديم تصور لهذه العوالم التي لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى .
... إن وجود الإسلام بمفهومه الجامع : بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع ، وعودة هذا المفهوم مرة أخرى واستيقاظه وتناميه بعد أكثر من سبعين عاماً من البث التبشيري والاستشراقي والماركسي لهدم مفهوم الدين الجامع ومحاولة حصار لمسلمين في مفهوم لاهوتي قاصر على العبادات ، قد أوجد اضطراباً شديداً في دوائر الغرب فقد ظنت يوما ما أن الأمر قد وصل إلى غايته وأن المسلمين قد قبلوا بالانصهار في مفاهيم الفكر الغربي ولكن هذه العودة إلى المنابع والتماس مفهوم الإسلام الجامع الأصيل قد أوجد عشرات من المشاريع التي تحاول هدم المفهوم الأصيل عن طريق فرض مفاهيم أخرى في مجالات التعليم والصحافة والمحكمة والمصرف ، وظهرت نظرية الأخلاق بديلاً عن العقيدة ثم نظرية الضمير بديلاً عن الدين ، ثم ظهرت نظريات انتقاص القديم ووصفه بالرجعية والتخلف ، ورمي التراث بأنه أكفان الموتى ، ومحاولة تصوير بطولات التاريخ الإسلامي على أنها أكاذيب وأضاليل ، وإثارة الغمز واللمز إلى صلاح الدين ومحمد الفاتح وطرح مفاهيم الإقليميات والقوميات ، إضافة إلى العلمانية والفرويدية والماركسية ، وإحياء ذلك التراث المسموم تراث ابن الراوندي والحلاج وغيرهم ثم جاءت البهائية والقاديانية ( وخلفاؤها الأحمديون ) للدعوة إلى دين عالمي ينكر الجهاد ويستغل حديثاً مكذوباً عن جهاد النفس بدلاً من جهاد السيف .(8/28)
... وكتب الكاتبون ينكرون معجزات النبي وينكرون نبوته تحت أسماء العبقريات وبطل الأبطال ورسول الحرية في مجالات لا تتوقف لتزييف مفهوم الإسلام الأصيل في حرب معلنة منفذة الأدوار أطلق عليها حرب الكلمة وجاء إحياء الفلكلور والدعوة إلى الأنثربولوجية في محاولة خطيرة لإحياء تراث الجاهلية وما قبل الإسلام مع أنه أكثر كتاب الغرب قد أكدوا ( الانقطاع الحضاري ) بين عصر الإسلام وما قبله من عصور .
... ثم جاءت الطامة الكبرى في محاولة إنكار الغيب واصطناع مفاهيم الحداثة المسمومة كوسيلة لهدم قواعد بناء اللغة والبيان والشعر والنثر جميعاً بهدف النيل من القرآن الكريم وامتداداً للمحاولة القديمة التي قام بها جبران خليل جبران حين أعلن " لي لغتي ولكم لغتكم " والتي تتقلب بين الدعاة حتى وصلت إلى لويس عوض في محاولته استغلال أبحاث اللغة في النيل من مفاهيم القرآن ومن اسم الله " الصمد " على النحو الذي كشف عنه كتابه المعروف .
... وهكذا تتضافر هذه الجهود جميعاً في مواقعها المختلفة بهدف اقتلاع خيامنا ، ويمضي الإعصار في ضرب قواعدنا وثغورنا دون أن نتبين أن المؤامرة واحدة وإن تعددت معاركها ، وإن الهدف مبيت وإن تغيرت الوسائل والأدوات ، وأن نكون على وعي بالمؤامرة أساساً وكشف زيفها ومتابعتها دون هوادة حتى يظل شبابنا المسلم قادراً على امتلاك وضوح الرؤية دون أن تستطيع وسائل التضليل والخداع أن تحجب عنها أبعاد المعركة ، الموجهة أساساً إلى الدين الوحيد الباقي في الأرض الآن والذي يمتلك منهجاً أصيلاً قادراً على مواجهة كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية .
في مواجهة احتواء الإسلام ومحاصرته واختراقه(8/29)
... يبدو أنه بعد أن سقطت الماركسية التي كانت تتقاسم خطة احتواء الإسلام مع النظم الغربية - يبدو اليوم : أن الغرب أخذ يكثف ضرباته ويوسع دائرة عمله ، وذلك حتى لا يتمكن الإسلام من تحقيق بعض القدرة على امتلاك إرادته واستعادة سيطرته على بلاده ومنهجه .
... فقد كان الإسلام دائماً حريصاً على أن يحقق وجوده في سماحة ويسر ودون أن يطمع في العدوان أو السيطرة أو الاعتداء على وجود النظم والمناهج الأخرى مؤمناً بأن الدعوة إلى الله بالحسنى والحكمة قادرة على أن تثبت وجوده وتمكنه من تطبيق منهجه وإقامة مجتمعه واستئناف حضارته سعياً في تقديم منهج الله تبارك وتعالى إله العالمين ، ومن هنا فإن ( مؤامرة احتواء الإسلام ومحاصرته واختراقه ) قد توسعت كثيراً في الفترة الأخيرة وتحول كثير من كتاب الماركسية إلى العمل على حرب الإسلام وخدمة أهداف الاستشراق والتغريب والغزو الفكري وذلك من منطلق تآزر الأعداء في وجه الإسلام والعمل على اكتساحه وعدم تمكينه من مواجهة الأخطار .
... والواقع أنها موجة جديدة ليست مستغربة ، فقد عاش المسلمون حياتهم خلال أربعة عشر قرناً متطلعين إلى المثل الأعلى الذي رسمه رسولهم الكريم وفي محاولة لإقامة منهج الله تبارك وتعالى على الأرض ولكن تجربتهم البشرية كانت تخطئ وتصيب وتسدد وجهتها أو تنحرف ، وما أحسوا يوماً بأنهم في أمن أو أحرار يستطيعون أن يأمنوا عدوهم فقد كانت القوى الخارجية لا تغفل عنهم طمعاً في ثرواتهم وحرصاً على ألا يتمكنوا من تحقيق وجودهم .(8/30)
... فقد ولد الإسلام في قلب التحدي الذي كان يطمع في تدميره والقضاء على أهله ، وقد أنذرهم القرآن الكريم وحذرهم في أكثر من موضع عن أن يأخذوا طريق الأمن في مواجهة التحديات وأن يكونوا دائماً على تعبئة وقادرين على الردع ، ولكنهم لم يثبتوا تماماً وكانوا يصابون بالوهن ( الوهن : حب الدنيا وكراهية الموت ) فكان عدوهم يتغلب عليهم ويقتحم ثغورهم ويدمر قواتهم ، وهم الآن في أحد هذه المواقف ومن أشدها خطورة ، فقد غزاهم في بغداد في الحملات الصليبية التسع ، وفي حروب التتار وفي حروب الفرنجة في شواطئ المغرب والأندلس فإذا ما عادوا إلى الله قبلهم ونصرهم ومكن لهم في الأرض ولكنهم اليوم ما زالوا مخدرين لم يستيقظوا بعد ليواجهوا الخطر الزاحف الذي يتمثل في مؤامرة ما تزال تدبر منذ أكثر من ثمانين عاماً ترمي إلى تغلب الأعداء عليهم من خلال الاستعمار والصهيونية والماركسية جميعاً : ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أمتعتكم وأسلحتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة وخذوا حذركم ) .
... فهم منذ أكثر من قرن من الزمان قد حجبت شريعتهم وفرض عليهم القانون الوضعي وتسلط عليهم الاقتصاد الربوي وجعل منهج التعليم العلماني منطلقاً لصياغتهم من جديد في أثواب غربية محتواة وتجمدت ثرواتهم بحيث لا يستطيعون بناء مجتمعهم وفق نظامهم الرباني وعاشوا عالة على موارد وافدة تأتيهم مما لا يملكون معارضتهم أو مخالفتهم وكان أخطر ما يسيطر به عليهم عدوهم : هدم الوحدة الجامعة على أساس القرآن وعدم تمكينهم من تحقيقها وتزييف المنهج وإدخال التأويل عليه حتى تضيع معالمه الأصيلة ويدمر مفهومه الأصيل بوصفه ( منهج حياة ونظام مجتمع ) .(8/31)
... ولم يكن العيب في تأخر المسلمين راجعاً إلى المنهج فقد كان المنهج سليماً ربانياً محذراً من الترف والأمن الخادع مطالباً بالإعداد والحشد والقدرة على الردع والاخشيشان ولو وعى المسلمون مقولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلموا أنه يجب أن يحتشدوا ويرابطوا ويكونوا على تعبئة كاملة لا يغريهم أي مظهر من مطامع المتاع الدنيوي البراق .
... ولقد علم المسلمون من ميراثهم الخالد ( القرآن والسنة ) أن التماسهم منهج الله تبارك وتعالى كان دائماً المخرج من الأزمات والمنطلق من الاحتواء في بوتقة الأممية وأن نصرهم على عدوهم كان بالعدد الأقل وكان الإيمان والاستشهاد وبيع الأنفس لله تبارك وتعالى هو المعادل الحقيقي لقوة العدو المادية المحتشدة ، ولقد جاءت الأزمات نتيجة تفريط المسلمين في القوة والاستسلام إلى اللذات العاجلة والترف ، ولن يعودوا إلى مكانتهم الحقيقية إلا إذا عادوا إلى الله تبارك وتعالى ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) .
... * ... * ... *
ومن هنا فنحن في حاجة إلى مواجهة المؤامرة الخطيرة في ميادينها المختلفة :(8/32)
أولاً : تقديم التاريخ الإسلامي بصورة تحقق العبرة منه ، سواء في مجالات النصر أو في مجالات الهزيمة ، فالتاريخ الإسلامي هو العمل الإنساني الذي يطابق منهج الله تبارك وتعالى أو يختلف عنه ومن كلا الأمرين نستفيد ما يمكننا من بناء المجتمع الإسلامي الأصيل ، إننا يجب أن نؤكد الصفحات المشرقة من صفحات البطولة والفداء والتضحية والاستشهاد في سبيل حماية الإسلام ، ويجب أن ندرس المواقف المختلفة التي وقعت ( سقوط بغداد ، الحروب الصليبية ، فتح القسطنطينية ، قيام الأندلس ، قيام الدولة العثمانية ... الخ ) ، والتعرف إلى الأبطال الأعلام في عصر النبوة وفي العصور التي تلتها فقد ظل الإسلام معطياً في هذا المجال منذ اليوم الأول إلى اليوم ولا بد من أن نعرف عدونا ونعمل على امتلاك الإرادة والمرابطة في الثغور وعدم تأويل نصوص الجهاد والفداء على النحو الذي يحاول الأعداء ترويجه فإن حديث : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس ) لم يصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويراد به اليوم القضاء على فريضة أساسية لا يمكن أن تعيش هذه الأمة إلا بها
... ونحن في هذا المجال لا نعتمد على المصادر المسمومة كالأغاني وألف ليلة وغيرها ، فهذه كتب أريد بها ترويج الإثم والفاحشة والقضاء على قوة المقاومة الإسلامية ، ومن هنا يجب تصحيح كثير من الأخطاء خاصة ما وجه إلى هارون الرشيد ومحمد الفاتح وصلاح الدين وما وجه إلى تاريخ المماليك والدولة العثمانية وقصة السلطان عبد الحميد مع الصهيونية .
ثانياً : حماية وسائل التسلية والإعلام من الزيف والإباحة وضرورة حماية القيم الأخلاقية ورفض هذه الحوارات التي ترمي إلى تقبل الانحرافات والأخطاء وتجعل من الإباحيات اتجاهاً مشروعاً ومتقبلاً وفتح الطريق أمام الانحلال والانطلاق .(8/33)
... ويجب إلغاء كل ما يخدش الحياء أو مذهب الماسونية الذي يقول بقبول الإنسان ( بتعرية أعضائه التناسلية ) وليكن واضحاً لنا أن أخلاقية الفن وأخلاقية الأدب هي قاعدة أساسية في فكرنا الإسلامي .
ثالثاً : يجب أن تتحامى فتاوى تقبل النظام أو تأويل الحرام أو بدائل الشريعة الإسلامية بالقانون الوضعي في مجال التعامل التجاري والأسرة والمجتمع .
رابعاً : عدم قبول مفهوم الدين الغربي بوصفه دين عبادي بمفهوم اللاهوت بعيداً عن مفهوم الإسلام الأصيل : منهج حياة ونظام مجتمع وارتباط بين الدين والدولة وتكامل القيم في مجال الاقتصاد والسياسة والتربية والاجتماع .
خامساً : عدم قبول مفهوم الثقافة العالمية أو الحضارة العالمية وإقرار استقلالية الثقافة الإسلامية ، ذلك أن الثقافة مرتبطة بالقوم من حيث الدين والقيم والعقيدة وهي تطلق الآن للقضاء على مفهوم الأمة المتميزة والمرتفعة فوق التبعية والاحتواء ولقد كان الإسلام ثقافة خاصة متميزة لها منهجها وقانونها وهي تقبل من الثقافات وترفض على قاعدتها ومقاييسها .
سادساً : عدم قبول الدارونية والعلوم الطبيعية والفلسفية التي تنكر وجود الله تبارك وتعالى أو قبول العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية المستمدة من الفلسفة المادية والنفس والأخلاق والاجتماع .
وكل هذا يدعونا إلى التحفظ الشديد من الاعتماد على المصادر الأجنبية وخاصة دوائر المعارف ودائرة المعارف الإسلامية التي وضعها غلاة المستشرقين والمبشرين من اليهود والنصارى .(8/34)
... كذلك عدم اعتماد كتب الأدب لمراجعة دراسة المجتمع الإسلامي و التاريخ الإسلامي ، والتنبه لمصادر الخلاف في كتابات العباسيين عن العصر الأموي أو كتابات بعض الفرق عن الحكام الأمويين والنظر في حرص إلى ما يكتبه الغربيون عن المماليك أو الدولة العثمانية نتيجة الصدام الذي وقع بينهم من ناحية وبين الحملات الصليبية ، كذلك يجب التنبيه إلى الدور الذي قام به اليهود في التآمر على الإسلام وإيقاظ الفتنة من عبد الله بن سبأ إلى ما بعد ذلك .
* ... * ... *
... ولقد أصبح من الحقائق المؤكدة الواقعة الآن إحساس عدد كبير من المثقفين الغربيين بأهمية المنهج الإسلامي في التعامل الاجتماعي والاقتصادي كأفضل طريق للنهضة العالمية ، وأصبح المنضوون للصحوة أعلى صوتاً وأكثر نشاطاً من أي وقت مضى في القرنين الأخيرين .
... ونحن نرجو من العناصر المؤمنة أن لا تستعجل التغيير ولا تلجأ في سبيل تحقيقه إلى المواجهة العنيفة ، وأن تؤمن بسنن الله تبارك وتعالى في التغيير ، وأن تعتمد على الإيجابيات والصبر والمرونة .
... ولا ريب أن هزيمة 1967 م قد أقنعت الشباب المسلم بأن الطريق الجديد يتمثل في العودة إلى المنابع ، والتماس منهج الله تبارك وتعالى بعد أن سقطت المناهج الوافدة وانهارت وعجزت عن العطاء ، فقد جربت الليبرالية والاشتراكية وغيرها وتبين لها أنها لم تستطع أن تحقق أشواق النفس المسلمة .
... وقد تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الداعين إلى البديل الإسلامي هم قوة اجتماعية أصيلة من رحم هذه الأمة كما وصفها الباحثون المنصفون ، وقد تأكد أن مؤسسة الدولة الحديثة ( كما يقول الدكتور إبراهيم سعد الدين ) في الوطن العربي قد ولدت مشوهة وما زالت منذ خلقت هذه المؤسسة بواسطة قوة أجنبية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ولم تخرج من رحم المجتمع المدني عن طريق ولادة طبيعية ، بل كانت ولادتها قيصرية وفي الغالب غير مكتملة النمو وهذا أصل المشكلة .(8/35)
... وفي استطاعة الإسلام طمأنة غير المسلمين على أن نظرية فصل الدين عن الدولة لا تحقق الأمن للمجتمع كما تحققه نظرية الإسلام دين ودولة خاصة فيما يتعلق بحقوق المواطنة المتساوية وحرية الاعتقاد .
* ... * ... *
... ولن نستطيع أن نمضي حتى نوضح الرأي في مقولة جديدة تقول بأن ( المؤامرة ) ضد الإسلام هي خدعة كما قيل أن ( التغريب ) خدعة أو أن الغزو الفكري خدعة أيضاً ، والواقع أن المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين حقيقة واقعة وقديمة جداً وقد اعترف بها مؤرخو الغرب وباحثوه وخاصة المنصفين منهم أمثال محمد أسد ( ليو بولد فالس ) وجارودي واتيان رينيه وسجريد هونكه .
... وقد ارتبطت المؤامرة بالنفوذ الأجنبي منذ الاحتلال وفي المراحل المختلفة وقد جاءت في ثوب نصائح ترمي إلى صرف المسلمين عن مناهجهم وعقيدتهم وقبول منهج الغرب المنتصر كوسيلة لتحقيق النصر ، وقد عاش العرب والمسلمون سنوات طويلة مخدوعين حتى جاءت نكسة 1967 م وأثبتت أن الذين نصحوا المسلمين من كبار قادة فكرهم أمثال طه حسين ولطفي السيد وعلي عبد الرازق وغيرهم كانوا غاشين لهذه الأمة ، وتبين للمسلمين بعد ضياع القدس أن وجودهم الحقيقي قد زلزل وأنه لابد من العودة إلى الإسلام ، والإسلام وحده كمنطلق للنهضة وبناء المجتمع الإسلامي الجديد .(8/36)
... وليس صحيحاً أن ما يجري في بلاد المسلمين هو إفراز طبيعي للمجتمع ، وليكن هناك تداخلات خطيرة من النفوذ الأجنبي تحول بين المسلمين اليوم وبين تحقيق أهدافهم وبناء مجتمعهم وامتلاك إرادتهم وخاصة فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الاقتصاد الإسلامي بعيداً عن الربا ، ومن أهداف المؤامرة العمل على تفريغ الإسلام من مضمونه من خلال مناهج التربية والتعليم والثقافة لتحويله إلى دين لاهوتي قاصر على العلاقة بين الناس وبين الله تبارك وتعالى ، مع إلغاء مفهومه الأصيل وقوامه الحقيقي هو أنه منهج حياة ونظام مجتمع ، فلننتبه إلى كل هذا تماماً ولا تخدعنا الكتابات الباطلة والبراقة .
المذاهب الهدامة
1 - سقوط الحداثة الباطنية الرافضة .
2 - الإسلام في مواجهة المذاهب الهدامة .
الحداثة
سقوط ( الحداثة الباطنية الرافضة )
... لقد نشأت نظرية الحداثة الباطنية الرافضة ( يوسف الخال - أدونيس ) في جو مضطرب عاصف عاشه المجتمع الإسلامي في الوطن العربي من خلال استعلاء نظريات القومية والإقليمية والماركسية والعلمانية أعطى الفرصة لفلول القوى الماركسية واليسارية في السيطرة المؤقتة على الصحافة والمسرح والفن منذ عقد الستينات اللعين فكان لابد من ظهور دعوى عريضة يصطنع مفاهيم متعددة مطروحة على الساحة وربطها في حلقة واحدة وتقديم ممثل لها يحمل اللواء ، وهذا ما فعله أدونيس في تكوين نظريته الزائفة من خلاصة سموم الفكر البشري كله ، من الفكر الماركسي - إلى العلمانية الرافضة للدين - إلى القومية إلى هدم عامود الشعر ، إلى شجب تاريخ أهل السنة كاملاً ، إلى إحياء الوثنيات والأساطير وإحياء كل شخصية متآمرة على النحو الذي قدمه عبد الرحمن بدوي في كتابه ( شخصيات .... سواء في الجانب الاعتزالي أو الفلسفي أو التصوف الفلسفي ) .(8/37)
... ولقد اعتبر قاعدة نظريته هدم هذا الصرح الإسلامي الثابت الذي عجز عن هدمه أصحاب المؤامرات المتصلة على مدى التاريخ واعتبار هذا الاتجاه السني الصحيح هو مصدر التخلف والضعف وذلك إيماناً بإحياء كل المتآمرين والزنادقة والفساق وأصحاب الدعوات الهدامة من أمثال القرامطة والباطنية والزنج والمزدكية والبابكية وإبراز أعلامهم : ابن الراوندي والرازي والحلاج وابن سبعين ، وفي المقدمة الآن محيي الدين بن عربي وأبو حيان التوحيدي والبطل الجديد الذي أدخل إلى ساحة التصوف الفلسفي : النفري .
... هذه هي النظرية الهدامة التي طرحها أدونيس والتي تقوم على كراهية الثوابت ( ومنها الغيب والبعث والجزاء ) فقد وجدت القوى الهدامة أن تصدر عن قوس واحد فتجمع كل سموم النظريات المطروحة في كيان واحد تحت عنوان الثابت والمتحول ، وذلك في محاولة أخيرة لهدم هذه الصحوة الإسلامية أو النيل منها .
... ويقول أدونيس : ( كون البيئة الدينية تهيمن على مختلف وجوه الحياة والفكر في المجتمع العربي وعلى مختلف وجوه الإبداع الفني والشعري عندئذ قلت أنه لا يمكن للمجتمع العربي أن يحقق تقدماً حقيقياً وجذرياً وشاملاً إلا بفصل الدين عن الدولة وعن الثقافة وعن الفن وتأسيس مجتمع علماني مدني ) .
... والحقيقة أن أدونيس ليس هو الذي قال ولكن هذا ما قيل له وما رسمته له تلك القوى التي وضعته على رأس هذا المخطط والتي منحته من الجامعة اليسوعية في بيروت الدكتوراه وهيأت له ما لم يهيئ لعربي من قبل وهو أن يحاضر في الكوليج دي فرانس .
... إن أودنيس يرى أن فكر ابن رشد والرازي وابن الراوندي هو الذي يساعد كثيراً على تحقيق العقلانية العلمية ويقضي على مفهوم الإسلام الصحيح الذي يسميه ( الغيبية الدينية ) استهزاءً بالغيب وعالم الغيب الذي هو جزء لا يتجزأ من إيمان المسلم ، بينما يرى أن ابن خلدون لا يحقق هذا الهدف لأنه يصدر عن ( غيبية دينية ) على الرغم من عقلانيته الظاهرة .(8/38)
... وإذا أردنا أن نتعرف على ما وراء النصوص فإن الأمر جد يسير ، لقد رؤى أن الجو مناسب خلال تلك السنوات العجاف من أجل خدمة العلمانية وإسرائيل واستبقاء النفوذ الغربي ، أن توضع مناهج يغري بها شباب البلاد الإسلامية ، من وراء الأهواء والزخارف والرؤى إلى تكوين مثل هذا الشكل الفاسد من الدعوات الهدامة التي تخفي انحرافها الحقيقي وراء مظاهر تقتصر على الشعر والتفعيلة والحليل بينما هي تقصد رأساً إلى هدم اللغة العربية وما يتصل بها من مستوى بلاغي وبياني عربي مستمد من القرآن الكريم .
... وهذا هو سر الحملة على القديم ، وعلى التراث ، وعلى السلفية ، وعلى كل هذه الرموز التي لا تمثل في نفوس أصحابها إلا شيء واحد هو الإسلام .
... وإذا كانت هذه الحركة قد حققت إنجازاً باطلاً نما واتسع نطاقه فإنما جاء ذلك في إطار الجو الذي عاشته البلاد العربية في عقود الستينات والسبعينات مما لا يزال يفرز هؤلاء الذين يتجرأون على ذات الله تبارك وتعالى أمثال صلاح عبد الصبور والبياتي والسياب وأدونيس وما يغريهم به أمثال لويس عوض من إمارة الشعر ، ذلك نتاج العقود الثلاثة الماضية التي فتحت الطريق أمام هذه الكتابات التي لا تستحق أن توضع في سلة المهملات فهي حركة مضللة ساقطة لا يمكن أن تنمو إلا بقدر ما تصبح هشيما تذروه الرياح .
وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً ) إن محاولة إحياء التراث الباطني والوثني القديم برموزه من الزنادقة والملاحدة هي إحدى الدعوات التي تجددت في العقود الأربعة الماضية من أجل تزييف تاريخ الإسلام وتراث المسلمين وكان مؤتمر بلتيمور قد عقد من أجل إحياء هذه الرموز وتجديدها بدعوى أن هؤلاء الكائدين للإسلام من الزنادقة والباطنية ( الزنج والقرامطة وأصحاب كتاب رسائل إخوان الصفا وغيره ) هم دعاة حق وحرية .(8/39)
... وهكذا انطلقت كثير من أطروحات الجامعات في عدد من البلاد العربية ، وكان لابد أن تحشد لها حشد كبيراً على النحو الذي قاد فرع منه العابدي وأركون وغيرهم في المغرب ، وأدونيس وجماعته في المشرق لكل منهم ميدانه ، ولكن الهدف واحد والمقولة واحدة ، فإذا كانت دعوات الشعوبية والباطنية والأحزاب الإقليمية المغرقة في إحياء تراث غشروت وغيرها قد عجزت أن تظهر واضحة مريحة فقد ارتضت لنفسها أن تختفي وراء الشعر واللغة ، والرمزية والمجاز .
... وإذا ذهبنا ننظر في أمر الثابت والمتحول فأي عقل سليم يقبل هدم الثوابت التي أقامها الإسلام من عقيدة وفكر وأخلاق ونظام اجتماعي واقتصادي فيحيى المتحول الذي هو المرفوض من تراث المسلمين وما دخلت عليه زيوف الفساد الفلسفي اليوناني والفارسي سواء نظريات علم الأصنام الإغريقية أم الفكر الغنوصي الشرقي حتى يباح ما لا يباح وحتى يسقط التكليف وينفتح باب الشر والفساد والإباحة على آخره .
... لقد أدخل مفهوم الحداثة كل الحركات الثورية السياسية والاجتماعية التي حاولت تدمير النظام الإسلامي بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج ومروراً بالقرامطة والحركات الثورية المتطرفة الرافضة ويدخل في هذا المفهوم كل الحركات المتمثلة في الاعتزال والإلحاد والتصوف الفلسفي .
