قسم عام(/)
أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
* بسم الله الرحمن الرحيم *
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فنسأل الله جل وعلا أن ينور بصائرنا بتوحيده، وأن يقيم قلوبنا على دينه، وأن يمن علينا بالاستقامة، وأن يعيذنا من الزلل والزغل في المقال والفعال. ونعوذ به جل وعلا من فتنة القول كما نعوذ به جل وعلا من فتنة العمل، ولكل منهما فتنة شرها عظيم.
[*أهمية الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*]
ثم أما بعد : فإن الفقه في الدعوة إلى الله جل وعلا والفقه في الأمر بالمعروف والنهي…([1]) ومحبته للخير تؤهله إلى أن يفعل كل شيء وأن يأمر بكل معروف يراه معروفا وأن ينهى عن كل منكر يراه منكرا، وضاع بين فريق آخر هم الذين علموا فسكتوا وفقهوا فلم يتحركوا وتفهموا مراد الله جل وعلا ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنهم رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فنحن بين هؤلاء وهؤلاء في شكوى مُرَّة وكان الناس فيما مضى في هذه البلاد خاصة كما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا بين هؤلاء وهؤلاء، العالِم يتكلم بعلمه ويقوم بحق العلم الذي من الله جل وعلا عليه به، والجاهل لا يتكلم إلا في ما يحسنه من العلم الضروري الذي لا يسع أحدا جهله، كان الناس هكذا ثم تغير الحال فضاع الأمر وضاعت الدعوة وضاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين هذين الفرقين إلا من رحم الله وقليل ما هم، وهؤلاء هم الذين ندعو الله جل وعلا لهم صباح مساء بأن يسدد الله خطاهم وأن ينصرهم وأن يقيمهم على مراده وأن يوفقهم إلى كل خير.(1/1)
لا شك - إذن - أن لهذا الأمر - وهو الفقه في الدعوة والفقه في الأمر والنهي والفقه في النصيحة - أن له آدابا وأن له شروطا، لا بد لمن أراد أن يسلك هذا السبيل - وكلنا إن شاء الله مريد لذلك – لا بد له أن يتعلمها، ويتعلمها من أهل العلم أو من طلبة العلم أو ممن ينقل عن أهل العلم، وهذا الأمر : الدعوة إلى الله، الدعوة إلى الخير، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النصيحة، هذه الألفاظ الأربعة معانيها متقاربة، فإذا قيل : داع إلى الله فمعنى ذلك أنه آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر، معنى ذلك أنه ذو نصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين ولعامتهم، فإذن هذه الألفاظ متقاربة، متقاربة معانيها فإذا تكلمنا عن الدعوة إلى الله وآداب الدعوة وشرائط الدعوة هو كلامنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آدابه وشرائطه هو كلامنا عن النصيحة في آدابها وشرائطها، والدعوة إلى الله جل وعلا هي التي بها يكون توسع دائرة الإيمان وسعة المؤمنين وكثرتهم، فإذا وجدت الدعوة تكاثر المؤمنون، زاد ثبات محسنهم ورد مسيئُهم إلى الهدى وأسلم من لم يكن من أهل الإيمان، فإذن الدعوة في المجتمع المؤمن مهمة للغاية وذلك لأن بها صلاح الناس جميعا، وبها توسيع دائرة المؤمنين وكثرة عددهم.(1/2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو كالسياج للمؤمنين، هو كالمحافظ للمؤمنين عن أن تتسلط عليهم معاول الردى أو أن تتسلط عليهم معاول الغواية أو أن يتسلط عليهم الشيطان وأولياؤه، ولا شك أن الله جل وعلا جعل الشيطان فتنة وجعله عدوا لنا، فلا سبيل إلى الوقاية منه ومن أحابيله إلا بالأمر والنهي فإذن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحافظ على رأس المال يحافظ على المؤمنين يحافظ عليهم من أن يزيغوا أو يتقلبوا أو يتبدلوا، فإذا لم يُقَمْ بالدعوة لم تتسع دائرة الإسلام وإذا لم يقم بالأمر والنهي دُخِلَتْ دار المؤمنين وأخذت قلوبَهم اللصوصُ والسُّرَّاقُ فذهبت بها إلى حيث يعيش أهل الغواية، وهذا ظاهر في ما ترونه، وظاهر في ما تسمعونه. النبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله جل وعلا إذ قال له : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:104) امتثل ذلك فدعا إلى الله جل وعلا ودعا أصحابه وأمر بالأمر ونهى وأمر بأن يُنْهى عن المنكر ولهذا اتسعت دائرة الإسلام وحافظ أهل الإيمان على المؤمنين وقلَّت الغواية وضعف الفساد وقلَّ تسلط الشيطان وتسلط أوليائه على قلوب المؤمنين لأنه بهذه الأمور مجتمعة يكون الهدى ويكون الخير.(1/3)
السلف الصالح تبعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك ولهذا بقيت الأمة قوية وبقي المؤمنون هداة مهتدين وبقي الحق إلى أن ورثتموه، في الزمن الماضي القريب لما شاع الشرك وظهر، وظهر الفساد وقلَّ المحافظ على الصلوات وقلَّ المؤدي للزكاة وشاع كل منكر في هذه البلاد قيض الله جل وعلا لها داعية مصلحا هو الإمام محمد بن الوهاب رحمه الله تعالى فاقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر وَفَقِهَ في الآيات وفقه الأحاديث ولهذا جعل الدعوة قائمة، فدخل في دعوة التوحيد أممٌ وخلائقُ لا يُحصَون وقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد، جهاد النفس وجهاد الأعداء وجهاد الشيطان في أن يتخلل صفوف المؤمنين، فأقام للدعوة أناسًا وأقام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طائفةً خاصةً ترتبط بالإمام لكي يكون الأمر أقوى وتكون شوكتها أعلى ويكون نفادها في الناس أغلى وأحلى. ولهذا بقي الأمر قويا ونسأله أن يجعله كذلك.
[*الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام وليس خاصا بطائفة معينة*]
لم يكن تخصيص تلك الطائفة بهذا الأمر يعني الاقتصار عليهم فيه بل كل مسلم يجب عليه كل مسلم يجب عليه أن يدعو إلى الخير وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو بأقل قليل فجنس الدعوة وجنس الأمر وجنس النهي واجب على كل فرد أن يدعو نفسه يأمر نفسه ينهى نفسه يأمر من تحت يده يدعو من تحت يده ممن يرجو صلاحهم هذا واجب على الجميع، فإذن تخصيص طائفة بهذا الأمر لا يعني أن يتنصل الناس عن هذا الواجب أو أن يتنصل الناس عن المستحب من القيام بهذا الأمر.(1/4)
نعود مرة أخرى فنقول : إذ كان ذلك مطلوبا منا عامة فهل يُطْلب منا دون آداب نتأدب بها ودون شروط تكون مشترطة في حق القائم بالدعوة والقائم بالأمر والقائم بالنهي؟ لا شك أن الشرع ضبط أحوال الناس وضبط تصرفاتهم وضبط أمورهم فلم يتركهم يتصرفون بمقتضى عقولهم أو بمقتضى عواطفهم، ولو حكَّم الناس عقولهم في تصرفاتهم الشرعية أو حكَّموا أهواءهم أو حكموا عواطفهم في هذا الأمر لضاع الأمر حقا ولضاع سريعا، ولكن الشرع ضبطه وجعل للآمر الناهي وللداعي وللناصح آدابا لا بد أن يراعيها، ولهذا نذكر هذه الآداب لعلني أنتفع بها ولعل من يسمع ذلك أن ينتفع بها، والمسئول هو الله جل وعلا أن ينفع المتكلم بذلك وأن ينفع السامع وأن ينفع المبلِّغ والمبلَّغ.
[* آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر *]
أعظم تلك الآداب وأعظم تلك الشرائط : الإخلاص. والإخلاص أمر عزيز، الإخلاص أمر هو رأس الدين، بل الدين كله قائم على الإخلاص يقول الله جل وعلا: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة:5)، وقال جل وعلا : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الزمر:11) وقال جل وعلا : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (الزمر:14) والدين هو ما أمر الله جل وعلا به فكل ما أمر الله جل وعلا به فهو داخل في الدين ومما أمر الله به : الدعوة والأمر والنهي قال جل وعلا : (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) (الحج : 67 والقصص: 87) وقال جل وعلا : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك) (النحل: 125) فإذن، إذن الدعوة والأمر والنهي من الدين فإذن لا بد فيها من الإخلاص، الإخلاص هو أن يكون القصد هو الله جل وعلا، ليس القصد الرياء ليس القصد التسلط ليس القصد أن تظهر ذا شخصية وذا قوة.. لا .. القصد هو الله جل وعلا : قال ابن القيم :
فلواحد كن واحد في واحد أعني طريق الحق والإيمان(1/5)
كما أنك واحد فكذلك أَفْرِدِ الْواحدَ بجميع عباداتك وجميع تصرفاتك، (فلواحد) وهو الله جل وعلا (كن واحدا في واحد) يعني في سبيل واحد وهو طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الإخلاص أن تتجرد لله في دعوتك قال الله جل وعلا : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف:108) في قوله جل وعلا : (أَدْعُو إِلَى اللهِ) تنبيه على الإخلاص كما نبه على ذلك شيخ الإسلام في مسائل "كتاب التوحيد" قال : في قوله : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) تنبيه على الإخلاص لأن كثيرا وإن دعا في الظاهر إلى الله فإنه إنما يدعو إلى نفسه أو يدعو إلى عصبية أو يدعو إلى حزب أو يدعو إلى جماعة. قد يدعو إلى نفسه فيفوته الإخلاص، كيف يدعو إلى نفسه؟ يدعو إلى أن يكون قوله هو المقدم، من أنت؟ قد يدعو إلى حزبه وأن يكون مراده أن يكثر أتباع حزبه أو أن يكثر أتباع جماعته هذا فاته الإخلاص، هذا فاته الإخلاص ، يأمر من قصر في معروف وهو يريد أن يبين أن ذلك ناقص وأنه هو أعلم منه وأنه أفهم منه، فاته الإخلاص، إذن الإخلاص محكٌّ الإخلاص محكٌّ وكلٌّ يحاسب نفسه، فمن رام هذا الأمر وهو الدعوة : الأمر والنهي والنصيحة دون إخلاص دون أن يعلم الرب تبارك وتعالى من قلبك أنك متجرد، لا تريد الدعوة إلا إلى الله متذكرا قوله جل وعلا : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) لا إلى غيره، تدعو إلى من؟ إلى الله لا إلى غيره، فإن كنتَ تدعو إلى الله وتدعو إلى غيره من الفئات أو إلى نفسك أو إلى أن تكون مقدما فعزِّ نفسك في نفسك، بهذا نضرب مثلا يبيِّن أثر الإخلاص في العمل أثر الإخلاص في الدعوة أثر الإخلاص في الأمر والنهي ألا وهو الدعاء للمدعو، الدعاء لمن يراد أن يؤمر الدعاء لمن يراد أن يُنهى عن منكر، هل هناك أعظم من الشرك؟ لا، النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله بقوله :(1/6)
(اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) يعني أبا جهل وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. فسأل الله جل وعلا لهؤلاء.. لهذين المشركين أن يهدي الله أحدهما، أو أن يهديهما جميعا وذلك مع ضميمة أنهما كانا مجاهرين بالعداوة مظهرين للإفاسد مضيقين على القلة المؤمنة في مكة مع ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم إذن أثر الإخلاص أثر التجرد يظهر في محبتك العظمى لأن تنفع هذا المدعو أنت تنفعه لماذا؟ لكي يهتدي، والقلوب بيد من؟ بيد الله جل وعلا، إذن تطرق أبواب من يهدي القلوب، اطرق أبواب من يقلّب القلوب.
مما يذكر في هذا : المراسلة التي كانت بين إمام الدعوة رحمه الله الإمام محمد بن عبد الوهاب وأحد العلماء الذين كانوا في مجابهة للدعوة وهو عبد الله بن عبد اللطيف الأحسائي أحد علماء الأحساء كتب للشيخ رسائل، وكان بينه وبينه مراسلات ووقع في قلبه شكوك وكاد بعض الكيد وأشاع بعض الإشاعات على التوحيد وأهله، أرسل إليه الشيخ رسالة وكان مما قال له فيها قال :"والله إني لأدعو لك في صلاتي وأسأل الله جل وعلا أن يجعلك فاروقا لدين الله في آخر هذه الأمة كما كان عمر فاروقا لدين الله في أول هذه الأمة". محبة للنفع ليست محبة للإيذاء، هذا أثر الإخلاص ولهذا أثمرت الدعوة، ونحن لو أخلصنا حقا لأثمرت بإذن الله جل وعلا، ولكن مصابنا في أنفسنا. إذن هذا أول الآداب أن تكون مخلصا متجردا لله جل وعلا.
ومن الآداب والشرائط، والآداب منها ما هو شرط والشرائط منها ما هو أدب فلذلك نداخل بينها، ثم يأتي تفصيل للشرائط في إجمال.(1/7)
الأدب الثاني : العلم. والعلم هو الزينة التي يتزين بها الناس، الجاهل ميت، والعالم حي، لكن ما هو هذا العلم الذي نحتاجه في هذا المقام؟ لا نقول : إنه لا يأمر وينهى ويدعو إلى الله جل وعلا إلا العلماء، إذن كم عدد العلماء؟ قلة، فإذن يضيع الأمر. بل يؤمر وينهى ويدعى إلى الله جل وعلا، لكن لا بد من العلم، العلم بماذا؟ العلم بما تتكلم به أو تدعو إليه، والعلم أثنى الله جل وعلا على أهله بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون) (الزمر: 9) وأثنى الله جل وعلا على أهله بقوله : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: 28) لكن أهل العلم يقولون : العلم علمان :
1- علم لا يسع أحدا جهله : مطلوب من كل أحد أن يتعلمه، وهو ما يصح به إسلامك، تتعلم التوحيد : معنى الشهادتين، ما معنى كلمة التوحيد؟ ما معنى إفرادك لله جل وعلا العبادة؟ تفهم ذلك بأدلته، ما معنى شهادة أن محمدا رسول الله ؟ الأركان : أركان الإسلام، تتعلم ذلك، المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة : حرمة الخمر، حرمة الزنا، حرمة الربا، حرمة القطيعة قطيعة الأرحام ونحو ذلك، الأمور المجمع عليها. الأمر بصلة الأرحام الأمر ببر الوالدين، هذه الأمور لا يسع أحد جهلها، لا بد أن تعلم أن الصلاة فرض، وأن الزكاة فرض، وأن الصيام فرض وأن الحج فرض، إذن هذا علم لا يسع أحدا جهله، هذا جميع المسلمين علماء بهذا، وإذا كانوا جهالا بهذا لم يكونوا مسلمين، ولذلك من نواقض الإسلام، العاشر من نواقض الإسلام : الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، الذي لا يتعلم دين الله يعني ما يصح إسلامه به، ولا يعمل به هذا ليس من المسلمين وإن عاش بينهم.(1/8)
2- القسم الثاني من العلم : العلم الذي هو من فروض الكفايات، العلم بدقائق الشرع، العلم بالمسائل التي ليست هي من الأمور العظام أمور الشرع العظام، هذا لا شك أنه يتفاوت الناس فيه والذي يعلمه تمام العلم هم العلماء، وطلبة العلم يعلمون من ذلك شيئا.
إذن إذ كان العلم قسمان : علم هو فرض عين، وعلم هو فرض كفاية، فلا بد للداعي من أن يكون عالما بما يدعو إليه، إذا كان ليس من العلماء يدعو بما علم، يدعو إلى معنى التوحيد، يدعو إلى معنى الشهادتين، يدعو إلى ما يعلمه من الصلاة، يحث على الصلاة، يأمر بها، يأمر بتلاوة القرآن ويحث عليه، هذا شيء معلوم ما يفترق فيه الناس ولا تختلف فيه العلوم من حيث أصلُه وفرضُه، إذن هذا لا حَجْرَ على أحد فيه، بل الجميع مطالبون بأن يدعوا إلى الله جل وعلا بما علموا، الخمر هل ممكن أن يكون مسلم يقول : أنا لا أعلم الخمر محرمة أو لا؟ لا يمكن، إذن لا بد أن ينهى عنها، قطيعة الرحم، هل ممكن لمسلم أن يقول : لا.. قطيعة الرحم قد تكون جائزة، أنا ما أدري.. لا.. هذا معلوم من الدين بالضرورة أن الله جل وعلا أمر بصلة الأرحام وكان هذا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، إذن هذا من الأمور العامة التي لا يسع أحدا جهلها، فتدعو إلى ذلك. أما إذا أتت المسائل الأخرى فلا بد إذا تكلمت أن تكون عالما بالمسألة التي تتكلم فيها، إذا كان عندك علم بمسألة فتتكلم بها، إذا لم يكن عندك علم فلا تتكلم، لا تنه عن شيء ربما يكون نهيك في غير محله، ولو كان الأمر فوضى كلٌّ يأمر وينهى بما رآه يصلح لانمحت الشريعة.
إذن عرفنا حد الذي يتأدب به عامة المسلمين والحد الذي يتأدب به خواص العلماء وخواص طلبة العلم، وهذا مما يقودك إلى فضيلة العلم وأنك لا بد لك أن تتعلم، لا بد لك أن تتعلم، نور في الصدور، قال ابن الوردي في "لاميته" المشهورة :
اطلب العلم وحصله فما أبعد الخير على أهل الكسل(1/9)
واحتفل للفقه في الدين ولا تشتغل عنه بمال وخول
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المقصود يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
العلم لا بد منه، ولهذا من آنس من نفسه رشدا لا بد أن يتعلم هذا الأدب الثاني. هذا الأدب له ثمرات نراها في حياتنا، وإذا كان الآمر الناهي أو الداعية إذا كان عالما كان له من الأثر ما ليس لغيره، مثال ذلك : ما مثال ذلك؟ مثاله: أن تأتي إلى من تريد أن تدعوه إلى الخير فتأتيه بما تعلم وتترك ما لا تعلم فتنقله من الحالة التي هو فيها إلى حالة أحسن، مثلا : من يترك الصلاة أو لا يحضر الصلوات في المساجد وأنت ترى ثوبه مسبلا أنت تراه مسبل الثوب أو تراه حليقا، أو نحو ذلك من المنكرات، تكلمه في أيهما؟ تكلمه في الصلاة، من يفهم هذا؟ يفهم هذا العالمُ أو من استرشد بالعلماء، إذا كنت أنت لا تعلم أشياء فتكلم بما تعلم به وهي الصلاة، لو دعونا الناس إليها وإلى أدائها في الجماعات لكنا أهل خير ومحبة للناس.(1/10)
من الآداب – وهو الأدب الثالث - : العمل بالعلم : إذا أمرت بمعروف لتكن أنت أول المسارعين إليه، إذا نهيت عن منكر لتكن أول المنتهين عنه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة.." - الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح - وذكر منهم : من علم فلم يعمل، رجل قرأ القرآن، ورجل أمر ونهى قال : أمرت ونهيت فيك، قال : لا .. كذبت، رجل كان يأمر الناس بالمعروف ولا يأتيه، ورجل كان ينهى كان ينهى الناس عن المنكر ويسارع إلى المنكرات، هذا بلاء عام، وهذا ظاهر، ظاهر في أحوال بعض الناس، العمل بالعلم لا بد منه وبه ينفع الله جل وعلا بما تقوله وما تفعله وما تدعو إليه، لا تظن أنك إذا عصيت الله جل وعلا في خفاء أن هذا لا أثر له في الظاهر، لا.. له أثر، لماذا؟ لأنك أنت الداعي وذاك مدعوُّك والهادي هو الله جل وعلا والهادي هو المطلع على عملك وقلبك، لكن سيأتينا في الشرائط أن من كان يعمل المنكر لا يسوِّغ له ذلك أن يترك النهي، كذلك من كان مقصرا في المعروف لا يسوِّغ له ذلك أن لا يأمر بالمعروف وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
خطب أحدهم وأمر ونهى ووعظ الناس وأبكى، فأتاه آتٍ ودسَّ له – وهو يخطب – رِقعة – يعني ورقة – ففتحها فإذا فيها أبيات مشهورة سائرة فقرأها في نفسه :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا. لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما تصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن.انتهت عنه فأنت عظيم
فهناك يُقْبَل ما تقول ويُقْتَدَى بالقول منك وينفع التعليم
لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلت .عظيم(1/11)
خلق الأنبياء أنهم يعملون بما علمهم الله جل وعلا، قال ربنا جل وعلا مخبرا عن قول خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ) (هود: 88). الله جل وعلا أمر العباد بأن يصدقوا أقوالهم بالعمل ونهاهم أشد النهي عن الكذب في المقال كما نهاهم عن الكذب في العمل، قال الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:3)، (كبر مقتا) أي كَبُرَ بُغضا، المقت هو أشد البغض، فإذا كان الله جل وعلا يمقت ويبغض أشد البغض من يعلم ومن يقول ولا يفعل فإذن كيف نرجو صلاح دعوتنا أو صلاح أمرنا أو صلاح نهينا؟ البلاء منا، البلاء منا، لا بد من التنبه لهذا، ونسأل الله جل وعلا أن يتجاوز وأن يعفو ويتسامح عما يعلمه من عصياننا أو ذنوبنا.(1/12)
من آداب الداعية أن يكون رحيما رفيقا، أن يكون رفيقا رحيما لينا، الرحمة والرفق واللين ثمرة من ثمرات الإخلاص والتجرد، إذا كان متجردا لله في الدعوة أو في الأمر أو في النهي، إذا كان مخلصا فإنه سيكون رحيما سيكون رفيقا سيكون لينا، قال جل وعلا مخبرا عن قوله... قال الله جل وعلا آمرا موسى عليه السلام وآمرا أخاه هارون قال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)، ووصف الله جل وعلا نبيه بقوله : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما بالمؤمنين أفلا نقتدي به؟ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في "الصحيح" : (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث الآخر الذي في "السنن" : (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). الرحمة لا بد منها، أن تكون رحيما بمن تدعوه، أنت ماذا تريد؟ ألا تريد أن يهتدي؟ ألا تريد أن تصلح حاله؟ ألا تريد أن يستقيم شانه؟ وأن يستقيم قلبه؟ إذن فلماذا لا تكون رحيما به؟ لِم الغلظة ولِم القسوة في غير محلها؟ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في "الصحيحين" عن عائشة : (يا عائشة، إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، في كل شيء الرفق يزينه، وفي كل شيء إذا نزع الرفق شانه، ومن ذلك الدعوة، من ذلك الأمر والنهي، لا بد من الرفق، الغلظة مذمومة، قال جل وعلا : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). (آل(1/13)
عمران : 159)، قال أهل العلم : معنى قوله : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) يعني : فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، فـ (ما) في قوله : (فبما) : صلة، والصلات مؤكدِّات، وهي في مقام تكرير الكلام، إذن لماذا لان لهم؟ بالرحمة. الرشيد، هارون الرشيد رحمه الله تعالى، كان يطوف، يطوف بالكعبة، فعرفه رجل، فقال : يا هارون، إني مكلمك ومشدد عليك، وإني واعظك فقاس عليك، قال : يا هذا لا سمع لكلامك، لأنني لستَ بأشرَّ من فرعون ولستَ بخير من موسى، والله جل وعلا أمر موسى أن يقول لفرعون قولا لينا". إذن في البداية لا بد من القول اللين لا بد من الرحمة، إذا ظهرت مكابرته ظهر أنه معاند ظهر أنه شر على الخير وشر على الإسلام، إذا ظهر أنه مستهزئ بآيات الله فلا كرامة له، الولاء والبراء يقتضي أن يجانَب، لهذا موسى عليه السلام في أول الأمر في أول دعوته قال لفرعون قولا لينا، قال لفرعون قولا لينا، ولكنه عندما ظهر عصيانه ماذا قال له؟ قال له : (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً). (الإسراء: 102)، (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)، ظهر هنا ظهرت العزة وظهرت القوة، لكن ليس في أول الأمر، لا..([2])... لمن تريد صلاحه، وهذه مسألة أكرر التنبيه عليها لأننا نفقدها، يأمر وينهى، يدعو، وهو لا يسأل الله جل وعلا في الخلوات بأن يأخذ بيد هذا المدعو، رجل إذا أتى في الجالس تشَكَّى من والده وحالته، أو والد يتشكى من ولده وضياعه وفسقه وفجوره، ويأمره بغلظة وينهاه بغلظة، وهو ما طرق أبواب الرحيم، ما طرق أبواب من القلوب بيده ليهديه، ولينفعه بكلامه معه، لا بد من الرحمة والرفق حين الدعوة ولا بد من سؤال الله جل وعلا في أن يصلح حال هذا. حدَّث بعضُهم قال - هذا أحدهم اهتدى واستقام وتأثر بكلام حسن سمعه بسبب الرفق واللين والرحمة – قال: خرج علينا أحدهم من المسجد فوعظنا – كانوا مجموعة جالسين-،(1/14)
فوعظنا، فأمرنا بالصلاة بكلام حسن جميل، قال: فأخذ الجميع في الاستهزاء به، إلا أنا وصاحبي، استهزؤوا به وسخروا منه، وهو لا يزيد إلا على أن يكرر الكلام، ولو كان يدعو إلى نفسه، إذا استهزؤوا به فليغضب، يعني ينتصر لنفسه، لكن هو يدعو لمن؟ يدعو لله جل وعلا، فليصبر وليحتسب، وكرروا عليه الاستهزاء، وهو صابر يكلمهم بلين ورفق، قال : فانصرفت ثم لحقناه، لحقته أنا وصاحبي فتأسفنا له، هذا وصاحبه كانوا ذوي أدب وذوي خلق، قال : فتأسفنا له مما صنع الباقون، قال لهما : أتظنان أني متأثر أو حزين أو متضايق مما قالوا؟ لا.. لأنني فيما قلته رجوت الأجر، وحين سكتُ رجوت الأجر، وحين تكلمت وعفوت رجوت الأجر، فلم إذن الحزن؟ (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 127)، قال هذا، فوقعت هذه في نفسي أعظم من وقع الأولى. حدثني بذلك وهو أحد المصلين في المساجد بعد أن كان لا يشهدها. هذا الأثر رحمة، شفقة، لا بد، كيف تنفع الناس؟ تنفعهم بالتسلط عليهم؟ لا.. ولدك وهو ولدك في بيتك.. الذي خرج من صلبك وربيته على يدك، لو استعملت معه الغلظة ما رضي، فكيف بالناس؟.
الأدب الذي يلي هذا - وهو الأدب الخامس - الحكمة والله جل وعلا يقول : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً...) (البقرة :269)، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) (النحل:125) الحكمة مطلوبة، لكن ما هي الحكمة؟ بعض الناس لا يعلم معنى الحكمة، الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها أن تضع الأمر في موضعه، تضع الأمر بالمعروف في موضعه وحين الاحتياج إليه، تضع النهي في موضعه، تضع الدعوة في موضعها، هذا معنى الحكمة في هذا الأمر، ولا بد إذن أن يكون الداعية حكيما، كيف يكون حكيما؟ :(1/15)
أولا : يكون عالما عارفا بمراتب الدعوة، الدعوة لها مراتب.
الثاني : أن يكون عارفا عالما بمراتب المدعويين.
الثالث : أن يكون عالما عارفا لمراتب ما يريد أن يأمر به، لمراتب المأمورات، لمراتب المنهيات.
الرابع : أن يكون عالما عارفا بالمصالح والمفاسد.
إذا كان كذلك فإن دعوته ستثمر أعظم ثمرة، ومتى فَقَدَ شيئا من ذلك فقدت دعوته من النجاح بقدر ذلك، بقدر ما فقد.
الأمر الأول أن يكون عالما بمراتب ماذا؟ بمراتب الدعوة : مراتب الدعوة بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، ماذا قال له؟ قال : إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله (وفي رواية : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم... الحديث". هذا بيّن مراتب الدعوة، لا بد أن تكون حكيما، تعلم مراتب الدعوة، ما معنى ذلك؟ ما مثال ذلك؟ أتى أحدهم فقال : عندي عامل يريد أن يسلم، الحمد لله هذا أمر حسن هذا أمر طيب، بل أمر تسر له النفوس، ماذا علمته؟ ماذا علمته يا هذا؟ قال : علمته كيف يصلي. سبحان الله، هل هو نصراني أو مجوسي أو هندوسي أو ما حالته؟ تعلمه الصلاة؟ أين التوحيد؟ وهذا يكثر في الناس، عندهم أناس يريدون أن يسلموا يعلمونهم الصلاة، ذاك يقول : أريد أن أسلم، يعلمه الصلاة، يقول له : الإسلام يقول : لا تفعل كذا وافعل كذا، من المحرمات أو المأمورات، أما التوحيد فلا يبينه له وهو أصل الدين، الإيمان بالله والكفر بالطاغوت لا يبينه له، وهو أصل الدين، فإذن، فاتته الحكمة بل فاته ما يدعى إليه، لا يعرف مراتب الدعوة، أول ما تدعو إليه التوحيد، الإخلاص لله، أن تبين لهذا المدعو حق الله(1/16)
جل وعلا عليه، لأن العباد لو علموا حق الله جل وعلا عليهم لاستقامت أحوالهم كان الرجل يسلم ويدخل في دين الله ويستحق الجنة بفضل الله جل وعلا بقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، دخل رجل الجنة ولم يركع ركعة لأنه قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم قُتِلَ، قبل أن يأتي وقت الصلاة فيصلي، إذن التوحيد هو أعظم أمر، وحديث معاذ واضح في الدلالة على هذا فلينتبه لهذا، مراتب الدعوة، رجل ما يزكي تأتي تقول له : تصدق على هذا، الصدقة طيبة؟ هو أصلا لا يزكي، كيف تأمره بالصدقة علمه أولا الزكاة التي هي فرض الله، كذلك شخص ما يصلي في المسجد، لا يصلي في المسجد لا يُرى إلا في الجمعة أو شخص لا يصلي، تجيء وتتكلم معه في الوتر؟ في وجوب الوتر أو في قيام الليل؟ ما هذا الكلام؟ شخص لا يقرأ القرآن أبدا أو يقرأه بين رمضان ورمضان تأتي وتقول له لا بد أن يكون لك كل يوم جزء من القرآن تقرأه؟ وتختم كل شهر؟ كيف يكون هذا؟ إذن لا بد أن تعرف مراتب الدعوة، تنقل هذا شيئا فشيئا تنقله إلى ما هو أحسن، ابن القيم رحمه الله ذكر مثالا لذلك، قال لو أتيت – ابن القيم ذكره في كتابه "معالم الموقعين عن رب العالمين" أو المشهور باسم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" – قال : لو أتيت إلى أناس يلعبون الشطرنج – هذا كلام ابن القيم – يلعبون الشطرنج، فإذا أردت أن تنهاهم عن هذا ويكون مع نهيك أمر أو تحبيب لهم بأن ينتقلوا إلى ما هو أحسن منه، ينتقلوا إلى مجلس خير إلى مجلس ذكر، ينتقلوا إلى اجتماع مبارك خيِّر، أو إلى تواصي أو إلى صلة رحم فهذا حسن، من الحكمة ومن الخير أن تنهاهم عن هذا وتنقلهم إلى ما هو أفضل منه، أما إذا أتيتهم وهم شببة – يعني شبابا – وهم في نفسهم شر الشباب، وفي نفسهم فسق وفجور، تنهاهم عن لعب الشطرنج ثم سيبتهم يتعرضون إلى محارم المسلمين؟ قال : فنهيك إياهم عن لعب الشطرنج هذا مما يجب أن تُنْهى عنه، يعني من غير الحكمة، أنت تريد(1/17)
الإصلاح تريد الخير، فلا بد أن تنقلهم إلى ما هو أحسن إلى ما هو خير، إذا كنت لا تستطيع أن تنقلهم إلى ما هو أحسن وإذا نهيتهم عن شيء أو أمرتهم بشيء سينتقلوا إلى ما هو شر من ذلك، فلا بد أن تسكت حتى يأتي من يحسن أن ينقلهم، أو لا بد أن تتعلم كيف تنقلهم عن ذلك، تتحبب لهم تودد لهم، إذن مراتب الدعوة لا بد من معرفتها.
الأمر الثاني : مراتب، ماذا؟ .. مراتب المدعويين : الناس مراتب أليس كذلك؟ منهم الولاة، حكام، الحاكم تخاطبه مثل ما تخاطب ولدك أو الصغير عندك؟ ثم تقول هذه عزة، وقوة، وهذا عزيز قوي؟ تكلم ووعظ وأبلغ. لا، هذا ليس من الحكمة في شيء لأنك لا بد أن ترجو النفع، لا بد أن ترجو النفع، فمهما كان من سبيل إلى الانتفاع فأته، ليس السبيل أن يقال: فلان قال، فلان قوي الشخصية، فلان ما يهمه أحد، فلان فيه وفيه من الخصال، وهذا كلامك ما ينفع بل يزيد الشر شرا، لا شك أن هذا غلط، فلا بد أن تعرف مراتب المدعوين، ولاة.. علماء.. تعرف كيف تكلمهم، قد يكون العالم مقصرا، تأتي تقول له : اتق الله ثوبك فيه ما فيه، أو أنت تخفف من لحيتك، أو فيك كذا وكذا، بعبارة فجة؟ العالم ما يوعظ بمثل هذا، ولا يدعى بمثل هذا، بل يدعى بأسلوب حسن، لأنه هو تذكره بآية بتفسيرها يفهم المقصود، إن مَنَّ الله جل وعلا عليه بالاستقامة أو بتمام الاستقامة فذلك من نعم الله، إذن ما تقوي عليه مثل ما تقوي على الجاهل أو على من هو تحت يدك.. لا، هذا تشير إليه إشارة، الطفل هل مرتبة دعوته وتحبيبه إلى الخير مثل مرتبة العاقل الفاهم المكلف؟ لا.. كل أحد بحسب حاله، فإذن من الحكمة أن تعرف مراتب الناس، أن تعرف مراتب الناس.
ومن الحكمة أن يكون الداعية الآمر الناهي يعلم مراتب المأمورات ومراتب المنهيات وهذا مثَّلنا له بمثال، والمنهيات يعني المنكرات مثَّلنا أيضا لها بمثال، فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.(1/18)
أيضا من الحكمة أن يكون الداعية أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالما بالمصالح والمفاسد، لأنه قد يأمر بشيء في وقتٍ المصلحةُ العظمى في غيره، يكون معروفا لكن المصلحة العظمى في غيره، مثلا يأتي آت ويقول : تعال نجلس نقرأ القرآن، لا شك قراءة القرآن من أفضل الأعمال، وهم بجانبهم، وهم رأوه ؟؟؟، بجانبهم من يرتكب منكرا علنا وهم جماعة يستطيعون أن يغيروا فأيهما الأفضل؟ لا شك.. قراءة القرآن وقتها موسع، وهذا منكر حاضر، فتذهب إلى ذاك تزيل المفسدة ثم تأتي وتقرأ القرآن، كذلك شخص يقول : أنا بجلس بعد الصلاة صلاة الفجر في حلقة ذكر إلى طلوع الشمس، وأهله نائمون ما أوقظهم لصلاة الفجر، فهو يعلم أنهم لن يصلوا إلى بعد طلوع الشمس، هذا فقيه أو ليس بفقيه؟ فيحتاج إلى أن ينتبه إلى نفسه، كيف تجلس في جلسة ذكر مثلا أو قراءة قرآن أو نحو ذلك أو تجلس تهلل وتسبح وفي بيتك من لا يقوم إلى الصلاة إلا بعد طلوع الشمس؟ هذه بعض مراتب المأمورات فانتبه لها، كذلك المنهيات لها مراتب المصالح والمفاسد متعلقة بها، المنكر فرض على الكفاية أن يُنْكَر، ومن شهده فيجب عليه أن ينكره على أحد المراتب الثلاثة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يتسطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) لكن ربما أنكرت منكرا نتج منه منكر أكبر منه، أنكرت شيئا فجرَّ على غيرك بلاء عظيما، مثال ذلك : مثال : من يقتلون الآن في بعض البلاد، من يقتلون بعض من تحققت ردتهم، لا شك أن من ثبتت ردته فقتله جائز، لكن يأتي مجموعة مثلا من الشباب في بلد ما يقولون نحن نقتله، طيب قتلتم واحدا فقتل منكم مائة، هل هذا يجوز؟ لا.. الشرع لم يأمر بهذا. يأتي أحدهم ويفعل فعلا هو من إنكار المنكر لكن يستخفي لا يذكر اسمه، ينكر منكرا إما بورقة أو بتسجيل أو نحو ذلك ولا يذكر اسمه، فهذا المنكر الذي أنكره جر بلاء(1/19)
ومنكرا على جمع من الناس على أمة من الناس، هذا لا شك أن فعله منكر يجب أن ينكر عليه، ولا يجوز له ولا يحل، وهو آثم بفعله غير مثاب. شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكر عن نفسه، كما روى عنه ابن القيم في كتابه "معالم الموقعين" ذكر عن نفسه قال : مررت بقوم من التتر يشربون الخمر في الشارع، يشربون الخمر بين الناس، فقال قوم من صحابتي - يعني من أصحابه – هيا ننكر على هؤلاء، يشربون الخمر علنا؟ قال : فقلت :"يا هذا دعهم فإن الله جل وعلا إنما نهى عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء الخمر يصدهم عن الوقوع في محارم المسلمين وعن قتل الأنفس"، هذه حكمة، حكمة العلماء، هذا الفهم، هذا الفهم، لأنه رأى مصلحة ومفسدة، لكن من يفهم هذا؟ يفهم هذا من أوتي الحكمة (...وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً...) (البقرة:269) يمكن بعض الناس لو كان عند ابن تيمية قال : ابن تيمية فيه ما فيه، لأنه كيف يسكت عن هؤلاء؟ كيف منكر خمر تعلن؟ لا .. هو مقر على أنه يجب الإنكار، لكن هؤلاء إذا أنكرت عليهم ما قاد إنكارك إلى أمر أحسن بل إلى أمر أسوء فتكون أنت ما تسببت في خير إنما تسببت في شر سيحصل، دعهم يبقون على هذا.(1/20)
هذه بعض ما يتعلق بالحكمة، أيضا مما يحتاج إليه الداعي الآمر الناهي من الآداب أن يكون صابرا، الله جل وعلا أمر نبيه بالصبر وهو نبيه الذي يتحلى بكل خلق فاضل : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) فقال جل وعلا له : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ)(النحل: 127)، وقال جل وعلا له : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ). (الأحقاف: 35)، وقال جل وعلا : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) وقال جل وعلا مثنيا على عباده المؤمنين الذين أنجاهم : (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر : 1 - 3)، الداعية لا بد أن يكون صابرا، إذا أتاه ما يؤذيه في نفسه ؟؟؟([3]) به يصبر ويحتسب الأمر لله في أوله وآخره فليصبر وهو مأجور على صبره كما أنه مأجور على دعوته.(1/21)
الْخُلق والأدب الذي بعد الصبر أن يكون الداعية والآمر الناهي عزيزا قويا بالحق، ليس معنى الصفات التي ذكرنا - كما قد يتوهمه بعضهم - أنها صفات من ليس عنده عزة، شخص ضعيف، أو الذي يسميه بعض الناس درويش، هذا ما يفهم، يطأطئ رأسه عن كل شيء، لا.. لا بد أن يكون مع كل ذلك مقتديا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبصحابته يعني أن يكون ذا عزة وذا قوة في الحق ما معنى ذلك ؟ معناه أن لا يرضى أن تنتهك حرمات الله جل وعلا أمامه، يجلس في مجلس يعصى فيه الله جل وعلا، لا.. ليس من الدعوة ولا من الحكمة ولا من الخير أن تجلس في مجلس تقول : أريد أن أدعوهم، وهم يعاقرون المنكرات! أو يفعلون الموبقات.. لا، هذا أنت شريك في الإثم إذا كنت.. إذا لم تفارق مجلسهم، أن تكون عزيزا : أيها القوم .. الناس أنتم إذا كنتم تريدون هذا الأمر يظهر أو أنكم.. هذا الأمر تفعلونه في هذا المجلس فأنا أستأذن لا مقام لي، الله جل وعلا أمرنا أننا إذا سمعنا آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها أن لا نقعد مع المستهزئين، قال جل وعلا : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ..). (النساء:140)، كذلك استفاد أهل العلم من هذه الآية أن الراضي بالذنب كفاعله، لو لم يفعله، واحد نقل له أن فلان يشرب الخمر، يعني يا رجال هذي فيها كذا وكذا، رضي به، هو مثل الشارب في الإثم، هو مثل الشارب في الإثم، لا في إقامة الحد أو فيما يترتب على ذلك. لا بد أن يكون قويا في الحق إذا أتى موجب لقوته، انْتُهِكَتْ محارم الله علنا، استهزئ بآيات الله علنا، كان الناس مستكبرين، تجرءوا على الحق وأظهروا الفساد وأرادوا الإفساد تعرضوا لمحارم الله، يكون.. لا بد أن يكون قويا في ردهم، أما في الدعوة دعوتهم يكون رحيما، لكن قوته وعزته لا(1/22)
تعني الاعتداء عليهم بل تعني أن يكفهم عن المنكر وأن يكفهم عن الشر وأن يزيل المنكر وأن يغيره إذا كان مستطيعا لذلك.
من الآداب المهمة أن لا ييأس الداعية يأتي يقول : فلان أنا رحت له مرتين ثلاث أربع خمس، ما نفع، لا لا تيأس (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، لا تيأسوا من روح الله : هي رحمة الله جل وعلا تيأس منها؟ لا.. (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) أنت تمسك الرحمة؟ (وَمَا يُرْسِلْ..) (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (فاطر:2)، لا شك، إذن لا بد من التكرار لا نكون كبني إسرائيل يملون، نهوهم في الليل من مواقعة المنكر ثم خلاص، قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً) (الأعراف: 164)، كيف هؤلاء الناس واقعون في الشر والبلاء تعظونهم وتنهونهم؟ لا.. ! ولو كنا كهؤلاء المثبطين المرجفين لانتشر الفساد ولعم ولما انتفع الناس بآمر ولا بناه، لا بد إذن أن لا نيأس، نواصل مرة مرتين وثلاثة، نوح عليه السلام كم لبث في قومه؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً) (العنكبوت:14)، ألف سنة إلا خمسين عام؟ لبثها في قومه، كم آمن معه؟ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (هود: 40)، أكثر الروايات - يعني الروايات التي ذكرت عددا كثيرا - قالوا كانوا : بضعة وسبعين، هذا أكثر ما قيل، وأكثر الروايات ورودا قالوا أنهم كانوا اثنا عشر معه، مل؟ كل؟ يئس؟ لا، لأن عليه العمل وليس عليه أن يرى ثمرة العمل (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (الرعد:40) البلاغ عليك أن تبلغ عليك(1/23)
أن تأمر عليك أن تنهى، (مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 52) أبدا، هذه بعض الآداب التي نستحضرها في هذا المقام.
[*شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر*]
بقي أن نتكلم بكلمة وجيزة عن الشرائط، شرائط الدعوة أو شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشرائط ذكرت في الآداب لأن بعض الآداب يصلح أن يكون شرطا مثل : الإخلاص، شرط، مثل العلم شرط، مثل : الحكمة، المعرفة، الحكمة بالمراتب، هذا شرط، أن يروح ينهى عن شيء وهو لا يعرف مراتبه، لا بد أن يتعلم هذه الشروط، والشروط منقسمة إلى قسمين كما قال أهل العلم : شروط صحة، وشروط مشروعية.
أما شروط الصحة فمثل : الإخلاص : اللي ما يخلص فهذا لا يصح أمره ولا نهيه عند الله جل وعلا، ولا تصح عبادته أصلا. منها شروط صحة أيضا وهو : العلم بما يتكلم به، بما يأمر به أو ينهى عنه أو يدعو إليه، هذا شرط صحة، تتكلم عن مسألة وتأمر بها وتنهى وأنت ما تعلم حكمها لا..
منها شروط للمشروعية : من شروط المشروعية أن تكون قادرا مستطيعا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة : 286)، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)(التغابن: 16)، (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).(1/24)
لكن القدرة والاستطاعة لا بد أن نقف عندها وقفة، ما معنى القدرة والاستطاعة؟ ومتى يتحقق في الشخص أن يكون غير قادر وغير مستطيع؟ هناك أمور فيمن تليهم، فيه أمور تكون فيمن تليهم يعني أولى بك، أنت الوالي عليهم أنت ولي أمرهم هذي أنت قادر على إزالة الأمر في بيتك باليد، ما يأتي واحد يقول - يُرَى في بيته منكر - يقول : والله أولادي الصغار مثلا صغار ما هم كبار ينازعونها ويتعددون أو يخشى أن يترتب على فعله منكر أكبر لكن يقول : صغار والله أودهم بهذا وكذا، ما لك عذر، لأنك قادر مستطيع (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) وأنت تستطيع بيدك أنت من أهل اليد في بيتك (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، لكن في الشارع رأيت منكرا في الشارع رأيت تعليقا لصور مثلا، تعليق لصور، أو معازف معلنة، في الشارع، إذا كنت منن أهل اليد الذين إذا أنكروا باليد قبل منهم فيجب عليك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك وليس لك عذر، لكن إذا كنت لست من أهل اليد (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) تكون من أهل اللسان، وما فيه أحد معذور بترك الإنكار باللسان، تقول له : لا هذا منكر أغلقه، لكن تأتي بيدك تكسر الأشياء هذا ما يجوز لك لأنه ليس لك، إنما هو لأهل اليد الذين نسبوا لهذا الأمر، أما باللسان فليس لك عذر، أحد قال لك.. أتى أحد وقال لك : لا تنكر بلسانك؟ ما فيه، لو تأتي تنكر بلسانك أنت مستطيع لذلك، لكن إذا أتى أحد قال : أنا والله ما أستطيع بلساني، مثلا أنا أجنبي عن هذه البلاد، والله لو ؟؟؟ أنكرت بلساني ؟؟؟ أو يحصل لي شيء، نقول : أنت إذن معذور، نقول : إذن أنت معذور، تنتقل إلى الإنكار بقلبك، أو شخص يقول : أنا ضعيف أتيت منكر والله مجموعة من الناس تحوطوا بسيارة امرأة، السيارة فيها نساء وهو واحد، ماذا سيفعل؟ يقول : أخشى على نفسي أنا ضعيف، نقول : ما أمرك الشرع بأن تنكر في هذه الحال لأنك لا تستطيع.(1/25)
والعجز أو عدم القدرة تنقسم إلى قسمين عند أهل العلم : عجز علمي وعجز حسي :
1- [عجز علمي] يعني عجز راجع إلى العلم يأتيه حالة يقول : أنا أعرف أن هذي فيها شيء ولكن لست متثبتا منها، أنا عاجز علميا على أن أتكلم فيها، فهذا يكون مخولا له أن لا ينكرها ولا يغيرها بيده.
