وروى النسائي عن ميمونة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما من أحَدٍ يُدانُ دَيْناً فعلمَ اللهُ منه أنَّه يريدُ قضاءَه إلاَّ أدَّاه اللهُ عنه في الدنيا"1.
فإن صَدَقَ العبدُ في عَزمِه وصَلحُت نيَّتُه تيَسَّرت أمورُه، وأتاه الله باليُسر والفَرَج من حيث لا يَحتَسب، ومَن صَحَّ توكُّلُه على الله تكَفَّلَ الله بعونه وسدَّدَ أمرَه وقَضَى دَينَه.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّه ذَكَرَ رجلاً من بني إسرائيل سألَ بعضَ بني إسرائيل أن يُسلفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشهدُهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، فقال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقتَ، فدفعها إليه على أَجَل مسمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجتَه، ثمَّ التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّلَه، فلم يَجد مركباً، فأخذ خشبَةً فنَقَرَها فأدخلَ فيها ألفَ دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زَجَّجَ موضعَها [أي: سوَّى موضعَ النقر وأصلحَه] ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلَمُ أنِّي كنت تسلَّفتُ فلاناً ألفَ دينار، فسألني كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً، فرَضِيَ بك، وسألني شهيداً، فقلت كفى بالله شهيداً، فرَضِيَ بك، وإنِّي جَهَدتُ أن أجد مركباً أبعثُ إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستوْدِعُكَها، فرمَى بها في البحر حتى وَلَجَت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمسُ مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرَّجلُ الذي كان أسلَفَه ينظرُ لعلَّ مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشَرَها [أي: قطعها بالمنشار] وجد المالَ
__________
1 سنن النسائي (7/315) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:5677) .(3/201)
والصحيفةَ، ثم قدمَ الذي كان أسلَفَه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طَلَب مركبٍ لآتيكَ بمالك فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليَّ بشيء قال: أُخبرُك أنِّي لَم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنكَ الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرفْ بالألف الدينار راشداً"1.
فهذه قصَّةٌ عجيبة ذكرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الرَّجل من بني إسرائيل؛ لنَتَّعظَ بها ونعتَبِرَ، ولنعلمَ كمالَ قدرة الله، وتمامَ عونه، وحسنَ كفايته لعبده، إذا أحسن الالتجاءَ إليه، وصَدَقَ في الاعتماد عليه، وتأمَّل كمالَ التوفيق حيث لَم تقع هذه الخشبةُ المشتملةُ على المال إلاَّ في يد صاحبه، فتبارك الله العليمُ القدير.
ولا ينبغي للمسلم أن يستهينَ بأمر الدَّين أو يُقلِّلَ من شأنه أو يتهاونَ في سداده، فقد ورد في السُّنَّة أحاديثُ عديدة تفيد خطورة ذلك، وتدلُّ على أنَّ نفسَ المؤمن معلقةٌ بالدَّين، وأنَّ الميتَ محبوسٌ بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه.
روى الإمام أحمد عن سَعد بن الأطول رضي الله عنه قال: مات أخي وترك ثلاثَ مائة دينار، وترك فيه ولداً صغاراً، فأردتُ أن أنفقَ عليه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أخاك محبوسٌ بدَيْنه فاذهب فاقضِ عنه" قال: فذهبتُ فقضيتُ عنه ثم جئتُ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضيتُ عنه، ولم يبقَ إلاَّ امرأة تَدَّعِي دينارين، وليست لها بيِّنة، قال: "أَعطِهَا، فإنَّها صادقة"2.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:2291) .
2 مسند أحمد (4/136) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1550) .(3/202)
وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نفسُ المؤمن معلَّقَةٌ ما كان عليه دَين"1.
ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم إذا كان عليه دَينٌ أن يُبادرَ إلى سداده قبل أن يبْغَتَه الموتُ، فتُحبس نفسُه بدَيْنِه، ويكون مرتهناً به، وإذا لَم يكن عليه دَينٌ فليحمَد الله على العافية، وليتحاشَ الاستدانةَ ما لَم يكن لها حاجة داعيةً أو ضرورة مُلحَّةً؛ ليسلم مِن هَمِّ الدَّيْن، وليرح نفسه من عواقبه، وليكن في أَمَنَة من مغبَّته.
ففي المسند من حديث عُقبة بن عامر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُخيفوا أنفسَكم بعد أمْنِهَا" قالوا: وما ذلك يا رسول الله قال: "الدَّين"2.
أي: لا تسارعوا إلى الدَّيْن فتُخيفوا أنفسَكم من توابعه وعواقِبه، ونسأل الله لنا ولكم العافيةَ والسلامةَ والهدايةَ إلى كل خير.
__________
1 مسند أحمد (2/440) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1811) .
2 مسند أحمد (4/146) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2420) .(3/203)
155 / الأَذْكَارُ الَّتِي تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ
لقد وردَ في نصوص الكتاب والسُّنَّة أذكارٌ مباركةٌ وأدعيةٌ نافعةٌ تطرُدُ الشيطانَ وتباعدُه عن العبد المؤمن، ويكون بمواظبَته ومحافظته عليها في حصنٍ حَصين وحرزٍ مَكين يقيه ـ بإذن الله ـ من الشيطان الرجيم، فلا يَخلُصُ إليه ولا يَجد سبيلاً إلى إيذائه أو إغوائه؛ إذ لا سبيل للشيطان على المواظِب على ذِكر الله، المقبلِ على طاعة الله، وإنَّما سبيله على الذين يتَوَلَّونه، وسلطانه على الذين يُصغون إلى إغوائه ووساوسه ويطيعونه، ولهذا فإنَّ الحريَّ بالمؤمن أن يواظبَ على ما جاءت به الشريعةُ من أذكار وأدعية تَحمِي العبد من الشيطان وتقيه من كيده وشرِّه.
يقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1، ويقول تعالى: {وََإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2.
والاستعاذةُ هي طلب العوذ، يقال عُذت به واستعذت به أي: لَجأتُ إليه واستجرت به واعتصمتُ به، والاستعاذةُ بالله من الشيطان سؤالٌ لله وطلب منه سبحانه أن يعيذَ العبدَ من الشيطان، ويحميه منه ويقيه من شرِّه، ومَن استعاذ بالله أعاذه، ومَن اعتَصمَ به هُديَ إلى صراط مستقيم، وعليه فإنَّ الاستعاذةَ بالله تَطردُ الشيطانَ وتُحصنُ العبدَ.
روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة: المؤمنون، الآيتان (97 ـ 98) .
2 سورة: فصلت، الآية (36) .(3/204)
فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَعُوذ بِاللهِ مِنْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ ثَلاَثاً، وَبَسَطَ يَدَهَ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئاً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئاً لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذ بِاللهِ مِنْكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلاَ دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقاً يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ المَدِينَةِ "1.
وروى أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثاً. قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي "2.
وقوله: "يلبسُها عليَّ" أي: يَخلطها علي ويُشَكِّكُنِي فيها.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ"3.
فهذه النصوصُ ظاهرةُ الدلالة على عِظم شأن الاستعاذة، وأنها تطرُدُ الشيطانَ وتقي العبدَ منه، ويسلمُ بها من كيده ووساوسه وشرِّه.
ومِمَّا يطردُ الشيطانَ الأذانُ، فإنَّ الشيطانَ إذا سمعَه ولَّى وأدْبَر، ففي
__________
1 صحيح مسلم (رقم:542) .
2 صحيح مسلم (رقم:2203) .
3 صحيح البخاري (رقم:3276) ، وصحيح مسلم (رقم:134) .(3/205)
الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا نُودِيَ لِلْصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ" 1.
وفي صحيح مسلم عن سُهيل بن أبي صالح قال: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ، قَالَ: وَمَعِي غُلاَمٌ لَنَا أَوْ صَاحِبٌ لَنَا، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَبِي، فَقَالَ: لَوْ شَعُرْتُ أَنَّكَ تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إِذا سَمِعْتَ صَوْتاً فَنَادِ بِالصَّلاَةِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ "2.
والحُصاص أي: الضُّرَاط، وقيل شدة العدو.
ومِمَّا يقي العبدَ من الشيطان ويطرُدُه عنه مواظبتُه على ذكر الله في كلِّ أحواله؛ عند الدخول وعند الخروج وعند الركوب وعند النوم وغير ذلك.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3، ويقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 4.
وفي سنن الترمذي والمسند بإسناد صحيح عن الحارث الأشعري، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله سبحانه أمَرَ يحيى بنَ زكريا بخمس كلمات أن
__________
1 صحيح البخاري (رقم:608) ، وصحيح مسلم (رقم:389) .
2 صحيح مسلم (رقم:389) .
3 سورة: الأعراف، الآية (201) .
4 سورة: الزخرف، الآية (36) .(3/206)
يعملَ بها ويأمرَ بني إسرائيل أن يَعملوا بها، وإنَّه كاد أن يُبْطئَ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنَّ الله أمرَكَ بخمس كلمات لتعملَ بها وتأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمَّا أن تأمرَهم وإمَّا أن آمرَهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني أن يُخسفَ بي أو أُعذَّب، فجمعَ الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنَّ الله أمرني بخمس كلمات أن أعملَ بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهن …" فذكر أمرهم بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة ثم ذكر الكلمة الخامسة، فقال: "وآمرُكم أن تذكروا الله، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوُّ في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبد لا يحرزُ نفسَه من الشيطان إلاَّ بذكر الله …"1.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استجنَح الليلُ أو كان جُنح اللَّيل، فكُفُّوا صبيانكم، فإنَّ الشياطينَ تنتَشر حينئذ، فإذا ذهبَ ساعةٌ من العشاء فخَلُّوهم، وأغلقْ بابَك واذكر اسمَ الله، وأطفئْ مصباحَك واذكر اسمَ الله، وأَوْك سقاءَك واذكر اسم الله، وخَمِّر إناءَك واذكر اسمَ الله، ولو تَعْرُضُ عليه شيئاً" 2.
فالمسلمُ إذا كان ذاكراً ربه في كلِّ أحايينه فإنَّه يَسلم من أذى الشيطان ومن أن يَحضرَه، فلا يخلصُ إليه لا وسوسةً ولا حضوراً للمكان الذي هو فيه، كما تقدَّم في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
__________
1 سنن الترمذي (رقم:2863) ، ومسند أحمد (4/130) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1724) .
2 صحيح مسلم (رقم:2012) .(3/207)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1.
وقد سبق أن مَرَّ معنا أنواعٌ من الأذكار مَن قالَها حُفظ من الشيطان، كالتسمية عند دخول المنْزل، وعند تناول الطَّعام، وكقراءة آية الكرسي عندما يَأوي المسلمُ إلى فراشه، فإذا قرأها لَم يزل عليه من الله حافظٌ ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، ومَن قال إذا أصبح: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد وهو على كل شيء قدير" عشر مرَّات كان في حرز من الشيطان حتى يُمسي، ومَن قالها إذا أمسى كان في حرز من الشيطان حتى يُصبح، ومَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، أي: من كلِّ شَرٍّ، ومن ذلك شَرّ الشيطان، وإذا قال المسلمُ عند خروجه من منْزله: "بسم الله توكَّلتُ على الله لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، تَنَحَّى عنه الشيطانُ" إلى غير ذلك من الأذكار المباركة المأثورة في سُنَّة النَّبِيِّ الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
1 سورة: المؤمنون، الآيتان (97 ـ 98) .(3/208)
156 / مَا يُرْقَى بِهِ المَرِيضُ
لقد جاء في السُّنَّة المطهرة أنواعٌ من الأذكار والأدعية يُشرعُ أن يرقى بها المريضُ، وقد جعلها اللهُ سبباً للشِّفاء والعافية، وسأتناول طائفةً مباركةً من هذه الأذكار والأدعية، وإنَّ أعظمَ ما يُرقى به المريضُ فاتحةُ الكتاب أمُّ القرآن، فإنَّها كافيةٌ شافيةٌ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللهِ، إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، حَتَّى لَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ [أي: ألَمٌ وعلَّة] ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُم الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرُ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرُ مَا يَأَمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ "1.
فدلَّ هذا الحديثُ على عِظم شأن هذه السورة، وأنَّ لها تأثيراً عظيماً في شفاء المريض وزوال علَّته بإذن الله.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5749) ، وصحيح مسلم (رقم:2201) .(3/209)
قال ابن القيم رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: "فقد أثَّرَ هذا الدواءُ في هذا الداء وأزالَه، حتى كأنَّه لَم يكن، وهو أسهلُ دواء وأيسرُه، ولو أحسنَ العبدُ التداوي بالفاتحة لرأى لَها تأثيراً عجيباً في الشِّفاء، ومكثتُ بمكَّةَ مدة يعترينِي أدواءٌ ولا أجدُ طبيباً ولا دواءً، فكنتُ أعالج نفسي بالفاتحة، فأَرَى لها تأثيراً عجيباً، فكنتُ أصفُ ذلكَ لِمَن يشتكي ألَماً، فكان كثيرٌ منهم يبْرأُ سريعاً"1 اهـ.
ومِمَّا يُرقَى به المريض المعوِّذات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا" 2.
وفي صحيح مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرِض أحدٌ مِن أهله نفث عليه بالمعَوِّذات"3.
وقولها: "بالمعَوِّذات" أي: الإخلاص والفلق والناس، ودخلتْ سورةُ الإخلاص معهما تغليباً لِمَا اشتملتْ عليه مِِن صفةِ الرَّبِّ وإن لَم يُصرّح فيها بلفظ التعويذ4.
وقد دلَّ الحديثُ على عِظَم شأن هذه السُوَر الثلاثة وأنَّها رُقيةٌ وشفاءٌ للوجع بإذن الله، وقد ورد في شأن هذه السُوَر أحاديثُ كثيرةٌ تدلُّ على عِظم
__________
1 الجواب الكافي (ص:5) .
2 صحيح البخاري (رقم:5016) ، وصحيح مسلم (رقم:2192) .
3 صحيح مسلم (رقم:2192) .
4 انظر: فتح الباري لابن حجر (9/62) .(3/210)
شأنها، وسُورَتَا المعوذتين لهما تأثيرٌ عظيمٌ لا سِيَما إن كان المرضُ ناشئاً عن سحرٍ أو عَيْنٍ أو نحو ذلك.
قال ابنُ القيم رحمه الله في مقدمة تفسيره للمعوذتين: "والمقصودُ الكلامُ على هاتين السورتين وبيانُ عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنَّه لا يستغني عنهما أحدٌ قطُّ، وأنَّ لهما تأثيرًا خاصاًّ في دفع السِّحر والعيْن وسائرِ الشّرور وأنَّ حاجةَ العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظمُ مِن حاجته إلى النَّفَس والطّعام والشّراب واللِّباس"1، ثمَّ بسط الكلامَ عليهما بسطاً عظيمَ النفع والفائدة.
وِممَّا يرقى به المريضُ ما ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنَّه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعاً في جسده منذ أسلَم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ بِاسْمِ اللهِ ثَلاَثاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"2.
وقوله: "مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" أي: مِن شرِّ ما أجدُ مِن وجَعٍ وألمَ، ٍ ومِن شرِّ ما أحاذرُ مِن ذلك، أي: ما أخافُ وأَحْذر.
وهذا فيه التعوُّذ مِن الوجع الذي هو فيه، والتعوُّذ مِن الوجع الذي يَخاف حصولَه أو يتوقَّعُ حصولَه في المستقبل، ومِن ذلك تفاقمُ المرض الذي هو فيه وتزايُدُه، وهذا يحصل للإنسان كثيراً عند ما يصاب بمرضٍ فإنَّه قد ينتابُه شيءٌ مِن القلق تخوُّفاً مِن تزايُد المرضِ وتفاقمِه، وفي هذا الدعاء العظيم تعوُّذٌ بالله من ذلك.
__________
1 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/199) .
2 صحيح مسلم (رقم:2202) .(3/211)
وثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا مُحَمَّد، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ. اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ"1.
وثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِه اليُمْنَى وَيَقُول: اللَّهمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البَاسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً"2، وفي رواية عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منَّا إنسانٌ مسحه بيمينه ثم قال: وذكرتِ الدعاءَ3، وفي روايةٍ قالت: "إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَرقي بهذه الرُّقية وذكرته"4.
وفي صحيح البخاري عن عبد العزيز بن صُهيب قال: "دخلتُ أنا وثابتٌ على أنس بن مالك فقال ثابتٌ: يا أبا حمزة اشتكيتُ، فقال أنس: ألا أَرقيك برُقية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى، قال: اللَّهمَّ ربَّ النَّاس، مُذهبَ الباسَ، اشف أنتَ الشافي، لا شافِيَ إلاَّ أنتَ، شفاءً لا يُغادرُ سَقَماً"5.
قوله: "اللَّهمَّ ربَّ النَّاس" فيه التوسُّلُ إلى الله بربوبيَّته للنَّاس أجمعين، بخلقِهم وتدبيرِ شؤونهم وتصريفِ أمورهم، فبيده سبحانه الحياةُ والموتُ، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والقوَّة والضعف.
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2186) .
2 صحيح البخاري (رقم:5743) ، وصحيح مسلم (رقم:2191) .
3 صحيح مسلم (رقم:2191) .
4 صحيح مسلم (رقم:2191) .
5 صحيح البخاري (رقم:5742) .(3/212)
وقوله: "أَذْهِب الباسَ" والبأسُ هو التَّعبُ والشدَّةُ والمرضُ، وهو هنا بغير هَمزة مراعاة للازدواج والمؤاخاة.
وجاء في حديث أنس: "اللَّهمَّ ربَّ الناسِ، مُذهب الباس" وفي هذا التوسُّلُ إلى الله سبحانه بأنَّه وحده المذهبُ للبأس، فلا ذهابَ للبأس عن العبد إلاَّ بإذنه ومشيئته سبحانه.
وقوله: "واشفه وأنت الشافي" فيه سؤالُ الله الشفاء وهو العافيةُ والسلامةُ من المرض، وقوله: "وأنت الشافي" توسُّلٌ إلى الله سبحانه بأنَّه الشافي الذي بيده الشفاء، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 1.
وقوله: "لا شفاء إلاَّ شفاؤك" فيه تأكيدٌ لِمَا سبق، وإقرارٌ بأنَّ العلاجَ والتداوي إن لَم يوافق إذناً من الله بالعافية والشِّفاء، فإنَّه لا ينفع ولا يُجدي.
وقوله: "شفاءً لا يغادر سَقَماً" أي: لا يتركُ مرَضاً ولا يخلف علَّةً، والفائدةُ من هذا أنَّ الشفاءَ من المرض قد يَحصل، ولكن قد يَخلُفُه مرضٌ آخرُ يَتَوَلَّد منه وينشأُ بسببه، فسأل اللهَ أن يكون شفاؤُه من المرض شفاءً تامًّا لا يبقى معه أثرٌ، ولا يخلف في المريض أيَّ علَّة، وهذا من تَمام الدعوات النبوية وكمالها ووفائها.
__________
1 سورة: الشعراء، الآية (80) .(3/213)
157 / التعوُّذ من السِّحر والعين والحسد
إنَّ من الأدواء الفتَّاكة والشرِّ العظيم ما يكون في الإنسان من مرَضٍ بسبب السِّحر أو العين أو الحسَد، والسِّحرُ له تأثيرٌ بالغٌ في المسحور، فقد يُمرضُ وقد يَقتل، وهكذا الشأنُ في عين الحاسد إذا تكيَّفت نفسُه بالخبث، واستجمع في قلبه الشَّرُّ، فإنَّه يَضُرُّ بالمحسود، فربَّما أمرضَه وربَّما قتله، فالسِّحرُ له حقيقةٌ وتأثير، والحَسَدُ له حقيقةٌ وتأثير.