... وتمثل الحداثة على حد تعبير الدكتور هدارة : تدمير القداسة ومقاربة الخطيئة ، صور هذا أدونيس في قصيدته ( زنقة الخطيئة ) ناسفاً كل علاقة تربط بينه وبين التراث ممجداً الخطيئة أو الصاعقة التي تنتهك القداسة منكراً سلطة الدين ماحياً العقيدة والثواب ناظراً للألوهية بفكر باطني فضلاً عن عبارات جريئة في الحديث عن الحق تبارك وتعالى وتنكر للجنة والنار .
... وإذا كان أودنيس يمجد أبو نواس ( شاعر الخطيئة ) ويزدري بشوقي شاعر نهج البردة ، فإن هذا موقف مخرب ، لا يمكن أن يقبله إلا أولئك المغرورون الذين لا يعرفون شيئاً عن دينهم ووطنهم وتاريخهم .(8/40)
... ومعنى هذا كله أن أدونيس ومن ورائه من دعاة الكلية اليسوعية وغيرهم من أقزام التغريب والتبشير والاستشراق لن يغنوا عنه من الله شيئاً وسوف يسقط هذا الاتجاه تماماً لأنه بعيد كل البعد عن الأصالة والفطرة والدين والعلم جميعاً ، وأن أدونيس يجدف ضد التيار وسوف يسقط هذا الاتجاه آجلاً أو عاجلاً لأنه لا يحمل أي قيمة من قيم البقاء والاستمرار .
مواجهة المذاهب الهدامة
الإسلام في مواجهة المذاهب الهدامة(8/41)
ربيع الحق وخريف الباطل (1)
__________
(1) قال المؤلف - رحمه الله - : أكتب تحت هذا العنوان الذي اختارته ( المنهل ) في إطار عددها الخاص عن مواجهة المذاهب الهدامة والدعوة إلى الله تتمة رسالتها التي سبقتها بدراسة موسعة في العام الماضي عن الدعوة والدعاة الذي لم أسعد بالاشتراك في تحريره ولم أدع إليه. وكانت مجلة المنهل قد اختارت لي أول الأمر الكتابة عن إحدى الفرق الهدامة ولكنها عادت واختارت هذا العنوان والحقيقة أنني كنت قد كتبت منذ عشر سنوات رسالة مطولة عن ( الإسلام والمذاهب الهدامة ) تناولت فيها عدداً من الفرق القديمة التي سبقت الإسلام والتي أعادت يهود إحياءها من بعد والفرق التي تشكلت في إطار الفكر الباطني والوثني الذي اتسع نطاقه بعد ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية ، وقد كشف علماء المسلمين الأبرار هذه الهجمة ودحضوها وأبانوا زيفها وحرروا مفاهيم الإسلام منها ، واشترك في ذلك عدد كبير في مقدمتهم الإمام الشافعي والإمام بن حنبل ثم الإمامين الغزالي ابن تيمية على توالي العصور ، وهذه إرادة المسلمين القوية في ذلك الوقت قادرة على أن ترد الصاع صاعين والباع باعين مبينة عن اختلاف منهج القرآن الكريم الذي جاء به الإسلام عن منهج اليونان ( أرجانون الفكر الوثني ) أو علم الأصنام كما كان يعرف ، وبين علماؤنا الأبرار حتى من تناول منهج ذلك الموضوع مجدداً ( كالشيخ أبو الحسن الندوي والدكتور النشار ) أن منهج الإسلام كان متعارضاً تمام التعارض مع منهج اليونان بل مناقضاً له .(8/42)
... فقد قامت الحضارات الوثنية قبل الإسلام ( اليونانية والرومانية والفارسية والهندية والفرعونية ) على أساس الوثنية والتعدد وعلى أساس عبودية الإنسان في مجتمعات يقوم فيها السادة والأمراء في القمة ويبقى الجميع في السفح عبيداً ليس لهم حق الحياة وقد جاء مفكرو اليونان الأعلام الذين هم موضع التقدير بل والقداسة في بعض دوائر الثقافة والفكر والجامعات في بلاد الإسلام ( أفلاطون وأرسطو ) فأيدوا شرعة الرق وأيدوها وبرروها وأعلنوا أنه لا يمكن الاستغناء عنها ومضت المسيحية الغربية ( وهي غير المسيحية المنزلة ) شوطاً في هذا الطريق حتى جاء الإسلام الذي وضع قاعدة هدم هذا الرق وفق مشروع مرخلي كريم فلأول مرة في تاريخ البشرية كلها قامت حضارة على أساس تحرير الإنسان عقلاً من الوثنية وعبادة الصنم وتحرير الإنسان جسداً من العبودية والرق الذي كانت تقوم عليه الحضارات .
... ولا ريب أن ( خريف الباطل ) الذي عاشت فيه الأمم والحضارات كان خريفاً طويلاً امتد أكثر من ألف عام حتى جاء الإسلام ( بربيع الحق ) حين رفع الأصر عن البشرية كلها عبر القرآن الكريم ( من الظلمات إلى النور ) بالإسلام .(8/43)
... ولم تكن العبودية البشرية والرق الفكري والجسماني هما وحدهما علامة خريف الباطل بل كانت هناك ظاهرة أشد خطراً : تلك ظاهرة " الرهبانية " الخطيرة التي تردت فيها أوربا قروناً ، وقد اضطربت بين وثنية بلغت غايتها في القبح والكشف والإباحة وعبادة الأجساد والجري وراء الشهوات على النحو الذي عرفته الحضارتين اليونانية ( التي تقيم هذه التماثيل العارية في مختلف الميادين ) والرومانية ( التي تطلق الأسود على العبيد لتأكلها بينما تردد القهقهات والضحكات في المقاصير لهذه المناظر البشعة ) ثم حدث التحول الخطير إلى الرهبانية وسكنى القبور والمفاوز والإقامة في الشمس المحرقة أو الجوع الشديد أو الهيام في الأرض على غير هدى أو الإقامة في الأديرة مع ما وصفت به الأديرة في كتب الغرب ، ومما نقله السيد أبو الحسن الندوي من صور الفساد والدعارة خلال خريف مضلل امتد قروناً دمرت فيه الحياة البشرية تدميراً ولم تعد المدن العامرة غير أشباح غارقة في الظلام ، وظلت أوربا كذلك حتى جاء الإسلام وعبر المنهج العلمي التجريبي إلى الغرب من خلال الأندلس وجامعاتها وكتبها وعلمائها حتى انبعثت أوربا حياة جديدة خرجت بها من الظلمات إلى النور حقاً وبدأ ( ربيع ) كان من الممكن أن يكون ربيع الحق لولا أن أوربا أخذت علوم المسلمين ومناهجهم فصهرتها في دائرة فكرها العقدي الوثني ورفضت مفهوم الإسلام للتوحيد الخالص وإسلام الوجه لله .(8/44)
... وثمة صورة أخرى من صور دخولهم في ربيع الحق تتمثل في تلك الفرحة العامرة التي صاحبت ركب المسلمين في دخولهم مصر والشام وأفريقيا وغيرها من الوجوه مخلصين أهل هذه البلاد من الظلم الروماني الشديد القسوة ، بالنسبة لأقوام كانوا على دين الرومان ، ولكنهم سرعان ما أسلموا أنفسهم للفاتحين العرب المسلمين الذين حرروهم من الجور والظلم وتركوهم إلى عقيدتهم لم يطلبوا منهم الدخول في الإسلام ، وكان للمسلمين في هذا الأمر قصصاً وأعاجيب دفعت أهل البلاد إلى مؤازرة الإسلام على غير إيمان به ثقة بعدل المسلمين وسماحتهم ، حتى قالوا : إن الرومان لم يكونوا ليعيدوا إلينا الجزية حين انسحب المسلمون من أحد المواقع وهكذا أهل الربيع الحق على أرض أهل هذه المنطقة كلها من حدود فارس إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا بعد أن عاشت في عسف الرومان وظلمهم قرابة ألف سنة أخرجهم منها الإسلام وأعاد رؤوس الأديان إلى مكانهم وأمنهم على كنائسهم وبيعهم ولم يفرض عليهم شيئاً حتى دخل منهم من دخل في الإسلام راضياً مقتنعاً .
... وإذا ذهبنا نعدد صور اقتحام الفجر الصادق والربيع الحق إلى البشرية بالإسلام لإخراجها من خريف الباطل لما توقف القول ، فقد كان الإسلام حقاً وصدقاً : ذلك الضوء الكاشف والفجر الصادق والربيع الحق الموفق للإنسانية كلها .
... ذلك أن رسالة الإسلام التي انطلقت تحمل كلمة التوحيد الخالص على أيدي الأنبياء والرسل الكرام قد شابها على طول الطريق محاولات لتعويقها ولتحريفها ، وكان الفكر البشري لا يلبث أن يقتحمها بالوثنية والمطامع والشهوات حتى يعيدها الحق تبارك وتعالى مرة أخرى إلى الحق .(8/45)
... ولقد جاء إبراهيم عليه السلام للناس إماماً ، يحمل الحنيفية السمحاء ولكن سرعان ما انحرفت رسالتا موسى وعيسى عن طريقهما الحق واستعلت كل منهما بالعنصرية ، والتمست مفاهيمها من الوثنيات القديمة ونسى أهلوها حظاً مما ذكروا به وحرفت الكتب التي استحفظوا عليها حتى جاءت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - للبشرية جميعاً أولاً ومصححة لكل ما حرف ، وجاء القرآن خاتم الكتب السماوية ومهيمناً عليها وكشف القرآن ما حاوله الأحبار والرهبان من تحريف الوقائع ، وإنكار النبوة الخاتمة وإنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) ومزيفين رسالة عيسى عليه السلام الذي جاء لتخفيف قيود اليهود ومبشراً برسول من بعده اسمه أحمد ، فادعوا بأن المسيحية دين عالمي وأضافوا إليه من الوثنيات التي تعيش في البيئة الرومانية ما خرجوا به عن الدين المنزل وخاصة في المسائل الثلاث : الصلب والتثليث والخطيئة .
... وبذلك فقد جاء الإسلام ليظهره الله على الدين كله ، وليكشف هذه المحاولات التي انحرفت باليهودية إلى المادية الغالية وانحرفت بالمسيحية إلى الروحانية الغالية ليقدم للبشرية الطريق السوي الحق : صراط الله الذي لا إله إلا هو ( وأن هذا صرطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) وقد كان هذا هو قمة الخروج من خريف الباطل ، والوثنية ، والمادية ، والإباحية إلى ربيع الحق : النور ، والعدل ، والإخاء البشري .
الفن وأسلمة الفنون
( 1 ) تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة .
( 2 ) لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة .
الفن وأسلمة الفنون
تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة
هي قاعدة أساسية : نعم ولكن بشروط وضوابط(8/46)
... القاعدة الإسلامية الأصيلة هي تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة التي تحقق وجود الإنسان لا يرفض منها شيئاً ، ولكنه يصوغها في مفهوم مستقل متحرر عن طابعها عند الأمم الأخرى والفلسفات المختلفة ، فليس في الإسلام بسماحته وسعة آفاقه رفض لمعطيات الحياة ، ولكنه من الناحية الأخرى يضع ضوابط وحدوداً لخطوات التعامل وأساليب التناول .
... ومن هنا فليس الإسلام في حاجة كبيرة إلى محاولات من كتبوا ليقنعوا الناس بأن الإسلام يقر مفهوم الترويح عن طريق الفنون ووسائل إدخال البهجة على النفوس فذلك أمر مسلم به تسليماً كاملاً وحقيقياً في شريعة الإسلام ولكن وجه الاختلاف هو في الأسلوب الذي تقدم به هذه الفنون ووسائل أدائها ، وكيف يمكن أن تكون مؤازرة للفطرة لا مضادة لها ، وأن تكون متقبلة من وجهة نظر الدين أساساً .(8/47)
... إن هذه الصورة التي تقدم بها الفنون في عصرنا وفي مجتمعنا لا يمكن أن تتطابق مع الصورة التي يضرب بها المثل عن عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عهد الصحابة المكرمين ، وهي ليست تطوراً طبيعياً لفنون الإسلام التي كانت في مراحل تطورها حريصة على ألا تخرج عن جوهر الإسلام ولا تصادم حدوده وضوابطه ، ويرجع ذلك إلى أن النفوذ الأجنبي فرض أسلوبه وطابعه ونظامه كله وخاصة في مجال الفنون وما يتعلق بالعواطف والوجدانات من منطلق غربي عصري واضح هو منطلق الكشف عن الشهوات والإباحة والحرية المطلقة في الانطلاق نحو الأهواء وإعطاء الغرائز حريتها في الحركة دون أية حدود ، وقد نتج هذا من منطلق الفلسفة المادية والجنسية التي ألغت مفهوم الضوابط الأخلاقية والحدود المتصلة بالقيم وأطلقت الوحش في الإنسان ، حين ادعت نسبية الأخلاق وربطتها باختلاف المجتمعات والعصور ، ، في حين أن الأخلاق قيم ثوابت متصلة بالعقيدة والدين لا تخضع لقانون المتغيرات ، ومن منطلق مفهوم فرويد للجنس ودارون للحيوان ودور كايم للاجتماع تشكل هذا الفن الغربي الذي غزا بلادنا غزواً شديداً وسيطر على فنوننا الأصيلة السمحة ، فكان منه ذلك ( التخت ) الضخم الذي يتشكل من مائة عازف بعشرات الآلات الموسيقية وتلك الأغاني الراقصة المتمايلة ، وما تثير من الشهوات فكيف يمكن أن يكون هذا أمراً يدافع عنه أو يصور على أنه مما سمح به الإسلام من فنون .
... إننا نعرف من قراءتنا في تاريخ الفنون في الغرب وتاريخ الموسيقى بالذات أنه فن كنسي بدأ أول أمره مع نواميس كنائس الغرب ، وكان من معطيات إغراء الناس على العبادة وما كان شتراوس أو فاجنر أو بتهوفن إلا كنائسي الموسيقى أساساً ثم تحولوا قليلاً مع الاحتفاظ بذلك الطابع الصاخب الذي يهز النفوس .(8/48)
... ولقد نجد أن هناك خلافاً أساسياً وجذرياً بين الذات الإسلامية والذات الغربية في مواجهة هذه الفنون ، فالمسلمون يتناولون هذه الأمور في بساطة ويسر ، ويشكلونها في وجدان المؤمن وفي الحفاظ على العقيدة وفي حدود ما قرره الإسلام من حماية لوجود المسلم وعقله من الإغراق في كل ما يثير الشهوات ، بينما تتشكل كل الفنون في الغرب حتى الفنون المتصلة بالعبادة في جو الصخب والأضواء الصارخة والشموع المرتفعة والبخور والعطور والمبالغة الشديدة التي يراد بها كسب عواطف الناس ومشاعرهم .
... وهذا خلاف جذري في مفاهيم المسلم ووجدانه فهو يعاف الاستسلام لهذه الأجواء ويبعد عنها بفطرته البسيطة السليمة الحريصة على مخالفة الله تبارك وتعالى ، فلا شك أن إقرار المسلم لهذه الظاهرة الخطيرة المصاحبة لحفلات الموسيقى من صخب ومن إسراف ومن إثارة كل هذا لا يتفق مع مفهوم الإسلام للفن أو الموسيقى .
... ولعل أخطر ما يتصل بهذا ما يراد أن يفرض على المجتمع المسلم في هذا العصر ظاهرة الرقص التي تجري وسائل كثيرة ومحاولات متعددة لفرضه على الفتاة المسلمة سواء في المدرسة أو في البيت أو من خلال التلفزيون والإذاعة ، وتلك عملية خطيرة مرسومة يراد بها إزالة أسباب الثبات والإيمان من النفوس وزعزعته فإذا أضفنا إليها محاولات تدريب الفتيات على الرياضة نصف عاريات في حلقات الرياضة المدرسية والمقررة عرفنا إلى أي مدى ستصل بالفتاة المسلمة هذه المحاولة من أخطار.(8/49)
... إن الذين يريدون أن يفرضوا على الأمة الإسلامية قيماً ومقدرات وأخلاق غير قيمها مسرفون في التفاؤل بأنهم قادرون على تغريب الأمة ونقلها إلى أوضاع تتفق مع رغبات الذين يخططون لاحتواء المسلمين وصهرهم في بوتقة الحضارة المعاصرة ، وهي حضارة قامت على غير قاعدتي الربانية والأخلاق واستعلت بعلمها مغرورة تظن أنها قادرة على التصرف من غير توجيه الدين ، ولذلك فقد أطلقت كلمة ( وصاية ) على أحكام الدين وحدوده وضوابطه التي وضعها الحق تبارك وتعالى لحماية المجتمعات من الانهيار والفساد ، ونحن نؤمن بأن البشرية محتاجة أشد الحاجة إلى أن تسلم وجهها لله تبارك وتعالى ولا تستعلي عن رقابته ، أن الحضارة المعاصرة قد قصرت في هذا المجال وأطلقت لنفسها عنان الشهوات واللذات والمطامع تحت عنوان كاذب مضلل هو ( الحرية الفردية ) ولا ريب أن الحرية أمر معترف به ولكنها ككل قيمه من قيم المجتمعات والحضارة لها ضوابطها ووسائل حماية الفرد من اغتيال الآخرين لحريته ، ومن هنا فنحن نقف أمام دعاوى الانطلاق التي تتحصن بعبارة رديئة ممجوجة هي مقولة " الوصاية " التي يرددها أولئك الذين يتجاوزون الحدود التي وصفها الله تبارك وتعالى سواء فيما ينشر من قصص عالمية مسرفة في الفاحشة ، أو من كتب تفرض على الطلاب أو من أفلام ومسرحيات وعلى النحو الذي يشتكي منه الأباء ويردن فيه خطراً على أبنائهم وبناتهم من مسلسلات مسرفة في الإباحة ، فإذا كتب أو تكلم ناصح يدعو إلى تصحيح الوضاع كانت الإجابة في صلف وغباء ( لا نقبل وصايا من أحد ) والحقيقة أنها ليست وصاية ولكنها مشاركة وتوجيه وإشارة إلى حق الله علينا جميعاً في حماية مجتمعنا وأبنائنا وبناتنا من غائلة هذا الغزو الشديد الخطر الذي تهددنا من قبل ما يسمى دوله الفن غناء ورقصاً وموسيقى ومسرحيات نحن نعرف المخططات التي تقودها والغايات التي تسوقها والأهداف التي ترمي وراءها إلى تفريغ هذه الأجيال الجديدة واحتوائها(8/50)
بحيث تهدم كل مقومات العزيمة والإيمان والثبات والاخشيشان والقدرة على إعداد النفس المسلمة لتكون قادرة على حماية وجودها فلا تنهار أما الأخطار المحاصرة للأمة الإسلامية اليوم والتي تتطلب منا شيئاً آخر غير ما نرى ونسمع ، إننا في حاجة إلى إعداد هذا الشباب المسلم ليكون ردءاً لهذه الأمة من كل مؤامرات الغزو ، فهذه الأمة تريد أن تعيش على طريق الله تبارك وتعالى وأن تتخلق بأخلاق الإيمان والتقوى ، وأن الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست وصاية من أحد ولكنها نصيحة الإخاء المفروضة على كل منا إزاء الآخر ، وإزاء المجتمع حتى لا يأخذنا الله تبارك وتعالى بعذاب من عنده ، عذاب الذين قصروا في النصح لأمتهم وإخوانهم .
... إن هناك فارقاً واسعاً وبونا شاسعاً بين مفهوم الترويح الإسلامي وبين هذا الصخب الهادر غير المنضبط ، فالإسلام يدعو إلى ضبط الغرائز لا إطلاقها ، وتبريد الشهوات لا تسخينها ، والتبسط في أمور الترويح والمتاع لا الإسراف وحماية الوجود الإنساني والكيان البشري من التصدع والانهيار .(8/51)
... إن المسلم يظل دائماً واعياً صاحياً لا يشغل عن حقيقة نفسه ولا عن عبادته وواجباته ونحن نقبل كل أدوات الحضارة وصناعاتها ولكن لسنا مكلفين بأن نقبل مضامين الغرب في أي شئ ، سواء في الفن أو القيم ، ولا يستطيع أحد أن يفرض علينا المضامين أو الكلمات أو الألحان التي يستعملها الغرب والتي لا تتفق مع مزاجنا وطابعنا ، نعم نحن لسنا ضد الفن ولكننا ضد الفحش ، والفن طاقة توظف للخير ، وقد توظف للشر ، وحسب الوظيفة والهدف يكون التحليل والتحريم ، ولذلك يجب التفرقة بين القيم في كل مجتمع عن الآخر ، ولسنا مطالبين بأن ننقل الأوضاع نقلاً ولكن لأننا أمة لها تاريخها وقيمها ودينها فإن لنا مفهوماً للموسيقى ولنا أيضاً رأي في كيفية تقديم هذا الفن ، فالإسلام حرم الأصوات المخنثة والألحان المائعة والكلمات المبتذلة وحرم ذلك الجو المشحون بالسموم والمخدرات الذي يغشى دائماً تلك الأحفال الشهيرة وعندما نقول ذلك فلسنا ندعو إلى وصاية أو هي محاكم التفتيش أو أن هذا منطلق للكآبة أو الظلامة أو غيرها ، بل نحن ندعو إلى انطلاق النفس إلى البشر والسماحة من منطلق داخلي عميق الأثر في إقامة الترويح .
... إن جو الفن في مصر في حاجة إلى عمل كبير لتحريره من ظروف خطيرة بدأت في السنوات الأخيرة تكشف عن نفسها وتصل بتجارة الجنس والمخدرات والسموم البيضاء ، وما كشف عنها هو القليل وما خفي كان أعظم ، وما يمكن أن تكون هذه الأوكار مصدراً للخير أو أسوة حسنة أو نموذجاً يقدم لأبنائنا وبناتنا ، كل ذلك في حاجة إلى إعادة نظر حتى يمكن إعداد المجتمع حقيقة لاستقبال عصر جديد من الإيمان بالله واليقين بقيمه وأخلاقياته الرفيعة حتى يكشف الله عنا الغمة ويزيل سحب الظلام التي تحيط بنا وعلينا أن نعلن عودتنا إلى ربنا ، إليك نعود إلى منهجك الأصيل فليس لها من دون الله كاشفة .
لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة(8/52)
... قال لينين : ( إن المسارح هي بديل الكنائس وقد تحول هذا المعنى عند المستعمر بأن حاولوا أن يجعلوا المسرح بديلاً للمسجد )
... لقد أصبح من الضروري - اليوم - أن نواجه هذه القضية مواجهة صريحة صادقة ، فنحن من خلال مفهوم الإسلام لا يمكن أن نتقبل مفهوم الغرب للفن والحضارة والجنس والمرأة والكشف وعلاقات الأسر وتبادل الزوجات وصديق العائلة وما إلى ذلك من مفاهيم أقام الغرب عليها مفهومه للفن والحضارة .
... فللمسلمين مفهوم واضح للعفة والعرض يستمدونه من مقررات العقيدة التي تجعل الأخلاق جزءاً منها وتقيمها على أساس الثوابت وتقرر بها مجتمعا يقوم أساساً على حماية وجوده الذاتي وتحفظ علاقاته العامة .
... ونحن نعلم أن هناك محاولات دائبة ومؤامرات واسعة لفتح الأبواب بالإغراء والخداع أمام أبنائنا وبناتنا للانخراط في سلك هذه المؤامرة الواسعة التي تتركز الآن حول الجماعة التي تحمل لواء المسرح والرقص والغناء والتي تعمل على إغراء الأجيال الجديدة على اقتحام أبواب الفساد والإباحة عن طريق الإعلانات المغرية والرحلات التي تعبر البحر إلى الشاطئ الآخر بهدف أن تسقط هذه العناصر الغضة من الفتيات والفتية بالإغراء ووسائل الشهرة في أيدي رجال الفن والمسرح بالعري والجرأة وبذاءة القول والاهتزاز حتى يكونوا نجوماً جدداً ، وكم تكشفت من قصص هؤلاء من مفارقات وتجاوزات وتفريط في كثير من القيم في سبيل النجاح والقبول .(8/53)
... ونحن نعرف أن من وراء هذه المؤامرة كلها قوى عاتية تعمل على هدم مقومات الخلق والدين والعرض في الأمم وكسب أكبر قدر من الشباب المفرغ الطاقة ، الطامح إلى مظاهر الحرية وبريق المادة وإغراء الشهرة من مجموعة الشباب الذي فشل في مجال الدراسة والعلم والكد الصحيح للحصول على الدرجة العلمية ، فإذا بهؤلاء يسبقون الأصلاء وتلمع أسمائهم ويحصلون على الشهرة والغنى والظهور فتنهدم بذلك المقاييس الصحيحة وترجح كفة أهل الهوى والأهواء حتى انقلبت الموازين فأصبح هذه المسرب أكثر عطاءً مادياً من ميادين العلم والجد .
... ولقد كانت هناك كلمات تقال خداعاً وتضليلاً وكذباً وبهتاناً ، وما تزال تتردد حتى صدقها الناس ، تلك هي كلمات الفن وقداسة الفن وكرامة الفن ، وما كانت هذه الألاعيب في الحقيقة فناً بمفهوم العلم الصحيح ، ولكن كل هذا الذي يجري لا يزيد عن أن يكون ( عملية إضحاك رخيصة تافهة ، تستخدم فيها كل وسائل العبث والانحلال مع العبارات الرديئة والحركات المخزية في سبيل إضحاك الناس على نحو ليست له ضوابط أو قيم أو أوضاع محددة ، وهي بذلك تتعارض مع أصول ( فن الترويح ) الحقيقي الذي يقوم أساساً على السماحة والبراءة والنقاء والذي يدخل السرور بحق على القلوب دون أن يفسد أية قيمة من قيم المجتمع ، أو يهدم أي ركن من أركان الأخلاق .(8/54)
... والذي نعرفه أن هذه الوسائل من الإضحاك قد بلغت حداً بالغ الإسفاف والسفه والإفساد من حيث عرض إيحاءات لا يقبل الرجل الشريف أن يسمعها أو يراها أهله أو بناته ونخشى منها على الخلق الصحيح ، وأن الكلمات التي تتردد والحوار الذي يقدم في هذه المسلسلات قد وصل إلى أدنى ما يمكن أن يتداوله الصعاليك والسفلة في بعض الحواري ، فإذا أضفنا إلى هذا ما عرف وكشف من سير هؤلاء الذين يقدمون هذا العبث وما يجري في حياتهم الخاصة وهو أمر معروف ومكشوف وجدنا أننا نضع أبناءنا وبناتنا في جو رديء تماماً ، ونجد أن وضع هؤلاء الراقصين والمغنيين والممثلين - كما تحاول الصحافة - في مكان النماذج العليا والمثل الرفيعة جناية كبرى .