2- العجر الثاني : عجز حسي : يقول : أنا ما أستطيع ببدني أن أتكلم، أخشى أنهم يضربونني ويفعلون بي الأفاعيل، أو : أنا رجل ضعيف لست بقوي أخشى من كذا وكذا، الشرع عذرك والحمد لله على توسعته وتيسيره.
لكن ليس من العجز مخافة لوم اللوام، الشيطان يأتي بعض الناس يقول : لا والله أنت بيلومك اللوام يقولون : هذا فيه هذا ما يفهم هذا متسرع هذا لا يعرف كيف الأمور تؤتى، هذا يأتي بكلام كأنه من أهل كذا وكذا، اللوم؛ لوم اللوام ليس بعذر لك لأن الله جل وعلا قال عن نبيه وصحابته : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)، وقال جل وعلا في وصف المؤمنين : (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة : 54). ما يخافون لومة لائم، وفي حديث عبادة بن الصامت المتفق على صحته: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخشى في الله لومة لائم)، إذن لوم اللائمين هذا ليس بعذر في إسقاط الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو أن تنتقل من مرتبة إلى مرتبة، لا، إذا كنت تعتقد أنهم سيلومونك، فإن هذا ليس بعذر لك، المشروعية قائمة في حقك.
الكلام له صلة لكن نقف عند هذه المسائل المهمة التي ينبغي فهمها وهي أصول كما ترى ومعالم عامة لو تحقق بها وتحققها الدعاة والآمرون والناهون في أنفسهم وفي دعوتهم لرجونا الخير والصلاح بإذن الله جل وعلا.(1/26)
فإذن نختم هذا المقال بما ابتدأنا به، بحمد الله جل وعلا وبأن نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أنصار دينه وأن يجعلنا من الدعاة إلى الخير، وأن يجعل أمتنا هذه أمة ثابتة على الحق قائمة به، وأن لا يُسَلَّط عليها المضلون ولا المرجفون ولا دعاء الضلالة، وأن يحمي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر سواء من الخاصة الذين أنيط بهم هذا الأمر أو من العامة الذين يدعون إلى الخير في كل حال، ونسأله جل وعلا أن يرفع بدعوة الحق منارا وأن يرفع بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر منارا وأن يخمد لعدوهم نارا، وأن يجعلهم ثابتين على الهدى قائمين وأن يأخذ بنواصيهم إلى الخير ثم نسأله جل وعلا أن يصلح ولاة الأمور وأن يجعلهم من القائمين بالأمر بالمعروف والناهين عن المنكر وأن يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة بهم فإنه جل وعلا هو الذي يأخذ بالقلوب وهو الذي يقلبها، منا الدعاء ونسأله جل وعلا الإجابة، ونسأله في الختام وفي الابتداء أن يتوفانا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
...
[* الأسئلة *]
[جامع الأسئلة :] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد، فأشكر الشيخ شكرا جزيلا بعد شكر الله تعالى على ما تفضل به وأفادنا وأجاد فجزاه الله خيرا، وأسأل الله سبحانه وتعالى له التوفيق والسداد في الإجابة على الأسئلة.
· يقول السائل : فضيلة الشيخ تكلمتم عن فتنة القول وفتنة العمل، فنرجو منكم توضيح ذلك وجزاكم الله خيرا.(1/27)
· الشيخ : الحمد لله، أنا ذكرت فتنة القول وفتنة العمل في مقام الاستعاذة، نعوذ بالله من فتنة المقال، كما نعوذ به من فتنة الفعال، وهذه استعاذة كان يستعيذ بها المتقدمون، يستعيذون بالله جل وعلا، من الفتنة في القول ومن الفتنة في العمل، والقول يحوط به فتن وكذلك العمل، فمن فتن القول أن لا يكون مخلصا فيه، من فتن القول أن يكون بالرياء أن يكون للسمعة أن يكون ليقال : فلان فصيح، أو فلان عالم، أو فلان قال وقال، هو يريد ذلك، لا شك هذه فتنة للقول، ولذلك مما ذُكِر في أشراط الساعة أنه (يقل الفقهاء ويكثر الخطباء)، معنى (يقل الفقهاء) يقل المتبصرون بالقول والعمل، ويكثر الخطباء الذين يشققون الكلام ونفعهم قليل وذلك لأنهم فتنوا في مقالهم، كذلك العمل له فتنة ومن فتنته الإعجاب به، بعض الناس يعمل عملا فلا يزال هذا العمل بين عينيه متعاظما له مفتخرا به، أنه عمل وعمل فيدلي على ربه به، فيحبط عمله، وهذه فتنة يصاب بها بعضهم، كذلك من الناس من يوفق فلا يفتن في عمله، يعمل العمل فلا يزال وجلا خائفا، هل يتقبل منه أم لا؟ يعمل العمل وهو يحاذر كأنه يمشي على طريق ملئ شوكا، يحاذر من قول يتوسع فيه ليس عليه دليل شرعي، يحاذر من عمل يعمله ليس عليه دليل شرعي، يحاذر من عمل يعمله وهو يرى نفسه بعمله، يرى نفسه بتلاوته، يرى نفسه بصلاته يرى نفسه بعلمه، يرى نفسه بدروسه يرى نفسه بطلبه العلم أو نحو ذلك، لا شك هذا لا يزال يدلي على الله بهذه الأشياء حتى يحبط عمله، والصنف الآخر لا تزال هذه الأمور بين عينيه يتقالُّها، يتقالُّها ويسأل الله جل وعلا أن يتقبلها منه، وهذا مصداقه في كتاب الله جل وعلا في قوله في سورة المؤمنون : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ…) (المؤمنون : 60-61)، هو آتى الخير وآتى الصدقات وعمل ما عمل، ولكن قلبه ليس بذي(1/28)
إعجاب، قلبه ليس معجبا بعمله، ولكن (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) يتذكر قول الله جل وعلا: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (الحشر: 2)، ويتذكر قول الله جل وعلا : (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: 47)، فلهذا لا غرو أن كانت الاستعاذة من فتنة الفول ومن فتنة العمل مما ينبغي إكثار الاستعاذة منه خاصة للمتحدثين وللعاملين بل ولجميع المؤمنين رزقني الله وإياكم السداد في المقال والفعال.
· يقول السائل : في قوله تعالى : (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف: 108) نرجو من فضيلتكم توضيح البصيرة وما الطريق إليها؟.(1/29)
· الشيخ : في قوله تعالى في آخر سورة يوسف : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف : 108) البصيرة هي كل ما به يُبْصر الطريق الذي أمر الله جل وعلا به، ومعنى ذلك أن البصيرة التي يدعى عليها (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على نور من الله وعلم، قال : (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، فالبصيرة هي النور الذي يُقْذف في القلب بالعلم بالله جل وعلا وبما أنزل في كتابه وبما جاء في سنة نبيه والنبي صلى الله عليه وسلم بصيرته هي أن يكون مزدادا من العلم بالله ومن العلم بما أنزل الله، والله جل وعلا أمره بأن يقول : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114)، فازدياد العلم هو ازدياد البصيرة لأنه به يزداد بصرك، فكما أن بصرك يبصر المبصرات من الذوات والأعيان، كذلك القلب يبصر، يبصر الحق والباطل، يبصر السبيل النيرة من السبيل المظلمة، يبصر السبيل المجدية في الدعوة من السبيل التي لا تجدي، يبصر السبيل التي يرضي الله جل وعلا أن تسلكها ويبصر السبيل التي لا يرضي الله جل وعلا أن تسلكها، فإذن البصيرة هي عماد الأمر كله، بل هي أصل الدعوة وأولها وآخرها.
· يقول السائل : حديث : (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) ما درجته من الصحة؟
· الشيخ : الحديث صحيح رواه جماعة من أهل العلم منهم ابن سعد في "الطبقات" بإسناد قوي، ورواه أبو نعيم في "الحلية"، ورواه جمع من أهل العلم، وأهل العلم يقولون : هذا الحديث صحيح.
...
[جامع الأسئلة :] في ختام هذه الأمسية أرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا وأسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق للجميع، وجزاكم الله خيرا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعد هذه المادة : أبو عبد الرحمن الأثري
---
[1] - الظاهر أن هناك قطعا في الشريط.
[2] - انتهى الوجه الأول.(1/30)
[3] - هذه الثلاث علامات الاستفهام معناها أن هناك كلمة غير مفهومة.(1/31)
وَلاَيَةُ المُؤْمِن
-خطبتي جمعة-
[وجه شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، بشّر وأنذر، لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا وحذرهم منه نصحهم حق النصيحة، فصلِّ الله عليه وعلى آله وصحبه ما تتابع الليل والنهار وما أشرقت الشمس وغربت، صلى الله على نبينا محمد كفاء ما أرشدنا وبين لنا، وكفاء ما أوضح لنا المحجة، وكفاء ما حذرنا من الشرور.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.(2/1)
عباد الله إن الله جل جلاله جعل الوَلاية بين المؤمنين قائمة؛ فالمؤمن يحب أخاه المؤمن ويوده وينصره، يحب أخاه محبة قلبية وسبب تلك المحبة إنما هو اشتراك القلبين في الإيمان بالله، وفي محبة الله، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الاستسلام لله جل جلاله باتباع دين الإسلام، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء المؤمن ولي للمؤمن يحبه وينصره ويحمي عرضه ولا يرضى أن يهان أو يذل؛ لايرضى المؤمن أن يكون أخوه المؤمن الآخر مهينا ذليلا بين الناس، بل إنما إذا وقع ذلك ينصره، وذلك من مقتضى محبته له وولايته له يقول الله جل وعلا { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة:71]، فأثبت الوَلاية بين المؤمنين ومحبة المؤمن للمؤمن، ومن ثمرات تلك الوَلاية وتلك المحبة أن يحمي المؤمن عِرض أخيه المؤمن؛ وأن لا يقذفه بأمر، أن لا يقذفه بعيب وقع فيه، وإنما تلك الوَلاية تقود المؤمن لأن ينصح لأخيه المؤمن، وأن يحب له من الخير ما يحبه لنفسه، فكل هذه الأمة خطاء وخير الخطائين التوابون، فإذا وقع الخطأ إذا وقعت الزلة من المؤمن فإن أخاه المؤمن يسعى في النصيحة إليه بما يحب أن يُنصح به، فإن القلب يحب النصيحة الخالصة التي ليس فيها تشهير، وليس فيها تشفٍّ، وليس فيها غرض من أغراض النفس، وعند ذلك يتمثل الإيمان بين المؤمنين رابطا قويا يحمي بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا، وقد شاع بين الناس في هذا المجتمع بل وفي كل مجتمع يضعف فيه الناس عن امتثال أمر الله وعن امتثال أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ أن تكون بعض مجالسهم وقيعة في إخوانهم المؤمنين وأذية للمؤمنين والمؤمنات، بعض الناس الذين ضعف إيمانهم إذا سمعوا باطلا، إذا سمعوا خطئا وقع فيه بعض إخوانهم المؤمنين أشاعوه ونشروه، ورأوا أنهم بذلك نصحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا خلاف ما يقتضيه الإيمان وتقتضيه المحبة بين المؤمنين، هذا إن كان ذلك الذي يذكر، سواء إن(2/2)
كان ذلك الذي يذكر صوابا، فكيف إذا كان افتراء، كيف إذا كان كذبا يتناقله الناس دون رعاية لحق إخوانهم المؤمنين، يقول الله جل وعلا { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب:58]، فبين الله جل جلاله وتقدّست أسماؤه في هذه الآية أن الذين يرمون المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم بأشياء لم يكتسبوها ولم يفعلوها وهم برئاء منها أنهم قد احتملوا بهتانا وإثما مبينا، احتملوا بهتانا وهو الإفك الذي لم يأتِ أصحابه عليه ببينة إنما سمعوا القالة السيئة فنشروها ورددوها وليس لهم على ذلك برهان وليس لهم عليه بينة، واحتملوا أيضا إثما مبينا؛ إثما يبوء به صاحبه بيِّنٌ أنه إثم، بيِّنٌ أنه معصية، بيِّنٌ أن صاحبه ليس عليه أجر بل عليه الإثم والسوء في هذه الدنيا وفي الآخرة، وهذا الوصف الذي في هذه الآية شاع من قديم فرمى المؤمنين والمؤمنات طائفة رموا أعلى المؤمنين إيمانا وأعلى المؤمنات إيمانا وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رموهم بغير ما اكتسبوا؛ رماهم الرافضة في زمن الصحابة وفيما بعده من الأزمان، رموا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشياء لم يعملوها ولم يكتسبوها؛ بهتان وإثم مبين كما وصف الله جل وعلا بأنهم اكتسبوا بهتانا وإثما مبينا لمَّا رموا الصحابة وهم أعلى المؤمنين إيمانا، وهذا شاع في الناس فيما مضى من الزمان وشاع في هذا الزمان، كذلك رمى طائفة من هذه الأمة من يلي الصحابة في الإيمان وفي تحقيق الإسلام وهم علماء هذه الأمة، الذين اهتدوا بهدى الله، والذين ساروا بالسنة، والذين دعوا إلى عقيدة التوحيد وإلى عقيدة السلف الصالح فيما مضى من الزمان وفي هذا الزمان، فشاع في طائفة من الذين خف عليهم إيمانهم ومن الذين رأوا أنهم إذا كانت قدمهم في النار فإن هذا ليس مهما بالنسبة لهم، وقعوا في علماء الأمة بغير ما(2/3)
اكتسبوا، ترى الواحد منهم يقول كلمة هي من الظنّ ليست من اليقين، إنما يظنها ظنا يقول أظن كذا، فيسمعها الآخر في المجلس فيُحَوِّرُها إلى أنه قيل كذا،فيأتي الثالث فيُحَوِّرُها إلى أنني سمعت كذا، فيأتي الرابع فيقول حدثني الثقة بكذا، فيأتي الخامس فيجعلها حقا يجعلها حقيقة لا تقبل النقاش ولا الجدال فتسير في الناس وهي رمي للعلماء ورمي لأولئك الهداة بغير ما اكتسبوا، بشيء لم يكتسبوه، ولم يفعلوه، وإنما هو رمي رماهم الناس به، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داوود والترمذي وغيره حينما سئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة قال «هي ذكرك أخاك بما يكره» قيل له عليه الصلاة والسلام: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن كان ليس فيه ما تقول فقد بهته». وهذا هو الواقع في كثير من المجالس يذكرون أولئك العِلية، أولئك الصفوة؛ الذين دعوا إلى الهدى ودعوا إلى عقيدة السلف الصالح، ودعوا إلى الاستمساك بالإسلام رموهم بما هم برئاء منه غاية ما يكون أن يكون القول ظنا، والله جل وعلا يقول { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } [الحجرات:12] ففرض على المؤمنين أن يجتنبوا الظن في ما بينهم، وأن يجتنبوا اللمز فيما بينهم أن يلمز المرء منهم أخاه أو أخته في الإسلام، فكيف بأن يكون اللمز موجها لورثة الأنبياء الذين هم الصفوة؛ هم الصفوة وهم النخبة الذين اصطفاهم الله جل وعلا لحمل الدين ولوراثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» نعم إن هذا الأمر واقع، وواجب على المؤمنين أن تكون مجالسهم مبرأة من البهتان، مبرأة مما يكسبهم الإثم المبين والذنب العظيم بالوقيعة وباللمز لهداة الأمة من علمائها الذين هم صفوتها، وهذا شاع وكأن الناس في هذا الزمان لا يهمهم أن تكون أقدامهم واردة على النار صالية بعض العذاب، والعياذ بالله. فواجب(2/4)
على أهل الإيمان واجب أن يكون بينهم التناصر، وأن يكون بينهم المودة التي من آثارها ليحموا عرض بعضهم بعضا، وأعلى العرض حق أن يحمى هو عرض علماء هذه الأمة، فإن الظن؛ ظن السوء عاقبته لأصحابه وخيمة فمن ظن سوءا بإخوانه ظُنَّ به سوءا، ومن تشفى تُشفي منه لأن الحسنة يجزى صاحبها بمثلها والسيئة تعود على صاحبها بمثلها والعياذ بالله.
كذلك من الوقيعة في المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ما يشيع في بعض المجالس؛ مجالس المؤمنين، مِن أنهم يرموا المؤمنين بالظن والسوء، ويلمزوا المؤمنين بالسوء من القول أو العمل وكل ذلك واجب أن يخمد ولا ينشر؛ لأن نشره دليل على وقيعة المرء في نفسه ألم تر إلى قول الله جل وعلا { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [الحجرات:11]، فالمؤمن إذا لمز أخاه المؤمن أو أخته المؤمنة فإنما يلمز نفسه؛ لأن المؤمن أخ للمؤمن يرعى في الدفع عن عرضه، وفي حماية حرمته، وفي حماية ذاته وعرضه وهذا هو الواجب، وكيف بنا وبمن يقول إذا رأى سوءا أو سمع سوءا من القول أو من العمل فتراه ينشره كأنه لا يهمه الإثم والسيئات التي ستكتب عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - «وكف عليك هذا» وأشار إلى لسانه قال له معاذ: يا رسول الله أو مؤاخذون بما نقول؟ قال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم». من سمع بشيء لم يتحقق منه فلا يتكلمنّ به فأن حماية عرض المؤمن واجبة وخاصة إذا كانت في أعراض المؤمنات، من سمع بشيء وتحقق منه فلا يجوز له أن ينشره وأن يُسمِّعه الآخرين من المؤمنين إنما الواجب عليه أن يسعى في النصيحة سرا لأن تلك الذنوب إذا نُشرت بين المؤمنين تساهلوا فيها، وكان نشرها قائدا لانتشارها أكثر وأكثر بعد القول بالفعل؛ لأن نشر مثل ذلك الكلام يخفف المعصية، ويقود أن يتساهل الناس بذلك.(2/5)
فيا أيها المؤمنون عليكم بهذا الأمر الأعظم؛ وهو أن تنصحوا للمؤمنين، أن تنصحوا لعامة المؤمنين، وتلك النصيحة تكون بحماية أعراضهم، وبالسعي في الإرشاد بما يحقق المصلحة، عليكم أيها المؤمنون أن تحموا أعراض العلماء مما قد يقال فيهم، لأن قالة السوء إذا قيلت في صفوة الأمة وهم علماؤها، فإن ذلك يقود إلى أن لا تسمع لهم كلمة، ولأن لا يكون لوراثة النبوة في المؤمنين مقام أعظم في المؤمنين، مقام إرشاد، مقام فتوى، مقام دعوى؛ لأن الناس جبلوا على أنهم إذا شوهت السمعة فيما بينهم على أحد فإنهم لن يسمعوا ذلك الكلام منه. فعلينا أن نحمي أعراض علمائنا فيما يقال فيهم، وأن نعلم أنهم على الحق والهدى، بل علينا أن نحمي أعراض المؤمنين جميعا كل بحسب موقعه في الإيمان، وبحسب موقعه من امتثال أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر مهم للغاية، فلا نجعل مجالسنا في قيل وقال؛ في قال فلان وقال الآخر، بكلام كله إذا تأملته وجدته أنه أذية للمؤمنين بغير ما اكتسبوا.
نسأل الله جل جلاله وتقدست أسماؤه أن يطهر ألسنتنا، وأن يطهّر أسماعنا، وأن يجعلنا من الذين قالوا بالحق وهدوا به، ومن الذين كانت قلوبهم صافية للمؤمنين جميعا، أسأل الله جل جلاله لي ولكم الهدى والتقى والعفاف والغنى، واسمعوا قول الله جل جلاله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب:58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه حَقَّا، وتوبوا إليه صِدْقا، إنّه هو الغفور الرحيم.(2/6)
الحمد لله حق حمده، والشكر له جل وعلا على إنعامه وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، بشر وأنذر، وبين لنا الخير وبين لنا طرق الشر، فهنيئا لمن أخذ بالخير وبطريقه، وابتعد عن الشر وعن طرقه، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الخير المبتعدين عن الشرور، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، واعلموا رحمني الله وإياكم أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بتقوى الله عز وجل فإن التقوى هي فخارنا، وهي رفعتنا، وهي سعادتنا في الدنيا والآخرة، فـ { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102] واعلموا أن الله جل جلاله أمركم بأمر، بدأ فيه بنفسه، فثنى بملائكته، فقال قولا كريما { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب:56]، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارْضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشر والمشركين، اللهم واحمِ حَوْزَة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم أيدهم بتأييده وانصرهم بنصره واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم سائرين(2/7)
على الحق والهدى، وجنبهم طريق الردى يا أكرم الأكرمين، اللهم واجعل ولايتنا لمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن ترفع عنا الربا والزنا وأسبابه، وأن تدفع عنا الزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا صالحين مصلحين اللهم أصلحنا اللهم أصلحنا جميعا رجالا ونساء صغارا وكبارا، اللهم أصلحنا جميعا رجالا ونساء صغارا وكبارا علماء وولاة يا أرحم الراحمين.
واعلموا رحمني الله وإياكم أنه كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان من هديه أن يستسقي في خطبة الجمعة فيرفع يديه ويرفع الناس أيديهم في الدعاء بالاستسقاء، فنحن داعون فأمنوا مع رفع أيديكم: اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء نسأل أن تغيثنا غيثا مباركا، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء نسأل أن تغيثنا غيثا مباركا نافعا غير ضار، نافعا غير ضار، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تغيث البلاد والعباد اللهم أغثنا واجعله مطرا مباركا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك من جميع الذنوب والخطايا إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم اجعل ما أنزلت نافعا للعباد والبلاد وجنبنا الضرر والسوء في أمورنا كلها، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت نسألك سؤال من يعلم أن الخير كله بيدك، وأن مقاليد السماوات والأرض بيديك، وأن المطر عندك وأن كل خير بيدك، نسألك أن تغيثنا ولا تجعلنا من القانتين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
عباد الرحمن إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، أذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر الله يعلم ما تصنعون.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري(2/8)
أحكام الرؤى والأحلام
خطبتي جمعة
[وجه شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[الخطبة الأولى]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فجزاه الله جل وعلا عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
ونسألك اللهم أن تحشرنا تحت لوائه المحمود وأن توردنا حوضه المورود.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى.
أيها المؤمنون إن الرؤى والأحلام تشغل كثيرا من الناس؛ لأنه ما من يوم إلا ويحصل لهم فيه رؤى أو أحلاما، والشرع المطهر جاءنا بتفصيل أحكام الرؤى وتفصيل أحكام الأحلام وما يتصل بهذه أو بتلك؛ بل إن أصولها قد جاءت في القرآن العظيم.
ألم ترَ سورة يوسف عليه السلام حيث إنه جل وعلا أخبرنا أن يوسف عليه السلام رأى رؤيا ثم تحققت تلك الرؤيا بعد كثير من السنين ?إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ?[يوسف:4]، قال جل وعلا في آخر السورة ?وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا?[يوسف:100]، يعني أن إخوته كانوا هم الكواكب وكان أبوه وكانت أمه هما الشمس والقمر.(3/1)
كذلك في تلك السورة أخبر الله جل وعلا عن الملك الكافر حيث إنه رأى رؤيا فجاءت رؤياه حقا، قال جل وعلا عن الملك ?وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43)قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:43-44].
ونبينا عليه الصلاة والسلام أول ما بُدئ به الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ يعني يراها كما هي عيانا في الواقع كما رآها مناما، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين من النبوة» قال كثير من العلماء لعل معنى هذا أنّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان أول ما بُدئ به الوحي أنه يرى الرؤيا فتجيء مثل فلق الصبح، فاستمر ذلك معه قبل نزول جبريل عليه السلام عليه ستة أشهر، ثم إنه عليه الصلاة والسلام استمرت نبوتُه ورسالتُه ثلاثة وعشرين سنة، وكان نصيبها جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
والرؤى لها مقام عظيم من أول البشرية، كانوا يعتنون بها؛ لأن أمرها غريب ولأن شأنها عجيب، ولهذا قلّ أن يكون زمن إلا وفيه معبِّرون يعتنون بتعبير الرؤيا ويهتمون بذلك لأنها تشغل الناس، والله جل وعلا بيّن أصول الرؤى وأنها تنقسم إلى:
رؤيا من المسلم المؤمن الكامل وفيها تكون رؤيا حق، وقد تكون الرؤيا الحق من الكافر الذي يشرك بالله جل وعلا.
قال أهل العلم: الروح؛ روح الإنسان ثلاثة أنفس. فإن الروح منقسمة إلى أنفس قال جل وعلا ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر:42]، فالروح أنفس، والأنفس في حال المنام:(3/2)
· منها نفس تكون مع النائم يتردّد بها نفَسُه وتستقيم بها حياته.
· ونفس أخرى يقبضها الله جل وعلا ويتوفّاها فتكون عنده.
· والنفس الثالثة تسرح وتذهب هاهنا وها هناك منفصلة عن البدن.
وكلّ هذه الأنفس قريبة من البدن تعود إليه في أقرب من لمح البصر.
أما النفس التي تتجول فهذه النفس هي التي يحدث منها ومن تجوالها الرؤى والأحلام.
? فإذا [نفثها] ملك فضرب لها الأمثال إما بالألفاظ وإما بالأشكال وإما بالوقائع والذوات والقصص، فإن الرؤيا تكون حينئذ ضرْب من الملك.
وهذا القسم هو الرؤيا التي هي الحق.
? والقسم الثاني: أن يأخذها الشيطان فيتلاعب بها، يُري الإنسان ما يغيظه، يُري الإنسان ما يكرهه، وينغص عليه منامه، فقد جاء رجل إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيتُ البارحة أن رأسي قُطعت فأخذت أتبعها. قال عليه الصلاة والسلام «لا يخبر أحدكم بتلاعب الشيطان به في منامه».
? كذلك قد تكون تلك النفس تتجول ويؤثر عليها تعلقها بالبدن، فإذا شبع الإنسانُ -مثلاً- أثّر شِبَعُه على تلك النفس، فإذا كان في نفسه من الخواطر ما فيه أثر ذلك على نفسه، فرأى ما شغل باله أو رأى ما أثّر عليه من بدنه، لهذا ثبت في الصحيح -صحيح مسلم- أنّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال «الرؤيا ثلاثة أقسام فمنها ما هو حق يضربه الملك، ومنها ما هو تلاعب يتلاعبه الشيطان بأحدكم، ومنها ما هو حديث نفس» وهذه هي أقسام الرؤيا.
فمنها ما يكون حقا يضربه الملك لك أيها المؤمن؛ بل يضربه الملك للمؤمن والكافر، فيكون بتلك الأمثال إشارات يعقلها العلماء كما قال جل وعلا ?وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ?[العنكبوت:43].(3/3)
ومنها ما يكون من تلاعب الشيطان يُري الشيطان للإنسان؛ يعني نفسه التي أخذها في المنام وذهب بها إلى ها هنا وها هنا، يريه أشياء مفزعة، يريه أشياء تحزنه، فيكون الإنسان في منامه محزونا، وذلك فعل الشيطان به، وربما لم يحزن في منامه؛ لكن يحزن إذا استيقظ، وهذا كله من الشيطان؛ لأنّ تلاعب الشيطان له دلالاته يستدل بها المعبرون على أن ذلك ليس الرؤى من الحق وإنما هو تلاعب الشيطان.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الفجر غالبا من كل يومه فإنه يقبل على أصحابه ويسألهم «هل رأى أحد منكم رؤيا»، فيخبره من رأى منهم بما رأى، فربما عبّرها لهم عليه الصلاة والسلام، وذلك أنّ الرؤيا الصالحة مبشِّرة للمؤمن، فما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «لم يبقَ من النبوة إلا الرؤى الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له»، فإنّ الرؤى الصالحة هذه مبشرات لأهل الإيمان.
وربما كانت الرؤى الصالحة محذِّرة لأهل الإيمان، فكم من صالح رام أمرا فأتته الرؤيا، تحذره من غشيان ذلك الأمر تحذره إما بصريح أو بإشارة، ولهذا أهل العلم الذين يعبرون الرؤى يستدلون....؛ بل بما رآه الرائي، يستدلون على تأويل الرؤيا بما رآه، تارة يستدلون باللفظ، وتارة يستدلون بالأشباه، وتارة يستدلون بالأبدان وما بينها من [التنافر]، وتارة يستدلون في تفسير الرؤيا بما يأتي للرائي، وكثير منها يكون من العلم الذي علَّمه الله جل وعلا من شاء من عباده ?وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ?[يوسف:21].
والناس اليوم خرجوا عما أُرشدوا إليه شرعا في كثير من أمور الرؤى:(3/4)
فمنهم من فإذا رأى رؤيا أسرع في أن يسأل عنها كل من رأى سواء علم منه أنه يعلم التأويل أم لا يعلم، وهذا من الأمر الذي لا يسوغ؛ ذلك لأن تفسير الرؤى علم من العلوم والكذب فيه كذب على الملك؛ لأن الله جل وعلا جعل الملائكة تضرب الأمثال، فإذا فسر المفسر رؤيا وهي ليست برؤيا بل بحدس وتخمين منه فكأنه قال للذي رأى: هذا الذي رأيت رؤيا؛ يعني أن الملك ضرب له المثل لذلك، وقد يكون ذلك من تسويل الشيطان، وقد يكون ذلك من حديث النفس، والمتعجلون في هذا الأمر كثير.
لذلك على المؤمن أن لا يسأل عن كل ما رآه، وعليه إن سأل أن يتحرّى الذين يعلمون الرؤى -عُرِفوا بذلك-، وليس كل من عُِرف بتأويل الرؤيا وأصاب في كثير منها يلزم منه أن يصيب دائما، فقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر لما سأله عن تعبير رؤيا فعبّرها فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر «أصبت بعضا وأخطأت بعضا»، وأبو بكر رضي الله عنه كان من المعروفين بتأويل الرؤى، فلا يلزم من تعبير المعبِّر للرؤيا -إذا كان عنده علم بذلك- لا يلزم منه أن يصيب دائما، لكن الناس يتعجّلون في هذا الأمر، والذي ينبغي على المؤمن أن لا يُحدِّث برؤياه؛ لأنه -كما ذكرنا- أعني ما يراه النائم في منامه على ثلاثة أقسام:
فمنها رؤيا حق وهذه على قسمين:
o إما أن تكون مفرحة، فإذا كانت مفرحة فاحمد الله عليها، احمد الله عليها، وإن شئت أن تسأل فسل، ولا يلزم من تلك الرؤيا أن تسأل عنها، فإن عاقبتها إلى خير، فقد قال عليه الصلاة والسلام «الرؤيا على رِجْل طائر إذا عُبِّرت وقعت».
o والقسم الثاني أن تكون الرؤيا الحق فيها ما يُحزن المرء إما بدلالة في الرؤيا وإما بما يعبره المعبر، فهذا إذا سأل عنه ربما أحزنه، والذي ينبغي إذا رأى المرء ما يحزنه أن يستعيذ بالله من شرها، وأن يتفُل عن يساره ثم يتحوَّل إلى الجنب الآخر، قال عليه الصلاة والسلام مرشدا من فعل ذلك «فإنها لا تضره».(3/5)
كذلك القسم الثاني ألا وهو حديث النفس، فإن النفس لها أحاديث، فهذا راءٍ رأى في منامه أنه يشرب الماء الكثير جدا، يشرب البحر أو يشرب النهر، أو يشرب عينا غدقة كثيرة فأفزعه ذلك، وإذا مردّ ذلك إما لشبع من طعام لم يشرب عليه ماء، وإما يكون مردّ ذلك لعطشه إذ ذاك أو لتفسير من التفسيرات التي فسّر بها، وليس كل ما يظنه الناس أنه رؤيا يكون في الحقيقة رؤيا؛ بل كثير من الناس يرى ولا تكون رؤياه حقا؛ بل تكون من أحاديث النفس أو تكون من تسويلات الشيطان.
والرؤى يعتبرها أهل العلم باعتبارات مختلفة، لهذا مما ينهى عنه أن يتعلّق الناس الرجال وبالأخص النساء بالكتب التي تفسّر الأحلام، فكثير من الناس يحصِّل عنده كتبا في تفسير الأحلام، فإذا رأى رؤيا إذا رأى في منامه شيئا أسرع من صبيحته إلى ذلك الكتاب.
والرؤيا تعبيرها له شروط وتحتاج إلى علم واسع، فأحيانا لا يكون تفسيره له تعلق بالرؤيا البتة، وإنما يكون في الرؤيا كلمة تدل المعبِّر على تفسيره إياها، كلمة واحدة ويكون معها قصص طويلة كيف لها شأن بالرؤيا وليس لتفسير الرؤيا بها تعلق، وإنما التعلق بتلك الكلمة وما قبلها وما بعدها من الأحداث ليس لها مصير.
كذلك من الناس من يرى أشياء مفزعة فيرى تفسيرها بالأمر القبيح، فينظر في نفسه فإذا هو أصبح محزونا فصار كيد الشيطان عليه متحققا إذْ أحزنه.
والذي ينبغي أن لا يسعى في ذلك، وإذا أراد فليسأل أهل العلم الذين يعبرون الرؤى ولا يسل أهل الجهالة ولا يسل أهل التعجّل، فإن كثيرا من الرؤى لا يعلم تأويلها إلا بشيء من التأمل والنظر، ومنها ما يظهر تأويله، ومنها ما يخفى تأويله والناس في هذا لهم مقامات.(3/6)
مما شاع بين الناس -وهو غلط- أنّ الإنسان إذا رأى أنّ من أسنانه ما سقط، أنَّ ذلك يؤول بفقد أحد أحبته -بموت ابنه أو ابنته أو من يعز عليه-، وهذا ليس بالصحيح إذْ إن الأسنان لها في الرؤى أحوال كثيرة، والأسنان العلوية غير السفلية، والمتقدمة غير المتأخرة، والأضراس غير الأسنان، وهكذا في تفاصيل كثيرة.
المقصود أيها المؤمن: أن الرؤى من العلم الذي حازه من حازه، والأنبياء يعبِّرون الرؤى بتعليم الله جل وعلا لهم، فلا تكن متسرعا في ذلك بقصّها ولا بأخذ الكلام فيها ولا بتعبير الرؤى إن سئلت؛ لأن ذلك من العلم ?وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ?[يوسف:21]، فالتعجل في ذلك من الكذب إن لم يكن صاحبه على علم بذلك.
هذا واعلموا أن المرء إذا استعاذ بالله من شرها فإنها لا تضره ?إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، وليس من شرط الرؤيا أن تتحقق فقد يرى رؤيا ولا تتحقق إذا سأل الله جل وعلا أن لا تكون، إذا كانت مما يحزنه أو مما يرى أن فيه ضراء.
أيها المؤمنون: إن العلم واسع، والناس توسعوا وخاضوا غمرة جهل كثير؛ في أمورهم التي لها تعلق بدينهم ولها تعلق بكتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وعليكم بالعلم في أموركم كلها، عليكم بالعلم واليقظة، وأن تسألوا إذا جهلتم فإنما شفاء العي السؤال كما روي ذلك عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يبصِّرنا وإياكم للحق، وأن يلهمنا إياه، وأن يعلمنا من لدنه علما، وأن يجعلنا ممن استعملهم في طاعته، وأن يجنِّبنا القول بالكذب والقول عليه بلا علم؛ إنه ولي ذلك وهو نعم المولى ونعم النصير.(3/7)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ?أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)?[الشرح].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنّ يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى رفعتكم وفخاركم في الدنيا والآخرة، فاتقوا الله حقا وتوبوا إليه صدقا، اتقوا الله بتعظيم أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه، فإنّ تقواكم عاقبتها لكم، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فثنى بملائكته فقال قولا كريما ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه النور والجبين الأزهر.(3/8)
وارضَ اللهم على الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعن سائر الصحب والآل، وعن جميع زوجات نبيك، يا أرحم الراحمين.
اللهم ارض عنهم أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتَنا وولاة أمورنا، ودُلَّهم على الرشاد وباعد بينهم وبين أهل الزيغ والفساد، يا أكرم الأكرمين.
اللهم وهيئ لهم المستشار الصالح الذي يدلهم على الخير ويذكّرهم به ويضيق عليهم سبل المنكرات والشرور يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تُعِز الإسلام وأهله، وأن تذل الكفر وأهله.
اللهم انصر المجاهدين من المؤمنين في كل مكان.
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين في البوسنة، وانصر المجاهدين في كل مكان.
اللهم وعليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك، ويقاتلون أولياءك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره المشركون.
اللهم إنا نسألك أن ترينا فيهم عجائب قدرتك، وأن تنصرنا عليهم نصرا مؤزرا، اللهم عليك بالمشركين والملحدين وباليهود والنصارى المعادين للإسلام وأهله يا ارحم الراحمين.
اللهم أنت القوي فقونا، وأنت المعز فأعزنا.
اللهم نصرَك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت.
اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارحم النساء والأطفال، اللهم ارحم النساء والأطفال، اللهم ارحم النساء والأطفال، وأنزل عليهم سكينة، وانصر الرجال المؤمنين، يا أكرم الأكرمين.
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى وباسمك الأعظم -الذي إذا دُعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت- نسألك أن تجعل الإسلام عزيزا عن قريب، اللهم اجعل الإسلام وأهله أعزاء على الجميع عن قريب، يا أكرم الأكرمين.(3/9)
اللهم انصر المؤمنين، اللهم انصرهم، اللهم لا تكن عليهم يا أرحم الراحمين، اللهم إنهم مذنبون وفي عفوك سعة وأنت العفو الغفور، نتوسل إليك أن تنصرهم بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى.
اللهم ونسألك أن تؤمننا في جميع ديارنا.
اللهم نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم من أراد بنا فتنة، اللهم من أراد بنا فتنة فأشغله بنفسه، اللهم من أراد بنا فتنة فأشغله بنفسه، واجعل هذه البلاد آمنة مطمئنة، سائرة على الإيمان والتوحيد، مُحَكِّمة لشرعك على ما تحب وترضى، يا أرحم الراحمين.
عباد الرحمن: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون، أذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
?????
أعد هذه المادة سالم الجزائري(3/10)
المِعْيَارُ لِعِلْم الغَزَالي في كتَابِهِ السُّنّة النَّبَويَّة
قال ابنُ قُتَيْبَةَ:
«...قد كُنّا زمانًا نعتذرُ من الجهلِ فقد صِرْنا الآنَ نحتاجُ إلى الاعتذارِ من العلمِ! وكُنَّا نُؤمِّلُ شُكْرَ النَّاسِ بالتَّنْبيهِ والدِّلالةِ، فَصِرْنا نَرْضى بالسلامةِ, وليس هذا بعجيبٍ مَعَ انقِلابِ الأحوالِ, ولا يُنْكَر مع تغيُّر الزمانِ.
وفي الله خَلَفٌ وهو المُستعان»
اللهمَّ إني أبرأُ إليك من كل حولٍ وقوةٍ إلا بك وحدَك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الدَّائم توفيقُه, المتواترِ عطاؤه وتسديدُه, وأشهدُ أنه هو الإلهُ الحقُّ المبينُ, لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ, وأشهدُ أنَّ محمدًا خاتَمُ النبيِّين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيُّها الأخُ الراشدُ في مسلكِه وفِعاله:
سلامٌ عليك ورحمةُ الله وبَرَكاتُه.
سألتَ-لا زلتَ موصولا بتوفيق الله- أن أكتبَ كلماتٍ تنبئُ البصيرَ الحاذقَ, والغُفْلَ الريِّضَ, عن جناية كتاب «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» على هذه الشريعةِ, فيما أصَّل وقعَّد من ردِّ السننِ الموروثة, والسخريةِ من حَمَلَةِ العلم ومحصِّليهِ, الذينَ تقادم َ العهدُ بهم, والإبانةَ عن خوضِ ذلك الكاتبِ في أمورٍ لا يحسِنُها, فقهيَّة وحديثيَّة, فَخَبَطَ فيها, وقال بُهْتًا, وأبان للناس- بما جَرَّتْهُ أنامِلُه- عَقْلَه في الشرعيات.
ولا يخفاك- أيُّها الأخُ- أن الكاتبَ عُرِف بالخطابة, واعتزَى إلى الدعوة, ومَن اعتزى إلى ما يُحْسِنُه, لم يُلَمْ إن أخطأ في مقالة, أو كبا في مسألة, أما أنْ يَخْتَلِطَ الخاثِرُ بالزُّبادِ, والمرعيُّ بالهَمَلِ, فيدَّعي الطبيبُ بَصَرًا بتحرير الخلافيات, والمهندسُ فَصْلًا في الفقهيَّات, والرياضيُّ تصحيحًا وتوهينًا للمرويات, والخطيبُ الواعظُ قضاءً بين أهلِ الفقهِ والسُّننِ الموروثات: فتلك ثالثةُ الأثافي, وباعثةُ الموبِقات.(4/1)
وهذا الكتاب-الذي طلبتَ الكشفَ عنه- طارَ به أهلُ الفتنِ, وأعداءُ السُّنن, لجَرَيانِه مع أهلِ الأهواءِ في أهوائِهم, وقد ضَرَّمَ نارَه, وأشعَلَ الفتيلَ في زِنادِهِ «خضراءُ الدِّمَنِ»,[1] وما أدراكَ ما خضراءُ الدِّمَنِ, وسوءُ منبتِها, فنشرتْ منه وانتقتْ, فدخلتْ فتنتُهُ إلى بيوتٍ لم تعرف الكتابَ ولا كاتبَهُ؛ لأنه يخْدِمُ مصالحَ معلومةً في بَثِّ الخلافِ, وتفريقِ العلماء, وانتقادِ الدعـ(......) قلوبٍ أبطأ تطويرُها. لكنْ هذا حرِيقٌ ضُرِّمتْ نارُه, وحريقُ الأقلامِ قد يطفِئُه سيلُ المدادِ من ذوي السَّداد.
أيُّها الأخُ: أتى الكاتبُ, فجنى على نفسه وعلى أُمَّته, فزأر زأرةَ لَيْثٍ جربٍ موتورٍ على شباب الدعوةِ وعلماء الأمة فسَبَّ وجَدَّعَ, ورشَ السهامَ وعَنَّفَ, فما رعى لعلمائِنا حرمةً, وطَفقَ يُسَفِّهُ أقوالهَم بغرور وتعالٍ, وانطلاقِ لسانٍ, وجرأة جَنانٍ.
ألم ترَ-أيُّها الفاضلُ الودُودُ- كم أقزَّ الكاتبُ عينَ الرافضةِ والعلمانيِّين حين اجترأ على الفاروقِ المحَدِّث-- رضي الله عنه --, فخطَّأَه فيما رواه إذ خالف ما يراه ويهواه، فقال (ص17): «إن الخطأَ غيرُ مُسْتَبْعَدٍ على راوٍ, ولو كان في جلالة عمر»!
ثم ألم تَرَ كيف عَطَفَ وكرَّ على خَبَّابِ بن الأرَتِّ الذي أسلم سادسَ ستةٍ, وَرَوَّحت روحُه في جَنَّةِ الخُلْدِ قبل مجيء الغزاليِّ بثلاثةَ عَشَرَ قرنًا, فطعن في علمه إذا ساق ما رواه البخاري ومسلم([2]) عن خبابٍ: « إن المسلمَ يؤجَرُ في كل شيء يُنفقهُ إلا في شيءٍ يجعَلُه في هذا التراب». فقال الغزاليُّ (ص87) متطاولاً:
«كلامُ خبّابٍ-- رضي الله عنه -- عليه مسحةُ تشاؤمٍ غلبت عليه لمرضه الذي اكْتَوى منه».
ثم ألمْ ترَ -أيها الأخُ- قولَه عن سلمانَ الفارسيِّ- - رضي الله عنه -- (ص 116) إثْرَ سياقِ حديثٍ له, قال:
«حديثُ سلمانَ ليس إلا تعبيرًا عن حالةٍ نفسيةٍ خاصةٍ »انتهى.(4/2)
فقلْ لي أيها الموفَّقُ: أَفَيَعِزُّ على ذي هوى أن يَرُدَّ الحُجَجَ والدلائِلَ بمثلِ ما رَدَّ به الغزالي: عمرُ مخطئٌ فيما رواه عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخبابُ متشائمٌ, وسلمانُ ذو حالةٍ نفسيةٍ خاصة. أفترى هذا كلامَ رجلٍ اتَّصل من العلم بسبب وثيق, أم أنه كلامُ ذي هوى –والهوى مركبٌ يَلَذُّ للقاصر الغريق- أم أنه كلام متعالم-وقد وصفتُهم لك قبلُ- قل هذا أو ما شئتَ غيرَ ملوم. صدق مَن قال: « في تقلبِ الأحوالِ علْمُ مُخَبَّآتِ عقولِ الرجال»
وقد تقلَّبت الأحوال, فانكشف لي ولك المخبوءُ, وعُرضت العقولُ على أطباقٍ, فرأيتَ ورأيتُ, والأيام حُبْلى تَلِدُ كلَّ عجيبٍ غريبٍ. ثم قف-أيها الودودُ- على قوله (ص 128):
«إنَّ مَن قال بقطع الصلاة بالثلاثة المذكورةِ في حديث أبي ذرٍّ وغيرِه هم القاصرونَ من أهل الحديث»
أَتَدْري مَن الذين قالوا بقطع الصلاة بالثلاثة المذكورة؟ إنهم جَمْعُ خِيَرَة؛ منهم: أنسٌ, وأبو ذرٍّ، وأبو هريرةَ -رضي الله عنهم-, وابنُ عباس في رواية, والحسنُ البصريُّ, وأبو الأحوصِ, وأحمد في رواية, وغيرِهم.