وإنَّ من نعمة الله على عبده المؤمن أن هَيَّأَ له أسباباً مباركةً وأموراً نافعةً، يندفع بها عنه شَرُّ هؤلاء، ويزول بها عنه ضُرُّهم والبلاءُ النازلُ به بسببهم، وقد أجْمَلَ العلاَّمة ابنُ القيم رحمه الله ذلك في عشرة أسباب عظيمة إذا قام بها العبد وطبَّقَها زال عنه شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر.
السَّبب الأول: التعوُّذ بالله من شَرِّه والتَّحصُّنُ به واللَّجأ إليه، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
والله تعالى سميعٌ لِمَن استعاذ به، عليمٌ بما يستعيذ منه، قادرٌ على كلِّ شيء، وهو وحده المستعاذ به، لا يُستعاذ بأحد من خلقه، ولا يُلجأُ إلى أحد سواه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويَعصمُهم ويَحميهم مِن شَرِّ ما استعاذوا من شَرِّه.
وحقيقةُ الاستعاذة الهروبُ من شيء تَخافُه إلى من يَعصمُك ويَحميك منه، ولا حافظَ للعبد ولا معيذَ له إلاَّ الله، وهو سبحانه حَسْبُ من توكَّلَ عليه، وكافي من لَجأَ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف ويُجيرُ المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير.(3/214)
السبب الثاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونَهيه، فمَن اتَّقى اللهَ توَلَّى حفظَه ولَم يَكلْه إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1 وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظ الله تَجده تجاهَك" فمَن حفظ اللهَ حفظه الله، ووجدَه أمامَه أينما توجَّه، ومَن كان اللهُ حافظَه وأمامَه فمِمَّن يخاف ومِمَّن يحذر
السبب الثالث: الصَّبرُ على عدوِّه وأن لا يقاتلَه ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصرَ على حاسده وعدوِّه بمثل الصَّبر عليه، وكلَّما زاد بغيُ الحاسد كان بغيُه جنداً وقوةً للمبغي عليه، يقاتل بها الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيُه سهمٌ يرميها من نفسه إلى نفسه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 2 فإذا صبَرَ المحسودُ ولم يستطل الأمرَ نال حُسنَ العاقبة بإذن الله.
السبب الرابع: التوكُّل على الله، فمَن يتَوكَّل على الله فهو حَسبه، والتوكُّلُ من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيقُ من أذى الخَلْق وظُلمهم وعدوانهم، ومَن كان الله كافيه فلا مطمَعَ فيه لعدوٍّ، ولو توكَّل العبدُ على الله حقَّ توكُّله، وكادته السموات والأرضُ ومَن فيهنَّ لَجعلَ له مخرجاً من ذلك وكفاه ونَصرَه.
السبب الخامس: فراغُ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصدَ أن يَمحوه من باله كلَّما خَطر له، فلا يلتفتُ إليه، ولا يخافُه، ولا يملأ قلبَه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعِينة على اندفاع شرِّه، فإنَّ هذا
__________
1 سورة: آل عمران، الآية (120) .
2 سورة: فاطر، الآية (43) .(3/215)
بمنْزلة من يَطلبه عدوُّه ليمسكَه ويؤذيه، فإذا لَم يتعرَّض له ولا تَماسَك هو وإياه، بل انعزل عنه لَم يقدر عليه، فإذا تَماسكَا وتعلَّق كلٌّ منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ، وهكذا الأرواحُ سواء، فإذا تعلَّقت كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرارُ ودام الشَّرُّ حتى يهلك أحدُهما، فإذا جبذ روحَه عنه وصانَها عن الفكر فيه والتعلُّق به، وأخذ يشغل بالَه بما هو أنفعُ له بقي الحاسدُ الباغي يأكلُ بعضُه بعضاً، فإنَّ الحسدَ كالنار، إذا لَم تَجد ما تأكله أكلَ بعضُها بعضاً.
السبب السادس: الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبته ونيلِ رضاه والإنابةِ إليه في كلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئاً فشيئاً حتى يقهرَها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسه وأمانيه كلُّها في محابِّ الرَّب والتقرُّب إليه وذكره والثناء عليه، قال تعالى عن عدوه إبليس أنَّه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1، فالمخلص بمثابة مَن آوى إلى حصن حصين، لا خوفَ على مَن تَحصَّن به، ولا ضَيعَة على مَن آوى إليه، ولا مَطمَعَ للعدوِّ في الدُّنُوِّ منه.
السبب السابع: تَجريدُ التوبة إلى الله من الذنوب التِي سلطت عليه أعداءه، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 2) فما سُلِّطَ على العبد مَن يؤذيه إلاَّ بذنب، يَعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مِمَّا عَلِمَه وعَمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن
__________
1 سورة: ص، الآيتان (82 ـ 83) .
2 سورة: الشورى، الآية (30) .(3/216)
أُشركَ بكَ وأنا أعْلَمُ وأستغفرِكُ لِمَا لا أعْلَم"1، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يَعلمه، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذ إلاَّ بذنب، وليس في الوجود شَرٌّ إلاَّ الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفِي من الذنوب عُوفِي من موجباتها، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومُه شيءٌ أنفعَ له من التوبة النصوح من الذنوب التي كانت سبباً لتسلُّط عدوِّه عليه.
السبب الثامن: الصَّدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإنَّ لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشَرِّ الحاسد، فما يكاد العينُ والحسدُ والأذى يتسلَّط على محسن مُتصدِّق، وإن أصابه شيءٌ من ذلك كان معامَلاً فيه باللُّطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبةُ الحميدة، والصدقة والإحسانُ من شكر النعمة، والشُّكرُ حارسُ النعمة من كلِّ ما يكون سبباً لزوالها.
السبب التاسع: أن يطفئَ نارَ الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلَّما ازداد أذى وشرًّا وبغياً وحسداً ازددتَ إليه إحساناً وله نصيحةً وعليه شفقةً، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 2، وتأمَّل في ذلك حالَ النَّبِيِّ عليه السلام الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّه ضربه قومُه حتى أدموه فجعل يسلت الدَّم عنه ويقول: " اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعملون "3.
__________
1 رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم:719) من حديث معقل بن يسار، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:551) .
2 سورة: فصلت، الآيتان (34 ـ 35) .
3 صحيح البخاري (رقم:3477) ، وصحيح مسلم (رقم:1792) .(3/217)
السبب العاشر: تجريدُ التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم، والعلم بأنَّ كلَّ شيء لا يَضُرُّ ولا ينفع إلاَّ بإذن الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1، وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " واعْلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوك إلاَّ بشيء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك لَم يَضُرُّوك إلاَّ بشيء كتبه الله عليك" 2، فإذا جرَّد العبدُ التوحيدَ فقد خَرَجَ من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّه أهونَ عليه من أن يَخافه مع الله، بل يُفرِدُ اللهَ بالمخافة، ويَرى أنَّ إعمالَه فكره في أمر عدوِّه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جَرَّد توحيدَه لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإنَّ الله يدافعُ عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمناً فالله يدافع عنه ولا بدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كمُلَ إيمانُه كان دفاعُ الله عنه أتَمَّ دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرَّة ومرة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعض السلف: "مَن أقبلَ على الله بكليَّتِه أقبلَ الله عليه جُملة، ومَن أعرَضَ عن الله بكليَّته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة مرة".
فالتوحيدُ حصنُ الله الأعظم الذي مَن دخلَه كان من الآمنين، قال بعض السلف: "مَن خاف اللهَ خافه كلُّ شيء، ومن لَم يَخَفِ الله أخافه اللهُ من كلِّ شيء".
فهذه عشرةُ أسباب عظيمة يندفعُ بها شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر3، ونسأل الله الكريم أن يقيَنا والمسلمين من الشُّرور كلِّها إنَّه سميع مجيب.
__________
1 سورة: يونس، الآية (107) .
2 سنن الترمذي (رقم:2516) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:7957) .
3 انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/238 ـ 246) .(3/218)
مايقال عند المريض
...
158 / ما يُقال للمريض
لقد جاء الإسلامُ بالحثِّ على مراعاة حقِّ المريض وتعاهدِه بالزيارة، والدعاء له بالشِّفاء والعافية، وبيان أنواع من الأدعية يَحسُن أن تُقال عند زيارةِ المريض، وكلُّ هذه الرعاية والتعاهد والدعاء ينطلقُ من كون المؤمنين حالُهم كالنفس الواحدة، فما يُفرِحُ الواحد منهم يُفرحُ الجميعَ، وما يُؤلِمُ الواحد يُؤلِمُ الجميعَ، ففي الصحيحين عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتعاطفِهم مَثَل الجسد، إذا اشتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى"1، وفي رواية لمسلم: "المسلمون كرجل واحدٍ، إن اشتَكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتَكى رأسُه اشتكى كلُّه "2.
ولهذا شُرعت عيادةُ المرضى لمواساتِهم وتَهوين الأمر عليهم، وجُعِلَ ذلك حقًّا من حقوقهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لَقيتَه فسَلِّم عليه، وإذا دعاك فأَجبْه، وإذا استَنْصَحَك فانصحْ له، وإذا عَطِسَ فحَمدَ اللهَ فشَمِّته، وإذا مَرضَ فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْه "3، وجاء في نصوص كثيرة بيانُ فضل مَن يَزور المرضَى وعِظم ثوابه عند الله.
روى مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائِدُ المريض في مَخْرفَة الجنة حتى يَرجع"، وفي رواية قال: "مَن
__________
1 صحيح البخاري (رقم:6011) ، وصحيح مسلم (رقم:2586) .
2 صحيح مسلم (رقم:2586) .
3 صحيح مسلم (رقم:2162) .(3/219)
عاد مريضاً لَم يَزل في خُرْفَة الجنة. قيل يا رسول الله! وما خُرْفة الجنة قال: جناها "1، أي: أنَّه في بساتين الجنة يَختَرفُ منها ما يشاء ويَجْتَنِي منها ما يريد.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن عادَ مريضاً أو زارَ أخاً له في الله ناداه مُنادٍ: أن طِبْتَ وطابَ مَمشَاك، وتَبَوَّأتَ من الجنة مَنْزلاً"2، والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة.
ويُستحَب للمسلم إذا عاد مريضاً أن يُطَمْئنَه ويُهوِّنَ الأمرَ عليه ويُذكِّرَه بثواب الله، وأنَّ في المرض تكفيراً له وتطهيراً.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ! كَلاَّ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبيرِ تُزِيرُهُ القُبُورَ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا "3.
وقوله: "طَهور إن شاء الله" هو خبَر مبتدأ محذوف أي: هو طهور لك من ذنوبك أي مُطَهِّر لك منها.
وفي السنن للإمام أبي داود عن أمِّ العلاء رضي الله عنها قالت: عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضةٌ، فقال: "أَبْشري يا أمَّ العلاء، فإنَّ مرضَ المسلم يُذهبُ اللهُ به خطاياه كما تُذهبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهب والفضة"4.
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2568) .
2 سنن الترمذي (رقم:1931) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3474) .
3 صحيح البخاري (رقم:5656) .
4 سنن أبي داود (رقم:2688) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3438) .(3/220)
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمِّ السائب أو أمِّ المسيّب رضي الله عنها، فقال: "مالك يا أمَّ السَّائب أو أمَّ المسيب تُزَفْزِفِين (أي: تَرعدين) قالت: الحمَّى لا باركَ اللهُ فيها، فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى، فإنَّها تُذهبُ خطايَا بَنِي آدم كما يُذهبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديد"1.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن سعيد بن وهب قال: "كنتُ مع سَلمان وعاد مريضاً في كِنْدَة فلمَّا دخل عليه قال: أَبشِر، فإنَّ مرضَ المؤمن يَجعلُه الله له كفارةً ومستعتبًا، وإنَّ مرضَ الفاجر كالبعير عَقله أهلُه ثمَّ أرسلوه، فلا يدري لَم عُقل ولِم أُرسِل"2.
فبَشَّرَه، وذكَّره بأنَّ المصائبَ التي تُصيبُ المؤمنَ في بدنه كلَّها كفارات لخطاياه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما يصيبُ المسلمَ من نَصب ولا وَصَب ولا هَمٍّ ولا حزن ولا أَذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكة يُشاكُها إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه "3.
وقوله: "ومستعتباً" أي: أنَّه في مرضه يَتَهيَّأ له من استذكار ذنوبه ومعرفة خَطئه وتقصيره ما لا يتهيَّأ له حالَ صحَّته وعافيته، وحينئذ يكون مرضُه سبباً لمعاتبة نفسه على التقصير، ودافعاً للرجوع عن الإساءة وطلب الرضا، هذا بالنسبة للمؤمن، أمَّا الفاجر فشأنُه عند ما يَمرض كشأن البعير الذي قيَّده أهلُه بالعقال ثم أطلقوه، فهو لا يدري لِمَ قُيِّد ولِمَ أُطلِق، فهو
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2575) .
2 الأدب المفرد (رقم:493) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:379) .
3 صحيح البخاري (رقم:5642) ، وصحيح مسلم (رقم:2573) .(3/221)
مستَمرٌّ في غيِّه متَمَادٍ في فُجوره، لا يكونُ له في مرضه عِبرةٌ، ولا يحصل له بسببه عظةٌ.
وينبغي على مَن أراد عيادةَ مريض أن يَتخيَّر الوقتَ المناسبَ لعيادته؛ لأنَّ مقصودَ العيادة إراحةُ المريض وتطييبُ قلبه، لا إدخالُ المشقَّة عليه، ولهذا أيضاً عليه أن لا يُطيلَ المُكثَ والجلوسَ عنده، إلاَّ إن أحَبَّ المريضُ ذلك وكان في الجلوس فائدةٌ ومصلحة.
ومن السُّنَّة للعائد أن يَجلسَ عند رأس المريض، ففي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عادَ المريضَ جَلَسَ عند رأسه، ثمَّ قال سَبعَ مرار: أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك، فإن كان في أجله تأخيرٌ عُوفي من وَجَعه"1.
ومن السُّنَّة أن يَضَعَ العائدُ يدَه على جسد المريض عند ما يريد الدعاء له، ففي الصحيحين لَمَّا عاد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سعد بنَ أبي وقاص رضي الله عنه وَضَعَ يدَه على جَبهتِه، ثمَّ مَسَحَ يدَه على وجهه وبَطنه، ثم قال: "اللهمَّ اشْفِ سَعْداً" 2، وفي وَضْع اليد على المريض تأنيسٌ له، وتعرف على مرضه شدَّة وضعفاً، وتلطف به.
ثمَّ ينبغي للعائد أن يَنصَحَ للمريض بالدعاء، وأن لا يقولَ عنده إلاَّ خيراً ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنون على ما تقولون"3.
__________
1 الأدب المفرد (رقم:536) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:416) .
2 صحيح البخاري (رقم:5659) ، وصحيح مسلم (رقم:1628) .
3 صحيح مسلم (رقم:919) .(3/222)
وعليه أن يتخيَّرَ من الدعاء أجمعَه، وأن يَحرصَ على الدعوات المأثورة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّها دعواتٌ مباركةٌ جامعةٌ للخير، معصومةٌ من الخطأ والزَّلَل كأن يقول: "اللَّهمَّ اشف فلاناً"، أو يقول: "طَهورٌ، إن شاء الله"، أو يقول: "أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك"، أو يقول: "اللَّهمَّ رَبَّ الناس أذهب الباسَ، واشفه وأنت الشافي، لا شفاءَ إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سَقَماً" وقد مَضت معنا الأحاديثُ في ذلك، أو أن يرقِيَهُ بفاتحة الكتاب والمعوِّذات، وقد مضى حديثُ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك، أو أن يرقيه بقوله: "باسم الله أَرْقيك مِن كلِّ شيء يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كلِّ نفس أو عَين حاسد اللهُ يشفيكَ، باسم الله أَرْقيك"، وهي الرُّقيةُ التي رَقَى بها جبريلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشتكى، أو أن يَقولَ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: بِسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا" 1.
وعلى المعافَى عند رؤية المرضَى أن يَتَّعظَ ويعتَبِرَ، وأن يحمدَ اللهَ على نعمة الصِّحة والعافية، وأن يسأله سبحانه المعافاة.
ونسأل الله الكريم أن يَشفيَ مرضَانا ومرضَى المسلمين, وأن يَكتبَ للجميع الصِّحةَ والسلامة والعافية، إنَّه سَميعٌ مجيب.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5745) ، وصحيح مسلم (رقم:2194) .(3/223)
ما يقال عند حضرة الموت
...
159 / مَا يُقالُ عند مَنْ حَضَرَهُ المَوْتُ
سبق الكلامُ على جملة من الآداب المتعلِّقة بعيادة المريض، والأدعية التي يَحسنُ أن تُقال عند عيادته، والحديثُ هنا سيكونُ عمَّا يُفعلُ ويُقال عند مَن حَضَرَته الوفاةُ، وكذلك ما يَقوله مَن حَضَرته الوفاةُ.
وأهمُّ شيءٍ في ذلك الدعاءُ له وأن لا يَقولَ في حضوره إلاَّ خيراً، ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضَرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولُوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقولُون"1.
وأن يَحرصَ على تلقِينِه كلمةَ التوحيد لا إله إلاَّ الله؛ لتكونَ آخرَ كلامه من الدُّنيا، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَقِّنُوا موتاكم لاَ إله إلاَّ الله " رواه مسلم2، والمرادُ بقوله: "موتاكم" أي: مَن حَضَرَه الموتُ منكم، لا مَن مات فعلاً.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ" رواه أبو داود3.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يَعلمُ أنَّه لا إله إلاَّ الله دخل الجنة" رواه مسلم4.
__________
1 سبق تخريجه.
2 صحيح مسلم (رقم:916) .
3 سنن أبي داود (رقم:3116) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6479) .
4 صحيح مسلم (رقم:26) .(3/224)
وثبت في المسند للإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلاَّ لله، فقال: أَخَالٌ أم عَم فقال: بل خال، فقال: فخَيْرٌ لي أن أقولَ: لا إله إلاَّ الله؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نعم"1.
ومن لطيف ما روي في هذا الباب قصَّةُ الإمام المحدث أبي زرعة الرازي رحمه الله عندما حضرته الوفاةُ، وهي قصَّةٌ ثابتةٌ رواها غير واحد من أهل العلم عن أبي عبد الله محمد بن مسلم البادي قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس عند أبي زرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرازي وهو في النَّزْع، فقلت لأبي حاتم: تعال حتى نُلَقِّنَه الشهادةَ، فقال أبو حاتم: إنِّي لأستحيي من أبي زرعة أن أُلَقِّنَه الشهادةَ، ولكن تعال حتى نتذاكرَ الحديثَ، فلعلَّه إذا سمعَه يقول، قال محمد بن مسلم: فبدأتُ فقلتُ: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، فارْتَجَّ عليَّ الحديثُ، حتى كأنِّي ما سمعتُه ولا قرأتُه، فبدأ أبو حاتم وقال: حدثنا محمد بنُ بشار، قال: حدَّثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، فارتَجَّ عليه حتى كأنَّه ما قرأه ولا سمعه، فبدأ أبو زُرعة: (أي: وهو في النَّزْع) وقال: حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي عَريب، عن كثير بن مُرَّة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ آخرَ كلامه مِن الدُّنيا لا إله إلاَّ الله" وخرجتْ روحُه مع الهاء، من قبل أن يَقولَ دخل الجنَّة"2.
__________
1 مسند أحمد (3/154) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/305) : "ورجاله رجال الصحيح".
2 رواها ابن البنا في فضل التهليل وثوابه الجزيل (ص 80 ـ 81) ، وانظر القصة مختصرة برواية عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (1/345 ـ 346) .(3/225)
ومن الدعوات العظيمة التي يَحسن بالمحتضَر أن يدعوَ الله بها سؤالُه سبحانه المغفرةَ والرحمةَ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى "1.