... وأخطر من ذلك أن تبدو كلماتهم وإجاباتهم بمثابة الحكمة البالغة والمثل الذي يتردد مما يضعف أمامه بعض الشباب المفرغ من مفاهيم القيم الإسلامية ، وقليلي التجربة والعابثين والفاشلين ، فإذا عرفنا هذا كله عرفنا إلى أي حد بلغ مدى الخطر الذي يتهدد الأجيال الجديدة في هذه الأمة التي حذرها دينها من الوقوع في الشباك كالفراش المتهافت على النار .
... وأقل ما توحي به هذه الصورة أن هذا العبث في العلاقات بين الرجل والمرأة ، وهذا الأسلوب النازل في الحوار هو من الأمور المشروعة التي يمكن أن ترددها كل الألسنة ، فضلاً عن أن عملية الترويح والإضحاك الذي تقوم بها هذه القوى هي عملية إضحاك كاذبة وخادعة ومفتعلة ، لأنها أشبه بمخدر يستغرق فيه المرء ساعة أو بعض ساعة ثم لا يلبث أن يعود إلي واقعه .
... أما مفهوم الترويح الإسلامي وليس الترفيه - فإنه يستمد مقوماته من عملية قبول ورضى بالواقع واستشراف الفرج في المستقبل ، وأن الغمرات تأتي ثم ينجلين وأن الفرج بعد الشدة ، وتلك مفاهيم تدخل السرور والتفاؤل الحقيقي على النفوس .(8/55)
... والعجيب أن هذه الدائرة المظلمة تحاول أن تحاصر المجتمع كله فلا يقتصر على المسرح أو التلفاز وإنما يمتد إلى الصحافة والقصة والترجمة .
... ويقدم في هذا المجال ما يسمى بالروايات العالمية الحافلة بالسموم والمرتبطة بالجنس والجريمة في وقت واحد على نحو تحس معه أن هناك مؤامرة مبيتة حيث توصف الأعضاء التناسلية في جرأة بالغة - ويستعلن في مكر ما يدور في غرف النوم مما يسمى بأدب الفراش ، وليس هذا بغريب على الأمم الأوربية التي قد نجده في حواشي بعض الكتب المقدسة ولكنه غريب علينا نحن المسلمين ، وتتقزز له نفوسنا وقد سجل القرآن الكريم ظهور الفساد في الأرض ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس )
... وكيف أن هناك قادة لهذا التيار يدعون الناس إليه وهم موجودون في كل عصر ( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ) .
... إن هناك مفارقة واضحة بين طابع الأمم الغربية التي ورثت هذا التراث المشحون بالإثم والفاحشة والكشف وقصص الجنس والجريمة والاندفاع نحو اللذات والشهوات ، ليس في أساطير الإغريق المفزعة بل بما حفلت به الكتب المقدسة في سفرى أستير وحزفيال بما حوت من الحديث اللواط والإباحة في الأرض والفن وزنا المحرم على حد تعبير المبشر الإسلامي ديدات حين كشف ذلك في محاورته المشهورة.
... إننا نحن المسلمون لا نقر مفهوم الحضارة الغربية في الفن الإباحي الفاجر الماجن الذي يختلط فيه الرقص بالغناء بالخمر بالاختلاط الفاحش غير المهذب ، وحين نقول هذا بكل صراحة يختلف مع الغرب ومفاهيمه وقيمه التي يريدون أن يفرضوها علينا .
... فالحضارة لدينا لها مفهوم سمح كريم راق عفيف بعيد كل البعد عن الفسق والفاحشة ، قائم على الخلق والكرامة وحماية العرض ، إن مفهوم الترويح ، يجب أن يرتفع فوق الفسق والفجور والدعارة التي تفرضها هذه المؤسسات القائمة على استباحة الحرمات والمقدسات .(8/56)
... ولابد أن يكون واضحاً أمامنا أن الإسلام قد وضع حدوداً وضوابط وحجب صنائع وحرم على المسلم العمل بها أو قبولها في مجتمعه ووصف الذين يعملون فيها بأنهم يقبلون الدنية عن دينهم ، وأن بعضهم يمكن أن يوصف بأنه ( ديوس ) ويجب أن نبدأ ذلك من المدرسة ، فلا يفرض الرقص والغناء والتعري على طالبات المدارس وهن غير راغبات ولا توجه المسابقات المغرية لما يسمى الوجودية الجديدة لخطف الفتيات البريئات من الأسر الآمنة الغافلة لتسليمها للعتاة والظلمة الذين يفرضون على كل من تعمل أن تسلم جسدها ونفسها كاملة لسيدها وقديسها المدرب والمخرج .
... ولقد كشفت الأحداث ثغرة في جدار هذا المعقل المشيد :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهذا سر انزعاجهم وثرثرتهم حول ما يسمونه الفن والحضارة ، إنهم يريدون حماية هذا المورد بكل ما يملكون لأنهم يعلمون أنه المنطلق الوحيد لتحقيق آمالهم في هدم مقومات هذه الأمة وتدمير قيمها .
وأن هذا المجال الذي يسمي بالفن هو المرفأ الأول والخير لتحقيق غايات الماسونية وبروتوكولات صهيون وعمليات التغريب والغزو الثقافي والسيطرة على العقل المسلم والوجدان المسلم واحتوائهما وتفريغهما من الدين والإيمان واليقين والخلق وملئهما بالشكوك والإباحة والرجس والفسق ، هذا هو سر فزعهم الشديد وحملتهم الضارية وتكاتفهم في الدفاع عما سموه زوراً وبطلاناً ( قدسية الفن ) وهي قدسية الإباحة والفساد في الحقيقة .
... وهناك في مجال الصحافة من يحمي هذا التيار ويدافع عنه إيماناً بأن هذه الأمة لن تغرب إلا من هذا الطريق ، ولكن كل الدلائل تثبت أن هذا الصرح على وشك أن ينهار لأنه قام على الباطل ( أفمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ) .
2 - الاقتصاد الإسلامي
تحرير الاقتصاد الإسلامي
علينا أن نقدم صيغة جديدة
تحرراً اقتصادياً من التبعية للنظام الربوي العالمي(8/57)
... أعتقد أننا نحن المسلمون والعرب قد وصلنا اليوم في مجال الصحوة إلى مرحلة الرشد الفكري الذي يقتضينا أن نتحرر تماماً من التبعية لأي نظام غربي أو وافد من الأنظمة التي فرضت علينا أبان مرحلة الاستعمار ثم انقضت أيام الاستعمار وبقيت تلك النظم وقد وجد لها من يحميها ويدافع عنها سواء أكان ذلك في مجال التربية والتعليم أو في مجال الاقتصاد حتى ليبدوا أننا بعد هذه المراحل المتعددة من التطور الاجتماعي والسياسي ما زلنا عاجزين عن التحرر منها .
... أما النظام الربوي فقد استنزف ثرواتنا وجعلنا خاضعين للغرب في دائر مغلقة لا يستطيع معها أن نمتلك إرادتنا وما كان المسلمون أصحاب النظام الرباني المتميز عن أنظمة البشرية الرأسمالية والماركسية ليذلوا أو يخضعوا أو يكونوا تابعين لأنظمة تختلف مع قيمهم ومفاهيمهم فضلاً عن أنها عجزت عن تحقيق أي نجاح في بيئاتها حتى تعالت أصوات المصلحين تطالب بنظام اقتصادي جديد .
... ولقد تبين على وجه اليقين فساد الربا في الاقتصاد العالمي حتى ليقول لورد كيتس في ختام بحثه المستفيض عن الربا بعد استعراض شامل للتاريخ الاقتصادي العالمي الذي صنعته وأشرفت عليه اليهودية العالمية ما يأتي : " من الممكن أن تنسب جميع الآفات الاجتماعية إلى الربا وبقدر ما يزداد مجتمع ما تقدماً في المدنية والثقافة فإنه ينقص عنده نصاب الربا في عين المقدار والتناسب بحيث أنه في مجتمع مثالي سيكون المبلغ صفر في المائة " .
... وقد كشف البحث أن الإسلام ليس هو الدين الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا ، بل إن الشرائع السماوية كلها قد حرمت الربا وأن الدينين السابقين للإسلام ( وهما ما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام ) قد حرما الربا وأن ما نراه الآن من محاولات تبرير استعمال الربا في المجتمعات الغربية ليس حقيقته إلا خروجاً عن شرعة الدين الحق حيث تنافت عملية الربا وعرفت الأديرة الرهون والإقراض .(8/58)
... وفي ضوء هذا كله كانت مفاهيم الإسلام واضحة صريحة ( أحل الله البيع وحرم الربا ) ( ويمحق الله الربا ) وقد جاء تحريم الربا قاعدة أساسية صلبة في الإسلام ليس لها أي منطلق بالتفسير أو التأويل يستطيع أن يقول بغير التحريم ، ولا عبرة مطلقاً بما يقال من أن تحريم الربا يحول دون التصنيع أو ازدهار الاقتصاد فإن كل هذه الأمور يمكن أن تتم دون المساس بهذا الركن الأكبر .
... ويرى الدكتور عيسى عبده : أن الفساد استشرى في بلاد المسلمين عمداً وبحيلة مدبرة ، والموارد سحبت من بلادنا وأصبحنا ضعاف ومع دقات الساعة تصب الملاين من إتاوات في بنوك اليهود ومع مشرق كل شمس عشرات من الملاين المدخرات تخرج من بيوت المسلمين وتصب في إمبراطورية الربا التي هي بنوك اليهود .
... واليوم والمسلمون يعودون إلى حقائق دينهم ويلتمسون منهج الإسلام فإننا نطالب بصيغة إسلامية للتعامل مع المصارف ومع شهادات الاستثمار ومع إيداعات البريد وغيرها في ضوء قرار مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد في القاهرة ( 15 يونيو 1975م ) حيث أعلن القرار الآتي عن المعاملات الموضحة في إطار التشريع الإسلامي :
أولاً : الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين .
ثانياً : كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين .
ثالثاً : الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة والإقراض بالربا محرم وكذلك ولا يرتفع إثمه عن المقترض إلا إذا دعت الضرورة .
رابعاً : أعمال البنوك في الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التاجر والبنوك في الداخل ، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من باب الربا .(8/59)
خامساً : الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة .
سادساً : أما المعاملات المصرفية المتعلقة بالكمبيالات الخارجية فقد أجل النظر فيها إلى أن يتم بحثها .
كما أعلن المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي ما يلي :
1 - أن ما يسمى بالفائدة في اصطلح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً .
2 - يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولاً إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والإسلامية ، وإلى أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسباً خبيثاً وعليهم التخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة " أ.هـ
... وفي ضوء هذا كله وبالإشارة إلى القضايا المثارة اليوم حول الربا والفائدة ومعاملات المصارف وشهادات الاستثمار لابد من وضع نظام جديد مختلف متحرر من التبعية يجد فيه المسلم اطمئناناً وأماناً وأعتقد أنه يمكن أن يتم ذلك على النحو التالي :
أولاً : أن يكون هناك إعلان واضح وصريح بأن هذه الودائع تصرف في أعمال ومؤسسات ومشاريع بعيدة عن الحرام بكافة أنواعه وذلك للقضاء على شبهة الاستثمار في مصانع الخمور والبيرة ومصانع المايوهات وبناء القرى السياحية التي تمارس فيها الفاحشة أو الفنادق التي يدار فيها القمار .
ثانياً : أن تكون شهادات الاستثمار غير محددة الربح فإن التحديد المسبق هو بمثابة فائدة والفائدة محرمة .
ثالثاً : أن تكون نسبة الربح على المكسب الذي يتحقق من المصانع ولا يقوم الربح على نسبة من رأس المال كما يجري الآن فالنظام الإسلامي ينظر إلى الربح الحاصل بالفعل ويقسم بين المتعاقدين بالنسبة التي اتفقوا عليها .(8/60)
رابعاً : أن تحرر شهادات الاستثمار تماماً من حرمة الربا في جميع مظاهره وأن توجه أموالها إلى المضاربة وأن تطوع النظم السائدة في البنوك الربوية إلى النظام الإسلامي وبذلك يعود للمجتمع الإسلامي هويته المستقلة وذاتيته الخاصة ، وتغير النظام القائم في البنوك إلى النظام الإسلامي ، وبالجملة فإن علينا أن تقدم صيغة إسلامية تشفي صدور المسلمين وتدفعهم إلى تقديم مدخراتهم واثقين من إنها موجهة إلى الحلال بعيدة عن الربا الذي حرمه الله تعالى .
وأعتقد أن المسلمين اليوم قد تعمق وعيهم ولم تعد تنفع معهم المحاولات التي يوحي بها الخبراء الأجانب ولا ريب أن الالتجاء إلى منهج الله تبارك وتعالى هو شرف وريادة للمجتمع الإسلامي كله تقوم به مصر إنشاء الله بحكم صدارتها ودورها التاريخي الذي يجب ألا ينسى .(8/61)
الجزء الثامن
1 - المشروع الحضاري الإسلامي
2 - الإسلام والعصر
1 - المشروع الحضاري الإسلامي
المشروع الحضاري الإسلامي
ستكون الأمة الإسلامية قادرة على حماية وجودها
... إن الأحداث الأخيرة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي تتطلب ( إعادة النظر ) في مشروعها الحضاري كله وإقامته على نحو جديد يتميز بحشد القوى والطاقات في جميع الميادين مع قدر جديد من الوعي والحرص واليقظة إزاء المخاطر التي يمر بها المسلمون اليوم وهم يواجهون حملة خطيرة من الأحقاد والكراهية تتآزر فيها قوى الغرب الصهيونية والشيوعية والليبرالية جميعاً ، وخاصة بعد أن أعلنت الشيوعية أنها جزء من الحضارة الغربية الواحدة وانكشاف موقفها الذي خدعت به العرب والمسلمين طويلاً بدعوى مؤازرتهم ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي وخاصة موقفها من القضية الفلسطينية .(9/1)
... فاليوم نرى أن هذه القوى الثلاث وقد التقت جميعاً على الوقوف صفاً واحداً في حرب الإسلام والعرب بتأييد تلك الهجرة الكاسحة التي تمثل امتداداً للخطر الصهيوني الذي بدأ قبل أربعين عاماً تحت اسم الوطن العربي لليهود ، ثم إذا به يتنامى في غفلة من العرب والمسلمين ليكشف عن خطة مدمرة لإقامة دولة كبرى من النيل إلى الفرات تسيطر فيها الصهيونية على مقدرات البلاد الإسلامية وتخلف فيه الاستعمار الغربي نفسه ، وقد تبين اليوم أن المسلمين والعرب كانوا في غفلة مذهلة خلال هذه السنوات الطويلة عن ما يجري وراء الأسوار وفي دهاليز السياسة من عمل إسرائيل الدائب على امتلاك القوة النووية والسيطرة على صناعة الأسلحة والتوسع والإلحاح على السيطرة الكاملة على أرض العرب والإسلام ، بتأييد الغرب الرأسمالي وروسيا الشيوعية جميعاً على تحقيق هذا الهدف في ميثاق سري مكتوب قوامه هجرة يهودية واسعة من الاتحاد السوفيتي ، ودعم مالي ضخم من أمريكا لبناء مستعمرات في أرض الفلسطينيين مع إزاحتهم عنها مع مطامع التوسع اليهودي في سيناء وسوريا ولبنان والعراق والأردن ، وفي مطمح للوصول إلى المدينة المنورة تحت شعار قديم هو من النيل إلى الفرات .
... وفي نفس الوقت الذي تجري المباحثات خلال سنوات متصلة للإعداد لمؤتمر عالمي للحوار بين العرب واليهود والدول الكبرى كمقدمة للاعتراف بالوطن الفلسطيني في حدود مقررات مشروع التقسيم الذي أقره مجلس الأمة عام 1947م .
... وهكذا نجد أن الصورة التي بدأت عام 1917م بإصدار وعد بلفور كمقدمة للوطن القومي للوطن اليهودي ، لم يكن ذلك كله إلا واجهة خادعة لمؤامرة ضخمة تحمل وراءها كارثة ضخمة من أشد الكوارث التي واجهت الإسلام في تاريخه كله ، والتي لا تقل عن كارثة الحروب الصليبية التي احتشد لها المسلمون خلال قرنين كاملين من الزمان .(9/2)
... ومعنى هذا أن الغرب وإسرائيل قد خدعا العرب والمسلمين خداعاً شديداً حين عجزوا عن اكتناه الخطر المحدق والتخطيط الدقيق ومؤازرة القوتين العالميتين لها وقيامها على مبدأ خطير أشد الخطر هو تهجير الملايين من اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى أرض فلسطين وتدمير وجود أهلها العرب وإخراجهم منها على مراحل واستعمال كل وسائل الكذب والخداع والتضليل في فرض هذه الخطة من حيث الادعاء التاريخي وتزيف الوقائع ، وكسب الأنصار والموالين بالإغراء المادي وتشويه تفسيرات الكتب المقدسة وبث أفكار وتاريخ وأحاديث باطلة وزائفة ، وتكوين أجيال جديدة سواء من مسيحيي أمريكا والبلاد الأوربية أم من يهودي العالم على مجموعة من الأضاليل التي لا تثبت أمام الحقائق التاريخية ، ومن ثم فإن هذا الكيان الذي قام في فلسطين كان زائفاً منذ اليوم الأول ، أقيم على دعاوى باطلة ونصوص كاذبة وخداع طويل ، وأسلوب من العنف والإرهاب والتدمير لكل القوى القادرة على الوقوف في وجه هذا الباطل .
... وكل كيان قام على الباطل فإنه لن يلبث أن يسقط مهما جمعت له من وسائل الدعم الفكري والمادي فهو باطل في الأساس ولن يسكت أهل الحق على الضيم ، وسوف يكون للحق جولة ماحقة ولن يخدع الناس إن استعملت في سبيل إقامة هذا البناء وسائل وأساليب من التآمر والمكر والخداع ، فقد استغلت الصهيونية أسلحتها الفتاكة في السيطرة والاحتواء على كل من بيدهم الأمر ، وأخطر أسلحتها أسلحة الجنس والمال والبغاء وتدمير القيم والأخلاق حتى تصبح الناس أداة طيعة لغاياتها ومطامعها ، كما عملت على تزييف الموسوعات ودوائر المعارف لتقيم تاريخاً باطلاً وزائفاً .(9/3)
... فضلاً عن تلك القدرة على السيطرة على الإعلام العالمي وإحداث الوقيعة بين أصحاب الأديان وبين الطوائف ، فضلاً عن قدرتها نهب المواد التي مكنتها من صنع القنابل الذرية والتفوق على جيوش العرب في السلاح ، ولكن كل ذلك سوف لا يجدي في تدمير الباطل متى جاء وقته ، ولن يغني ذلك إسرائيل شيئاً عن المصير المحتوم .
... ولقد تنبه المسلمون والعرب اليوم إلى خطة المؤامرة ، وأنهم في سبيل تثبيت دعائم هذا النظام الباطل فلابد من هدم النظام الأصيل وإدخال الزيف والفتنة على الأمة الإسلامية حتى تسقط في حمأة التبعية وتزول أصالتها ونقنع بالفتات ونخلد إلى الترف والفساد والتحلل ، ومن هنا كان لابد أن تعمل الصهيونية على تدمير المجتمع الإسلامي من الداخل بإفساد قيمه وازدراء تاريخه وتحطيم أعرافه الأصيلة حتى ينصهر في بوتقة التحلل الكامل .
... هذا ما تحاوله اليوم بحشد كل القوى المدمرة ، إيماناً بأن إمبراطورية الربا لا يمكن أن تقوم إلا في محيط متكالب على الاستهلاك والزخرف والمعازف وبريق الحرام يحوطه من كل جانب في سبيل الحصول على متع الحياة من أي طريق .(9/4)
... ولقد استطاعت هذه القوى الوافدة والتي شكلها النفوذ الأجنبي في قلب الأمة الإسلامية من السيطرة على عالمين كبيرين خطيرين هما الفن والإثارة وعالم اللعب والكرة وكلاهما يشدان وجدان الجماهير ومسيطران عليه من خلال مسلسلات مسمومة وحوارات رخيصة وعري وإباحة وتجاوز كل قيم الخلق والدين ، وتلك هي أخطر الأزمات التي يواجهها المجتمع الإسلامي اليوم ، وهي التي تحول بينه وبين أن يهب ليرد عن عرضه وأرضه ، فقد كانوا يطمعون أن يجدوا الشباب قد استسلم لأهوائه فلا يستطيع الدفاع عن دينه وعرضه ، وأعتقد أن ذلك كله قد تبين للمسلمين والعرب اليوم ، قبل فوات الأوان ، ولا ريب أن سقوط أكبر مؤامرات الصهيونية اليوم وهي الماركسية والنظرية الشيوعية التي تحطمت تماماً بعد سبعين عاماً من محاولة تطبيقها وفرضها على العالم ، لتؤكد أن المؤامرة الصهيونية تتكشف يوماً بعد يوم ، وتفقد اندفاعها وتواجه على المدى هزائم جديدة ويبقى على المسلمين والعرب أن يأخذوا المبادرة في التجمع والاستعداد بالفهم الصحيح لدخائل المؤامرة .
... وإذا كان العرب والمسلمين قد خدعوا خلال الأربعين سنة الماضية وظنوا أن الطوفان لن يجتاحهم وأحسوا بالأمن الخادع وكانوا يسخرون ممن يذكرهم ويدعوهم إلى العمل ، فإنهم اليوم ومع هذه الهجرة الكاسحة التي زحفت فلولها فعلاً قد أيقنوا أن الخطر قد أصبح وشيكاً أن ينتزع ما تحت أيديهم وأقدامهم ، وأنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وأن الأمر لم يعد يتعلق بفلسطين والقدس وإنما أصبح يهدد الوجود العام للأمة الإسلامية ومنزل الوحي على نحو أشد خطورة من الحروب الصليبية وأشبه بإخراج المسلمين من الأندلس .(9/5)
... وليس أمام المسلمين والعرب إلا ملجأ واحد هو إيمانهم وأنفسهم واستشهادهم وصبرهم ومصابرتهم ومرابطتهم في وجه الخطر الزاحف المؤيد من القوتين الأمريكية والروسية ، هذا الخطر الذي يغطي على كل ما يجري الحديث عنه اليوم من مؤتمرات عالمية وليس أمام المسلمين إلا الانطلاق من نقطة الجهاد المقدس وأن تكون حماس هي المدخل الحقيقي وتكوين الجيش الإسلامي وفتح باب التطوع واسعاً ، ويا خيل الله اركبي ليهلك من هلك عن بينه ويحي من حي عن بينه .
... وعلى المسلمين والعرب أن يرتبوا أمرهم على أن يواجهوا الحملات والمنعطفات والآلام ومختلف مواقف التآمر والإزعاج من خلال مؤامرة لا تتوقف ولا تنتهي حيث يتجمع عليهم أحقاد البشرية جميعاً ، وما عليهم إلا أن يواجهوا ذلك كله بصدق الإيمان والصبر وحسن التصرف والثقة بنصر الله وليعلموا أنهم على الحق المبين وليصمدوا في التمسك بدينهم وعقيدتهم مهما تآمرت القوى أو واجهتهم المغريات ، وكل ذلك النعيم أمر زائل ، وليحتسبوا كل ما يلقون عند الله تبارك وتعالى ، وليثقوا بأن هذا النضال الشاق هو الإيمان ، فليصمدوا في مواقعهم وليعلموا أن منطلقهم الحق هو بيع الأنفس والأموال لله تبارك وتعالى وصدق الله العظيم ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) .
... نحن المسلمون أهل القرآن لن نخدع وإن كنا قد غفلنا فترة ما فقد استيقظنا ولن نترك حقوقنا ولن نسلم أرضنا وفي أعناقنا بيعة لاستعادة القبلة الأولى ومعنا وعد الله تبارك وتعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) .
الإسلام الهوية والانتماء
1 - إسلامية الهوية والانتماء .
2 - خطوة جديدة على طريق الأصالة .(9/6)
... إن الإسلام هو الانتماء والهوية والذاتية بمفهومه الجامع ، حيث تدخل فيه مختلف عناصر الوطنية والقومية حسبما أورده القرآن الكريم ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ومن حيث إن الإسلام هو دين للمسلم فهو ثقافة وحضارة لكل العناصر التي يتشكل منها المجتمع .
إسلامية الهوية والانتماء
... هما الركيزة الأساسية لبناء الأمة الإسلامية من جديد ، تقوم كل المؤتمرات والندوات والملتقيات التي عقدت في السنوات الأخيرة على تصور قاصر غير مكتمل انشطاري التوجه لا ترى في الإسلام إلا أنه دين لاهوتي عبادي بالمفهوم الغربي الذي تشكل في الفكر الغربي بعد عملية الخلاف بين الكنيسة وعلماء التجريب والفلسفة ومن هنا فإنه يظلم حقيقة الإسلام وسعة أفقه بوصفه : [ دين وحضارة ومنهج حياة ونظام مجتمع ] فإذا اعتمدنا التصور الإسلامي الجامع تكشف عن أن هناك تميز واختلاف وخصوصية لكل من الثقافتين الإسلامية والغربية لها أبعد الأثر في مفاهيم السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفن جميعاً .
( 1 ) وتأتي المصطلحات في مقدمة عوامل الخلاف فالمصطلحات المتداولة الآن في أفق الثقافة والفكر الإسلامي هي مصطلحات غربية نقلت أو ترجمت إلى اللغة العربية وحملت مفاهيمها الغربية ومن ذلك مصطلح : التنوير والأصولية والتقدم ، فضلاً عن الخلاف فيما بين المذاهب الكبرى : كالديمقراطية والماركسية وتباينها الواسع مع العدل الاجتماعي والشورى التي لها مفهوم مختلف في الإسلام .