ثم سَلْ أطفال المسلمين عمَّن ذكرتُ لك أسماءَهم من الأئمةِ الأعلامِ: أقاصِرونَ هُم؟ فإذا أجابوكَ بأنَّهُم كَمَلَةٌ مُنْتَخَبون فستقاسمني القولَ بأنَّ الغزاليَّ عَظُمَ رَغَبُه في إطاحةِ مَن يخالفُه, بألفاظٍ نابياتٍ, وتحريراتٍ واهياتٍ, شأنَ أهلِ الهوى, ومَن قال ما شا لَقِيَ ما لم يشا.
أيها الصاحِبُ: قرأتَ وقرأتُ الكتابَ, فألفيتُه غنيا فقيرا: غنيا من القصص[3]والسخريات, فقيرًا من عالي الكلامِ والاختيارات, نَصَبَ الكاتبُ فيه نفسه قاضيًا وحَكَمًا, وبين مَن؟ بين أهل الفقه وأهل الحديث في فهمهم للسنة, فدَلَّ بذلك على ضيق أفقه، وضعف فقهه, إذ: أهلُ الفقه المتقدمون جلُّهم محدِّثون, وأهلُ الحديثِ السالفونَ جلُّهم فقهاء.(4/3)
واعتبرْ ذلك بمالكٍ, والشافعيِّ, وأحمدُ, و الأوزاعي, والليثِ, والثوري, ونحوهم... أليسوا أمراء المؤمنين في الحديث؟ ثم أليسوا هم فقهاءَ الأمة ؟ والذي يتجلَّى للمدقِّق البصيرِ أنه عنى بأهلِ الفقه نَفْسَهُ ومَن وافقه, وبأهلِ الحديث من يخالفه.
ألم تر إلى دليل ذلك حين قال (ص19): «وأهل الحديثِ يجعلونَ دِيةَ المرأةِ على النصف من دية الرجل, وهذه سوأةُ فكريةٌ وخُلُقيَّة, رفضها الفقهاءُ المحققون»!
وأنت تعلم – وسأفصل ذلك بعدُ- أن الأمة بفقهائها قاطبة أجمعت على (......)إلى أهل الحديث , فالفقهاء المحققون –إذن- هم الغزالي ومن وافق!!
وأنا أوقفك -إن شاء الله- على أن هذا الذي زكى نفسه غُفل من سمة الفقهاء, عطل من حلية العلم والعلماء، «إلا لبسة المتفضل» ولقد حاف في حكمه, وجار في قضاءه, وانتصر لرأي نفسه, وسفه علماء الأمة, وبث الخلاف, وشق الصف, مبتدئا محاكمته دون بسملة ولا حمدلة, فحق أن تنعت بالبتراء, وأن توسم بالجذماء.
فاسمع –غير مأمور- خصال الغزالي في كتابه الذي سألت الكشف عما فيه والنظر في نواحيه.
?????
الخصلةُ الأولى
?التنقُّص والسُّخرية من علماء الأمّة?
هذه -أيُّها الأخُ- خَلَّةُ مَن تمَكنتْ منه أصابتْهُ المقاتِلُ, ولحومُ العلماءِ مسمومةٌ, وتنقُّصُ العلماءِ من شِيَمِ السفهاء, وكِلامُ الكَلامِ كجراحِ السهامِ, أفلم تَشْعُرْ بطعنٍ ينفذُ إلى حشاك كلَّما تنقَّصَ الغزاليُّ إمامًا أو عالمًا؟
قد سمعتَ مقالَه قبلُ في عمرَ وخبابٍ وسلمانَ والقاصرينَ-عنده- من أهل الحديث, فاسمع تنقُّصَه من نافعٍ أولِ سلسلةِ الذهب عن ابن عمر: قال (ص103) بعد سياقِ حديثٍ وأثر: «ونافعٌ-غفر الله له- مخطئٌ... ورواية نافع هذه ليستْ أولَ خطإ يتورَّطُ فيه, بل قد حَدَّثَ بأسوأ من ذلك...». ثم وصفه(ص105) بأنه: «راوٍ تائه ».(4/4)
فاسمع هذا, ثم تذكرْ قولَ الإمامِ مالكٍ: «كنتُ إذا سمعتُ نافعًا يُحَدِّثُ عن ابن عُمر لا أُبالي أن لا أسمَعَهُ من غيره»
وتذكَّرْ قولَ الخليلي الحافظِ الإمامِ في «الإرشادِ »: «نافعٌ إمامٌ في العلم, متَّفقٌ عليه, صحيحُ الرواية».
لكن لا يعزُبُ عن لُبِّ مثلك _أيُّها الأخُ_ أنَّ ذنبَ نافعٍ هو روايتُه ما يخالِفُ تفقهَ الغزالي, وذلك ذنبٌ يهْوي بصاحِبه!
وعِشْ تَرَ, وتذكَّرْ قولَ ساكن المعرَّة:
وقالَ السُّها للشمسِ أنتِ خفيةٌ
وقالَ الدُّجَى للصُّبْحِ لونُكَ حائِلُ
وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً
وفاخَرَتِ الشُّهْبَ الحَصَى والجَنادِلُ
ولعلَّك-أيُّها الصاحبُ الموفقُ- أطلعتَ على نفيه صفة الله تعالى يثبتُها أهلُ السنة وردُه حديثَ البخاري -رحمه الله-, ثم قولِه (ص127): «بعضُ المرضى بالتجسيم هو الذي يُشيعُ هذه المرويَّاتِ, إنَّ المسلمَ الحقَّ لَيَسْتَحي أنْ يَنْسُبَ إلى رسوله هذه الأخبار» انتهى. فالبخاريُّ ومَن حذا حَذْوَه فيهم خَصْلتان: مَرضى بالتجسيم, وليسوا من المسلمين حقًا! ولا يقولُ ذلك إلا أشعريٌّ مجازِفٌ. ولا نعجَبْ –إذن- من وصفه (ص102) أحد شرَّاح الحديث بأنه جاهلٌ جهلاً منكورًا بالقرآن.
وتعجَبْ –إذن- من قوله (ص114)عن الحافظِ المنذري: «إنه ليس لديه فقهٌ صحيحٌ».
ولا تعجَبْ-إذن- من قولِه عن كلامٍ لابن خُزَيْمَةَ, وغيرِه من المتقدِّمين والمازَريِّ, والقاضي عِيَاضٍ, لما وَجَّهوا حديثَ فَقْءِ موسى عينَ ملكِ الموتِ توجيهًا صحيحًا وهو المعتمدُ والترجيحُ قال (ص29) عن مقالهم السديد: «نقول نحن(!!): هذا الدفاعُ كلُّه خفيفُ الوزنِ, وهو دفاعٌ تافهٌ لا يُساغُ» انتهى. هذه حُجَجُ السُّوقَةِ والهَمَلِ: دَفْعٌ بالألفاظ المبتذلة الشوهاء في أوجه العلماء الفقهاء.(4/5)
واسمعه حين قال (ص118): « مَن زعم أن السنة تنسخُ القرآن فهو مغرور» انتهى. وهؤلاء الذين قالوا بالنسخ جمعٌ من العلماء, منهم: حسانُ بنُ عطيةَ، وأحمدُ في روايةٍ, وابنُ حزمٍ, وجمعٌ من الظاهريةِ؛ قالوا بوقوعِ النسخِ مطلقًا, وذهب آخرونَ إلى وقوعِه في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ منهم: القاضي في «التقريبِ», والغزاليُّ, والباجيُّ, والقرطبيُّ... وغيرُهم.
أفأولئك مغرورونَ؟ ومَن استهزأَ وسَخِرَ من العلماء السابقين فلا تستَكْثِرْ منه مقالًا, أو تستغْرِبْ منه فِعالًا, لأن لحومَهم -كما أسلفتُ- مسمومةً. وهاهو ينفُضُ جَعبَتَهُ, ويَرِيْشُ قائلاً (ص75)لأحد طلبةِ العلم في مكةَ المكرمةِ: «إن لكم فقهاً بدوياً ضَيِّقَ النطاقِ». وقد قال نحوَها أولَ كتابهِ (ص11), وظاهرٌ مُرادُه, وأنَّه يعني –وإنْ تَنَصَّلَ مؤقَتًا لأجلِ الجوائِزِ والصِّلاتِ، والبِرِّ والإِكرامِ- علماءَ البلادِ السعوديةِ, الذينَ أكرمَهُم المولى بالاعتقادِ الحق، والدِّينِ المكينِ, وهم لا يتركون الحقَّ لشناعةِ المشنِّعينَ, ولهذا ضاقَ بهم ذرعَا, ووسمَهُم بقلَّة الفقه, فقال(ص22):«لقد ضِقْتُ ذَرْعًا بأناسٍ قليلي الفقهِ في القرآن, كثيري النظر في الأحاديثِ, يُصْدِرونَ الأحكام, ويرسلون الفتاوى».(4/6)
ومُرَّ معي – أيُّها الأخُ- إلى (ص98) وتكذيبِه ما وقعَ للإمام أحمدَ بنِ حنبل وشيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ من وقائعَ ثابتةٍ مشهورةٍ في إخراجِ الجنِّ من بدنِ الإنس, فكذَّبَ ذلك, وقال: «أكثرُه-يعني كتابَ«آكامِ المرجان»–خرافاتٌ وخيالاتٌ، وإنْ ذكرهُ ابنُ حنبلٍ, وابنُ تيميةَ, وغيرُهما» انتهى. وقد بلغ هذا الرادُّ للسُّنن أطوريه حين اتَّهَم الأمةَ وعلماءَها تهمةً ما تجاسَر عليها مُسْتَشْرِقٌ أو حاقدٌ, فقال قالَةَ سوءٍ (ص46) فأَصِخْ لها, قال: «إنَّني أشعُرُ أنَّ أحكامًا قرآنيةً ثابتةً أُهْمِلَتْ كلَّ الإهمالِ, لأنها تتَّصل بمصلحة المرأة»! واسمعْ قولَه (ص33) عمَّن ذهب إلى إجازة إجبار البكر على الزواجِ بمَن رضِيَهُ لها والدُها, قال: «ولا نرى (!!) وجهةَ النظرِ هذه إلا انسياقًا مع تقاليدِ إهانةِ المرأةِ, وتحقيرِ شخصيَّتِها» انتهى. فالذينَ قرَّروا ترجيحَ جوازِ إجبار البكر لأدلَّة أقاموها -وإنْ كان ترجيحُهُم مرجوحًا- تركوا القرآن والنص عند الغزالي, واتَّبعوا تقاليدَ تُهينُ المرأةَ, وتُحَقِّرُ شخصيَّتَها. لكنْ؛ أتدري مَن أولئك؟ !هم القاسمُ, وسالمُ-وهما من فقهاء المدينة النبوية السبعة-, وعامرٌ الشعبيُّ, وابنُ أبي ليلى, والليثُ, ومالكٌ, والشافعيُّ،وأحمدُ في روايةٍ, وإسحاقُ. هؤلاء الأئمةُ متَّهمون بترك القرآنِ والحكمِ به رعايةً لتقاليدَ أهانت المرأةَ ! نعوذُ باللهِ من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ.
إنَّه وَهَنُ الديانةِ بلسان التعالم, وتمزيقُ الأغمارِ لنسيجِ الأحرارِ, فَلَسٌ مِن الوَقارِ, وإملاقٌ من أدب الكُتَّابِ. وإنِّي لأعجَبُ من رأسٍ حوى تلك السخرياتِ, وأُودِعَ الظُّنونَ السيئاتِ, كيف ينْظِمُ نفسَه مع الدعاةِ, بَلْهَ القضاة.(4/7)
والكاتبُ ليس بذي عِيٍّ وحَصَر حتى يُعْذَر, ولكنه –كما أدركْتَ وأدركتُ- شَغِفٌ في كتابه هذا وغيره بالهربِ من فضائِل الألفاظِ إلى مرذولِها, ومن حُسْنِ الاعتذارِ إلى شقاشِقَ تهدِرُ كلَّ جميل. لكنْ؛ أليسَ اللهُ بكافٍ عباده؟ بلى واللهِ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبرَأَ النَّسَمَةَ.
?????
الخصلةُ الثانية
?ضَعْفُه العلميُّ بأصولِ الحديثِ والسنَّةِ وكتُبِها?
تذكَّر-أيها الأخُ- قولَه (ص57) شاهدًا على نفسه: «الذي يدخُلُ في ميدانَ التديُّن(!) وبضاعتُه في الحديث مزجاةٌ كالذي يدخل السوق ومعه نقودٌ مزيَّفةٌ, لا يلومنَّ إلا نفسه إذا أخذَتْهُ الشرطةُ مكبَّل اليدينِ»انتهى.
وانظرْ في أعطافِ كتابه: تَرَ ضعفًا في علمه بالحديث والسنن, وزرعًا لبلايا وإِحَن, فاسمعْه يقول(ص14-15):
«وضع علماء السنة خمسة شروط لقبول الأحاديث النبوية؛ ثلاثة في السند, واثنان في المتن...»انتهى.
وجعلَ نفيَ الشذوذ والعلة من شروط قبول المتن وحده, وهذا غلطٌ سَبَبُه عدمُ المعرفةِ, وقلةُ العلمِ, إذ انتفاءُ الشذوذِ والعلة القادحةِ مُشْتَرَطٌ في السند والمتن معًا, فقد يكونُ المتنُ (......) ويكون المسندُ شاذًا أو مُعَلَلاًّ. هذا هو الذي يقرِّرُهُ علماءُ الحديث ويؤصِّلونَه. ولا تعجبْ –بعدُ- من تناقضهِ، واختلافِ كَلِمِه, فتارة يقول (ص15): «العلَّة القادحةُ عيبٌ يبصره المحقِّقون في الحديث». وتارة يقول (ص30): «إن بالحديث علة قادحة.... وأهل الفقه لا أهل الحديث هم الذين يردُّون هذه المرويات»انتهى. والأولى من كلمتيهِ هي الحقُّ المضيءُ, ولكن يأبى ضعْفُ العلم إلا انكشافًا.(4/8)
وليس ببعيدٍ عنك _أيُّها الودودُ _ أنُّه رَدَّ و(رَفض ) عددًا لا يُحصى من الأحاديثِ والسننِ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -, تارةً لضعفِ السندِ -حَسَبَ فَهمِهِ- وتارة لعدم موافقةِ هواهُ وتفقُّهِه, وقد قال (ص148): «إن التعلُّق بالمرويَّات المعلولة إساءة بالغة للإسلام »انتهى. وقد أبلغ في الإساءة, وجاز المدى, وبلغ سيلُه الزبى حين رَدَّ أحاديث صَحَّتْ في وجوب احتجاب المرأة من الرجال, ثم هو يحتجُّ على بعض ما يذهب إليه بحديث منكرٍ وضعيفٍ جدًّا, فاسمع المتناقِضَ إذْ يقولُ (ص39-40): لاشك أن بعض النساء في الجاهلية, وعلى عهد الإسلام, كُنَّ يغطِّينَ أحيانًا وجوههنَّ مع بقاء العيون دون غطاء, وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات, فلا عبادة إلا بنص. ويدلُّ على ما ذكَرْنا أن امرأةً جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -, يُقال لها:«أمُّ خلاَّد », وهي مُتَنَقِّبَةٌ, تسأل عن ابنها الذي قُتل في إحدى الغزوات, فقال لها بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: جئتِ تسألين عن ابنك وأنت مُتَنَقِّبَة؟ فقالت المرأة الصالحة: إن أُرزأ ابني فلم أرزأ حيائي».
قال الفقيه المحدث الغزالي (!): «واستغراب الأصحاب دليلٌ على أنَّ النقابَ لم يكن عبادة». انتهى. وليعلم الأخُ أن هذا مِنَ اللَّعِبِ بدين الله, إذ الحديث المذكور رواه أبوا داود في «سننه», وأبو يعلى, ومن طريقه ابنُ الأثير وغيرُهم, من طريق فَرَجِ ابن فَضَالة عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده: (فذكره).
قال الأئمةُ -البخاريُّ, وأبو حاتم, وابنُ عدي, وأبو أحمدَ الحاكمُ-: «عبد الخبيرِ, حديثُه ليس بالقائم».(4/9)
زاد أبو حاتم -وهو طبيبُ الحديث في علله-: «مُنْكر الحديث». فإسناده منكر ضعيف. ثم إنك ترى الهوى ومُجَانَبَةَ الأمانةِ لائحًا مِن قَلَم الغزالي وفِكْرِهِ حيثُ إنَّه يستدلُ هنا بحديثِ فَرَجِ بنِ فَضَالةَ, ويجعلُه دليلاً على أصحاب الحجاب, وكونِه من العادات, وفرجٌ نفسُه لما روى حديثًا في تحريم المعازف -والغزاليُّ يسمعُها ويُبيحُها- نقل الكاتبُ (ص 68) عن ابن حزمٍ أنَّ فرجًا متروك. وهنا يستدل بحديثه على رأيه في الحجاب! هذا هو الهوَى, ومن ركب الهوى هوى.
ومن ضعفه العلميِّ بالمصطلح قولُه (69): «ومعلقاتُ البخاريِّ يؤخذ ُبها؛ لأنها في الغالب متصلةُ الأسانيدُ, لكن ابنُ حزمٍ يقولُ: إن السندَ هنا منقطعٌ, لم يتصلْ ما بين البخاريِّ وصَدَقَةَ بنِ خالدٍ[4]الحديث...» انتهى.
ولا يجهلُ صغارُ متعلِّمي المصطلحِ أنَّ المعلَّقَ ما سُمِّي معلَقًا إلا لإسقاط بعضِ الرجالِ من جهة المُسْنِدِ, فالمعلَّقُ لا يجتمعُ مع كونه موصولَ الإسنادِ نفسه, فإذا الروايةُ بين الشيخ والراوي لم يُسَمَّ معلقًا.(4/10)
ومن ضعف الكاتب في الحديث قولُه(ص55): «ولم يجيء في أحد «الصحيحين»ما يفيد منعَ النساءِ من الصلاة في المساجد»انتهى. وقد جاء في« الصحيحين »عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لو أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأَيْنا لمنَعَهُنَّ من المسجد». ومن ضعفه العلميِّ ذكره (ص87) حديثًا لأنس, ثم فسره بما يراه, وهو قوله: «إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: النفقةُ كلُّها في سبيلِ اللهِ إلا البناء, فلا خيرَ فيه» واستروح الغزاليُّ له, ولم يُضَعِّفْهُ, مع حملهِ الراية الراغبةَ في ردِّ أكثرِ السنةِ! والحديث قال المُناوي عند الكلام عليه: «رواه الترمذيُّ في «الزهد» عن أنسٍ, وقال: غريبٌ. قال الصَّدْرُ المُناوِيُّ: فيه محمدُ بنُ حُمَيْد الرازي, وزافرُ بنُ سلمان وشبيب بن بِشْر. ومحمد قال البخاريُّ: فيه نظرٌ. وكذَّبه أبو زرعة. وزافرٌ فيه ضعفٌ. وشبيبٌ ليِّنٌ» انتهى. ومن عدم تمييزه بين المرفوعات والموقوفات, وما يصح وما لا يصح: استدلاله (ص118) بما رواه الترمذي عن علي -- رضي الله عنه -- في نعت القرآن مرفوعًا: «كتاب الله, فيه نبأ ما قبلكم...» الحديثُ, مع أن الحفاظ على تضعيفه, وأن الأشبه أن يكون موقوفا على عليٍّ -- رضي الله عنه -- قال ابن كثير في «فضائل القرآن»: قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ, لا نعرفُه إلا من حديثِ حمزَةَ الزَّيَّات, وإسنادهُ مجهولٌ, وفي حديث الحارثِ مقالٌ.
قلت القائل ابنُ كثيرٍ-: لم ينفردْ بروايتِه حمزةُ بنُ حبيبٍ الزياتُ, بل قد رواه محمدُ بنُ إسحاقَ عن محمدِ بنِ كعب القُرَظِيِّ عن الحارث الأعور, فبرِىء حمزةُ من عُهْدَتِهِ, على أنه وإن كان ضعيفَ الحديثِ, فإنَّه إمامٌ في القراءةِ. والحديثُ مشهورٌ من رواية الحارثِ الأعور, وقد تكلَّموا فيه, بل قد كذَّبه بعضُهم»انتهى.(4/11)
فلقدْ رأيتَ أنَّه خَبَطَ خَبْطَ عشواءَ في أحكامه الحديثية, والحديثُ -بل العلمُ كلُّه- لا يصلح إلا لمن يعانيهِ, وقد نَصَحَني ونَصَحَكَ -أيُّها الأخُ- بديعُ الزَّمَانِ الهَمَذَاني فقال في رسالةٍ له واصفًا مجوداً: «العِلْمُ عِلْقٌ لا يُباعُ ممَّن زاد وصيْدُ لا يألَفه الأوغاد, وشيءٌ لا يُدْرَكُ إلا بنزعِ الروحِ, وغَرَضٌ يُصابُ إلا بافتراشِ المَدَرِ, واستنادِ الحَجَرِ, والضَّجَرِ, وركوبِ الخطرِ, وإدمانِ السهرِ, وكثرةِ النظرِ وإعمالِ الفِكَرِ... فكيفَ ينالُه مَن أنفقَ صباهُ على الفحشاءِ, وشَغَلَ سَلْوَتَهُ بالغِنى, وخَلْوَتَه بالغِناءِ ؟!...انتهى. والكاتبُ الغزاليُّ ليس بذي إقبالٍ على كتبِ الحديثِ, ولذا لا يعرفُ مراتبها! أفلم تَرَ إلى قوله (ص16): «إن هذا الحديثَ المرفوضَ (!) من عائشة ما يزال مثبتًا في الصحاح, بل إن ابن سعد في «طبقاته الكبرى» كرَّره في بِضْعَةِ أسانيد» انتهى. وهذا يشعِرُكَ أنَّ مرتبةَ «الطبقات» عنده أعلى من «الصحاح», وهذه جهالةٌ علميةٌ.
ومن هذا قولُه (ص114) عن كتاب «الترغيب والترهيب »للحافظ المنذري:«هو من أمَّهات كتب السنة» انتهى.
وهذا تعبير عامِّيٍّ, أو مثقفٍ مطالعٍ.
وبعدُ أيُّها الأخُ: فالرجال معادِنُ تُفْرَقُ بالاختبارِ, وليس الصُّفْرُ ذهبًا, ولئنْ شابهه مظهرًا؛ فلقَدْ فارقهُ مَخْبَرًا. فتوقَّ لنفسِك وأمَّتِك من انتحال المبطلين، وترؤّس الجاهلين. وقد جَمَعَ من سألتَ عن كتابه بين ضعف العلمِ بالحديث والسنن, وبين انتقاصِ أهلِ الحديث والسنة, فقال (ص22): «لازلتُ أحذِّرُ الأمةَ من أقوامٍ بَصَرُهم بالقرآنِ كليلٌ, وحديثُهم عن الإسلامِ جريءٌ, واعتمادُهُم كلُّه على مرويَّاتٍ لا يعرفونَ مكانَها من الكيانِ الإسلاميِّ المستوعبِ لشؤون الحياة».(4/12)
ثم قوله (ص104) عن رواية: «أهل الحديث -لقلة فقهِهِم (!)- روَّجوا لها». وفي (ص19) يصف قول أهل الحديث في مسألةٍ عليها إجماعُ الأمة بقوله: «هذه سوأةٌ فكريةٌ وخلُقِيَّةٌ »!! إلى آخر ما سَطَّره قَلَمًا, ولَهَجَ بهِ نَفَسًا.
وأئمةُ الحديثِ قد أجمَعَتْ أبرارُ الأمةِ على الثناءِ عليهم, ولم يبلغ الغزاليُّ مبلغَ الأدباءِ, بَلْهَ العلماء, في الشهادةِ لهم بالزكاء والمزيَّة, فهذا الباطنيُّ أبو حَيَّان التوحيديُّ يقول في «إمتاعه ومآنسته»: «لأصحاب الحديث أنصارِ الأثر مزيَّةٌ على أصحابِ الكلامِ وأهلِ النَّظَر, والقلبُ الخالي من الشبهةِ أسلمُ من الصَّدْرِ المحشوِّ بالشكِّ والريبة»انتهى.
وهذا بديعُ الزمان يقول في رسالة له عن قاضٍ أشبه الغزالي:«ما له ولأصحابِ الحديثِ... واللهِ لَيَنْتَهِيَنَّ عن علمائِهم وهو كريم, أو لَيَنْتَهِيَنَّ وهو لئيم». ولا تغفل عن أن أئمة الحديث هم أئمة الفقهاء المتبوعون. وأنت ترى أن الغزاليَّ لم يبلغ إلى عقل أبي حيَّان والهَمَداني في ثنائِهم على الخِيرَة, وشهادتِهم بالحق لأهله, وتلك نَصَفَةُ تَزِينُ مَن تحلَّى بها, وتَرْفَعُ مَن رفَعَها.
ومن ضَعْفِ علمِ الكاتب أنَّه لا يفهَمُ معنى أحاديث كثيرة, ثم يردُّها ويرفضها-غيرَ متأدِّبٍ مع مَن قالها أو رواها- لأنَّها كما زعم تخالفُ ظاهِرَ القرآنِ. وتارةً يُفسّرُ أحاديثَ بتفسيرٍ أجمعَ أهلُ السنةِ على خلافه. خذ مثلا قولَه(ص14): «أمَّتُنا تَعُدُّ الكَذِبَ على صاحبِ الرسالةِ طريقَ الخُلودِ في النار؛ لأنه تزويرٌ للدينِ، وافتراءٌ على الله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على واحد, من كذبَ عليَّ متعمدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مقعَدَهُ مِنَ النار» انتهى.(4/13)
وتِلْكُم التي تحكمُ بالخلودِ على الكاذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الأمة الخارجية, لا الأمة السُّنِّية ففسَّر الحديثَ بتفسير الخوارجِ والمعتزلةِ, مِن جَعْلِهِ الوعيد خُلودًا, والكبيرةَ كفرًا. وخذ أيضا كلامه(ص48-50) عن حديث أبي بكرة-- رضي الله عنه -- قال: لما بلَغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن فارِسَا مَلَّكوا ابنةَ كِسْرى قال: «لن يُفْلحَ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأة». رواه البخاريُّ في «صحيحه». فأتى الغزاليُّ, فصنع صنيعين يتنافسان في السوء والخَطَل:
الأوَّل: أنه حَرَّف الحديث إلى «خاب قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأة» وفرق بين الخيبة وعدم الفلاح.
الثاني: أنه تقدَّم بين يدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -, وأساء الأدبَ, فرَدَّ ورفضَ الحديثَ بعد تحريفِهِ وسوءِ فهْمِهِ, فاسمَعْ اعتراضَه(ص50) حيث يقولُ بعد سرد قصة بِلْقِيسَ:«هل خابَ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةًمن هذا الصنف النفيس»!!
ثم مثَّل لعدم الخيبة بكافرات خاسرات: فكتوريا ملكة بريطانيا، وأنديرا غاندي الهندوسية البوذية، وجولدا مائير اليهودية.
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:«لن يفلح...», والغزاليُّ يعترض بقوله:«هل خابَ؟ !». ثم التقى من الناقة حَلْقتا البِطَانِ حين قال: «ولو أنَّ الأمرَ في فارسٍ شورى, وكانت المرأةُ الحاكمةُ تشبه جولدا مائيرَ اليهوديةَ التي حكمت إسرائيل, واستبْقَتْ دفة الشؤون العسكرية في أيدي قادتها لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة»انتهى. ويعني هذا اللَّسِنُ أن ابنةَ كِسْرى لو كانت مثل جولدا مائير؛ لم يقلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال! وله من الغلط في فهم الأحاديث أمثلة فانظر (ص53, 54, 96-97).
الخصلة الثالثة
?ضعفه العلميُّ?
في أصول الفقه, والفقهيات, وخلاف العلماء, ومذاهبهم(4/14)
أيُّها الأخُ –لازلتَ موصولاً بالخيرِ-: هذه خصلةٌ تمكَّنت من الكاتب, حتى أَبَتْ منه انفكاكًا, وأنت بصيرٌ بأن مَن لم يَفْقَهْ حقائقَ المذهب، وأصولَ الاستدلالِ الصحيحة, ومعرفةَ أصول الفقهِ والاستنباطِ كيف يعاني الاجتهادَ, أو يرومُ حلولَ ساحته؟! كما فعل هذا الرجلُ, فتفرَّد في أصولٍ ومسائلَ ساقها, ولم يُقِمْ ساقها. فإليك بعضَ ما تستدلُّ به على ضعفه العلمي في أصول الفقه، ثم الفقهيات, ولْتَكُنْ على ذُكْر قوله(ص ):«إن مَن لا فقهَ لهم يجب أن يغلقوا أفواهَهم لئلا يسيئوا إلى الإسلام بحديث لم يفهموه...»إلخ. فمن ذلك: قوله(ص136): «ونحن نطلبُ الشورى ونريدُ اعتبارَ الوسائلِ المؤديةِ لها فروضًا عينية, على أساس من القاعدة الفقهية: ما لا يقومُ الواجبُ إلا به فهو واجب» انتهى. وفي هذا الكلامِ ضعفان:
الأول: عدُّه الوسائلَ المؤديةَ لأمرٍ كفائي فرضًا عينيًا, فمسألةُ الشورى ووسائلُها ليست في الإسلام متعلقة بكل فرد.
الثاني:قولُه:«ما لا يقومُ الواجبُ إلا به فهو واجب», والعلماء يعَبِّرون بقولهم: «ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب», وفرقٌ بينهما, إذْ قولُه:«ما لا يقوم»يدخُلُ فيه ما لا يُستطاع بظهور؛ بخلاف «ما لا يتم» فلا يدخل فيه إلا احتمالاً تقسيميًا, وفرق بين قيام الشيء وتمامه, وما لا يستطاع لا يوصف بالوجوب, لا في العقليات ولا في الشرعيات, على التحقيق فيهما. ومن ضعفه في الأصول قولُه(ص65): «الحديثُ الصحيحُ له وزنُهُ, والعملُ به في فروع الشريعةِ لهُ مساغٌ وقَبولٌ»انتهى. وهنا مخالفتان بدعيتان:
الأولى: قولُه:«العملُ به في فروع الشريعة» تنحيةٌ لمَا صَحَّ من السنن والأحاديث عن الاحتجاج بها في العقائد وأصول الدين, وتلكم نزعةٌ اعتزاليةٌ اشْتَهَرَتْ في قالَبَي الأشعرية, والماتردية، ونحوِهما مِن زَيْغِ الخَلَفِ عن مَحَجَّةِ السَّلَف.(4/15)
الثانية: قولُه:«العمل به... له مساغ وقَبول » مخالفٌ لإجماع الأمة من فقهاء, ومحدثين وأصوليين على أن الحديثَ إذا صحَّ وجب العملُ به في الفقهيات. وكلماتُ الأئمةِ في هذا ذائعةٌ سائرةٌ: وقد يتركُ أحدُهُم العملَ به للنظرِ في دِلالتِه بما يسوغُ النظرُ فيه, مما عُرِفَ في الأصول, وتجدُ بَسْطَ أعذارِ وأسباب ذلك في «رفع الملام».
أمَّا قولُه:«له مساغ وقَبول», فباطلٌ ورَدٌّ, والمستقيم أن يقول:«واجبٌ وحتمٌ, إن لم تكن دلالتُه محتملة».
ومِن ضعف النظر الأصولي عند الكاتب قوله(ص51): «يجبُ علينا أن نختارَ للناسِ أقربَ الأحكامِ إلى تقاليدهم ... وليست مهمَّتُنا أن نفرِضَ على الأوربيين مع أركانِ الإسلام رأيَ مالكٍ أو ابنِ حنبلٍ إذا كان رأيُ أبي حنيفةَ أقربَ إلى مشارِبِهم, فإن هذا تنطُّعًا أو صدًا([6])عن سبيل الله...»انتهى. وهذا -كما تعلمُ- معناهُ التلفيقُ في التقليدِ, كونَ مرجِّحٍ من نورِ الأدلةِ الصريحة, ومعناه إتباعُ الرُّخصِ, ولا تَنْسَ ما قيلَ في إتباع الرخصِ. فبلادُ الكفرِ اليومَ يشربُ أهلُها الخمورَ, فشُربها من صميم عاداتِهم, فهلْ يُفْتَى لمن أسلم منهم بحلِّ بعض أنواعه التي أفتى بحلِّها بعضُهم ؟!
وفيهم: ربا, فهل نحلُّه لهم للخلاف الضعيف في بعض أنواعه؟!
وفيهم: سفاحٌ وزنا, فهل ندرأ عنهم الحدَّ أن دفعوا أجرةَ زنا, أو أطعموا المزنيَّ بها فشَبِعَتْ؟!
وفيهم: رَقْصٌ, واختلاطٌ بالنساءِ العاريات, فهل يباحُ لهم ذلك لأجلِ أن زائغةً من المتصوفةِ تفعلهُ, وتجعلُه ديانةً؟!(4/16)
وفيهم: أنَّ الخاطِبَ يرى كلَّ شيءٍ من مخطوبتِه, حتى السوءةَ, فهل يباحُ لمن أسلَمَ منهم ذلك, لأنَّ بعضَ الظاهريةِ الشُّذَّاذ يراه؟! وفيهم: تفضيلٌ للحيوانِ على ابنِ آدم... فهل يُباحُ لهم بعضُ صورِ التفضيلِ لأجلِ تفضيلِ الحنفيةِ الدَّابَّةَ على الإنسان في بعض الأحكام؟! وهكذا... تَنْسَلخُ الدِّيانةُ, وتُتْبَعُ الأهواءُ, وتُرْفَعُ عن الانقيادِ والقَبولِ السنَّةُ.
ثم ألم تَرَ تناقضَه؛ يريدُ إبقاءَ الأوربيين على تقاليدهم, ويَشُنُّ الغارةَ على المسلمين لتمسُّكِهم بأمورٍ هي عنده تقاليدُ؟!
إنهُ انحسارُ الفقه, مع ضعفِ الموقفِ, يلفُّهُما رداءُ العجلةِ. ومن أغلاطه الأصولية قوله(ص84):«لا غرابَةَ إذا كان الآكلُ بيده يَلْعَقُ أصابِعَه, ولكنْ جَعْلُ هذه العادة دينًا مما لا أصل له»انتهى. وجعلُه اللعقَ خطأ في فهم الحديث يسوقُه ضعفٌ أصوليٌّ: فحديثُ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إذا أكلَ أحدُكُم طعامًا فلا يَمْسَحْ يدَهُ حتى يَلْعَقَها, أو يُلْعِقَها» أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ في «صحيحهما». والحديثُ دالٌّ على الأمر باللَّعْقِ أو الإلعاق قبل المسح, بما يدل على الاستحباب. والعبادَةُ عرَّفَها الأصوليون بأنها:«ما أُمِرَ به من غير اطِّرادٍ عُرْفي, أو اقتضاءٍ عقلي». وهذا التعريفُ صادقٌ على اللَّعْق؛ لأنه مأمورٌ به, من غير اطِّرادٍ عُرْفي, ولا اقتضاءٍ عقلي. فقولُ الكاتب: «جعل هذه العادة دينًا مما لا أصل له» من الغلط والضعف الذي ظهر وانجلى, وسببُه دخولُه فيما لا يُحسِنُ ولا يُجَوِّدُ, وتخطِّيه مكانَه, ولُبْسُ رداءٍ ليس له, ومكانَكِ تُحْمَدِي أو تستحي.
?????(4/17)
ثم أسوقُ لك أيُّها الفاضلُ نَظَرَه في الفقهيَّات, «ومن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين», وعدمَ معرفته بالإجماع ومواقِعِه, فتارة يحكي خلافًا وليس ثَمَّ خلافٌ، وتارةٌ يَنْسِبُ مذاهبَ إلى أصحابِها فيُجْمِلُ, والتدقيقُ التفصيلُ...
فمن ذلك قوله(ص19) مستهزئًا بأهل الحديث: «أهلُ الحديثِ يجعلون ديةَ المرأةِ على النصفِ من ديةِ الرجلِ, وهذه سوأةٌ فكريةٌ وخُلُقيَّةٌ(!) رفضها الفقهاء المحقِّقون» انتهى. وهذا تعالمٌ, بل كَذِبٌ, فمَن أولئك الفقهاءُ المحققونَ الذينَ رفضوا هذا ؟ لم يصحَّ خلافٌ لأحد؛ إلا أن يعنيَ الغزالي نفسه ! وهو الأظهر. فالأمَّة مجمعةٌ على هذا في النفسِ, وليس هذا من قولِ أهلِ الحديثِ وحدهم, قال الشافعيُّ في «الأم»: «لم أعلمْ مخالفًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا في ديةَ المرأةِ نصفُ ديةِ الرجل ». ونقلَ الإجماعَ وأثبَتَه: ابنُ المنذرِ, وابنُ حَزْمٍ, وابنُ عبد البر, وابنُ رشد, والقرطبُّي, وجمعٌ, والعلماءُ تواتر عندهم نقلُ هذا الإجماع. فإذا انكَشَفَ لك هذا فاعلم –علمتَ الخيرَ- أن قولَه:«هذه سوأةٌ فكريةٌ وخُلقيةٌ» اتهامٌ لأمةِ الإسلام, ولشريعةِ الإسلام, وشهادَةٌ على الصحابة والتابعين والعلماءِ بعدهم أجمعين بأن إجماعَهُم وفِقْهَهُمْ سوأةٌ في الفِكْرِ, بل وفي الخُلُقِ, فالفِكْرُ فكرُ سوءٍ, والخُلُقُ مذموم هابط! هذا مكانُ هذهِ الأمة -وإجماع علمائها- في قلبِ هذا الرجل!
وتذكر هنا قولَه(ص160) آخر كتابه, وكأنَّما يشهدُ على نفسه:«إن الذين يخطئون في الفهم, ويجيرون في الحكم لا ينبغي أن يُسْقِطوا عِوَجَهُم الفكريَّ على دين الله»انتهى.(4/18)
ومن الإجماعات التي غَفَلَ عنها, وأشعر بالخلاف فيما أجمعوا عليه قوله(ص134):«هل ثمانون في المئة من الغنائم يقسم على الجيش, ويوزعُ الخمس الباقي على مصارفه المذكورة في الآية, وكذلك يرى أغلب الأئمة»انتهى. والآية قوله تعالى :«واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل...»الآية.
وقوله:«كذلك يرى أغلب الأئمة » لا أدري: هل يستثني نفسه باعتباره إماما من الأئمة؟ والذي نقله المفسرونَ والفقهاءُ أنَّ الحكمَ مجْمَعٌ عليه, وقد ذكر القرطبيُّ الإجماعَ، ونقلهُ عن: ابنِ المنذرِ, وابنِ عبد البر, والداوودي, والمازَري, والقاضي عياضٍ, وابنِ العربيِّ, وذكر ذلك ابنُ هُبيرة وغيره.(4/19)
ومن ضَعْفِه الفقهي الذِي أنشأهُ ضعفُهُ أمامَ الغربِ وشُبَهْ الاستشراق قولُه(ص18): «أبو حنيفة يرى أن مَن قاتَلَنا من أفراد الكفار قاتَلْناه, أما من له ذمةٌ وعهدٌ فقاتِلُه يُقْتَصُّ منه. ومن ثم رفض حديث: «لا يقتلُ مسلمٌ في كافرٍ», مع صحة سنده, لأن المتن معلول بمخالفة النص القرآني «النفس بالنفس»وقول الله بعد ذلك «فاحكم بينهم بما أنزل الله», وقوله «أفحكم الجاهلية يبغون».انتهى. وهذا تفقُّهٌ ضعيفٌ؛ لأن المتن لا يُعَلُّ بمخالفتِه للقرآن , بل إنه موافقٌ للقرآن في قول الله تعالى:«ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا». والقصاصُ من المسلمِ من السبيلِ على المؤمنين, والله لم يجْعَلْه للكافرين. ثم إن قولَه تعالى:«النفس بالنفس» عامٌّ؛ لأن (ال) جنسيةٌ, تفيدُ الاستغراقَ، وتخصيصُ العام ليس بمخالفةٍ للقرآن, فحديثُ عليٍّ-- رضي الله عنه --:«لا يُقتَلُ مسلم بكافرٍ»رواه البخاري في «صحيحه» مخصِّصٌ، والتخصيص بالآحاد يقبلُه جمهورُ أهلِ العلم، أما الإمامُ أبو حنيفةَ فيقولُ: العامُّ قطعيُّ الدِّلالةِ على أفرادِه, والمُخَصِّصُ إذا كانَ آحادًا فهو ظنيٌّ، فالقطعيُّ مقدم على الظنيِّ. وهذه مسألة أصولية معروفة, الراجحُ فيها قولُ الجمهورِ, وليس هذا مكانَ بسطِها. والمرادُ الإشارةُ إلى أن إعلالَ الحديث بالمخالفةِ مع سقوطِه تأصيلاً لا يمثِّلُ وجهةَ الحنفيةِ في فقهِهم. فاعتنِ بهذا, واعلم أن الرجلَ لا يحسِنُ الخوضَ في الشرعياتِ, أصولاً وفروعًا... ومما يَتْبَعُ ما ذكرتُه لك ممثلاً لتعلمَ حالَ الرجلِ وعقلَه في الفقهيات قولُه(ص33): «ومع هذا, فإنَّ الشافعية والحنابلة أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره»انتهى. وهذا مِن الغلطِ البَيِّنِ, إذْ مَنْ ذَهَبَ إلى ذلك يجعلَ المناطَ -مناطَ الإجبار- البكارةَ لا البلوغَ كما زعم من لم يَفْقَهْ, فقوله« أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة» يشملُ الثَّيِّبَ(4/20)
والبِكْرَ, وهذا لم يَقُلْ به أحدٌ من الأئمةِ المتبوعين وإنما قال بعضُهم-كما أسلفتُ في الخصلة الأولى– بإمضاءِ النكاحِ الذي أجبر فيه الأبُ ابنته البكر ولو بالغةً. ثم إنَّه عدَّ ذلك مذهبًا للشافعية والحنابلة , وفي هذا ضعفان:
الأول:أن الخلاف في المذهبين موجودٌ, فالإطلاقُ ضعيفٌ.
الثاني:أن غيرَهم قال به كمالك, وجمهرةِ أصحابِه, وقد ركبوا علة الإِجبارِ علة الإجبار من المناطين: البكارة والصغر, بوجودِ أحدهما يسوغُ الإجبارُ. ومن ذلك أنَّه لما تكلَّمَ على حديث:«كُل ذي نابٍ من السباع فأكلُه حرامٌ» ردَّه قائلاً (ص103):«إنَّ عددًا من الصحابة بينهم ابن عباس وعددا من التابعين فيهم الشعبي وسعيد بن جبير, رفضوا حديث مسلم, فكيف نترك آية لحديثٍ موضع لَغَط؟»انتهى. وفي هذا أوجه من الضعف الفقهي:
الأول: أنَّ ابنَ عباسٍ اختلفت الروايةُ عنه, الأظهرُ أنه يقولُ بالتحريمِ, لأنه روي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كلِّ ذي نابٍ من السباع. رواه مسلم وغيره, وموافقتُه لما رواه أولى.
الثاني: أن قولَه السالفَ أوهم أنه حديثٌ واحد, وهي عدةُ أحاديثَ عن جمعٍ من الصحابة, ففي «صحيح مسلم» عن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيِّ, وأبي هريرة, وابن عباس, وبعضُ هذه عند البخاري, وفي بقية كتب السنةِ رواياتٌ أُخَر.(4/21)
الثالث: أنَّ قوله عن التابعين: «رفضوا حديثَ مسلم »فيه تجاوزٌ, وتعدٍّ, وهوى, إذ مسلمٌ متأخرٌ عنهم بنحو قرنين! ولعله أراد أن يقولَ: رفضوا حديثَ الصحابة الذين رووا الحديثَ؛ لأنهم إنما يسمعونَ الحديثَ من الصحابةِ, لا يقرؤونه في «صحيح مسلم »! لكنه لم يتجاسَرْ على إنفاذِ ما يدورُ بخلدِهِ, والتصريحِ بأن التابعين سيِّؤو الظن بالصحابة , فيرفضون أحاديثَهم ويُغَلِّطونه فيما رووا. مع أن العذرَ بادٍ لبعضِ التابعين و أهل المدينة، وذلك ما أفصحَ عنه ابنُ شِهَابٍ الزهريُّ بقوله:«ولم أسمعْ ذلك من علمائِنا بالحجاز, حتى حدَّثنا أبو إدريسَ, وكان من فقهاء أهل الشام»أَسْنَدَه مسلم في «صحيحه».
الرابع: قوله:«كيف نترك آية لحديثٍ موضعِ لَغَط» يُرَدُّ عليه بأنك افترضتَ أن الحديثَ موضعُ لَغَطٍ, وصدوفُ مَن ذهب إلى الجوازِ عن الحديث سببُه عدمُ سماعه, وهي سنةٌ قد تخفى كما خَفِيَ غيرُها, فالزعمُ أنهم رفضوه وعدُّوه موضِعَ لَغَطٍ من الإفتئات على العلم والعلماء من التابعين فمَن بعدهم(4/22)
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ في الفقهاء المتَّبعين للسنن: «وأخذوا في الأطعمةِ بقولِ أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم كُلِّ ذي ناب من السباع, وكل ذي مخلبٍ من الطيور وتحريم لحوم الحُمُر؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنكر على مَن تمسك في هذا الباب بعدم وجود نَصِّ التحريم في القرآن, حيث قال: « لا ألْفِيَنَّ أحدَكُم متكئًا على أريكتِهِ, يأتيهِ الأمرُ من أمري مما أمرتُ به, أو نَهَيْتُ عنه, فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن, فما وجدنا فيه من حلال أحللناه, وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه. ألا وإني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه , وإنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله تعالى». وهذا المعنى محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه. وعلموا أن ما حرمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو زيادةُ تحريمٍ, ليس نسخًا للقرآن؛ لأنَّ القرآن إنما دَلَّ على أن الله لم يحرِّم إلا الميتة, والدم, ولحم الخنزير, وعدم التحريم ليس تحليلاً, وإنما هو بقاء للأمر على ما كان.انتهى.