ومِمَّا يَحسنُ أن يُذكَّر به المحتضَر إحسانُ الظَّنِّ بربِّه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث، يقول: " لا يَموتَنَّ أحدُكم إلاَّ وهو يُحسنُ بالله الظَّنَّ" رواه مسلم2.
وروى ابنُ أبي الدنيا في كتابه حسن الظن بالله، عن إبراهيم النخعي أنَّه قال: "كانوا يَستَحِبُّون أن يُلَقِّنوا العبدَ مَحاسنَ عَمله عند موتِه؛ لكي يُحسنَ ظَنَّه بربِّه عز وجل"3.
ولَم يثبت حديثٌ صحيحٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدلُّ على مشروعية قراءة شيءٍ من القرآن الكريم على المحتضَر، وحديث: " اقرؤوا ياسين على موتاكم " حديثٌ ضعيف لَم يثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كما نبَّه على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم4.
ثم إنَّ هناك أموراً ينبغي على المحتضَر مراعاتُها وملاحظتها:
مِن ذلك أنَّ عليه أن يَرضَى بقضاء الله ويصبر على قدَرِه؛ لينالَ أجرَ الصابرين وثوابَ المحتسبين، ففي صحيح مسلم عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
1 صحيح البخاري (رقم:4440) ، وصحيح مسلم (رقم:2444) .
2 صحيح مسلم (رقم:2877) .
3 حسن الظن بالله (رقم:30) .
4 انظر: إرواء الغليل (3/150) .(3/226)
"عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ"1.
وعليه أن يَحذرَ من تَمَنِّي الموت، حتَّى وإن اشتدَّ به المرضُ وزاد عليه الألَمُ، لِمَا في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَتَمَنَّيَنَ أحدُكُم الموتَ لضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً فليقل: اللَّهمَّ أحْيِنِي ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفَّنِي ما كانتُ الوفاةُ خيراً لي"2.
وفي المسند للإمام أحمد عن أمِّ الفضل رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ عليهم وعبَّاسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتَمَنَّى عبَّاس الموتَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عمّ لا تَتَمَنَّ الموتَ، فإنَّك إن كنتَ مُحسناً فأن تُؤَخَّر تَزْدَدْ إحساناً إلى إحسانك خيرٌ لك، وإن كنتَ مُسيئاً فأن تُؤَخَّرَ تَستعتِب من إساءَتِك خيرٌ لك، فلا تَتَمَنَّ الموتَ"3.
وينبغي عليه أن يَجمع لنفسه بين الرَّجاء والخوف، رجاءِ رحمة الله والخوف من عقابه على ذنوبه، فقد روى الترمذي وابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على شاب وهو بالموتِ، فقال: كيف تَجدُك قال: والله يا رسولَ الله إنِّي أرجو اللهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يَجتَمعان في قَلب عَبدٍ في مثل هذا المَوطِن إلاَّ أعطاهُ الله ما يرجو وأمَّنَه مِمَّا يَخاف"4.
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2999) .
2 صحيح البخاري (رقم:3651) ، وصحيح مسلم (رقم:2680) .
3 المسند (6/339) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3368) .
4 سنن الترمذي (رقم:905) ، وسنن ابن ماجه (رقم:4351) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه
الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3383) .(3/227)
ويُستَحبُّ له أن يَكتب وَصيَّتَه، وإن كان عليه حقوقٌ فلْيَرُدَّها إلى أصحابها إن أمكنه ذلك، وإلاَّ أوصى بذلك، والوصيَّةُ واجبةٌ بماله وما عليه من الحقوق؛ لئلاَّ تضيعَ لِمَا في الصحيحين عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا حَقُّ امرئ مُسلم يَبيتُ لَيْلَتَيْن، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلاَّ وَصِيَّتُه مكتوبةٌ عند رأسه"1.
وأمَّا الوصيَّةُ بشيء من ماله بأن تُصرف في سُبُل البِرِّ والإحسان؛ ليَصِلَ إليه ثوابُها بعد موته فهي مستحبةٌ، وقد أَذن له الشَّارعُ بالتصرف عند الموت بثُلُث المال فأقلّ.
ويُستحَبُّ له كذلك أن يوصي أهلَه بتقوى الله عز وجل والمحافظة على أوامره والتَّمسُّك بسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأن يُحذِّرَهم من الأهواء والبدع، وقد روى سعيد بن منصور في سننه وغيرُه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانوا يَكتُبُونَ في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلانُ بن فلان، أوصى أنَّه يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَن في القبور، وأوصَى مَن ترك من أهله أن يتَّقوا الله، ويُصلحوا ذاتَ بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2 ") 3.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:2738) ، وصحيح مسلم (رقم:1627) .
2 سورة: البقرة، الآية (132) .
3 سنن سعيد بن منصور (ص:126) ط. الدار السلفية.(3/228)
وينبغي أن يوصيهم بأن يُجهَّزَ ويُدفنَ على السُّنَّة، وأن يحذِّرَهم من البدع لا سيما إن خشي وقوعَ شيء من ذلك، أو كان للبدع رواجٌ في مجتمعه، وقد أوصَى أبو موسى رضي الله عنه حين حَضَرَه الموتُ فقال: "إذا انطلقتُم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تُتْبعونِي بمِجْمَر، ولا تَجعلنَّ على لَحدي شيئاً يحولُ بيني وبين التراب، ولا تجعلن على قبري بناءً، وأشهدُكم أنِّي بريءٌ مِن كلِّ حَالقَةٍ أو سالِقةٍ أو خارقة، قالوا سمعتَ فيه شيئاً قال: نَعم، مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد1.
نسأل الله لنا جميعاً حسن الختام والوفاة على الإيمان بمَنِّه وكرمه.
__________
1 مسند أحمد (4/397) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز (ص:18) .(3/229)
160 / ما يُقال في الصلاة على الجنازة
لقد ورد في السنَّة أحاديثُ عديدةٌ تتعلَّق بما يُقال في الصلاة على الجنازة، وفيما يلي بيانُها:
ثبت في صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ المَيِّتُ"1.
وهو دعاء عظيمٌ جامع، مُحضَ فيه الدعاء للميت بالعفو والغفران، والسلامة والنجاة، والإكرام والإحسان، يُؤتى به في هذا الموضع العظيم عند الصلاة عليه، وهو موضع يُستحبُّ فيه المبالغة في الترحُّم على الميت والدعاء له؛ لأنَّه قد أُتي به إلى إخوانه المسلمين ليدعوا له، وليسألوا الله مغفرةَ ذنوبه وستر عيوبه وإقالة عثراته، وهو دعاء ينفع الميت بإذن الله، وهو من جملة الأمور الدالة على التراحم والتعاطف بين أهل الإيمان، والسُّنَّة في هذا الدعاء أن يُؤتى به بعد التكبيرة الثالثة، أما التكبيرة الأولى فيقرأ بعدها الفاتحة، والتكبيرة الثانية يُصلِّي بعدها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبعد التكبيرة الثالثة يُؤتى بهذا الدعاء أو غيره من الدعوات المأثورة.
__________
1 صحيح مسلم (رقم:963) .(3/230)
قوله: "اللهمَّ اغفر له وارحمه" المغفرة ستر الذنوب مع التجاوز عنها، والرحمة أبلغ؛ لأنَّ فيها حصول المرغوب بعد زوال المكروه.
وقوله: "وعافه واعف عنه" أي: عافه من العذاب وسلِّمه منه، واعف عنه ما وقع فيه من زلل وتقصير.
وقوله: "وأكرم نزله" النُزُل: ما يُقدَّم للضيف، أي: اجعل نزله وضيافته عندك كريمة.
وقوله: "وأوسع مُدخلَه" أي: وسِّع له في قبره وافسح له فيه، ووسِّع له كذلك منازله عندك في الجنَّة؛ لأنَّ المدخلَ هنا مفردٌ مضاف فيَعُمُّ.
وقوله: "واغسله بالماء والثلج والبرد" وهذه الأمور الثلاثة تُقابل حرارة الذنوب فتبردها وتُطفئُ لهيبَها.
وقوله: "ونقِّه من الذنوب كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس" من التنقية وهي بمعنِى التطهير، أي: طهِّره من ذنوبه وخطاياه كما يُطهَّر ويُنظَّف الثوب الأبيض من الدَّنَس الذي علق به، وخصَّ الأبيض بالذِّكر؛ لأنَّ إزالةَ الأوساخ فيه أظهر من غيره من الألوان.
وقوله: "وأبدله داراً خيراً من داره" أي: أدخله الجنَّة دار كرامتك بدلاً عن دار الدنيا التي رحل عنها.
وقوله: "وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه" أي: وأبدله خيراً منهم، وهذا شاملٌ للتبديل في الأعيان والأوصاف، أمَّا في الأعيان بأن يُعوِّضه الله عنهم خيراً منهم في دار كرامته، وأمَّا في الأوصاف بأن تعودَ العجوزُ شابةً وسيِّئةُ الخلق حسنةَ الخلق، وغيرُ الجميلة جميلةً.
ثمَّ سأل الله له دخول الجنَّة والنجاة من النار، والسلامةَ من فتنة القبر بأن يُوقى شرُّها وأثرها.(3/231)
ومِمَّا يُقال في الصلاة على الجنازة ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ"1.
وهو دعاءٌ عظيمٌ شمل الميِّت المصلَّى عليه وغيرَه من المسلمين الأحياء منهم والأموات، والصغار والكبار، والذكور والإناث، والشاهد منهم والغائب؛ لأنَّ الجميعَ مشتركون في الحاجة بل الضرورة إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، ومن دعا بهذه الدعوة فله بكلِّ واحد من المسلمين والمسلمات المتقدِّمين منهم والمتأخرين حسنة، لِما ثبت في المعجم الكبير للطبراني بإسناد حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن استَغْفَرَ للمؤمنين والمؤمنات كَتَبَ اللهُ له بكلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حَسَنَةً"2.
وقوله: "اللَّهمَّ مَن أحييته منَّا فأحيه على الإسلام ومن توفَّيته فتوفَّه على الإيمان" فذكر الإسلام في الحياة والإيمان عند الممات، وذلك أنَّ الإسلام إذا قُرن بالإيمان يُراد به الشرائع العملية الظاهرة، ويُراد بالإيمان الاعتقاداتُ الباطنة، ولهذا ناسب في الحياة أن يذكر الإسلام؛ لأنَّ الإنسان ما دام حيًّا فلديه مجال وفسحة للعمل والتعبُّد، وأمَّا عند الممات فلا مجال لذلك، بل لا مجال إلاَّ للموت على الاعتقاد الصحيح والإيمان السليم بتوفيق من الله، ولهذا قال: "ومن توفيته فتوفه على الإيمان".
__________
1 مسند أحمد (2/368) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1498) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:1217) .
2 مجمع الزوائد (10/210) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6026) .(3/232)
وقوله: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره" أي: الأجر الذي نحصله من تجهيزه والصلاة عليه وتشييعه ودفنه، وكذلك الأجر الذي نحصله من صبرنا على مصيبتنا فيه، وأمَّا أجر عمله فهو له، وليس لنا منه شيء.
وقوله: "ولا تُضلَّنا بعده" أي: أعذنا من الضلال وجنِّبنا الفتنة والزَّلل بعد فقدنا له.
ومن الدعوات التي تُقال في الصلاة على الجنازة ما رواه الطبراني في المعجم الكبير والحاكم عن يزيد بن رُكانة بن المطلب رضي الله عنه قال: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَامَ إلى جَنازَةٍ ليُصَلِّيَ عليها قال: اللَّهمَّ عَبْدُكَ وابنُ أَمَتِكَ احتَاجَ إلى رَحْمَتِكَ، وأنتَ غَنِيٌّ عَن عَذابِه، إن كانَ مُحْسناً فَزِدْ في حَسَناتِه، وإن كان مُسيئاً فتَجَاوَزْ عنه"، وهو حديث ثابت1.
وروى مالك في الموطأ عن سعيد المقبري أنَّه سأل أبا هريرة: كيف تُصَلِّي على الجنازة فقال أبو هريرة: "أنَا لَعَمْرُ الله أُخْبِرُك، أتَّبِعُهَا مِن أَهْلِهَا، فإذا وُضعَت كَبَّرْتُ وحَمِدتُ اللهَ وصلَّيت على نبيِّه، ثمَّ أقول: اللَّهمَّ إنَّه عَبْدُكَ وابنُ عَبْدكَ وابنُ أمَتِكَ، كان يَشهَدُ أن لاَ إلَه إلاَّ أنتَ، وأنَّ مُحمَّداً عبدُكَ ورَسولُك، وأنتَ أعلَمُ بِه، اللَّهمَّ إن كَانَ مُحسناً فَزِدْ في إِحْسانِه، وإن كانَ مُسيئاً فتَجَاوَزْ عَن سيِّئاته، اللَّهمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَه، ولا تَفْتِنَّا بَعدَه"2.
نسأل الله أن يغفر لنا ولجميع موتى المسلمين، إنَّه هو الغفور الرحيم.
__________
1 المعجم الكبير (22/249) ، والمستدرك (1/359) ، وانظر أحكام الجنائز للألباني ـ رحمه الله ـ (ص:159) .
2 الموطأ (رقم:609) .(3/233)
161 / ما يُقال عند دفن الميت وبعده، وعند التعزية، وزيارة المقابر
لقد مرَّ معنا الكلامُ على الأذكار التي تُقال في الصلاة على الجنازة، وسنتناول هنا بيانَ ما يُقال عند دفن الميت، وما يُقال بعد دفنه، وما يُقال لذويه عند تعزيتهم، وما يُقال عند زيارة المقابر.
من السُّنَّة أن يقول الذي يضع الميتَ في لحدِه "بسم الله وعلى سنَّة رسول الله"، أو "وعلى ملِّة رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ لِمَا رواه أبو داود والترمذي وابنُ ماجه وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا وَضَعَ الميِّتَ في القبر قال: "بسْمِ الله وعلى سُنَّة رسول الله"، وفي رواية "وعلى ملَّة رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم"، وجاء في رواية أنَّه قال: "إَذَا وَضَعْتُمْ مَوتَاكُم في القبور فَقُولُوا ... "، وذكره1.
ثمَّ من السنَّة بعد الفراغ من دفنه الدعاءُ له بالمغفرة والتثبيت عند السؤال؛ لِما رواه أبو داود وغيرُه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ "2.
ولا يُشرع قراءةُ شيءٍ من القرآن في هذا الموضع، ولا أن يُلقَّن الميتُ حجَّته كما يفعله بعضُ الناس؛ إذ لم يثبت بذلك حديث، وإنَّما المشروع في
__________
1 سنن أبي داود (رقم:3213) ، وسنن الترمذي (رقم:1046) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1550) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الإرواء (3/197) .
2 سنن أبي داود (رقم:3221) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4760) .(3/234)
هذا المقام كما تقدَّم الاستغفارُ له وسؤال الله تثيبتَه.
وأمَّا ما يُقال لذويه عند تعزيتِهم، فإنَّ المشروعَ للمسلم أن يعزيَ أخاه بما يظنُّ أنَّه يسليه ويُذهب حزنه ويعينه على الرِّضا بالقضاء والصبر على المصيبة مِمَّا ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يقوله في هذا المقام إن كان يستحضر شيئاً من ذلك، وإلاَّ يقول ما تيسَّر له من الكلام الحسن والقول الطيِّب الذي يُحقِّق المقصودَ ولا يُخالف الشرعَ.
والمسلم مأجورٌ على تعزيته لإخوانه ووقوفه معهم في محنتهم ومصابهم، ففي الحديث عن النَبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " مَا مِنْ مُؤْمن يُعَزِّي أخاه بمصيبة إلاَّ كَسَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ من حُلَلِ الكَرَامَة يومَ القيامَة" رواه ابن ماجه وغيرُه1.
ومِمَّا ورد في السنة في التعزية ما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: إِنَّ ابْناً لِي قُبِضَ فَائْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِيءُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"2، قال النووي رحمه الله: "هذا الحديث أحد ما يُعزَّى به".
وفي حديث أبي سلمة: لَمَّا مات شق بصره فأغمضه النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: " إنَّ الروحَ إذا قُبض تَبعَهُ البَصَرُ" فصاح ناسٌ من أهله فقال: "لا تَدْعُوا على أَنفُسِكُم إلاَّ بِخَيرٍ، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقولُون"، ثم قال: "اللَّهمَّ اغْفرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وارْفَعْ دَرَجَتَه في المَهْديِّين، واخْلُفْه في عَقِبِهِ في
__________
1 سنن ابن ماجه (رقم:1601) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3508) .
2 صحيح البخاري (رقم:1284) ، وصحيح مسلم (رقم:923) .(3/235)
الغَابِرِينَ، واغفرْ لَنَا وَلَهُ يا رَبَّ العَالَمِينَ، وافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ " رواه مسلم1.
أمَّا ما يُقال عند زيارة القبور، فإنَّ السُّنَّة قد جاءت بمشروعية زيارة القبور للاتِّعاظ وتذكُّر الآخرة، وللدعاء لأهلها بالرَّحمة والمغفرة، وقد مُنع الناسُ في بدء الأمر من زيارة القبور؛ لقُرب عهدهم من الجاهلية وخشية أن يتكلَّموا بشيء من كلام أهل الجاهلية عندها، فلمَّا استقرَّت قواعدُ الإسلام وتَمهَّدت أحكامُه واشتهرت معالِمُه أُبيحت لهم الزيارة مع البيان لمقاصدها والتحذير من قول الباطل عند زيارتها.
فعن بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي كُنتُ نَهيتُكُم عن زيَارَةِ القُبُور فزُرُوهَا" رواه مسلم وأحمد والنسائي وغيرهم، وزاد أحمد: "فَإنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخرَةَ "، وزاد النسائي: "فمَن أَرَادَ أن يَزُورَ فَلْيَزُرْ، ولاَ تَقُولُوا هُجراً"2.
والهُجْرُ الباطل من القول، كدعاء المقبورين والاستغاثة بهم من دون الله، أو التوسُّل بهم أو طلب البركة منهم ونحو ذلك من الباطل والضلال، ولقد جاء في سنة النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم بيانُ ما يُشرَع للمسلم أن يقولَه عند زيارة القبور، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا
__________
1 صحيح مسلم (رقم:920) .
2 صحيح مسلم (رقم:977) ، المسند (5/355) ، سنن النسائي (4/89) .(3/236)
وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ"1.
وروى مسلم أيضاً عن بُريدة رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ، فَكَانَ قائلهم يَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلاَحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيَةَ"2.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في كلامه عن هدي النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور: "كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها لأمَّته، وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) ، وكان هديُه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميِّت من الدعاء والترحُّم والاستغفار، فأبَى المشركون إلاَّ دعاءَ الميت والإشراك به، والإقسامَ على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجُّهَ إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهديُ هؤلاء شركٌ وإساءةٌ إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إمَّا أن يدعوا الميت، أو يدعوا به أو عنده، ويرون الدعاءَ عنده أوجبَ وأولى من الدعاء في المساجد، ومَن تأمَّل هديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تبيَّن له الفرقُ بين الأمرين، وبالله التوفيق"3. اهـ كلامه.
وبما تقدَّم يتَّضح أنَّ أحوالَ الناس في زيارة القبور لا تخرج عن أربع حالات:
__________
1 صحيح مسلم (رقم:974) .
2 صحيح مسلم (رقم:975) .
3 زاد المعاد (1/526 ـ 527) .(3/237)
الأولى: أن يزور القبور ليدعو للأموات، فيسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وليعتبر بحال الموتى وما آلوا إليه، فيحدث له ذلك عبرةً وذكرى، وهذه هي الزيارة الشرعية.