((9/7)
2 ) كذلك فإن الفكر الغربي يقف موقفاً مختلفاً بالنسبة للتاريخ وبالنسبة للتراث ، ويرجع ذلك إلى تحولات الفكر البشري وصراعه مع مفاهيم الدين بصفة عامه وتحولاته نحو العودة إلى الفكر الهليني والروماني واعتبار مقولة ( روما سادة وما حولها عبيد ) مثل أعلى للحضارة والمجتمع الغربي المعاصر ( وهي ما يقوم الغرب بتطبيقها على عالم الإسلام بتحفظ كبير ) هذا فضلاً عن موقف الفكر الغربي من التراث القديم الوثني والمسيحي والعلماني .
... ومن هنا فإننا إذا قبلنا الانصهار في التراث الفكري الغربي نكون قد فقدنا ... شخصيتنا وذاتيتنا وقيمنا الربانية القرآنية التي تشكلنا من خلالها منذ أكثر من ... أربعة عشر قرناً ، وهي المفاهيم والقيم التي تختلف اختلافا عميقاً عن الفكر ... الغربي بطابعه الانشطاري والمادي والوثني كما نكون قد فقدنا مسئولية تبليغ ... الإسلام إلى العالمين .
( 3 ) ولقد كانت قضية الانتماء والطابع الذاتي والخصوصية والهوية قاعدة أساسية للأمم تدافع عنها كما تدافع عن وجودها نفسه وتحول دون انهيارها أو الانصهار في ذاتية أخرى ، ولقد كان المسلمون قادرون على مدى القرون على الدفاع عن ذاتيتهم لا يقبلون التضحية بها في سبيل تحقيق أي هدف من أهداف المطامع المادية مهما بلغت أهميتها ومطامحها فإن كل ما يؤثر على الهوية الثقافية للأمة يفضي إلى مجتمع مستعبد لا سبيل لامتلاك إرادته .(9/8)
(4 ) ولقد تبين من دراسات علماء الغرب أنفسهم للفكر الأوربي أن الغرب لم يقدم علماً أصيلاً وإنما قدم وجهة نظر له في حضارة مجتمعه فهذه النظريات والأيديولوجيات التي عاشها الغرب خلال هذه القرون الخمسة ليست إلا ردود أفعال على أوضاع واجهته ، بعد أن استوعب العلوم التجريبية الإسلامية وأقام مجتمعه بالخلاف مع الكنيسة والدين المسيحي الغربي ( وليس المنزل ) فكل ما ينتج عن ذلك - وما قدم إلينا نحن المسلمين من بعد - لم يكن إلا ردود أفعال وليس عملاً علمياً يمكن أن يصلح أو ينفع لغير أهله ، ولقد كان الغرب حريصاً على أن يحتوى الإسلام وأهله عن طريق حجب تراثه الحقيقي وتزييف فكره الموجود في أيدي المسلمين عن طريق عمليات التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي واستغلال طوائف من الفئات غير الإسلامية لقيادة هذا العمل على النحو الذي قامت به الفئات التي حملت لواء الصحافة والثقافة والمسرح والفن سواء من خلال الدعوة إلى القومية أو إلى الماركسية أو إلى الوجودية أو احتضان دعوات البهائية والقاديانية ، وكان للصهيونية الدور الأكبر في هذا العمل الخطير الذي أوجد هذه الصراعات التي لا تهدأ وإثارة الشبهات ( حول الإسلام والقرآن والرسول ) التي لا تتوقف .
( 5 ) لقد أثبتت الأيام هزيمة الدعوة إلى إخراج المسلمين من هويتهم الثقافية والاجتماعية باعتبارها جريمة كبرى أكدت التجربة فسادها وسقوطها ، إن الأصوات التي تعلو الآن بالدعوة إلى إسقاط الهوية هي أصوات ظالمة وأن هوية المسلمين هي الإسلام وأن انتماء المسلمين هو الإسلام بمفهومه الجامع المانع حيث تكون حلقات الوطنية جزء منه لا تنفصل .(9/9)
... وليس صحيحاً ما يدعيه الغرب من التمسك بأصالة الهوية وخصوصية الانتماء يحول دون تحقيق التقدم الحضاري وعلى مدى التاريخ ومن تجربة الغرب نفسه مع العلوم الإسلامية لم يحل ذلك دون امتلاك الذاتية الخاصة والدفاع عنها ، فقد أذاعت الكنيسة إذ ذاك تحذيرات هامة تحول بين مثقفيها وبين نقل عقائد المسلمين وقيمهم بل لقد قام أحد علمائهم بحرق غلاف كتاب لابن سينا علامة على التحفظ دون الإسلام .
( 6 ) ولقد حرص الغرب على تقديم نفسه بمفهوم الاستعلاء العرقي والعنصري وسيادة الدم الأبيض وغلبة العنصر ، ومن خلال حضارة مادية خالصة ليس فيها إي جانب روحي أو معنوي فعاشت حضارته عاجزة عن العطاء الحقيقي وعن تقديم أشواق الروح مع المفهوم المادي ، فانهارت كل الأيديولوجيات وسقطت وظهرت مراجعات تثبت عجزها عن أن تكون علوماً لها طابعها المجرد ، فنظريات ماركس ودارون وفرويد ودوركايم وسارتر لم تتوقف معارضات العلماء لها والكشف عن عجزها عن العطاء فضلاً عن قصور المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية عن تحقيق مجتمع الأمن والأمان في الغرب وكان موقفنا نحن المسلمون واضحاً فقد انهارت كل دعوات القومية والاشتراكية والليبرالية مع ما أعطيت من فرص واسعة لتحقق هدفها وهي لم تسقط منقولة إلى مختصرة ولكنها سقطت في مسقط رأسها نفسه ، ويجئ سقوط الشيوعية معلناً لسقوط الفكر الغربي جملة باعتبارها رد فعل للرأسمالية وليس مذهباً مستقلاً ، ويتحدث الباحثون عن قضيتين : قضية نهاية التاريخ ، وقضية صراع الحضارات .
( 7 ) وتتحدث كتابات مفكرين غربيين عن ضرورة العودة إلى المذهب الجامع بين الروح والمادة الذي يقدمه الدين الحق وذلك بعد تلك الجولة الطويلة العريضة التي حاول فيها الفكر العلماني والوثني والمادي إقامة منهجية صالحة لتنطلق فيها البشرية إلى آفاق الإنسانية .
...
لقد وقعت الحضارة الغربية في خطأين كبيرين :(9/10)
الأول : التخلي عن الخالق واستبداله بالطبيعة والإيمان بالمحسوس وتغليب الهوى باسم العقلانية ومحاولة فرض الحل العلماني الذي وضع في مواجهة الخلاف بين علماء الغرب والكنيسة ، محاولة فرض هذا الحل في مجتمع يقوم منذ أربعة عشر قرناً على الإسلام بمفهومه الجامع روحاً ومادة وقلباً وعقلاً دنيا وآخرة .
وحيث يقوم العلم التجريبي في قلب الإسلام واستمداداً من منهجه القرآني ( قل هاتوا برهانكم ) .
الثاني : إطلاق الغرائز واللذات والانحلال الخلقي تحت اسم الحرية الفردية على نحو حطم كل قوائم التماسك وهدم الأسرة وأعطى المرأة تلك الحرية المنطلقة التي انتهت إلى تمزق الجماعة وبروز أخطر أحداث العصر : انهيار القوة الاجتماعية ونضوب الأرحام وظهور ذلك الخطر الذي قد يعصف بالحضارة الغربية نفسها وهو انخفاض المواليد وهذان هما الخطران اللذان يعجلان بسقوط حضارة الغرب الآن في تقدير علماء الغرب المنصفين أنفسهم وهم يقدرون ذلك قياساً على سقوط الحضارات الرومانية .
* ... * ... *
وخلاصة القول :
... إن محاولة الغرب كلها منذ بدأت ( حرب الكلمة ) تلك الدعوة التي دعا إليها القديس لويس بعد هزيمة الغرب في الحروب الصليبية هي محاولة إخراج المسلمين من ذاتيتهم وهويتهم وانتمائهم الإسلامي الأصيل ، وذلك باحتوائهم في مفهوم عالمي الفكر الغربي الذي شكلته الفلسفة المادية بعد انهيار ارتباطها بالدين أساساً .
وما قامت حركات التبشير والاستشراق والتغريب إلا بهدف تحقيق هذا الغرض المسموم البعيد المدى ، وما كانت الدعوة إلى الإقليمية والقومية والماركسية والليبرالية إلا محاولة في هذا المنطلق .(9/11)
... ولقد عاش المسلمون حياتهم كلها وتاريخهم كله في مقاومة محاولة تغريبهم واحتوائهم أو اختراق مقوماتهم ودافعوا عن ذلك بأرواحهم وبكل ما يملكون ومنذ الحملة الفرنسية وخلال القرنين الأخيرين بالرغم من ضعف المسلمين فلم يستنيموا أبدا إزاء محاولات اقتلاعهم من جذورهم أو صهرهم في بوتقة الحضارة الغاربة من خلال الدعوى المضللة إلى عالمية الثقافة أو عالمية الحضارة والواقع بشهادة المنصفين الغربيين أنفسهم أنه لا يوجد في الثقافات الإنسانية والبشرية كلها مقولة أكثر تضليلاً من مقولة عالمية الثقافة أو عالمية الحضارة التي تعني شيئاً واحداً هو سيطرة الحضارة العالية على الأمم الضعيفة في محاولة للانصهار والتخلي عن الذاتية والانتماء والقيم والمقدرات ، وإذا كانت هناك أمم قد قبلت ذلك أو فرض عليها فإن المسلمين وهم يحملون هذا الميراث العظيم ( القرآن والسنة ) الممتد خلال أربعة عشر قرناً هم أقدر الناس على مقاومة هذه الدعوة المضللة وهذه المحاولة المنهارة .
مواجهة على طريق الأصالة
خطوة جديدة على طريق الأصالة
بعد سقوط مؤامرة تزييف مفاهيم الإسلام
... لماذا كانت مقررات الغرب في أمور الإسلام والمسلمين وتاريخهم ولغتهم غير علمية أو محايدة أو منصفة ؟
... ذلك لأن الغرب كان يريد أن يتخذ منها تبريراً لسيطرته وتأييداً لدعواه المدعاة بأن العالم الإسلامي موضع سيطرته ونفوذه لم يكن مؤهلاً لامتلاك إرادته وكان في حاجة إلى كفيل ووصي ، هو الغرب نفسه .(9/12)
... ولطالما صدق المسلمون هذه المقولة وخدعوا بأساليب الغرب في قلب الحقائق ، وفي طريقه القائمة على التمويه والتضليل . ولقد ثبت أخيراً بمراجعة كتابات المستشرقين والمبشرين أنها بالرغم من ادعائها بالموضوعية والمنهجية ، كانت مضللة وفاسدة وكانت قائمة على الهوى والحقد ، وكانت منطلقة أساساً من فروض تفرض ووجهات نظر تعد ، ثم يجري البحث عن نصوص تؤيدها أو كلمات ملتقطة من هنا أو هناك ترمي إلى الخداع والكذب في عرض الحوادث والوقائع .
... وكان واضحاً أن النفوذ الغربي الذي يريد أن يستبقي وجوده في عالم الإسلام يريد أن ينال من القيم الإسلامية الأساسية التي هي دعامة الوجود الاجتماعي القادرة على المواجهة والدفاع عن الأرض والعرض والعقيدة ومن هنا كان هذا النفوذ يستهدف عدة أمور أساسية للنيل منها وهي العقيدة واللغة والتاريخ والتراث .
... وقد جرت محاولته حول العقيدة إلى إفساد مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام وقدمت أبحاث عريضة تحاول أن تقول بأن كل الأديان والنحل تقوم على التوحيد ، وامتدت هذه الدعوى إلى مجتمعات الوثنيين والتعدديين وعبدة الشمس وتصور الحق تبارك وتعالى ، بصور متعددة تختلف اختلافاً عميقاً وواسعاً عن مفهوم الإسلام الصحيح ، مما يسمي بمهندس الكون الأعظم ، أو المطلق أو نظرية العقول العشرة أو غيرها من النظريات الباطلة الزائفة التي تختلف تماماً عن مفهوم التوحيد الخالص .
... وفي اللغة جرت المحاولات لإخضاعها لمناهج علوم اللغات الغربية ومقارنتها باللغة اللاتينية التي تفرعت عنها اللغات المعاصرة وإحياء العاميات والدعوة إلى كتابتها بالحروف الأجنبية كل ذلك في محاولة ظاهرة الفساد تخفي في أعماقها إعلان الحرب على القرآن ومحاولة فصل اللغة العربية عنه .(9/13)
... وفي مجال التاريخ جرت المحاولة لإطفاء نوره وإثارة الشبهات حول حقائقه الباهرة ، وتفسيره من خلال المناهج المادية وإبراز بعض الحقائق الضعيفة القليلة التي لا يخلو منها تاريخ أمة على مدى أربعة عشر قرنا والإغضاء الكامل عن جوانب القوة والحيوية والتمكين والقدرة على مقاومة أعداء الإسلام ورد كيدهم .
... وفي مجال التراث عمدت هذه القوى إلى إبراز الآثار التي كتبتها الفرق الضالة والمنحرفة وأصحاب الأهواء وإبراز الفكر الفلسفي والتصوف الفلسفي والفكر الباطني والوثني والمجوسي والإغضاء عن ذخائر التراث الإسلامي الأصيلة اللامعة .
... وكذلك وجهت الشبهات إلى الشريعة الإسلامية وإلى تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى معطيات الحضارة الإسلامية وإنشاء المنهج التجريبي الإسلامي ومنهج المعرفة ذى الجناحين وقاعدة الثوابت والمتغيرات وقانون قيام المجتمعات والحضارات وسقوطها .
... قام الغزو الفكري والتغريب بهذا العمل على جبهة واسعة مكن لهم فيها قدرتهم على امتلاك أدوات التعليم ودوائر الثقافة وغيرها في سبيل قمع طموح الأمة الإسلامية إلى امتلاك إرادتها ، ووضعها دائماً في خانة الدفاع عن الشبهات المثارة عليها من كل مكان وعصر ، دون توقف ، والتي دحضها في العصر الحديث قادة حركة اليقظة الإسلامية ، على نحو كشف عن ضلالهم وفساد وجهتهم .
... لقد كانوا يظنون أنهم حين يشككون في هذه القوائم الأساسية يستطيعون خلق تصور سلبي في نفوس المسلمين يجعلهم يتنكروا لدينهم وهم في غمرة الانبهار بالغرب وتاريخه والجوانب المثيرة التي يعرضونها من خلال أجهزة التسلية والترويح ، وقد تجاوز المسلمون اليوم مرحلة الانبهار والاحتواء وعبروا تلك الفجوة ولم تعد تخدعهم أكاذيب الاستشراق وأضاليل الغزو الفكري .(9/14)
... لقد تكشف للأجيال الجديدة من شباب المسلمين مدى الخداع والتضليل الذي قامت به قوى النفوذ الأجنبية باستغلال أساليب خادعة لتزييف التاريخ والعقيدة والتراث واللغة من أجل تثبيت دعائم وجودها في أرض المسلمين .
... ولم تتوقف هذه المحاولات عند هذا الحد بل إنها تجاوزت ذلك إلى غرس مفاهيم مضللة كدعاوى الانفجار السكاني وإحياء الفلكلور ، وتبرير الربا وتصوير الفجور بصورة الفن ومحاولة إخضاع الأصول الإسلامية للتأويل لتبرير الانحراف الخلقي والاجتماعي الذي تتدافع فيه الحضارة الغربية إلى مصيرها المحتوم الذي وصلت إليه حضارات الرومان والفرس والفراعنة حين سقطت وحين خرجت عن منهج الله ، على النحو الذي تحدث عنه المؤرخون وفي مقدمتهم جيبون عن الانهيار الخلقي والقيمي والتحلل والترف وما أدى إليه من سقوط الحضارات .
... ولقد داست الأقدام تلك الدعوات التي ادعاها رواد عمالقة وأساتذة أجيال وعمداء للأدب حين طالبوا المسلمين بأن يأخذوا الحضارة الغربية خيرها وشرها وما يحمد منها وما يعاب ، وكان من نتائج هذه الصيحة ذلك الانهيار الخطير الذي وصل إليه المسلمون في نكسة 1967م حين سقطت القدس وانهار المجتمع الإسلامي انهياراً شديداً كاد يودي به لولا أن أنطلق من قلب الدعوة الإسلامية صوت النذير بالعودة إلى المنابع والتماس الأصالة بحسبان أن هذه شهادة التاريخ على نتيجة التبعية لكلا الأيديولوجيتين الليبرالية خلال مائة عام .(9/15)
... وهكذا يعيد الإسلام أهله إلى الجادة كلما انحرفوا بعد أن يتركهم يستكملون التجربة حتى نهايتها ويواصلون المحاولة حتى تتكشف حقائقها ويعلم المسلمون أنهم خدعوا خدعة بلقاء تنتهي بها مرحلة الجزر الشديد الخطورة في اندفاعهم وراء ذلك الجيل الذي رباه كرومر ودنلوب وزويمر : كرومر الذي هاجم الشريعة الإسلامية ووصفها بأنها شريعة صحراوية ، ودنلوب الذي حرر مناهج التعليم من العقيدة والأخلاق وأمجاد التاريخ الإسلامي ، وزويمر الذي دعا المبشرين إلى إخراج المسلم من عقيدته دون إدخاله في المسيحية ، وجاء من ورائهم المغربون الكبار الذي نصحوا الأمة بالتبعية والسير وراء حضارة الغرب فهي وحدها التي تخرجهم من مأزق التخلف وهم الذين دعوها أن تولي وجهها شطر البحر الأبيض والغرب وأن يضعوا المساجد الثلاث ( مكة والمدينة وبيت المقدس ) وراء ظهورهم من أمثال لطفي السيد وطه حسين وسلامه موسى وعلى عبد الرازق وحسين فوزي وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وغيرهم من غلمان المبشرين .
... ولقد تكشفت نتيجة المؤامرة تماماً ولم يعد في الإمكان استمرار الخداع وتشكلت قاعدة عميقة الجذور توحي بالشك والحذر لكل ما يقدمه التغريب تحت اسم المنهجية أو الموضوعية فنحن المسلمون أصحاب منهج رباني أصيل جامع فيه القدرة على العطاء في أوقات الرخاء والشدة ، مرناً واسع الأفق قادر على مقابلة متغيرات العصور والبيئات ، وهو في نفس الوقت متفتح على كل الحضارات والثقافات والأمم ، لا نقبل إلا بالوسائل والأساليب وكل ما نأخذه فإنما هو مادة خاماً ندخلها في دائرة فكرنا لتخضع لمنهجنا الأصيل الجامع المتميز ولتنصهر في مجاله وفق وجهة الإسلام في العلم والحضارة والمجتمع من مفاهيم أساسية قوامها الربانية والأخلاقية والمسئولية الفردية والجزاء الأخروي .(9/16)
... فنحن نرفض أساساً ما يحاول النفوذ الغربي أن يفرضه من مفاهيم الإقليميات والقوميات والعنصريات وإعلاء الطائفيات وضرب الوحدة الإسلامية الجامعة ولنا في شأن الرابطة بين العروبة والإسلام مفهوم تختلف عن مفهوم القوميات الغربي الوافد .
... ولنا مفهوم خاص متميز في علوم النفس والأخلاق والاجتماع ، ولنا مفهوم متميز للفن والأدب وكذلك للتاريخ والتراث يستمد منطلقه من القيم الأساسية التي قدمها القرآن الكريم والسنة النبوية والتي تختلف في مواضع كثيرة مع القيم الغربية ومفاهيمها نتيجة لاختلاف مصادر العقائد والثقافات ومصدرها الأصيلة .
... وهذا الخلاف لا عيب فيه فلكل أمه منهجها ولكن الخطر هو في شئ واحد أن تفرض الأمم المتغلبة الآن بالسيطرة العسكرية والسياسية على الأمة الإسلامية مفاهيم من عقائدها وثقافاتها تختلف عن جذور العقيدة الإسلامية وثقافاتها التي تشكلت في أرض الأمة الإسلامية وانتشرت في الآفاق منذ أربعة عشر قرناً والتي شكلت وجدان المسلمين وعقلياتهم المعاصرة والتي أعطتهم مفاتيح الفهم والحركة والسعي في مجالات المجتمع والحضارة على الطريق الذي رسمه لهم القرآن من بناء المجتمع الرباني وتبليغ الإسلام إلى العالمين ، فهم إذا فقدوا هذا التميز الخاص وهذه الذاتية المفردة ، وهو ما يطمع فيه أعداؤهم فإنهم يكونوا قد حكموا على أنفسهم بالهلاك لأنهم لم يستحقوا ما كرمهم الله به من حمل أمانة الدعوة والتبليغ ( وان تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) .(9/17)
... لقد ارتدت الأسهم التي أطلقها دعاة التغريب وأتباعهم إلى صدورهم ، وما من مقولة ضالة إلا وجدت من أقلام كتاب اليقظة الإسلامية رداً مفحماً وكشفاً لزيفها وقد وقف المستشرقون وأتباعهم أمام هذا موقف الصمت والانسحاب ، فقد كانوا يوجهون مقولاتهم إلى أتباع لهم قاصري الثقافة ، ليس لهم قدرة على إعداد الردود المفحمة ، فضلاً عن ولائهم في دائرة الأماني التي كان يقدمها المستشرقون إلى أوليائهم يتولى المناصب القيادية في بلادهم بعد عودتهم .
... وفي خلال العقود الأربعة الأخيرة اتساع نطاق هذه الجولة ودخلها الماركسيون وأتباع الفكر الصهيوني فأصبحت القضية تشتمل تيارات الاستشراق الثلاثة ولكن قدرة علماء اليقظة كانت أعمق إيماناً وأصلب عوداً مما مكنها من هزيمة القوى المعادية في مختلف المجالات .
... ونحن الآن على مقدمة الطرق نطالب علماء المسلمين بالدخول في مرحلة بناء القواعد القادرة على إقامة المناهج البديلة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية المستمدة من القرآن الكريم وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتراث علماء المسلمين الذين تقدموا في هذا المجال ، كما أننا نطالب بتصحيح أخطاء دوائر المعارف الإسلامية الموجودة في أيدي الباحثين والجامعات ، وندعو إلى إقامة مقدمات للعلوم التجريبية والطبيعية والرياضية بما يكشف الدور الرائد والأساسي الذي قام به علماء المسلمين في هذه العلوم قبل أن يتلقفها الغرب وينسبها إلى نفسه ويتجاهل الرواد المسلمين .
التوجه الإسلامي في الغرب
التوجه الإسلامي في الغرب
( من محمد أسد إلى مراد هوفمان )
...(9/18)
... هؤلاء الذين هداهم الله تبارك وتعالى إلى الإسلام في الغرب كانوا عاملاً هاماً في الدعوة إلى الإسلام وكشف حقائقه وذلك في مواجهة الحملة الاستشراقية والتبشيرية التي تهدف أساساً إلى إثارة الشكوك في النفس الغربية حتى لا تتحرر من قيود تعقيدات الأديان القديمة وقبول الإسلام الذي هو أساساً دين الفطرة والقادر على اقتحام القلوب والعقول .
... ولقد كانت هذه المرحلة من أهم العوامل في بناء الثقة في نفوس الشباب المسلم الذي خدعته المناهج الدراسية الوافدة والمفاهيم العلمانية التي فرضها ( التغريب ) في محاولة لاحتواء المسلمين .
... ولقد كشف هؤلاء المهديين من أول محمد أسد إلى هوفمان ( السفير الألماني في المغرب الذي أسلم منذ سنوات قليلة وألف كتابيه الإسلام كبديل ، ويوميات ألماني مسلم ) اليوم ومن بينهم ايتان رينيه والمهدية جميلة وجاروري في خلال مرحلة تزيد على خمسين عاماً عن الحقائق التي أخفاها الاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب خداعاً وتضليلاً ، ولقد كان الإسلام - على مدى تاريخه كله - قادراً على اقتحام القلوب يجب على المسلمين أن يعارضوا القومية وأن يوحدوا كلمتهم ويضموا صفوفهم بصرف النظر عن القوميات وعن العناصر ، والإسلام لا يمكن أن يحيا بدون تجمع إسلامي والمجتمع الإسلامي لا يستطيع أن يبقى على قيد الحياة بدون قيادة منظمة .
... وجاء هوفمان ليقدم تجربته ومفاهيمه :
... " كان الإسلام أبان الصراع بين العالم الغربي والشيوعية يستطيع أن يعد نفسه الطريق الثالث المباين لهما أي أنه الخيار الحر المستقل عن كليهما لفهم العامل والتعامل معه عقائدياً ، أما اليوم فإن الإسلام يطرح نفسه بديلاً لكلا النظامين وذلك لتوفير الحياة على وجه أفضل وتذليل مشكلاتها المستفحلة خاصة بعد أن عاد العالم من جديد يصطرع كتلتين اثنتين .(9/19)
... ولا يخفي على المتأمل البعيد الرؤية أن يرى الزحف الإسلامي في القرن الحادي والعشرين مسيطراً ممكناً لانتشاره دينا لأغلبية البشر أن الإسلام لا يطرح نفسه بديلاً أيديولوجياً للمجتمعات الغربية ، بل إنه بالفعل هو البديل الوحيد "
... يقول هوفمان " لقد قابلت محمد أسد (1985م ) قبل وفاته بشهور قليلة ، ولقد تحققت نبوءته جزئياً حيث يأخذ النظامان في التداعي ولما يتم الاعتراف بالإسلام كبديل ، إن هناك الكثير جداً مما يجب عمله قبل أن تصبح الإنسانية مستفيدة لقبول تحقيق تقدم استراتيجي للإسلام نفسها فساداً كاملاً شاملاً .
... وكانت الدولة العلمانية القومية التي حطمت الدولة المسيحية ثم ألحقت الثورة الفرنسية بالكنيسة الرومانية في ضربة قاضية وتمخضت الفلسفات الحادثة التي دفعت إلى الثورة الفرنسية من ثورة صناعية ومن الثورة الصناعية نبعت الشيوعية .
... وقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة فأصبحت نظرة استغلال واندفاع دون تحفظ قوي استغلال الطبيعة إلى حد تدمير البيئة الطبيعية التي نستمد منها حياتنا ونعتمد عليها في معيشتنا .