ومن ضعفِ الكاتبِ الفقهيِّ أنه لا يستطيعُ الدخول في الترجيحِ بين الأخبارِ المختلفةِ والدَّلائل المتنوعةِ ولذا يرى نفسَه غريقًا أمام المشكلاتِ و(......). فاسمعه يقولُ(ص61) بعد سياق أخبارٍ وآثارٍ في شهادة المرأةِ وأحوالِها:(4/23)
« ورأيتُ -حتى أستنْقِذَ نفسي والناسَ(!!) من هذه اللُّجَّة- أنْ أعتصِمَ بالمتواتِرِ من كتاب الله والمشتَهِر من السنة النبوية...إلخ». والضعفُ ظاهرٌ خِلَلَ كلِمِهِ هذه, فمن لم يستطع الترجيحَ بين الواردِ في المسائلِ الشرعيةِ والتنقيحَ، محكمًا الأدلة, مرجحًا بينها, موجهًا للمختلفات ِفهو الغريقُ في لجَُجِ بحرِ الخلافِ الفقهي. والكاتبُ رامَ التوفيقَ فتَعَذَّرَ, وحاولَهُ فتعسَّرَ فلما اعتاصَ عليه وأبى, أدبر عنه وتولى, متجاهلاً مواقع الحُجَج, مكثرًا من الكلام واللجَج.
والتحقيقُ في الفقهياتِ, والفصلُ في الخلافياتِ، عقبةٌ كؤودٌ لا يقْتَحِمُهَا إلا مَن فاضَ زادُه, وقويتْ أركانُه.
ومِن ضعفِهِ الفقهي وبُعْدِهِ عن عَقْلِ الفقهاء قولُه (ص56): «قد يُقْبَلُ زجرُ المرأة عن حضورِ الجماعات إذا كانت متبَرِّجَة»انتهى. فقوله«قد يُقْبَل» معناه التقليل والتضعيف، وظاهر الكلام-دون سياقه ولحاقه- يعني أن المرأةَ المتبَرِّجَةَ المُظهِرَةَ ما حَرَّمَ الله إظهارَهُ الأصلُ فيها أنَّه يُقبلُ حضورُها الجماعاتِ حالَ تَبَرُّجِها, وقد يُقْبَلُ زَجْرُها أحيانًا.(4/24)
وأنتَ ترى أنَّ هذا رميٌ للكلامِ دون تحرٍّ في اللفظ واتِّساق, وخروجٌ عن سَمْتِ الفقهاء والعلماء في التدقيق فيما يقولون؛ لأن الحكمَ الشرعيَّ تَبِعَتُهُ عظيمةٌ, فحَقَّ أن لا يتكلَّمَ فيه إلا الورعون. ومِن ضَعْفِهِ الفقهيِّ أنَّه لما بَحَثَ مسألةَ شهادةِ المرأةِ وكونِها على النصفِ من شهادةِ الرجل أرادَ دفعَ شبهةٍ استحضَرَها, فأساءَ في الردِّ عليها, وأوبَقَ القارىء في مَهْلَكَةٍ, قال(ص58): «قد بحثتُ في هذا الموضوع, فأدركتُ أن المرأةَ في عادتها الشهرية تكون شبهَ مريضةٍ, وأنَّ انحراف مزاجها واضطرابَ أجهزتِها الحيويةِ يُصيبُها ببعض الارتباك والتثبُّت في أداء الشهادات واجب, ذلك سرُّ قوله تعالى« واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى»».انتهى. ومقتضى ذلك التعليلِ أن المرأةَ في حالتي الطهر والإياس يُرفع عنها الحكمُ القرآنيُّ من جعلِ شهادةِ إحداهما نصفَ شهادةِ الرجلِ، إذ الحكمُ يدورُ مع علته وجودًا وعدمًا، فتعليلُهُ باردٌ سَمِجٌ, يوقعُ الشبهةَ, ويُقرُّها, وكم له من أمثالِ هذا! ولقد أحسنَ ابنُ الأثيرِ الأديبُ حين قال في رسالةٍ له: «لا تَكُنْ ممَّن تَبِعَ الرَّأيَ والنَّظَر, وتركَ الآيةَ والخَبَر, فحكمةُ الله مطويَّةٌ فيما يأمُر به على ألسنةِ رسلِهِ, وليست مما يَسْتَنْبِطُهُ ذو العلمِ بعلمه, ولا يستدلُّ عليه ذو العَقْلِ بِعقله, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا». ومن ضعفه أنه عنون (ص63) لمسألة تحريم الغناء بالمعازف والموسيقى بقوله: «التطرفُ في التحريمِ نزعةٌ غيرُ إسلامية» ولا يَبْعُدُ عن خاطرِكَ أن الأئِمَّةَ الأربعةَ وفقهاءَ الملةِ أفتوا بتحريم المعازف, ولم يخالِفْ إلا الظاهريةُ, وبعضُ أفرادٍ شذُّوا ممَّن قبلهم, ولهذا فإنَّ تهويلَه وتقريرَه لما يريدُ بعنوانٍ مثل هذا, يُفْهِمُ أنَّه متَّهِمٌ(4/25)
للأئمةِ بأنَّهم حرَّموا حلالاً, نازعين إلى غير الإسلام, فلم يتَّبعوا الإسلامَ وإنما نزعوا إلى غيره من تقاليدَ وأديانٍ. وكلامُهُ في المعازفِ والغناءِ كلامُ مَن ركب الثقافة, فسعى إلى تقرير ما يريد, بعيدًا عن القواعد العلمية, والبينات الشرعية.
أيُّها الأخُ-وصلك الله بمراضيهِ-: سمعتَ ورأيتَ طرفًا مما في كتابه من الأصول والفقهيات, و«من رأى من السيف أَثَرَه فقد رأى أكثره»وإذًا ستقولُ: أينعتِ الحقوقُ, وحانَ قِطافُها, ولقد صفا نجمُ الكاتِب للأفولِ, وخرج -ولم يدخُلْ قبلُ- من جملةِ العلماءِ والفحول لأنَّه لبس رداءَ غيرهِ, فصارَ عِبْرَةً من العِبَر, وعِظَة لمن ادَّكَر.
?????
الخصلة الرابعة
?السخرية والهزء والسباب?(4/26)
وتلكم -أيُّها الأخُ- خصلةُ تُخْرِج من تَمَكَّنَتْ مِنه مِن سَمْتِ العلماءِ, وهدْيِ الحكماءِ, الذينَ زانَهم الوقارُ, فكانَ لهم أجملَ دِثار, وهذا الكاتبُ ساخِرٌ لُمَزَةٌ بالشباب والدعاة والمستفتين والسائلين. ألم تَرَ كيف أجاب (ص92)ذلك المستفتي الذي وصف الغزالي ما دار بقوله:« كرر شكواه مؤكِّدًا أنه مسكون! قلتُ: مَن سكنك؟ قال جنِّيٌّ عاتٍ غلب على أمري... فقلتُ-وأنا أضحك-: لماذا لم تَسْكُنْهُ أنتَ؟ إنَّك رجل طويلٌ عريضٌ...»انتهى. هذه حال المستفتي الذي حَسَّنَ الظنَّ بالكاتب, فإذا هو أمام ساخر مضحاك. أهكذا يُوَجَّهُ المستفتون؟! أم أهكذا تكون الدعوة؟! وكم في كتابه من السباب والسخريات بأنواع وطرائقَ, مما حدا نبيهًا في أرضِ الكنانةِ أن يجمَعَ كتابًا سماه:«قاموسَ السِّباب في كتب الغزالي», وهو كتابٌ ظريفٌ مُسَمَّاهُ, حُدِّثْتُ به ولم أره. ولقد هَجَمَ على الدعاة من الشباب –مُفَرِّحا أعداءَهُم الفجرةَ- فوسَمَهُمْ بسماتٍ منها: أنهم فتيانُ سوءٍ(ص15)! وأنهم يُقَدِّمونَ صورةً للإسلام تثير الانقباض(ص109)! وأنهم في طفولةٍ؛ قال واصفًا(ص108):«اليوم توجد طفولةٌ إسلامية ... والمخيفُ أنها طفولةٌ عقليةٌ, تَجْمَعُ في غِمارِها أربابَ لحى» وأنهم كالذباب (ص111) !وأنهم تراجعوا إلى العصر الحجري في بعض الجوانب (ص117). ووصفَ أحدَ الدعاةِ بأنَّه «أعمى البصيرة», ودعا عليه قائلا:«قَبَّحَكَ الله»(ص120). وذكر أن المتديِّنين فشِلوا في عرض آرائهم الدينيَّة (ص138).وأن الناس يَلعنونَها(ص11). وأن بعضَ المدافعينَ عن الإسلامِ عندهُ «غباوةٌ رائعةٌ وجنونٌ وجهالةٌ». إلى آخر ما نَفَضَهُ وأرسله, والنَّصْلُ يَعْمَلُ بِحَسَبَ الأصلِ. ولقد ذكر من ذلك ما يَبْلُغُ صُحُفًا, فضربْتُ عنها صَفْحًا.ولك أن تقولَ بعدُ: أئنْ فَشِلَ الغزاليُّ أن يكون قائدَ جماعةٍ, أو رئيسَ دعاة يضيقُ صدرُهُ بما يقولون, وما يفعلون؟
?????(4/27)
الخصلةُ الخامسةُ
?التناقـ?ـضُ?
وهذا الكاتبُ الذي سألتَ الكشف عن كتابه وعقله وفقهه كثيرُ المتناقضات, ومَن كَثُرَتْ تناقضاتُه ازْوَرَّتْ إصاباتُه, ولعلَّكَ لَحَظْتَ أنَّه في ما رَقَمَ وسَطَّرَ رَسَمَ رُسومًا فما تَبعها, وحَدَّ حدودًا فما لزِمَها, يقولُ ثم يَنْسى, ويُبرم ثم ينقضُ, تارةً هناك, وتارة هنا. ألم تسمع إلى قوله (ص8): «قد تدارستُ مع أولي الألباب هذا الجوَّ الفكريَّ السائد, واتَّفقتْ كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق, واقتياده إلى الطريق المستقيم بأناة» انتهى. وهذا إبرامٌ لأمرِ رُشْدٍ, ولقد رأيتَ كيف نَقَضَهُ بسبابهِ وسخريتِه التي مَرَّتْ بِكَ قَبْلُ. ومن تناقضِه قولُه(ص11)عن كتابه:«لعلَّ فيه درسًا لشيوخٍ يحارِبون الفقهِ المذهبي لحساب سلفيَّة مزعومة»انتهى.
وكتابه كما عرفتَ وأدركتَ –حربٌ على الأئمة, وعلى فقه المذاهب وتسفيهٌ لأقوالِ علمائها وخَلْطٌ في المذاهبِ والاجتماعات, وهذه هي الحربُ المعلنةُ على الأئمة ومذاهبهم. فانظر كيف رمى غيره بداءِ نفسه, «رَمَتْني بدائها وانسلَّت». ولمزُه للدعوة السلفية لا يضيرُها, إذ الدعوةُ دعت إلى التوحيد الحق، وأخذتْ دينَ اللهِ كلَّه, وبشموليةٍ واتِّزانٍ, واعتبر ذلك بدعوةِ إمام الدعوة في هذه القرون شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ومَن نَهَجَ نَهْجَهُ, واقتفى سَنَنَهُ, في الدعوة إلى تعظيمِ اللهِ وتوحيدِه، والإِلزام بشرع الله... رحم الله أئمَّتَنا رحمةً واسعة. ومَن شَذَّ من أتباعها، فغلا أو جفا, أو أخطأ وكبا, فعلى نفسها جَنَتْ براقِشُ, خطؤه على نفسه, لا تتحمل ما أخطأ فيه دعوتُنا.
ومن تناقضهِ قوله(ص41)؛ «ويعلم الله أني –مع اعتدادي برأيي- أكره الخلافَ والشذوذَ, وأحبُّ السير مع الجماعة»انتهى.(4/28)
ولقد علمتَ –أيها الأخُ– أن هذا تشَبُّعٌ بما لم يُعْطَ, ولُبْسُ ثَوبَيْ زورٍ. فأينَ الجماعةُ ومحبَّتُها حين أنكرَ الإجماعَ, ولمز الأمَّةَ بأنها ذاتُ سوأةٍ فكرية وخُلُقِيَّة؟ أين الجماعةُ ومحبَّتُها حين قرَّر مذهبَ المعتزلة ومن فلَّ فَلْوَهم في ردِّ الحديث النبوي-لأنه آحادٌ- في العقائد والفروع؟ أين الجماعةُ ومحبَّتُها حين قرَّر القولَ الشاذَّ في المعازِف؟ ... إلى آخر ما شئتَ من الإلزامات التي تُبدي تهافُتَ دعواه, وتناقُضُهُ فيما حكاه وأبداهُ.
ومن تناقضِهِ إيرادُهُ حديثَ أمِّ خَلاَّدٍ, محتجًّا به على مذهبه في الحجاب, وأنه عادة، مع أن إسنادَ الحديثِ ضعيفٌ جدًا, كما سبق أن أوضحتُهُ لك مجلوًّا في الخصلةِ الثانية, يحتجُّ بمثل هذا مع أنه يقولُ(ص119):«ونحنُ هنا نذودُ المروياتِ الواهيةَ, والأحاديث المعلولةَ...»انتهى. وأقتصرُ على ما ذكرتُ من الأمثلةِ دَرْءًا للإكثارِ, ومَن أَكْثَرَ أَهْجَرَ, والإطالةُ باعثةُ المِلالِ.
?????
الخصلةُ السادسةُ
?ضَعْفُهُ النَّفْسِيُّ أمامَ الغربِ وحال العصر?
وهذا الضعفُ قَصَمَ ظهورًا, فردَّها على أدبارِها حائرةً ثَكْلى, ومَن قَوِيَ يقينُه بالله وشرعِه لم يَرْفَع بحالِ الغربِ رأسًا, ولم يبالِهم بالةً, إذْ بَرْدُ الإيمانِ وبشاشَتُه جالبةٌ للعِزَّةِ والاعتزاز بشرعِنا وأحكامِه, مهما شَوَّشَ المرجِفونَ, وحاكَ الشبهَ المتحيِّرون.
والكاتبُ كثيرًا ما يستحضرُ شُبَهَ المستشرقينَ, وإخوانِهم الذين نافَقوا, فيكونُ ردُّ الشبهةِ عندَه بأيِّ طريقٍ, حتى ولو كانتْ عسفاءَ أو هوجاءَ. ألا ترى تكريرَه معنى لفظِ: «محو الشبهات القديمة» ونحوه. ثم ألمْ تَرَ تعليلَهُ لجعل شهادةِ المرأةِ على النصف بأنَّها تَضْعُفُ حالَ حيضِها, بما مَرَّ تهجينُه.(4/29)
ثم اسمَعْ قولَه لماَّ وَقَفَ موقِفَهُ المنكور من الاختلاطِ والسفورِ, مبديًا باعثَ الموقفِ الخفيِّ, قال (ص46):«قد استغلَّ الاستعمارُ العالميُّ في غارتِه الأخيرةِ علينا هذا الاعوجاج المنكور (!), وشنَّ على تعاليمِ الإسلام حربًا ضاربةً, كأن الإسلام المظلومَ هو المسئول عن الفوضى الضاربة بين أتباعه». فهذه كلماتٌ خِلَلَها حالةٌ نفسيةٌ تصوغُ المواقِفَ, وتُبْدي المرجوحَ راجحًا, والضعيفَ قويًا. ومن ذلك قولُه(ص52) عن الأوربيين ومن شابههم:«إذا ارتضَوْا أن تكونَ المرأةُ حاكمةً, أو قاضية, أو وزيرةً, أو سفيرةً فلهم ما شاؤوا, ولدينا وجهات نظر فقهية تجيزُ ذلك كلِّه» انتهى.
وهذا غَوْصٌ في بحارِ العقلانيَّة وتجرد عن التحقيقاتِ الشرعيةِ, والمسألةُ دينٌ, وغدًا سؤالٌ. ومن ذلك أنه لما عَرَضَ شهادةَ المرأة ومَنْعَها في بعض الأحوال قال(ص61):«هل من مصلحة الفقه والأثر ترجيحُ مذهب يسيء أكثر مما يحسن؟».
ومن ذلك قولُه(ص93) ساخرا بالمسلمين: «هل العفاريتُ متخصِّصةٌ في ركوب المسلمين وحدهم؟! لماذا لم يَشْكُ ألمانيٌّ أو يابانيٌّ من احتلال الجن لأجسامِهم ؟ إن سمعة الدينِ ساءت من شيوع هذه الأوهامِ بين المتديِّنينَ وحدهم». ومن ذلك قوله (ص95): «عندما تناقلتِ الصحفُ (!) أن الشيخ عبد العزيز بن باز أخرج شيطانًا بوذيًا من أحد الأعراب, وأن هذا الشيطان أسلم... كنتُ أرقبُ وجوه(....) وأشعر في نفوسهم بمدى المسافة بين العلم والدين»انتهى. ويعني بالعلم علمَ الغربيين الفجرةِ, وبالدينِ دينَ الشيخِ وأمثالِه. وقوله:«كنت أرقبُ» معلنٌ عن حالِه النفسيةِ, مؤذِنٌ بأن ما في نفسهِ تَخَيَّلَه وشَعَر به في غيره.(4/30)
ومن ضعفه أمام الغرب وأعداء الإسلام قوله(ص98): «ومع أن مذهب السلفِ (!) أحبُّ إليَّ إلا أن مدافعةَ أعداءِ الإسلامِ تقتضي مزيدًا من الحَذَرِ واليَقَضَة». ولهذا تَجِدُهُ تارةً يَجِدُ قَلَقًا في نفسه من مخالفة الشرع للقوانين الدولية, فتراه يتحدَّثُ ويقولُ (59): «ولستُ أحبُّ أن أوَهِّنَ ديني أمام القوانين العالميَّة بموقف لا يستندُ استنادًا قويًا إلى النصوص القاطعة»انتهى. فهذه نقولٌ كاشفاتٌ للحال النفسيةِ المتوترةِ التي انشأ أثناءَها كتابَه, وأنَّه بناهُ مريدًا دفعَ شبهاتٍ عن الإسلامِ بأيِّ طريقٍ وأيِّ سبيل, حتى لو كانَ السبيلُ ردًّا لقولِ العلماء والإجماعات, أو سلوكًا لسبيلِ الشذوذِ في الأراءِ المعطَّلةِ عن محجَّةِ الاستدلالِ ونورِ العلمِ الوثيقِ الصحيح.
?????
الخصلةُ السابعةُ
?الأخْطاءُ العَقَدِيَّةُ والتهويلُ?
وهذه خصلةٌ سابعة أقفُ بعد وصْفِها, لا أزيدُ على كشفِها، رغبةً في الإقلالِ من إشغالِ مثلِك. والرجلُ -كما علمْتَه أيُّها الودودُ- يُهَوِّلُ حُجَجَهُ، ويُرْغي ويُزْبِدُ, لإضعافِ مخالفيه، ولو كان المخالفُ الأمةَ بأجمَعِها وإجماعِ علمائِها, لِيُقْنِعَ مَن اعتاد التغريرَ بالكلماتِ عن رؤيةِ الأفعالِ المنبئات... وله أخطاءٌ عقديَّة، والرجلُ -كما عرفتَه- وَصَفَ المحدثينَ وأهلَ السننِ بأنهم مرضى بالتجسيم, ولا ينبِزُ أهلَ السنَّةِ بذلك إلا من كانتْ سُدَاه ولحُْمَتُه الخلفيةَ الزائغةَ, كما علَّمَنا سَلَفُنا الصالح.(4/31)
وله أخطاء في هذا الباب كثيرة, فمن ذلك قوله على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (ص71)وقد تَخَيَّله: «وهو في مجلسه الرُّوحي: يوجِّه, ويربِّي, ويخلق الجيلَ الذي ينشئ حضارةً أرقى واتقى...». فقوله:«يخلُق» لفظُ صَحَفِيٌّ يُشَمُّ مِنه غلُوٌّ قادهُ إليهِ غلوُّ البوصيريِّ لما سمع أبياتًا من «بُرْدَتِه». ومن أخطائِه العقدية قوله (ص142): «العلم الإلهيُّ مسطورٌ في كتاب ضابط شامل محيط:«ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير»»انتهى. وهذا تعدٍّ وابتداعٌ بما لم يُسْبَقْ إليه, إذ المسطورُ في اللوحِ المحفوظِ هو ما في السماءِ والأرضِ, لا العلمُ الإلهيُّ كُلُّه, فعبارتُه فيها عَدَمُ توقيرٍ لصفاتِ الله, وفيها ابتداعٌ وتعالم.
ومن أغلاطه قولُه (ص144): «لقد شاءَ الله لحكمةٍ لا نعلمُها أن يخلقنا ويكلِّفنا, وقالَ في وضوحٍ«خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور»انتهى. الحكمةُ من الخلق والتكليفِ يَعْلَمُها صبيانُ أهلِ التوحيد, ألا هي تحقيقُ عبادةِ الله وحده لا شريكَ له؛ قال الله تعالى«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون».(4/32)
والوصفُ الثاني من هذه الخصلة: أنَّه كثيرُ التهويلاتِ, لِيَقْنَعَ الأغمارُ, فاسمعْهُ يقول (ص6) مهوِّلاً:«الفقهاء ليرتاعون لما يرويه المحدِّثون مخالفًا لما ثبت لديهم»! وقوله(ص117)عن روايات مرغِّبةٍ في الزهد حاثَّةٍ عليه: «ولو جعلنا هذه المرويات محورَ حياةٍ عامَّةٍ لشاعَ الخرابُ في أرجاءِ الدُّنيا» ثم قوله(ص144): «قد أسهمَتْ بعضُ المرويَّاتِ في تكوينِ هذه الشبهةِ, وتمكينِها, وكانَتْ بالتالي سببًا في إفسادِ الفكرِ الإسلاميِّ, وانهيارِ الحضارةِ والمجتمَعِ» انتهى. وهذه نظائِرُها تهويلاتٌ لا وَزْنَ لها, ولا يخفاكَ سوءُ مَنْبَتِها, وقُبْحُ لفظِها, وبشاعةُ اعتِراضِها على رواياتٍ بعضُها صحيحٌ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فالحديثُ -وهو المصدرُ الثاني من مصادِرِ التشريعِ- أسهَمَ بعضُ ما صَحَّ منهُ في إفسادِ الفكرِ وانهيارِ الحضارةِ الإسلاميةِ عند الغزالي! فالاستعمارُ والكفرُ لهما سَهْمٌ, وتلك المرويَّاتُ لها سَهْمٌ, فهما ملزوزانِ في قَرَنٍ.
وإذا كانَ هذا فهمَ الدعاةِ فعلى دعوتِهم العَفاءُ
?????
وبعدُ أيُّها الأخُ: خصالٌ يُسَرُّ بها الجاهلُ, كلُّها كائنٌ عليه وبالاً:
منها: أن يَفْخَرَ العلم والمروءة بما ليس عنده.
ومنها: أن يرى بالأخيارِ من الاستهانةِ والجَفْوَةِ ما يُشْمِتُه بهم.[7]ولقد علمتَ وصفَ وخصالَ هذا المتفقِّهِ, بما يُغْني عن تكلُّفِ الردِّ على مذاهبه. ولقد شَهِدْتَ وشهدتُ أن العلمَ في زمانِنا قد استَدْبَرَ, وأن البُغاثَ «بأرضِنا» قد استنسر
قَدْ أَعْوَزَ الماءُ الطهُورُ وما بَقِي
غَيْرُ التَّيَمُّمِ لو يَطِيبُ صَعِيدٌ([8])
فتمسَّكْ بحبلِ الله وسُنَنِ المصطفى, واقتَدِ بأئمَّةِ الهُدَى, جمَعَنا الله وإياك في دار السلام. والسلام عليك ورحمة الله وبركاتُه.
?????
رقمه سالم الجزائري
---
[1] يعني بها المؤلف "جريدة الشرق الأوسط"(4/33)
[2] هكذا عزاه لمسلم, ولم أر كلام خباب المسوق إلا في البخاري.
[3] حكى في كتابه أكثر من ست عشرة قصة وقعت له بعضها صفحة أو أكثر, هذه صفحاتها(10, 11, 18, 26, 30, 43, 66, (....), 75, مرتين, 93, 94, 98مرتين, 108..)
[4] الذي في البخاري قوله:"وقال هشام بن عمار: حدثني صدقةبن خالد". كما هو مشهور...
([6])هكذا في الكتاب:"تنطعا أو صدا" بالنصب والوجه النحوي الرفع كما هو ظاهر.
[7] عن "الأدب الصغير" لابن المقفع(ص62)
[8] قاله الأمير شاعر ابن حيوس "ديوانه"(1/158)ط المجمع الدمشقي.(4/34)
جلسة خاصّة([1])
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، يقول الحق وهو خير الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأرحب الإخوة جميعا على هذه الزيارة في الله، وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم بها، ثم إنّ تواصل الأحباب، تواصل طلبة العلم فيما بينهم، هذا من أهم المهمات، وطلاب العلم سواء أكانوا كبارا أم كانوا متوسطين أم صغارا في العلم بعضهم يحتاج إلى بعض؛ فالعالم أو طالب العلم القديم يحتاج إلى طلبة العلم الصغار، ويحتاج إلى إخوانه كثيرا؛ لأنه بهم يحصل له الرغبة في الخير والإقدام عليه بالقوة في ذلك، فإذا حصل تواصل فيما بيننا وبين العلماء، أو فيما بيننا وبين طلبة العلم الكبار، فإننا نرجوا أن ننتفع، ونرجوا أن ينتفعوا هم أيضا بما يحصل لهم من الحسنات والخير وتثبيت العلم والدعوة والإصلاح ونشر الهدى في الناس، وهذا له سبب، وهو أنه بالعمل يكثر العمل، وبالكسل يزداد الكسل، وهذا سبب رُكّب في الإنسان أنه إذا عمل زاد عمله وإذا ركن إلى الكسل ازداد كسله، ولعل هذا يؤخذ أيضا من قول الله جل وعلا ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17] ويؤخذ أيضا من قول الله جل وعلا ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69]، ويؤخذ أيضا من قول الله جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، وكذلك الآيات في ازدياد الإيمان، وهي معروفة في عدد من السور وأشباه ذلك، وفي السنة أيضا من هذا كثير في الدلالة على هذا الأصل العظيم؛ وهو أنه بالعمل يُهدى المرء إلى أبواب من الخيرات ما كان يحسب لها حسابا، فالنشاط في(5/1)
الخير والإقدام عليه والمسارعة فيه، هذا يفتّح أبواب الخيرات للباذل وللمبذول له، والمرء بإخوانه لا بنفسه بعد الله جل وعلا، وخاصة في الأزمنة التي تكثر فيها الفتن ويزداد فيها الشر.
والملاحظ اليوم -فهذه الكلمة عفوية وقصيرة- والملاحظ اليوم أننا ضَعُفنا في مجال الدعوة، وقد يُظن عند بعض الناس أنّ الانتساب إلى منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم يعني العلم فقط، ولا يعني الدعوة والبذل في سبيل ذلك، وهذا من الخطأ الكبير على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، ولهذا قال الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة في أول كتاب ثلاثة الأصول ”اعلمْ -رحمكَ اللهُ- أَنَّهُ يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ“ وهذه المسائل هي المذكورة في سورة العصر: العِلْمُ، و العملُ، و الدعوةُ إليهِ، و الصبرُ علَى الأَذى فيهِ. وهذه من ضروريات كل منتسب إلى العلم؛ أن يعلم أن هذه واجبة عليه، وأنه لا تجب الواحدة دون الأخرى، فالجميع واجب؛ العلم والعمل ودعوة وصبر.
أما العلم فهو معروف، وأما العمل فإنه الهدى والصلاح في المرء في ذات نفسه، هذه المسائل الأربع: العلم والعمل والدعوة والصبر. من أهم المهمات على من اتبع سبيل السلف رضوان الله عليهم، فإنكَ ترى أنّ هذه يجب تعلمها ويجب العمل بها؛ يجب تعلم العلم والعمل به والدعوة إليه، وتلحظ أنه قال: والدعوة إليه. لأنّ الدعوة تكون إلى العلم، والعلم كما هو معلوم مجزّأ ليس العلم جمع مرتبة واحدة، وإنما العلم مراتب كثيرة، فما علمت من العلم يجب عليك أنْ تعمل به، ثم أن تدعوا إليه، إذا كان ذلك العلم واجبا، وإذا كان ذلك العلم مستحبا فيُستحب لك أن تعمل به وأنْ تدعو إليه.(5/2)
المقصود من هذا أنّ النّاس اليوم خاصة المنتسبين لطلب العلم والحرص عليه، أغفلوا جانب الدعوة ونشر العلم، فيمن حولهم، وفي من يلقون وتكثير سواد أهل الحق والإيمان، وهذا لا شك مما يُرغب عنه ولا ينبغي؛ بل لا يسوغ أنْ نبقى على هذه الحال.
تلحظ أنه ليس ثَم انتشار في صفوف طلبة العلم والمهتمين بالنهج الصحيح؛ إنما فيه ازدياد محدود، بينما في سنوات مضت نرى أن الانتشار أكثر، وهذا سببه الضَّعف في فهم منهج السلف؛ منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم هو أولى المناهج في الجهاد والدعوة، ولكنه جهاد ودعوة منضبطة، ولا يُفهم من الانضباط أنه ليس ثم جهاد ولا دعوة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر؛ بل إننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وندعو إلى الله جل وعلا على طريقة سلفنا الصالح، ونمضي في ذلك ونجتهد، ثم إنّ الدعوة مراتب، وكلما كانت المصلحة أكثر كلما كان الأجر أكثر، كما هو معلوم في القواعد الشرعية؛ القواعد الفقهية، فإنّ العمل إذا نازعه عمل آخر فما كانت المصلحة الشرعية فيه أكثر كان الأجر فيه أكثر، ثم أنتَ تُحدِّد هذا بحسب ما تراه من الأحوال وما يزدحم عليك من أنواع العمل الصالح.
لهذا وجب علينا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ووجب علينا أنْ نتعلم ثم نعلم، وجب علينا أن نعمل، كما قال الله جل وعلا ?وَالْعَصْرِ*(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)?[العصر]،(5/3)
الصبر المأمور به والواجب في هذا المقام نفتقده إلا من رحم الله جل وعلا، وذلك أنّ الصبْرَ من الواجبات التي يحتاجها الداعية أكثر من غيرها، وذلك لأنه قد يظن أنه بالعمل أدّى الواجب عليه في بعض ما أدّى، ولكن تكون الواجبات كثيرة فيأتي ويقول هذا يقوم به غيري، وهذا لا يكون... فيه إلا بالصبر، أيضا إذا رجعت إلى الثلاث التي قبله، فإن العلم يحتاج إلى صبر، والعمل يحتاج إلى صبر، والدعوة تحتاج إلى صبر، والصبر في نفس هذه الأشياء، وكذلك فيما تؤول إليه؛ يعني أنّ مرحلية الدعوة مثلا، هذه تحتاج إلى صبر، وأنظر إلى نوح عليه السلام كم مكث في قومه وهو يدعوهم إلى ترك ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، وهذه كانت دعوة نوح عليه السلام، وانظر إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كم مكث في قومه من السنين القليلة، ثم حصل له من الخير بإذن الله جل وعلا ما حصل، فدلّ على أن هذين الرسولين -أول الرسل وآخر الرسل، وأول أولي العزم وآخر أولي العزم- أنّ العزم والصبر لا تَنَافي فيها بطول المدة وقصرها؛ وإنما الصبر على ما يكون، كمن تحمل ما تكون فيه مرحلة الدعوة التي تمر بها، وهذا هو سبب انحراف كثير من الشباب عن منهج السلف الصالح، منهج السلف الصالح قد يُظن أنه نظري، وقد يقال هو بطيء، وقد يقال إنما هو في ناحية العلم فقط، وأشباه هذه الدَّعَاوى، وسبب هذه المقالات عدم الصبر؛ لأنّك تجد كثيرين أخذوا منهج السلف ثم لم يصبروا عليه، ثم تركوه إلى غيره، ظنًّا أنّ ذلك المنهج الآخر سيكون فيه النجاة، أو سيكون يحصل به المقصود، وإذا فات الصبر فات الخير كله؛ لأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فقد قال جل وعلا ?وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ?[الأنفال:46] هذا أمر بوجوب الصبر بأنواعه، ثم قال (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني معهم بتأييده وتوفيقه؛ هذه المعية الخاصة كقوله? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ(5/4)
هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، هذه المعية الخاصة؛ يعني معية التأييد والتوفيق والإلهام والنّصر والتّثبيت، هذه لأهل الصبر، كذلك قال جل وعلا لنبينا عليه الصلاة والسلام ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:6.]، وقال ?وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ?[النحل:127]، وذُكر الصبر في القرآن في أكثر من ثلاثين موضعا، الأمر بالصبر، الأمر بالصبر، وذكر فضل الصابرين ومنزلتهم في الدنيا وفي الآخرة، إلى آخر ذلك، وهذا يدل على عظم هذا الجانب.
فمن المهمات لساك منهج السلف الصالح أنْ يُطبق هذه الأربع: العلم والعمل والدعوة إليه -يعني إلى ما دل عليه العلم- والصبر. وأنْ يكون صابرا في الجميع، وإذا لم يصبر فيذهب عن منهج السلف الصالح؛ لأن هذا المنهج على ما وجب شرعا، هذا وما وجب شرعا يخالف الأهواء، وقد يكون من الأهواء ما فيه عجلة واستعجال.
المقصود من هذا، التأكيد على نشر الدعوة، وعلى الصبر على الأذى، والصبر على ما ينالك من المكاره، الصبر على الثبات على هذا المبدأ؛ على هذا المنهج، الصبر على القناعة بهذا الحق، قد تقول حصل وحصل والشر يزداد ويزداد ويزداد، ثم أنت لم تبرح مكانك، فتظن أنّ الخير في غيره؛ لأنّ هذا لم تحقق به نتيجة، وفي الواقع أنّ ذلك من جهة عدم الصبر على أمر الله جل وعلا وعلى سنة الله جل وعلا في ملكوته، نوح عليه السلام صبر ألف سنة إلا خمسين عاما، فلو صبرتَ مثلها لم تكن إلاّ مقتفيا لأثر الرسل.(5/5)
المهم أنْ تعمل على وَفق الأمر، حصل ما تريد أم لم تحصل، هذا ليس من شأنك؛ لأنّ الله جل وعلا قال لنبيه ? لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[البقرة:272]، مع قوله ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?[الشورى:52]، فهداية الدِّلالة والإرشاد تمشي فيها، ولكن ليس عليك هداهم، فكونهم يحصل لهم ذلك هذا ليس إليك، وقد بَلَغَ بالنبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عظيما أنْ لا يؤمن الناس فقال جل وعلا في وصف ذلك ?فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا?[الكهف:6] فدلت الآية على مقامين:
الأول: أن قتل النفس بالحَزَن والحصرة وأشبه ذلك، وهو المراد بقوله (بَاخِعٌ) يعني قاتل نفسك على آثارهم، هذا كان مما يعرض لصفوة الخلق، الله جل وعلا عاتب نبيه على ذلك.
والثاني: قوله جل وعلا (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) وهذا يدل على أنّ قتل النفس على عدم الإيمان، وليس على تحقيق ما تريد من أمور ومطامع مما يكون إقبال الجماهير أو إصلاح الدول أو ما أشبه ذلك، المقصود الإيمان؛ التوجه إلى الإيمان نفسه (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، ولهذا من سنن السلف الصالح رضوان الله عليهم في دعوتهم، وهذا واضح من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم؛ أنّ الدعوة تكون بالقاعدة قبل الرأس، الدعوة تكون بالقاعدة قبل الرأس، ويخاطب الرأس كما يخاطب القاعدة ولا يركَّز على الكبار وعلى الوُلاَة أو على... هذا بالتوجه لهم بكل شيء، بل ترك القاعدة العريضة في تحقيق الإيمان الذي هو إخلاص الدين لله واتّباع الرسل.(5/6)
فإذن نخلص أخيرا إلى أنّ السّعي في تحقيق منهج السلف الصالح يحتاج منّا إلى بذل أكثر في العلم والتعلم، بذل أكثر في التعلم والاستقامة والهِداية، وبذل أكثر في الدعوة التي أرى -وقد أكون مخطئا- أنها ضعفت في الفترة الأخيرة؛ لعدم فهم منهج السلف الصالح في ذلك, وأخيرا في الصبر في هذا كله، وبالصبر تتحقق المقاصد إنْ شاء الله تعالى.
هذه كلمات موجزة لعله أن يكون بها فتح لأبواب أنتم أعلم بها مني، وأسأل الله لي ولكم العفو والعافية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
السائل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...[التفريق بين العلم واليقين، والانقياد والقبول في شروط لا إله إلا الله]...
شروط لا إله إلا الله السّبعة هذه يُخطئ كثيرون في فهمها، وسبب الخطأ راجع إلى جهتين:
الجهة الأولى: أنهم لم يَرْعَوْا تفسير العلماء لها، إذْ العلماء فسّروها بضدها، فقالوا في العلم المنافي للجهل، وقالوا في اليقين النافي للشك، أو الرّيب؟ وقالوا في الانقياد المنافي لكذا، وقالوا في الإخلاص المنافي لكذا، فإذن تفسير هذه الشروط راجع إلى ما نُفي، وكما تعلم أنّ المنفي قد يكون من جهة القول، وقد يكون بالدِّلالة عليه، وقد يكون من جهة العمل، فيرجع الأمر إلى أنّ دلالة العلم تكون بالقول أو بالعمل، فإذن العلم واليقين تأخذ الفرق بينهما لا بتعريف العلم ولا بتعريف اليقين، وإنما بضدها، ولهذا العلماء فسروها بضدها، قالوا العلم المنافي لكذا، اليقين المنافي لكذا، فإذا عرفت الضِّد وجدتَ أنّ الأضداد المذكورة متنافية لا تشترك؛ فالرّيب ليس هو الجهل، والشرك ليس هو عدم الانقياد أو عدم الالتزام، وهكذا، هذه جهة.(5/7)
والجهة الثانية: أنهم ظنوا أنّ علماء الدعوة لمّا وضعوا هذه الشروط، أنهم وضعوها خارجة عن منهج السلف الصالح في العقيدة وفي التكفير وفي مسائل الإيمان، فأخرجوها عن قواعد السلف في التكفير والإيمان والأسماء والأحكام إلى آخره، فطبّقوها بنفسها دون رعاية لقواعد السلف الصالح، فحصل الخلط الكبير، وحصل التعدي وعدم فهم الدعوة، فكثير إلى الجماعات التي تميل إلى التكفير على غير هدى، هذه تتجه إلى شروط لا إله إلا الله ويطبقونها غلطا على الأفراد أو على الجماعات، وهذا الغلط راجع إلى جهتين:
1. عدم معرفة المنفي.
2. وعدم معرفة قواعد السلف الصالح التي تُطَبَّق عليها هذه.
وكما هو معلوم أنّ كلمة لا إله إلا الله؛ كلمة التوحيد هذه أو الشهادتان جميعا، قالوا لا تنفع قائلها إلا بسبعة شروط، وهذا يُعنى به الدخول في الدين، والدخول في الدين لا يتم إلا بهذه السبعة، لكن الخروج منه نرجع فيه إلى قواعد السلف الصالح؛ وهو أنّه لا يخرج منه إلا بيقين يدفع اليقين الأول؛ وهو تَحقُّق هذه الشروط، فمن ثبت في حقه الإسلام بقول لا إله إلا الله مجتمعة هذه الشروط فيه في زمن من عمره بعد البلوغ أو حتى قبل البلوغ إذا كان مسلما أو في دار إسلام، فإن هذا يثبت في حقه ذلك، ولا ينتقل منه إلاّ بأمر مكفِّرٍ على ما قرره أهل العلم في ذلك.(5/8)
هنا المنفيات العامة قد تأتي وتقول لهم: ما معنى لا إله إلا الله؟، فلا يجيبك بمعناها الصحيح، هذا إذا كان أنه عرفها في يوم من عمره، علمها وتيقن منها، وليس في قلبه ريب؛ كان مخلصا ومنقادا لها، فإنه بذلك يحصل له تحقيق هذه الشهادة، فإذا حصل له ذلك، فننظر إلى عمله لا إلى قوله؛ لأنّ القول يحتاج إلى استصحاب العلم؛ العلم اللفظي، والشهادتان يكفي فيها العمل لمن علمها بلفظها في زمن من عمره؛ يعني واحد في أول عمره تعلّم معنى الشهادتين وتلفظ بها وعرف المعنى وفهمه، ثم بعد مدة نسي ما درس وما عُلِّم، لكن عمله على التوحيد؛ ما خالف ذلك الأول، هذا قد تحققت فيه الشروط؛ وما خالفها ولو كان قال: لا أدري ما معناها، نسيت، درسناها ولكن نسيت. أو أجاب غلطا أو ما أشبه ذلك.
فإذن ”العلم“ المقصود به أنْ يعلمها في عمره مرة، ثم لا يأتي بما يناقضها من جهة القول أو العمل، ولا يعني أنْ يستصحب العلم اللفظي بها.
فأئمة الدعوة رحمهم الله لما ذكروا هذه الشروط وجمعوها من كلام أهل العلم بالتكفير والفقه وما جاء في السنة، وهي واضحة بيّنة، تُفهم على ضوء ما ذكرتُ:
? أولا: تكفيرها بالمُنَافي، وهذا المنافي قد تستدل به على القول، قد تستدل به على العمل، يعني من جهة إثبات الأصل، يعني انتفاء الجهل يكون بالقول، فإنْ لم يكن بالقول بالعمل، ما لم يأتِ بما يضاده، انتفاء الريب يكون بالقول، فإنْ لم يكون بالقول يكون بالعمل، وعلى هذا نفهم طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته.
? الجهة الثانية: أننا نأخذ بشروط لا إله إلا الله وما شابه ذلك مما قاله أئمة الدعوة رحمهم الله، على ما قرره أئمة سلفنا الصالح في العقيدة، وهكذا كان علماؤنا ولا يزالون على هذا، لكن الاتجاهات التي أخذت بهذه الشروط دون معرفة للدعوة، ظنوا أنها بمعزلٍ عن بقية العقيدة، وهذا لا شك أنه غلط كبير. نعم
الشيخ: هذه الأسئلة منك أو من المجموعة؟
السائل:من المجموعة.(5/9)
الشيخ: طيب جاز تفضل.
السائل:.....
رد إيش؟
السائل:.....
الرد هو عدم الالتزام؛ بمعنى أن يرد الحكم، أو يرد ما دلت عليه الشهادة من التوحيد، يرد هذا الحكم، يقول: هذا ليس معناها. هذا رد لها، ردّ دلالة الشهادة على التوحيد، وأمّا الترك فقد يكون مع الإقرار بالمعنى لكن يترك ما دلت عليه، كحال بعض العلماء المفتونين الذين يعلمون معناها، ولكن يتركون ما دلت عليه؛ إما كِبرا، وإما إباءً، وإما خشية من قيل وقال في أقوامهم.
السائل:...[التبرك]..
أمّا الذهبي رحمه الله تعالى فهو في توحيد العبادة جيّد؛ على طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وفي الأسماء والصفات، وعقائد السلف في الإيمان والقدر وغيره، هو كذلك على عقيدة السلف الصالح، وله في ذلك مؤلفات كثيرة كالعلو والأربعين وما أشبه ذلك، وأما في وسائل الشرك فإنه حصل له عدم تحرير فيها رحمه الله، خاصة في كتابه هذا الأخير ”السِّيَر“ الذي ألفه بعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ بعد وفاة وشيخ الإسلام بعشر سنين، فعنده بعض العبارات التي فيها تساهل بوسائل الشرك؛ كالدعاء عند القبور، والصلاة عندها، والتبرك برؤية الصالحين، أو التبرك بالدعاء عند القبور أو بالأماكن؛ المشاهد أوأشباه ذلك، فعنده تساهل في هذا راجع إلى عدم تحريره لمسألة الوسائل؛ وسائل الشرك.
السائل:....[معنى التبرك]
التبرك هو طلب الخير وثباته، مأخوذ من البِرْكة التي هي مكان مجتمع الماء، والبِرْكة عند العرب مهمة؛ أنهم يستقون منها، وتَرِد إليها الإبل والمواشي، فإذا استقرّت في هذا المكان وسميت بِركة، فدام عندهم خير أشهر.(5/10)
والبَرَكة من الله جل وعلا هو جل وعلا الذي يبارك وحده، وأما الناس فالمخلوقات لا تبارك؛ لأنها لا تستطيع أن تمنح ثبات الخير ودوام الخير، ولهذا قال جل وعلا في وصف ذاته العلية ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1]، ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ?[الملك:1] في أنّ البَرَكة وصف ملازم، في أنّ كثرة الخير هذا وصف ملازم للرّب جل وعلا، وإثباته وإدامته هذا نوع من خلق جل وعلا، وهو جل وعلا الذي يبارك على الأفراد كقوله جل وعلا ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ?[الصافات:113]، وهو المبارك جل وعلا في الأمكنة كما قال جل وعلا ?الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?؛ ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1]، وهو جل وعلا الذي يجعل بعض مخلوقاته مباركا كقوله جل وعلا في الماء ? وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ?[ق:9]، فهو مبارك في جَعْل الله جل وعلا له مباركا؛ فهو سبحانه الذي يبارك.