الثانية: أن يزورها ليدعو لنفسه ولِمَن أحبَّ عندها معتقداً أنَّ الدعاء في المقابر أو عند قبور الصالحين أفضلُ وأحرى بالقبول والإجابة، وهذا بدعةٌ منكرة.
الثالثة: أن يزورها ليدعو الله متوسِّلاً بجاه الموتى أو حقِّهم، فيقول: أسألك يا ربِّي بجاه فلان أو بحقِّ فلان، فهذا بدعة محرَّمة ووسيلة إلى الشرك.
الرابعة: أن يزورها ليدعو المقبورين ويستغيث بهم ويطلب منهم المَدَدَ والعونَ والشِّفاءَ وغيرَ ذلك، فهذا شركٌ أكبر ناقلٌ عن ملِّة الإسلام.
نسأل الله أن يحفظنا وإيَّاكم، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير، إنَّه سميع مجيب.(3/238)
162 / دعاء الاستسقاء
لقد شَرَعَ اللهُ لعباده إذا أجدَبت فيهم الدِّيارُ، وقلَّت الأمطارُ، وحصل القَحْطُ أن يفزَعوا إلى الصلاة والدعاء والاستغفار، وأخبَرَ أنَّه لا يخيب عبداً دعاه، ولا يردُّ مؤمناً ناداه، فمَن دعاه بصدق وأقبل عليه بإلحاح حقَّق رجاءَه، وأجاب دعاءه، وأعطاه سؤله، فهو القائل سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1، وأرشد عباده سبحانه عند احتباس المطر عنهم أن يستغفروه من ذنوبهم التي بسببها حبس المطر ومنع القطر.
وأخبر سبحانه عن أنبيائه ورسله عليهم السلام أنَّهم كانوا يرغِّبون أمَمَهم ويحثُّونهم على التوبة والاستغفار، ويبيِّنون لهم أنَّ ذلك سببٌ من أسباب إجابة الدعاء ونزولِ الأمطار وكثرة الخيرات وانتشار البركة في الأموال والأولاد، فذكر تعالى عن نوح عليه السلام أنَّه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} 2، وذكر عن هود عليه السلام أنَّه قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 3، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
__________
1 سورة: البقرة، الآية (189) .
2 سورة: نوح، الآيات (10 ـ 12) .
3 سورة: هود، الآية (52) .(3/239)
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} 1، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} 2.
وفي هذه النصوص دلالةٌ على أنَّ التوبةَ والاستغفار سببٌ لنُزول الخيرات وتوالي البركات وإجابة الدعوات.
وليحذر المسلم في هذا المقام من أن يستولي على قلبه اليأس والقنوط، أو أن يتفوَّه بكلام يدلُّ على التَّضَجر والتسخُّط، فإنَّ المؤمنَ لا يزال يسأل ربَّه، ويطمع في فضله ويرجو رحمته، ولا يزال مفتقراً إليه في جلب المنافع ودفع المضار من جميع الوجوه، يعلم أنَّه لا ربَّ له غيره يقصده ويدعوه، ولا إله له سواه يؤمله ويرجوه، ليس له عن باب مولاه تحوُّل ولا انصراف، ولا لقلبه إلى غيره تعلق ولا التفات.
وقد جاء في سُنَّة النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهديِه الكريم دعواتٌ مباركة يُشرع للمسلم أن يدعو بها في الاستسقاء، فيها تذلُّل لله وخضوعٌ بين يديه، واعتراف بعظمته وكماله وافتقار العباد إليه، وأنَّه سبحانه الغنيُّ الحميد.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وُجَاهَ المِنْبَرِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِماً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ المَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثَنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةٍ وَلاَ شَيْئاً، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ
__________
1 سورة: الأعراف، الآية (96) .
2 سورة: هود، الآية (3) .(3/240)
سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتاً، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِماً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكَهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ"1.
وسَلْع المذكور في الحديث جبلٌ معروف بالمدينة.
وقوله: "سحابة مثل الترس" أي: في الاستدارة والكثافة.
وقوله: "اللهمَّ على الآكام والظراب" الآكام: التلال، والظراب: الجبال الصغيرة.
وقول الرجل: "فادع الله أن يمسكها"، ودعاء النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "حوالينا ولا علينا ... " إلى آخر الدعاء فيه دلالة على مشروعية الاستصحاء حينما تطول الأمطار وتكثر، ويحصل بها الضَّرر.
وروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "شَكَى النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي المُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْماً يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى المِنْبَرِ فَكَبَّرَ، وَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ المَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
__________
1 صحيح البخاري (رقم:1013) ، وصحيح مسلم (رقم:897) .(3/241)
الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ الغَنِيُّ، وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنُا قُوَّةً وَبَلاَغاً إِلَى حِينٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلَّبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الكِنِّ ضَحِكَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ"1.
قحوط المطر، أي: انحباسه وانقطاعه.
وقوله: "حين بدا حاجب الشمس" أي: حين ظهر ولاح طرف الشمس.
وقوله: "عن إبان زمانه" أي: وقت نزوله.
وقوله: "وبلاغاً إلى حين" أراد به المطر الكافي إلى وقت انقطاع الحاجة.
وقوله: "فلمَّا رأى سرعتهم إلى الكنِّ" الكنُّ: ما يردُّ الحرَّ والبرد من الأبنية والمساكن.
وروى أبو داود في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَوَاكِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً مَرِيئاً مَرِيعاً نَافِعاً، غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ. قَالَ: فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ" 2.
__________
1 سنن أبي داود (رقم:1173) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1040) .
2 سنن أبي داود (رقم:1169) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1036) .(3/242)
قوله: "أتت النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم بواكي" جمع باكية، وفي بعض النسخ: "رأيت النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم يواكي" ومعناه: التحامل على يديه إذا رفعهما ومدَّهما في الدعاء.
وعلى المسلم إذا دعا الله في الاستسقاء أو غيره أن يَحْسُن ظنُّه بالله وأن يعظمَ رجاؤه فيه، وأن يلحَّ عليه في الدعاء، وأن لا يقنط من رحمته سبحانه، فخزائنه ملأى، وجوده عظيم، ورحمته وسعت كلَّ شيء.(3/243)
163 / ما يُقال عند نزول الغيث
لقد مرَّ معنا الأدعيةُ المتعلقةُ بالاستسقاء، والتي يُشرع للمسلم أن يقولها عند قحوط المطر واستئخاره عن إبان نزوله، وما يترتَّب على ذلك من جفاف في الزروع وهلاك في الماشية، وغير ذلك من الأضرار، وهي دعوات مباركة واستغاثات نافعة بربِّ العالمين وخالق الخلق أجمعين، الذي بيده أزمة الأمور ومقاليد السموات والأرض، الذي أمره لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، والدعاء ينبئ عن قوة الافتقار وتحقيق العبودية، ويوجب للعبد خضوعه وخشوعه وشدَّة انكساره لربِّ البريَّة، فكم من دعوة رفع الله بها المكاره وأنواع المضار، ونال بها العبدُ الخيرات العديدة والبركاتِ المتنوِّعة وأنواعَ المسار.
والعبد يدعو الله في كلِّ أحيانه ويدعو الله في كلِّ شؤونه إذا تأخر المطر دعا الله، وإذا نزل المطر دعا الله، وإذا سمع الرَّعدَ ذكر الله، ففقره إلى الله ذاتِيٌّ، لا غنى له عن ربِّه وسيِّده ومولاه طرفة عين، والله عزَّ وجلَّ غنِيٌّ حميد.
وقد تقدَّم فيما مضى ما يُقال في الاستسقاء والاستصحاء، وأمَّا إذا نزل الغيث فإنَّ من السنَّة أن يقول المسلم عند نزوله "اللهمَّ صيِّباً نافعاً" لِما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: "اللَّهمَّ صيِّباً نافِعاً"1.
وقوله: "صيِّباً" منصوب بفعل مقدَّر، أي: اجعله، والصيِّب: المطر.
وقوله: "نافعاً" وصفٌ للصيِّب، احترز به عن الصيِّب الضار، وفي هذا
__________
1 صحيح البخاري (رقم:1032) .(3/244)
دلالة على أنَّ المطر قد يكون نزولُه رحمةً ونعمةً، وهو النافع، وقد يكون نزوله عقوبةً ونقمةً وهو الضار.
والمسلمُ يسأل الله عند نزول المطر أن يكون نافعاً غير ضار، وهذا الدعاء المذكور يُستحبُّ بعد نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، مقيَّداً بدفع ما يُخشى ويُحْذَرُ من ضَرر.
ومن الواجب على العبد في هذا المقام الكريم أن يعرف نعمة الله عليه، وينسبَ الفضلَ إليه، فهو سبحانه مولي النِّعم ومُسديها، بيده العطاءُ والمنع، والخفض والرفع، لا ربَّّ سواه ولا إله غيره.
وقد ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صَلَّى لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصُّبح بالحُدَيْبِيَة على إثر سَماء كانت مِنَ اللَّيل [أي على إثر مطر] فلمَّا انصرفَ أَقْبَلَ على النَّاس، فقال: هَل تَدرُون ماذا قال رَبُّكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: أَصْبَحَ من عبَادِي مؤمنٌ بِي وكافِرٌ، فأمَّا مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورَحْمَتِه، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مُطرنا بنَوْءِ كذا وكذا، فذَلكَ كافرٌ بِي مُؤْمنُ بالكَوْكَب "1.
فالقائل عند نزول المطر: مُطرنا بفضل الله ورحمته، قد نسب النعمةَ لمُعطيها، وأضاف المنَّة لموليها، واعتقد أنَّ نزول هذا الفضل والخير والرحمة إنَّما هو محضُ نعمة الله وآثارُ رحمته سبحانه.
وأمَّا القائل عند نزول المطر: مُطرنا بنوء كذا وكذا فلا يخلو من أمرين:
إمَّا أن يعتقد أنَّ المُنْزِلَ للمطر هو النجمُ، وهذا كفرٌ ظاهرٌ ناقلٌ من ملَّة
__________
1 صحيح البخاري (رقم:1038) ، وصحيح مسلم (رقم:71) ، وقوله: "صلى لنا" أي: "صلَّى بنا" كما هو لفظ الحديث عند مسلم.(3/245)
الإسلام، أو يعتقد أنَّ المُنْزِلَ للمطر هو الله، والنوءَ سبب، فيضيف النعمةَ إلى ما يراه سبباً في نزولها وهذا من كفر النّعمة وهو من الشرك الخفيِّ.
والأنواء ليست من الأسباب لنُزول المطر، وإنَّما سبب نزول المطر حاجة العباد وافتقارهم إلى ربِّهم وسؤالهم إيَّاه، واستغفارهم وتوبتهم إليه، ودعاؤهم إيَّاه بلسان الحال ولسان المقال، فينزل عليهم الغيث بحكمته ورحمته بالوقت المناسب لحاجتهم وضرورتهم، ولا يتمُّ توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه وعلى جميع الخلق، ويُضيفها إليه ويستعين بها على عبادته وذِكْره وشكره1.
ومن السنَّة أن يقول المسلم عند اشتداد هبوب الرِّيح: "اللهمَّ إنِّي أسألك خيرها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلت به" لِمَا رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا عَصَفَتِ الرِّيحُ [أي اشتدَّ هبوبها] قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ"2.
ولا يجوز للمسلم أن يسبَّ الريحَ؛ فإنَّها مسخَّرةٌ بأمر الله مدبَّرَةٌ مأمورةٌ، روى البخاري في الأدب المفرد وأبو داود في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا"3.
__________
1 انظر: القول السديد لابن سعدي (ص:108 ـ 109) .
2 صحيح مسلم (رقم:899) .
3 الأدب المفرد (رقم:906) ، وسنن أبي داود (رقم:5097) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:696) .(3/246)
وقوله: "من روح الله" أي من الأرواح التي خلقها الله، فالإضافة هنا إضافة خلق وإيجاد.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقول إذا اشتدَّت الرِّيح: "اللهمَّ لاقحاً لا عقيماً"، لِما رواه البخاري في الأدب المفرد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتدَّت الرِّيحُ يقول: "اللَّهمَّ لاقحاً لا عَقيماً" 1، ومعنى لاقحاً؛ أي: ملقحة للسحاب، ومنه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 2 أي: وسخَّرنا الرِّياح رياح الرحمة تلقح السحاب كما يلقح الذَّكر الأنثى فينشأ عن ذلك الماء بإذن الله، فيسقيه الله العباد والمواشي والزروع، ويبقى في الأرض مدَّخراً لحاجتهم وضروراتهم، فله الحمد والنعمة لا شريك له.
وللمسلم أن يُسبِّح عند سماعه الرَّعد، ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: "أنَّهُ كَانَ إِذا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ"3.
وروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه كان إذا سمع صوت الرعد قال: "سبحان الذي سبَّحت له"4.
وفي التسبيح في هذا المقام تعظيم للربِّ سبحانه الذي الرَّعدُ أثرٌ من آثار كمال قوَّته وقدرته، وفيه تجاوب مع الرَّعد الذي يسبح بحمد الله، ولكن لا نفقه تسبيحه.
__________
1 الأدب المفرد (رقم:718) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:553) .
2 سورة: الحجر، الآية (22) .
3 الأدب المفرد (رقم:723) ، والموطأ (رقم:1822) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:556) .
4 الأدب المفرد (رقم:722) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:555) .(3/247)
164 / مَا يُقَالُ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ أَوْ خُسُوفِ القَمَرِ
الحديث هنا عن كسوف الشمس وخسوف القمر، وما يُستحبُّ للمسلم أن يقوله عند حصول ذلك.
إنَّ الله عزَّ وجلَّ سخَّر لابن آدم أنواعاً من المخلوقات إكراماً له وتفضُّلاً عليه؛ ليقوم بطاعة الله وليُحقِّق توحيد الله وليكون شاكراً لأنعم الله، فقد سخَّر جلَّ وعلاَ للإنسان السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر، ونعمُه سبحانه على الإنسان لا تُحصَى ولا تُعدُّ.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 3.
__________
1 سورة: الجاثية، الآية (12 ـ 13) .
2 سورة: لقمان، الآية (29) .
3 سورة: إبراهيم، الآيات (32 ـ 34) .(3/248)
فالشمسُ والقمرُ هما من جملة النِّعم التي تفضَّل الله بها على عباده ومَنَّ بها عليهم، وجعلهما سبحانه دائِبَيْن أي: مُستمِرَّيْن لا يفتران يسعيان لمصالح الإنسان من حساب الأزمنة ومصلحة الأبدان والحيوان والزروع والثمار، وجعلهما سبحانه يجريان بحساب متقن وتقدير مقدَّر لا يتخلَّفان عنه علواً ولا نزولاً، ولا ينحرفان يميناً ولا شمالاً، ولا يتغيَّران تقدُّماً ولا تأخُّراً، كما قال سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 1، وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2.
ثمَّ إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آيات الله، ومخلوقان من مخلوقاته ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوِّف عباده من عاقبة معاصيهم وذنوبِهم كسفهما باختفاء ضوئهما كلِّه أو بعضِه؛ إنذاراً للعباد وتذكيراً لهم لعلَّهم يرجعون ويتوبون ويُنيبون، فيقومون بما أمرهم به ربُّهم، ويتركون ما حرَّمه عليهم، كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} 3، وفي هذا دلالة على كمال قدرة الله سبحانه، حيث إنَّه سبحانه قادرٌ على تحويل الأشياء وتبديل الأمور وتصريف الخلائق كيف شاء، ومن ذلك تغيير حال الشمس والقمر من النور والوضاءة إلى السواد والظلمة، والله على كلِّ شيء قدير.
__________
1 سورة: الرحمن، الآية (5) .
2 سورة: يس، الآيات (38 ـ 40) .
3 سورة: الإسراء، الآية (59)(3/249)
ولذا شُرع عند حصول الكسوف الفزعُ إلى الصلاة والدعاء والذِّكر والاستغفار والصدقة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا "1.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعاً يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ"2.
لقد خسفت الشمس في عهد النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّة واحدة، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة، حيث مات ابنُه إبراهيم رضي الله عنه، وقد كان الناسُ في الجاهلية يظنُّون أنَّ كسوفَ الشمس أو القمر إنَّما يكون لموتِ عظيم أو حياته، فبيَّن صلى الله عليه وسلم فسادَ هذا الظنِّ وخطأه، وقال كما في حديث عائشة المتقدِّم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ".
وقد فزع صلى الله عليه وسلم عند كسوفها إلى المسجد، وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءاً، فقام فيهم النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وصفُّوا خلفه، فكبَّر وقرأ الفاتحة وسورة
__________
1 صحيح البخاري (رقم:1044) ، وصحيح مسلم (رقم:901) .
2 صحيح البخاري (رقم:1059) ، وصحيح مسلم (رقم:912) .(3/250)
طويلة يجهر بقراءته، ثم ركع ركوعاً طويلاًَ جدًّا، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، ثمَّ قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنَّها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جدًّا نحواً من ركوعه، ثمَّ رفع وجلس جلوساً طويلاً، ثمَّ سجد سجوداً طويلاً، ثمَّ قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع في الأولى، لكنَّها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثمَّ تشهد وسلَّم، وقد تجلَّت الشمس، ثم خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بليغة بيَّن فيها أنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وحثَّهم عند حصول ذلك إلى الفزع إلى الصلاة وذِكر الله ودعائه واستغفاره حتى يفرِّج الله وتنجلي، ومِمَّا قال في خطبته "يا أمَّة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمَته، يا أمَّة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"، ومِمَّا قال في خطبته "ما من شيء كنت لَم أره إلاَّ رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، وأوحي إلَيَّ أنَّكم تفتنون في قبوركم مثل فتنة المسيح الدجَّال يقال: ما علمك بهذا الرَّجل فأمَّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد وهو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا واتَّبعنا، فيُقال: نَمْ صالحاً إن كنت لموقناً به، وأمَّا المنافق أو المرتاب، فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقلته".
وقال له الصحابة: يا رسول الله، رأيناك تناولتَ شيئاً في مَقامك، ثمَّ رأيناك تَكَعٍْكَعْتَ [أي رَجعْتَ إلى الوراء] قال: إنِّي رَأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقوداً ولو أصَبْتُه لأكَلْتُم منه ما بقيت الدنيا، ورأيتُ النَّارَ فلَمَ أَرَ مَنظراً كاليوم قطُّ أفْظَع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النِّساء، قالوا: بِمَ يا رسول الله قال: بكُفْرهنَّ، قيل: يَكْفُرْنَ بالله قال: يَكْفُرْنَ العشير، ويَكْفُرْنَ الإحسانَ، لَو(3/251)
أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ كلَّه، ثمَّ رَأَتْ منكَ شيئاً قالت: ما رَأيتُ منك خيراً قطُّ"1.
إنَّ فزعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم للكسوف وصلاتَه هذه الصلاة وعرضَ الجنَّة والنار عليه أثناء هذه الصلاة، ورؤيتَه لكلِّ ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيتَه الأمَّةَ تُفتن في قبورها، وخطبتَه هذه الخطبة البليغة المؤثِّرة، وأمرَه أمَّته عند الكسوف أن يفزعوا إلى الصلاة والذِّكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصَّدقة، ليدلُّ على عِظَم شأن الكسوف وأهميَّة الفزع فيه إلى الصلاة والدعاء والاستغفار.
والحالُ أنَّ كثيراً من الناس في هذا الزمان تهاونوا بأمر الكسوف ولم يُقيموا له وزناً ولم يُحرِّك لهم ساكناً، وما ذاك إلاَّ لضعف الإيمان والجهل بالسُّنَّة والاعتماد على مَن يحيل أمر الكسوف إلى الأسباب الطبيعية، مع الغفلة عن أسبابه الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يُحدث الله الكسوف، وفَّقنا الله لتعظيم آياته والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها، إنَّه جوادٌ كريم.