... فنشأت أخطار جديدة ومن هنا اتجه العالم إلى تدمير الجنس البشري إذا بقيت الحياة على صفحة الحياة ، فقد كان تلوث الأرض نتيجة حتمية لتلوث الروح الذي كان نتيجة عاجلة للتصور المادي الملحد ودراسة العلم بدون الرجوع إلى الخالق فيجري استنفاذ المصادر واستنزافها على وجه الأرض لأن العلماء لا يشعرون بواجبهم ومسئولياتهم .
... الواجب أن نحرر أنفسنا ، ونحرر العلم من فلسفة المادية ومقاومة تأثيرها غير الإنساني ، وأن نوجد تصوراً موحداً للعلم في سبيل إيجاد علم إسلامي جديد بجهود أنفسنا وتفكيرنا الخالص ويجب التخلي عن التصور الخاطئ للتقدم المادي والرفاهية كهدف للحياة الإنسانية .(9/20)
... لقد ذابت شخصية الإنسان في بوتقة الحياة الآلية بحيث أن أفكاره وعواطفه ومشاعره قد صهرت فيها ، فلا يحمل في صدره قلباً إنسانياً ، ومن هنا يحق لكل مسلم أن يحارب للدفاع عن نفسه وعن أسرته وعن الوطن والملة وقوانينها ويزامل أزماتها فلا يفرض على الإنسان الحرمان من زينتها وهو يدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقاً في إصلاح ونظام ، ولقد سمي القرآن لذلك بالهدى لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة ولأنه الدال على حسن مقاصد الخير .
... إن العقيدة الإسلامية لا تقف عقبة في سبيل التفكير ، فقد يكون المرء صحيح الإسلام وفي الوقت نفسه حر الفكر ، وكما أن الإسلام قد صلح منذ نشأته لجميع الشعوب والأجناس ، فهو صالح لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات وللإسلام على النفوس طابع لا يحمي قال الكونت دي كاستري : " إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ليس فيه مرتدون "
أما السيدة مريم جميلة فهي تصور الإسلام في صورة مضيئة :
... لقد اتخذت العلمانية في أوربا من العلم الحديث أنفذ وأحد سلاح للغرب لغزو البلاد وقهر الأذهان ، وتسخير القلوب ، وقد استخدمت أوربا هذا السلاح على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ثم أبطلت بها سائر الأديان والمعتقدات بوصفها خرافات وأدوهاً فصارت المادية ديناً جديداً ينسخ سائر الأديان السابقة .
... ونالت نظريات هذا الدين الجديد قدسية بحيث إنها تقبل دون نقد أو إعمال رأي أو معالجة فكر ، كما كانت العقائد الدينية القديمة تقبل الماضي وتمكنت المادية من الاستيلاء الكامل والقول الفصل في كل أمور الحياة إلى أن فسدت الكنيسة الرومانية وأن نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الوحيد من أصحاب الديانات التي لم يعتمد في إبلاغ رسالته على المعجزات ( الحسية ) وليست عمدته الكبرى إلا إبلاغ التنزيل الحكيم .(9/21)
وأن القرآن الكريم دون الكتب المقدسة الأخرى هو الكتاب الوحيد الذي يأمر بالرفق والإحسان في الدين قال تعالى : " لا إكراه في الدين " .
... * إن الشخصية التي حملها محمد - صلى الله عليه وسلم - بين برديه كانت خارقة للغاية ، وكانت ذات تأثير عظيم جداً حتى أنها طبعت شريعته بطابع قوي جعل لها روح الإبداع وأعطاها صفة الشيء الجديد ، وتلك الأمم الإسلامية على اختلاف جنسياتها وبلدانها قد طبعها الإسلام بطابعه الواضح المحسوس ، بل إن آثاره لا تزال باقية في أهل أسبانيا ، وإن كانوا قد ارتدوا عنه منذ خمسة قرون ، ولقد حقق القرآن معجزة لا تستطيع أعظم المجامع العلمية أن تقوم بها ذلك أنه مكن للغة العربية في الأرض بحيث لو عاد أحد أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا لكان ميسوراً له أن يتفاهم تمام التفاهم مع المتعلمين من أهل اللغة العربية ، وهذا عكس ما يجده مثلاً ( رابليه ) من أهل القرن الخامس عشر الذي هو أقرب إلينا من عصر القرآن بل من الصعوبة مخاطبة العدد الأكبر من فرنسيي اليوم
... * لا يتمرد الإسلام على الطبيعة التي لا تغلب وإنما هو يساير ولكنه لا يعبدها ولا يحقرها ، إنه يراها مزرعة للآخرة وممراً ضرورياً في طريقنا إلى الوجود الأسمى
... والإنسان في الدنيا قيمه لأنها جزء إيجابي من تدبير الله تبارك وتعالى وتقديره العظيم ، علينا فقط أن نراها ( واسعة ) لبلوغ غاية وليس غاية في حد ذاتها ، لا نبالغ في تقدير قيمتها كما يفعل الرجل الأوربي الذي شعاره مملكتي في هذا العالم وحده ولا نحتقرها ولا ننبذها كلية ، ونترهب على نحو ما يفعل الناسك النصراني الذي شعاره ( مملكتي ليست هذا العالم ) .(9/22)
... فالإسلام يتخير طريقاً وسطاً بين هذا وذاك وبالجملة فإن الإسلام منهج حياة يتفق مع قوانين الطبيعة التي سنها الله تبارك وتعالى ، توفق بين الحياة المادية والأشواق الروحية توفيقاً تاماً ، والإنسان في ظل الإسلام يستطيع بلوغ الكمال في حدود قدرات البشر عن طريق الاستفادة من وجوه الإمكانات المتاحة له في الدنيا .
... ونصيحتي للمسلمين في الغرب : اعرفوا ما جاءت به تعاليم الإسلام ، وليس ما قال لكم المستشرقون عنه ، لأنهم دعاة الصليبية الحديثة وكونوا مسلمين على ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) وليس على التفسيرات الرومانتيكية أو الصوفية بالمفهوم الغربي " أ.هـ
* ... * ... *
أما ناصر الدين رينيه ( اتيان رينيه ) الرسام الفرنسي الشهير فيقول :
في شرح مفهومه للإسلام وتوجيه بني قومه : إن الإسلام عقيدة التوحيد الإلهية العليا وله تلك المبادئ السامية التي تقوم على تلك العقيدة في القرون الأولى ببساطة شديدة لأن المسلمين الأوائل في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى من الإسلام حيث انتشرت الآداب والفنون والعلوم لأنه كان هناك إبداع فريد ولا يتواجد الآن في المجتمعات الإسلامية ذلك لأن الطفل داخل هذه المجتمعات الآن ينشأ على أن يقلد وليس على أن يبدع وهذا هو الخطر .
ليس لدى المسلمين شئ يعتمدون عليه سوى القانون الإسلامي ، والآخرون لديهم قوانينهم والمسلمون كمجتمع ليس لديهم شيئاً يجعلهم مجتمعاً أو يعطيهم أفكاراً عامه سوى الدين الذي نص القرآن عليه والسنة ، لدينا الحق ينبعث من القرآن والسنة ، والشريعة التي هي دستور المسلمين في حياتهم والعامل الوحيد لقوة الإسلام في حياة المجتمع يجب أن يكون مفهوماً من كل الناس .(9/23)
" وأنصح الشباب المسلم بعدم تقليد المجتمع الغربي ، في نفس الوقت أنصحهم لا يدينوا كل شيء أنجبته الحضارة الغربية ، ذلك الإنجاز الذي هو حل لكل البشرية وخاصة الإنتاج العلمي الغربي فلا يوجد علم أو علوم غربية وعلوم إنسانية فالعلم هو العلم ، فالحضارات يتم بناؤها على أسس علمية مأخوذة من حضارات سابقة والحضارة الغربية مبنية على الحضارة الإغريقية والرومانية والإسلامية ، وقد انتقدت اتخاذ المسلمين العادات الغربية والمؤسسات الغربية ولكن هذا لا ينطبق على العلم .
... الإسلام لا يشارك المسيحية في رفض الحياة الدنيا التي تدل عليه الرهبانية ولكن يعلمنا ألا نعلق عليها أهمية مبالغاً فيها على نحو ما تفعل المدنية الغربية المعاصرة فالإسلام ينظر إلى الحياة بهدوء واحترام عن الحقائق الروحية ، وهنا يمكن للتبشير بالإسلام أن يجد قبولاً " ويصور محمد أسد فهمه للإسلام في وضوح شديد :
" إن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة وكل أجزائه قد صيغت ليتم بعضه بعضا ويشد بعضه بعضا فليس هناك شئ لا حاجة إليه وليس هناك نقص في شئ ، فنتج عن ذلك كل ائتلاف متزن مرصوص ، ولعل هذا الشعور من أن جميع ما أتى به الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت موضعها هو الذي كان أقوى الأثر في نفسي ، لقد هبط على الإسلام ليبقى إلى الأبد ومن ذلك الحين سعيت إلى أن أتعلم من الإسلام كل ما أقدر عليه .
... " ولقد تمكنت من المقارنة بين أكثر وجهات النظر الدينية والاجتماعية التي تسود العالم الإسلامي في أيامنا هذه ، وقد أكدت لي الدراسات والمقارنات العقيدة الراسخة بأن الإسلام من وجهته الروحية والاجتماعية لا يزال بالرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين : أعظم قوة نهاضة بالهمم قد عرفها البشر وهكذا تجمعت رغباتي كلها منذ ذلك الحين حول مسألة بعثه من جديد " .(9/24)
... " أما مشكلة المسلمين اليوم فإنهم تخلوا عن قدراتهم الإبداعية وأصبحوا مقلدين منذ قرون ، وليس اليوم فقط أو أمس ، أصبحوا يتسوقون الأفكار من أوربا تماماً كما يشترون من هناك الأشياء ويكتفون بإعادة وترديد الصيغ ، وفقدوا كل إبداعهم وهذا سبب رئيسي للمشاكل التي يواجهونها ، لقد تفرق الإسلام في كل المجالات .
وقال بوكاي : " إن ما قدمه القرآن للبشرية قبل ألف وأربعمائة سنة من العلم لم يكن يعرفه أي أحد في هذا الوقت ، ومعنى ذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء به من مصدر أعلى هو الله تبارك وتعالى " .
... وعندما يجيء مراد هوفمان ليقول للغرب : " إنه لا مخرج له من الأزمة التي يواجهها إلا بالإسلام ، وأن الإسلام هو الحل البديل لمشكلة البشرية في نهاية القرن العشرين " فإنما يربط نفسه مباشرة بالداعية الأول : ليوبولد فالس ( محمد أسد ) الذي كان أول من كشف زيف الحضارة الغربية ، ودعا المسلمين إلى حماية أنفسهم وذاتيتهم ووجودهم كله من أن ينصهر في بوتقة هذه الحضارة الغاربة وقد أسهم كتابه ( الإسلام في مفترق الطرق الصادر 1934م ) في أن يعيد للعالم الإسلامي الذي كان قد فقد ثقته بنفسه أمام غزو التفوق التكنولوجي الغربي - يعيد إليه كرامته وثقته بثقافته - فقد كتب منذ أكثر من خمسين عاماً ببعد نظر مدهش متنبأ بما يلي : ( النص من كتاب هوفمان يوميات ألماني مسلم ) :(9/25)
... " يبدو أن تنامي القلاقل الاجتماعية والاقتصادية وربما أيضاً حدوث سلسلة من الحروب العالمية ذات أبعاد لا قبل للمرء بمعرفة لدورها مسبقاً ، وما يخلقه العلم من ضروب للرعب سوف تدفع بالحضارة الغربية المادية المغرورة بشكل مروع إلى الإغراق في السخف على نحو يضطر شعوبها إلى أن تبحث من جديد في استكانة ودأب التي تشكلت على سموم الفكر الوثني اليوناني والروماني ، والذي لم تقدم له المسيحية واليهودية كديانات مرحلية أثبتت كتبها حقيقة ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - بوصفه النبي الخاتم كما ورد في التوراة والإنجيل الأصليين ، ومن ثم فقد استطاع الإسلام أن يهدي هذه القلوب إلى الفطرة فانقشعت زيوف السحابات السوداء التي تملأ أفق الفكر الغربي العلماني الوثني.
... والمعروف أن هدف الاستشراق الأساسي ( لم يكن إخراج المسلمين من دينهم ) بقدر ما كان هدفه حماية أهل الغرب من الدخول في الإسلام بتقديم الإسلام إليهم في حوالي 60 ألف كتاب ألفه المستشرقون في خلال نصف القرن الماضي في صورة مضطربة من ناحية ، وفي محاولة لتصور أن الإسلام والمسيحية سواء وأنه لا خلاف بينهما ( على النحو الذي سارت عليه قوافل الحوار المسيحي الإسلامي على مدى سنوات طويلة فإذا الإسلام بقدرته الفائقة والربانية ( بوصفه محفوظاً عن الاختلاف والتزييف ) يقتحم الوجدان الإنساني ويحقق هذا النصر المبين في إدخال هذا العدد الكبير من نوابغ الفلاسفة والمفكرين الغربيين فيه ليقدموا - لأهليهم أولاً قبل أن يقدموا للعالمين - حقائق الإسلام .
... وفي مجالات عطاء الحضارة الإسلامية والإعجاز العلمي للقرآن والإعجاز الطبي للقرآن جاء بوكاي ليكشف اضطراب الكتب القديمة ، وجاء جارودي ليكشف أن حقيقة النهضة الأوربية لم يكن مصدرها اليونان ولكنه الإسلام وجاء ( اليون ) ليكشف أن القرآن قدم معجزة خلق الإنسان في أطواره الثلاثة .
المصطلحات الوافدة
( 1 ) كشف زيف المصطلحات الوافدة .(9/26)
(2 ) مصطلح الدين بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي .
المصطلحات الوافدة
كشف زيف المصطلحات الوافدة
وانهيار دعاوى قرن التنوير الباطلة
... أخطر ما يواجه الصحوة الإسلامية اليوم تلك المحاولات التي يقوم بها التغريب وأعداء الإسلام لتزييف الحقائق ، وطرح مصطلحات مضللة ، منقولة من محيط الفكر الغربي في محاولة لفرضها وإذاعتها وإعطاءها قوة السيطرة والجري على الألسنة والأقلام عن طريق ترديدها وتكرارها دون الكشف عن الفوارق الحقيقية بين ظروف استعمالها في الغرب وبين الأوضاع التي يراد فرضها عليها في محيط الإسلام .
... ذلك أن لكل أمة ظروفها وأوضاعها التي تفرض المصطلحات الخاصة بها والتي تستمد أساساً من جوهر فكرها وعقيدتها ، وقد تتشابه الأوضاع أو الظروف ولكن يبقى المصطلح المنقول عاجزاً عن تقديم التصور الصحيح ، فكل مصطلح يرتبط بالعصر والبيئة والعقيدة ، فإذا تحول منها إلى بيئة أو عصر أو عقيدة أخرى سقط وعجز عن الأداء .
... ونحن نعيش في غابة من المصطلحات المنقولة والوافدة سواء فيما يتعلق بالسياسة ( الديمقراطية والليبرالية والماركسية ) أو بالأدب ( الرومانتيكية والكلاسيكية ) أو الفن ( السريالية والوجودية ) إلخ ، ولكن هناك الآن ما هو أخطر من ذلك ، وهو نقل تصور عن مجموعة معينة في أمة معينة لتوصف به ظاهرة عامة .(9/27)
... ومن هذا وصف المرحلة التي عاصرت النفوذ الأجنبي أيام الاحتلال بالتنوير وظهور كتاب يحملون طوابع الليبرالية والديمقراطية الغربية ، ويدعون المسلمين والعرب إلى قبول حضارة الغرب وفلسفته المادية ونظامه السياسي والدفاع عن اللغة الإنجليزية والفرنسية ، ومذاهب الأدب والقانون الوضعي والفلسفات المادية وإعلاء شأن مفكري الغرب وابتداء النهضة من الحملة الفرنسية وتجاهل أربعة عشر قرناً من عطاء الإسلام ، وتصوير أعلام الإسلام في الفكر بصورة العنصر والعرق ، فهذا فارسي وهذا تركي وهذا عربي متجاهلين حقيقة الصورة الفكرية التي صنعها الإسلام في عقول هؤلاء وفي قلوبهم بعد أن صاغهم الإسلام في بوتقة القرآن والسنة المطهرة.
... هذه المرحلة توصف اليوم بأنها ( عصر التنوير ) وهي محاولة لإعلاء شأن هذا العصر بإعطائه مصطلحاً استعمل في الغرب عن فترة خروج الفكر الغربي الأوربي المسيحي من مفهومه المرتبط بالدين إلى مفهوم الإلحاد والعودة إلى وثنية اليونان وإعلاء شأن الفلسفة المادية التي حمل لواءها اليهود في سبيل الإعداد للثورة الفرنسية وإخراج أوربا كلها من التصور المسيحي الجامع لها إلى تصور يقوم على العنصر والدم والعرق من ناحية وعلى إنكار وجود الله تبارك وتعالى والسخرية من الأديان والكتب المقدسة وإعلاء شأن المحسوس والعقل وإنكار ما سوى ذلك من حقائق الغيب والاستهانة بالدين والرابطة بين الإنسان وربه في محاولة لسوق البشرية كلها إلى مفاهيم الماسونية .
... والواقع أن قرن الاستنارة ( الغربي ) كان خروجاً من الدين جملة ، وكذلك كان قرن الاستنارة في البلاد العربية هو قرن المؤامرة التي رسمت لتحويل المسلمين من عقيدتهم الصحيحة ومفهومهم الأصيل تماماً كما كان قرن التنوير في الغرب الذي فتح الباب لفكرة الإلحاد واحتقار الأديان وإنكار وجود الله تبارك وتعالى .(9/28)
... وفي قرن التنوير العربي : كان طه حسين يريد أن يقول ان القرآن كتاب أدبي ويحرض تلاميذه على نقده ويراه كتاباً بشرياً على النحو الذي رأى فيه فلاسفة التنوير الغربيين ( أصحاب الموسوعة ) التوراة ، وكان طه حسين يريد إن يقول أن منهج الإسلام انتهى مع عمر بن الخطاب ولم يعد ذلك موجوداً ، وإنما هم جماعة من الساسة المحترفين ، وكان يريد أن يقول إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض وكان هناك عبد الرازق ، وكان هناك أيضاً إسماعيل مظهر وسلامة موسى يدعوان إلى نظرية دارون وأن الإنسان والقرد من أصل واحد ، وكان هناك من يدعو إلى نظرية فرويد ونظرية ماركس ونظرية دور كايم وكلها تتشابك لتعارض الدين جملة والإسلام بالذات ، ولكن أهل الأصالة الحقيقية هم الذين دافعوا عن الإسلام ووقفوا في وجه سموم الاستشراق التي قدمها على عبد الرازق وطه حسين وسلامة موسى .(9/29)
... هؤلاء هم المنورون الذين حملوا لواء التغريب منذ مائة سنة وهم الذين فرضهم الغرب وأعلى أسمائهم وأحدث لهم دوياً وسلطاناً ، وهم الذين فرضوا مفاهيم الغرب ولكنهم ليسوا هم الذين وجهونا إلى الفهم الصحيح للإسلام ، وقدموا لنا المثل والقدوة والمفهوم الأصيل ، والذين حافظوا على أصالتنا وحمو ا ظهورنا وكشفوا لنا زيف المزيفين وتأمر المتآمرين ، إنهم مصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومحمد محمد حسين وعبد العزيز جاويش وأمين الرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وعشرات لا يذكرهم أحد ولا يتحدث عنهم أحد ، وقد امتد نسلهم في حملة لواء حركة اليقظة الإسلامية اليوم المنبثين في كل مكان في الجزائر والأردن وباكستان والسودان ومصر من أمثال حسن الترابي ومالك بن بني وعبد الحميد بن باديس وأبو الحسن الندوي وأبو الأعلى المودودي فمن يصفهم أهل التنوير بالجمود والتعصب والظلامية ، وقد أزعجهم أن عادت الأمة إلى أصولها ومنابعها واستمسكت بكتاب ربها فأوغلوا في الإساءة والاتهام وتناثرت أحقادهم ولم يكن يعجبهم موضع ، ذلك أن هذه المرحلة التي عاشها التنوير ، إنما كانت فترة السقوط الذي فرضه النفوذ الأجنبي على منهج الله الذي أوقف لأول مرة منذ أربعة عشر قرناً حين انسحب من المدرسة والمحكمة والمصرف واستعلى قانون نابليون الوضعي وسيطر قانون الربا والعلمانية على التعليم والثقافة والمرأة ، ولم يكن عيباً أن يعيد المسلمون حساباتهم ويكتشفوا المؤامرة التي دبرت لهم فيعودوا إلى منهجهم الأصيل كرة أخرى ويلتمسوه بعد أن عجزت الأيديولوجيات عن العطاء وسقطت مع النكبة والنكسة والهزيمة .(9/30)
... وهاهي الأيام تزيد المسلمين ثقة في منهجهم ، ففي كل يوم تتساقط الأيديولوجيات ، وهاهي الشيوعية تنهار دفعة واحدة بعد أن استعلت أكثر من سبعين سنة ، ولكن لأنها قامت على غير أساس الفطرة والحق والمصدر الإلهي فقد عجزت عن الاستمرار ، ومن قبل واجه الفكر الإسلامي أزمات ومصاعب وما يزال غارقاً فيها ، وما تزال البشرية تتطلع إلى نور الله المستمد من القرآن الكريم ، وفي كل يوم يدخل الإسلام مثقفون غربيون جدد ، إن دعاة التنوير الآن هم الذين يحملون لواء الهجوم على الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والخلافة الإسلامية بحق يفوق حقد المستشرقين وغير المسلمين .
... ولقد تكشفت هذه الأسماء ولم تعد تخدع أحداً ، وقد مضى الوقت الذي كانت تلمع فيه وتثير الإعجاب دون أن تدرس دراسة حقيقية وينكشف دورها ، ولقد تبين أن تلك الأسماء التي لمعت لم تكن إلا قناطر للفكر الغربي في تبعية واضحة ، وعندما كتبوا عن الإسلام إنما كانوا يركبون الموجة التي كانت قد علت ولكن ما قدموه كان موضع مراجعة ، فإنه لم يصدر عن إيمان صحيح بأن الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع ، وكانوا يتحدثون عن مفاهيم الإسلام بالصورة التي يريدها الغرب في احتواء الإسلام ومحاصرته والسيطرة عليه حتى لا يستطيع أن يكون قادراً على العطاء الحقيقي ، والتي تختلف عن مفهوم الإسلام الصحيح الذي يخشاه الغرب ويحاربه فضلاً عن أنهم لم يلتزموا بأخلاق الإسلام ، ولا تزال هذه الظاهرة قائمة في الكتابات التي تقدمها الآن عن الإسلام بعض الأقلام في محاولة للسيطرة والقيادة ولطالما صدم المنورون الأفكار بالمفاهيم المضللة تحت اسم التجديد ، وأعلنوا معارضتهم للخطر الذي رسمه الرواد الحقيقيون وادعوا بأن الارتباط بالغرب هو مصدر التقدم ، وكانوا كاذبين وخادعين فقد كان هدفهم هو إقرار التبعية الكاملة والانفصال عن الخط الإسلامي الأصيل .
* ... * ... * ...(9/31)
... ولقد تحدث أنصار التنوير ودعاته عن أن روح التنوير هي العلمانية والعقل والإيمان بوحدة الثقافة العلمية ، وأن رائد التنوير الوحيد الذي فهمه على هذا النحو هو الدكتور طه حسين .
... ولا ريب أن هذا المفهوم للتنوير إنما يرمي إلى هدم كل قيم العقيدة الدينية الصحيحة ، ويخرج صاحبها من الاعتقاد بالألوهية والنبوة والغيب والبعث والجزاء .
... وقد أشار مراد وهبة في بعض أبحاثه أنه عرف بالدعوة إلى التنوير جميع الملاحدة من هيوم وآدم سميث وهوبز ولوك ويونيسكيو ( م ) وفولتير وديدرو وروسو ويجمع هؤلاء جميعاً على إنكار الدين والوحي والدعوة إلى الدين الطبيعي لا الدين الموحى به والإلحاد .
... وهؤلاء هم المدرسة التي تصدرت للتنوير في أوربا والتي كانت مقدمة للثورة الفرنسية التي غيرت وجهة الفكر الغربي من الديانة إلى الإلحاد والذي قامت عليه الفلسفة المادية المعاصرة ومنه انبعثت مفاهيم الشيوعية الماركسية التي سقطت أخيراً .
... وقد حمل لواء التنوير أولاً خريجو جامعة القديس يوسف والجامعة الأمريكية في بيروت واستانبول ومصر ، وكانت أول ثمارها أديب إسحق وسليم النقاش وبطرس البستاني وأصحاب المقطم والأهرام وشبلي شميل وفرح أنطون وصروف ونمر ومكاريوس وتكلا فقد كانوا تابعين لنفوذ الاستشراق الفرنسي والولاء الروماني ، وكانوا خصوم الخلافة الإسلامية الذين أعلنوا الحرب عليها لحساب الماسونية والصهيونية ، وقد حملوا لواء أفكار كرومر ودنلوب وزويمر خلال نصف قرن لإخراج المسلمين من مفاهيم الإسلام في التربية والتعليم والثقافة .(9/32)
... وكان أخطرهم جميعاً يعقوب صنوع وهم الذين فتحوا الباب واسعاً أمام علمانية سعد زغلول ودعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة لحساب الأميرة نازلي هانم فاضل وكانوا المقدمة الأولى لجيل الرواد ، ( طه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى ) في مجالات متعددة منها بشرية القرآن وانتحال الشعر الجاهلي والخلافة ، وما كان رفاعة الطهطاوي إلا مقدمة لطه حسين فقد استطاع الاستشراق الفرنسي احتوائه لخدمة أهداف التغريب كأول أزهري ، وعمل على فصل مصر عن الدولة العثمانية وعن العروبة كما فعل من بعده لطفي السيد وحسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق .
... وقد ظهر هؤلاء ولمعوا وفتحت لهم الصحف ( المارونية التي تصدر في مصر ) أبوابها بينما لم يجد أصحاب الأصالة القدرة على اقتحام الصدارة ولكنهم لم يتوقفوا عن العمل وجاهدوا ما استطاعوا شأنهم شأن خلفائهم اليوم الذين ما يزالون يواجهون أخطر التحديات من خلال الصحف الكبرى المفتحة الأبواب ، وهي الدعوة إلى تجنيد الفكر الإسلامي للتبعية للفكر الفرنسي المادي والملحد .