والبشر تحصل فيهم البَركة، وهذه البَركة في البشر هي بسبب الإيمان، بسبب ما عندهم من الإيمان، والبركة منقسمة إلى قسمين:
بركة ذات، وبركة عمل.(5/11)
? أما بركة الذات: بأن مس الذات، مس الجسم، يحدث للإنسان منه خير، مس الشعر، البصاق، العرق، إلى آخره، فهذه إنما هي للأنبياء، ولم يدل دليل على تجاوز الأنبياء في ذلك، وهذا مُجمع عليه، قد نص على الإجماع على ذلك الشاطبي وجماعة، وهو المعروف من هدي السلف الصالح رضوان الله عليهم، فما أحد من الصحابة تجاوز في غير النبي عليه الصلاة والسلام الحد المأذون به في التبرك في الذات، فإنما تبركوا بذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ بعرقه، بشعره، بلعابه، بـ...إلخ، وأما أبو بكر فلن يُتَبرَّك بذاته، وعمر لم يُتبرك بذاته، كما قال الشاطبي أثناء كلامٍ له في الاعتصام قال: وهذه البركة بسبب الإيمان، ولكن نازعنا في ذلك -أو قال يُشكل على ذلك- أمر مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله -يعني عنده- وهو أنّ الصحابة لم يفعلوا بأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلوا بعمر بمثل ما فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلوا بعثمان، ولم يفعلوا بعلي مثل ما فعلوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، في تبرُّكهم بذاته وبأجزاء بدنه، فدل هذا على أنّ -هؤلاء أجمع أهل السنة على أنهم أفضل هذه الأمة- دل هذا على أمر قطعي؛ وهو أن التبرك بالذات ليس إلى غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(5/12)
? أما القسم الثاني فهو بركة العمل: وهو ثابت لكل مسلم، وكل مسلم ومؤمن له بَرَكة بسبب عمله الصالح بقدر ما عنده من العمل، يدل على هذا ما رواه البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إِنّ مِنَ الشّجَرِ شَجَرَةً بركتُها كبَركة الْمُسْلِمِ » ، في حديث ابن عمر المعروف قال: فَوَقَعَ النّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. هذا لفظ في بعض المواضع في الصحيح، قال أيضا أُسَيْدُ بنُ الحُضَيرِ لعائشة: ما هذه بأَوّلِ برَكَتِكمْ يا آلَ أبي بكرٍ. يعني... ([2]) بركة إيمانكم وعملكم؛ لأنه نزل التخفيف عن الأمة بسبب ضياع العقد تأخر عائشة.
فإذن بركة العمل هذه للجميع، فإذا قيل مثلا هذه زيارة مباركة، وحصل لنا بركة بهذه الزيارة؛ يعني أنّ هذه الزيارة عمل صالح؛ عمل من الأعمال التي يُرجى ثوابها، وكل عمل يرجى ثوابه فهو من بركة المؤمن وعمله، كذلك رؤية العالم، رؤية الصالح تحدث بها للمرء بركة؛ لأنه يتذكّر الله جل وعلا، ويتذكر ما يجب عليه من الإيمان، وما يحصل في ذلك من الخيرات، هذا نوع من أنواع بركة العمل.
في بحث يعني معروف لكن هذا تأصيل هذا المبحث.
4/ السائل: .....(5/13)
ما فيه شك أنّ الفتوى للمقلد هي كالدليل عند المجتهد، هذا صحيح، لكن تفسيره بهذا الذي ذكرت غير صحيح، وذلك أنّ المجتهد لا يجوز له أنْ يعمل إلا على وَفق الشرع؛ على وَفق أمر الله جل وعلا، ولا يجب أن يتكلم إلا على وَفق أمر الله، فالله جل وعلا حرّم عليه القول بغير علم، فوجب على المجتهد أن يبحث عن الدليل لحكمه، هذا القدر واجب عليه شرعا، فإذا رأى الدليل فقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، والفتوى عند العامي فتوى هي بمقام الدليل عند المجتهد؛ لأن هذا هو الذي وجب عليه أن يستفتي ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([3]) فوجب عليه أن يفعل، وهو إذْ لا يعلم الأدلة فإن فتوى العالم عنده بمنزلة الدليل الشرعي بوجوب الإتباع؛ لأن الله جل وعلا أوجب عليه ذلك، والمجتهد يُذم إذا أتاه الدليل الذي هو بخلاف ما هو عليه خالفه، وكذلك العامي يُذم ويكون عاصيا إذا عَلِم الدليل وحكم من هو أوثق من أهل العلم بأدلتهم وترك ذلك لهوى في نفسه، فالمجتهد إذا تبع الهوى في الدليل أثم، والعامي إذا تبع الهوى في الفتوى أثم.
فإذن الكلمة من حيث التأصيل الأصولي صحيحة، لكن من حيث التطبيق تحتاج إلى هذا القيد الذي ذكرتُه. نعم
5/ السائل: .....
رَوْحُ الله يعني فرجه ورحمته وما تكون به الرّاحة، هذا هو الرَّوْح، الرَّوْح ليس هو الرُّوح، لا, الرَّوح بالفتح يعني الرحمة والخير والفرج.
السائل:.....[السؤال على كلام الطحاوي]...
هو أراد بهذا الرد على المعتزلة، لأنّ لمعتزلة عندهم أنّ الأسماء محدثة، وأنه لم يَصِر خالقا إلا بعد الخلق، ولم يَصِر مصوِّرا إلا بعد التصوير، فبالتصوير صار مصورا، وبالخلق صار خالقا، وهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في ذلك؛ لأن المذاهب في هذه المسألة ثلاثة: مذهب أهل السنة، ومذهب الأشاعرة والماتريدية، ومذهب المعنزلة. يعني المذاهب الثلاثة المشهورة.(5/14)
مذهب المعتزلة: أنه لم يَصِر خالقا إلا بعد الخلق، كما وصفتُ لك، وهكذا في جميع الأسماء؛ يعني أن الأسماء محدثة، متعلقة بالمخلوق، متعلقة بالمحدثات، هذا واحد.
الثاني مذهب الأشاعرة: أنه كانت له هذه الأسماء، ولكنه معطل جل وعلا عن الفعل حتى حَدَثَ الفعل، معطل عن الفعل حتى حدث الفعل بعد زمن طويل، والفعل الذي حدث هو هذا الملكوت الذي يرونه، وهذا الملكوت خَلْقُه قريب ليس خلقه بعيدا، ويلزم من هذا أنّ الله جل وعلا اتصف بصفات، وأنه جل وعلا أراد أشياء فمنع نفسه من إحداثها زمنا طويلا. هذا لا دليل عليه إنما هو عقل بحت.
والمذهب الثالث وهو مذهب أهل السنة والجماعة وأهل الحديث وطائفة من الفلاسفة الإسلاميين: أنّ الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأسماء هذه والصفات تَطلب آثارها في الخارج، وأنه جل وعلا لم يزل فعّالا، ولم يزل مُريدا، وهو جل وعلا فعّال لما يريد، فما أراده كان سبحانه وتعالى، لا نمنع من جهة عقلية، لا نمنع وجود حوادث قبل هذا الملكوت؛ لأننا نمنع أن يكون الله جل وعلا معطّل عن الأفعال، بظهور آثار أسمائه وصفاته في بريته؛ لأن هذا من الكمال؛ كمال الله جل وعلا، واعتقاد الكمال فيه أنْ نعتقد أنه سبحانه وتعالى متصف بصفات، وأنّ له الأسماء الحسنى، وهذه لا بد أن تظهر آثارها في ما يريد، وهذا يعني أنّ هذا الملكوت الحادث ليس هو أول الحوادث، بل هناك قبل الجن مخلوقات لا نعلمها.
السائل: ....
أنت تعرف أنّ التسلسل ثلاثة أنواع، هو ذكر الثالث في هذا الموضع، وهو كأنّ الطحاوي يعني -إذا أردت- أنه يميل إلى الماتريدية قليلا ،يميل إليها؛ لأنه حنفي، يعني يمكن أن تستشف منه أنه أطلق عبارة الماتريدية، يعني أنه كان متسميا ولا حوادث، مثل ما ذكرت لك مذهب الأشاعرة والماتريدية، له اسم الخالق ولكنه معطل عن الفعل، فلم يستفد من الخلق، بل كان قبل ولكن لم يخلق إلا هذا، هذا قد يحوم حوله الفهم.
السائل: ....(5/15)
ما يحتاج إلى رفع؛ لأنها محتملة، والمحتمل ما يحتاج كثيرا، نحملها على طريقة السلف الصالح ونمشي، لا شك أنها محتملة ([4])....السائل: ........
هو منزه عن الزمان؟ ما أعرف هذا، منزه عن الزمان؟ ما أعرف هذا، ما سمعت هذا الكلام، من الذي قالها؟
السائل: ..... [هل نقول الله منزه عن الزمان؟]
منزه عن الزمان؟ ما أعرف هذا، هو جل وعلا كان ولا زمن؛ لأن الزمان مخلوق، فإذا كان يريد هذا المعنى؛ أنه كان ولا زمان؛ لأن الزمان نسبي، لأن الزمان نسبي، تنسب أشياء والله جل وعلا جعل في الخلق هذا مرتبط بزمان، وقال جل وعلا ?وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?[الحج:47] وفي حديث ابن مسعود المعروف «إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار» إلى آخره، ولكنه حديث ضعيف جدا أو موضوع، وابن القيم استدل به في النونية.
السائل: ....
أصلا، ما معنى التنزيه عن الزمان؟ الله جل وعلا استغرق الأزمنة بقوله ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ?[الحديد:3] فهو جل وعلا كان ولا زمان، ويبقى بعد انتهاء الزمان، الزمان مخلوق نسبي.
السائل: ....(5/16)
كل شيء في معارفك غريبٌ عليك خلافه؛ لأن النظرية المعروفة نظرية -التي يعتمدها الفلاسفة لاكتساب المعلومات- نظرية المعرفة في اكتساب المعلومات، هذه أنت تكسب المعلومات، صحيح؟، المعلومات التي تكتسبها نسبية، لا يوجد شيء عندك مطلق، ولهذا تسمع كلام شيخ الإسلام وغيره أنّ الكلي لا يوجد كليا إلا في الذهن من المعاني، وكل معلومة عندك لا بد أنها منسوبة، لا يمكن أن تكون عندك معلومة مطلقة بشيء اكتسبته بمعارفك، ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا? لا شيء أبدا ?وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[النحل:78] هذه آية النحل، قال جل وعلا (وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعني وسائل الإدراك التي تأخذ بها المعلومات، فالسّمع نسبي، تنسب هذا إلى هذا، والبصر نسبي، والإحساسات هذه كلها نسبي، هذا حار وهذا بارد، كيف عرفت أن هذا حار؟ لأنك شفت البارد، مَاهُو هذا حار مطلق وهذا بارد مطلق، هذا ممكن يكون شيء حار بالنسبة لي، لكنها لا شيء بالنسبة لجسم آخر، فإذن كل ما عندك من جهة الأزمنة؛ الليل، النهار من جهة المعارف، من جهة أحجام الأشياء، كله نسبي، لهذا ضل من ضل من الفلاسفة والمتكلمين في جعلهم المعارف، وجعلهم ما يكتسبونه أنها كليات في الخارج، فعطّلوا الله جل وعلا عن كثير من صفاته؛ لأجل عدم فهم النسبية هذه، ... ([5]) مطلقة خلاص يد أنت يد هذه منسوبة لك، اليد هذه منسوبة لك، الله جل وعلا له يد كما يليق بجلاله وعظمته، الزمان والمكان هذه أمور نسبية.
السائل: ...(5/17)
هو نقول ”الزمان“ إذا قلت (الـ) هذه يعني الزمان المعهود النسبي الذي هِنْ، صحيح، ليس هذا المقصود، لأنّك أنْ تأخذ الأبدية والأزلية من قوله جل وعلا (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) فـ(الْأَوَّلُ) استغرق الأزمنة الماضية التي تتصورها والتي لا تتصورها؛ يعني استغرق الماضي كله، و(الْآخِرُ) يستغرق الأبدي، فأول اسم لأزليته، والآخر اسم لأبديته جل وعلا، فاستغرق الأزمنة التي نعلمها والتي لا نعلمها. وهذا مثل بحث النزول في الليل الآخر، في ثلث الليل الآخر وكيف. كلها مسألة الواحد ينظر إلى نسبية الزمان، يجعله هو الحكم على عالم آخر، هذا غلط، تمشي أنت مثلا بسرعة، وتنسب إلى السرعة الثانية أنها واقفة أو ماشية تغلط فيها، صحيح، يعني أنت تمشي جنب السيارة بنفس السرعة، أنت تشوف سيارتك هي بالنسبة لك واقفة، تقول هي واقفة، ما يمكن، بالنسبة لشيء فوق هنا مثلا نمل أو شيء، بالنسبة لك فوقك هو فوقك، ونحن بالنسبة إليه إيش؟ فوق؛ مَاهُو تحت لأنّ رجليه كِدَا ورأسه كذا، فمن لم يرعَ النسبية خلّط في هذا المجال تخليطا عجيبا، النسبية في كل شيء، معارف البشر نسبية، لذا لو دخلت في النسبيات وجعلتها كليات خلاص اختلطت الأمور وضل.
السائل: .....(5/18)
أولا ما دلت عليه النصوص فهو حق ولا يتعارض، فقول الله جل وعلا ?إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ?[الواقعة:77-79] هذا حق ?بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(21)فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ?[البروج:21-22] هذا حق فهو محفوظ في اللوح المحفوظ؛ ومكتوب هناك، ولا يمسه إلا ملائكة الله جل وعلا، في ذلك المقام العظيم تكريما له وتشريفا، هذا من جهة الكتابة، هذا القرآن المكتوب ظلّ في اللوح المحفوظ -على قول ابن عباس- حتى أذِنَ الله جل وعلا بأن يكون في سماء الدنيا كما قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى ?حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ?[الدخان:1-3]، وفي قوله جل وعلا ?إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ?[القدر:1] هذا إنزال، قال: أنزله إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة. فهذا الإنزال إنزال للكتاب للمكتوب إلى بيت العزة في سماء الدنيا؛ بيتٌ جعل الله جل وعلا في سماء الدنيا -على قول ابن عباس-، وهو مروي بإسناد قوي، هذا يتعلق بكون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ.
وأما التكلم به فهذا شيء آخر؛ صفة أخرى، هذه صفة أنَّ جل وعلا كتب هذا الكتاب العظيم في اللوح المحفوظ، وأذن بإنزال ما كتب في اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا -على قول ابن عباس رضي الله عنهما-، أما التكلم به، فالكلام لا يسمى كلاما حتى يُسمع ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?[التوبة:6]، ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164] إلى آخره، الله جل وعلا وصف القرآن بأنه كلامه، وبأنه كتب في اللوح المحفوظ.
فإذن لا تعارض بينهما؛ لأن هذه كتابة، وهذا إنزال، ومن قال أخذه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة هذا استنتاج، ليس شيئا عليه دليل؛ استنتاج، والاستنتاج غلط.
السائل: ....(5/19)
أي ذكر ضابطها شيخ الإسلام في مواضع، قال: من الذي لم يُكَفِّر الكافر الذي كفره الله ورسوله فهو كافر مثله، ومن شك في كفر الكافر الذي كفره الله ورسوله فهو كافر.
يعني من شك في كفر إبليس فهو كافر مثله، من لم يكفر أبا لهب فهو كافر مثله، وهكذا من لم يكفر فرعون فهو كافر مثله. فمن نُصَّ على تكفيره فقال القائل لا أُكفره، أو شك في كفره، معناه شك في القرآن؛ لم يؤمن به، فرجع إلى تكذيب القرآن، كما نص شيخ الإسلام -فيما أذكر-؛ أنه قال لأنه يرجع ذلك إلى تكذيب القرآن، فأما المسائل المجتهد فيها؛ يكفر أو لا يكفر، التي يختلف فيها العلماء، ما تأتي هذه المسألة؛ لأن معناه أنّ بعض الأمة يكفر بعضا، لأننا مختلفين في التكفير، هل يكفر أو لا يكفر؛ من جهة الفقهاء.
السائل: ....
قول علي رضي الله عنه ”القَدَرُ سِرُّ الله فلا تكشفوا“ يعني لا تحاول كشفه، لا تسعى في كشفه لتفهمه، سر الله في بريته القدر، وهو كونه جل وعلا أصحَّ وأمرض، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيى، وأشباه ذلك، فالقدَر سر الله، فمن دخل في القدر برأيه يسأل ليفهم... ([6]) أفعال جل وعلا، أو لما فعل؟ أو يعترض على ذلك، أو يحاول التحليل، فهذا يضل، إلا إذا كان في ذلك موافق، أو عنده فقه عظيم بالكتاب والسنة، لهذا قال شيخ الإسلام في تائيته القدرية:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ
هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةٍ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ
فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
هذا كل من ضل في باب القدر سببه الخوض في القدر، وقد جاء في الحديث الصحيح «إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا» وذلك يعني أمسكوا عن الخوض فيه بلا علم، بلا توثيق من الشارع، يجوز الخوض في القدر لأنه سرّ الله جل وعلا، قد قال جل وعلا ?وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا?[الفرقان:20] سبحانه وتعالى.(5/20)
السائل: ....
هو ذكر ما دلت عليه النصوص، ورد على المخالفين الذين خالفوا النصوص.
السائل: ....
ابن القيم يعني ما أجاب على إشكالات المتشككين في القدر، هو أجاب على شبهات الفِرَق المختلفة، أما المتشككين؛ يعني العوام والأشياء هؤلاء بحث آخر، الإنسان لا يستطيع أن يفهم كل شيء، ما يقدر أن يفهم إلا شيء بسيط، على قدر ما عنده من استعدادات ما كتب الله له، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام فيها عبرة كبيرة بالقدر، فإنّ الخضر فعل أفعالا أنكر عليه موسى هذه الأفعال عليه السلام، وهي من القدر، ما فهمها، تخرق سفينة لمساكين، تقتل الغلام، تبني جدارا لأناس طردوك؛ يعني أشياء عجيبة، ولهذا كان سبب الخلاف بينهما اختلاف العلم، ومعارضة موسى للخضر عليه السلام حَرَمَتْهُ العلم «وددنا أنّ موسى صبر عليه الصلاة والسلام» فمعارضته للقدر أو لهذا الشيء العجيب الذي فعله الخضر حرمه علم كثير، ما استفاد منه إلا بعض المسائل، فكيف من يعارض الله جل وعلا العليم الحكيم...:
وما سبب الخلاف سوى اختلاف ال
ــعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الإله
مخالفا فيها الأناما
فلا تجهل لها قدْرا وخذها
شكورًا للذي يحيى الأناما
من أعظم ما تستفيده من باب القدر هو أنك تعرف أنك تختلف مع واحد؛ ليش سوَّى كذا؟ سبب الخلاف العلم، ويظهر لك بعد فترة أنّ فعله صحّ، وأنت ما تصورت لضعف علمك، فكيف نقيس إذن علم البشر إلى علم الله جل وعلا، فما يفعله الله جل وعلا هو الأصلح لعباده سبحانه وتعالى.
السائل: ...
هل هو سيشتغل بالعلم أربع وعشرين ساعة؟ خلاص الوقت الذي ما يشتغل فيه بالعلم يخالط الناس بنية الدعوة.
السائل: .....(5/21)
ما أعرفها، لا أعلم هذا؛ أن صاحب البدعة لا يُقبل له لا عمل ولا جهاد، ما أعلم هذا، ولكن الذي جاء الحديث الحسن هو احتجاز التوبة عن صاحب البدعة «إنّ الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» وهذه البدعة التي احتجز الله جل وعلا بها التوبة ليست كل بدعة، لكن البدع التي تُلازم المرء وتجاريه، ولا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخلته تلك البدعة، وبهذا قيدها الشاطبي في آخر الاعتصام، قال: ولأننا وجدنا قَطْعًا أنَّ كثيرين من أصحاب البدع تابوا، فهؤلاء الخوارج الذين أتاهم ابن عباس رضي الله عنهما وحاجّهم رجع ثلث الجيش وتابوا إلى الله جل وعلا، وكثير من أصحاب البدع رجعوا وتابوا إلى الله جل وعلا، فكون هؤلاء لا تحصل لهم توبة أو تُحتجز عنهم التوبة، وما أشبه ذلك مما جاء في هذا، هذا يُقَيَّد بالذين جاء ذكرهم في الحديث؛ تتجارى بهم الأهواء فلا يبقى منهم مِفصل أو عرق إلا دخله، يعني الذين تتجارى بهم الأهواء وهَذُولْ عندهم شبهة لا يمكن أن يتركوا البدعة، ثم من جهة ثانية الحديث فيه حتى يدع بدعته، وإذا ترك بدعته تاب الله عليه.
السائل: ....[قتال الخوارج]...
هذا إذا قاتلوا، أما إذا لم يقاتلوا تتركهم، يقاتلهم الإمام؛ يعني عقوبتهم للإمام هو الذي يعاقبهم، أما مقاتلة الناس لهم إنما هو إذا قاتلوا، علي رضي الله عنه ما قاتلهم حتى قاتلوه؛ كانوا بالجيش، هم سبب حرب الجمل وصفين، هم سبب الخلاف بين علي ومعاوية، وهم، وهم، هم الذين أوقدوا شرارات الحروب والفتن.
السائل: .....(5/22)
ولم يقاتلوا، هنا يفرق ما بين الداعية وغير الداعية، إذا كان داعية إلى بدعته وجب حبسه حتى ما يدعو إلى بدعته، وإذا كان غير داعية فالإمام أحمد اختلف قوله فيه وقال في شأنه: من كان داعية منهم فارفأ بأهله. فقيل له: فإن ها هنا قوما لهم كذا وكذا -يعني من الرأي-. قال: لا، لا ترفأ بشأنهم. يعني مقتصرين على أنفسهم، قيل له لما؟ قال: لهم أمهات وأخوات. يعني ما دام أنه ما فيه شر؛ دفع المفسدة يكون بمصلحة، لكن ... ([7]) لهم أمهات وأخوات وهو ما يدعو أصلا شيء لنفسه فهو ينكر عليه لكن ما يُسجن. هذا قول للإمام أحمد، طائفة من أهل العلم يقولون الجميع يجب حبسهم واستتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله.
السائل: ....[غلاة الروافض]...
وهذا، هو الدار؛ إذا كانت دار إسلام وقامت بدولة الإسلام أو هي موجودة والفئة هذه ضمن الدار، فهؤلاء يطلب منهم الالتزام بالسنة، فإن قبِلوها ظاهرا فتقبل منهم ويصير حكمهم حكم المنافقين، النبي صلى الله عليه وسلم أبقى المنافقين، وهو يعلم أنهم في الدرك الأسفل، وهذا هو الذي عليه علماء الدعوة والدولة عندنا في إبقاء الطوائف التي عندنا؛ الكافرة مثل غلاة الروافض والإسماعيلية على أساس أنها كطائفة في هذه الدار، إذا قبلوا الحكم ظاهرا؛ حكم السنة، فإن لهم أحكام المنافقين، يعاملون ظاهرا من له حق عام، مثل ما كان يفعل بالمنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.(5/23)
ثم يقع حكم الأفراد؛ مَنْ أظهر منهم شركا فهو مشرك يُطَبَّق عليه، مثل من أظهر النفاق يقتل، ويكون هنا فيه اجتهادات، على هذا كان في زمن دول الإسلام المتعاقبة، وُجدت الإسماعيلية في دول، والروافض في دول، وهكذا، طبعا إذا كانوا تحت الدولة، أما إذا تحيَّزا في مكان، وامتنعوا وصار لهم منعة، هنا وجب قتالهم، مثل ما كان في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية لما تحيز النصيرية في جبل، صار لهم استقلال، ولم يدخلوا تحت سلطان المسلمين، هنا يجب قتالهم كغيرهم من أهل الشرك، أما في دار الإسلام إذا قبلوا السنة فلهم أحكام المنافقين.
إذا كان في غير دار الإسلام يرجع إلى أحكام الجهاد المعتادة والقدرة والجهاد، أما إذا كانوا في دار الإسلام ما يجوز إيذاءهم؛ لأنه من ضمن العهد العام، قال «لا يُتحدث أن محمدا يقتل أصحابه»، المنافق يرث ويورث وتنطبق عليه الأحكام.
السائل: شيخنا أئمة السلف...[كيف يحمل خروج بعض التابعين على الحكام]...
تفضيل التابعين بعامة لا يدل على فضل كل واحد؛ بل قد يكون ظهر ممن هم تابعون أهل بدع، صحيح؟ لقوا الصحابة ومسلمون في الجملة لكن أهل البدع، النصوص واضحة في عدم الخروج عن السلطان شبه متواترة كثيرة، فمخالفة المخالف للنصوص لا عبرة به.
السائل: ....[الرد على بعض المخالفين]...
وهو قدْر الإمكان تترفق؛ لأنه ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا يكون المرء متعصبا؛ لأنّ التعصب يجعل من تقابله يتعصب أيضا، لكن الرفق يعني أقرب... ([8]) الحق، إلا من ظهرت عداوته فهذا لا عبرة به، ?فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا? في البداية ?لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى?[طه:44]، ثم العلم؛ الوصية بالعلم، ما وجدتُ شيء أمثل في ظرف أهل الأحزاب من الدعوة للعلم؛ لأنه يحتجّ وما عنده شيء ...... لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا
السائل: ...(5/24)
هنا نتبع المقال؛ يعني الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر حيث ترى المصلحة، أما إذا كان أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر سيحدث أمرا يؤثر على الدعوة فأخّره، إلا إذا كانت مصلحة راجحة، لهذا أجمع العلماء على أنّ النهي عن المنكر يشترط فيه ألا يُخْلَف بمنكر أشد منه. والله المستعان.
السائل:...[زيادة ونقصان وتفاضل الإيمان]..
فإذا قلنا يزيد وينقص فهو في المعين، ويتفاضل بالنسبة للأشخاص؛ يعني الآن عندنا العبارة التي خلّت السلف يقولون هذا، إيش؟ هل الناس في أصل الإيمان سواء أم لا؟ أقول يزيد وينقص، معناه إيش؟ ليسوا في أصله سواء، أو يتفاضل معناه هذا يكون أفضل من هذا في الإيمان، هذا أكثر إيمانا من هذا، لكن كلمة يتفاضل أقل في الدِّلالة من يزيد وينقص؛ لأنها تحتمل أنه يثبت؛ الناس يتفاضلون فيه؛ يعني هذا يتفاضل عن هذا في الإيمان، معناه أنّ الناس لكن هذا بالنسبة لهذا يثبت كقول مالك وغيره في المسألة أنه يزيد ولا ينقص، كلمة يتفاضل لا تعني أنّه يزيد وينقص في المعيّن؛ في الفرد، ولكن يختلف الناس فيه، ولكن الجميع يدل على أنّ الناس ليسوا في أصله سواء، وهذا مهم، هذا قول المرجئة والسلف خالفوا المرجئة، اختلفت عباراتهم في أنه يزيد وينقص.
السائل: ...
لا ليس لفظيا أظن هذا لب الخلاف بين المرجئة والسلف، كيف يكون لفظي، وهكذا يظن ولكن، نعم
السائل:....
ذكر شيخ الإسلام أنه لفظي؟ ذكر هو؟ تذكر أنه قال كِدَا؟ أنا أعرف أنّ شيخ الإسلام في كتاب الإيمان بالذات كان الحملة عليهم، ولو كان لفظي ما كانت المسألة تطول.
السائل: ...
يترتب عليه رد النصوص، يعني النصوص دلت على أنّ العمل من الإيمان؛ منه، فإذا رددنا ردِّينا النصوص هذا فيه خطر على الإيمان، هذا من جهة.(5/25)
من الجهة الثانية أنه لو تُصُوِّر أنّ أحدا قال سأعتقد وسأتكلم ولن أعمل قط، لن أعمل قط، عندنا ليس بمسلم، لو واحد جاء وقال أنا بَاتْشَهَّدْ؛ أشهد لا إله إلا الله، وأنا بَاعْتَقِدْهَا لكن لن أعمل وقال هذه الكلمة، أو مات ولم يعمل شيئا قط مع إمكان العمل، فعندنا ليس بمسلم، وعندهم مسلم، ونحن لا نصلي عليه وهم يصلون عليه، نحن لا نترحم عليه؛ يعني أنّ جنس العمل عندنا لا بد منه؛ ركن من أركان الإيمان، جنس العمل لابد أنْ يعمل عملا صالحا.
السائل: ...
لا هو ركن، لا شرط كمال، ولا شرط صحة، ركن ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ?[البقرة:143] والصلاة إيش؟ عمل، صحيح؟ التعبير عن الشيء ببعضه هذا يدل على أنه إيش؟ على أنه ركن فيه، يعني حقيقته، وهذا حقيقتة، العمل حقيقة الإيمان.
نكتفي بهذا.
السائل:..[ما معنى جنس العمل]...
جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا، هذا متفق عليه:
? من قال بأنّ تارك الصلاة يكفر كسلا: قال العمل الصالح هذا هو الصلاة.
? ومن قال تارك الصلاة لا يكفر من السلف: قال لابد من جنس العمل.
السلف اختلفوا في تارك الصلاة، من قال تارك الصلاة يكفر قال الصلاة هي جنس العمل؛ لابد أن يأتي بالصلاة، ومن قال لا تارك الصلاة لا يكفر تعاونا أو كسلا قالوا لابد من جنس العمل؛ لابد أن يعمل عملا صالح من أي وجه، يعني جنس العمل لابد منه.
السائل: ...[هل يقصد به عمل القلب؟]
كيف، لا عمل القلب متفق عليه، عمل القلب متفق عليه، المقصود عمل الجوارح؛ يعني لابد من عمل الجوارح، هو هذا أي عمل صالح يمتثل فيه أمر الله جل وعلا.
السائل: ...[سؤال على حديث لم يعمل قط]...(5/26)
هذا الحديث مشكل، حديث مشكل، له أيضا ألفاظ أخر مشكلة، لكن لعل أقرب ما يُحمل عليه أنّ هذا في حال خاصة من الناس حققوا التوحيد وقوي هذا جدا لنم يأتوا شركا قط وأتوا ببعض .... ([9])، هذا توجيه، هو وُجِّهَ بعدة توجيهات لكن كلها ....
السائل: ...
أنا ما قلت المسائل المتفق عليها ،لا، أنا قلت أنّ النص نصّ على كفره، ولكن ذكرت المتفق عليه، والمختلف فيه في أنّ المسائل المختلف فيها والصور منها من يكفر ومن لا يكفر؛ يعني من شك في كفر هذا المختلف فيه نفسه صار هنا الأمة بعضها يكفر بعضا.
السائل: ....
لا هنا من شك في كفر الكافر- لابد الكافر الذي كفره الله-، من شك في كفر الكافر، هذه قاعدة أتوا بها من مسألة تكذيب القرآن والاستسلام له؛ يعني من شك في كفر الكافر ما دل عليه النص، ولم تذكر في كتاب من كتب العقيدة، ولا من كتب السلف ما فيه هذه، إنما ذُكرت لما شك طائفة في كفر بعض من سُمي في القرآن أنه كافر.
السائل: ...
المجمع عليه نعم، بعد بيان الدليل هذا من لم يكفره فهو كافر، ومن نص الله على تكفيره اليهود والنصارى كطوائف، أو الأفراد فرعون، أبو لهب.
السائل:...
هذه من الواضحات هذه، هو المعيّن، من استغاث بغير الله فهو كافر، المعين المستغيث بغير الله كافر، لكن هنا هذا الكفر ما هو؟ هل هو الكفر كفر النفاق أو الكفر الأكبر؛ يعني هل هو الكفر الظاهر أو كفر الباطن؟ هذا البحث فيها، عندنا الصحيح أنها كفر الباطن؛ يعني كفر النفاق، ولا يكفر ظاهرا حتى تقوم عليه الحجة، يعني ما تجيء تقول له أنت كافر، أو تنص على هذا الشخص بأنه كافر بعينه، مع اعتقادك أنه كافر؛ لأنك تعتبره كفر نفاق.
شيخ الإسلام نصّ على الفرق بين الكفر الظاهر والباطن، وأنّ كفر الظاهر والباطن هو في حق من أقيمت عليه الحجة، وأما كفر الباطن قد يكون المرء في باطنه -قسمناه الكفر الباطن الأول إذا كان كافر ظاهرا وباطنا-(5/27)
أما الكفر الظاهر عمل عملا كفريا ظاهرا يحمل عليه به بالكفر، لكن قد يكون منافقا فلا تترتب عليه الأحكام؛ يعني لا يقتل ولا؛ لكونه منافقا، قد يكون ما أقيمت عليه الحجة، يعني فيه ضوابط لها.
السائل:...
إقامة الحجة عليه بمعنى أنْ يعلم بالحق ثم لا يتبعه، إذا كان بمخاطبة واحد بعينه أبلغ، وإذا كان بالسماع العام يكفي، ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?[التوبة:6].
السائل:...
هذا يختلف، هذا في المقالات الخفية.
السائل:...
على كل حال شوف أنتَ: إقامة الحجة لترتب الأحكام الفقهية على المرتد أو على الكافر، يعني تشهد عليه بالنار، تقاتله، تسبيه، تستحل منه أشياء، هذا فائدة إقامة الحجة، أما مجرد الحكم بالكفر لك أنت؛ ما تعامله وتعامله معاملة الكافر، هذا يكفي ما قام به، من قام به الربا فهو مرابي ولو كان معذورا، ومن قام به الزنى فهو زاني ولو كان معذورا، لكن هل نقيم عليه حد الزنا؟ لا، لابد من ترتب الشروط، فقد يكون هذا الداعي من دعا غير الله أو استغاث بغير الله، هذا نطلق عليه الكفر، الشرك، والشرك أحسن؛ لأنّ الكفر فيه تفصيل فيه كفر ظاهر وباطن، أما الشرك فنطلق عليه الشرك، هو الذي كان يستعمله علماؤنا السابقين؛ يقولون فهو مشرك، فهو مشرك، فهو مشرك، أو هو كافر الكفر الذي يترتب عليه أحكام الدنيا إذا كان أقيمت عليه الحجة، أو الكفر الظاهر إذا لم تُقَم عليه الحجة، هذه المسألة مهمة.
إنما الخلاف يأتي في مسائل أدق من هذه؛ مسائل الجهل، ومسألة السَّماع بالاسم، والسَّماع بالوهابية وأشباهها، هذه هي التي يجيء فيها الكلام، هل يكفي في إقامة الحجة أو لا يكفي؟.
السائل:....
ما يُزَال إلا إذا أنتدب من ولي الأمر؛ من عالم أو والي في مصلحة شرعية.
السائل:...
لابد أن يكون من ولي الأمر، لابد أن يستشير ولي أمر:
? إذا كان في مسألة دينية؛ في رد البدعة ظاهرا لتحذير الناس من الرجل المسلم يكون ولي الأمر في هذا العالم.(5/28)
? وإذا كان في مسألة حبسه أو قتله أو كذا لابد أن يستأذن ولي الأمر الذي هو الحاكم.
أما مجالسة أهل البدع والسماع منهم فهذا شر، الواحد ما يضمن نفسه، الواحد الذي أمن الله عليه بالهدى لا يفرط فيه، الذي منَّ الله عليه بالسنة لا يفرط فيها، ومن أسباب التفريط سماع الأذن هذه، تسمع كذا ممن ليس متحصنا لا،... والله أعلم
أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) تعذر سماع الأسئلة لذلك لم تدون، ووضع مكانها نقاط، وأما المكتوب بين معكوفتين فهو من زيادة المفرّغ.
([2])
([3]) النحل:43، الأنبياء:7.
([4]) انتهى الوجه الأول.
([5]) كلمة غير مفهومة.
([6]) كلمة غير مفهومة.
([7]) كلمة غير واضحة.
([8]) كلمة غير واضحة.
([9]) كلمة غير مفهومة.(5/29)
ضوابط في معرفة السيرة
الحمد لله حق الحمد، والثناء، له جلّ وعلا كله، فهو ولي الفضل وهو وليّ الإحسان وهو وليّ النعمة، ومن أعظم نعمه علينا أنْ بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلينا هاديا وبشيرا ونذيرًا، {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، به أزال الله جلّ وعلا الشرك وجنده، وبه أقام الله جلّ وعلا التوحيد وأهله وبه أبصر الناس بعد العمى، وهُدِيَ الناسُ بعد الضلالة فما أعظم منته جلّ وعلا علينا ببعث محمد عليه الصلاة والسلام، وما أعظم مِنَّة محمد عليه الصلاة والسلام على أمته فإنهم لو فدَوه بأنفسهم وأولادهم وأهليهم وأموالهم ما قضوا حقه عليه الصلاة والسلام، أليس هو الذي وجدنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا منها صلى على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلّم وبيّن، ونشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد وتركنا بعده على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صلّى الله عليه وسلّم إلاّ هالك وصلى الله وسلم على صحابته الذين نصروه وعزَّرُوه وأيدوه، وصلى الله على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمة أرحم الراحمين، أما بعد:(6/1)
فأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن أعطاه قلبا خاشعًا ودعاءً مسموعًا اللّهم اجعلنا ممن تخشعُ قلوبهم لك وتلين أفئدتهم لذكرك اللّهم وهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، فلا حول لنا ولا قوة إلاّ بك، نعوذ بك من إرادة العلو في الأرض والفساد، ونسألك أنْ تعيذنا من العِيّ، وأنْ تعيذنا من خطل الرّأي ومن البعد عن الصواب، اللّهم فوفقنا فأنت ولي التوفيق {ومن يهدِ الله فهو المهتدي}، ثم إني أشكر في فاتحة هذه المحاضرة الإخوة الكرام في مكتب الدعوة والإرشاد في محافظة الخرج على أنْ دعوا لهذه المحاضرة واهتموا بها وليس هذا بغريب فهم حريصون على الخير ويمثلهم فضيلة الأخ الشيخ عبد الرحمن الصغير وكذلك فضيلة الأخ الشيخ امام المسجد وكذلك بقية الإخوة الكرام، فأسأل الله جلّ وعلا لهم المزيد من فضله وأنْ يتقبل ما بذلوا وما انتقلوا من أجل نشر الحق والهدى، ثم إنّ هذه المحاضرة موضوعها ضوابط في فهم سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وهذه المحاضرة ليست موعظة من المواعظ وإنما هي محاضرة تأصيلية في موضوع سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذًا ربما انتفع منها الجميع وخُصّ بالانتفاع بها من كان له مساس وله صلة بالعلم والسنة والسيرة وبالدعوة والإرشاد، ولا شك أنّ سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بها اهتم العلماء قديما وحديثا، وذلك لأنّ بهدي المصطفى(6/2)
صلّى الله عليه وسلّم تتبيّن الأشياء وقد قال لنا جلّ وعلا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فالاهتمام بالسيرة لابدّ منه لأنّ بالسيرة وبالاهتمام بها معرفةَ أحواله عليه الصلاة والسلام من ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وبالسيرة يعلم المسلم ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته من نشر الدين وما كابدوا فيه وأنهم بذلوا ما بذلوا وتركوا الأمة بعدهم على أمر واضح بيِّن ولم ينتشر الإسلام بسهولة بل بذل فيه عليه الصلاة والسلام بتأييد من ربه جلّ وعلا، وبذل فيه أصحابه الكرام ما بذلوا وهذا يظهر لك في السيرة.
ومن أوجه الاهتمام بالسيرة أيضا أنّ معرفة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وإنّ معرفة سيرة الصحابة معه عليه الصلاة والسلام يبعث في قلوب أهل الإيمان القوة في الإيمان والقوة في اليقين وأنهم مهما تكالبت عليهم الأمور ومهما قوي الشيطان وجنده فإنّ لهم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة وإنّ لهم في الصحابة الكرام أسوة حسنة، فقد شكا بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام ما يلقى من شدة قريش عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه فو الذي نفسي بيده ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من مكة إلى صنعاء، أو قال: من بصرى إلى مكة، لا يخاف إلاّ الله جلّ وعلا))، وهذا يُبيّن ويبعث في المؤمن أنّ الحق ليس بكثرة الناس، وأنّ المؤمن إذا حصل له ما حصل من كيد الشيطان أو من كثرة الشهوات أو من كثرة المغريات فإنه يبعثه ذلك على الاستمساك أكثر وأكثر بدين الله جلّ وعلا؛ لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم ما تركوا دينهم ولم يتركوا توحيد الله ولم يتركوا البراءة من الشرك ولم يتركوا ما أمنوا به مع عظم ما أصابهم عليهم رضوان الله، فكيف بحال أهل هذا الزمان الذين ربما تركوا شيئا من الدين لبعض المغريات.(6/3)
النظر في السيرة وقراءة السيرة يبعث في المؤمن قوة اليقين وقوة الاستعداد للثبات على دين الله، وكذلك يبعث في قلب المؤمن قوة العزة بالإسلام وأنه عزيز بتوحيد الله جلّ وعلا وعزيز بما قام في قلبه من معرفة الله والعلم به، والإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أنزل الله جلّ وعلا على رسوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وهذا من ضمن فوائد كثيرة يستفيدها كل مؤمن في النظر في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، إذن فالأصل أنّ قراءة السيرة ليست قراءة قصص ولا حكايات وإنما هو قراءة عِظة واعتبار لأنّ بالسيرة أخذ الفوائد وأخذ ما ينفع المؤمن ويبعث فيه أنواعا من الخير والهدى والاستمساك بالحق، {فاستمسك بالذي أوحيَ إليك إنّك لعلى صراطٍ مستقيم}، {وإنّه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسألون}.
تنوعت اهتمامات أهل العلم بالسيرة وذلك لعظم شأنها.(6/4)
والسيرة المقصود بها ما أُثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه وعن التابعين وعن من بعدهم من أهل العلم في وصف حال سير النبي صلّى الله عليه وسلّم وحال طريقته وهيئته منذ وُلد عليه الصلاة والسلام إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا، فالسيرة إذن هي حكاية لما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من حين ولادته إلى أنْ توفاه الله جلّ وعلا فيها بيان ما حصل له من ولادته وما كان في ولادته من ظهور بعض المعجزات، وظهور بعض الإرهاصات لمبعثه عليه الصلاة والسلام وذكر رضاعه عليه الصلاة والسلام وذكر أحواله وأمه وأخواله وأشباه ذلك، وذكر هديه عليه الصلاة والسلام وسيرته في صغره حتى بعثه الله جلّ وعلا وما كان يتصف به قبل المبعث من أنواع الأخلاق والشمائل، كذلك سيرته عليه الصلاة والسلام حكاية لحاله منذ بعثه الله جلّ وعلا، فبلغ دعوة الله وصبر على ذلك وما ناله من الأذى وكيف بلغ والسبيل التي اتخذها للبلاغ إلى أنْ هاجر إلى المدينة ومن مهاجره إلى المدينة وتأسيسه لدولة الإسلام الأولى إلى أن توفاه الله جلّ وعلا ويدخل فيها عددُ من أهل العلم ما كان بعد ذلك من سيرة الخلفاء الراشدين وما حصل لهم من أنواع الفتوح.
إذًا فالسيرة طريقة وهيئة والسيرة أيضا مأخوذة من السَير سار يسيرُ سيرًا يعني ما سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقد جاء في القرآن ذكر السيرة بمعنى الطريقة والهيئة في قول الله جلّ وعلا: {سنعيدها سيرتها الأولى} فالسيرة إذا تشمل طريقة السير وتشمل الهيئة التي كان عليها السير ولذلك تجمع السيرة على سِيَر ويذكر فيها أنواع المغازي والفتوح ويُذكر فيها أنواع ما حصل له عليه الصلاة والسلام وما حصل لصحابته من بعده فإذن السيرة لها معنًى لُغوي ولها معنى اصطلاحي كما ذكرت لك.(6/5)
ودرج العلماء على أنّ المراد بالسيرة حين تذكر السير ما دون في كتب مخصوصة أسموها كتب السيرة وكتب السير وهذا يجعلنا نفيضُ في أنّ الكتابة في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وفي مغازيه كانت متقدمة في الزمن الأول، فذكر العلماء أنّ أبان بن عثمان بن عفان ابن الخليفة الراشد هو أول من دوّن سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ودوّن مغازيه وكانت وفاة أبان رحمه الله تعالى سنة (105هـ) وكان قد أخذ عن عدد كثير من الصحابة، وأخذ عنه عددٌ كثير أيضا من التابعين وممن شُهر أيضا بأخذه برواية السيرة وتتبعها عروة بن الزبير بن العوام فقد كان إمامًا في المغازي وله مغازي ألفها وجمعها باسم مغازي عروة، وقد جمع بعضها وطبع وكذلك ممن اهتم بالسيرة ابن شهاب الزهري الإمام المعروف سيد المحدثين في زمانه جمع في السيرة كتابًا وفي المغازي كتابًا في ما ذكره له عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وكذلك ممن كتب في السيرة من الأولين من التابعين عاصم بن عمر بن قتادة وغيره، من ثقات أهل العلم في القرن الأول وفاتحة القرن الثاني، في هذا يتبيّن أنّ كتابة السيرة كانت متقدمة جدًّا، ولهذا صار أهل العلم بعدهم يأخذون مأخذ التابعين في العناية بالسير والعناية بالمغازي فقد جمع ما سمع من بعض هؤلاء جمعه العالم المعروف محمد بن إسحاق المدني في كتاب ((السير والمغازي)) والذي قيل إنه ألفه بإشارة من أبي جعفر المنصور لما زار ابن إسحاق بغداد وأشار أبو جعفر إلى ابنه وقال لابن إسحاق أتعرف هذا قال نعم هذا ابن أمير المؤمنين فقال له صنف له كتابًا فيه ذكر الأخبار من خلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا فكتب ابن إسحاق ذلك، وكتاب ابن إسحاق رُوي عنه وانتشر بعده رحمه الله تعالى وهو إمام في السير اجتمع لديه ما تفرق فيمن قبله من التابعين الثقات.(6/6)
وإذا كان كذلك فإنّ كتاب ابن إسحاق لم يوجد كاملاً في زماننا هذا وإنما وُجِد من مغازي وسير ابن إسحاق ما انتقاه ابنُ هشام العالم اللّغوي المعروف، وهذا الانتقاء أجمع العلماء على حُسنه وعلى أنه استخلص من سيرة ابن إسحاق ما أثني على مؤلفه به وهو لا يروي السيرة عن ابن إسحاق مباشرة وإنما يرويها بواسطة رجل عن ابن إسحاق وهذه السيرة هي المعروفة الآن بسيرة ابن هشام وهذا تطور في أهل العلم فكتب في السير عدد كتب ابن حزم في السيرة وسماها ((جوامع السيرة)) وكتب ابن سيد الناس سيرة والعلماء تتابعوا على كتابة السير ومعتمدهم فيما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق أو فيما ذُكر في غير ذلك من المغازي.