__________
1 هو في الصحيحين مفرَّق في عدة مواضع، انظر: صحيح البخاري (رقم:1044) ، وغيره، وصحيح مسلم (2/622 ـ 627) .(3/252)
165 / مَا يُقَالُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الهِلاَلِ
لقد ورد في السُّنَّة دعاءٌ يُستحبُّ للمسلم أن يقوله عند رؤية الهلال من كلِّ شهر، فيه سؤال الرَّبِّ سبحانه أن يجعل هذا الشهر الذي هلَّ هلالُه شهرَ يُمن وإيمان وسلامة وإسلام، وهي دعوةٌ مباركةٌ يحسن بالمسلم أن يدعو بها كلَّما رأى الهلال.
روى الترمذي عن طلحة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَأَى الهِلاَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ"1.
وقبل الدخول في معاني هذه الدعوة المباركة، لنقف قليلاً نتأمَّل في هذه الآية الباهرة الدَّالَّة على عظمة الرَّبِّ سبحانه وكمال قُدرته، يقول ابن القيم رحمه الله: "وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يُبديه الله كالخيط الدَّقيق، ثم يتزايد نورُه ويتكامل شيئاً فشيئاً كلَّ ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذ في النقصان حتى يعود على حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزت به الأشهر والسنون، وقام به حسابُ العالم مع ما في ذلك من الحكَم والآيات والعبر التي لا يُحصيها إلاَّ الله"2. اهـ.
وقد عدَّ الله في القرآن الكريم هذا ضمن آياته العظام وبراهينه الجسام، يقول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ
__________
1 سنن الترمذي (رقم:3451) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4726) .
2 مفتاح دار السعادة (2/27) .(3/253)
مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1.
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي: يَنْزِلُها، كلَّ ليلة ينْزل منها واحدة، إلى أن يصغر جدًّا فيكون كالعرجون القديم، أي: كعذقة النخل إذا قدم وجفَّ وصغر حجمه وانحنى، ثمَّ يُهلُّ في أول الشهر ويبدأ يزيد شيئاً فشيئاً حتَّى يتمَّ نورُه ويتسق ضياؤه، فما أعظمها من آية، وما أوضحها من دلالة على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه سبحانه، ولا ريب أنَّ التَّأملَ في هذه الآية وغيرها مِمَّا دعا الله عباده في كتابه إلى التفكر فيها وتأمُّلها يهدي العبدَ إلى العلم بالربِّ سبحانه بوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وسعة علمه وكمال حكمته، وتعدد برِّه وإحسانه، ومن ثمَّ يُخلص الدِّينَ له ويُفردُه وحده بالذُّلِّ والخضوعِ والحبِّ والإنابة والخوف والرجاء، فهي دلائلُ ظاهرة وبراهينُ واضحة على تفرُّد الله بالربوبية والألوهية والعظمة والكبرياء.
ولِهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلالَ كبَّر؛ لأنَّه آيةٌ عظيمة على عظمة الرَّبِّ وكبريائه، والتكبير تعظيم الله واعتقاد أنَّه أكبرُ من كلِّ شيء وأنَّه لا شيء أكبر منه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عديٍّ رضي الله عنه: "فهَل من شيءٍ أكبَرُ من الله" 2.
بل إنَّ التكبيرَ مشروعٌ عند رؤية كلِّ كبير وعظيم ليبقى القلبُ ليس فيه اشتغال إلاَّ بتكبير الله وتعظيمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكبيرُ
__________
1 سورة: يس، الآيات (37 ـ 40) .
2 المسند (4/378) ، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:7206) .(3/254)
مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليُبيِّن أنَّ الله أكبرُ، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدِّين كلُّه لله، ويكون العبادُ له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه"1.
أمَّا تكبير النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند رؤية الهلال فقد رواه الدارمي من حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلالَ قال: اللهُ أكبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، والتَّوْفِيقِ لِمَا تُحبُّ وتَرْضَى، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ"2.
ولنبدأ هنا في الكلام على معنى الحديث، قوله: "إذا رأى الهلال" الهلال هو غرَّة القمر لليلتين أو لثلاث، وفي غير ذلك يُقال له قمر.
وقوله: "أهلَّه علينا" أي أطلعه علينا، وأرنا إيَّاه.
وقوله: "بالأمن والإيمان" الأمنُ هو الطمأنينة والراحة والسكون والسلامة من الآفات والشرور، وفي حديث طلحة "باليُمن" واليُمن هو السعادة، والإيمان هو الإقرار والتصديق والخضوع لله.
وقوله: "والسلامة والإسلام" السلامة هي الوقاية والنجاة من الآفات والمصائب، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه.
وقوله: "ربِّي وربُّك الله" فيه إثبات أنَّ الناس والقمر وجميع المخلوقات
__________
1 مجموع الفتاوى (24/226) .
2 سنن الدارمي (رقم:1687) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/139) : "فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".(3/255)
كلّها مربوبةٌ لله مسخَّرة بأمره خاضعة لحكمه، وفي هذا ردٌّ على من عبدها من دون الله {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1.
ثمَّ إنَّ الحديثَ فيه فوائد كثيرة أشير إلى شيء منها.
فمن فوائد الحديث أنَّ فيه بياناً للفرق بين الإيمان والإسلام وأنَّهما ليسا شيئاً واحداً عندما يجتمعان في الذِّكر، بل لكلِّ واحد منهما معنى خاص، فالإيمان يُراد به الاعتقادات الباطنة، والإسلام يُراد به الأعمال الظاهرة، أمَّا عند إفراد كلِّ واحد منهما بالذِّكر فإنَّه يكون متناولاً لمعنى الآخر.
ومن فوائد الحديث أنَّ الأمنَ مرتبطٌ بالإيمان، والسلامةَ مرتبطةٌ بالإسلام، فالإيمان طريق الأمان، والإسلام طريق السلامة، ومن رام الأمن والسلامة بغيرهما ضلَّ، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
ومن فوائد الحديث أنَّ فيه لفتةً كريمةً إلى أنَّ أهمَّ ما تُشغل به الشهور وتُمضى فيه الأوقات هو الإيمانُ بالله وبما أمر عباده بالإيمان به، والاستسلامُ له سبحانه في كلِّ أحكامه وجميع أوامره.
ومرور الشهور على العبد مع الانشغال عن هذا المقصد الجليل ضياعٌ للشهور وحرمان من الخير، فالشهور لَم تُخلق ولم توجد إلاَّ لتكون مستودعاً للإيمان والأعمال، وهذا إنَّما ينجلي أمره للناس عندما يقفون يوم القيامة بين
__________
1 سورة: فصلت، الآية (37) .
2 سورة: الأنعام، الآية (82) .(3/256)
يدي الله ليروا نتائج أعمالهم وحصاد حياتهم وثمرة أوقاتهم.
قال ابن القيم رحمه الله: "السَّنَةُ شجرة، والشهورُ فروعها، والأيامُ أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنَّما يكون الجَذَاذ يوم المعاد، فعند الجَذاذ يتبيَّن حلوُ الثمار من مُرِّها"1. اهـ.
ونسأل الله أن يُصلح أوقاتنا جميعاً، ويعمرها بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه، هو ربُّنا لا ربَّ لنا سواه.
__________
1 الفوائد (ص:292) .(3/257)
166 / الدُّعَاءُ لَيْلَةَ القَدْرِ
إنَّ في السَّنَة أياماً فاضلة وأوقاتاً شريفةً، الدعاءُ فيها أفضل، والإجابةُ فيها أحرى، والقبول فيها أرجى، وله سبحانه الحكمة البالغة {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (1 فلكمال حكمته وقدرته وتمام علمه وإحاطته يختار من خلقه ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصُهم سبحانه بمزيد فضله وجزيل عنايته ووافر منَّته، وهذا من أكبر آيات ربوبيته وأعظم شواهد وحدانيته وتفرّده بصفات الكمال، وأنَّ الأمرَ له سبحانه من قبل ومن بعد، يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2.
وإنَّ مِمَّا خصَّه الله عزَّ وجلَّ من الأوقات بمزيد تفضيله ووافر تكريمه شهرَ رمضان، حيث فضَّله على سائر الشهور، والعشرَ الأواخر من لياليه حيث فضَّلها على سائر الليالي، وليلةَ القدر حيث جعلهَا لمزيد فضلها عنده وعظيم مكانتها خيراً من ألف شهر، وفخم سبحانه أمرها، وأعلا شأنها، ورفع مكانتها عنده، أنزل فيها وحيَه المبين وكلامَه الكريم وتنزيله الحكيم، هدى للمتَّقين وفرقاناً للمؤمنين، وضياء ونوراً ورحمة.
يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ
__________
1 سورة: القصص، الآية (68) .
2 سورة: الجاثية، الآيتان (36 ـ 37) .(3/258)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 1.
ويقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} 2.
فلله ما أعظمها من ليلة، وما أجلَّ خيرَها، وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، أي ما يزيد على ثلاثة وثمانين عاماً عُمر رجل معمَّر، وهو عمرٌ طويل لو قضاه المسلم كلَّه في طاعة الله عزَّ وجلَّ، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه، هذا لمَن حصَّل فضلها ونال بركتها.
قال مجاهد رحمه الله: "ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر"، وكذا قال قتادة والشافعي وغيرُ واحد.
وفي هذه الليلة المباركة يكثر تنَزّل الملائكة لكثرة بركتها؛ إذ الملائكة يتنَزَّلون مع تنَزُّل البركة، وهي سلامٌ حتى مَطلع الفجر، أي أنَّها خير كلّها ليس فيها شرٌّ إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة يُفرق كلُّ أمر حكيم، أي: يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة يإذن الله العزيز الحكيم، والمراد بالتقدير هنا التقدير السنوي، أما التقدير العام في اللوح المحفوظ فهو متقدِّمٌ على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنَّ ليلةً هذا شأنها ينبغي على المسلم أن يحرصَ على طلبها تمامَ الحرص
__________
1 سورة: الدخان، الآيات (3 ـ 8) .
2 سورة: القدر.(3/259)
ليفوز بثوابها، وليغنم خيرها، وليحصِّل أجرها، ولينال بركتها، والمحروم من حُرم الثواب ومَن تَمرُّ عليه مواسمُ الخير وأيامُ البركة والفضل وهو مستمرٌّ في ذنوبه متماد في غيِّه، منهمكٌ في عصيانه، أتلفته الغفلةُ، وأهلكه الإعراضُ، وصدَّته الغواية، فما أعظم حسرته وما أشدَّ ندامته، ومن لَم يحرص على الرِّبح في هذه الليلة المباركة فمتى يكون الحرص، ومَن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف فمتى تكون الإنابة، ومن لَم يزل متقاعساً فيها عن الخيرات ففي أيِّ وقت يكون العمل.
إنَّ الحرصَ على طلب هذه الليلة وتحرِّي الطاعة فيها والاجتهادَ في الدعاء من سِمات الأخيار وعلامات الأبرار، بل إنَّهم يُلحُّون على الله فيها أن يكتب لهم العفوَ والمعافاة؛ لأنَّها الليلةُ التي يُكتب فيها ما يكون من الإنسان في عامه كلِّه، ففي هذه الليلة يدعون ويُلحُّون، وفي عامهم كلِّه يَجدُّون ويجتهدون، ومن الله يطلبون العون ويسألون التوفيق.
روى الترمذي وابن ماجه وغيرُهما عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"1.
وهذا الدعاءُ المبارك عظيمُ المعنى عميقُ الدلالة كبيرُ النفع والأثر، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي كما تقدَّم الليلة التي يُفرق فيها كلُّ أمر حكيم، ويُقدَّر فيها أعمالُ العباد لسنة كاملة حتى ليلةَ القدر الأخرى، فمن رُزق في تلك الليلة العافية وعفا عنه ربُّه فقد أفلح وفاز وربح أعظم الرِّبح
__________
1 سنن الترمذي (رقم:3513) ، وابن ماجه (رقم:3850) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:3105) .(3/260)
ومن أوتي العافيةَ في الدنيا والآخرة فقد أوتي الخير بحذافيره، والعافيةُ لا يعدلها شيء.
روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في السنن عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: "قلتُ يا رسول الله، علِّمنِي شيئاً أسألُه اللهَ عز وجل، قال: سَلِ اللهَ العافيةَ، فمَكثْتُ أياماً، ثمَّ جِئتُ فقلت: يا رسول الله علِّمْنِي شيئاً أسأله اللهَ، فقال لي: يا عبَّاسُ يا عمَّ رسولِ الله، سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرَة"1.
وروى البخاري في الأدب والترمذي في السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، أيُّ الدعاء أَفضَلُ قال: "سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةَ"، ثم أتاه الغد فقال: يا نَبِيَّ الله، أيُّ الدعاء أَفْضَل قال: "سَلِ الله العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةَ، فإذا أُعطيتَ العافية في الدنيا والآخرة فقد أَفْلَحْت"2.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أوسط بن إسماعيل قال: سمعتُ أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله قال: "قام النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم عامَ أوَّل مقامي هذا ثم بكى أبو بكر، ثم قال: عليكم بالصِّدق، فإنَّه مع البِرِّ وهما في الجنة، وإيَّاكم والكذب، فإنَّه مع الفجور وهما في النَّار، وسلُوا الله المعافاة، فإنَّه لَم يؤت بعد اليقين خيرٌ من المعافاة، ولا تَقاطَعوا، ولا تدابَروا، ولا
__________
1 الأدب المفرد (رقم:726) ، سنن الترمذي (رقم:3514) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:558) .
2 الأدب المفرد (رقم:637) ، وسنن الترمذي (رقم:3512) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:495) .(3/261)
تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً" 1.
ولهذا فإنَّ من الخير للمسلم أن يكثر من هذه الدعوة المباركة في كلِّ وقت وحين، ولا سيما في ليلة القدر التي فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم، وليعلم المسلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ عفوٌّ كريم يحب العفو {وََهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 2، ولم يزل سبحانه ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالصَّفح والغفران موصوفاً، وكلُّ أحد مضطرٌّ إلى عفوه محتاجٌ إلى مغفرته، لا غنى لأحدٍ عن عفوه ومغفرته، كما أنَّه لا غنى لأحد عن رحمته وكرمه، فنسأله سبحانه أن يشملنا بعفوه، وأن يدخلنا في رحمته، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.
__________
1 الأدب المفرد (رقم:724) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:557) .
2 سورة: الشورى، الآية (25) .(3/262)
167 / أَذْكَارُ رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَالسَّفَرِ
يقول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 1.
لقد أرشد سبحانه إلى أنَّ وسائل النقل من السُّفُن والأنعام وكذلك ما سخَّره للناس في هذا الزمان من وسائل حديثة للنقل منها ما يسير على الأرض، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يمشي في البحار، واستقرارَ الناس على ظهورها واستواءَهم على متونها وتنقلَهم عليها من مكان إلى مكان براحة واطمئنان كلُّ ذلك من لطف الله وتسخيره وإكرامه وإنعامه، فكيف يليق بمَن ركبها أن يغفل عن ذكر المنعمِ والمتفضِّل بها والثناء عليه بما هو أهله.
وقد كان هديُ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند ركوب الدابَّة وفي السفر أكملَ الهدي وأتَمَّه، كيف لا وهو أكمل الناس طاعة، وأحسنهم عبادة، وأجملهم وأزكاهم سيرة، وفيما يلي عرضٌ لشيء من هديه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك.
ففي الترمذي وأبي داود وغيرهما عن علي بن ربيعة قال: " شَهِدْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الحَمْدُ للهِ، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ
__________
1 سورة: الزخرف، الآيات (12 ـ 14) .(3/263)
الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي"1.
وليتأمَّل المسلم هذا وما فيه من دلالة على كمال فضل الله وسعة مغفرته وتَمام برِّه وإحسانه، مع غناه الكامل عن توبة عباده واستغفارهم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابَّته مسافراً أن يسأل الله أن يكتب له البرَّ والتقوى في سفره، وأن يُيَسِّر له العمل الصالح الذي يرضيه، وأن يهوِّن عليه السفر، وأن يعيذه فيه من العواقب السيِّئة في نفسه أو ماله أو أهله.
ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجاً إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ فِي المَالِ وَالأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ "2.
وقوله: "اللَّهمَّ إنَّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى" البرُّ فعل
__________
1 سنن أبي داود (رقم:2602) ، وسنن الترمذي (رقم:3446) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2742) .
2 صحيح مسلم (رقم:1342) .(3/264)
الطاعات والتقوى ترك المعاصي والذنوب، هذا عند اجتماعهما في الذِّكر كما في هذا النصِّ، وأمَّا إذا ذكر كلُّ واحد منهما منفرداً فإنَّه يتناول معنى الآخر.
وقوله: "اللَّهمَّ هوِّن علينا سفرنا هذا واطْو عنا بُعده" أي: يسِّره لنا وقصِّر لنا مسافته.
وقوله: "اللهمَّ أنت الصاحب في السفر" المراد بالصحبة المعيةُ الخاصة التي تقتضي الحفظ والعون والتأييد، ومن كان الله معه فمِمَّن يخاف.
وقوله: "والخليفة في الأهل" الخليفة من يخلف من استخلفه فيما استخلف فيه، والمعنى أنِّي أعتمد عليك وحدك يا الله في حفظ أهلي.
وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر" أي: من مشقته وتعبه.
وقوله: "وكآبة المنظر" أي: سوء الحال والانكسار بسبب الحزن والألم.
وقوله: "وسوء المنقلب" أي: الانقلاب والقفول من السفر بما يُحزن ويسوء، سواء في نفسه أو في ماله وأهله.
وقوله: "وإذا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: آيبون تائبون عابدون لربِّنا حامدون" من السُّنَّة أن يُقال هذا عند القفول، وأن يُقال كذلك عند الإشراف على بلده والقرب منه؛ لِما روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ "1.
وقوله: "آيبون" أي: نحن آيبون، من آب إذا رجع، والمراد راجعون بالسلامة والخير.
وقوله: "تائبون" أي: إلى الله عزَّ وجلَّ من ذنوبنا وتفريطنا.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:3085) ، وصحيح مسلم (رقم:1345) .(3/265)
وقوله: "لربِّنا حامدون" أي: لنعمه العظيمة وعطاياه الجسيمة وتسهيله وتيسيره.
ومن السُّنَّة التكبيرُ عند صعود الأشراف والأماكن المرتفعة والتسبيح عند نزول الأودية والأمكنة المنخفضة، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كُنَّا إِذا صَعَدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا"1.
وفي التكبير في الصعود شغلٌ للقلب واللسان بتعظيم الربِّ وإعلان كبريائه وعظمته، وفيه طرد للكبر والعجب والغرور، وفي التسبيح في الهبوط تَنْزيهٌ لله عن النقائص والعيوب وعن كلِّ ما يُنافي ويُضاد كماله وجلاله.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء لِمَن أراد السَّفر بالحفظ وحسن العاقبة وتيسير الأمر، مع الوصيَّة بتقوى الله عزَّ وجلَّ.
ففي الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذا أَرَادَ سَفَراً: ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعُكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَدِّعُنَا، فَيَقُولُ: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ"2. أي: أسأل الله أن يحفظها عليك.
وفي الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ"3.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:2993) .
2 سنن الترمذي (رقم:3443) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:3738) .
3 سنن الترمذي (رقم:3445) ، وابن ماجه (رقم:2771) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2739) .(3/266)
وفي الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ سَفَراً فَزَوِّدْنِي، قَالَ: زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ. قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ"1.
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي من أراد السفر أن يدعو لِمَن يُخلِّف بأن يكون في وداع الله وحفظه، ففي عمل اليوم والليلة لابن السني عن موسى بن وردان قال: "أتيتُ أبا هريرة أُودِّعه لسفر أردته، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ألاَ أعلِّمُك يا ابن أخي شيئاً علَّمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوله عند الوداع؟ قال: قلت: بلَى، قال: قل: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ"، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ودَّعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، وذكره2، أي: أنَّه سبحانه يحفظ ما استُودع.