* ... * ... *(9/33)
... تلك هي الحقائق المؤكدة المؤيدة بالوثائق التاريخية عن ما يسمونه ( قرن التنوير ) الذي ظهر فيه طه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وغيرهم ، والذي لم يكن في حقيقته إلا ( قرن التبعية ) وامتداد لما رسمته مدارس الصحافة المارونية ( الأهرام - المقطم - الهلال ) من خلال صروف ونمر ومكاريوس وتقلا وجرجي زيدان على النحو الذي كشفت عنه الأبحاث سواء فيما يتصل بتاريخ الإسلام أم الحملة على الخلافة والدولة العثمانية أم روايات الهلال الزائفة ، أم كتابات أتباع الاستشراق والتبشير في محاولة إعلاء شأن الوطنيات الضيقة والقوميات لهدم الوحدة الإسلامية ، وقد جاء ذلك الجيل التابع ليحمل لواء هذه الدعوات كلها زائداً عليها تفسيرات نظرية دارون ونظرية ماركس ونظرية فرويد ونظرية دور كايم قد وصلوا بذلك كله إلى مفهوم الإسلام اللاهوتي القائم على العبادات وحدها ، غير أن حركة اليقظة الإسلامية لم تلبث أن حملت لواء الدفاع عن مفهوم الإسلام الصحيح بوصفه ديناً ومنهج حياة ونظام مجتمع ، ومن ثم فقد حطم كل ما حاولت هذه القوى صاحبة ( قرن التنوير ) بنائه واستطاع مفهوم الأصالة والعودة إلى المنابع أن يأخذ طريقه إلى إعلان الحقيقة والكشف عن زيف محاولة الاحتواء والتغريب واستعلن نداء الشريعة الإسلامية الذي أيدته كل قوى رجال القانون العالميين ، وأبرزت عظمته وعجبت من المسلمين الذين انصرفوا عن كنزهم إلى فتات موائد الغرب وهكذا تهدمت دعوات ( قرن التنوير ) واحدة بعد أخرى ووضح الحق وأضاء نور الإسلام بمفهومه الصحيح من جديد .
مصطلح ( الدين )
بين مفهوم الفكر الغربي والفكر الإسلامي
...
... لا تجد مسألة أتسع فيها نطاق الخلاف بين مفهوم الفكر الغربي ومفهوم الفكر الإسلامي كما اختلف في مصطلح ( الدين ) .(9/34)
... والتعريف الذي وضعه الفكر الغربي للدين يقوم على أنه ( عبادة ) ، ووصف رجل الدين في الفرنسية بأنه ( Religuieny ) ومعنى هذا الوصف أنه لا يصلح لفهم أمور المعاش بسبب انقطاعه عن صحبة الناس .
... كذلك فإن كلمة دين تطلق في الفكر الغربي على أنه مسألة وجدانية ونفسية وروحة محضة منفصلة تماماً عن عناصر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فإذا ما أطلق هذا المفهوم على ( الإسلام ) كان قاصراً عن مفهوم التصور الإسلامي لمصطلح الدين وهو مصطلح يجمع بين العلاقتين العلاقة مع الله تبارك وتعالى والعلاقة مع المجتمع .
... والدين في الإسلام يجمع العناصر الثلاثة ( العبادات والشرائع والأخلاق ) ويقوم على أساس التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله تبارك وتعالى ، وقد جاءت عقيدة التوحيد مع الدين منذ أول البشرية وامتدت في دعوات جميع الأنبياء والرسل .
... وقد كان التدين فطرة قائمة في أساس التبعية البشرية فلا يستطيع إنسان أن يعيش بغير دين ، كما لا تستطيع جماعة أن تعيش بغير عقيدة ، والدين في المجتمع الإنساني يمثل ضرورة لا غنى لها ، وقد جاءت الأديان لتوجيه الإنسان إلى الحق وإلى الخير ، وتكشف له الطريق متماسك من العبادات والمعاملات لحماية الفرد والمجتمع من الانحراف .
... وقوام الدين بصفة عامة : أن وراء هذا العالم المادي عالماً روحياً أرقى منه تنتهي إليه النفوس بعد الموت ، وأن لهذا الكون كله إله قادر حكيم يدبر أموره لحظة بلحظة .
... فالإسلام دين منزل هو خاتم رسالات السماء ، وقد جاء للبشرية كلها وللعالمين ، وهو ليس ديناً قاصراً على العبادات وحدها ولكنه نظام مجتمع ، فهو منهج حياة كامل للحياة الإنسانية والاجتماعية .(9/35)
وقد فتح الإسلام بمفهومه الجامع ومنهجه المتكامل آفاق النظر في الكون والسعي في الأرض والعمران والحضارة ومن آيات القرآن الكريم انطلق علماء المسلمين إلى إنشاء المنهج العلمي التجريبي ، وإقامة منهج المعرفة ذى الجناحين ( الروح والمادة ) .
... ولما كان الإسلام هو الذي فتح أمام المسلمين أبواب العلم والتجريب فإنه لم يقف ضد حرية البحث ، بل كان لها قائداً ودافعاً ، وقد أقام نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مرناً قادراً على العطاء في كل العصور ومع كل البيئات ، وقد أضاء هذا النظام العالم كله خلاف أكثر من ألف عام من حدود الصين إلى حدود نهر اللوار وأقام حضارة عظيمة واستطاعت أوربا في عصر النهضة أن تأخذ به وتقيم مجتمعها المعاصر .
... ومن هنا يقرر أن مفهوم الدين في الغرب يقوم على أساس مفاهيم الفكر الإغريقي والفكر الروماني والمسيحية الوافدة من الشرق ( وهي غير الدين المنزل على السيد المسيح ) ولما كانت أوربا قد وجدت المسيحية ( الغربية ) منهجاً لاهوتياً خالصاً فقد أقامت لنفسها منهجاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وضعياً ، قام بوضعه الفلاسفة والمفكرون ، وهو الذي أقام النظام الليبرالي المعاصر وعنه انشقت الاشتراكية والماركسية ، وحين قامت عوامل الخلاف بين الكنيسة والعلماء في الغرب كان ذلك عاملاً خطيراً في رسم صورة الدين الذي وضعت على أساس حصاره وتجاوزه فنشأت المذاهب والدعوات التي قامت على أساس إقامة دين وضعي ، أو الاستغناء عن الدين كلية تحت اسم أن البشرية قد بلغت الرشد ولم تعد في حاجة إلى وصاية السماء ، وقامت الدعوات التي تتهم الدين بأنه سبب التأخر والانحطاط ، وأن الوسيلة الوحيدة للارتفاع والتقدم هي الانسلاخ من الدين وإبعاده عن مجال الحياة وإلغاء سيطرته على أي مفهوم من مفاهيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ونشأت شبهة القول بأن الدين - بمفهوم الغرب - يتعارض مع النظر العقلي .(9/36)
... وإذا كان هذا كله جزء من معركة قامت في أوربا ، وتقررت فيها هذه المفاهيم فإن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة للإسلام الذي يمثل منهجاً مختلف تماماً بوصفه ديناً متكاملاً جامعاً بين العقل والقلب والروح والمادة والدنيا والآخرة .
... وقد نقلت هذه المعركة بكافة أبعادها إلى محيط الفكر الإسلامي ظلماً وعدواناً فالإسلام أساساً لا يفرض أي قيد على العلم التجريبي ، بل هو مصدره ومعينه ، كما أنه لا يقر مفهوم ( الدولة الثيوقراطية ) التي قامت في الغرب ولا يقر مفهوم ( رجل الدين ) بل يقر مفهوم عالم الدين الذي لا صلة له بالنظم والحكم ، ولم يعرف الإسلام هذا النظام الذي عرفه الغرب خلال تاريخه كله ، كذلك فإن الإسلام لا يعرف الصراع بين الإله والبشر الذي ورثه الغرب من حضارات اليونان ، ويقر مفهوم إسلام الوجه لله ويرفض التجسيم وفلسفات الفيض والعقول العشرة كما يرفض وحدة الوجود والحلول والاتحاد والتناسخ والزفانا ، كما يقف موقف الحماية للذات والكيان الخاص الذي شكله الإسلام خلال خمسة عشر قرناً فلا يقر مفهوم وحدة الحضارات أو وحدة الثقافات التي من شأنها أن تصهر الأمم الضعيفة أو المغلوبة في أتون الحضارة العالمية المعاصرة .
... ويعترف الإسلام للعقل بمكانته وأنه أساس التكليف ، ولكنه لا يقر مفهوم الغرب في تقديس العقل أو إفراد العقل بالنظر ، إذ تقوم المعرفة الإسلامية على التكامل بين العقل والروح من ناحية وبين الثوابت والمتغيرات من ناحية أخرى .(9/37)
... وفي الإسلام ( الله ) فوق الخلق فيها وحدة والإنسان مستخلف في الأرض تحت حكم الله ، والعقل له مكانته ولكن ليس وحده أداة المعرفة ، وليس هناك قداسة لشيء ، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك غير المعصوم - صلى الله عليه وسلم - كذلك لا يقر الإسلام نظرية تطور الدين فهي نظرية تتصل بالدين البشري ، أما الدين الإلهي المنزل فقد وضعه الحق تبارك وتعالى على أساس عريض وآفاق واسعة تستطيع أن تستوعب تقدم البشرية والقدرة على تقبل متغيراتها سواء من خلال تطور المجتمعات أو اختلاف العصور.
... ولذلك فلا يسود في مجال الإسلام أي مفهوم مختلط ، ولا يقر الإسلام مفهوم العلمانية أو الإلحاد أو الفلسفة المادية ، أو الوثنية وقد أقام الإسلام منهجاً كاملاً للميتافيزيقيا ( ما وراء المادة ) حتى لا يحتاج المسلم إلى البحث وراء ما لا يعرف وحتى تكون مهمته موجهة للعمران وإنشاء الحضارة .
... ويقر المسلم بأن وراء الطبيعة عالماً كاملاً هو عالم الغيب بكل ما يتصل به من البعث والنشور والجزاء الأخروي .
وقد أكد الإسلام إحياء ملة إبراهيم والاعتراف بجميع الأنبياء والرسل السابقين ، كما أكد أنه ديناً عالمياً للإنسانية جمعاء ، ولا يستمد الإسلام تسميته من جنس ( كاليهودية ) ولا نبي ( كالمسيحية ) ولكن اسمه يعبر عن وجوده وفكرته الأساسية فهو الإسلام الذي أنزله الله منذ خلق الإنسان ، وقد قرر الإسلام العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان بأنها علاقة مباشرة لا وساطة فيها ، وأن الإسلام لا يعني الخضوع أو الانقياد ولكنه يعني الإيمان الخالص .
... وعقيدة الإسلام ثابتة في القرآن الكريم والسنة المطهرة وأقر الإسلام حرية الاعتقاد وحرية الفكر وحرية التملك والتصرف وأقام مبدأ الشورى ورسم خطة التعامل بين المسلمين وغيرهم في السلم والحرب ، وهكذا يمثل الإسلام في مجموع مقاصده حركة اجتماعية واسعة هي في جماعها " دين الإسلام "
2 - الإسلام والعصر
((9/38)
1 ) ماذا يعني التيار الإسلامي المستنير .
( 2 ) سيحطم الإسلام قيوده ويقدم منهج إسعاد البشرية .
( 3 ) لقد خرج المسلمون من الطريق المسدود .
( 4 ) المسلمون يتطلعون إلى عصر التبليغ .
الإسلام والعصر
ماذا يعني التيار الإسلامي المستنير ؟
... يعني المحافظة على الثوابت الإسلامية مع تيسير قبول المتغيرات التي لا تتعارض مع الحدود والضوابط التي رسمها الإسلام الحنيف ولا تعني أي تفريط في أصول الإسلام وقيمه الأساسية من أجل القبول لدى دعاة العلمانية أو التغريب أو الذين يريدون التغرير بنا للقبول بوضع من شأنه التجاوز عن حقيقة الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع .
... فالتيار الإسلامي المستنير هو الأصالة القادرة على تقبل مفاهيم العصر دون الخروج على الضوابط ودون الجمود أو الانحراف ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، ومن هنا يجب توضيح مفهوم مقولة ( إن الإسلام قادر على أن يساير روح العصر ) ذلك أن منهج الإسلام الرباني قد قام أساساً على الاتساع والمرونة والقدرة على تقبل المتغيرات والتطورات التي هي من شأن اختلاف العصور والبيئات ، ولكن ليس هذا التقبل على إطلاقه ، ولكن إلى الحد الذي رسمته الثوابت دون تجاوز ، ومن هنا فإن الإسلام ليس مبرراً لتحولات العصور والبيئات نحو التحلل أو تجاوز الضوابط أو القبول بالحريات غير المنضبطة أو التخلي عن قيمه الأساسية وضوابطه الثابتة وخاصة في مجال العقائد والأخلاق .
... وعلى المجتمعات والحضارات أن تكون قادرة على تعديل مسارها لتلتقي مع أصول الإسلام وقيمه ، فليس الإسلام تحت أي اسم من أسماء التبرير أو التأويل بقادر على أن يتجاوز مفهومه الجامع القائم على الروح والمادة والعقل والقلب والرابط بين الدنيا والآخرة في نسق واحد .(9/39)
... فإذا تحدث المتحدثون عن العصرية أو عن الحداثة أو عن التقدم أو عن التجديد ، فإن كل ذلك لا يمكن فهمه على إطلاقه وهو في إطار الإسلام يجمع بين المادي والمعنوي فالتقدم - بمفهومه الصحيح وليس بمفهوم المصطلح الماركسي - في الإسلام جامع بين التقدم المادي والتقدم المعنوي والفن ، لابد أن ينطلق من القيم الأخلاقية أساساً دون أن يفقد صياغته العملية ولكن لا يمكن أبداً التضحية بالمعنوي في سبيل المادي ولا بالأخلاق في سبيل الصياغة .
... وفي ضوء هذا التصور للتيار الإسلامي المستنير تتحدد المواقف تماماً ، وقد فهم هذا بعض المثففين الغربيين الذين دخلوا الإسلام من أمثال عبد الكريم دي باسكي الذي يقول " إن النهضة الأوربية حين تسلمت زمام الحضارة من المسلمين قد اندفعت اندفاعاً واسعاً بعد بينها وبين النظام الأصيل حتى وصلت إلى الثورة ضد كل نظام إلهي ، ولم يكن من المتصور أن يكون الإسلام شريكاً لها في هذا الجرم " ، ويقول " إن الإسلام هو أساساً فكر وتذكير وهذا ما يتعارض تماماً مع الحداثة ذات الأصل الغربي التي هي بمثابة نسيان عنيد ومنهجي للحقيقة الإلهية التي تبقى دائماً هي الحقيقة الأخيرة"(9/40)
... نعم لقد أقامت الحضارة الغربية قاعدتها على الشيئية وتجاهلت الجانب المعنوي فأغرقت في المادية ، ومن هنا فإن تلك الصيحة التي يطلقها البعض بدعوة المسلمين إلى اعتناق روح العصر أو تطوير الإسلام ليقبل روح العصر بكل ما فيها من فساد وتمزق وانحلال واستعلاء ، هذه دعوة باطلة فالإسلام يدعو إلى روح الإسلام ويجعل العصر خاضعاً لها ، والإسلام قادر بمنهجه المرن الواسع على التجاوب مع كل القيم الإيجابية والصالحة والنافعة ، على خلاف الأيديولوجيات التي أعجزها متغيرات العصور والبيئات فانهارت واحتاجت إلى الإضافة والحذف ، بل إنها عجزت أخيراً عن العطاء كلية وسقطت بعد سبعين عاماً من الاستعلاء بالدعاوى الباطلة ، ذلك لأنها تجاوزت سنن الحضارات في قيامها وسنن الأمم في حركتها ، وكل من تجاوز القوانين الكبرى التي يتحرك عليها الكون لابد أن يسقط وأن ينهار .
... وهذا ما يدعونا دائماً إلى أن نفرق بين مفهوم الفكر الغربي ( بشطريه الليبرالي والماركسي ) وبين مفهوم الفكر الإسلامي ، وأخطر هذه المفاهيم مفهوم الدين ، حيث إن الدين في الفكر الغربي علاقة فردية بين الله تبارك وتعالى والإنسان وهو في الفكر الماركسي أفيون الشعوب ، أما في الفكر الإسلامي فهو الجمع بين العلاقتين مع الله تبارك وتعالى ومع المجتمع هذه العلاقة التي تقوم على أساس التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله ، ولما كان التدين فطرة قائمة على أساس الطبيعة البشرية فإن أي مجتمع لا يستطيع أن يعيش بغير دين ، فإذا تجاوز الدين الحق كان لابد أن يعبد آلهة أخرى كالطبيعة أو المادة أو الصراع الطبقي ، وهذه كلها آلهة خادعة مضللة لابد أن تنهار وقد انهارت الماركسية ولم يعد في الإمكان أن يقوم لها بديل إلا الدين الحق .(9/41)
... ومن هنا فإننا نطلب من أولئك الذين أظلهم الإسلام بنوره وأخرجهم من مفاهيم الفكر البشري أن يكملوا المسيرة وأن يبلغوا الغاية فيقبلوا بمفهوم الإسلام كاملاً وبمنهج الإسلام جامعاً وأن يلتمسوا الثوابت الأساسية فيقبلوا بها ، حتى يكونوا أقرب إلى منهج القرآن والسنة وأكثر ارتباطاً بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن يتجاوزوا عن بعض الآراء التي تكونت في فترة الغربة أو المناهج الجزئية كالفكر القومي أو الفكر المادي أو الفكر الوجودي ، وأن يكونوا على حذر من كل ما يدبره النفوذ الغربي من خلال الثقافة وما يرسمه من خطط لهدم مقومات الوحدة الإسلامية حتى لا تلتئم هذه الأمة على ترابط حقيقي على النحو الذي تترابط عليه الأمم الغربية وأن يعلموا أنهم يعملون على أن لا يلتقي المسلمون أبداً تحت لواء الوحدة الجامعة ، ومن هنا فقد أثاروا سموم الشبهات حول علاقات العرب بالترك والفرس وغيرهم في محاولة أن لا يلتئم الجرح ويظل ينزف وعليهم حتى يكونوا في إطار الحق أن يتمسكوا بمفهوم أهل السنة والجماعة .
... ولقد توالت محاولات إثارة عمليات تمزيق الوحدة الإسلامية بعد أن تم إسقاط الخلافة بالمؤامرة الكبرى بالدعوة إلى الوطنيات والإقليميات والقوميات ( المرتبطة بغير منهج الإسلام وتفريغ العروبة من أصولها الإسلامية ) أو ما يثار اليوم من حملة على الخلافة الإسلامية والوحدة الجامعة بصدور كتب قديمة مجددة لإعلاء مفهوم القومية الوافدة بعد أن انهارت وعجزت عن العطاء ، وكل هذه محاولات مستميتة لحجب مشاعر التجمع الإسلامي وتفريغ هذه الدعوات من المقومات الإسلامية وذلك بتوجيهها نحو الديمقراطية أو الاشتراكية إلى درجة أن أعليت روح القومية في بلاد ليس فيها غير العنصر الإسلامي كالباكستان والسودان وغيرهما .(9/42)
... وقد تطورت هذه الأفكار اليوم مرحلة أخرى بعد قيام إسرائيل ودخولها في مرحلة الإمبراطورية الكبرى من خلال ذلك الترابط بين النفوذ الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة وبين مطامع الصهيونية وقبول السوفيت تهجير يهود روسيا ، وتطورت الدعوة إلى ما يسمى إقامة كانتونات صغيرة من خلال العناصر والأعراق بإثارة الأحقاد بين الأديان والقوميات ، وقد تكشف أخيراً ذلك المخطط الذي أعده برجنسكي الذي يرسم خطة تقسيم المنطقة العربية إلى جماعات عرقية ودينية مختلفة ، ليقوم كانتونات دينية وعرقية وقومية مع استبعاد فكرة القومية التي سبق أن حمل لواءها الغرب لتفتيت الوحدة الإسلامية ، ومن الواضح أن هذه الخطة قد وضعت في نطاق التنفيذ بالمؤامرة التي تجري في لبنان وترتبط هذه الخطة بمحاولة إيقاع الخلاف بين الأكثرية المسلمة أيضاً من أجل قتل المسلمين بأيدي المسلمين ( على نحو ما حدث بين العراق وإيران ) وما حدث في لبنان أيضاً .
... كل هذه الخطط يجب أن تكون واضحة في تقدير المفكرين الإسلاميين ودعوة لهم إلى توحيد منهجهم والوقوف صفاً واحداً في وجه هذه المؤامرة الضخمة التي يجب أن تضعها الأمة الإسلامية في مقدمة أعمالها منذ اليوم قبل الغد بالدعوة إلى التعبئة العامة والدخول في مرحلة المقاومة والبذل وبيع الأنفس والأموال لاستخلاص أرض القبلة الأولى وحماية الوجود الإسلامي الذي يتعرض اليوم للخطر من النيل للفرات .
سيحطم الإسلام قيوده
ويقدم منهجاً لإسعاد البشرية(9/43)
... يحاول كثير من الكتاب عقد المقارنات بين نهضة بعض الدول سواء الأوربية أم الآسيوية ( في الأخير اليابان وغيرها ) وبين نهضة الأمة الإسلامية حيث تعروهم الدهشة لهذا العجز الواضح الذي يسيطر على حركة العرب والمسلمين وعدم قدرتهم على قطع خطوات واسعة في سبيل الوصول إلى مستوى تلك الدول التي كانت متخلفة في ميدان الحضارة والعلم والتي سبقت العرب والمسلمين اليوم وهم يقدمون في سبيل تعليل ذلك عوامل مختلفة ومبررات متعددة هي في حقيقة ذاتها ليست المصدر الأول لهذا التخلف .
... ولقد يبدوا هذا المصدر للتخلف مضبباً مجهلاً ، تحوطه حجب كثيفة وكأنما تخفي هذه القوى حقيقة الأمر'إذ أنها تعمل لبقائه دون أن تكشف عنه .
... فهل عجز العرب والمسلمين أصحاب الرسالة الخالدة والتاريخ الحافل عن أن يقوموا بمثل ما قامت به اليابان أو تايوان أو كوريا الجنوبية ، أنني أقطع بأن هناك مؤامرة مرسومة بين أطراف عدة قوامها الغرب والصهيونية والماركسية وكل القوى التي تكره الإسلام وتخشاه ، هذه المؤامرة مبيتة بليل ، وهي قائمة أبداً في كل حركات هذه القوى وهذه الدول لتحول بين الأمة الإسلامية وبين امتلاك قدرتها وإرادتها وإقامة مجتمعها والسيطرة على مقدراتها وثرواتها .
... وأن هذا المخططات الظاهرة التي تقوم بها السياسة العالمية ، والقوى المسيطرة على النظام العالمي والمحركة لآلياته وأدواته قد تعاقدت فيما بينها على محاصرة هذه الأمة ، ورسمت لذلك خططاً محكمة لاستبقائها في دائرة الاحتواء ، بحيث لا تملك من ثرواتها شيئاً ولا تستطيع أن تتصرف في ثرواتها على النحو الذي تريده وقد فرض عليها ما يجري .(9/44)
... وسيطرت القوى العالمية على ما تملك فهي توجهه الوجهة التي تراها هي ، وتبيعه بالأثمان التي تقررها هي ، بل وتفرض أسلوب صرف هذه الأمة لثرواتها على النحو المرسوم لها ، ولا تستطيع أن تحيد عنه ، ومن بين خطط هذه المؤامرة الحيلولة دون التقاء هذه العناصر في وحدة حقيقية ، بل إن هذه القوى لا تتوقف عن إيقاع الخلاف والصراع بين أجزائها حتى لا تلتقي أبداً على موقف موحد إزاء مقدساتها المنتزعة منها .
... وأنت إذا ذهبت تقارن بين هذه الأمة الإسلامية وما تملك من ثروات ومصادر للثراء ، وما تملك من بواغيز وخلجان وموقع استراتيجي وما تملك من قدرات جسمانية وعقلية وروحية تجد أنها تفوق كل هذه الدول التي تحققت لها حرية استغلال الإرادة ، فكل هذه الدول تستطيع أن تتصرف في مقدراتها إلا هذه الأمة الإسلامية المخوفة التي يعتقد الغرب إنها لو امتلكت مقدراتها فإنها سوف تحرر إرادتها وتزيح هذه القوى التي تكسب ألوف البلايين من العائدات وتحتجزها في مصارفها ولا تمكن أصحابها من التصرف فيها إلا بقدر ما تستهلكه .
... فالأمر في حقيقته ليس عجزاً من المسلمين والعرب ، ولكن هذه الحواجز المقامة دون إقامة وحدة هذه الأمة ودون امتلاكها إرادتها ودون تطبيقها لشريعتها ودون إقامة حضارتها التي تتطلع إليها البشرية بعد أن غرقت في مستنقع الربا والإثم والفساد الخلقي والتدمير النووي .
... ونحن الآن قد تعرفنا على المؤامرة وبقى أن نتعرف على أبعادها ثم نأخذ منها الموقف الحاسم الذي يمكننا من تحطيم هذه القيود وكسر هذه الحواجز ، وإذا كان القرن الخامس عشر الهجري قد بدأ بهذا التعرف على الخطر والسعي لاستيعابه والخروج من الدائرة المغلقة فإننا نكون قد قطعنا مرحلة جديدة على طريق الحق الغالب الذي لا يغلب .(9/45)
... وعلينا أن نعمق اتصالنا بالله تبارك وتعالى وأن نؤكد له بيعة الإيمان والفداء والتمسك بالمنهج الرباني وكشف زيف المنهج البشري الوافد ، وبقدر ما نقبل على هذا الهدف يكون وصولنا إلى الغاية .
... لقد تقرر منذ وقت بعيد هذا الخطر من الحصار منذ أن عرف الغرب أن حضارتهم ستنهار كما انهارت حضارة الرومان ، وقد أجمع علماؤهم وباحثوهم في مؤتمر ضخم عقد منذ عام 1907م وقرر أن أهل هذه المنطقة ( العربية الإسلامية ) هم المؤهلون لامتلاك قيادة العالم والحضارة لما يتمتعون به من وحدة فكر ، تلك التي جمعهم حولها الإسلام ورسمها لهم القرآن ومنذ ذلك اليوم وهم يواصلون مؤامراتهم في سد المنافذ على هذه الأمة الربانية القرآنية حتى لا تمتلك إرادتها بمفهوم إنه إذا لم يملك تأخير سقوط الحضارة فإنه يمكن تأخير تسلم المسلمين قيادة البشرية .