وكذلك من الذين اهتموا بكتابة السير ((الواقدي)) والعلماء منهم من يأتمنُه ويثني عيه في المغازي ومنهم من يقول هو في المغازي كشأنه في الحديث، لا يقبل حديثه ومغازي الواقدي غير موجودة الآن يعني فيما ذكر من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، واعتمدها عدد من أهل العلم والصواب أنّ الواقدي ليس بثبت فيما ينقل بل ربما حصل له من الخلط في الروايات والزيادات ما لا يعرف عن أهل العلم فلا يقبل من حديثه في المغازي ما تفرد به عن العلماء سيما ما كان معارضا لأصل من الأصول أو ما كان مخالفا لما دل عليه كلام أهل العلم في السير.
وممن كتب أيضا في السير ابن سعد صاحب الطبقات في أول الطبقات كما هو معروف وجماعة كتبوا في ذلك وهذه هي التي تسمى كتب السيرة أو كتب السير تتابع العلماء فيها إلى زماننا هذا.(6/7)
وهناك كتابة للسير بطريقة أخرى وهي طريقة أهل الحديث فإنهم اعتنوا بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبذكر أحواله ومغازيه وأشباه ذلك فيما أوردوه في كتب الحديث، فتجد في صحيح البخاري رحمه الله كتاب المغازي وتجد في مسلم السير وتجد في أبي داود كذلك وهكذا في بعض أخبار وربما طوِلَت، وكذلك اعتنى بها أهل الحديث في مصنفات مفردة ذكروا فيها أسانيدهم فيما يتعلق بالسير ولكن فيها ما يصح وفيها ما ينكر، وكما قال الحافظ زين الدين العراقي:
وليعلم الطالبُ أنّ السيرَا
تجمع ما صح وما قد أُنْكِرَا
فصنّف البيهقي كتاب ((دلائل النبوة)) وصنف أبو نعيم الأصفهاني أو الأصبهاني أحمد بن عبد الله العالم المعروف صنف ((دلائل النبوة))، وصنف الفريابي ((دلائل النبوة))، فأهل الحديث اعتنوا بكتابة السير من جهتين الجهة الأولى ما ضمنوه في مصنفاتهم من الصحاح والمسانيد في ذكر السير سواء كانت مبوبة أو لم تكن مبوبة وكذلك ما أفردوه من التآليف في هذا، في ذكر دلائل النبوة وكما ذكرنا أنّ كتب السير ليست معتنية بالصحيح وإنما يذكر فيها ما نُقل في السيرة ولهذا قال الزين العراقي فيما ذكرت لك:
وليعلم الطالبُ أنّ السيرَا
تجمع ما صح وما قد أُنْكِرَا
ففيها الصحيح وفيها المنكر وهذا أمر بيّن فإنّ سيرة ابن إسحاق مثلا فيها من الصحيح كثير وفيها من المنكر الكثير فهذا من جهة ما اشتهر من ذكر مصادر السيرة وإذا كان كذلك فالذي ينبغي تحقيقًا لمقام السيرة أنْ تضبط مصادر السيرة وأنْ تؤخذ السيرة بضابط مهم في ذلك وهو جواب السؤال كيف نأخذ السيرة بطريقة مأمونة؟(6/8)
أعظم ما تؤخذ منه سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم القرآن لأنّ في القرآن ذكر حياته عليه الصلاة والسلام صغيرًا {ألم يجدك يتيما فآوى} وفيها ذكر حالته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة... وفيها ذكر مبعثه عليه الصلاة والسلام وفيها ذكر مجيء الجن إليه يستمعون القرآن وفيها ذكر حالته عليه الصلاة والسلام مع المشركين ودعوته لهم وكذلك ما حصل من الهجرة ثم في القرآن ذكر المغازي جميعا فغزة بدر الكبرى في سورة الأنفال وغزوة أحد في سورة آل عمران وغزوة الخندق (الأحزاب)، في سورة الأحزاب، وفتح مكة وصلح الحديبية في سورة الفتح وحنين وتبوك في سورة براءة إلى غير ذلك فإذا جمع طالب العلم ما تكلم به المفسرون من الصحابة فمن بعدهم على هذه الآيات حصل على مصدر قوي معتمد على معاني القرآن وهذا اجتهد فيه طائفة من أهل العلم ولكن لم يُجمع فيما أعلم جمعًا كاملاً بحيث تكون السيرة على ما ذكره المفسرون حاول بعض المعاصرين ذلك واجتهد فيه لكن لم يجمع كلام المحققين من المفسرين على تلك الآيات.
فإذًا الذي ينبغي في السيرة أنْ نعتمد على القرآن فيها وما ذكره المفسرون في ذكر معاني الآيات التي فيها سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
ثم المصدر الثاني: الأحاديث الصحيحة خاصة في الصحيحين أو ما صح في غيرهما من الأحاديث التي فيه ذكر سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا قورنت هذه الأحاديث بما ذكر في كتب السير وجدنا أنّ بعض ما في كتب السير ليس بصحيح في مثل مثلا تاريخ بعض الغزوات وبعض الأحوال وقصة الإسراء والمعراج وأشباه ذلك الكثير فالمصدر الثاني المعتمد بعد كتاب الله جلّ وعلا وتفسيره أنْ تنظر في الأحاديث، وهذه الأحاديث فيها ما لم يذكر في كتاب الله جلّ وعلا واعتمد عليها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم فيما فسروا من آيات القرآن على نهج السلف في التفسير في تفسير القرآن بالسنة.(6/9)
إذن، الاعتماد على ما في كتب الصحيح وكتب الحديث من مصادر السير هذا أولى وأبعد عن الخلط وما لا يصح في السير ولهذا دعا عدد من أهل العلم إلى كتابة صحيح السيرة النبوية وقد كتب بعض المعاصرين في ذلك لكنهم رقَوا جبلا عاليا عليهم لأنّ هذا الأمر يحتاج إلى علم بالحديث، متنا وإسنادا، وإلى علم بالتفسير وإلى علم باللغة وإلى علم بما في كتب السنة وإلى ما في كتب العقيدة الخ ذلك مما فقده بعض من كتب في ذلك.
من المصادر أيضا التي تعتمد كتب السيرة التي ذكرنا وكتب التاريخ فتجد مثلا أنّ تاريخ ابن جرير يحوي كثيرا من أخبار سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بالأسانيد لكن هذه تأخذ منها ما لا يتعارض مع ما جاء في القرآن وتفسيره ومع ما ثبت في سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فإذا لم نجد الحَدَث لا في الكتاب ولا في السنة فإنّ أخذه من كُتُبِ السير لا بأس به؛ لأنّها أرفع درجة بالاتفاق من أحاديث بني إسرائيل وقد قال لنا عليه الصلاة والسلام: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) فإذا لم يكن ما في كتب السيرة معارضًا للكتاب والسنة فإنه لا بأس من أخذه ومن الاعتماد على ما جاء فيه وهكذا كان أهل العلم.
لهذا نرى أنّ ابن كثير رحمه الله في أوائل كتابه ((البداية والنهاية)) كتب سيرة طويلة للنبي عليه الصلاة والسلام أفردت في أربع مجلدات وقع جمع فيها ما بين ما ذكره أهل السير وما ذكره أهل الحديث وما جاء في الآيات ولكنها أيضا تحتاج إلى بعض مزيد من التمحيص.
إذًا فهذه هي المصادر العامة للسيرة وإذا تبيّن ذلك فتلحظ فيما سقنا أنّ أهل الحديث وأهل الأثر والمعتنون بعلوم سلف الأمة هم الذين اعتنوا بسيرة المصطفى(6/10)
صلّى الله عليه وسلّم فبعض الناس يقول إنّ المعتنين بالحديث والأثر والمعتنين بطريقة السلف ليس لهم عناية بالسيرة وهذا ليس بصحيح، بل إنّ الذين اعتنوا بسيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من حيث الإثبات ومن حيث الانتقاء ومن حيث الفقه والدلالة هم أتباع سلف هذه الأمة، وإذا صار هناك قصور ممن اعتنى بالحديث والأثر فإنّ هذا مما ينبغي علاجه؛ لأنّ الاهتمام بالسيرة به يحصل للمرء المؤمن ولطالب العلم أنواع من العلوم والفوائد ما يحصلها إلاّ إذا قرأ السيرة، ويقوم في قلبه الاعتزاز بدين الله والفرح بنصرة هذا الدين في أول الأمر ويقوم في قلبه عظم المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه بما يزيد المؤمن من الاقتداء بهم والسير على منوالهم.
نجد أنّ أئمة هذه الدعوة كالإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله اعتنى بالسيرة أيضا فكتب كتابا في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مطبوع موجود كذلك ابنه الإمام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب له كتاب أيضا في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وجعلوا في تضاعيف نقلهم للسيرة ذكر الفوائد وخاصة الفوائد الدعوية، وسيأتينا ذكر تأصيل فيما يتعلق بالفوائد الدعوية في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
إذن فالعناية بالسيرة إثباتا وفقها واستنباطا كان عليه علماؤنا فالاهتمام بها من سمة طلاب العلم الجادين فيه ومن سمة المحبين للخير بعامة والناس ترقيق قلوبهم وبعث الهمة في نفوسهم وبعث العزة في نفوسهم يكون بطرق صحيحة ومن ذلك ذكر قصص السيرة وذكر ما جرى فيها من حوادث ومن أحكام.
نظر الناس والمؤلفين والدارسين للسيرة متنوع وهذا ما يمكن أنْ نسميه أو أنْ نعنون له بمدارس تناول السيرة (سيرة النبي عليه الصلاة والسلام).
فإنّ سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام تنوعت المدارس في تناولها وفي التأليف فيها وفي الباعث على الاهتمام بها إلى بضع مدارس:(6/11)
فأول تلك المدارس: المدرسة اللغوية وهذه المدرسة اهتم فيها أصحابها بأنْ يتناولوا السيرة بالاهتمام بما في السيرة من لغة صحيحة فإنّ من نقل السيرة من مثل التابعين ومن مثل ابن إسحاق إنهم نقلوها بلغة صحيحة وما أوردوا في السيرة من أشعار كثيرة وأخبار وخطب للعرب وحكايات وخطب للصحابة بل وأقوال في ذلك هذا كله من جهة اللغة معتمد ولهذا اعتنى بسيرة ابن إسحاق ابنُ هاشم رحمه الله تعالى وكان لغويًا متمكنا فاعتنى بالأشعار التي أوردها ابن إسحاق فأورد من الأشعار في ملخصه المسمى بسيرة ابن هشام أورد منها ما يتفق وما لا يؤخذ عليه في إيراده وترك أشياء من ذلك وأتبعها بشرح غريبها، وبالعناية بها كذلك سيرة ابن هشام تناولها العلماء الذين اعتنوا بهذا النوع من الاهتمام بالسيرة (الاهتمام اللغوي) تناولوها بالشرح وبالتفصيل وأصل قصدهم الاعتناء باللغة وقد يضيفون إلى ذلك اعتناء بجوانب أخرى من مثل الحافظ السهيلي في كتابه ((الروض الأنف)) الذي جعله شرحًا على سيرة ابن هشام فيما أشكل منها وكالحافظ أبي ذر الخُشني في ((تفسير غريب السيرة)) وكلا الكتابين مطبوع، أما كتاب السهيلي فكبير وأما كتاب أبو ذر الخُشني فمجلدة لطيفة هذا نوع من الاهتمام وهذا تجد منه أنّ كثيرين ممن اهتموا بالأدب واهتموا باللغة يعتنون بالسيرة فينبغي التفريق حين ترى المصنف في السيرة ما تصنيف مصنفه من جهة المدرسة فإذا علمت أنه لغوي بحَّاثة، وأنّ عنايته باللغة فإنك تبحث فيه ما تحتاجه من ذكر غريب السيرة وما شابه ذلك، فإنّ لهم عناية بهذا تفوق العناية بغيره من علوم السيرة.(6/12)
الأدباء يهتمون بالسيرة ومن المعاصرين من بلاد شتى من ألف في السيرة وتجد أنّ أكثرهم أدباء وذلك لأنّ الاهتمام بالسيرة ديدن الأدباء؛ لأنّ فيه رفعة الحصيلة الأدبية وقوة البلاغة وكثرة الشواهد عند المعتني به فصنف الكثيرون في السيرة متجهين إلى هذا الاتجاه في تقوية الاسلوب الأدبي ونقل السيرة على هيئة أسلوب أدبي رفيع يقوي ملكة الأديب أو دارس الأدب في هذا الباب وهذه المدرسة لها تفاصيل وحديث يطول ذكره في ذكر حسناتها والمآخذ عليها.(6/13)
النوع الثاني: من المدارس: في تناول السيرة مدرسة القوميين فإنّ المعتنين بالعرب والآخذين بالتعصب للعربية للعرب وللعرق العربي رأوا فوجدوا أنّ أمجاد -كما يزعمون- من قبلهم كتبت سيرهم وأنّ مجد العرب لم يبتدئ بالإجماع إلا بمحمد عليه الصلاة والسلام فبه رفعت العرب رأسها ورفعت العرب شأوها كما قال جلّ وعلا: {وإنّه لذكر لك ولقومك} وهذا لأنّ به رفع منار العرب فتناولوا السيرة وكتبوا فيها من جهة أنّ كل الأمم المتحضرة كاليونان وفارس والروم... الخ، لهم في ذكر عظمائهم سيرٌ صيغت بالصيغة الأدبية وكان المقصد منها تمجيد هذا العرق فتناول السيرة عدد من المعاصرين ومن المتقدمين لرفع العرق العربي ولرفع العرب عمن سواهم وهذه فيها مدارس مختلفة من مثل مدرسة طه حسين ومن نحا نحوه ممن كتبوا في السيرة فإنّهم لم يكتبوا في السيرة لنصرة دين محمد عليه الصلاة والسلام وإنما كتبوا في السيرة بالنظر إلى عرقية عربية بل إنّه كما ذكر مثل طه حسين في مقدمة كتابه ((على هامش السيرة)) ذكر أنّ السيرة هذه التي كتبها فيها أشياء لا يقبلها العقل ولا يقبلها الفؤاد ولكن لا تصلح حياة الناس إلاّ بنوع من الخرافات ونوع من الأحاديث التي تكون لهم كالاسترواح وتكون لهم كالمرح والمهيء لهم لسماع الحق يعني أنها قصص وحكايات ليس لها أصل وليس لها أهمية ذكر في مقدمة كتابه أنه بعثه على ذلك (على هذا التأليف) أنه وجد لليونان إلياذة ولهم أمجاد وللفرس أمجاد فيما صنفوا في تاريخ عظمائهم ورأى أنه لابد من التصنيف في هذا والكتابة فيه فكتب ذلك.(6/14)
وإذًا فالنظر في تأليف المؤلف ينبغي أنْ يسبقه تصنيف مدرسته وهو من أي مدرسة في السيرة؟ فإنه لو قرأ الناس كتابًا من كتب أصحاب المدرسة القومية في السيرة لأصابهم نوع من الخلل في فهم سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، بل وربما لم يؤمنوا بمعجزاته عليه الصلاة والسلام وبآياته وبراهينه على اعتبار أنها حكايات وأنه ليس لها رصيد من الصحة والواقع وإنما هكذا قيل.
المدرسة الثالثة: من المدارس التي اعتنت بالسيرة مدرسة العلماء والفقهاء وهؤلاء من المحدثين والفقهاء اعتنوا كثيرا أيضا بالسيرة فكتبوا السيرة مهتمين بما فيها من أحكام وما فيها من بيان للعقيدة وبيان للأحكام الفقهية وهذا ظاهر لك فيما اعتنى به أئمة الحديث كالبخاري وغيره، والأئمة من بعده أئمة المحدثين كالحافظ البيهقي في دلائل النبوة وكذلك من المتأخرين شيخ الإسلام ابن تيمية فإنّه نظر إلى السيرة نظرا فقيها وفصّل كلامه وما فرقه من الكلام على السيرة العلامة شمس الدين ابن القيم في كتابه ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) فإنه تناول السيرة بذكر التحقيق فيها وجمع بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة، وكلام أهل السير ونظر فيه نظرا فقهيا ونظر فيه نظرا عقديا وتبعه على هذه الطريقة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلميذه وابنه عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فإنّهم كتبوا في السيرة ناظرين إلى العلم وجمعوا فيها ما بين مقتضى العلم ومقتفى القصة أو مقتضى السيرة، ولا شكّ أنّ هذه المدرسة هي أنفع المدارس وأعظمها كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.(6/15)
المدرسة الرابعة: المدرسة الدعوية المعاصرة، فإنّ المعاصرين من الدعاة على اختلاف انتسابهم في الدعوة اعتنوا بالكتابة في السيرة على مختلف المشارب وعنوا بكتابتهم في السيرة أنْ يأصلوا جوانب دعوية تهمهم وتهم الفئات التي ينتسبون إليها من طريق السيرة فإنّ في السيرة ما يمكن أنْ يكون دليلا بمجرده على مسائل كثيرة في الدعوة وقد يكون ذلك الاستدلال صوابا وقد يكون خطأ فظهرت في هذا العصر مدرسة كبيرة كتب في ((فقه السيرة)) وكتب في ((دروس وعبر من السيرة)) وفي ((دراسات في السيرة)) وأشباه ذلك من مدارس دعوية مختلفة في الاهتمام بالسيرة من وجهة نظر دعوية وكثير من هؤلاء لم يعتنوا بها من جهة ما صح من السيرة وما لم يصح وإنما جعلوا السيرة عبرة لما يريدون من الفوائد الدعوية سواء أصح ذلك أم لم يصح وسواء أثبت في العلم والفقه والعقيدة أو لم يثبت ذلك ولهذا تنوعت الكتب في هذا وهذه مدرسة أيضا من مدارس السيرة ويمكن تسميتها بالمدرسة الدعوية المعاصرة في تناول السيرة.(6/16)
المدرسة الخامسة: من مدارس السيرة مدرسة الروايات والقصة فإنّ كثيرين من السابقين ومن المعاصرين تناولوا السيرة على أنها روايات وعلى أنها قصص بل وربما تناولوا الصفحة الواحدة والصفحتين في السيرة بشيء من التفصيل وشيء من الاستطراد الأدبي فجعلوها عشر صفحات وعشرين صفحة من جهة الاستطراد فقلبوا السير إلى قصصٍ متنوعة لتكون لمن يقرأها عوضا عن الروايات الهابطة وعن القصص الفارغة التي انتشرت في هذا العصر فقام عددٌ ممن يحرصون على الاسلام ممن فيهم ديانة وخير على أنْ يعوضوا الناشئة في مقابلة خِضم السيل الجارف بالروايات والقصص والحكايات بأنواع شتى وبعضها مترجم من الشرق وبعضها مترجم من الغرب فقابلوها بنقل السيرة إلى قصص وروايات وهذا لا شك أنه أفاد كثيرًا من الناشئة لكن له سلبياته ولو تناولها بعض طلبة العلم الذي يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله فكتبوها على شكل قصصي وعلى شكل روايات لا بأس لكن تكون معتمدةً على ما يقضي به العلم والتحقيق فإنّ فيها نفعا كبيرا للناشئة وللشباب والفتيات وللكبار أيضا، هذه جملة من المدارس القديمة والحديثة في تناول السيرة.(6/17)
إذا نظرنا لما كتب في كتب السير من أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم والحكايات وما حصل له عليه الصلاة والسلام وجدنا أنّ السيرة استدل ببعض أحداثها وببعض ما ذكر فيها على أمور عند أهل العلم من علماء السلف والمحققين من أهل العلم ممن بعدهم يرون أنّ تلك الاستدلالات ليست بصحيحة بل ربما كانت باطلة بل ربما كانت شركية وهذا يقودنا إلى تفصيل لهذا النوع وهو الذي يمكن أنْ تسميه أنواع من الاستدلالات الخاطئة بأحداث من السيرة وهي جديرة من بعض طلبة العلم المتفرغين أنْ يرصد نفسه لجمعها فيجمع أنواع الاستدلال الباطلة مما جاء في السير على أمور لا يقرها العلم الصحيح ولا يقول بها الأئمة والعلماء فمن ذلك مثلا ما جاء في كتب السير أنّ المسلمين في غزوة اليمامة كان شعارهم (محمداه) وهذه ذكرها الطبري وذكرها ابن كثير في ((البداية والنهاية)) وأشباه ذلك، فقال قائلون: أنّ هذا يدل على جواز الاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته لأنّ معنى محمداه يعني (يا محمداه) أو هو دعوة له عليه الصلاة والسلام ولا شك أنّ الاستدلال على مسألة عقدية بل على مسألة هي لُبُّ التوحيد وأصله وهو الاستغاثة بالله جلّ وعلا وحده دون ما سواه الاستدلال بمثل هذا على تجويز الاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ضربٌ لنصوص الكتاب والسنة الكثيرة المتواترة لفظا ومعنًى ضرب لها بخبر جاء في كتب السيرة وقد استدل بهذا بعض المخرفين وبعض دعاة البدع والضلالات وهذا لا شك أنه ناتج من ظن أنه كل ما ذكر في كتب السيرة وكل ما ذكر عن سير الصحابة فإنه صحيح في نفسه وهذا غلط فإنّ فيها أشياء نسبت إليهم لا تصح بل هي غلط في التوحيد وغلط في العقيدة وغلط في السنة.(6/18)
من مثل هذا المثال الذي ذكرته لك -ولو نظرنا- في تاريخ الطبري الذي يورد الأشياء بإسنادها لوجدنا أنّ اسناد هذه الحكاية التي ذكر فيها هذا الخبر مسلسل بكذاب ومجهول وضعيف وهذا كاف في إبطالها من أصلها والذي يعلم دين الرسول صلّى الله عليه وسلّم يبطلها ولو بدون النظر إلى الإسناد فإنّ الصحابة من كانوا ليستغيثوا بأحدٍ دون ربهم جلّ وعلا يعني ممن لا يقدر على الإغاثة وهم سادة هذه الأمة فلم يكونوا يستغيثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، هذا مثال لأنّ هناك أنواعًا من الاستدلالات العقدية الباطلة ببعض ما يورد في كتب السير وكتب المغازي وأحوال الصحابة بعده عليه الصلاة والسلام أيضا من الأخطاء في أنواع ما يورد في السير أن الناس انتشرت فيهم أحاديث ضعيفة لا يصح نسبتها للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل وأحاديث ربما منكرة وباطلة لأنها أوردت في السير وقد قدمت لك قول الحافظ العراقي:
وليعلم الطالبُ أنّ السيرَا
تجمع ما صح وما قد أُنْكِرَا
ففي ما ورد في السيرة منكرات وأشياء منكرة وقد علم أهل العلم كثيرا من هذه الأخبار بأنها ليست بصحيحة ولا يصح الاعتماد على السير فيها، فمن ذلك مثلا كثير من الحكايات في قصة ((بحيرى الراهب)) فإنّ أصل القصة صحيح من حيث الإسناد ومن حيث الرواية لكن ما جاء في كتب السير منها فإنّ فيه تفصيلات لا تثبت وإنما تروى هكذا بلاغا بلا إسناد وبعض جُمَلها صحيح فأصل القصة صحيح وكثير من المحاورات التي فيها ينقلها بعض الدعاة وينقلها بعض الخطباء وينقلها بعض الموجهين على أنها صحيحة وهي ليست بصحيحة وعليها اتكأ بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم في قولهم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ كثيرا من العلوم عن ((بحيرى الراهب)) وهي التي أوردها أو ذكرها عليه الصلاة والسلام وأصحابه وهذا باطل قطعا.(6/19)
ومن الأمثلة أيضا على ذلك القصة المشهورة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما كان يطوف همّ رجل بقتله فكلمه عليه الصلاة والسلام فقال له ما قال في إخباره بما في نفسه من نية قتله عليه الصلاة والسلام وهذه قد ضعفها عدد من أهل العلم وهذا النوع من الغلط في أخذ الأحاديث التي ترد في السيرة على أنها صحيحة هناك عدد من أهل العلم نبهوا عليه ومن المعاصرين منهم العلامة الألباني في كتابه ((الدفاع عن الحديث النبوي والسيرة)) وهو كتاب جيد في ذكر كثير مما يرد في السير مما لا يصح ومناقشة البوطي فيما أورده في كتابه ((فقه السيرة)) ذلك فيما علقه على كتاب ((فقه السيرة)) للغزالي المعاصر أورد كثيرا من الأحكام وحقق عددًا من الأحاديث وغيره من الشباب وطلبة العلم كتبوا أيضا كتابات في تحقيق بعض الأحاديث في السيرة، المقصود من هذا التنبيه على أنه لا يعني ورود الحديث في كتاب من كتب السيرة أنه في نفس الأمر صحيح وإنْ تداوله العلماء بالقبول فإنهم يتداولونه في الإجمال لكن إذا كان المقام مقام استدلال أو مقام احتجاج فإنهم لا يريدون ذلك إنما يحدثون به هكذا على ما جرى عليه العلماء الأولون.(6/20)
أيضا هناك أنواع من الاستنتاجات الفقهية كان مبناها على حوادث من السيرة وحوادث السيرة ليست أدلة في نفسها على مسائل الفقه حتى تثبت تلك الحوادث إمّا بدلالة القرآن عليها أو بما ثبت في السنة من ذلك وإما بما ذكره الصحابة في تفسير القرآن وتفسير السنة في تلك الاحوال لهذا تجد أنّ كثيرين أخذوا بعض حوادث السيرة فاستفادوا منها أحكاما فقهية وفي الواقع هذه الأحكام غلط لأنّ الدليل عليها ليس بقائم ولا يصح أنْ يكون دليلا إما لضعفه أو لنكارته أو لبطلانه وأشباه ذلك وابن القيم رحمه الله تعالى اعتنى كثيرا في كتابه ((زاد المعاد)) في ما ذكر من سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتنى بتحقيق حوادث السيرة سواء ما كان منها في مكة أو في المغازي وتبيين الصحيح من الحكايات من جهة الفقه والفوائد الفقهية على ذلك فكتابه أصل في هذا الباب أيضا من الأغلاط في دراسة السيرة ما غَلِط به بعض المبتدئين من الدعاة أو بعض من لم يعتنِ بالعلم من المهتمين بالدعوة فجعلوا كثيرا من مسائل الدعوة أدلَتها من السيرة ولم ينظروا في ما جاء في النصوص أو ما قاله أهل العلم في تلك المسائل مثلا: استدل بعضهم بحادثة سعد بن أبي وقاص حينما رمى بحجر وشجّ وجه المشرك في مكة قال بعضهم إنّ هذا دليل على جواز الاغتيالات وأخذوا في مبحث الاغتيال مستندين إلى هذا وهذا لا شك أنه ليس بمنهج علمي صحيح إذ حوادث السيرة تؤخذ للعلم بها وإنما يحتج بما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو صح عن صحابته وأقره عليه الصلاة والسلام في حياته.
من الأمثلة، مثلا: ما ذكره بعضهم من أنّ اجتماع بعض الشباب في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ليرى رأيه في غزوةأحد أنّ هذا دليل على مشروعية الاعتصام في المساجد ومشروعية المظاهرات وهذا لا شك أنه خروج عن المنهج العلمي الصحيح وتلمس للمخرج، وليس لإقامة دليل يقيم الحجة بين العبد وبين ربه جلّ وعلا.(6/21)
ومن أمثلة ذلك ما جاء في بعض كتب السيرة من ذكر الكتمان الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم في مكة وخلصوا منها إلى أنّ هذا الكتمان والإيصاء بالتكاتم دليل على أنّ الدعاة يلجأون إلى الدعوة السرية وأنّ هذا أصل في الدعوة السرية وتنظيماتها وهذا إذا عرض على العلم الصحيح وكلام أهل العلم والمحققين وجد أنه ليس بدليل على ذلك إذ الكتمان في المسألة لا يدل على الكتمان في كل شيء وتفاصيل ذلك معروفة في كلام أهل العلم في كلام ابن القيم ومن تبعه.
كذلك من المسائل الدعوية التي ذُكرت كالاستفادة من كتب السيرة ما فصَّلْتهُ بعض الفئات أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا في مكة ثلاثة عشر عاما وهذا يدل عندهم على أنّ الدعوة يجب أنْ تكون سرية كالعهد المكي بجميع ما في العهد المكي من أحكام وأنْ تكون مُدَّتُها ثلاثة عشر عامًا كما قالته بعض الأحزاب في بعض البلاد الإسلامية فجعلوا الدعوة منقسمة إلى عهد مكي وإلى عهد مدني والعهد المكي ثلاثة عشر عاما ولما أنشأ بعضهم هذه الفكرة وأنشا حزبًا عليها وانتهت ثلاثة عشر عاما بدون تمكين لهم قالوا هذا التمكين حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ثلاثة عشر عاما؛ لأنه هو المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لم يحصل لنا التمكين نكرر ثلاثة عشر عاما فإذا لم يحصل نكرر ثلاثة عشر عاما وهذا من البعد في الاستدلال كما هو ظاهر لكل من له عقل صريح فضلا عن أنْ يكون من ذوي الانتساب إلى العلم .(6/22)
كذلك بعضهم أخذ من السيرة تقسيمات الدعوة إلى مراحل وجعل المجتمع الذي يعيش فيه أيا كان ذلك المجتمع كالمجتمع المكي، فيعاشر الناس بعزلة شعورية كما فصلته بعض الفئات الغالية ويعاشر الناس بأنهم مشركون أو أنه متوقف في شأنهم كما تقوله جماعات التوقف والتبين وأشباه ذلك وهذا أيضا من الأغلاط الكبيرة وجدوا مستمسكا من الاستدلال لكن ليس الشأن في وجود مستمسك من الدليل وإنما الشأن في أنْ يكون الدليل صحيحا ثم أنْ يكون وجه الاستدلال سليما وأما ما يكون من جهة نوع الاستدلال فهذا يكثر في الشريعة حتى احتج بعض الناس بأنّ الخمر غير محرمة؛ لأنّ الله جلّ وعلا ما حرّمها في القرآن إنما قال: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون}، وهذا ترغيب وليس بتحريم إذا فلابدّ من عرض ما يتحصل عليه الدارس للسيرة إذا لم يكن طالب علم ولم يكن عالما يعرضه على أهل العلم هل ما استنتجه صحيح أم لا؟ هل العلم يوافق هذا الاستنتاج أم لا؟ سواء كان في مسائل العقيدة أم في مسائل السنة والبدعة أم في مسائل الحديث الصحيح والضعيف أم في مسائل الفقه والأحكام أم في مسائل الدعوة لأننا لن نقيم الدين ولن نقوم بقوة في الدعوة إلاّ بعد أنْ نُصَفي منهجنا في الأخذ والاستدلال فإذا كان المنهج في المرجعية والأخذ والاستدلال واضحا قويا واجتمعت الأمة واجتمع الدعاة واجتمع المهتمون بالإسلام والداعون إليه على نهج سواء وسط واضح لأنّ المصادر وكلام المحققين من أهل العلم واحد في ذلك لا يختلف يعني في أصول هذه الشريعة وأصول الأدلة في العقائد وفي الأحكام وفي الدروس والعبر والعظات إذا تبين لك ذلك فأغرب منه أنْ نجد أنّ بعض المناوئين للشريعة وأعداء الملة والدين من العلمانيّن ومن الاشتراكيّين وأشباه هؤلاء وجدوا في بعض نصوص السيرة ما يستدلون به على نحلهم وما يؤيد ما ذهبوا إليه.(6/23)
فأهل الاشتراكية استدلوا على اشتراكيتهم بإباحة المال للجميع وحتى إباحة النساء للجميع بقصة مؤاخاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار حتى إنّ الرجل كان يرث أخاه لا من النسب ولكن الذي آخاه النبي صلّى الله عليه وسلّم معه في الدين فورث بعضهم من بعض حتى نزل قول الله جلّ وعلا: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فاستدلوا على اشتراكهم في المال وعلى تنازل بعضهم عن زوجته لأخيه لو رغب أنّ هذا أصل من أصول الاشتراكية التي دعا إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم واستدل بعضهم بوجود اشتراك النساء في العرب مع الصحابة من جهة التمريض أو جلب الماء أو نحو ذلك بأنّ هذا أصل بالقول بجواز الاختلاط المحرّم وأنّ المرأة تعمل مع الرجل في أي ميدان لا بأس بذلك في ميدان الطب أو التمريض أو في غير ذلك وجدوا في بعض الحوادث مدخلا لهذا. وكلٌّ أخذ بحادث وتفقه فيه وأصبح فقيها وإن كان ليس له من تحقيق الإسلام نصيب.
إذن السيرة هي قصص وأخبار وحكايات فلا يسوغ الاستدلال بما جاء فيها مطلقا حتى يكون ذلك الدليل صحيحا من جهة ثبوته ثم ينظر في وجه الاستدلال، إذا وصلنا إلى هذا وهناك فقرات أطويها لضيق الوقت وفي الحقيقة الموضوع مهم يحتاج إلى مزيد بيان لكن نخلص إلى خاتمة المطاف وذلك بذكر موضوع هذه المحاضرة وتلخيص ما سبق بمعرفة الضوابط التي يجب أنْ نأخذ بها في تلقي السيرة وفي الاستدلال والفهم
فأول هذه الضوابط:
أنّ ترتب قوة مصادر السيرة على ثلاث مراتب:
1- المرتبة الأولى: فهي للقرآن العظيم فما دل عليه القرآن فهو مقدَّم على غيره.(6/24)
2- المرتبة الثانية: ثم سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي مبينة وموضحة لما في القرآن، والسنة نعني بها ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام سواء كان من أحاديث الآحاد أم من الأحاديث المتواترة وسواء صح سنده لذاته أو لغيره سواء حسن سنده لذاته أو لغيره فإذا ثبت الحديث فإنه يؤخذ به في السيرة ويكون مقدما على غيره ويليه الأخذ بتفاسير اهل العلم من الصحابة فمن بعدهم في آي القرآن أو بعض أحاديث السنة فإنهم في الغالب فسروا القرآن بعلمهم بسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
3- المرتبة الثالثة: ما جاء في كتب السير وإذا وجدنا في كتب السير ما لا يتعارض مع الكتاب والسنة فإنّ لنا أنْ نأخذه وأنْ نقول بما فيه دون تردد لأنّه لا يخالف الكتاب والسنة سيما إذا اعتضد باتفاق العلماء عليه أو بجريانهم عليه فإنه لا حرج علينا في ذلك إذ كما قال بعض أهل العلم: السير بلا شك أرفع درجة وأقوى ثبوتا من أحاديث بني اسرائيل والنبي صلّى الله عليه وسلّم رخص لنا في الحديث عن بني اسرائل وقال: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) وبنو إسرائيل لا نصدقهم ولا نكذبهم وأما ما روى في السير مما لا يصادم نصا من القرآن أو من سنة العدنان عليه الصلاة والسلام فإنه لا بأس من القول به والأخذ به؛ لأنّ العلماء تتابعوا على قبول ما فيها إذا لم يعارض ما جاء في الكتاب والسنة في الأصول وفي الفروع وفي السير هذا هو الضابط الأول.(6/25)
الضابط الثاني: أنّ السيرة يستفاد منها في أنواع من الفوائد الدعوية والإيمانية والعلمية فينبغي لمن يقرأ السيرة أو يذكر ما فيها أنّ ينتبه لإنزال كل مسألة منزلها فإذا كان إيراد القصة وحكاية الغزوة أو ما حدث للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه المقصود منه تقوية ما في القلوب من الإيمان ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام وتقوية العزة في قلوب أهل الإيمان وفي قلوب الناشئة وربطهم بسيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا بأس بذلك ويؤخذ على هذا القدر ناظرا إلى الضابط الأول الذي ذكرناه، ثم إذا وجد في السيرة ما يخالف ما أفتى به أهل العلم سواء في التوحيد أو في تفسير القرآن أو في السنة أو ما أشبه ذلك أو في الدعوة أو في الأحكام الفقهية فإنه لابدّ له من البيان لأنّ إيراد القصة مع إيراد مشكل فيها من جهة الشرع أو ما هو منكر فيها من جهة الشرع والسكوت على ذلك لا يسوغ إذ هو نوعٌ من تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وهذا ربما وقع في أنواع من الإلباس.
الجهة الثانية: من هذا الضابط: الاهتمام بالجوانب الفقهية والعلمية في السيرة بأنْ ينظر إليها نظر علمي يعني ينظر إليها طلبة العلم لا على أنها رواية وقصة وحكاية وهكذا بل إنما يأخذها مستفيد مما جاء فيها من جهة الأحكام.
فخذ مثلا قصة الحديبية وغزوة الحديبية بل فتح الحديبية فإنّ ابن القيم رحمه الله أخذ في ذكر الفوائد من هذا الحدث الفوائد الفقهية في العبادات وفي المعاملات بل وفي أمور تتعلق بالدول وتتعلق بولاة الأمر وتتعلق بالملوك وتتعلق بالأحوال ما تعجبُ منه وهذا لا شك أنه من النظر الفقهي العظيم الذي ينبغي أنْ يتحلى به طالب العلم.(6/26)
الضابط الثالث: أنّ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كانت صراعا بين التوحيد وبين الشرك وسيرته عليه الصلاة والسلام لم تكن سيرة قائد حزب ولا ممثل لفئة ولا طالب دولة ولا أشباه ذلك وإنما كانت صراعا في مسألة عظيمة بل أعظم المسائل بل أعظم المطالب وهو توحيد الله جلّ وعلا ولهذا ترى أنّ المحققين من أهل العلم ممن انتبهوا لعظم شأن الدعوة للتوحيد كابن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب ومن بعده نظروا إلى تلك السيرة وتلك الأحداث ونزّلوها على المعركة بين التوحيد وبين الشرك وهذا أعظم ما يكون من الصواب في الاستدلال لأنها واقعة، وإذا كان في يوم ما عادت الكرة للشرك ولأهله واندرست معالم التوحيد فإنّ ظهور أثر السيرة في ذلك وظهور معالم السيرة عند الناظر فيها في الفرقان ما بين أهل الشرك وأهل الإيمان ظاهر بيِّن، لهذا من رأى كتاب السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتاب السيرة لعبد الله بن الشيخ رحمهما الله تعالى نظر إلى أنه مستفاد من جهة المعركة بين التوحيد والشرك وهذا استدلال صحيح في مكانه؛ لأنّه قائم على الاستدلال بالمطابقة فإنها هي حقيقة ما كان ما بين النبي عليه الصلاة والسلام وما بين أصحابه والناس ممن نظروا في السيرة مجمعون على هذا وأنّ المعركة ما بين داع إلى الله جلّ وعلا بل سيّد الدعاة إلى الله جلّ وعلا بل سيِّد المرسلين عليه الصلاة والسلام وبين المشركين الكفار المعاندين لله جلّ وعلا ولرسله عليهم صلوات الله وسلامه والله جلّ وعلا قال لنا عن نبيه: {قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} وبيَّن جلّ وعلا أن المراد من القصص العبرة فقال جلّ وعلا: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثًا يفترى} وهذا واضح معلوم في صنيع أهل العلم.(6/27)
الضابط الرابع: أن يهَابَ أهل العلم وطلبة العلم والدعاة من أن يخوضوا في السيرة بلا علم فلا يظننَّ الظانُّ أنَّ السيرة قصة تقبل الزيادة والنقصان فربما سمع بعضكم بعض من يميل إلى القصص والحكايات سواءً من جهة التعليم أو من جهة الإلقاء وذكر أحداثًا من السيرة وحلاَّها بزيادات من عنده ظانًّا أن باب السير باب قصص وأنه يسوغ فيه الزيادة وهذا ليس بصواب بل هو باطل في نفسه إذْ السيرة هي سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فلا تقبل الزيادة على الحوادث إذا كان يريد أن يشرح ما ثبت فهذا شيئ جيد من الإيضاح ومن تعليق الناس وأخذ العبرة والفائدة لكن أن يزيد حكايات بخروج وذهاب وبذكر أحوال لم ترد في كتب السير ولم تصح فهذا نوع من القول على الله جلَّ وعلا بلا علم بل هو نوع من الكذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعت أحاديث في بعض الغزوات جيئ فيها بأشياء لم ترد اصلاً وسمعت أحاديث في بعض حوادث جرت في مكة على صحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيعة العقبة بل وهجرة الصحابة إلى الحبشة وأشباه ذلك مما لم يرد أصلاً وزيادات اقتضاها الطابع القصصي وهذا لا يسوغ أن يعذر المرء فيه نفسه لأن الأمر شديد والكلام على سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم نوع من الكلام على سنته والكذب فيها كذب على سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعظم ما جاء في ذلك من التحذير قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر ((من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار)).(6/28)
الضابط الخامس: أن لا يستعجل بالنقد فيما يورده أهل العلم في السير فإن السير لها طابع وكثيرون وهَّمُوا بعض أهل العلم أو تعقبوهم بما ليس مجالاً للتعقب واستعجلوا في ذلك، فقصص السير ونوع ثبوتها والاجتهاد في تأول إيرادها هذا كثير فإذا لم تكن القصة أو السيرة أو الحكاية سواءٌ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوعن الصحابة إذا لم تكن مصادمة لنصوص الكتاب والسنة أو لم تكن باطلة من جهة العقيدة والشريعة والسنة فإن إيرادها للعلماء فيه مآخذ فلا يأتيَنَّ آتٍ ويقول فلان يورد من السيرة ما لم يثبت وهذا يورد حديثًا ضعيفًا في السيرة وأشباه ذلك إذ الأصل عندهم ما ذكرته لكم من التوسع في نقل السيرة إذا لم يكن ما ينقل باطلاً أو منكرًا وهذا أصل عظيم لا بد من الاهتمام به لأنّ نقد أهل العلم أو الاعتراض عليهم بما ليس له حجة بينة غير مقبول وربما سبب أشياء غير محمودة.
الموضوع فيه زيادات لكن الوقت قصر وتضايق وفي الختام اسأل الله جلّ وعلا لي ولكم الانتفاع يسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علمًا وعملاً وهدىً واهتداء وأسأله جلّ وعلا أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر وأسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمورنا وأن يدلهم على الرشاد وأن يباعد بينهم وبين سبل أهل البغي والفساد وأساله سبحانه أن يجعلنا وأياهم من المتعاونين على البرِّ والتقوى ومن غير المتعاونين على الإثم والعدوان وأسأله سبحانه لي ولكم ولكل مسلم الختام الصالح الذي به السعادة الأبدية اللهم فاغفر حمًّا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
إجابة بعض سؤالات المحاضرة(6/29)
س1/ هناك من العلماء من يذكر بعض سير الصالحين في زهدهم وصلاحهم وصلاتهم الخ ما يكون أحيانًا معارضًا لفعله صلّى الله عليه وسلّم فما موقفنا من مثل هذا وجزاكم الله خيرًا؟
الجواب: الحمد لله، أفعال العلماء ليست بحجة على الشريعة وإنَّما الحجة فيما دلَّ عليه الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم إذا اجتمعوا على ذلك وما ينقل في السير من أخبار بعض العلماء على أقسام: منه ما يمكن تأوله من مثل أنّ بعضهم كان يقوم اللّيل كله وهذا مخالف للسنة وأنّ بعضهم كان يختم القرآن في كلّ يوم مرة كما نقل عن الشافعي أنه ختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة وكما نقل عن عثمان رضي الله عنه بل صح عنه أنه ختم القرآن في ركعة من ليالي الشتاء طويلة أوتر بها وقرأ فيها القرآن كلّه وجاء أيضا أنّ تلك الركعة كانت في جوف الكعبة وأشباه ذلك وهذه تأولها أهل العلم وذكروها وأهل العلم قد يفعلون بعض الأشياء لا على وجه المداومة وإنّما أحيانًا ولهذا ذكروا في مسألة ختم القرآن على حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ((لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) أنّ هذا فيمن كان الغالب عليه أنّه يقرأ ذلك أما إذا استغل موسمًا فاضلاً بزمان فاضل كرمضان أو مكانا فاضل فأراد أنْ يزداد من الختمات لأجل ذلك فإنّ السلف فعلوا ذلك وهذا جائز وحملوا الحديث على من كان ذلك هو الغالب عليه وكذلك في مسألة الصلاة وقيام اللّيل كله إذا كان هذا هو الغالب عليه فإنه مخالف للسنة أما إذا حصل له عارض وقوة قلب وتضرع وأشباه ذلك وفعل مثل هذه الأشياء مرة واحدة فإنه يكون متأولاً في ذلك والسنة قاضية على فعله، بعض الحكايات عن أهل العلم أو عن الصالحين تكون باطلة في نفسها فيكون النقل غير صحيح مثل ما نقلوا عن أحمد حكايات في الزهد موضوعة ومثل ما نقلوا عن الشافعي حكايات في الزهد موضوعة كما نبه عليها العلماء، وهناك بعض ما ينقل عن الصالحين باطل شرعًا ولا يجوز الأخذ به ولا وعظ(6/30)
الناس به؛ لأنه يعطي صورة سيئة وقدوة سيئة مثل أنّ فلانًا قام يومه وليله على أكل فجلة، قال: فما وجد إلاّ فجلة، نَصَفَها بين يومين من شدة اعتنائه بالعلم وجلس خمسة أيام لا يأكل بعد شرائه سمكة لم يحسن أنْ يطبخها أو أن يطهوها لاشتغاله بالعلم أو أنّ فلانا أراد أنْ يخلص نفسه من الرّذائل فمشى بصدره وبطنه حبوًا بل زحفًا على شوك ليُعَلِّم نفسه شدة عذاب النار وأشباه ذلك من الحكايات هذه باطلة لا يجوز أنْ تقال للناس لأنها تعطي صورة سيئة وقدوة سيئة بل الناس بحاجة إلى سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بحاجة إلى سيرة الصحابة وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أما إنّي أخشاكم لله وأتقاكم لله أما إني أصوم وأفطر وأقوم اللّيل وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) فالكمال في هديه عليه الصلاة والسلام والمبالغة في الرقائق بما لا يصح شرعا يعطي نتائج سيئة من جهة عدم حسن ظن الناس بالأولين أو بتكذيبهم أو بما أشبه ذلك.