وفي المسند عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ لقمان الحكيم كان يقول: إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا اسْتُودِع شيئاً حَفِظَه"3.
فنسأل الله أن يحفظَ علينا ديننا، وأن يوفِّقَنا جميعاً لكلِّ خير.
__________
1 سنن الترمذي (رقم:3444) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2739) .
2 عمل اليوم والليلة (رقم:505) ، وسنن ابن ماجه (رقم:2825) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:2278) .
3 المسند (2/87) .(3/267)
168 / مَا يَقُولُهُ إِذا نَزَلَ مَنْزِلاً أو رَأَى قَرْيَةً أَوْ بَلْدَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا
لقد كان الحديث عن الأذكار التي يُستحبُّ للمسلم أن يقولَها عند ركوب الدابَّة وعند السَّفر، وهي أذكارٌ مباركةٌ لها آثارها الحميدة على الرَّاكب والمسافر في سداد أمرِه وسلامته وحفظِه من الآفات والشرور.
ثمَّ إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا نزل مَنْزلاً أن يقول: أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فإنَّه إنْ قال ذلك حُفظَ ووُقِي بإذن الله، ولم يضرَّه شيءٌ حتى يرتحلَ من ذلك المكان الذي نزل فيه.
ففي صحيح مسلم من حديث خَوْلة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ: أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ "1.
وهو دعاءٌ عظيمٌ فيه التجاءٌ إلى الله عزَّ وجلَّ واعتصامٌ به وتعوُّذٌ بكلماته، خلافَ ما كان عليه أهل الجاهلية من التعوُّذ بالجنِّ والأحجار وغير ذلك مما لا يزيدهم إلاَّ رهقاً وضعفاً وذلَّةً كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 2، فنعى تبارك وتعالى عليهم هذه الاستعاذة وبيَّن عواقبها الوخيمة ومغبَّتَها الأليمة في الدنيا والآخرة، وشرع سبحانه لعباده المؤمنين الاستعاذة به وحده والالتجاءَ إليه دون سواه، إذ هو الذي بيده مقاليد الأمور ونواصي العباد، وأمَّا ما سواه
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2708) .
2 سورة: الجن، الآية (6) .(3/268)
فإنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا فضلاً عن أن يملك شيئاً من ذلك لغيره.
وقوله: "أعوذ بكلمات الله التامَّات" أي: ألْتجئُ وأعتصمُ، وكلماتُ الله قيل: هي القرآن، وقيل هي الكلمات الكونية القدرية، ومعنى "التامَّات" أي التي لا يلحقُها نقصٌ، ولا عيْبٌ كما يلحقُ كلامَ البشر.
وفي الحديث دلالةٌ على مشروعية الاستعاذة بصفات الله، وأنَّ الاستعاذة عبادةٌ لا يجوز صرفُها لغير الله، وأنَّ كلامَ الله ومنه القرآن ليس بمخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لَم يستعذ به؛ لأنَّ الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز بل هي شركٌ بالله العظيم.
وقولُه: "من شرِّ ما خلق" أي: من كلِّ شرٍّ في أيِّ مخلوقٍ قام به الشرُّ من حيوانٍ أو غيرِه، إنسياًّ كان أو جنياًّ، أو هامَّةً أو دابَّةً، أو ريحاً أو صاعقةً، أيَّ نوعٍ من أنواع البلاء.
وقولُه: "لَم يضره شيٌ حتَّى يرتحل من مَنْزله ذلك" أيَّ شيءٍ كان؛ لأنَّه محفوظٌ بحفظ الله. لكن يُشترط في هذا الدعاء وغيره قابليَّةُ المحلِّ، وصحَّةُ النيَّة، وحسنُ الثقة بالله عزَّ وجلَّ، والحرصُ على المواظبة عليه في كلِّ منزلٍ ينزلُه الإنسانُ.
يقول القرطبي رحمه الله: "هذا خبرٌ صحيحٌ وقولٌ صادقٌ، علِمنا صدقَه دليلاً وتجربةً، فإنِّي منذ سمعتُ هذا الخبر عملتُ عليه فلم يضرَّني شيءٌ إلى أن تركتُه فلدغتْني عقربٌ بالمهدية ليلاً، فتفكَّرتُ في نفسي فإذا بي قد نسيتُ أن أتعوَّذ بتلك الكلمات"1.
__________
1 ذكره الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (ص:214) .(3/269)
ويُستحبُّ للمسلم إذا أراد دخولَ قريةٍ أو بلدةٍ أن يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذْهِ القَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا"؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك كلَّما رأى قريةً يريد دخولَها.
روى النسائي وغيرُه عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَالَ حِينَ يَرَاهَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذْهِ القَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا" 1.
والقريةُ اسمٌ للموضع الذي يجتمع فيه الناسُ من المساكن والأبنية والضياع، وقد تُطلق على المدن كما في قوله تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 2 فقد قيل إنَّها أنطاكية، ويقال لمكَّةَ أمُّ القرى. وعليه فإنَّ هذا الدعاءُ يقال عند دخول القرية أو المدينة.
وقولُه: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ" فيه توسُّلٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بربوبيته للسموات السبع وما أظلَّت تحتها من النُّجوم والشمس والقمر والأرض وما عليها، فقولُه "وما أظللن" من الإظلال: أي ما ارتفعت عليه وعلت وكانت له كالظلَّة.
__________
1 عمل اليوم والليلة للنسائي (رقم:547) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2759) .
2 سورة: يس، الآية (13) .(3/270)
وقوله: "وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ" من الإقلال والمرادُ: ما حملته على ظهرها من الناس والدّوابِّ والأشجار وغير ذلك.
وقوله: "وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ" من الإضلال وهو الإغواءُ والصَّدُّ عن سبيل الله، قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} 1.
وإذا علم العبدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنَّه سبحانه بكلِّ شيءٍ محيطٌ، وأنَّ قدرتَه سبحانه شاملةٌ لكلِّ شيءٍ، ومشيئتَه سبحانه نافذةٌ في كلِّ شيءٍ، لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء لجأ إليه وحده واستعاذ به وحده، ولم يخف أحداً سواه.
وقوله: "وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ" يقال ذرتْه الرِّياح وأذرَته وتَذروه، أي: أطارَته، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} 2.
وقوله: "فإنَّا نسألك خيرَ هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها" فيه سؤال الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَ هذه القريةَ مباركةً عليه، وأن يَمنحَه من خيرها، وأن يُيَسِّرَ له السُكنى فيها بالسلامة والعافية، "وخير أهلها" أي: ما عندهم
__________
1 سورة: النساء، الآيات (117 ـ 120) .
2 سورة: الكهف، الآية (45) .(3/271)
من الإيمان والصلاح والاستقامة والتعاون على الخير ونحو ذلك، "وخير ما فيها" أي: من الناس والمساكن والمطاعم وغير ذلك.
وقوله: "ونعوذ بك من شرِّها وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها" فيه تعوُّذٌ بالله عزَّ وجلَّ من جميع الشرور والمؤذيات، سواء في القرية نفسِها أو في الساكنين لها، أو فيما احتوت عليه.
فهذه دعوةٌ جامعةٌ لسؤال الله الخيرَ والتعوُّذ به من الشرِّ بعد التوسُّل إليه سبحانه بربوبيَّته لكلِّ شيء.
ثمَّ إنَّ المسافرَ يُستحبُّ له في سفره الإكثارُ من الدعاء لنفسه ووالديه وأهله وولده وجميع المسلمين، ويتخيَّر من الدعاء أجمَعَه، مع الإلحاح على الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ دعوةَ المسافر مستجابةٌ.
ففي السنن الكبرى للبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "ثلاثُ دعوات لا تُردُّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ الصائم، ودعوةُ المسافر"1.
وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثُ دعوات مستجابات لا شكَّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده "2.
هذا وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لطاعته، وأن يعيننا على ذِكره وشكره وحسن عبادته في سفرنا وإقامتنا وفي كلِّ شؤوننا، إنَّه سميع مجيب.
__________
1 السنن الكبرى للبيهقي (3/345) ، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:1797) .
2 سنن أبي داود (رقم:1536) ، وسنن الترمذي (رقم:1905) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3862) ، وحسَّنه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:596) .(3/272)
169 / أَذْكَارُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
إنَّ من السُّنَّة للمسلم أن يقول عند بدء طعامه وشرابه "بسم الله" ليُحفَظَ ويُوقى، وليُبارَك له في طعامه وشرابه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمر بن أبي سلمة رضي الله رضي الله عنهما قال: "كُنْتُ غُلاَماً فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"1.
وفي التسمية على الطعام فوائدُ كثيرةٌ، منها أنَّه يُبارَك له في طعامه، ففي سنن أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن وَحشي بن حرب بن وحشي، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنه: " أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ"2.
ومن فوائد التسمية على الطعام طردُ الشيطان وإبعادُه، فلا يتمكَّن من مشاركة الإنسان في طعامه، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كُنَّا إِذا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً لَمْ نَضَعْ أَيْدِينَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَاماً فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5376) ، وصحيح مسلم (رقم:2022) .
2 سنن أبي داود (رقم:3764) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3286) .(3/273)
يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهِ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا"1.
وثبت في حديث آخر أنَّ الشيطانَ يقول عندما يترك المسلمُ التسمية عند دخول بيته وعند طعامه: "أدركتم المبيت والعَشاء"، وفي هذا أنَّ التسميةَ طاردةٌ للشيطان، مانعةٌ له من دخول المنْزل، ومن المشاركةِ في الطعام والشراب، ويكفي المسلمَ أن يقول في هذا الموضع "بسم الله" أمَّا زيادة "الرحمن الرحيم" فلَم يثبت بها حديثٌ عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ إنَّ المسلمَ إن نسيَ التسميةَ في أوَّل طعامه يُشرَعُ له أن يقول في أثنائه إذا ذكر "بسم الله أوَّلَه وآخرَه"، فقد روى أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ"2.
وقد أفاد هذا الحديثُ أنَّ محلَّ التسمية قبل البدء بالطعام، فإنَّ نسيها المسلمُ في هذا الموضع أجزأه أن يأتي بالتسمية في أثنائه بهذه الصيغة المذكورة في الحديث.
وقد جاء في حديث في إسناده ضعفٌ أنَّ الشيطان يستقيء ما في بطنه إذا أتى المسلمُ بهذه التسمية، وذلك فيما رواه أبو داود والنسائي عن أميَّة بن
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2017) .
2 سنن أبي داود (رقم:3767) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3264) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:380) .(3/274)
مخْشيٍّ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجلٌ يأكل، فلَم يُسمِّ حتى لَم يبقَ من طعامه إلاَّ لُقمةً، فلمَّا رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوَّلَه وآخرَه، فضحك النَبِيّ، ثمَّ قال: ما زال الشيطانُ يأكلُ معه، فلمَّا ذكر اسمَ الله استقاءَ ما في بطنه"1، لكنَّ الحديثَ ضعيفٌ، ضعَّفه الحافظ ابن حجر وغيرُه، وأمَّا التسمية في أثناء الطعام في حقِّ مَن نسيَ بقول "بسم الله أوَّلَه وآخرَه" فهي ثابتةٌ كما في الحديث الذي قبله.
ثمَّ على المسلم أن يَحمدَ الله عزَّ وجلَّ إذا فرغ من طعامه وشربه، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يرضى عن عبده إذا فعل ذلك، روى مسلمٌ في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"2.
وقد جاء في السُّنَّة صيَغٌ عديدة للحمد بعد الطعام، فإن تمكَّن المسلمُ من حفظها والإتيان بها هذا مرَّة وهذا مرَّة، فهو لا شكَّ أكملُ في حقِّه وأبلغُ في متابعته لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإن لَم يتمكَّن من ذلك فلا يَدَع أن يقول عقِب طعامه: "الحمد لله"، فهي كلمةٌ عظيمةٌ مبارَكةٌ حبيبةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ.
ومن الصِيَغ الثابتة في الحمد بعد الطعام ما رواه أبو داود والترمذي عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَكَلَ طَعَاماً ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"3.
__________
1 سنن أبي داود (رقم:3768) ، وانظر: إرواء الغليل (7/26) .
2 صحيح مسلم (رقم:2734) .
3 سنن أبي داود (رقم:4023) ، وسنن الترمذي (رقم:3458) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6086) .(3/275)
ومنها ما رواه البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الحَمْدُ للهِ كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا"1.
ومعنى قوله: "غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ" أي: الحمد، فكأنَّه قال: حمداً كثيراً غير مَكفيٍّ ولا مُودَّع، ولا مُستغنًى عن هذا الحمد.
ومن الصِّيَغ الواردة في هذا ما رواه أحمد وغيرُه عن عبد الرحمن بن جُبير أنَّه حدَّثه رجلٌ خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، أنَّه كان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قُرِّب إليه الطعامُ يقول: "بسم الله"، وإذا فرغ قال: "اللَّهمَّ أطعمتَ وأسقيتَ، وأغنيتَ وأقنيتَ، وهَديتَ وأحييتَ، فلكَ الحمد على ما أعطيتَ"2.
ويُستحبُّ للمسلم إذا تناول طعامَ الإفطار من صيامه أن يقول: "ذهب الظمأُ وابتلَّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله"؛ لِما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ"3.
وقد جاءت السُّنَّة بأنواع من الأدعية يُدعى بها لأهل الطعام، فيُستحبُّ للمسلم أن يحفظَ ما تيسَّر له من ذلك، وأن يقوله لِمَن ضيَّفه أو قدَّم له طعاماً.
ومن هذه الأدعية ما رواه مسلم في صحيحه عن المقداد رضي الله عنه قال:
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5458) .
2 المسند (4/62) ، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4768) .
3 سنن أبي داود (رقم:2357) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4678) .(3/276)
"أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مَنَ الجَهْدِ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ... "، فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولِهِ، وفيه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي"1.
ومنها ما رواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: "نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَاماً وَوَطْبَةً [أي حيساً، وهو مكوَّن من التمر والأَقِط والسَّمن] ، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبِعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَابَةَ وَالوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللهَ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ"2.
ومنها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ"3.
وكم هو جميلٌ بالمسلم أن يراعي في الطعام آدابه وأذكاره؛ ليكون ذلك أبرَكَ له في طعامه وأهنأ وأمرأَ.
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2055) .
2 صحيح مسلم (رقم:2042) .
3 سنن أبي داود (رقم:3854) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:3263) .(3/277)
170 / مَا وَرَدَ فِي السَّلاَمِ
إنَّ من آداب الإسلام الحميدة وخصالِه الرشيدة إفشاءَ السلام، فإنَّ السلامَ تحيَّةُ المؤمنين، وشعارُ الموحِّدين، وداعيةُ الإخاء والأُلفة والمحبَّة بين المسلمين، وهو تحيَّةٌ مبارَكةٌ طيِّبةٌ، كما وصفه بذلك ربُّ العالمين، وذلك في قوله سبحانه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} 1، وهو تحيَّة أهل الجنَّة يحيِّيهم بها الملائكة الكرام، وذلك عندما يُساق أهل الجنَّة إلى الجنَّة زُمَراً، وتفتح لهم أبوابها الثمانية، فيتلقَّاهم خزنتُها بهذه التحيَّة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 2، وهو تحيَّة أهل الجنَّة بينهم، كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} 3، وهو تحيَّة الملائكة، وتحيَّة آدم وذريته.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ؛ طُولُهُ سِتًّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَفَرِ مِنَ المَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذرِيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ"4.
__________
1 سورة النور، الآية: (61) .
2 سورة الزمر، الآية: (73) .
3 سورة إبراهيم، الآية: (23) .
4 صحيح البخاري (رقم:6227) ، وصحيح مسلم (رقم:2841) .(3/278)
رومن فضائل السلام أنَّه من خير الإسلام، ففي الصحيحين عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ "1.
وهو حقٌّ للمسلم على أخيه المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حقُّ المسلم على المسلم ست"، وذكر منها: "وإذا لقيتَه فسلِّم عليه"2.
وهو سببٌ عظيمٌ للأُلفة بين المسلمين والمحبَّة بين المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ" رواه مسلم3.
والمَحبَّة الحاصلةُ هنا سببُها أنَّ كلَّ واحد من المتلاقيَين يدعو للآخَر بالسلامة من الشرور، وبالرحمة الجالبة لكلِّ خير، ولهذا ثبت في المسند وغيره عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " أفشوا السلام تسلموا "4 أي: تسلموا من كلِّ موجِب للفُرقة والقطيعة، وكيف إذا انضمَّ إلى هذا بشاشةُ الوجه وحُسنُ الترحيب وجمالُ الأخلاق.
وعلى المُسلَّمِ عليه ردُّ التحيَّة بأحسن منها أو مثلها؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 5.
وخيرُ الرَّجلَين مَن يبدأُ صاحبَه بالسَّلام، ففي سنن أبي داود عن أبي
__________
1 صحيح البخاري (رقم:28) ، وصحيح مسلم (رقم:39) .
2 سبق تخريجه.
3 صحيح مسلم (رقم:54) .
4 المسند (4/286) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم:1087) .
5 سورة: النساء، الآية (86) .(3/279)
أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ" 1.
وإذا لَم يُسلِّم مَن يُطلبُ منه ابتداءُ السلام فليُسلِّم الآخر ولا يتركوا السنَّة.
ومن السُّنَّة أن يُسلِّم الصغيرُ على الكبير، والقليلُ على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسلِّمُ الرَّاكبُ على الماشِي، والماشي على القاعد، والقليلُ على الكثير"، وفي رواية للبخاري: "يُسلِّمُ الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير"2.
وكان صلى الله عليه وسلم يُسلِّم على الصبيان ويبدأهم بالسَّلام، وهذا من كمال تواضعه، وهو دأبُ السَّلف الصالح رحمهم الله، روى مسلمٌ في صحيحه عن يسار قال: "كنتُ أمشِِي مع ثابت البُناني، فمرَّ بصبيان فسلَّم عليهم، وحدَّث ثابتٌ أنَّه كان يَمشي مع أنس رضي الله عنه، فمَرَّ بصبيان فسلَّم عليهم، وحدَّث أنسٌ أنَّه كان يَمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَرَّ بصبيان فسلَّم عليهم"3.
ثمَّ إنَّ ابتداءَ السلام سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ؛ فإن كان المسلِّمُ جماعةً كفى عنهم واحد، ولو سلَّموا جميعاً كان أفضلَ، ورفعُ الصوت بابتداء السَّلام سُنَّةٌ ليَسمعه المسلَّمُ عليهم كلُّهم سماعاً محقَّقاً لحديث "أفشوا السَّلام بينكم".
__________
1 سنن أبي داود (رقم:5197) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2703) .
2 صحيح البخاري (رقم:6232، 6234) ، وصحيح مسلم (رقم:2160) .
3 صحيح مسلم (رقم:2168) .(3/280)
وإن سلَّمَ على أيقاظ ونيام خفضَ صوتَه بحيث يُسمع الأيقاظَ ولا يوقظ النيامَ، وهذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيعٌ، وقد كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يجئُ من اللَّيل فيُسلِّم تسليماً لا يُوقظ نائماً، ويسمع اليقظان. رواه مسلم في صحيحه ضمن حديث طويل1.
ويُسَنُّ أن يَبدأ بالسَّلام قبل الكلام لحديث "مَن بدَأَ بالكَلام قَبل السَّلام فلا تُجيبوه" رواه ابن السنٍِي في عمل اليوم والليلة2.
وكلما زاد المسلم من صيغ السلام المأثورة زاد أجرُه؛ بكلِّ واحدة عشرُ حسنات، روى أبو داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه: " أنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: عِشُرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: ثَلاَثُونَ "3.