... لقد أحكم النفوذ الأجنبي الخطة في مواجهة الإسلام حتى أحاط بها من جميع أطرافها فأفسد المناهج التعليمية حتى لا تخرج إلا أولياء له وفرق وحدة الأمة ووضع الخوايير حتى لا تلتقي على وحدة فكر ، ودبر الوسائل لاستنزاف ثمراتها واستهلاك عوائدها في اللهو والآثام ، وفتح الباب أمام الاستدانة مغرياً الأول بالإسراف والتبذير والإنفاق على مظاهر الظهور والغرور والترف حتى يظهرون الاستعلاء بمكانة وهمية لا قيمة لها إزاء حجب الحق عن أصحابه والعطاء عن مستحقيه وأهله ، والإنفاق في مجالات مظهرية خادعة كدورات الألعاب الرياضية العالمية ، واستقبال الوفود وإقامة المؤتمرات ذات البريق والتي لا يتحقق منها إلا كتابة توصيات لا تنفذ وتصورات لا تتحقق .(9/46)
... وحتى يستطيع النفوذ الأجنبي أن يحتفظ بسيطرته على ثروات الأمة الإسلامية فقد عمد إلى محاولة تغيير الهوية الإسلامية وتزييف مفهوم الإسلام وتقديم تصور للإسلام يختلف مع حقيقته ويحول دون تملك المسلمين إرادة التغيير والتحول إلى الأصالة ، وقد ركز في عملية التغريب على أمريين أساسيين : الأول : التعليم والآخر أدوات الترفيه والتسلية .
... والهدف هو تدمير نفسية الشباب المسلم وإخراجهم من الصلابة والخشونة والصمود والقدرة على الوقوف في وجه الأحداث وحماية الثغور والمرابطة والقدرة على الردع .
... ومن هنا فإنه لابد من قيام حصانة عالية المستوى لا عن تقبل كل ما يعرض على المسلمين من مقولات ونظريات ولابد من إقامة هذا الحصن الحصين من المفهوم الإسلامي المكين ومن خلال القيم الثوابت التي لا تتغير بتغير الأزمان والبيئات ، وأن تكون عملية الاجتهاد قاصرة على جانب المتغيرات دون أن تتجاوزه إلى قواعد الحلال والحرام ، وأن لا تسرف الأمة الإسلامية في مجال الترف والمتعة حتى لا تسقط هيبتها ولا تنهار قدرتها على المقاومة والصمود .
* ... * ... *
... إن أخطر ما تواجه الصحوة الإسلامية اليوم قضيتا تحديد النسل والربا ، وهما تمثلان أخطر تحدٍ اليوم يواجه الأمة الإسلامية ولتحقيق هذا الهدف :
أولاً : تحاول القوة الغازية عن طريق التعليم وأدوات الترفيه والمسرح سحق الخطوات التي حققتها الصحوة في الاتجاه نحو مفهوم الإسلام الصحيح .
هذا ما يبدو واضحاً من خلال التطورات والتغيرات التي تجري اليوم لامتصاص الجهود الإسلامية المبذولة والقضاء عليها وذلك عن طريق ما يجري من رفع المفاهيم الإسلامية وتاريخ البطولات ( صلاح الدين ومحمد الفاتح وقطز وبيبرس ) وزيادة جرعة المفاهيم الغربية في التليفزيون والمسرح .(9/47)
ثانياً : محاولة رسم مفهوم إسلامي وعلماني أو وثني من خلال طبقة جديدة من المتصدرين تحت اسم الإسلام في محاولة للتشكيك في القيم الأساسية الخاصة بنظام الحكم الإسلامي والجهاد وتعطيل الوصول إلى تطبيق الزكاة والحدود والشورى والعدل الاجتماعي وإيجاد تضارب بين قيم الإسلام وبين الديمقراطية والاشتراكية .
* ... * ... *
... وجاءت الدعوة إلى الحوار بين الإسلام والأديان من منطلق غربي أساسي في مرحلة من المراحل التي أصبح فيها الإسلام يمتلك قوى مادية جديدة يحرص الغرب على السيطرة عليها ، وفي وقت تزايدت فيه الدعوة إلى حاجة الغرب إلى الإسلام كمنقذ له من أزماته بعد أن تهاوت النظم الاقتصادية الغربية والماركسية ، وبروز ظاهرة التطلع إلى الإسلام لتقديم الحلول الاجتماعية والنفسية بعد أن تعالت صيحات الإلحاد والإباحة وسقوط المجتمع الغربي في أتون الصراع ، وكانت الدعوة تستهدف تحقيق التقارب مع المسلمين دون التنازل عن أي وضع قائم فعلاً ، وكان أخطر الأوضاع التي تعرض الحوار في الحقيقة هو إصرار الغرب على تنفيذ خطط التبشير المتغلبة على مناطق كثيرة من البلاد الإسلامية ، ولقد حرص دعاة الحوار الغربيين الحصول من علماء المسلمين على تصريحات يمكن الاستفادة منها لحجب الناس عن الدخول في الإسلام بدعوى أنه ليس هناك فوارق حقيقية بين الأديان بينما كان يرى الغربيون الذين دخلوا في الإسلام وهم من الفلاسفة والعلماء الكبار ( أمثال جارودي وبوكاي ) أن الإسلام هو الدين الذي لم تنل وثائقه ومقدراته أي تحريف أو تغيير وأنه صاحب النص القرآني الموثق الخالد .
... ولقد تأكد أنه لن يستطيع أن يملأ فراغ الأيديولوجيات التي أخذت تنهار غير الإسلام بأصالته وانتمائه إلى الفطرة وتكامله بين المادة والروح وسماحته وبعده عن الأحقاد والتطرف ، وبالرغم من كل ما يحاول أن يلصقه به خصومه وأعدائه الذين يسيطرون على الإعلام العالمي في هذه المرحلة .(9/48)
... ولكن الإسلام قادر على أن يصحح موقف الناس منه سواء بتاريخه ومعطياته خلال أربع عشر قرناً ، وبمفاهيمه الأصيلة حين تقدم للمجتمعات المنهارة والمتحللة الآن لإنقاذها من الأخطار التي تتردى فيها .
... ولقد تأكدت وأصبح واضحاً بعد أن جرت المقارنات العلمية بين ثقافة الإسلام وثقافة الغرب أن هناك تمايزاً بينهما وأن للمسلمين ذاتية خاصة تشكلت منذ أربع عشر قرناً ، وأنهم لا يستطيعون الحياة إلا في إطارها ولن يمكن إخراجهم منها مهما بلغت حدة المحاولات التي ترمي إلى تحطيم طابعهم الخاص وذاتيتهم المتميزة .
... وأننا نستطيع أن نأخذ من الغرب المعارف البشرية الجديدة الحديثة ونشكلها داخل دائرة فكرنا أما روح حضارتهم وفلسفاتهم فهي تتعارض مع مفاهيم الإسلام وقيمه وخاصة التوحيد حيث يصبح الغيب والوحي والنبوة عنصراً أساسياً في تشكيل قانون المعرفة والتقدم وحيث يجتمع الوحي مع العقل وحيث يقرر الإسلام أن في الحياة غايات أكبر من مجرد المتعة والجري وراء المنافع المادية واللذات العاجلة .
الطريق الأصيل
لقد خرج المسلمون من الطريق المسدود
وبقى عليهم أن يقيموا مجتمعهم الرباني
...
... هذا سؤال مطروح في كل دوائر الفكر الإسلامي وميادينه وتجمعاته ، وهو سؤال الجيل وسؤال العصر الذي يجب أن يكون واضحاً في أذهان الشباب المسلم المثقف .(9/49)
... ذلك أننا نحن المسلمون أدخلنا منذ أكثر من قرن من الزمان في هذا الطريق المسدود ، بإغراء من القوى التي كانت تحمل لواء التجديد والعصر والتقدم ، وبتوجيه منهم فقد قالوا لنا إن هذا الطريق هو الموصل إلى خروج الأمة الإسلامية من الضعف والتخلف ، خدعونا فدعونا إلى أن نأخذ منهجهم ونترك المنهج الذي شكلنا وشكل أمتنا منذ أربعة عشر قرناً وخدعنا ، ومنهم من قال : نخلط بين المنهجين ، فنأخذ من الإسلام الإطار ونأخذ من الغرب المضمون ، وقال بعضهم بدعوى التقاء الغرب والشرق ، والقديم والجديد ، وظننا حتى وقت قريب أننا سنصل ولكننا اكتشفنا فجأة أن الطريق لا يؤدي وأن الحارة سد ! .
... وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه قادة فكرنا الذين خدعونا بتوجيه من القوى التي تريد احتواءنا والسيطرة علينا والتي كانت حريصة على أن تصهرنا وتصهر فكرنا الإسلامي الأصيل في بوتقة الفكر الغربي ( الذي لم يكن في حقيقته إلا أشتات من الفكر اليوناني الوثني والفكر المسيحي الغربي الذي لم يقم على الدين المنزل ) .
... وكنا نظن أن الفكر الغربي قد قام على أساس الفكر الإسلامي الذي قدم المنهج العلمي التجريبي والذي قدم مذهب مالك الذي أخذت منه بعض قوانين الغرب الحديثة ، فلا بأس أن نستعيده ، ولكن الذين قالوا مثل هذا القول ( أمثال رفاعة الطهطاوي وغيره ) كانوا يبسطون الأمور أكثر مما هي في الحقيقة وقد نسوا أن الفكر الغربي الحديث قد قام أساساً على مذهب ( علم الأصنام ) اليوناني الهليني الإغريقي الذي يفهم الألوهية فهماً قاصراً والذي يذهب مذهباً خطيراً في إنكار النبوة والغيب والجزاء الأخروي .(9/50)
... هذا فضلاً عما يكنه الغرب للمسلمين ولكل العناصر غير الأوربية والبيضاء عن إحساس بالسيادة والسيطرة واستعلاء بالدم وتطلع إلى السيطرة على كل هذه الشعوب ونهب ثرواتها ، ولم يكن هناك من منطلق لتصحيح هذا الفهم الخاطئ الذي انجرف فيه المسلمون والعرب وراء أكذوبة تقليد أوربا وقبول الخضوع لمناهجها وفكرها ومذاهبها السياسية إلا أن يجد الناس أنفسهم وقد قرعتهم القارعة على النحو الذي لقوه في نكسة 1967 م بضياع القدس بعد أن وقعت فلسطين في قبضة الصهيونية 1948 م ، هنالك عرف العرب والمسلمون أن الطريق قد أغلق أمامهم ، ولابد لهم من مخرج ، وليس هناك مخرج إلا أن يلتمسوا منابعهم ويدرسوا منهجهم ويتعرفوا على سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات والحضارات وفي قيام الأمم وسقوطها وهي سنن فصلها لهم القرآن الكريم وحذرهم في غير موضوع من الغفلة والاسترخاء والاستسلام للترف والأمن في عالم يقوم على مصارعة الأمم الإسلامية حتى لا تتمكن يوماً من امتلاك إرادتها أو إقامة مجتمعها أو تبليغ رسالتها ، وقد حذرهم القرآن :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )
( خذوا حذركم )
( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أمتعتكم وأسلحتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة )
... ومن هنا كان المنطلق الحقيقي للصحوة على طريق اليقظة الذي لم يتوقف يوماً في مراحله المتعددة ورجاله المتتابعين على الطريق وكان لابد من التماس مفهوم القرآن ومنهج الإسلام بوصفه المنطلق الحقيقي لهذه الأمة .
* ... * ... *
... نحن لا نريد أن نبني وضعاً جديداً ، وإنما نريد أن نرأب هذا الصدع الذي أصاب مجتمعنا وأن نلحم الشرخ الذي أصاب واجهتنا ، وأن نعود إلى الوضع الصحيح بعد أكثر من مائة عام من التمزق الذي أحدثه النفوذ الأجنبي .(9/51)
... علينا أن نخرج من الطريق المسدود إلى الطريق الصحيح ، فإذا فعلنا ذلك اليوم وجدنا من ينزعج لهذا العمل ويستغربه ويدهش له ، كيف نخرج من الأوضاع الذي فرضها علينا النفوذ الأجنبي فأصبحت بعد مائة سنة واقعاً حقيقياً ، ولكن أليس من حقنا أن نعود إلى أصالتنا وأن نعود إلى منابعنا وأن نصحح موقفنا ؟ ، أم أننا يجب أن نستسلم حتى نذوب تماماً في حضارة الغرب ونصبح أثراً بعد عين .
... ونحن الأمة المختارة لتبليغ رسالة الله رب العالمين ، لقد خرجنا من المأزق وبدأنا في الانطلاق نحو المنهج الصحيح وهذه علاماته وركائزه تقوم وتثبت وتعمق في الأرض يوماً بعد يوم ، فماذا علينا في هذا ؟ .
... لقد ظنت جماعة التغريب والغزو الثقافي والتبشير وأتباع الاستشراق أنهم قد التمسوا رأس جسر للوثوب على فكر الإٍسلام وعلى عقل هذه الأمة التي قامت على أساس التوحيد الخالص وظنوا أن ما وقع خلال هذا القرن قد أصبح وضعاً طبيعياً يمكن أن يمضي إلى غايته التي أرادوها .
... ونسوا هم وجهلوا أن الإسلام كان قادراً على الانبعاث من الداخل وأنه يوقظ أهله إذا دخلوا مرحلة الخطر وأنه قادر إذا ما التمسوه أن يخرجهم مرة أخرى من الظلمات إلى النور ، وهناك مجموعة من الحقائق يجب أن تكون واضحة في أسماعنا وأبصارنا :
1 - أن المؤامرة على الإٍسلام مستمرة منذ ظهوره إلى اليوم ، ولم تتوقف .
2 - لقد قدموا إلينا مفهوماً مغلوطاً فرض علينا ولم نقبله بإرادتنا فوصل بنا إلى المرحلة الحرجة والمغربون هم الذين حملوا لواء هذه المؤامرة .
3 - العودة إلى المنابع ليست عملاً مستغرباً ولا محظوراً بل هو من الطبيعي على مدى حياة تاريخ الإسلام ، ففي كل مراحل الضعف قام رجال أبرار فجددوا الإسلام وقدموه بمنهجه الأصيل ونفوا عنه الغلو والتحريف .(9/52)
4 - أن تكامل مفهوم الإسلام الجامع هو وحده القادر على العطاء متى التمسه المسلمون في إطار الترابط بين الروح والمادة والعقل والقلب والدين والسياسة والدنيا والآخرة ، متى التمسنا منهجه في الثوابت والمتغيرات .
... ونحن نرى المسلمين اليوم متجهون إلى أعمال كثيرة على طريق الصحوة :
أولاً : أسلمة العلوم والمناهج .
ثانياً : تصحيح دوائر المعارف .
ثالثاً : تأصيل مناهج التعليم والتربية والثقافة .
رابعاً : التماس الوحدة الإسلامية .
والطريق طويل ولكن يكفي أن خرج المسلمون من الطريق المسدود .
عصر التبليغ
المسلمون يتطلعون إلى عصر التبليغ
...
... علينا أن نذكر أنفسنا - نحن المسلمون - دائماً بمسئوليتنا التي وضعها الإسلام على أكتافنا وجعلها فريضة ملزمة لنا ، تلك هي مسئوليتنا في تبليغ الإسلام وحمل أمانته والدفاع عنها إيماناً بأنها هما الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تفتح أمامها الطريق لبلوغ غايتها والأمل الوحيد الباقي اليوم أمام العالم كله بعد أن تحطمت أوثان كثيرة وتصدعت نظريات كثيرة وتبين لأهل الحضارة بعد خمسة قرون من حملهم لواءها أنها تسير إلى التيه ، وأنها قد فقدت أصالة المنطلق بعد أن استعلت على كلمة الله وادعت ظلماً وعدواناً وصلفاويتها أنها ليست في حاجة إلى وصاية الدين وبعد أن استبدلت كلمة الله الخالق بكلمة الطبيعة وبلغت غاية الغايات في التنكر للألوهية والنبوة والوحي والغيب والبعث والجزاء وسخرت بكل هذه القيم ومضت تشق طريقها إلى الهاوية .(9/53)
... وبدا اليوم أن العالم يجب أن يختار بين منهجين هما : منهج الإسلام أو منهج الفلسفة المادية حصيلة ذلك ركام الزيف متمثلاً في الليبرالية والماركسية وجماع هذا الفكر الباطني الوثني المادي ( فكر طفولة البشرية ) القديم الذي حملته الهلينية الغنوصية ثم جاء الإسلام ليكشف زيفه ويحطم أجنحته ، وهكذا يضرب المواجهة الحاسمة بين الإسلام بوصفه الدين العالمي الإنساني ( عصارة رسالات السماء ) وتراثه ( عصارة الحضارة الإنسانية ) وكتابه القرآن الخالد الذي أنزله الله تبارك وتعالى بالوحي على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون للعالمين نذيراً ، ليظهره على الدين كله ومهيمناً على الكتب السماوية جميعاً ، ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) وتحاول القوى الثلاثة الليبرالية والماركسية والصهيونية اليوم أن تفرض نفوذها على الأمة الإسلامية في محاولة لاحتوائها وصهرها في بوتقة ما يسمى عالمية الحضارة أو الفكر العالمي ، ومن خلال إذاعة الشبهات والمؤامرات والدعوات الباطلة والهدامة لهدم مقومات الإسلام من حيث التوحيد والوحدة والقضاء على تكامل الإسلام ديناً ودولة ، وقد طرحت في سبيل ذلك عشرات الدعوات : من التفسير المادي للتاريخ إلى الوجودية إلى السيكولوجية الفرويدية ، إلى الروحية واليثوصوفيا ونظريات الأجناس بدأ من دارون إلى فرويد وسارتر ودور كايم وماركس في بيئاتها ، وقد تصدعت هذه النظريات وثبت عجزها عن العطاء في بيئتها فضلاً عن أنها لم تكن علماً خالصاً وإنما كانت عبارة عن شطائر وردود أفعال وفروض قد تخطئ وتصيب بينما تواجهها من خلال أضواء الإسلام حقائق ثابتة من خلال منهج رباني واسع الآفاق ، مرن قادر على العطاء في كل العصور والبيئات ، مرتفع فوق الأهواء والمطامع والأحقاد البشرية والصراع .(9/54)
... ولكن الفكر الغربي بأحقاده وشماتته واستعلائه وكراهيته للإسلام ما يزال يصارع وما يزال يثير قضايا الشك والسخرية والانتقاص ولكن العالم كله يعرف اليوم أنه أمام أمرين لا ثالث لها : هذه الحضارة بفكرها الوثني المادي الإباحي الذي ورث فكر طفولة البشرية وأباطيلها من التعدد والمراوغة شأن ميراث الإسرائيليات والعنصرية ، على مدى العصور ، وبين مفهوم الأصالة الربانية المستمدة من الحنيفية السمحاء التي حملها في قلب الجزيرة العربية محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام خاتم الرسالات والقرآن خاتم الكتب السماوية .
... وسوف لا يستطيع الباطل أن ينتصر على الحق مهما كان يملك من أدوات الدمار والسلطان والمادة والنفوذ ، فإن للحق قواه المعنوية المذخورة والتي لن يقف أمامها أي شئ .
... نحن المسلمون نؤمن بأننا حملة الرسالة الخاتمة التي تقتضينا أمانة التوحيد أن نبلغها وأن ندافع عنها وأن نصمد على نضالها وأن نثبت في الميدان حتى يأتي نصر الله ، وهذا الإيمان يجب أن يصل إلى غايته فلا يكون هناك شئ أغلى من هذه الأمانة ولا يكون هناك عرض له بريق يفوق التضحية وبذل النفس رخيصة في سبيل حماية اللواء المرفوع حتى تتسلمه الأيدي القادرة على الاقتحام .
* ... * ... *
... إننا مطالبون بأن نكشف لأبناء أمتنا ولأهلنا وقومنا الحقيقة سافرة ونزجي لهم النصيحة خالصه ، فالرائد لا يكذب أهله ، بأن هذه الحضارة الغربية لا تصلح لنا لأنها خرجت من نبع مختلف وقامت على أساس مضاد لقيمنا ومفاهيمنا وعقيدتنا سواء في وجهتها المادية أو طابعها الإباحي أو مفهومها المستعلي المتغطرس بالعنصر واللون والجنس أو من حيث تدميرها للموارد الطبيعية في سرف شديد وفي اتجاه غالب نحو الاستهلاك والنزف والفساد ، وفي وضع العالم كله على حافة الخطر الذري والدمار الهيدروجيني .(9/55)
... هذه الحضارة التي تنكرت لمنهج الله تبارك وتعالى واستغنت عن توجيه الدين الحق ، وأنكرت الوجهة التي يجب أن تنطلق منها الأمم والحضارات فتنكرت للبعد الإلهي واستبدلته بالطبيعة وتنكرت للبعد الأخلاقي وانطلقت مندفعة في طريق مظلم نحو نهايتها المحتومة والغاية التي وصلت إليها كل الحضارات المادية والإباحية وسواء في فارس أو اليونان أو الرومان وقد أنذرنا ديننا عاقبة الأمم وعقابها حين تخالف منهج الله وقوانين الكون .
... فنحن المسلمون في موقف مضاد لهذه الحضارة الغاربة لا تستطيع أن تخدعنا بمظهرها البراق عن مخبرها المظلم ، وليس لنا فيها إلا معطيات العلم التي كنا أول من وضع قانونها التجريبي ، فلنا أن نأخذ هذه المعطيات لنشكلها في دائرة فكرنا الإسلامي القائم على التوحيد الخالص والرحمة والإخاء والإيمان بالغيب والنبوة والبعث والجزاء والتي تعرف مهمة الإنسان في بناء المجتمع الرباني كما رسمها له القرآن الكريم .(9/56)
... فنحن المسلمون لن نستسلم ولن نخدع ولن تستطيع هذه الحضارة وهي في مرحلة الأفول أن تحتوينا أو أن تجعلنا ننصهر فيها ، فإن لنا من قيمنا ومن عقيدتنا ومن منهجنا الرباني الجامع الذي رسم لنا مشروع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على نحو قادر على العطاء ، لنا منه العطاء الحقيقي ، ونحن نؤمن به إيماناً عميقاً لا يخالطه شك في أنه الحق وأن في أعقابه النصر ، وأننا به في جهاد مع كل قوى الباطل والظلام لا نتراجع ولا نخذل مهما ضاعف خصوم الإسلام من حملاتهم ووسعوا دائرة مؤامراتهم وتجمعوا في حرب واحدة ، ترمي إلى إذابتنا وصهرنا في بوتقة الفكر الوثني المادي الباطني الإباحي الذي عجز خلال خمسة قرون عن أن يقدم للبشرية إلا تلك الأيديولوجيات والفلسفات والنظريات التي اخترقتها الأحداث ولم تستطيع أن تستمر في العطاء في بيئاتها واحتاجت إلى الإضافة والحذف ، إزاء المنهج الرباني الأصيل الذي أعطى البشرية ضياء العالمين خلال ألف سنة كاملة وأخرج أوربا من ظلمات القرون الوسطى ولم يترك المسلمين حتى غفلوا عنه وتولاهم الفتور وانسحبوا من الثغور وغفلوا عن أسلحتهم فمال عليهم عدوهم ميلة واحدة ، وهم الآن يستيقظون وقد عرفوا خطأهم وعليهم بعد ذلك أن يشكلوا من أنفسهم القوة القادرة على تغيير واقعهم وبناء مجتمعهم من جديد حتى يعيدوا تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين فإن لم يفعلوا فإن الله تبارك وتعالى قادر على أن يستبدلهم بغيرهم من أهل القدرة على حماية الأمانة وحملها والحفاظ عليها .
منابع الأصالة
( 1 ) منابع الأصالة في فكرنا الإسلامي وهل يمكن تجفيفها ؟
( ما تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله
لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )
( حديث شريف )
منابع الأصالة
في فكرنا الإسلامي وثقافتنا القرآنية
وهل يمكن تجفيفها ؟
...(9/57)
... السؤال هو : هل يمكن حقاً أن تستطيع مؤامرة التغريب والغزو الثقافي في هذه المرحلة التي نعيشها الآن ( بعد حرب الخليج ) من تجفيف ينابيع الأصالة في فكرنا الإسلامي وثقافتنا القرآنية ولغتنا العربية ذلك هو السؤال المجير الذي يتردد على كل الألسنة الآن ويشغل الجميع .
... لقد قطع التغريب والغزو الثقافي مراحل طويلة في محاولته الخطيرة الرامية إلى محاصرة الإسلام والقرآن وتاريخ الإسلام ومقوماته في خطة ماكرة خبيثة ذات أجنحة ثلاثة ( غربية وماركسية وصهيونية ) من أجل اختراق الإسلام وتدمير (1) ذاتيته الخاصة ، (2) تميزه ، (3) قدرته على الاستمرار والمقاومة والتقدم على طريق تحقيق إقامة المجتمع الرباني الذي يحكم بالشريعة الإسلامية ، وقد قطعت حركة اليقظة مراحل طويلة خلال أكثر من خمسين عاماً وهي تبني على الأساس الذي أقامه المصلحون الأول منذ محمد عبد الوهاب والزبيري والمهدي والسنوسي وابن عرفان على محيط ممتد من بحر الهند إلى رباط الفتح ، ولكن النفوذ الأجنبي الذي استطاع عن طريق دعاوى خدعت الكثيرين ولم يحقق شيئاً تحت اسم القومية والاشتراكية والعلمانية والتقدم والحداثة أن يتبنى له معاهد " أوكار الإلحاد " لتواجه حصون الإسلام ومعاقله في عديد من المواقع وفي مقدمتها :
( 1 ) مناهج التعليم .
( 2 ) مسلسلات الفن .
( 3 ) بعث التراث الهدام والوثني والإباحي القديم .
( 4 ) كتب ودوريات تستهدف تدمير القيم الأساسية .
( 5 ) برامج البث الإذاعي والتليفزيوني .
( 6 ) الصحافة ودور كبار المثقفين .