س2/ يقول قصة ((الغرانيق)) التي وردت في ((مختصر السيرة)) ما صحتها؟(6/31)
الجواب: قصة الغرانيق رُويت من أوجه مرسلة قال الحافظ ابن حجر: ((يقوي بعضها بعضا)) والمرسل يعتضد بالمرسل سيما في مثل ذلك وقصة الغرانيق لا تناقض أو تضاد أصلا شرعيا ولا نصا من كتاب الله جلّ وعلا ولا من سنته عليه الصلاة والسلام، فهي من القسم الثالث ولهذا أوردها العلماء بل إنّ قصة الغرانيق يمكن أنْ تكون في معنى قول الله جلّ وعلا: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} الآية في سورة الحج فبيّن جلّ وعلا أنه ما أرسل من نبي ولا رسول إلاّ إذا تمنى يعني إذا قرأ وتلا كتابه ألقى الشيطان في أمنيته يعني تكلم الشيطان بجنس صوته ليعتقد زيادة في كلامه من جهة الشيطان وهذا ما جاء في قصة الغرانيق المعروفة وفي قوله جلّ وعلا في سورة النجم لما تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم: {أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} جاء في القصة أنه قال: ((وإنّهنّ الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهنّ لترتجى)) وأشباه ذلك أو كما جاء، فجاءت زيادة فيها تصحيح عبادة غير الله جلّ وعلا فلما سمع المشركون ذلك سجدوا فأنزل الله جلّ وعلا قوله سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته...}، فإذًا هذه القصة تداولها المحققون من أهل العلم فذكرها الحافظ ابن حجر، وذكر لها أوجهًا مرسلة في شرح البخاري وذكرها إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ((مختصر السيرة)) وذكرها العلماء ولم ينكروها وإنما أنكرها بعض أهل العلم وإنكاره له وجهه ولكن ليس بقاضٍ على ما رآه غيره من أهل العلم إذْ ليس في القصة ما ينكر من جهة التوحيد ولهذا أوردها أئمة التوحيد وتركها أولى خاصة عند من لا يفقه وإذا أوردت فلها وجهها.
س3/ يقول السائل: أفضل طريقة للتدرج في قراءة كتب السيرة فبماذا يبدأ طالب العلم من هذه الكتب بالترتيب؟ وما هو أفضل كتاب فيها؟(6/32)
الجواب: الأفضل أنْ يبتدئ ((بمختصر السيرة)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ((مختصر سيرة ابن هشام)) ثم بعده ((السيرة النبوية)) لابن كثير وفيها طول، ثم إذا نظر في ذلك وتبيّن له الصواب نظر في ((سيرة ابن هشام)) وما اختصر منها وهناك كتب طويلة في السيرة مثل ((السيرة الشامية)) و((السيرة الحلبية)) في عدة مجلدات، كالشروح لكتب السير.
س4/ هذه بعض الكتب يسأل بعض الإخوان عنها يقول: ما رأيكم في هذه الكتب في السيرة النبوية، ((الرحيق المختوم))، ((هذا الحبيب يا محب))، ((رجال حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم)).
الجواب: هذه الكتب نافعة: ((الرحيق المختوم)) جيّد وكذلك كتاب أبي بكر الجزائري ((هذا الحبيب يا محب)) أيضا جيّد لكن درج عليهم ما درج على أصحاب السير في بعض المسائل فيستفاد منها كما يستفاد من غيرها، وهي أميز من غيرها وأكثر فائدة مما ألف في السنين المتأخرة.(6/33)
حقوق الأُخوَّة
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله، ورسوله، وصفيه، وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فموضوع هذا الدرس حقوق الأخوّة؛ ونعني بحقوق الأخوّة؛ ما يشمل الحق المستحب, والحق الواجب، وليس المراد تفصيل ما هو واجب من تلك الحقوق، وما هو مستحب، وإنما ذِكر الحقوق بعامّة، ومنها ما هو واجب، وما هو مستحب، وهناك حقوق أخرى تُركت أيضا لضيق المقام عنها، وهذا المقام وهو حق الأخوّة؛ حق الصحبة؛ حق الأخ على أخيه، من المقامات العظيمة التي أُكّدت بالنصوص؛ وأُكّدت في الكتاب والسنة، فرعايتها رعاية للعبودية، وإهمالها إهمال لنوع من أنواع العبودية؛ لأن حقيقة العبادة: أنها اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(7/1)
ومن الأقوال والأعمال التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، ما أمر به من أداء حق الأخ على أخيه، وخاصة إذا كان ذلك الأخ قد قامت بينه وبين أخيه مودّة خاصة، ومحبة خاصة، واقتران خاص، فاق أن يكون لمجرد أنه من إخوانه المسلمين، فثَم حق للمسلم على المسلم, للأخ على أخيه من جهة أنه مسلم، ويتأكد ذلك الحق ويزداد إذا كان بين هذا المسلم وبين أخيه المسلم أخوّة خاصة، ومحبة خاصة، ترافقا وتحابا وتشاركا في المحبة في الله وفي طاعة الله، وبعضهم دلّ بعضا إلى الخير، وهداه إلى الهدى وقربه إلى ربه جل وعلا، فثَم حقوق بين هذا وهذا، وهذه الحقوق ينبغي أن يرعاها الأخ المسلم، أن يرعاها المسلم كبيرا كان أو صغيرا، وأن ترعاها أيضا المسلمة، فإذا قلنا حقوق المسلم على المسلم وحقوق الأخوّة فهو شامل للحق، بين الكبار، وبين الصغار، وبين الرجال، وبين النساء أيضا، والله جل جلاله في كتابه العظيم امتن على عباده المؤمنين أن جعلهم بنعمته؛ أن جعلهم بالإسلام إخوانا، قال جل وعلا ?فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا?[آل عمران:103]، والله جل جلاله لما امتن على عباده المؤمنين بأنه ألّف بين قلوبهم وجعلهم بنعمته إخوانا، دلّنا ذلك، على أن هذه المحبة في الله، وعلى أن هذه الأخوة في الله؛ من النعم العظيمة التي جعلها الله جل وعلا في قلوب المؤمنين بعضِهم لبعض، ورعاية هذه النعمة والمحافظة عليها، اعتراف بأنها نعمة، وبأنها منَّة من الله جل وعلا، إذ النعم يحافَظ عليها، وإذ النقم يُبتعد عنها ويحذر منها، لهذا قال جل وعلا ?فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا?[آل عمران:103]، قال بعض أهل العلم في قوله (بِنِعْمَتِهِ) التنبيه على أن حصول الأخوّة، وحصول المحبة بين المؤمنين، إنما هو بفضل الله جل جلاله، وهذا دلّت عليه الآية الأخرى، قال جل وعلا ?لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ(7/2)
جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ?[الأنفال:63]، فالذي جعل هذا يحب ذاك، جعل هذه القلوب على اختلاف أقطارها، واختلاف جنسياتها، واختلاف قبائلها، واختلاف طبقاتها، جعلهم متحابين في الله، يشتركون في أمر واحد، وهو إقامة العبودية لله جل جلاله، هو أنهم صاروا إخوة في الله جل جلاله بفضل الله سبحانه وبنعمته، وقد قال سبحانه ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، وإن أعظم النعمة، وأعظم الرحمة التي يُفرح بها هذا القرآن العظيم، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره عند هذه الآية ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، روى أن الصّدقة جاءت إلى المدينة فخرج عمر رضي الله عنه وخرج معه مولاه لأرض الصّدقة, أو للمكان الذي تجتمع فيه إبل الصدقة، فلما رأى الغلام هذه الكثرة الكاثرة من إبل الصدقة، ومن الصدقات التي جاءت، وستوزع بين المسلمين، قال له: هذا فضل الله ورحمته يا أمير المؤمنين. فقال عمر رضي الله عنه: كذبت ولكن فضل الله ورحمته القرآن، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. فأعظم ما يُفرح به أن يكون المرء ممتثلا لما جاء في هذا القرآن، وما أمرنا الله جل وعلا به، وما نهانا عنه في هذا القرآن؛ لأنه خير لنا في هذه الحياة الدنيا وفي العاقبة.(7/3)
والأحاديث التي تحث على أن يكون المرء المسلم يألف ويؤلف كثيرة جدا، فقد حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وبين فضيلة الأخوّة، وفضيلة التحاب في الله، وفضيلة أن يكون المؤمن يألف ويؤلف، وأن يكون قريبا من إخوانه في عدد من الأحاديث منها قوله عليه الصلاة والسلام «إن أقربَكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» وفي حديث آخر رواه أحمد وغيره مروي من طرق، وهو حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «المؤمن يألف ويؤلف» وفي لفظ «المؤمن مَألفة» يعني يألفه من يراه؛ لأنه لا يرى لإخوانه، لا يرى للناس إلا الخير، وقد أمر الله جل وعلا الناس بذلك بعامة في قوله جل وعلا ?وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا?[البقرة:83]، قال عليه الصلاة والسلام «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» وقد ثبت أيضا في صحيح مسلم رحمه الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله جل جلاله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» أين المتحابون بجلالي يعني الذين تآخوا محبة في الله، ورغبة في الله، لم تُقرب بينهم أموال، لم تقرب بينهم أنساب، وإنما أحب هذا لهذا لا لغرض من الدنيا وإنما لله جل جلاله، وهذا هو الذي دلّ عليه الحديث الآخر المتفق على صحته المشهور؛ «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، فهذه النصوص تدل على عظم شأن المحبة في الله، وعلى عظم شأن أن تقام الأخوّة في الله على أساس من المحبة التي جاءت في النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، وإذا كان كذلك، وإذا كانت المحبة على الفضل العظيم، فهناك حقوق بين المتحابين هناك حقوق للأخوّة، حقوق لهذا الأخ الذي أحب أخاه لهذا المسلم الذي بينه وبين أخيه المسلم عقد أخوّة، عقد أخوّة إيمانية قال الله جل وعلا في شأنها(7/4)
?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ?[التوبة:71]، قال العلماء معنى قولِه (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يعني بعضهم ينصر بعضا، بعضهم يُوادّ بعضا، بعضهم يحب بعضا إلى سائر تلك الحقوق، فالموالاة عقد بين المؤمن والمؤمن، بين المسلم والمسلم، ولها درجات بحسب تلك العلاقة، وتلك المودّة بين الأخ والأخ، هذه الحقوق متنوعة ونذكر بعضا منها:(7/5)
الحق الأول من تلك الحقوق؛ حقوق الأخوّة، أن يُحبّ أخاه لله لا لغرض من الدنيا؛ وهو الإخلاص في هذه العبودية التي هي أن يعاشر أخاه، وأن يكون بينه وبين أخيه المسلم، بينه وبين هذا الصاحب الخاص، أن يكون بينه وبينه محبة لله لا لغرض من الدنيا، فإذا كانت المحبة لله بقيت، أما إذا كانت لغرض من أغراض الدنيا فإنها تذهب وتضمحل. فالإخلاص في المحبة, الإخلاص في معاملة الأخوّة؛ أن يكون المرء يحب المرء لله جل جلاله، كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» فبين أن هذه الثلاث من كن فيه، ذاق بهن حلاوة الإيمان, ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ منها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، إذن فليس الشأن أن تكون مُحِبا لأخيك، وإنما الشأن في هذه العبودية التي تمتثل ما أمر الله جل وعلا به، أن تكون محبتُك لهذا الخاص من الناس، أو محبتُك لإخوانك، أن تكون لله لا لغرض من الدنيا، فإذا أحببته فلما في قلبه من محبة الله، لما في قلبه من التوحيد، لما في قلبه من تعظيم الله جل جلاله، لما في قلبه من متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما عمل بذلك من إظهار التوحيد على نفسه وجوارحه، وإظهار السنَّة على نفسه وجوارحه، فهذه هي حقيقة المحبة التي هي أول الحقوق، ومعنى كون ذلك حقا أن يخالط المرء إذا خالطه؛ أن يخالطه إذا خالطه وهو يريد من هذه المخالطة أن تكون العلاقة بينهما لله، إذا خالطه على أن المخالطة هذه لله، وهو يُضمر شيئا من أمور الدنيا، فهو في الحقيقة قد غشه, لأن أخاه لا يعلم ما في قلبه، فيظن أن مآخاته لله جل وعلا، ومحبته في الله جل جلاله، وفي الحقيقة إنما آخاه لغرض من أغراض الدنيا يصيبها، محبة المرء لله جل جلاله تثمر(7/6)
ثمرات، تثمر أن يكون العبد في محبته لأخيه قد وفَّى بالحقوق التي ستأتي أنه إذا أحبه لله فإنه في كل معاشرة وكل معاملة يعامل بها أخاه فإنه يخشى الله جل جلاله؛ لأن الذي بعث هذه المحبة في نفسه هو محبة الله جل جلاله فأحب هذا المرء لله، وفي الله، والمحبة الخالصة لله جل جلاله وحده، ولهذا إذا رسخت هذه الحقيقة، وقام المرء بهذا الحق؛ أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ظهرت آثار ذلك على قلبه، وعلى تصرفاته، وبقدر إخلاصه، وصدقه في محبته للمرء لا يحبه إلا لله، يظهر أثر ذلك في الحقوق التي ستأتي، ومن آثار ذلك وثمراته أن المحبة إذا كانت لله تدوم، وأما إذا كانت لغير الله فإنها لا تدوم، واستبر ذلك في الناس في علاقاتهم بالناس، في علاقاتهم بإخوانهم، في علاقاتهم بأهل العلم، في علاقاتهم بطلبة العلم، في علاقاتهم مع بعض إخوانهم ممن يملك مالا, أو يملك تجارة، أو له جاه، أو له سمعة، وآخاه وصاحَبَه لا لله وإنما لغرض من أغراض الدنيا، فلما حصل ذلك الغرض انقضت تلك الأخوّة وصار غير شاكر له، أو غير مواصل له فضلا أن يكون أبعد من ذلك -والعياذ بالله- أن يكون ذامّا له مُخْبِرا بسيئاته, مخبرا بأحواله التي رآه منها في سالف زمنه. لا شك أن هذا الحق وهو أول الحقوق؛ أن يوطن المرء نفسه، أن يحب المرء لا يحبه إلا لله يؤتي ثمرات عظيمة في العلاقة، يؤتي ثمرات عظيمة في التعامل، في حفظ الحقوق، وفي العبودية التي هي أعظم تلك الأمور.(7/7)
الحق الثاني من هذه الحقوق أن يقدّم الأخ لأخيه الإعانة بالمال وبالنفس؛ لا شك أن الناس مختلفون, مختلفون في طبقاتهم، والناس بعضهم لبعض خدم؛ الغني يخدم الفقير والفقير يخدم الغني، من كان ذا جاه فإنه يخدم من كان ليس بِذي جاه، وهكذا فالناس متنوعون، جعلهم الله جل وعلا كذلك، ليتخذ بعضهم لبعض سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون، هذه سنة الله جل وعلا في خلقه، وسنة الله جل وعلا في تصنيف الناس، وهذا إذا كان كذلك فإن من حق الأخوة، من حق الصحبة الخاصة، أن يسعى المرء في بذل نفسه، في بذل ماله لأخيه الخاص؛ لأن حقيقة الأخوّة أن يؤثر المرء غيره على نفسه، كما وصف الله جل وعلا الذين امتثلوا ذلك بقوله ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ?[الحشر:9], فالإيثار من حقوق الأخوّة المستحبة، فإذا كان هذا في درجة الإيثار فذاك من الخير؛ لكن نطلب شيئا أقل من الإيثار، من حقوق الأخوّة في الإعانة بالمال والنفس؛ أن يتفقده بشيء فاضل في وقته، أن يتفقده بشيء فاضل في ماله، أن ينظر إلى أخيه، ينظر إلى حاجاته، وقد قال بعض العلماء إن من آداب أداء هذا الحق أن لا ينتظر أن يسأله أخوه ذلك الشيء، بل يبتدأ هو ويبحث عن حاجة أخيه الذي صافاه ووادَّه في الله جل جلاله، وقد كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم في الصحيح أمر بعض الصحابة أن يلقوا ما معهم الآخرين من الصحابة في بعض الغزوات حتى قال الراوي: حتى لم يكن أحدنا يرى أن له فضلا على أخيه. وهذا لاشك من المراتب العظيمة، لكن هذه المسألة -وهي بذل المال وبذل النفس- هذه مسألة عظيمة، ولها مراتب، فمن حقوق الأخوة أن تبذل مالك لأخيك؛ نطلب بذل المال الفاضل، إذا كان عندك شيء زائد تقرضه، وقرض المسلم مرة خير وإحسان، وإذا أقرضه مرتين فهو صدقة، كأنه تصدّق على أخيه بتلك الصدقة، كما روى ابن ماجة في سننه: «من أقرض أخاه مرتين فهو كالصدقة عليه» وهذا أمر عظيم،(7/8)
بذل المال من غير سؤال، تتفقد حاجته، رأيته بحاجة إلى مال، رأيت حالته رثّة، رأيته بحال ليست بمحمودة، وأنت قد وسَّع الله جل وعلا عليك، فتبذل الفاضل من ذلك، تواسيه بذلك، والأحسن تواسيه بذلك، لأن في هذا بذل الفضل، ولأن في هذا إقامة عقد الأخوة، والذي يبذل مبتدءا ليس كمن يبذل مسؤولا، وقد قال الله جل وعلا في صفة المؤمنين ?أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ?[الفتح:29]، وكونهم رحماء بينهم يقتضي أن بعضهم يرحم بعضا، وبعضهم يرحم بعضا فيما يحتاجه؛ يحتاج إلى بذل الجاه، يحتاج إلى بذل المساعدة، يحتاج أن تساعده في نفسه، في بيته، يحتاج أن تساعده في جهده في إصلاح شيء، ضاق وقته عن بعض الأشياء عنده مهمات وعنده سفرات، فحق الأخ على أخيه -حقوق الأخوة الخاصة- أن تسعى في ذلك، لأن عقد الأخوة الخاصة يقتضي البذل، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وفي الحديث الآخر حديث صحيح معروف «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».(7/9)
إذن فهذا الحق وهو بذل النفس؛ أن يُعَوِّدَ الأخ أن يبذل نفسه لأخيه، أن يبذل بعض وقته لأخيه، أن يبذل بعض ماله لأخيه، وأن يسعى في ذلك، يُقيم في القلب حقيقةً التخلص من الشح، والمؤمن مأمور بأن يتخلص من الشح أمر استحباب، وقد أثنى الله جل وعلا على أولئك بقوله?وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ? ([1]) شُحّ النفس يكون بأنواع، يمكنه أن يذهب مع أخيه إلى مكان ليُعَرِّفه عليه، أو ليبذل جاه، أو ليذكره عند أحد، فيبخل بهذا الجهد، ويشح بالنفس، ويشح ببعض الوقت على أخيه. ما حقيقة الأخوّة إذا لم يكن ثم بذل، وثم عطاء في هذه المسائل وفي غيرها؟ وقد جاء في الحديث أيضا «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» فإذا كنت موطنا نفسك في هذه المسائل أن تبذل لصفيِّك، أن تبذل لخليلك، أن تبذل لصاحبك، فإن ذلك من حقوق الأخوة التي من بذلها قبل السؤال فإنه قد أدى شيئا عظيما، ومن بذلها بعد السؤال فإنما أدى ما وجب عليه أو ما استحب له، لكن مكارم الأخلاق والإقبال على الخير أن تبتدأ بالشيء قبل أن تُسأل عنه، لهذا كان بعض السلف يتفقد حاجة إخوانه من دون أن يُعرف، كم روي لنا من أحوال السلف أنهم دسّوا أموالا؛ دسّوا بعض المال في بيت إخوانهم من دون أن يُعلم من هذا الذي أرسل، ومن هذا الذي أعطى، وقد قال الربيع بن خثيم مرة لأهله: اصنعوا لي طعاما -وكان يحب ذلك النوع من الطعام- فصنعه له أهله كأحسن ما يكون، فأخذه وذهب به إلى أخ له مسلم ابتلاه الله جل وعلا بأنه ليس بذي لسان وليس بذي سمع وليس بذي بصر، يعني أصيب بمصيبة فقد معها البصر وفقد معها اللسان وفقد معها السمع، فإذا أتاه هذا وأطعمه أو أهدى إليه، فمن الذي يعلم بحاجته؟ من الذي يعلم بما أعطى؟ هذا الرجل لن يعلم ما فعله به الربيع بن خثيم مثلا، فأتى الربيع بن خثيم وأخذ هذه الحاجة؛ هذا الطعام الخاص الذي يحبه هو، وذهب به إلى ذلك الرجل الذي هو من إخوانه(7/10)
المؤمنين في بلده، فأخذه وأخذ يطعمه شيئا فشيئا حتى غذَّاه وأشبعه، فلما انصرف، فقيل له: يا ربيع فعلت فعلا لا ندري وجهه؟ قال: ما فعلت؟ قالوا: فعلت إذ أطعمت هذا، وهو لا يعرفك، ألم تكتفِ أن أعطيته أهله فأطعموه؟ قال: لكن الله جل جلاله يعلمه. وكم من آثار للسلف في هذا الباب فقد رعى بعض السلف حال أولاد أخ له يعني صاحب له رعى أحوال أهله وأحوال ولده أربعين سنة حتى توفي، قالوا فكأننا لم نفقد أبانا كأنهم ما فقدوا أباهم لشدة ما حصل لهم من البذل في ذلك. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذُكر عنه أنه لما مات بعض المشايخ الذين كانوا يعادونه، كان يسعى في حاجة أهله، في حاجة صغاره، ذلك أنه وإن عاداه فثَم حق للأخوة خاص؛ حق لعقد الإسلام، وهؤلاء المساكين من لهم؟ لهم الذي تخلص من شهوة نفسه, وتخلص من الانتصار لنفسه فبذل لهم, وكان يتعاهد أبناء وأهل أعدائه الذين عادَوه وسعوا به، إلى آخر ذلك، وهذا لاشك من امتثال الشرع، وجعل الشرع فوق هوى النفس، وفوق مُرادات النفس، هذا كله يحصل وربما وُفّق إليه الكثير، وهناك مرتبة من المراتب يُحث عليها وهي أن كثيرين قد يبذلون، وقد يكون له مع إخوانه مواقف حسنة ومواقف طيبة، لكنه يرى أن له فضلا بعد الإعانة، يرى أن له فضلا أن قَدَّم له، يرى أن له فضلا أن أعانه بمال، أن أعانه بجاه، أن أعانه ببذل، وحقيقة العبودية التامة، أن يكون المؤمن الذي بذل وأعطى شاكرا لله جل جلاله، أن جعله سببا من أسباب الخير، التي ساق الخير على يديها، فإن الله جل جلاله يستعمل بعض عباده في الخيرات، ومن الناس من عباد الله من هو مفتاح للخير مِغلاق للشر، فالعبد إذا أعان أخاه وإذا أعطاه وإذا بذل نفسه, إذا بذل جاهه له فإنه لا يستحب له، بل إنه ليس بمحمود في حقه، ولا هو من مكارم الأخلاق، أن ينتظر الثناء، وأن يُصبح يذل ويمنُّ بهذا الذي عمله، فإن حقيقة الإخلاص والمحبة وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، أن(7/11)
يعامله لأجل أمر الله جل وعلا بذلك، فينتظر الأجر والثواب من الله جل جلاله.
الحق الثالث من حقوق الأخوّة حفظ العِرض، وهو حق عظيم من الحقوق، بل لا يكاد تُفهم الأخوة الخاصة إلا أن يحفظ الأخ على أخيه عرضه، والأخوّة العامة؛ أخوّة المسلم للمسلم قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بحفظ الأعراض، فقد ثبت في الحديث الصحيح، حديث أبي بكرة في البخاري ومسلم وفي غيرهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم عرفة في خطبته في حجة الوداع يوم عرفة «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» إلى آخر الحديث، فعِرض المسلم على المسلم حرام بعامة، فكيف إذا كان بين المسلم والمسلم أخوّة خاصة وعقد خاص من الأخوة, كيف لا يحفظ عرضه، وقد قام بينهم من الأخوة والمحبة الخاصة ما ليس بينه وبين غيره، إذا كان المسلم مأمورا أن يحفظ عرض أخيه الذي هو بعيد عنه، الذي ليس بينه وبينه صلة ولا محبة خاصة، فكيف بالذي بينه وبينه موادّة، وتعاون على البر والتقوى، وسعي في طاعة الله، وفي العبودية لله جل جلاله، واكتساب الخيرات، والبعد عن المآثم.
لحفظ العرض مظاهر؛ لأداء هذا الحق مظاهر, هذا الحق أن تحفظ عرض أخيك الذي بينك وبينه أخوّة خاصة، وكذلك أخوك الذي بينك وبينه أخوّة عامّة لذلك مظاهر؛ من مظاهره:(7/12)
? أولا أن تسكت عن ذكر العيوب؛ لأن المصادقة أو الأخوة الخاصة تقتضي أن تطّلع منه على أشياء، يقول كلمة، يتصرف تصرفا، فعل فعلا, ما معنى الأخوة الخاصة إلا أن تكون مؤتمنا على ما رأيت، أن تكون مؤتمنا على ما سمعت، وإلا فيكون كل واحد يتحرز ممن يخالطه، فليس ثَم إذن إخوان صدق، ولا إخوان يحفظون المرء في حضوره، وفي غيبته، مما حَدَا ببعض الناس لما رأى الزمن -زمنه- لما رأى زمنه خلا من هذا الصديق، وهذا المحب الذي يحفظ عِرضه، ويكون وفيًّا معه، هداه أن ألف كتابا وسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لأنه وجد الكلب إذا أحسن إليه من ربَّاه، فإنه يكون وفيا له، حتى يبذل دمه لأجل من أحسن إليه، فقال تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لأن كثيرين يخونون؛ يخالط مخالطة خاصة، ويطّلع على أشياء خاصة، ثم ما يلبث أن يبُثَّها، وأن يذكر العيوب التي رأى، وأن يفضحه بأشياء، لو كان ذاك يعلم أنه سيخبر عنه لعدّه عدوا، ولم يعدّه حبيبا موافيا، لهذا من حق أخيك عليك أن تحفظ عرضه بالسكوت عن ذكر عيوبه، سواء بمحضر الناس في حضرته، أو في غيبته من باب أولى، فإن حق المسلم على المسلم أن يحفظ العرض فكيف إذا كان ذلك خاصا.
?من مظاهر حفظ هذا الحق أن لا تدقق معه السؤال، وأن لا تبحث معه في مسائل لم يبدها لك، مثلا تراه في مكان، فتقول ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ما الذي حضر بك؟ لماذا ذهبت إلى فلان؟ (وُوشْ عندك وفلان؟) إلى آخره من التدخل فيما لا يعني, إذا أحب أخبرك، وإذا لم يحب فإن الكتمان له فيه مصلحة، والمرء من حُسن إسلامه أن يترك ما لا يعنيه، ما ثبت ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فإذا رأيته في حال، إذا رأيته متوجها لشيء، فلا تسأله عن حاله، لا تسأله عن الوُجهة التي هو ذاهب إليها؛ لأن عقد الأخوة لا يقتضي أن يخبرك بكل شيء، فإن للناس أسرارا وإن لهم أحوالا.(7/13)
? المظهر الثالث من مظاهر حفظ العرض أن تحفظ أسراره, وأسراره هي التي بثها إليك، بثّ إليك نظرا له، بثّ إليك رأيا رآه في مسألة, تكلمتم في فلان، فقال لك رأيا له في فلان، تكلمتم في مسألة فله رأي فيها بثَّه إليك؛ لأنك من خاصته، ولأنك من أصحابه، ربما يخطئ وربما يصيب، فإذا كنت أخا صادقا له فإنما بث إليك ذلك لتحفظه لا لأن تشيعه، لأن مقتضى الأخوة الخاصة أن يكون ما بين الأحباب سر، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود في سننه «الرجل إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت عنه فهي أمانة» هي أمانة، والله جل وعلا أمرنا بحفظ الأمانات، وحفظ الأعراض، لأنّك إذا ذكرت هذا الرأي منه، فإن الناس سيقعون فيه، ترى منه رأيا عجيبا، تقول فلان يرى هذا الرأي، فلان يقول في فلان كذا، ما معنى الأخوَّة؟ هل تُشيع عنه ما يرغب أن يُشاعَ عنه؟ بل أعظم من ذلك أن يأتي أخ بينه وبين أخيه عقد أخوّة خاصة فيستكتمه على حديث فيقول: هذا الحديث خاص بك لا تخبر به أحدا. فيأتي هذا الثاني ويخبر ثالثا ويقول: هذا خاص بيني وبينك ولا تخبر أحدا. ثم ينتشر في المجتمع والأول غافل عنه، كما قال الشاعر:
وكل سرٍّ جاوز الاثنين فإنه
بنفس وتكسيرِ الحديثِ قمين(7/14)
فهذا واقع، فإن المرء إذا اصطفى آخر؛ إذا اصطفى صاحبا له، أخا له فأخبره بسر، فلا بد من الكتمان، خاصة إذا استأمنه عليه، فإذا لم يستأمنه عليه فكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا حدَّث الرجلُ الرجلَ بحديث ثم التفت عنه فهي أمانة» فكيف إذا استكتمه إياه، ولم يأذن له بذكره، من مظاهر حفظ العرض أن يُحجم المرء عن ذكر المساوئ التي رآها في أخيه، أو في أهله أو في قرابته، أو في ما سمع منه، مثلا واحد يتّصل بأخيه، فيسمع -وهذا ساكن مثلا مع أهله أو منفرد- فيسمع في بيته ما لا يُرضي، فيذهب ويخبر؛ يقول: سمعت في بيت فلان كذا وكذا، وكذا. أو يراه على حال ليست بمحمودة، فيذهب يخبر بمساوئه، ليس هذا من حفظ العرض، بل هذا من انتهاك العرض، والواجب عليك أن تحفظ عرض أخيك، وإذا سمعت شيئا عنه، أو رأيته هو على حال، أو تكلم بمقال، أو رأيته على شيء لن يحمد، أو نحو ذلك فحفظ عرضه هو الواجب، لا أن تبذل عرضه، وأن تتكلم فيه؛ لأن العرض مأمور أنت بحفظه، والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. مسألة النصيحة تأتي إن شاء الله بحق خاص فيما يكون بين الإخوان من التناصح.(7/15)
قد قال عليه الصلاة والسلام «لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» لقد اشتمل على كلمتين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث المتفق على صحته «لا تحسسوا ولا تجسسوا» الفرق بين التحسس والتجسس كما قال طائفة من أهل العلم -وثَم خلاف في ذلك- قالوا: التجسس يكون بالعين، والتحسس يكون بالأخبار، دليل ذلك قوله جل وعلا ?يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ?[يوسف:87]، (تَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) من التحسس، وهو طلب الخبر، أما التجسس فنهى الله جل وعلا عنه في قوله ?وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا?[يوسف:12]، التجسس بالعين، تبدأ تنظر تتبعه، رأيته يسير في مسير، فتنظر إليه وتتبعه حتى تعرف خبره, لا اِحْمَدِ الله جل وعلا أن لم ترَ من أخيك إلا خيرا، كذلك التحسس ما أخبار فلان؟ إيش قال فلان؟ وهو من إخوانك وأصحابك الصادقين الذين بينك وبينهم خُلّة، وبينك وبينهم، وفاء وصحبة، فلا تحسس في أخباره، ولا تجسس عليه، فإن ذلك منهي عنه المسلم مع إخوانه المسلمين بعامة، فكيف بمن له معهم عقد أخوّة خاصة، لا تحسسوا يعني لا تتبع أخبار إخوانك، ولا تتجسسوا يعني لا تذهب بعينك, تنظر ما ذا فعل، وما ذا فعل، فإن هذا من المنهي عنه وهو من المحرمات.(7/16)
الحق الرابع من الحقوق أن تُجنِّب أخاك سوء الظن به, لأن سوء الظن به مخالف لما تقتضيه الأخوة، مقتضى الأخوة أن يكون الأخ لأخيه فيه الصدق والصلاح والطاعة، هذا الأصل في المسلم، الأصل في المسلم أنه مطيع لله جل وعلا، فإذا كان من إخوانك الخاصة، فإنه يكون ثم حقان؛ حق عام له، وحق خاص بأن تجنبه سوء الظن، وأن تحترس أنت من سوء الظن، والله جل وعلا نهى عن الظن، فقال سبحانه ?اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12] قال العلماء على قوله جل وعلا (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أن الظن منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود، فما كان من الظن محمودا، هو ما كان من قبيل الأمارات والقرائن التي هي عند القضاة، وعند أهل الإصلاح، وأهل الخير، الذي يريد النصيحة أو يريد إقامة القرائن والدلائل عند القاضي، فالقاضي يقيم الحجة ويطلب البيّنة، وكثير منها قائم في مقام الظنون، لكن هنا يجب أن يأخذ بها، فالاجتناب لكثير من الظن؛ وهذا الظن هو أن تظن بأخيك سوءا، أن تظن بأخيك شرا، وقد قال عليه الصلاة والسلام «إياكم والظن» فهذا عام، ظنٌّ من جهة الأقوال، ونهي عن الظن من جهة الأفعال، «فإن الظن أكذب الحديث» هذا نصه عليه الصلاة والسلام, الظن هو أكذب ما يكون في قلبك، فإن الظن أكذب الحديث إذا حدثتك نفسك من داخلك بظنون، فاعلم أن هذا هو أكذب الحديث، إذن حق أخيك عليك ألا تظن به إلا خيرا، وأن تجتنب معه الظن السيئ كما أمرك الله جل وعلا بذلك بقوله ?اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12] فالظن السيئ إثم على صاحبه، يأثم به لأنه خالف الأصل، وقد روى الإمام أحمد في الزهد ورواه غيره أن عمر رضي الله عنه قال ناصحا: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا. لاحظ أنه نهى عن الظن السيئ في الأقوال، ما دام أن الكلام يحتمل(7/17)
الصواب، يحتمل الخير فلا تظنن السوء بأخيك، لأن الأصل أنه إنما يقول الصواب، لا يقول الباطل، فإذا كان الكلام يحتمل الصواب فوجِّه إلى الصواب، فيسلم أخوك من النقد ويسلم من الظن السيئ، وتسلم أنت من الإثم، وأيضا يسلم من التأثر؛ تسلم ويسلم هو من أن يتأثر به ويقتدى به، لهذا قال عبد الله بن المبارك الإمام المجاهد المعروف قال: المؤمن يطلب المعاذير. يلتمس المعذرة؛ لأن الأحوال كثيرة، والشيطان يأتي للمسلم فيحدّد الحالة، يُحدِّد معنى الكلمة بشيء واحد حتى يوقع العداوة والبغضاء ?إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ?[المائدة:91]؛ الشيطان يحدد لك أن تفسير هذه الحالة هو كذا فقط، أن تفسير هذه المقالة هو كذا فقط، حتى تكون ظانّا ظنا سيئا فتأثم، وحتى يكون بينك وبين أخيك النفرة وعدم الائتلاف، وهناك أصل من الأصول في فهم الكلام وهو أن لكل كلام دِلالة؛ ودلالة الكلام عند الأصوليين متنوعة، ومن دلالاته ما يسمى بالدِّلالة الحملية، يعني دلالة السياق على الكلام، هناك كلام إذا أُخذ بمفرده دل على شيء، ولكن إذا أخذ بسياقه؛ يعني سباقه ولحاقه بما قبله وبما بعده أوضح المراد، فإذا الكلام صادر من مؤمن، صادر ممن بينك وبينه أخوة، سمعت منه كلمة فلا يأتي الشيطان وينفخ فيك أن تحمل هذه الكلمة على المحمل السوء، بل احملها على المحمل الخير يكن في قلبك إقامة المودة مع إخوانك، وأيضا لا يدخل الشيطان بينك وبين إخوانك، فرعاية الدلالة الحملية؛ دلالة الكلام هذه مهمة، وهي التي يعتمدها أهل العلم في فهم الكلام، وكذلك يعتمدها الصالحون في فهم كلام الناس، لأن الناس إنما يُفهم كلامهم على ما يدل عليه الكلام بكله لا بلفظة منه فقط، فإن الألفاظ قد تخون المتكلم، لكن إذا عُلم مقصده في كل(7/18)
الكلام فإنه يُعذر، وقد بينا أن من كلام الناس -يعني في الدرس الماضي- وهو من باب أولى، من كلام الناس ما هو متشابه يشتبه على الناظر فيه، يشتبه على السامع له، فإذا نظر إلى هذا الكلام نظر طالب للمعذرة, طالب لحمل الكلام على أحسن محامله، فإنه يستريح ويُريح، ويبقى هذا الحق ويكون قد أدّى هذا الحق لأخيه, إذن من فسر كلام أخيه تفسيرا مغالطا؛ زاد فيه، حمله على أسوأ المحامل, فإنه لم يؤدِّ حقه، كذلك في باب الأفعال, تصرّف أمامه بتصرف معين، تكلم هذا بكلمة، فإذا الآخر التفت إلى من بجنبه ونظر إليه نظرة، فأتاه الشيطان فقال: هذا ما نظر إلى ذاك، إلا منتقدا لكلامك، أو إلا عائبا لكلامك ونحو ذلك، لا يدخل الشيطان أيضا في تفسير الأفعال، لأن الأفعال لها احتمالات كثيرة، وقليل من الناس من يسأل أخاه لما تصرفت هذا التصرف، فقد جاء في نفسي منه؟ قليل من يفعل ذلك، ولهذا يأتي الشيطان ويقول: هذا التصرف هو لكذا، وتصرف لأجل هذا المعنى، هو يقصد كذا، هذه التصرفات منه لأجل أن يصل إلى كذا، هو يريد بتصرفه كذا وكذا. التصرفات لها محامل كثيرة، فإذا حملت تلك التصرفات على أمر واحد، وشخَّصت ذلك التصرف فيه، فإنك في الواقع جنيت على نفسك، ولم تحترم عقلك وفكرك، لأنك جعلت احتمالات التصرف احتمالا واحدا, هذا واحد، والثاني أنك جنيت على أخيك، لأنك جعلت تصرفه محمولا على أسوء التصرفات، أسوء المحامل لا على أحسنها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إياكم والظنّ, فإنّ الظنّ أكذبُ الحديث».(7/19)
الحق الخامس من حقوق الأخوّة أن تتجنّب مع إخوانك المراء والممارات, فإن المراء مُذْهِبٌ للمحبة، ومُذْهِبٌ للصداقة، مُفسد للصداقة القديمة، ومُحلّ للبغضاء والتشاحن والقطيعة بين الناس. ما معنى المراء؟ يعني أن يكون ثَم مناقشة، ثَم بحث؛ يبحث رجل مع رجل، تبحث امرأة مع امرأة إلى آخره, كبير مع صغير, صغير مع كبير، فإذا أتى البحث، هذا يتعصب لرأيه، وهذا يتعصب لرأيه، فيماريه فهذا يشتدّ وذاك يشتدّ، هذه حقيقة الممارات؛ أن ينتصر كل منهما لرأي رآه، فيأتي بالأدلة فيرفع صوته، ثُم بعد ذلك يحصل في النفوس ما يحصل، وقد كان بعض ذلك بين الصحابة، فقد قال أبو بكر مرة لعمر: ما أردتَّ إلا مخالفتي. وهم الصحابة رضوان الله عليهم، فيجب أن يكون المسلم مع أخيه، ومع صحبته، ومع خاصته مُتنزهًا عن الممارات، لأن وجهات النظر في المسائل تختلف، كلما توسع نظر المرء، وتوسع عقله وإدراكه، علم أن النظر في بعض المسائل متسع، لا يكون على جهة واحدة, تناقش مسألة من المسائل فتنظر إليها من جهة, وينظر إليها الآخر من جهة أخرى، فتختلف أنت وهو، فإذا اختلفتما فكل منكما له وجهة نظره، فإذا ماريت واستدللت لقولك وتعصبت ثم رفعت صوتك والآخر كذلك حتى حصلت الشحناء؛ حصلت مفسدة ولم تحصل مصلحة، والعاقل ينظر إلى أن الأمور التي يتناقش فيها الناس عادة في أمورهم تختلف وُجهاتها، لها وجهات كثيرة، ولها أسباب كثيرة، قد يأتي ثالث ورابع فيخرج كل واحد برأي جديد, يُخرج كل واحد ممن أتى رأيا جديدا, وجهة نظر جديدة في المسألة المطروحة، فإذن النقاش لا يعني المراء، إذا بدأت المسألة تدخل في المِراء فانسحب سواء كنت محقا أو ترى من نفسك أن الصواب مع أخيك وليس معك، وقد قال عليه الصلاة والسلام «من ترك المِراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة, ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة» فترك المراء محمود، وهو من حق الأخ على أخيه ألا يستدرجه في أن(7/20)
يماريه، لا يستدرجه في أن يجادله, أن لا يستدرجه في أن يكون هذا يرفع الصوت على هذا، حتى تنقطع الأخوّة وحتى يعدو هذا على هذا بالكلام، وإن لم يعدُ بالكلام، فقد يعدو بقلبه، ويظن أن هذا قصد كذا، وخالفه، ويرى كذا، وهذا لا يقدر هذا إلى آخر ذلك من مساوئ الشيطان.
المراء له أسباب؛ أسباب نفسية لابد أن يعالجها المرء في نفسه:
? من أسبابه أن يُظهر أنه لم يستسلم لوجهة النظر، يقول رأيا خطئا، فيأتي الثاني فيقول أنت أخطأت ليست كذا هي كذا، فيستعظم أن يخطأ, وإذا أخطأ فالحمد لله، العلماء أخطأوا في مسائل في الدماء ورجعوا عنها، أخطأ بعضهم في مسائل في الفروج ورجعوا عنها؛ في مسائل اجتهادية، الرجوع عن الخطأ مَحْمَدَة وليس بعيب، فكل من رجع عن خطأ أخطأ فهو تاج على رأسه، فهو يدل على أنه روّض نفسه في طاعة الله، وجعل العبودية فوق الهوى، من أسباب المراء هذا الذي ذكرت.
? ومن أسبابه الرغبة في الانتصار، هذا يرغب في أن يكون أحسن عقلا، في أن يكون أحسن إدراكا من الآخر، فيبدي وجهات نظر متنوعة، والآخر يبدي وجهات نظر من جهة أخرى، يريد أن يكون فائقا عليه، فيماريه بأن يقول هذا الذي ذكرت، هذه النقطة خطأ بل الأصح أنها كذا، فيدخل في مراء بأسلوب يوقع الشحناء ويوقع البغضاء في القلوب.(7/21)
?من أسباب المراء أيضا عدم رعاية آفات اللسان، واللسان فيما ينطق، وفيما يتحرك به محاسب عليه، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقد قال جل وعلا ?خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114], «كُفّ عَلَيْكَ هَذَا» -وأشار إلى لسانه- فقال معاذ: يا رسول الله أو إنا محاسبون على ما نقول, قال «ثَكِلَتْكَ أمّك يَا مُعَاذُ, وَهَلْ يَكُبّ النّاسَ في النّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ, أَوْ قال عَلَى مَنَاخِرِهِمْ, إِلاَ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» فمن أسباب الممارات عدم رعاية إصلاح اللسان، الاستخفاف باللسان، واللسان كما قيل صغير الجِرم لكنه كبير الجُرم؛ يعني أن ما يحصل من الآفات عن طريق اللسان هذه عظيمة، فبها يتفرق الأحباب، بها تحصل الشحناء، بها تحصل العداوة، بها يدخل العدو، بها يدخل من يريد أن يوقع بينك وبين أحبابك، يدخل الكثير من جراء اللسان, فمن لم يحفظ لسانه من جرّاء الممارات في المسائل المختلف فيها التي تكون في المجالس عادة، فإنه يقع ولا بد ويكون بينه وبين إخوانه ما لا يحمد.
أخيرا في الممارات وفي المراء, المراء مضاد لحسن الخُلق، فإن الناظر إذا تأمل ما يجب عليه من حسن الخُلق، فإنه لا يماري، لأن الممارات فيها انتصار، وفيها استعلاء على الآخر، وهذا مضاد لحسن الخلق، بل تُبدي ما عندك بهدوء ولين، فإن قُبل منك فالحمد لله، وإلا تكون ذكرت وجهة نظرك, بعض الناس في المجالس يؤدي به المراء أن يكرر نفس الفكرة عشر مرات, عشرين مرة وهي، هي، يعيدها بصيغة أخرى، هذا ما يحمله على ذلك؟ يحمله الانتصار للنفس، أو أسباب أخرى الله أعلم بها، أو غفلة عما يجب عليه، إذا أوردتها مرة فُهمت عنك فلا تماري في ذلك؛ لأن حقيقة المراء أنه مضاد لحسن الخلق، والمسلم مأمور بأن يحسّن خلقه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك في أحاديث كثيرة.(7/22)
الحق السادس من حقوق الأخوة بذل اللسان لأخيك؛ اللسان كما أنه في حفظ العرض كففت اللسان عن أخيك، فهنا من الحقوق أن تبذل اللسان له؛ لأن المصاحبة والأخوّة قامت على رؤية الصور فقط، أم على الحديث؟ إنما قامت على الحديث، وحركة اللسان هذا مع حركة لسان الآخر تُقيم بين القلوب تآلفا، فلذلك لابد أن تبذل اللسان لأخيك.