ولا يزيد المسلمُ على هذا كأن يقول: "ومغفرته ومرضاته"؛ لأنَّ السَّلامَ المسنون انتهى إلى "وبركاته"، ولو كان في الزيادة خيرٌ لدلَّنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مالك في الموطأ عن محمد بن عمرو بن عطاء أنَّه قال: "كنتُ جالساً عند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فدخل عليه رجلٌ من أهل اليمن، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئاً مع ذلك أيضاً،
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2055) .
2 عمل اليوم والليلة (رقم:210) ، وحسَّنه الألباني في الصحيحة (رقم:816) .
3 سنن أبي داود (رقم:5195) ، وسنن الترمذي (رقم:2689) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2710) .(3/281)
قال ابن عباس، وهو يومئذ قد ذهب بصرُه: من هذا قالوا: هذا اليمانيُّ الذي يغشاك، فعرَّفوه إيَّاه، فقال ابن عباس: إنَّ السَّلامَ انتهى إلى البَرَكَة"1.
ومن أحكام السلام أن لا يُقْصَر على المعرفة، بل يُسلِّمُ المسلمُ على مَن عرف ومن لَم يعرف، وقد مرَّ معنا حديثُ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في هذا، وجاء في السُّنَّة أنَّ من أشراط الساعة قصْرَ السلام على المعرفة، ففي المسند بسند جيِّد عن الأسود بن يزيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أشراطِ السَّاعة إذا كانت التَّحيَّةُ على المعرفة"2، وفي رواية: "أن يُسلِّمَ الرَّجل على الرَّجل لا يُسلِّمُ عليه إلاَّ للمعرفة".
ومن أحكام السلام ألاَّ يُبدَأ اليهودُ والنصارى بالسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدَؤُوا اليهود ولا النصارى بالسَّلام" 3، وإذا بدؤوا هم بالسلام فإنَّه يُكتفى بالردِّ عليهم بأن يُقال "وعليكم" لِمَا في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا سَلَّمَ عَليكم أهلُ الكتاب فإنَّما يقولُ أحدُهم السَّامُ عليكم، فقل: وعَلَيكم"4.
وأمَّا أهلُ البدع والأهواء ففي حُكم السلام عليهم تفصيلٌ يُعلم بمطالعة الأدلة ومعرفة هدي سلف الأمَّة رحمهم الله، فإذا كان المبتدعُ كافراً ببدعته وحكم المحقِّقون من أهل العلم بخروجه من الملَّة، فإنَّه لا يُسلَّمُ عليه؛ إذ حكمُ السلام عليه كحكم السلام على الكفار سواء.
__________
1 موطأ مالك (رقم:2758) .
2 المسند (1/387) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:648) .
3 صحيح مسلم (رقم:2167) .
4 صحيح البخاري (رقم:6257) ، وصحيح مسلم (رقم:2164) .(3/282)
أمَّا إذا لَم يبلغ ببدعته حدَّ الكفر، فالسلامُ عليه جائزٌ ابتداءً وردًّا ما دام أنَّ الإسلامَ وهو موجبُ استحقاقه للسلام موجودٌ فيه، وهكذا الشأن في العُصاة من أهل الإسلام.
وإنَّما يُشرع تركُ السلام على هؤلاء في بعض الأحوال إذا كان في تركه تحصيلُ مصلحة راجحة أو دفع مفسدةٍ متحقَّقة، كأن يَترك السلام عليهم تأديباً لهم أو زَجراً لغيرهم، أو صيانة لنفسه من التأثُّر بهم أو غير ذلك من المقاصد الشرعية.
وأمَّا التهاجرُ والتقاطعُ وتركُ السلام بلا سبب شرعيٍّ فهو أمر لا يُحبُّه الله من عباده، ونسأل الله أن يجمع المسلمين على الحقِّ والهدى، وأن يُؤلِّفَ بين قلوبهم على البِرِّ والتقوى، وأن يهدينا جميعاً سواءَ السبيل.(3/283)
171 / مَا يُقَالُ عِنْدَ العُطَاسِ، وما يُفعل عند التثاؤب
الحديث هنا عِمَّا يُقال عند العُطاس وما يُفعل عند التثاؤب، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذا قَالَ: هَاء، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ"1.
والحكمةُ في الحمد عند العُطاس أنَّ العاطس ـ كما يقول ابن القيِّم ـ: قد حصل له بالعطاس نعمةٌ ومنفعةٌ بخروج الأبخرة المحتقنة في دِماغه، التي لو بقيتْ فيه أحدثت له أدواءً عسيرةً، ولهذا شُرع له حمدُ الله على هذه النِّعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي حصلت للبدن، فلله الحمدُ كما ينبغي لكريم وجهه وعزّ جلالُه2.
وقد تقدَّم في الحديث أنَّ اللهَ يُحبُّ العطاسَ وذلك لما فيه من النَّفع والخيرِ للإنسان ولِما يترتَّبُ عليه من حمدٍ وثناءٍ ودعاءٍ.
وأمَّا التثاؤُبُ فإنَّ اللهَ لا يحبُّه لأنَّه من الشيطان ولأنَّه في الغالب لا يكون إلاَّ مع ثِقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل، والمسلمُ مأمورٌ بكظمه ما استطاع، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "التَّثاؤُب من الشَّيْطان، فإذا تَثَاءَبَ أحدُكم فلْيَرُدَّه ما استطَاعَ، فإنَّ أحدَكم إذا قال: ها، ضَحِكَ منه الشيطان" وفي لفظ لمسلم: "فإذا تَثاءَبَ
__________
1 صحيح البخاري (رقم:6223) .
2 انظر: زاد المعاد (2/438 ـ 439) .(3/284)
أحدُكم فَلْيَكْظِِمْ ما اسْتَطَاع"1.
وقولُه: "فليكظِم ما استطاع" هذا يكون بمحاولة منع حصولُ التثاؤب، فإن لَم يتمكَّن من ذلك يحاول إغلاقَ فمه عند حصوله، فإن لَم يتمكَّن من ذلك وضع يده أو طرف لباسه على فمه.
ولا يليقُ بالمسلم أن يتثاءب مفتوحَ الفم دون وضع يدِه أو شيءٍ من لباسِه على فيه، فإنَّ هذا إضافةٌ إلى ما فيه من قبحٍ في الهيئة والمنظر فإنَّه ذريعةٌ وسبيلٌ لدخول الشيطان. فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تَثَاءَبَ أحدُكم فليُمْسِك بيَده على فِيهِ، فإنَّ الشيطانَ يَدْخُلُ"2، والتعوُّذ بالله من الشيطان عند التثاؤُب لَم يثبت فيه دليلٌ، لكن إن تذكَّر المسلم عند التثاؤُب أنَّ ذلك من الشيطان وتعوَّذ بالله منه فلا حرج في ذلك ما لَم يتَّخذْه سنَّةً.
وأمَّا فيما يتعلَّقُ بالعُطاس فقد جاءت السنَّةُ بجملةٍ من الآداب والأحكام العظيمة التي يحسُن بالمسلم مراعاتُها والعنايةُ بها وهي من جمال هذه الشريعة وكمالها، ووفائها بكلِّ شؤون الإنسان وجميع أحواله.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ"3، أَيْ: شَأْنُكُمْ.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:3289) ، وصحيح مسلم (رقم:2994) .
2 صحيح مسلم (رقم:2995) .
3 صحيح البخاري (رقم:6224) .(3/285)
فانظر أخي المسلم رعاك الله إلى هذا الجمال والكمال الذي دعت إليه الشريعةُ عند العُطاس؛ حمدٌ وثناءٌ وتراحمٌ ودعاءٌ، العاطسُ يحمَد اللهَ، ومَن يسمعه يدعو له بالرحمة، ثم هو يُبادل الدعاءَ بالدعاء، فيدعو لِمَن شَمَّته بالهداية وصلاح الحال، فما أقواها من لُحمة، وما أجمله من ترابط ووصال.
بل جعل الإسلامُ تشميتَ العاطس حقًّا من الحقوق المتبادلة بين المسلمين، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسَلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس وحمد اللهَ فشَمِّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتَّبعه"1.
والتشميتُ هو الدعاءُ بالخير، قيل: هو مشتقٌّ من الشوامت وهي القوائم، كأنَّه دعا له بالثبات والقيام بالطاعة، وقيل: معناه أبعدَك الله عن الشماتة، وجنَّبك ما يشمت عليك به.
ثمَّ إنَّ هذا التشميت إنَّما يستحقُّه مَن يحمَد اللهَ عند العُطاس، وأمَّا من لَم يحمد فإنَّه لا يُشَمَّت، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: "عَطَسَ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رجلان، فشمَّت أحدَهما ولَم يُشمِّت الآخَر، فقال الذي لَم يُشمِّته: عَطسَ فلانٌ فشَمَّتَه، وعطستُ أنا فلَم تُشَمِّتْنِِي، فقال: إنَّ هذا حَمِِدَ اللهَ، وإنَّكَ لَم تَحْمَد الله"2.
وروى مسلم عن أبي بُردة قال: دخلتُ على أبي موسى الأشعريِّ، وهو في بيت بنت الفضل بن عباس، فعطستُ فلم يُشَمِّتنِي، وعطستْ فشمتَّها، فرجعتُ
__________
1 سبق تخريجه.
2 صحيح البخاري (رقم:6225) ، وصحيح مسلم (رقم:2991) .(3/286)
إلى أمِّي فأخبرتُها، فلمَّا جاءها قالت: عطس عندك ابنِي فلم تشمِّته، وعطستْ فشمَّتها، فقال: إنَّ ابنَك عطس، فلَم يحمد الله فلم أشمِّته، وعطستْ فحمدَت الله فشمَّتُها، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ"1.
والتشميتُ ثلاثُ مرَّات، وما زاد فهو زُكامٌ يُدعى لصاحبه بالشِّفاء والعافية، روى مسلمٌ في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وعَطس رجلٌ عنده، فقال له: "يَرحَمُك الله"، ثمَّ عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّجلُ مزكومٌ"2، ورواه الترمذي وفيه: ثمَّ عطس الثانية والثالثةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا رَجلٌ مزكومٌ"3.
وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: "شَمٍِّت أخاك ثلاثاً ثلاثاً، فما زاد فهو زُكام" 4.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقوله في هذا الحديث: "الرَّجل مزكوم" تنبيهٌ على الدعاء له بالعافية؛ لأنَّ الزَّكْمَةَ علةٌ، وفيه اعتذارٌ من ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيهٌ له على هذه العلَّة ليتداركها ولا يُهملها فيصعب أمرُها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كلُّه حكمةٌ ورحمةٌ وعلمٌ وهُدى"5.
ومن السُّنَّة خَفْضُ الصوتِ بالعطاس حتى لا يزعج الناسَ، روى أبو
__________
1 صحيح مسلم (رقم:2992) .
2 صحيح مسلم (رقم:2993) .
3 سنن الترمذي (رقم:2743) .
4 سنن أبي داود (رقم:5034) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:1330) .
5 زاد المعاد (2/441) .(3/287)
داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وَضَعَ يدَه أو ثوبَه على فيه، وخَفَضَ أو غَضَّ بِهَا صَوتَه"1.
ثمَّ إنَّ العاطسَ والمشمِّتَ عليهم أن يلتزمَا في ذلك بما جاء في السنَّة، والسُّنَّة أن يقول العاطس "الحمد لله"، وله أن يقول: "الحمد لله على كلِّ حال"؛ لثبوت هذه الزيادة في سنن أبي داود، وأن يقول المشمِّت: "يرحمك الله"، وأن يقول له العاطسُ بعد تشميته: "يهديكم الله ويصلحُ بالَكم"، وقد تقدَّم حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في هذا.
وللعاطس أن يقول بدل هذا: "يرحمنا الله وإيَّاك ويغفر لنا ولكم"؛ لِمَا رواه مالك في موطئه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كانَ إذا عطس فقيل: يَرحَمُك الله، قال: يَرْحَمُنا الله وإيَّاكم، ويغفرُ لنا ولكم"2.
وقد أنكر السَّلفُ رحمهم الله مَن يزيد على هذا المأثور، فقد روى الترمذي في سننه أنَّ رجلاً عطس عند ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول: "الحمد لله، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن علَّمنا أن نقول: الحمد لله على كلِّ حال"3.
وفي هذا حرصُ السلف رحمهم الله على لزوم السُّنَّة واقتفاء هدي وآثار خير الأمَّة، ألحقنا الله بهم ووفَّقنا لاتِّباعهم.
__________
1 سنن أبي داود (رقم:5029) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4755) .
2 الموطأ (رقم:2770) .
3 سنن الترمذي (رقم:2738) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2200) .(3/288)
أذكار النكاح والتهنئه به والدخول بالزوجة , والذكر المتعلق با لأبناء
...
172 / ذِكْرُ النِّكَاحِ وَالتَّهْنِئَةِ بِهِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ، والذِّكر المتعلِّق بالأبناء
النكاحُ مِنَّةٌ من الله عظيمةٌ على عباده، يتحقَّق به من المنافع والمصالح والفوائد ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى، وهو من سُنن الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} 1.
وقد ذكره الله تعالى في معرض التفضُّل والامتنان في آيات عديدة من القرآن، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 2، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3.
والقرآن الكريمُ فيه آياتٌ عديدةٌ فيها الأمرُ بالنكاح، والترغيبُ فيه، وبيانُ آثاره وثماره، وبيانُ الحقوق المتعلِّقة به، كحُسن العشرة، والصُّحبةِ بالمعروف، وكفِّ الأذى، ونحوِ ذلك من الضوابط والحقوق، مِمَّا يُحقِّقُ للزوجَين حياةً طيِّبةً وعِشرةً صالِحة.
وقد جاء في السُّنَّة النَّبوية أذكارٌ نافعةٌ تتعلَّق بعقد النكاح، وبالتهنئة به للزوجين، وعند الدخول بالزوجة، وعند الجماع؛ يترتَّبُ على المحافظة عليها والعناية بها فوائدُ عديدةٌ، وآثارٌ مباركةٌ تعود على الزوجين في حياتهما الزوجية بالخير والنَّفع والبركة.
__________
1 سورة: الرعد، الآية (38) .
2 سورة: النحل، الآية (72) .
3 سورة: الروم، الآية (21) .(3/289)
فأمَّا الذِّكرُ عند عقد النكاح، فقد روى أبو داود والترمذي وغيرُهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةَ الحَاجَةِ؛ الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {يََا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.
{َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3") 4.
وهي خطبةٌ عظيمةٌ وذكرٌ مبارَكٌ يُستحبُّ الإتيانُ به عند عقد النكاح، وهو مشتملٌ على معان عظيمةٍ ودلالاتٍ جليلة، ففيه حمدُ الله والاستعانةُ به وحده، وطلبُ مغفرته، والتعوُّذ به من شرور النفس وسيِّئات الأعمال، والإيمانُ بقضائه وقدَره، والشهادةُ له سبحانه بالوحدانية ولنبيِّه بالرسالة، مع الوصيَّة بتقوى الله عزَّ وجلَّ وتذكُّر فضله ونعمته ولزوم طاعته سبحانه، فهي من جوامع الكلم.
قال شيخ الإٌسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذه الخطبةُ عقدُ نظام الإسلام والإيمان"5.
__________
1 سورة: النساء، الآية (1) .
2 سورة: آل عمران، الآية (102) .
3 سورة: الأحزاب، الآيتان (70 ـ 71) .
4 سنن أبي داود (رقم:2118) ، وسنن الترمذي (رقم:1105) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في كتابه: خطبة الحاجة.
5 مجموع الفتاوى (14/223) .(3/290)
أي: أنَّها جمعت مع وَجازتِها ما ينتظمُ به أمرُ الإسلام والإيمان من الاعتقادات الصحيحة القويمة، والأعمال الصالحة المستقيمة.
ومِمَّا يُنبَّه عليه في هذا المقام أنَّه لَم يرد دليلٌ على مشروعيَّة قراءة الفاتحة عند العقد، خلافاً لِمَا يفعله كثيرٌ من عوام المسلمين.
وأمَّا التهنئةُ للزوجين بالنكاح، فقد جاءت السٌُّنَّة بأن يُدعى لهما بالبركة، وأن يجمع الله بينهما في خير.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا قال: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ "1.
وروى الترمذي وأبو داود وغيرُهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَفَّأَ الإِنْسَانَ إِذا تَزَوَّجَ قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ"2.
وقوله: "إذا رفَّأ الإنسان إذا تزوَّج" أي: إذا هنَّأه ودعا له بمناسبة زواجه، وكان الناسُ في الجاهليَّة يقولون للمتزوِّج: "بالرَّفاء والبنين"، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقولهم: "بالبنين" يتوافق مع ما جرت عليه عادتُهم من الكراهية للإناث والتنفير منهنَّ، وعدم الرَّغبة في مجيئهنَّ، وفي قولهم هذا تأكيدٌ لهذه الكراهة والبغضاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدَ إلى هذه الدعوة المباركة المشتملة على الدعاء لهما بالبركة، وأن يجمع الله بينهما في خير.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5155) ، وصحيح مسلم (رقم:1427) .
2 سنن أبي داود (رقم:2130) ، وسنن الترمذي (رقم:1091) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4729) .(3/291)
وأمَّا ما يقوله الزوجُ إذا دخل على زوجته ليلة الزَّفاف، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِماً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيراً فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ"1.
وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أسألك خيرَها" أي: خيرَ هذه المرأة كحسن المعاشرة وحفظ الفراش والأمانة في المال ورعاية حقِّ الزوج، ونحو ذلك.
وقوله: "وخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عليه" أي: خيرَ ما خلقتها عليه من الأخلاق الحسنة والطِّباع المرضيَّة والسجايا الكريمة.
وقوله: "وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما جبلتها عليه" فيه التعوُّذ بالله والالتجاء إليه، بأن يَقيَه ويسلمه مِمَّا فيها من شرِّ في خُلُقها وتعاملها ومعاشرتها وسجاياها.
وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ صلاحَ أمر الزوجين والتئامَ شملهما لا يتحقَّق إلاَّ بالالتجاء إلى الله، والاعتماد عليه، وسؤاله وحده العونَ والتوفيقَ والصلاحَ.
وأمَّا ما يقوله إذا أراد أن يأتي أهلَه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهَ قَالَ: بِاسِمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذلِكَ لَمْ
__________
1 سنن أبي داود (رقم:2160) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1918) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:1557) .(3/292)
يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَداً"1.
والحكمةُ في ذلك أنَّ الشيطانَ له مشارَكةٌ في الأموال والأولاد، كما في قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} 2، فإذا دعا المسلمُ بهذه الدعوة سلمَ من هذه المشاركة ووُقي من شرِّه.
وقد جاء في السُّنَّة كذلك تعويذ الأبناء للحفظ من الشيطان، ففي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ؛ أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ"3.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلَّق بالأبناء الدعاءُ لهم بالبركة، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها: " أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنِهَا عَبْد اللهِ ابنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّك عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ "4. أي: أَوَّل مَولُودٍ وُلِد بالمدينَة مِن المُهَاجِرِينَ.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:5165) ، وصحيح مسلم (رقم:1434) .
2 سورة: الإسراء، الآية (64) .
3 صحيح البخاري (رقم:3371) .