* ... * ... *(9/58)
... إن تأثير النفوذ الغربي من خلال مخططات وموسعات ( الاستشراق والتبشير والغزو الفكري ) المنبثة في بلاد الإسلام إنما ترمي إلى توهين عروة الإسلام الحقيقية ( بوصفه ليس ديناً فحسب بمفهوم الغرب عن اللاهوت ) بل بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع إن المخطط المرسوم منذ ضربات الاستعمار الأولى ( 1830م الجزائر - 1882 مصر ) ترمي إلى تحويل الإسلام إلى دين لاهوتي عبادي قاصر على المسجد ، ليس له صلة بمعاملات الشارع أو السوق ولا بحركة المجتمع ، وتلك كانت العقدة الأولى التي حطمتها الدعوة الإسلامية منذ فجرها حين استعادت ثقة المسلمين بمفهوم الإسلام الجامع ( مادة وروحاً ، قلباً وعقلاً ، دنيا وأخرى ) ولكن التصور الإسلامي يكتمل في ثلاثة عناصر أساسية :
أولاً : الوحدة الجامعة تحت لواء ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )
ثانياً : إقامة فريضة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثاً : إقامة منهج الإسلام بوصفه نظام مجتمع كامل من خلال العدل الاجتماعي ... والشورى والأخلاق .
( 1 ) أما الوحدة الإسلامية الجامعة فقد استطاع النفوذ الاستعماري والصهيونية أن يحجبها منذ تآمرت القوى الغربية مجتمعة لإسقاط الخلافة الإسلامية وتحطيم أكبر تجمع إسلامي تحت لواء الدولة العثمانية ( وكانت هناك مشروعات عديدة ليصحح مسار الخلافة والدولة ) ولكن النفوذ الأجنبي وخاصة نفوذ بريطانيا ( التي كانت بمثابة العدو الأكبر للإسلام مع الصهيونية من خلال التآمر مع الكنيسة الأوربية أن يحجب هذا القاعدة الكبرى التي ما زالت عمليات استعادتها تحت أسماء التضامن والجامعة الإسلامية وغيرها لم تحقق شيئاً ذا بال .
((9/59)
2 ) أما فريضة الجهاد فقد عمل النفوذ الغربي على حجبها تحت تفسيرات مضللة ترمي إلى القول بأن ( الجهاد : هذه الفريضة الماضية إلى يوم القيامة ) ، يمكن أن تستبدل بجهاد النفس أو أن يكون الجهاد حضارياً أو غير ذلك من محاولات باطلة لحجب التصور الفقهي الإسلامي الصحيح وخداع الناس عن حقيقة موقف المسلمين من العدو إذا وطئ أرض الإسلام أو من التعامل معه مادام مسيطراً ، وما يستدعي ذلك من دعوة المسلمين إلى الاحتشاد وإلى إعداد القوة للردع وحماية الثغور واستعادة الأرض المغتصبة .
( 3 ) أما إقامة منهج الإسلام بوصفه نظام مجتمع كامل فإن الخطوات التي اتخذها المسلمون والعرب حتى الآن لا تزال تمثل حلقة قاعدية حيث تقرر أن الإسلام دين الدولة في معظم دساتير البلاد العربية والإسلامية ، وحيث خطت مصر والإمارات والأردن والكويت خطوات في سبيل تقنين الشريعة ، وحيث أخذ الإسلام مجاله للتطبيق في السودان والجزائر وإيران وباكستان وأفغانستان على نحو من الأنحاء .
* ... * ... *
... غير أن خطوات العمل لتعويق تحقيق هدف العودة إلى الأصالة ما زال في حاجة إلى جهود مكثفة وعلى الأجيال الحالية التي آمنت بالدعوة الإسلامية وانخرطت في الصحوة الإسلامية أن تعمل على تطبيق الإسلام في محيطها ومجتمعاتها وأن تبذل الجهد لتكون طليعة التطبيق والتغيير .
... وإن كان هذا لا يحول دون استمرار حملة الدفاع عن الشريعة وكشف زيف المعادين لها ، في مرحلة خطيرة تكاثرت فيها أقلام الباطل وأتيحت لها الفرص الواسعة من خلال الكتب والصحف والفن والبث الإذاعي والتلفزيوني لاقتحام حمى الإسلام بينما لم يتح ذلك لأصحاب الحق ، ليس في نشر كلمة الحق ، بل حتى في رد العدوان وكشف زيف مطروحات العلمانيين والتغريبيين التي تجاوزت حدود أسلوب الجدل والخلاف إلى أسلوب الاقتحام الحاقد المنبعث من نفوس انهارت تحت وطأة سقوط الشيوعية فهي تفرغ حقدها في الإسلام وأهله .
* ... * ... *(9/60)
... ويبدو أن تنامي الصحوة الإسلامية وهي خطة بناء وتشيد وليس خطة هدم وتدمير ، قد آذت الغرب الذي ظن أنه استطاع أن يحول المسلمين عن منهجهم الأصيل بل واستطاع أن يحول منهجهم من حيث هو نظام رباني إلى مفهوم وافد يصره على العبادات ويحجبه تماماً عن المعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فضلاً عن الفزع من عودة المسلمين إلى الأصالة بعد مائة عام أو أكثر لم يتوقعوا خلالها عن تحرير مفهوم الإسلام من الفهم الذي فرضه النفوذ الغربي وحاول خلال أكثر من مائة عام توسيده من خلال القانون الوضعي ومفاهيم الليبرالية وتطبيق تجربة الغرب بالإضافة إلى المحاذير والمخاطر التي كشفها التحول نحو المنهج الماركسي والمنهج العلماني والمنهج المادي في بعض بلاد الأمة الإسلامية مما انتهى جميعه إلى غاية واحدة ونهاية واحدة هي الهزيمة الكاملة التي أكدت أن التجربة الغربية والتجربة الماركسية كلاهما لم تجد قبولاً من الوجدان المسلم ولم تجد ما يحقق لها مطامحها وأشواقها وأهدافها بعد أن أرسى لها الإسلام ذلك النظام الجامع المتكامل المترابط مع طبيعة الإنسان نفسه : روحاً ومادة أو ( قبضة الطين ونفخة الروح ) وما كان يمكن للوجدان المسلم الذي عرف سفه التصور الرباني الجامع أن يقبل الانضواء في التصور الغربي الانشطاري المادي أو التصور الشرقي البوذي والغنوصي ، وبالرغم من أن الفكر الغربي الوافد قدم خلال هذه الفترة عدة مشاريع لاحتواء الإسلام والمسلمين إلا أنها جميعاً قد هزمت وتحطمت ولكن تنامي الصحوة الإسلامية ما يزال يغري الطامحين إلى السيطرة على الإسلام والأمة الإسلامية إلى مزيد من المؤامرات والمخططات .
تجفيف ينابيع الثقافة والعقائد الإسلامية(9/61)
... وهي محاولة خاسرة منذ اللحظة الأولى لأنها جاءت والأمة الإسلامية تحس اليوم بذاتيتها المرتبطة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة والتي تستمد وجودها من مفهوم التوحيد الخالص وتقيم منهجها على أساس أخلاقيات الإسلام وثوابته التي تتعارض انهيارات وسموم وفساد الحضارة الغربية بوثنياتها وإباحياتها على النحو الذي أصبح ( داء المناعة ) يحصدها حصداً ومن خلال برلمانات تقبل زواج الرجل بالرجل ومن خلال دعوة إلى تجنيد الشواذ مما يوحي بتدمير كامل للقوة العسكرية الغربية .
... إن منابع الثقافة الإسلامي والعقيدة الإسلامية لا يمكن أن تجف أو تزول لأنها مرتبطة بالإسلام الذي أقام منهج الحياة في الأرض وسيقيمه حتى تقوم الساعة ، وسوف تنهار كل هذه الأوكار التي تختص الإلحاد والإباحة والفساد الخلقي لأنها لا تملك القدرة على المقاومة والمواجهة وسيخطو المجتمع الإسلامي خطواته في اتجاه الصحيح من خلال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومن خلال المراحل والصبر وعدم تعجل الثمرة وسوف يبقى الحق ويذهب الباطل ( مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) .
... وسوف تنهار الحضارة الغربية المعاصرة كما انهارت حضارة الرومان واليونان وفارس لأنها تسير على نفس منهج الترف والفساد والانحلال .
* ... * ... *
... ولقد يظن البعض أن تقديم هذه المناهج النازلة والفاضحة في مجال الفن أو الأدب وحجب مناهج الأصالة والأخلاق والقيم سوف يصرف الناس عن دينهم الحق وسوف يجعلهم يعتنقون مفهوم الدين اللاهوتي الغربي بديلاً عن الإسلام أو سوف يدخلهم في مجال الانحلال والفساد فيكونوا جنوداً للغاصب وخدماً للنفوذ الوافد .
... ولكن ذلك كله سوف ينهار وسوف تقبل النفوس المؤمنة على المفهوم الأصيل ، أما هذه الكتب التي تبعث من التراث الزائف القديم فسوف لا تجد قبولاً من العقل المسلم الجديد الذي آمن بالله تعالى رباً وبالإسلام شريعة وكتاباً .(9/62)
... إن هذه المحاولات كلها التي تقوم بها جهات حاقدة على الإسلام لن تحقق هدف تجفيف الينابيع الإسلامية ، فإنها ينابيع عميقة الغور ، شكلها القرآن وتراث النبوة على مدى أربعة عشر قرناً ، وإن الفهم الصحيح للإسلام هو وحده الذي سوف يبقى أما مفاهيم التطرف التي عرفتها الأمة الإسلامية في مراحل معينة فإنها ستذهب لأنها معارضة للفطرة والعلم والحق .
... ولكن الريح التي ستكتسح التطرف سوف تكتسح معه حملة تجفيف الينابيع لأنها ترمي إلى طمس نور الإسلام الذي لا يمكن أن يطمس ولائها لون من التطرف المعكوس ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) .
* ... * ... *
... إن عطاء المفهوم الأصيل للإسلام طريقه الواضح هو وحده الذي يدحض المفاهيم المغلوطة والدعوات المنحرفة وكل ما يسمى بالتطرف الذي ينهار أمام ضوء صحائح الإسلام وإعطائه منطلقه الحقيقي والأصيل .
... ولكن هل الغرب على استعداد لتقبل المنطلق الحقيقي والصحيح ؟
... الواقع أن الغرب يحس بأنه اكتشف أخيراً أن خطته التي أخذ يقدمها للمسلمين خلال أكثر من قرن ونصف قرن قد فشلت ، فقد كان النفوذ الأجنبي الحريص على السيطرة على أرض المسلمين وثروتهم ( والذي عاد مرة أخرى بعد هزيمته في الحروب الصليبية ليحقق ثأره وغلبته التي تظهر واضحة في عبارة اللورد اللنبي عندما دخل القدس عام 1918م حين قال : ( الآن انتهت الحروب الصليبية ) فإن هذه الكلمة تخفي ورائها أحقاد أكثر من خمسة قرون عندما تمكنت الدولة العثمانية الإسلامية من حماية الأمة الإسلامية وحجز مؤامرات الحملات الصليبية مرة أخرى عنها ، حيث كان الغرب ولا هم له إلا تدمير الدولة العثمانية وإسقاط الخلافة وذلك لتمزيق هذا الكيان الموحد تحت شعار ( لا إله إلا الله ) والعودة إلى السيطرة وتقسيم تركة ما يسمى بالرجل المريض .(9/63)
... منذ ذلك اليوم كانت المخططات كلها ترمي إلى احتواء هذه الأمة داخل مناهج الغرب وتحويل الإسلام إلى دين لاهوتي عبادي قاصر على العبادة والمسجد وفرض نفوذ القوانين الوضعية على هذه الأمة وتعريتها من كل قيم الخلق والكرامة وإذلالها والسيطرة عليها حتى تظل ثرواتها نهباً لهم حيث لا يتركون لأتباعهم إلا الفتات ، أما أهالي البلاد فيظلون في الفقر المدقع .
... ولقد مرت عقود من الزمن بدا فيها أن المسلمين والعرب قد استسلموا لمفاهيم العلمانية الغربية التي فرضت عليهم ، وأنهم انصهروا في بوتقة التبعية ، وأن هدف القديس لويس الذي دعا إلى حرب الكلمة قد تحقق ، وأن هذه الحرب قد غيرت الإسلام وجعلته ديناً لاهوتياً ، وحددت إقامته في المساجد ، وبعد أن سيطرت القوانين الوضعية التي تبيح الزنا والربا والفساد الخلقي وتهدم المجتمع والأسرة .
... وقد مضى التغريب والغزو الثقافي في خطته التي كانت تهدف إلى السيطرة الكاملة على الفكر الإسلامي وأصله من خلال ثلاث مناهج :
أولاً : قوانين الغرب للسيطرة على الحياة الفكرية والاجتماعية وتدمير المجتمع الإسلامي .
ثانياً : مخططات اليهودية العالمية في الزحف على بيت المقدس وإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ، وإعادة بناء هيكل سليمان .
ثالثاً : اندفاع الماركسية اللينينية إلى السيطرة على البلاد الإسلامية وتحويل أهلها إلى الإيمان بالدين أفيون الشعوب وبالصراع الطبقي وبإنكار الغيب والوحي والألوهية والإيمان بالمحسوس من خلال مفهوم الفلسفة المادية .
... وقد توغلت فعلاً هذه المخططات الثلاثة توغلاً شديداً في قلب عالم الإسلام ( خلال الفترة من 1946م - 1990م ) وخدعت أمماً أرادت الخروج من سيطرة الاستعمار الغربي فأقتنصها النفوذ الشيوعي الماركسي ، وكانت التجربة مريرة حقاً ولكنها انتهت إلى شئ واحد هو :(9/64)
... فساد المنهج الغربي ( الليبرالية - الرأسمالية - القومية ) من حيث العطاء والبناء ثم فساد المنهج الماركسي في المناطق التي ظهر فيها وسيطر سنوات معدودة .
... وكانت تجربة الاقتصاد الحر والموجه سلاحاً في وجه المفهوم الإسلامي للاقتصاد ، وكانت تجربة القوميات سلاحاً في وجه الوحدة الإسلامية الجامعة ، فقد كانت مذاهب العنصر والدم والعرق تجربة واسعة متصلة ولكنها سقطت لأنها تجاوزت إطار الفطرة وسنن الله تبارك وتعالى في الأمة التي حصنها على عينه خلال أربعة عشر قرناً باسم القرآن ، وكانت حصيلة ذلك كله هزيمة 1967م التي كشفت عن حقيقة أساسية هي أن هذه المناهج الثلاثة : ( القومية والليبرالية والماركسية ) نبت غريب لا يصلح لأمتنا وقد وضعت بذرة في أرض الإسلام فلم تنبت ، وأن الجسد الإسلامي كله لم يقبل العنصر الغريب .
* ... * ... *
... هذا التحول الخطير الذي كشفت عنه التجربة أبان في وضوح أن ثمرة ما قام به الغرب بعناصره الثلاثة ( الليبرالية وماركسية وصهيونية ) قد أعلن فساده وإفلاسه وجاء سقوط الفلسفة الروسية الماركسية اللينينية علامة مضيئة على الشرخ الشديد الذي أصيبت به الحضارة الغربية والفكر الغربي والفلسفة المادية عموماً إزاء عالم الإسلام وإزاء الفكر الإسلامي القرآني الذي كان ولا يزال يمر بأشد مراحل محنته وأزمته وعجزه عن امتلاك إرادته أو الدفاع عن كيانه أو حماية نفسه من التيارات الجارفة التي فرضها عليه الغرب والصهيونية والماركسية ( من داخل الفكر الغربي ) لتحويله عن طريقه الذي تشكل منذ أربعة عشر قرناً .(9/65)
ومهما تبدو الصورة الآن مضيئة والسحب متكاثرة في الأفق فإن الفجر قريب وأننا متمسكون بما تمسك به أسلافنا : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) ، وإنا صامدون في مواقعنا بمفهوم الأصالة والسماحة والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من منطلق الوسطية الإسلامية والأصالة والعودة إلى المنابع بعيداً عن كل ما يثار من التطرف أو الجمود وسوف تنزاح هذه الغمامة الجديدة كما انزاحت كثيرات من قبل ( إن الذين يتوهمون أن في إمكانهم تجفيف ينابيع أصالتنا تمهيداً لملء الفراغ ببدائل عصرية هم واهمون ) وصدق الله العظيم ( إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون ) وحسبنا الله ونعم الوكيل .(9/66)
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 1
الجزء الأول : ... 7
مدخل : الدعوة الإسلامية من الأصالة إلى الصحوة ... 8
المنهج الرباني قادر على العطاء في كل أفق ... 11
ذاتية الإسلام الخاصة ... 15
المنهج الرباني ... 20
التحرر من التبعية ... 24
الإسلام وتشكيل عقلية الأمة ... 28
** القرآن الكريم : ... 31
( 1 ) المؤامرة على القرآن الكريم ... 32
أولاً : تكذيب القرآن ... 33
ثانياً : نقد القرآن ... 34
ثالثاً : فصل القرآن عن العربية ... 37
رابعاً : التشكيك في لفظ القرآن ... 38
( 2 ) القرآن يصحح تاريخ البشرية ... 41
( 3 ) قرآنية الثقافة والبيان والحوار ... 50
( 4 ) محاولات للنيل من خصوصية الفكر الإسلامي ... 55
( 5 ) آيات الله في الكون ... 61
** اللغة العربية : ... 68
( 1 ) اللغة العربية والقرآن الكريم ... 69
( 2 ) اللغة العربية في مواجهة اللغات الأجنبية ... 73
( 3 ) الفصحى لغة القرآن من الثوابت ... 84
( 4 ) اللغة العربية والتراث والتاريخ ... 88
الجزء الثاني : ... 92
** التاريخ الإسلامي : ... 93
( 1 ) وحدة التاريخ الإسلامي ... 94
( 2 ) الإسلام بعد خمسة قرون ... 98
انتقال الحضارة إلى الغرب ... 102
( 3 ) بعد خمسمائة سنة من سقوط الأندلس ... 106
( 4 ) عودة بيت المقدس مع صلاح الدين ... 112
( 5 ) أخطاء التاريخ الإسلامي الحديث ... 117
( 6 ) آفاق مضيئة مع مطلع العقد الثاني من القرن الخامس عشر ... 122
( 7 ) من الثورة الفرنسية إلى الحملة الفرنسية ... 125
( 8 ) عبرة الأحداث والتاريخ ... 129
** التراث الإسلامي : ... 133
( 1 ) هل يمكن أن يتساوى التراث الإسلامي والغربي ؟ ... 134
( 2 ) الدور الذي يقوم به خصوم التراث ... 140
( 3 ) أهداف تزييف التراث ... 143
( 4 ) كتاب جديد يكشف عن عطاء التراث ... 147
( 5 ) في مواجهة الحملة على التراث ... 152
( 6 ) محاذير في محاولة فصل الحاضر عن الماضي والتراث ... 156
الجزء الثالث : الإسلام : منهج حياة ونظام مجتمع ... 159
وسطية الإسلام هي نبراس الصحوة ومنطلقها الحقيقي ... 160
المجتمع الإسلامي ... 165(10/1)
أخطر ما يواجه العالم اليوم غياب أخلاقية المجتمع والحضارة ... 166
المجتمع والقيم الإسلامية ... 170
مسؤولية المجتمع والأسرة عن انحراف الشباب ... 173
العودة إلى البيت ... 175
العامل الاقتصادي ... 176
إسلامية الحياة والمجتمع ... 180
الحيلولة دون تمكين الإسلام من قيادة الأمة الإسلامية وتعطيله عن إقامة مجتمعه ... 185
الجزء الرابع : ... 190
** الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة
( 1 ) الدعوة الإسلامية في مرحلة جديدة : في عصر الأصالة
( 2 ) أثرالدعوة الإسلامية في بناء المجتمع الرباني وتشكيل العقل المسلم
( 3 ) الخطاب الإسلامي
( 4 ) الإسراء والمعراج : نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية
( 5 ) الصمود في وجه الإعصار
( 6 ) دوائر المعارف وشخصية النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -
( 7 ) نحن أهل الحق على موعد مع النصر
** العودة إلى المنابع
( 1 ) العودة إلى المنابع
( 2 ) تصحيح المسيرة والعودة إلى المنابع
( 3 ) العودة إلى منهج الله تبارك وتعالى
( 4 ) التيار الإسلامي الأصيل
( 5 ) المسلمون والعودة إلى المنابع
أولاً : الوحدة الإسلامية
ثانياً : الشريعة الإسلامية
ثالثاً : أسلمة التعليم
رابعاً : الإعجاز القرآني
خامساً : عودة المرأة المسلمة إلى الأصالة
سادساً : الاقتصاد الإسلامي
( 6 ) العودة إلى المنابع ضرورة حتمية بعد فشل الغربية والماركسية والقومية
أولاً : التجربة الغربية
ثانياً : التجربة القومية
ثالثاً : التجربة الماركسية
( 7 ) في مواجهة إحياء الفكر الباطني والوثني
( 8 ) تصحيح المفاهيم وتحرير القيم
الجزء الخامس : الصحوة الإسلامية والشباب المسلم
( 1 ) حقيقتان كشفت عنهما الصحوة
( 2 ) ستمضي الصحوة إلى غايتها رغم كل العقبات
( 3 ) ترشيد الصحوة : التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية
أولاً : تصحيح العقيدة
ثانياً : كذلك الأمر في التاريخ الإسلامي
ثالثاً : مفهوم الإنسان بين الإسلام والفكر الغربي
رابعاً : فكرة الفصل بين الدين والدولة(10/2)
خامساً : عدم نسيان فريضة الجهاد
( 4 ) حقائق مضيئة في مواجهة شبهات مثارة
أولاً : الإسلام : هل هو دين أم دين ومنهج حياة ؟
ثانياً : الحكم الإسلامي : هل هو أشبه بالحكم الديني الذي عرفته أوربا في العصور الوسطى ؟
ثالثاً : مقولة إن الإسلام مكانه القلب والوجدان
رابعاً : تصحيح نظرية المعرفة
خامساً : موقف الإسلام من العلوم التجريبية
سادساً : خطأ التعميم بين القيم
محاذير يجب توقيها وحماية الشباب المسلم منها محاولات التفكيك والتزييف والتدمير
مجموعة من الحقائق يجب أن يتدبرها الشباب المسلم
العلوم والعلوم التجريبية
( 1 ) علم الإنسان : بين مفهوم الإسلام ومفاهيم الفكر الغربي
( 2 ) التوجيه الإسلامي للعلوم التجريبية
الجزء السادس : المؤامرة على الإسلام
( 1 ) جذور المؤامرة
( 2 ) كرومر ودنلوب وزويمر رسموا المؤامرة
كرومر
دنلوب
زويمر
( 3 ) هدم الأصالة الإسلامية
( 4 ) فلتردد هذه السهام إلى صدور أصحابها
( 5 ) ما موقف المسلمين اليوم في مواجهة المؤامرات ؟
( 6 ) كيف نفهم مهمتنا في مواجهة الأخطار التي تحاصرنا؟
الحضارة الغربية :
( 1 ) الحضارة الغربية وهدم الدين
( 2 ) ليس أمام الغرب من منقذ إلا الإسلام
( 3 ) قصتان عالميتان : نهاية التاريخ وصراع الحضارات
المناهج الوافدة
( 1 ) مناهج وافدة كشف الإسلام زيفها
( 2 ) تصحيح المسيرة
( 3 ) حطم الإسلام مؤامرة التبعية وأمام منهج الأصالة
الحملة على الإسلام :
( 1 ) تصاعد الحملة على الإسلام
( 2 ) موقف الإسلام من : العلمانية والحداثة والتنوير
العلمانية
الحداثة
التنوير
هزائم العلمانية :
( 1 ) هزائم العمانية وانتصارات الإسلام
( 2 ) ماذا وراء مخططات استقطاب كتاب المسلمين للهجوم على الإسلام
ما هي عبرة الأحداث الأخيرة ؟
الجزء السابع :
التغريب والفكر المادي
( 1 ) هي أزمة التغريب والتبعية وليست أزمة الأصالة
( 2 ) الأباطيل التي أثارها التغريب
((10/3)
3 ) التبعية : بل هم قادة فكر التبعية للنفوذ الغربي
( 4 ) الفلسفة المادية : صياغة منهج الفلسفة في المدارس والجامعات تهدف إلى فتح الطريق أمام الإلحاد والماركسية
( 5 ) الإعصار الخطير الذي يضرب ثغورنا وحصوننا
( 6 ) في مواجهة احتواء الإسلام ومحاصرته واختراقه
المذاهب الهدامة
سقوط الحداثة الباطنية الرافضة
الإسلام في مواجهة المذاهب الهدامة
ربيع الحق وخريف الباطل
الفن وأسلمة الفنون
تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة
لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة
الاقتصاد الإسلامي
تحرير الاقتصاد الإسلامي : تقديم صيغة جديدة تحرراً اقتصادياً من التبعية للنظام الربوي العالمي
الجزء الثامن
المشروع الحضاري الإسلامي
ستكون الأمة الإسلامية قادرة على حماية وجودها
الإسلام الهوية والانتماء
إسلامية الهوية والانتماء
خطوة جديدة على طريق الأصالة
خلاصة القول
مواجهة على طريق الأصالة خطوة جديدة على طريق الأصالة بعد سقوط مؤامرة تزييف مفاهيم الإسلام
التوجه الإسلامي في الغرب : ( من محمد أسد إلى مراد هوفمان )
المصطلحات الوافدة
كشف زيف المصطلحات الوافدة وانهيار دعاوى قرن التنوير الباطلة
مصطلح " الدين " بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي
الإسلام والعصر
( 1 ) ماذا يعني التيار الإسلامي المستنير ؟
( 2 ) سيحطم الإسلام قيوده ويقدم منهج إسعاد البشرية
( 3 ) لقد خرج المسلمون من الطريق المسدود وبقى عليهم أن يقيموا مجتمعهم الرباني
( 4 ) المسلمون يتطلعون إلى عصر التبليغ
منابع الأصالة
منابع الأصالة في فكرنا الإسلامي وثقافتنا القرآنية وهل يمكن تجفيفها ؟
تجفيف ينابيع الثقافة والعقائد الإسلامية
خاتمة
مقال نشر في مجلة المجتمع
الفهرس(10/4)