4 صحيح البخاري (رقم:3909) ، وصحيح مسلم (رقم:2146) .(3/293)
173 / مَا يُقَالُ عِنْدَ الغَضَبِ
الغضبُ من الخصال الذَّميمة والخلال المشينة التي نهى عنها الإسلامُ وحذَّر منها أشدَّ التحذير، وهو غَلَيانُ دم القلب وازدياد خفقانه، طلباً لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام مِمَّن يحصل منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ عن ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرَّمة كالقتل والضَّرب وأنواع الظلم والعُدوان، وكثيرٌ من الأقوال المحرَّمة كالقذف والسبِّ والفُحش والبذاء، وكالأَيْمان التي لا يجوز التزامها شرعاً، وكتطليق الزوجة، ونحو ذلك من الأمور التي لا تُعقِبُ إلاَّ النَّدم، مِمَّا يدلُّ أوضح دلالة على أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ومفتاحُ أبوابه.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رجلاً قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أوصِنِي، قال: لا تَغْضَبْ، فردَّد مراراً قال: لا تَغْضَبْ"1.
فهذا الرَّجل قد طلب من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن يوصيَه بوصيَّة وَجيزة جامعة لخصال الخير ليَحفظها ويعملَ بها، فوصَّاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن لا يغضب، وردَّد السؤالَ مراراً والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يجيبُه بقوله: "لا تغضب"، وفي هذا دلالة على أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ومفتاحُه، وأنَّ التحرُّزَ منه جماعُ الخير.
وفي المسند للإمام أحمد من حديث الزهري، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله أوصِنِي. قال: "لا تَغْضَبْ"، قال الرَّجلُ: "ففكَّرتُ حين قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا
__________
1 صحيح البخاري (رقم:6116) .(3/294)
الغضبُ يَجمعُ الشرَّ كلَّه"1.
وقد جاء عن السلف رحمهم الله نقولٌ عديدةٌ في التحذير من الغضب وبيان نتائجه وعواقبه الوخيمة، يقول جعفر بن محمد رحمه الله: "الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ".
وقيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: اجمع لنا حسن الخُلق في كلمة، فقال: "تركُ الغضب".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "قد أفلح من عُصِم من الهوى والغضب والطَّمَع".
وكان يُقال: "أوَّلُ الغضب جُنونٌ وآخرُه ندمٌ"، ويُقال: "عدوُّ العقل الغضب"، ويُقال أيضاً: "كلُّ العَطَب في الغضب".
ولَمَّا كان الغضبُ بهذا القدر من الخطورة كان متعيَّناً على كلِّ مسلم أن يَحذَرَ منه، وأن يُجاهدَ نفسَه على البُعد عنه؛ ليَسلَم من عواقبه ونتائجه.
وقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدِّم: "لا تغضب" يتضمَّنُ أمرَين عظيمَين للسلامة من الغضب ونتائجه.
أحدهما: الأمرُ بفعل الأسباب وتمرين النفس على حُسن الخلق والحِلْم والصَّبر واحتمال أذى الناس القولي والفعلي، فإذا وُفِّق العبدُ لذلك فإنَّه إذا ورد عليه واردُ الغضب احتمله بحسن خُلُقه، وتلقَّاه بحِلْمه وصبره.
ومن القواعد المتقرَّرة أنَّ الأمرَ بالشيء أمرٌ به وبما لا يتمُّ إلاَّ به، والنَّهي عن الشيء أمرٌ بضدِّه، فنهيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن الغضب يتضمَّن الأمرَ بالصَّبر والحِلم وحسن الخُلُق.
__________
1 المسند (5/573) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2746) .(3/295)
ثانياً: أنَّ أمرَه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب فيه أمرٌ بعدم تنفيذ الغضب؛ لأنَّ الغضبَ غالباً لا يتمكَّن الإنسانُ من دفعه وردِّه، ولكنَّه يتمكَّن من عدم تنفيذه، فعليه أن يَمنعَ نفسَه من الأقوال والأفعال المحرَّمة التي يجرُّ الغضبُ إليها، فمتى منع نفسَه من آثار الغضب الضارَّة، فكأنَّه في الحقيقة لَم يغضب، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، وفي الحديث: " ليس الشَّديد بالصرعة، إنَّما الشَّديد من يملك نفسه عند الغضب"2.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوَجَّه ويأمرُ مَن غضب بفعل الأسباب التي تدفعُ الغضبَ وتسكنه، ويأمرُ بالتعوُّذ بالله من الشيطان الذي يُحرِّك الغضبَ في القلوب، ويُثير الفتنَ ويدعو إلى الشرِّ والفساد.
روى البخاري ومسلم عن سُليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: ألاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ"3.
وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الغضبَ من نزغ الشيطان، وأنَّ مَن حصل له الغضبُ ينبغي له أن يستعيذ بالله منه، كما يدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4.
__________
1 سورة: الشورى، الآية (37) .
2 صحيح البخاري (رقم:6114) ، وصحيح مسلم (رقم:2609) .
3 صحيح البخاري (رقم:6115) ، وصحيح مسلم (رقم:2610) .
4 سورة: الأعراف، الآية (200) .(3/296)
ثمَّ إنَّ الشيطانَ أعاذنا الله منه يتمكَّنُ من الإنسان حالَ غضبه، فيدفعه إلى ارتكاب الآثام، ويأزُّه إلى السبِّ والأذى والإجرام، فإذا استعاذ المسلمُ بالله حُفظ منه ووُقي من شرِّه.
ومِمَّا أرشد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الغضبانَ إلى فعله التباعدَ عن كلِّ ما يستثيرُه ويُقربه من الانتقام، سواءً بالقول أم الفعل.
فأمَّا القولُ فقد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إذا غَضِبَ أحدُكم فليَسْكُت"، قالها ثلاثاً1.
وذلك أنَّ الغضبانَ إن تكلَّم حالَ غضبه فإنَّ الغالبَ على كلامه التعدِّي والإساءة، فمن الخير له أن يَكفَّ عن الكلام حال الغضب حتى يسكن، فإذا سكن اتَّزن كلامُه وحسن حديثُه، وكان كلامُه في حال الغضب قريباً أو مساوياً لكلامه حال الرِّضا ليس فيه ظلم ولا عدوان.
ومن الدعوات النبوية المباركة قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في دعائه: "وأسألك كلمة الحقِّ في الغضب والرِّضَا"2، وهذا عزيز أن لا يقول الإنسانُ إلاَّ الحقَّ سواء غضبَ أو رضيَ.
وأمَّا الفعل فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرُهما من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذا غضب أحدُكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلاَّ فليضطجع"3.
__________
1 المسند (1/239) .
2 جزء من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وقد تقدَّم.
3 سنن أبي داود (رقم:4782) ، والمسند (5/152) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:694) .(3/297)
وذلك أنَّ الغضبانَ إن بقي قائماً حال غضبه فإنَّه سيكون قريباً مِِمَّن أغضبه، متهيِّئاً للانتقام منه، فربَّما ضربه أو لطمه أو اعتدى عليه، فإذا جلس تباعد منه، وإذا اضطجع كان أبعدَ وأبعد.
وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ الغضبانَ ينبغي عليه أن يحرصَ على أن يملكَ نفسَه حال الغضب في الأقوال والأفعال، فلا يُباشر شيئاً منها حتى يسكن ويطمئنَّ؛ ليكون قولُه حقًّا وفعلُه عدلاً، لا زلل فيه ولا شطَط.
والله وحده المسؤول أن يُوفِّقنا وإيَّاكم إلى سديد القول وصالح العمل، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.(3/298)
174 / أدعية مأثورة في أبواب متفرِّقة
سنتناول فيما يلي أنواعاً من الأدعية المأثورة في أبواب متفرِّقة، مع الإشارة إلى شيء من معانيها، وهي تدلُّ على كمال هدي النَّبِِيِّ صلى الله عليه وسلم وعِظم شأن أدعيته، وتناولها لجميع أبواب الخير في جميع شؤون الحياة.
فمن السُّنَّة أن يقول مَن لبس ثوباً جديداً: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ، لِما رواه أبو داود والترمذي وغيرُهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْباً سَمَّاهُ بِاسْمِه، عِمَامَةً أَوْ قَمِيصاً أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ"1.
وقوله: "اسْتَجَدَّ ثَوْباً"، أَي: لبسَ ثَوْباً جَديداً.
وقوله: "أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ" من أعظم خيره أنَّه يستُر عورةَ الإنسان، ويواري سوءَته، ويجمِّلُ هيأته، ويُحسِّنُ مظهرَه ومنظرَه.
وقوله: "وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ" من أعظم شرِّه أن يُلبس على وجه الأَشَر والكِبْر والتعالي على الخلق، ومن لَم يزن باطنُهُ لَم تغن عنه زينتُه الظاهرة شيئاً {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 2.
__________
1 سنن أبي داود (رقم:4030) ، وسنن الترمذي (رقم:1767) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4664) .
2 سورة: الأعراف، الآية (26) .(3/299)
ويُستحبُّ للمسلم إذا رأى على صاحبه ثوباً جديداً أن يقول: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللهُ تَعَالَى، فقد روى أبو داود عن أبي نضرة قال: "كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْباً جَدِيداً، قِيلَ لَهُ: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللهُ تَعَالَى"1.
وقد جاء نحوُه مرفوعاً من حديث أمِّ خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنها، رواه البخاري في صحيحه2.
وقولهم: "تبلي ويُخلف الله" فيه دعاءٌ له بأن يُبقيه الله ويبلَى الثوبُ ويُخلفه الله خيراً منه.
ومن السُّنَّة أن يقول المسلم لِمَن صنع إليه معروفاً: جزاك اللهُ خيراً، فإنَّها دعوةٌ عظيمةٌ وثناءٌ بالغ، روى الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ"3.
وكان من هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدعاءُ بالبركة عند رؤية باكورة الثَّمَر، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: "كَانَ النَّاسُ إِذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا،
__________
1 سنن أبي داود (رقم:4020) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:3393) .
2 صحيح البخاري (رقم:5824) .
3 سنن الترمذي (رقم:2036) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6368) .(3/300)
اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيَهُ ذَلِكَ الثَّمَرِ"1.
ومن السُّنَّة إذا كان عند الإنسان شيءٌ وخاف عليه من العَيْن ذِكرُ الله، والدعاءُ، والاستعاذة.
قال الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} 2.
وعن سَهل بن حُنيف، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُعْجِبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيُبَرِّكْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ" رواه أحمد3.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذ مِن الجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَت المُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" رواه الترمذي وابن ماجه4.
وفي الحديث دلالةٌ على عظم شأن هاتين السورَتين، وعظم منفعتهما وشدَّة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنَّه لا يستغني عنهما أحد، وأنَّ لهما تأثيراً خاصًّا في دفع الجانِّ والسِّحر والعَين وسائر الشرور، وقد تضمَّنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلِّها بأوجَز لفظ وأجمعه وأدلِّه على
__________
1 صحيح مسلم (رقم:1373) .
2 سورة: الكهف، الآية (39) .
3 المسند (3/447) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:556) .
4 سنن الترمذي (رقم:2058) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3511) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4902) .(3/301)
المراد وأعمِّه استعاذة، بحيث لَم يبق من الشرور شيءٌ إلاَّ دخل تحت الشرِّ المستعاذ منه فيهما.
ومن السُّنَّة أن يقول المسلم إذا رأى أحداً من أهلِ البلاء: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، وهي دعوةٌ عظيمةٌ نافعةٌ مَن قالَها حين يرى البلاءَ، لَم يُصبه ذلك البلاءًُ بإذن الله عزَّ وجلَّ، ففي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلاَءُ"1.
وليَحذر المسلمُ من الشماتة بأهل البلاء؛ فإنَّه لا يأمن أن يبتليه الله بما ابتلاهم فيه، يقول إبراهيم النَّخعي رحمه الله: "إنِّي لأرى الشيءَ أكرهه، فما يَمنعُنِي أن أتكلَّم فيه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى بمثله".
ومن السُّنَّة أن يدعوَ المسلمُ لأخيه إذا قال له: إنِّي أحبُّك في الله، بأن يقول: أَحبَك الله الذي أحببتنِي فيه، ففي سنن أبي داود عنه أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعْلَمْتَهُ قَالَ: لاَ. قَالَ: أَعْلِمْهُ. قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ"2.
ومن السُّنَّة أن يسألَ المسلمُ ربَّه من فضله عند سماع صياح الدِّيَكة، وأن يتعوَّذ بالله من الشيطان عند سماع نُباحَ الكلاب ونهيقَ الحُمُر، روى
__________
1 سنن الترمذي (رقم:3432) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6248) .
2 سنن أبي داود (رقم:5125) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (1/2/779) .(3/302)
البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَاناً"1.
وروى أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الكِلاَبِ وَنَهِيقَ الحُمُرِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذوا بِاللهِ، فَإِنَّهُنَّ يَرَيْنَ مَا لاَ تَرَوْنَ"2.
ومن السُّنَّة أن يقولَ المسلمُ إذا دخل السُّوقَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ففي الترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلَفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ"3.
والله المسؤول أن يُعيننا جميعاً على كلِّ خير، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.
__________
1 صحيح البخاري (رقم:3303) ، وصحيح مسلم (رقم:2729) .
2 سنن أبي داود (رقم:5103) ، ومسند أحمد (3/306) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:620) .
3 سنن الترمذي (رقم:3428) ، وسنن ابن ماجه (رقم:2235) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6231) .(3/303)
175 / كَفَّارَةُ المَجْلِسِ
إنَّ الواجبَ على كلِّ مسلم أن يَحفظَ مجالسَه من أن تضيع في اللَّغَط والباطل وفيما يضرُّ الإنسانَ في الآخرة، وأن يحرصَ على ملئها بالنافع المفيد من أمر الدِّين والدنيا، وليعلم أنَّ ألفاظَه معدودةٌ عليه، مكتوبةٌ في صحائفه، مسطَّرةٌ في أعماله، وسوف يُحاسَب عليها عندما يلقى الله عزَّ وجلَّ، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، والله تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1.
فمن الخير للمسلم أن يحفظَ مجالسَه ويجتهدَ في عمارتها بذكر الله تعالى ونحو ذلك مِمَّا يسرُّه أن يلقى اللهَ به، وما جلس أحدٌ مجلساً ضيَّعه في غير ذكر الله إلاَّ ندم أشدَّ النَّدم.
روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً" 2؛ لأنَّ الذين يقومون عن مجلس فيه جيفةُ حمار لا يحصل لهم في مجلسهم ذلك إلاَّ الروائح المنتنة، والمنظر الكريه، ولا يقومون إلاَّ وهم بندامة وحسرة، فكذلك مَن يقومون عن مجلس ليس فيه ذكر الله، لا يحصل لهم إلاَّ الخوضُ في الآثام والتنقُّل في أباطيل الكلام، إلى غير ذلك من الأمور التي تضرُّ في الآخرة، وتورثُ الحسرةَ والندامة.
__________
1 سورة: ق، الآية (18) .
2 سنن أبي داود (رقم:4855) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:5750) .(3/304)
ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى أن يُختم المجلس بذكر الله وطلب مغفرته؛ ليكون ذلك كفَّارةً لِمَا كان من الإنسان في مجلسه، ففي الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفر لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ"1.
وروى أبو داود عن أبي بَرزَة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"2.
وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مجلساً أو صلَّى تكلَّم بكلمات، فسألته عائشة عن الكلمات فقال: إن تكلَّم بخير كان طابعاً عليهنَّ إلى يوم القيامة، وإن تكلَّم بغير ذلك كان كفَّارةً له: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"3.
ورغم أهميَّة هذا الدعاء وعظم فضله، إلاَّ أنَّ كثيراً من الناس تضيعُ مجالسُهم في اللَّغَط واللَّهو وما لا فائدة فيه، وفي الوقت نفسه يَحرمون أنفسَهم من هذا الخير العظيم.
__________
1 سنن أبي داود (رقم:4858) ، وسنن الترمذي (رقم:3433) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1516) .
2 سنن أبي داود (رقم:4859) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1517) .
3 سنن النسائي (3/71) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1518) .(3/305)
وقد ذهب عددٌ من أهل العلم إلى أنَّ هذا الذِّكرَ هو المعنِيُّ بقول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} 1.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وروي عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن في قول الله عزَّ وجلَّ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} منهم مجاهد وأبو الأحوص ويحيى بن جعدة، قالوا: حين تقوم من كلِّ مجلس تقول: سبحانك اللهمَّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالَها غُفر له ما كان منه في المجلس، وقال عطاء: إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفَّارةً"2.
ومن الدعوات العظيمة التي كان يختم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من مجالسه، ما رواه الترمذي وغيرُه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُو بِهَؤَلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا"3.
__________
1 سورة: الطور، الآية (48) .
2 بهجة المجالس (1/53) .
3 سنن الترمذي (رقم:3502) ، وحسَّنه العلاَّمة الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1268) .(3/306)
وهي دعوةٌ جامعةٌ لأبواب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
وقوله: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ" أي: اجعل لنا حظًّا ونصيباً من خشيتك ـ وهي الخوف المقرون بالتعظيم لله ومعرفته سبحانه ـ ما يكون حاجزاً لنا ومانعاً من الوقوع في المعاصي والذنوب والآثام، وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ خشيةَ الله أعظمُ رادع وحاجز للإنسان عن الوقوع في الذنوب، والله يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، فكلَّما ازدادت معرفة العبد بالله ازداد خشيةً لله وإقبالاً على طاعته وبُعداً عن معاصيه.
وقوله: "وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ" أي: ويسِّر لي من طاعتك ما يكون سبباً لنيل رضاك وبلوغ جنَّتك التي أعدَدتَها لعبادك المتَّقين.
وقوله: "وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا" أي: اقسم لنا من اليقين وهو تمام العلم وكماله بأنَّ الأمرَ لله من قبل ومن بعد، وأنَّه سبحانه يُدبِّر أمورَ الخلائق كيف يشاء ويقضي فيهم ما يريد ما يكون سبباً لتهوين المصائب والنوازل التي قد تحلُّ بالإنسان في هذه الحياة، واليقين كلَّما قوي في الإنسان كان ذلك فيه أدعى إلى الصبر على البلاء؛ لعلم الموقن أنَّ كلَّ ما أصابه إنَّما هو من عند الله، فيرضى ويسلِّم.
وقوله: "وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا" فيه سؤال الله أن يبقي له السمع والبصر وسائر القوى؛ ليَتمتَّع بها مدَّة حياته.
وقوله: "واجعَلْه الوارثَ منَّا" أي: اجعل هذا التمتُّعَ بالحواس والقوى باقياً مستمرًّا بأن تبقى صحيحةً سليمةً إلى أن أموت.
__________
1 سورة: فاطر، الآية (28) .(3/307)
وقوله: "واجعل ثأرنا على من ظلمنا" أي: وفِّقنا للأخذ بثأرنا مِمَّن ظلمنا، دون أن نتعدَّى فنأخذ بالثأر من غير الظالم.
وقوله: "وانصرنا على من عادانا" أي: اكتب لنا النصر على الأعداء.
وقوله: "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا" أي: لا تُصبنا بما ينقص ديننا ويُذهبه من اعتقاد سيِّء أو تقصير في الطاعة أو فعل للحرام، وذلك لأنَّ المصيبةَ في الدِّين أعظمُ المصائب وليس عنها عِوَض، خلاف المصيبة في الدنيا.
وقوله: "ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا" أي: لا تجعل أكبر قصدنا وحزننا لأجل الدنيا؛ لأنَّ مَن كان أكبرَ قصده الدنيا فهو بمعزل عن الآخرة، وفي هذا دلالة على أنَّ القليلَ من الهمِّ مِمَّا لا بدَّ منه في أمر المعاش مُرخَّصٌ فيه.
وقوله: "ولا مبلغ علمنا" أي: لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نفكِّر إلاَّ في أحوال الدنيا.
وقوله: "ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا" أي: من الكفار والفجَّار والظلمة.
وبهذا ينتهي الكلام على هذا الدعاء العظيم، وهو من جوامع كلم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وبه مسكُ الختام، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمَّ الكتاب بحمد الله ويليه القسم الرابع إن شاء الله وهو في شرح جملة من الأدعية الجوامع المأثورة عن النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.(3/308)