لهذا مظاهر:
? تبذل اللسان في التودُّد له، يعني لا تكن شحيحا بلسانك عن أن تتودد لأخيك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه فإذا أعلمه فليقل الآخر أحبك الله الذي أحببتني فيه»، هذا من أنواع بذل اللسان، وهذا يورث المودة، يورث المحبة، ومن الناس من يقول هذه الكلمة وهو غير صادق فيها، أو غير عالم بحقيقة معناها، يقول أحبّك في الله، إذا قلت لآخر أحبك في الله، فمعنى ذلك أن في قلبك محبة لهذا؛ محبة خاصة في الله ولله، فيقتضي أن تحفظ حقه، أما أن تقول له أحبك في الله وأنت في الحقيقة لا تحفظ له حقا، فما حقيقة المحبة إذن، الأول أن تتودد له باللسان؛ بمثل أن تقول له هذه الكلمة، بأن تتكلم معه بأحسن الكلام، وقد قال جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، قال ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[الإسراء:53]، فهذا بذل اللسان لأخيه أن تنتقي في معاملتك مع إخوانك ومع خاصتك بل ومع المسلمين بعامة أن تنتقي اللفظ الحسن فقط؟ لا , ولكن أحسن الألفاظ لأن الله جل وعلا أمر بذلك فقال?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53] فإذا توددت له باللسان وذكرت له أحسن ما تجد فإن هذا فيه إقامة علاقة القلب ومحبة القلب وفي هذا من المصالح التي تكون في المجتمع المسلم وفي قلوب المؤمنين بعضهم مع بعض ما يضيق المقام عن ذكره وعن تَعداده.(7/23)
? من مظاهر التودد باللسان أو بذل اللسان له؛ من مظاهر بذل اللسان للأخ أن تثني عليه في غير حضوره إذا خالطتَ أحدا وتعلم من أخيك هذا صفات محمودة، تثني عليه في غير حضوره؛ لأنك إذا أثنيت عليه في حضوره صار مدحا، والمدح ممنوع لأنه يورث عجباً، لكن تثني عليه في غير حضوره، هل الثناء عليه لابد أن يبلغه، فتقوم المحبة صادقة، فتقوم المحبة قياما صحيحا, الثاني أن ذكر محاسن أخيك عند غيرك تجعل أولئك يجتهدون في الإقتداء، ويعلمون أن الخير فيه أناس كثيرون يعملون به، فالمرء إذا ذُكر عنده الخير تشجع له، وإذا ذكرت عنده الشرور تشجع لها، فذكر الخيرات في المجالس هو الذي ينبغي، أما ذكر الشرور وذكر الآفات وذكر المعايب فإنه هو الذي يجب الالتفات عنه، لأن في ذكر المعايب ما ييسر سبيل الإقتداء بأهلها فيها، وفي ذكر المحاسن والثناء على أصحابها فيه ما يشجع على الإقتداء بهم فيها، فإذن من حق أخيك عليك أنك إذا نظرت له من حسنة فلا تخفها، وإذا نظرت منه إلى سيئة فأخفها، وفي ذلك من المصالح ما هو معلوم، أيضا يتبع هذا المظهر أنه إذا أثني عليه فتدخل السرور على قلبه بإبلاغه بالثناء عليه, أثنى عليك بعض الأخوة في مجلس, أثنى عليك فلان لأنه هو لا يعلم, فإذا علم أن فلانا أثنى عليه صار قلبه محبا له، والناس محبون لمن أحسن إليهم:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
والإحسان يكون بالكلمة كما يكون بالفعل، فإذا سمعت أن هناك من يثني عليه فتبلغه؛ الحمد لله والله أثنى عليك فلان وقال عليك خيرا نسأل لك الثبات ونحو ذلك، وهذا يشجعه، الآخر ينبغي له في حقه أن ينتبه لنفسه، وإذا اُثني عليه يعلم أن المنة من الله جل وعلا عليه عظمت، وأن شكر الله بملازمة ما أثني عليه به من الحق، وألا يغتر بنفسه.(7/24)
? من مظاهر بذل اللسان للأخ شكرُه على بذله وعلى حسن المعاملة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يشكر الله من لا يشكر الناس», «من صنع إليكم معروفا فكافئوه» إذا لم تجد ما تكافؤه تجازيه خيرا؛ تدعو له, تشكره، هذا من حق الأخ لأخيه, من الناس من يأخذ ويأخذ ويأخذ ولا يعوض ولا يثني ولا يذكر، إذا لما استطعت أن تبذل بكلمة، أبذل برسالة، أبذل بورقة، بنصف ورقة، فإن هذا فيه أثر، وفيه تشجيع لأبواب الخير، وقد قال علي فيما روي عنه (من لم يحمد أخاه على حسن النية، لم يحمده على حسن الصنيعة), هذه مرتبة عُليا؛ من لم يحمد أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنيعة؛ لأن أخاك إذا بذل لك فإنه في أول الأمر حَسَّن نيته معك، وعاملك معاملة من يريد الخير، قد يكون بذل لك فعلا، أو يكون أراد أن يبذل، ولم يحصل له، يشكره حتى على حسن النية على ما قام في قلبه، لأن في هذا عقد للأخوة، وفيه تشجيع على بذل الخير، وأن يبذل كل أخ لأخيه, من لم يحمد أخاه على حسن النية،لم يحمده على حسن الصنيعة، يعني لو فعل معه صنيعة فإنه ربما لم يحمده عليها.
الحق السابع من حقوق الأخوة العفو عن الزَّلات، وهذا باب واسع، باب عظيم؛ لأن ما من متعاشرَين، ما من متصاحبين، ما من متآخيين، أو ما من متآخيين، إلا ولابد أن يكون بينهم زلات، لابد أن يطلع هذا من هذا على زلة، على هفوة، لابد أن يكون منه كلمة، لأن الناس بشر، والبشر خطّاء، «كُلّكم خَطّاءٌ. وَخَيْرُ الْخَطّائِينَ التّوّابُونَ» فمن حق الأخوة أن تعفو عن الزلات.
الزلاّت قسمان: زلات في الدين وزلات في حقك, يعني زلات في حق الله وزلات في حقك أنت:(7/25)
· أما ما كان في الدين؛ إذا زلّ في الدين بمعنى فرّط في واجب؛ عمل معصية، فإن العفو عن هذه الزلة أن لا تشهرها عنه، وأن تسعى في إصلاحه، لأن محبتك له إنما كانت لله، وإذا كانت لله فأن تقيمه على الشريعة، وأن تقيمه على العبودية، هذا مقتضى المحبة, فإذا كانت في الدين تسعى فيها بما يجب؛ بما يصلحها، إذا كانت تصلحها النصيحة فانصح، إذا كان يُصلحها الهجر فتهجر، والهجر كما ذكرنا لكم في درس سالف الهجر نوعان: هناك هجر تأديب, وهناك هجر عقوبة, هناك هجر لحضك، وهناك هجر لحض المهجور، إذا كان هو عمل زلة، فما كان لحضه هو إذا كان ينفع فيه الهجر فتهجره, إذا كان بين اثنين من الأخوة والصحبة والصداقة ما لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر فرأى أحدهما من أخيه زلة عظيمة، رأى منه هفوة بحق الله جل وعلا، فيعلم أنه إذا تركه ولم يجبه، إذا لقيه بوجه ليس كالمعتاد، فإنه يقع في نفسه أنه عصى، ويستعظم تلك المعصية، لأن هذا لا يستغني عن ذاك، فهذا يُبذل في حقه الهجر، لأن الهجر في هذه الحال مصلح، أما من لا ينفع فيه الهجر، فالهجر نوع تأديب وهو للإصلاح، ولهذا اختلف حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المخالفين؛ مع من عصى، فهجر بعضا، ولم يهجر بعضا، قال العلماء: مقام الهجر فيمن ينفعه الهجر فيمن يصلحه الهجر ومقام ترك الهجر فيمن لا يصلحه ذلك.(7/26)
· أمّا ما كان من الزلات في حقك، فحق الأخوّة أولا أن لا تعظِّم تلك الزلة, يأتي الشيطان فينفخ في القلب، ويبدأ يكرر عليه هذه الكلمة، يكرر عليه هذا الفعل حتى يعظمها، يعظمها وتنقطع أواصل المحبة والأخوة، ويكون الأمر بعد المحبة وبعد التواصل، يكون هجرانا وقطيعة للدنيا، وليس لله جل جلاله, سبيل ذلك أن تنظر إلى حسناته؛ تقول أصابني منه هذه الزلة، غلط علي هذه المرة، تناولني بكلام، في حضرتك أو في غيبتك، لكن تنظر إلى حسناته، تنظر إلى معاشرته، تنظر إلى صدقه معك في سنين مضت، أو في أحوال مضت، فتعظم الحسنات، وتصغر السيئات، حتى يقوم عقد الأخوة بينك وبينه، حتى لا تنفصل تلك المحبة.(7/27)
الحق الثامن من حقوق الأخوة الفرح بما آتاه الله جل وعلا, فرح الأخ لأخيه بما آتاه الله جل وعلا، الله سبحانه قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فضَّل بعضهم على بعض، فحق الأخ لأخيه، وحق الأخ على أخيه أنه إذا آتى اللهُ جل وعلا واحدا من إخوانك فضلا ونعمة فتفرح بذلك، وكأن الله جل وعلا خصك بذلك، وهذا من مقتضيات عقد الأخوّة، وهذا طارد للحسد، ومن لم يكن فرحا بما آتى اللهُ جل وعلا إخوانه فإنه قد يكون غير فرح مجردًا، وقد يكون غير فرح وحاسد أيضا، وهذا من آفات الأخوة فإنك تنظر أحيانا فترى أن هذا إذا رأى على أخيه نعمة، أو رأى أن أخاه قد جاءه خير وفضل من الله جل وعلا، وأسدى الله جل وعلا عليه نعم خاصة، بها تميز عمن حوله، أو تميز عن أصحابه، فإنه يأتي ويعترف بنفسه لهذا، لما أوتي هذا الشيء؟ أو ينظر في نفسه أن هذا لا يستحق هذا الشيء، أو نحو ذلك، وهذا من مفسدات عقد الأخوة، بل الواجب أن تتخلص من الحسد، وينبغي لك أن تفرح لأخيك، وأن تحب له كما تحب لنفسك، وقد قال عليه الصلاة والسلام «لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبّ لأِخِيه ما يُحِبّ لِنَفْسِهِ» قال أهل العلم (لا يُؤْمِنُ) يعني الإيمان الكامل، (لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ) الإيمان الكامل، (حتى يُحِبّ لأِخِيه ما يُحِبّ لِنَفْسِهِ)؛ تحب لنفسك أن تكون ذا مال، فكذلك أحب لأخيك أن يكون ذا مال, تحب لنفسك أن تكون ذا علم، أحب لأخيك أن يكون ذا علم, تحب لنفسك أن يُثنى عليك، كذلك أحب لأخيك أن يثنى عليه, وهكذا في أمور شتى وكثيرة, فطارد الحسد أن تفرح بما من الله جل وعلا به على إخوانك، وكأن الله جل جلاله حباك بهذا، فإن المؤمن ينبغي له، ويُستحب، بل ويتأكد بحقه أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبّ لأِخِيه ما يُحِبّ لِنَفْسِهِ»يغني من الخير كما جاء ذلك مقيدا في رواية أخرى، فأمور الخير بعامّة، أحب لأخيك ما تحب(7/28)
لنفسك، ولا تحسد أحدا على شيء من فضل الله ساقه إليه.
في المال: إذا أنعم الله جل وعلا على أخيك بمال، وصرت أنت معدما مثلا، أو قليل المال، وذاك في عزٍّ، وفي مال وفير، تستغرب من تصرفاته، تستغرب من مشترياته، تستغرب من أحواله، تستغرب من كرمه إلى آخر ذلك، فاحمد الله جل وعلا أن جعل أخاك بهذه المثابة، وكأنك أنت بهذه المثابة، ووطِّن نفسك على أن يكون ما أنعم الله جل وعلا به على أخيك كأنه أنعم عليك.
كذلك في العلم: من الناس من لا يفرح بما آتى الله جل وعلا أخاه من العلم، يسمع أخاه مثلا حقّق مسألة تحقيقا جيدا، أو تكلم في مكان بكلام جيد، أو ألقى خطبة جيدة، أو أثر في الناس بتأثير بالعلم، ساق العلم مساقا حسنا ونحو ذلك، فيظل يعتلج في نفسه ذلك، ولا يفرح أن كان أخوه بهذه المثابة، وعلى هذه الحال، هذا لا يسوغ، بل من حقوق الأخوة أن تفرح لأخيك بالعلم، إذا كنت مثلا لست مثله في العلم، أو كنت متخلّفا عنه في العلم، وكان هو أحدّ فهما، أو كان أحدُّ حفظا، أو نحو ذلك، سبقك في ذلك، فاحمد الله جل جلاله أن سخر من هذه الأمة، وأن جعل من هذه الأمة من يبذل هذا الواجب ويكون متقدما فيه، لا تكن حاسدا لإخوانك على هذا.
والحسد داء قاتل، ومُذهب للحسنات، كما قال عليه الصلاة والسلام «إياكم والتحاسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وهذا يكون تارة في العلم، وتارة في المال، وتارة في الجاه، وفي أمور كثيرة, كذلك هذا وهذا متآخين ومتصاحبين يرى أنى أخاه يقدم عليه، أن أخاه له في المجالس كلمة، أن أخاه له جاه، أنه مقدّر، وهو ليس كذلك، فيحمله هذا على أ ن يكون في قلبه شيء على أخيه، وهذا لا ينبغي، بل هذا يدخل في الحسد، والواجب عليه أن يتخلص من الحسد؛ لأن الحسد محرم، والذي ينبغي في حقه أن يحب لأخيه كما يحب لنفسه، وكأنه هو الذي منَّ الله جل وعلا عليه بذلك.(7/29)
كذلك في الدين والصلاح: من الناس من يُنعم الله عليه، يعني يفتح له باب من أبواب الخير في العبادة، فيكون كثير الصيام، أو كثير الصلاة، وقد سُئل الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقيل له أنت الإمام، أنت مالك، وشأنك في الناس بهذه المثابة، ولا نراك كثير التعبد، لا نراك كثير الصلاة، لا نراك كثير الصيام، لا نراك مجاهدا في سبيل الله، فقال الإمام مالك لهذا الذي أورد عليه هذا الإيراد: إن من الناس من يفتح الله عليه باب الصلاة، ومنهم من يفتح الله عليه باب الصيام، ومنهم من يفتح الله عليه باب الصدقة، ومنهم من يفتح الله عليه باب الجهاد في سبيل الله، ومنهم من يفتح الله عليهم باب العلم، وقد فُتح لي باب العلم، ورضيت بما فتح الله لي من ذلك. الناس يختلفون، فإذا رأى أخا يتعبد والناس يثنون عليه بتعبداته، قد يحمله عدم الفرح بهذا الثناء على أخيه، أن يذكر عيبا من عيوبه، أن يذكر مقالة أخطأ فيها، أن يذكر شيئا من الأشياء التي ينقص بها من قدره، وهذا مخالف لما ينبغي في حقه، وأن يكون مع أخيه محبا له، كما يحب لنفسه، وأن يسعى في أن يكون أخوه مثنى عليه، ولو كان هو لا يعرف، ليست المسألة بالمقام بين يدي الناس، بل المسألة بالمقام بين يدي الله جل وعلا، بل المسألة في تخليص القلب، وتخليص النفس من أن يكون فيها غير الله جل جلاله، وقد ثبت في الحديث الصحيح في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ينظر إلى القلوب، وينظر إلى الأعمال، قد يكون المرء غير معروف خفي، لا أحد يعرفه، لكن هو عند الله جل وعلا بالمقام العظيم، كما جاء في الحديث «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه».
هناك حقوق أُخر أذكر منها اثنين الحق التاسع والعاشر، وتنظرون فيهما، وتُفرّعون كما ذكرنا:(7/30)
الحق التاسع أن يكون بينك وبين إخوانك تعاون في الخير والصلاح وقد أمر الله جل وعلا بذلك في قوله ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?[المائدة:2].
والحق العاشر والأخير أن يكون بين أصحاب الأخوة الخاصة تشاور وتآلف فيما بينهم وأن لا يكون عند الواحد منهم إنفراد بالأمر بل يكون التشاور والله جل وعلا مدح المؤمنين بذلك في قوله ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ?[الشورى:38].
وهذان الحقّان؛ التاسع والعاشر يحتاجان إلى تفصيل، وإلى بيان لكن ضاق الوقت عنه.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعا من المتحابين فيه، المتآخين فيه، الذين قال فيهم «أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي».
وأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، المتناصحين في ذلك، الباذلين الخير، المفتِّحين أبواب الخيرات، المغلِّقين أبواب الشرور، وأن يجعلنا ممن يقصدون بأعمالهم وجه الله جل وعلا، وأن يمن علينا بذلك، فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا به سبحانه، نسأل أن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولإخواننا المسلمين بعامة، وأن يوفقنا إلى ما يرضيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الفهرس
مقدمة..............................................................................3
?الحق الأول: أن يُحب أخاه لله لا لغرض من الدنيا....................................................4
?الحق الثاني: أن يقدم الأخ لأخيه الإعانة بالمال وبالنفس................................................5
?الحق الثالث: حفظ العِرض.........................................................................7
لأداء هذا الحق مظاهر: ?تسكت عن ذكر العيوب......................................................8(7/31)
? لا تدقق معه السؤال...........................................................8
? تحفظ أسراره.................................................................8
?الحق الرابع: أن تُجنب أخاك سوء الظن به............................................................9
?الحق الخامس: أن تتجنب مع إخوانك المراء والممارات..................................................11
المراء له أسباب: ? يُظهر أنه لم يستسلم لوجهة النظر...................................................12
? الرغبة في الانتصار..................................................................12
? عدم رعاية آفات اللسان.............................................................12
?الحق السادس: بذل اللسان لأخيك....................................................................12
لهذا مظاهر: ? لا تكن شحيحا بلسانك..................................................................13
? أن تثني عليه في غير حضوره..............................................................13
? شكرُه على بذله.........................................................................13
?الحق السابع: العفو عن الزَّلات.......................................................................14
?الحق الثامن: الفرح بما آتاه الله جل وعلا...............................................................14
في المال...................................................................................15
في العلم..................................................................................15
في الدين والصلاح.........................................................................16(7/32)
?الحق التاسع: أن يكون بينك وبين إخوانك تعاون في الخير والصلاح......................................16
?الحق العاشر: أن يكون بين أصحاب الأخوة الخاصة تشاور وتآلف فيما بينهم.............................16
الخاتمة.....................................................................................16
الفهرس......................................................................................17
قام بتفريغها: سالم الجزائري.
---
([1]) الحشر:9, التغابن:16.(7/33)
حُقوق الإنْسَان
[شريط مفرّغ]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الذي قال في محكم كتابه وهو أحكم الحاكمين ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً?[الإسراء:70].
أحمد الله جل وعلا الذي يعلم من خَلَق وهو اللطيف الخبير، وأُثني عليه الخير كله على أمره ونهيه، وعلى شرعه وعلى خلقه سبحانه وتعالى، فهو الذي أرشد الناس وأمرهم إلى ما فيه كمالهم وصلاحهم في دنياهم وآخرتهم.
فالحمد له جل وعلا كثيرا، كما تفضَّل علينا كثيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة: إنها لساعات مباركة؛ أنْ يتعلم من دينه ما لم يكن في علمه، أو أن يثبت في علمه ما قد يُنسيه الزمن إياه، ويتناساه مع كثرة الأمور وكثرة الشواغل، ولاشك أن هذه الشريعة شريعة الإسلام شريعة كاملة مباركة لم يأت للناس أبدا شريعة أكمل منها، جعل الله جل وعلا لكل نبي شرعة ومنهاجا، وجعل شريعة محمد عليه الصلاة والسلام شريعة كاملة صالحة ما بقي الزمان؛ يعني إلى يوم القيامة، صالحة لكل زمان ومكان، مهما تعددت الأمكنة، واختلفت الظروف، فإنَّ في شريعة الإسلام الحل لكل عويص والحفاظ على كل حق، والرِّفعة لكل ما فيه إعزاز الإنسان من حيث كونُه إنسانا، وإعزاز المسلم ورفعته لأنه حَمل رسالة التوحيد.
لهذا وجب على الجميع أن يتعرفوا إلى محاسن هذه الشريعة، وأن يعلموا من أحكامها ومقاصدها وأسرارها وما أَمرت به من الحقوق ما يبعثهم على أن يحافظوا عليها، وعلى أن يدعوا إليها، وعلى أن لا يُنصتوا لكل داع من دعاة الضلالة الذين يريدون أن يصدُّوا الناس عن الحق بأسماء وشعارات مختلفة.(8/1)
فنحمد الله جل وعلا أن جعلنا من المقبلين على هذه الشريعة، المتعلمين المتأدبين بأدب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إن هذه المحاضرات التي أقيمت في هذا الجامع المبارك، التي جعل عنوانها: الحقوق الشرعية. من أهمّ ما يكون أن يتعرف عليه المؤمن، وأن يعلمه المسلم، وذلك لأن الله جل وعلا أقام السموات، وأقام الأرض على حقين:
· على أداء حقه جل وعلا.
· وعلى أداء حقوق العباد.
وكل الرسل من أولهم إلى آخرهم والكتب إنما أنزلت لبيان هذين الحقين:
حق الله جل وعلا بعبادته وحده دونما سواه، والكفر بالأنداد والطواغيت المختلفة، وطاعة رسوله الذي أمر بطاعته في ذلك الزمان والمكان.
ثم أداء الحقوق إلى الخلق.
فأنزل الله جل وعلا كتبه، وبعث رسله للقيام بهذين الأصلين، قال جل وعلا ?لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ?[الحديد:25]، وقال جل وعلا: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «أتدري ما حق الله على العباد؟» فقال: الله ورسوله أعلم. قال «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً»، فإذن الحقوق التي جاءت بها الشرائع بأجمعها، وشريعة الإسلام بخصوصها، هي:
أداء حق الله جل وعلا.
وأداء حقوق الخلق؛ حقوق الإنسان، حقوق الناس.
وهذا ولا شك يتبين لك مع تأملك كتاب الله جل وعلا وسيرة وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
هذه الكلمة (الحقوق الشرعية) فقد مرّ معكم تفصيل الكلام عليها في عدة محاضرات من أصحاب الفضيلة المشايخ جزاهم الله عنا جميعاً خيرًا.
ومن الحقوق التي كثر في هذا الزمان التنويه بذكرها، ما يسمى:
حُقوق الإنْسَان(8/2)
وهذه الكلمة التي جُعلت عنواناً لهذه المحاضرة، تتَّصل بها بحوث كثيرة، سواء منها البحوث الشرعية؛ العقدية، أو العبادية، أو القضائية، أو السياسية، أو المالية من أنواع الحقوق.
ويتصل بها أيضا من جهة أخرى ما تَنْشرُه الدول الكبرى أو الأمم المتحدة بما أسموه بحقوق الإنسان.
وهذا كما تعلمون له قصة في إنشاء هذا اللفظ؛ يعني أن لفظ حقوق الإنسان لفظ محدَث، لم يأت في الشريعة، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة، ولم ينُصَّ عليه بهذا اللفظ أهل العلم وأئمة الإسلام، ولكنه موجود في الكتاب، موجود في السنة، كما تبين لك من هذه السلسلة من الحقوق الشرعية.
لكن لما أتى هذا الزمان، وقامت الحرب العالمية الثانية، وانتصر فيها الحلفاء وانتصرت فيها أمريكا على المخالفين وقامت هيئة الأمم المتحدة، كوَّنوا نظاماً عالمياً جديداً، وكلمة (النظام العالمي الجديد) ليست وليدة ما بعد حرب الخليج، وإنما هو كلمة جاءت بمبادئها وأسسها بعد الحرب العالمية الثانية، والقُوى العظمى من الدول تأتي بهذه الكلمة إذا أرادت فرض شيء جديد على الأمم وعلى الشعوب وعلى الناس على اختلاف بلدانهم وثقافاتهم.
فبعد الحرب العالمية الثانية أرادوا وضْع نظام عالمي جديد تُمَكَّن به الدول العظمى من السيطرة على جميع الدول، والسيطرة تكون ثقافية تارة، وتكون من جهة قوة النظر والممارسة للحريات تارة، وتكون القوة من جهة التدخل في شؤون البلاد التي يريدون التدخل فيها.
فكان من جملة التنظيم العالمي الجديد أن أُعلن عام 1948م ما أسموه النداء العالمي لحقوق الإنسان، ووضعت وثيقة من هيئة الأمم المتحدة من ثلاثين مادة، ثم جرى عليها تعديلات وإضافات، هذه الوثيقة هي التي ينادى الآن بها مع ما جاء عليها من إضافات، ينادى الآن بها وتسمى حقوق الإنسان.
وحقوق الإنسان التي تنادي بها الأمم المتحدة وتنادي بها الدول الغربية، ترجع في الحقيقة إلى جهتين:
· جهة الحرية.(8/3)
· وجهة المساواة بين الناس.
ومن ضمن ما جاء فيها إلغاء الرق بجميع أنواعه، واعتباره عملاً باطلاً لا يجوز إبقاؤه، وفصَّلوا في أنواع الحريات: الحرية الفردية، والحرية السياسية، والحرية المالية والمساواة، والحرية القضائية، والحقوق، والجنسيات، وفصّلوا أيضا في أمور المساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة بين الناس، على اختلاف ألوانهم، واختلاف طبقاتهم، واختلاف دولهم، في الحقوق، وفي الممارسات، وفي اختيار البلد الذي يريد أن يعيش فيه، إلى غير ذلك من التفاصيل التي ترجع إلى أصلين عامين، وهما:
· حرية الإنسان.
· والمساواة بين الإنسان والإنسان.
ومن ضمن تلك البنود التي وردت: منع أنواع التصرفات، وتقييد حق الدولة في التعامل مع الناس.
ومن هنا دخلت الدول الغربية، ودخلت الأمم المتحدة في شؤون كثير من الدول، وفرضت عليها أشياء، وربما نشر الإعلام عن بعض الدول أشياء لأجل أنهم ما طبقوا تلك الحقوق، وربما كان التدخل أعظم بالتدخل في شؤونها وسؤالهم ماذا عندكم من تحقيق هذه الحريات وذكر الحالات الفردية؟
دخلوا أيضا في الحريات السياسية، ونادوا بالديمقراطية، وأن الشعب يحكم نفسه، وتقوم الحملات الانتخابية والبرلمانات على ما هو موجود في الدول الغربية.
ولاشك أنّ الشعوب التي ليست بذات وعي إذا أُدخلت عليها هذه المبادئ فإنه يسهل السيطرة عليها، وأن تُحكم بمن يكون [ممالئاً] للغرب، وخاصة بعد الحركات التحررية والاستقلال الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية في كثير من الدول، وعدم قبول الاستعمار بأنواعه.
للإعلان بحقوق الإنسان والنداء العام له ظروفه، وله بواعثه التي أنشأته، وله أيضاً أهدافه التي تخدم مبادئ الدول الاستعمارية الكبرى.(8/4)
هذه الكلمة تُردَّد، والمسلم يجب عليه أن يكون معتزاً بدينه، وأن يكون واثقاً من أن الحق الذي يكون للإنسان فإنه يكون حقًّا عظيماً إذا كان من الله جل وعلا؛ لأنه لا أحد أعلم بالخلق وما يصلحهم من الله جل وعلا كما قال سبحانه ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14].
فإذن الله سبحانه وتعالى -فيما شرع- هو الذي يحفظ حق الإنسان، وهو الذي يحفظ حقوق الناس على مختلف أنواعهم.
ولهذا بحث كثيرون في هذه المسألة –مسألة حقوق الإنسان- وأثبتوا أن شريعة الإسلام، وسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، والأحكام في الكتاب والسنة، وأفعال الخلفاء الأربعة ومن بعدهم، أنها هي أعظم وثيقة مبكِّرة لحقوق الإنسان، عالية في تنظيرها، وعالية أيضاً في تطبيقها، فقد طُبقت تطبيقاً كاملاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.
فكتب باحثون كُثُر في هذا الموضوع، والذين كتبوا في هذا الموضوع:
منهم من نظر نظرة ضعف إلى إعلان حقوق الإنسان من هيئة الأمم المتحدة، وأراد أن يجعل كل مادة من ذلك الإعلان لها سبْق في تاريخ الإسلام أو في شريعة الإسلام، وهذا حتى في إلغاء الرَّقيق وحتى في مساواة الرجل بالمرأة، جعلوا له مبررات، وهذا الضعف يكتنف كثيراً من الباحثين في مواجهة ما عند الغرب من اتهامات أو من إعطاء سَبْق في بعض الموضوعات، وفي بعض الحقوق والحريات ونحو ذلك. هذا نوع.(8/5)
ومنهم من بحث المسألة بحثاً علمياً جيداً في مجلات وفي مقالات مختلفة، وبيَّنوا أن حقوق الإنسان المعلنة في الغرب، والمعلنة من الأمم المتحدة، منها ما الشرع جاء به، ومنها ما هو مصادم للشرع من أساسه، والله جل وعلا أمرنا أن نرجع الحكم إليه سبحانه وتعالى، فقال: ?وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ?[المائدة:49]، وقال جل وعلا:?إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهْ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ?[يوسف:40]، والحكم لله يكون في المسائل العلمية، وكذلك الحكم لله في المسائل العملية.
وهذه المحاضرة لن تَفِي بأن نذكر لك كل ما يتعلق بهذا الموضوع، لكن نقرِّب لك الموضوع، ليفهم على ضوء الأصول الشرعية فهماً لا لبس فيه، ليبين لك أن ما ينادي به الكفرة وأتباعهم من إعطاء حقوق الإنسان على ما يريده المستعمرون وما يريده أعداء الإسلام أن هذه متابعتهم في هذا الأمر ليس فيها صالح الإسلام ولا المسلمين؛ بل إن ذلك يقضي إلى التدخل في شؤون المسلمين، وصرفهم عما هم عليه من التمسك بالدين إلى أشياء يتابعون فيها الغرب، في الحريات، وفي المساواة، وفي العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي الأمور المالية، وفي الأمور الحقوقية والسياسية إلى غير ذلك.
أصل الحقوق -حقوق الإنسان- يرجع إلى فهم معنى قول الله جل وعلا ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ?[الإسراء:70]، وتكريم الله جل وعلا لبني آدم -كما قال العلماء- يرجع إلى شيئين:
الأول: تكريم الله جل وعلا لبني آدم في خِلقته وخَلْقه، وفيما سخر له مما في السماء ومما في الأرض، والله جل وعلا بيّن ذلك في الآية.(8/6)
والثاني من التكريم أن الله جل وعلا رفع ابن آدم عن الحيوان وعن غيره، وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلا في كل ما يتصل بسعادته، والمصالح التي تُتوخى في عيشه وعلاقته بنوع الإنسان، وهذا من أجله جاءت الشرائع لبيان حق الله جل وعلا، وحق العباد.
قول الله جل وعلا في أول الآية: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ? وقوله في آخر الآية ?وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً?[الإسراء:70] هذا يرجع إلى الخلق، ويرجع أيضا إلى التشريع والتنظيم، وما أمروا به من عبادة الله وحده، ومن اتباع المرسلين والأنبياء.
فالحقوق التي تدخل تحت هذه الكلمة حقوق الإنسان كما ذكرت لك، ترجع إلى نوعين عند المستغربين؛ بل عند الغربيين:
· إلى الحرية.
· وإلى المساواة.
[الحرية]
وكلمة الحرية هذه التي نادوا بها لا توجد مطلقة حتى في بلادهم؛ الحرية المطلقة من دون قيد في أن يفعل الإنسان ما شاء دون أن يحاسب على ما فعل، هذه لا وجود لها في أي مكان من الأرض؛ بل توجد الحريات حيث وجدت لكن تنتهي إلى حدٍّ بعده يقال للناس ما بعده ممنوع لست حراًّ في ذلك.
وهذا يعطيك تصوراً عن أن كلمة الحرية لا توجد على الأرض إلا نسبية، أما الحرية المطلقة في كل شيء -في المال، وفي السياسة، وفي القضاء، وفي التصرف في النفس، وفي الدماء، ومع الأولاد-، فإنها لا توجد كاملة بلا قيد في أي مكان من الأرض، وإنما توجد حرية تختلف البلاد فيها سَعَة وضعفاً، بحسب قوة إعطاء الحريات.
فإذن كلمة الحرية التي هي جزء من حقوق الإنسان التي يدعون هذه لا توجد مطلقة عندهم.(8/7)
وإذا كان كذلك، وإذا وضعوا لها القيود البشرية بمحض آرائهم، فنقول: إن هذا الأصل يدل على أن وضع القيد على الحرية مَحا كلمة الحرية من أن تكون مقبولة لكل إنسان، فإذا كانت الحرية يمكن أن تُقبل، ويركن إليها فينبغي أن تعطي الإنسان حريته فيما شاء، فتكون منادياً بالحرية المطلقة، وأما إذا قيدته في حرية دون حرية ظاهراً يعني قانوناً قيده، وباطناً أيضا قيدته باستعمال خفي، وبتسلط على ماله، وعلى قدراته بأمور خفية، فإنه لا يُسَلَّم أن تكون تلك الحرية مطلقة.
فإذن فأساس الحرية التي نودي بها في حقوق الإنسان يجب أن تنظر إليها من جهة أن الحرية لا توجد مطلقة؛ بل لابد أن تكون مقيدة، يعني أن الإنسان ليس حراً في أي مكان من الأرض، تام الحرية في التصرفات بما شاء، وإنما له حدود يصفونها ويفصلونها، ومن اجل ذلك جاء ما يسمى بالبرتوكولات، وجاء ما يسمى بالإيتيكيت، وجاء ما يسمى بأشياء تمنع من لم يلتزم بها في الأمور الرسمية في المراسم، وفي دخول الإنسان بلباسه في أي مكان، وفي حضوره وفي كلامه، فهناك نوع من عدم الحرية موجود في كل مكان، وهذا يرجع إلى ما رأوه انه لا يناسب أن يعطى الإنسان حريته فيه، لمنافاته للذوق تارة، ولمنافاته للعلاقات تارة أخرى، ولمنافاته لحقوق أخرى من جهة ثالثة.
إذن فهذا الأصل، وهو أن الحرية في حقوق الإنسان تكون مطلقة هذا منفي.
[المساواة]
الأمر الثاني المساواة، والمساواة التي نادوا بها تعني مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، وتعني مساواة الناس جميعاً، في أخذ الحقوق، وفي إعطاء حقوقهم، وأجرهم، وفي التعليم، وفي الصحة، والاستشفاء، وفي السفر، وفي تحديد المكان الذي يرغب أن يقيم فيه، في حدود دولته كما نصت عليه موادهم، وفي إلغاء الرق إلى آخر ذلك.
وهذه المساواة منها ما هو مقبول، ومنها ما ليس بمقبول، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(8/8)
لسنا هنا بصدد نقد ذلك الإعلان الوثائقي، وما تبعه من تصحيحات وإضافات، لكننا بصدد بيان أن حقوق الإنسان الكاملة، وحقوق الإنسان العالية أعطاها رب الإنسان للإنسان، والبشر إذا أراد أن يُعطي الحق لغيره، فإنه لن يسلم من الهوى، فالذي يقنن القانون أياً كان، فانه سيدخل فيه هواه، ولهذا تجد أن القوانين الغربية، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي وغيرهما من القوانين، تخضع للتغيير بين فترة وأخرى، إما لأن أول ما نشأ القانون كان لأجل مصلحة إما للدولة في إنشائه، أو لنفوذ من الكبراء في تلك الدولة في بعض المسائل، أو لتغير الزمان، تغير الزمان فتغيرت الأحوال، ولهذا بين الله جل وعلا أن حكم الجاهلية هو حكم الهوى، فقال سبحانه: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، لأن كل حكم يخالف حكم الشريعة، فلابد أن يكون قد تسلط عليه، الهوى فمنع من الصواب، والهوى لاشك يحرف عن أداء الحقوق على ما هي عليه.
إذن فتلك المبادئ قامت على أساس نظر بشري، يدخله الهوى، تدخله مصالح الدول الكبرى، ورغبتها في السيطرة على الدول الضعيفة أو الدول التي فيها خيرات.
بعد هذا العرض، إذا رأيت ما كان الناس عليه قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام سواء العرب، عرب مكة وما حولها، أو من في الجزيرة، أو من في الشام، والعراق، ومصر، وفارس، والروم، وجدتَ أن باب سلب الحريات مفتوح على مصراعيه، وأن المساواة منفية؛ بل ثَمّ شريعة الغاب، بأن القوي يأكل الضعيف يتسلط الناس بعضهم على بعض، ولهذا قال ربعي لقائد الفرس، لما قال له: ما الذي جاء بكم؟ يعني أنتم عرب، ما الذي جاء بكم إلى أرض فارس، قال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.(8/9)
جاء النبي عليه الصلاة والسلام وأوحي إليه بشرعة الإسلام، وأمره الله جل وعلا بأن يصدع بالحق وأن ينذر عشيرته الأقربين، ثم ينذر الناس جميعاً وجعل رسالته رحمة للعالمين، فقال: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام لذلك المجتمع كان المجتمع مجتمعاً تنفّذ فيه الصراع الطبقي، والتميز الطبقي على أشده، فهذه القبيلة أفضل من هذه القبيلة، وهؤلاء أرفع، وهؤلاء متسلطون على غيرهم، ونحو ذلك من الأعراف القبلية التي فيها تباين وفيها تفضيل بعض الناس على بعض.
فجاءهم النبي عليه الصلاة والسلام بالأصل العظيم ، وهو قول الله جل وعلا: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ?[الحجرات:13]، فجعل الكرم والفضل والتميز لمن كان أتقى، لا للجنس، ولا للون، ولا للقبيلة، ولا للبلد، وإنما جعل التفاضل بحسَب التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، وفي هذا المعنى قال نبينا عليه الصلاة والسلام «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، وجاء في الأثر أيضا: الناس سواسية كأسنان المِشْط. وهذا كما هو معروف في التكليف جعل الله جل وعلا الناس سواسية؛ يعني الخطاب للناس جميعا للذكر والأنثى، وللحر وللعبد، وللغني وللفقير على اختلاف طبقاتهم، الناس جميعاً مأمورون بتوحيد الله جل وعلا ومأمورون بامتثال أوامره وتقواه بحسب الاستطاعة، وهذا نوع من النظرة نظرة السواسية في التكليف.(8/10)
كذلك لما جاء الإسلام ألغي التفرقة بين الناس؛ بل آل الأمر إلى المؤاخاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، بل ربما آخى بين حر وغيره في المدينة، بل جاء عن علي رضي الله عنه أنه جعل سلمان الفارسي من أهل البيت، فصح عن علي رضي الله عنه أنه قال: سلمان منا أهل البيت. ويروى مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح مرفوعا، وإنما يصح موقوفا على علي رضي الله عنه كما أخرجه الإمام أحمد وأبو نعيم وجماعة.
هذه النظرة إلى عدم التفريق لاشك أنه سبق في أداء حق الإنسان أو في إعطاء الإنسان من حيث إنه ابن لآدم بأن الجميع متساوون في حقوقهم أمام الله جل وعلا ومتساوون أيضا في أداء الحقوق والواجبات بينهم وبين الناس.
أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على جمع غفير من المسلمين، وأمَّر بعده أسامة بن زيد، وأمضى ذلك اللواء أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
لما فتح المسلمون الأمصار، وانتشر الإسلام آل الأمر إلى أن يكون من الأعاجم، إلى أن يكون أبناء فارس وغيرهم والعجم وغير العرب إلى أن يكونوا هم العلماء وإلى أن يكونوا منهم أئمة المساجد، وإلى أن يستقي الناس منهم العلم؛ بل جاء في تاريخ الإسلام بأن كثيراً من الأعاجم قادوا المسلمين في العلم وقادوا المسلمين في الفتوى، وقادوا المسلمين في أمور كثيرة.
فخذ مثلا في قيادتهم في العلم: هذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى وليس بعربي، وهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى كيف صار كتابه مقتدى، ولا أحد المسلمين إلا ويعرف الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
وخذ إلى ذلك غير البخاري وغير أبي حنيفة من أئمة الإسلام.(8/11)
إذن الإسلام لما جاء الناس بتطبيقه ألغى الفوارق، وصار هؤلاء الأعاجم قادة للعرب وأئمة للعرب، وصاروا مقدمين، لم؟ لأنهم حملوا الدين، ورفعوا راية التوحيد، وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا فرق بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى، والمسلمون لما كانوا متأدبين بآداب الإسلام لم يكن بينهم ذلك النزاع الطبقي، وذلك النزاع والفروقات الجاهلية، لأنهم لم يقبلوا بإمامة هذا، ولم يقبلوا بتقدُّم هذا، بل سلموا للجميع، لأن الناس في هذا المقام سواء.
آل الأمر إلى ذهاب الدول القرشية، والدولة الأموية، والدولة العباسية، ونشأت دولة المماليك، ثم نشأت دولة بني عثمان -يعني في أولها حين كانت صالحة-، ودان المسلمون لهم، وصاروا هم القادة وهم الأمراء، لأنهم رأوا أن في ذلك المصلحة الشرعية، وتحقيقاً لمصالح العباد.
إذن فأول من ألغى التفريق الطبقي، ومارسه فعلاً، وأرشد الناس إليه، بل صار الجميع لا حرج في صدورهم من تطبيقه، هو الإسلام، وتاريخ الإسلام غنيٌّ بهذا.
إذن فتطبيق الإسلام في هذا الأصل العظيم -أصل المساواة- تاريخه يشهد بهذا.
كذلك في جانب المساواة في الحقوق لا شك أن الشريعة جاءت بالمساواة في الحقوق وهنا شيئان في الشريعة:
الأول: المساواة.
والثاني: العدل.
والعدل واجب مطلقا.
وأما المساواة فتجب في أبوابها وليست مطلقة.
وتوضيح ذلك: أن العدل هو أداء الواجب، وإعطاء كل ذي حق حقه بلا تعد في ذلك، فهذا هو العدل الذي أمر الله جل وعلا به أمرا مطلقاً، فقال: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى?[النحل:90]، فالعدل أن يُعطى كل صاحب حق حقه، هذا هو العدل بين الناس، مَا يُحرم أحد من حقه، لأجل أنه كذا أو كذا!!، ويعطى حقه بما يناسب مقامه.(8/12)
ولهذا جاءت الشريعة بعدم تساوي الناس في ارتكاب المخالفات التي هي دون الحدود. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»، وهذا فيه ترك للمساواة في هذا الأمر، وذلك للمصالح الشرعية العظيمة المترتبة على ذلك، عمر رضي الله عنه لم يساوي في العطاء أهل بدر مع غيرهم، لم يساوي في العطاء من بيت المال بين السابقين إلى الإسلام مثل المتأخرين، بل أعطى كل احد ذي حق حقه، وأعطى كل واحد بحسب سابقته، وهذا هو العدل، لان التسوية بين الناس مع اختلافهم في نصرة الإسلام، واختلافهم في قدراتهم ليست مشروعة؛ بل المشروع هو العدل.
المساواة في الشرع فمأمور بها في الحقوق، وفي أمور كثيرة، مثل مثلا الحقوق القضائية في القضاء، وأخذ الحق واجب على الناس، واجب على الدولة، وعلى ولاة الأمر، وعلى القاضي أن يكون الناس عنده سواسية لا يفضل أحدا على أحد، حتى إذا أتى عند القاضي المسلم وغير المسلم، فإنه لا يميز المسلم على غير المسلم في مجلس القضاء؛ لأن هذا مجلس عدل وحكم، وهنا الناس سواسية فيه، وهذا حق مطلق للإنسان في أن يحكم بشريعة الإسلام بأن يحكم ويأخذ حقه بقوة القضاء، وقد قال جل وعلا: ?فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً? يعني في أهل الكتاب ?وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ?[المائدة:42] الآيات.
هذا الحق، وهو حق أخذ أن يتساوى هو وغيره في أداء الحقوق، أعلنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم إعلان في مسائل كثيرة.(8/13)
أولها: في بيان سبب هلاك اليهود، وأن اليهود هلكوا لما فرّقوا في الأحكام الشرعية، والحدود، والقضاء بين الشريف والوضيع وما بين عالي القوم وبين غيرهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «وأيْم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، دماء المسلمين متكافئة، دماء المسلمين واحدة، وكذلك أموالهم وكذلك أعراضهم، فليس ثَم تفريق بين عرض وعرض، وليس ثم تفريق بين دم ودم، وليس ثم تفريق في القضاء وفي الشريعة بين حق مالي وحق مالي، بل الجميع مستوون أمام شرع الله جل وعلا المسلمون سواسية في هذا الحق.
فلهذا ربما مكّن النبي صلى الله عليه وسلم من أخطأ عليه من نفسه ليقتص منه، بل قال عليه الصلاة والسلام رحمة بأمته: «اللهم أيما عبد مؤمن سببته فاجعلها عليه رحمة»، تعرفون قصة الصحابي في بدر لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف ووجد صدره بادياً، فلكزه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني يا رسول الله، ففتح له النبي عليه الصلاة والسلام بطنه، فقبَّل بطنه ذلك الصحابي، وقال: أردت هذا، أو كما جاء في الحديث.(8/14)
إذن في الحقوق القضائية حق الإنسان سواء أكان مسلما أم غير مسلم، حقه في القضاء وأخذ الحقوق له في شريعة الإسلام واحد، لا يختلف الناس في ذلك؛ لا نأخذ الحق لمسلم على النصراني، ولا نأخذ الحق لمسلم على اليهودي، بل بالبينات: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ)، والله جل وعلا أمرنا أن نكون قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسنا ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ?[النساء:135] وقال جل وعلا: ?وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8]، ولهذا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان يأتي اليهودي والمسلم إلى مجلس القضاء، فلا يميز المسلم على اليهودي في المجلس؛ بل هم من جهة الحكم الشرعي، ومن جهة القضاء هذا خصم وهذا خصم، فواجب أن يكونوا سواء، وألا يكون هناك حيف، لم؟ لأنه إذا وجد التمييز في هذه المسائل دب الفساد إلى الأرض، والله جل وعلا أمرنا بإصلاحها، ونهانا عن إفسادها، فقال سبحانه:?وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً?[الأعراف:56] إصلاح الأرض يكون بالعلم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبأداء الحقوق الشرعية التي جاء بها نبينا عليه الصلاة والسلام، هذا إصلاح الأرض، وأعظمها التوحيد وترك الشرك.
وفسادها يكون بالتفريط في حق الله جل وعلا أولاً، أو بالتفريط في حقوق الخلق.
فيدب الفساد في الأرض شيئاً فشيئاً حتى يحل غضب الله جل وعلا: ?وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى?[طه:81-82].(8/15)
الناس في بلد الإسلام؛ بل الناس في الأرض في الشريعة أقسام:
الأول: المسلم.
والثاني: الكافر الذمي يعني اليهودي والنصراني أو أهل الكتاب الذين لهم ذِمّة، وهذه لها تعريفات عند الفقهاء.
والمعاهَدون هذا قسم ثالث.
والمستأمَنون هذا قسم رابع.
والحربيون قسم خامس.
إذا أردت تقول أقسام غير المسلمين في الأرض هذه الأربعة أقسام:
· أن يكون ذمياً.
· أن يكون معاهَداً.
· أن يكون مستأمَنا.
· أن يكون حربياًّ.
و النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأداء الحقوق لهؤلاء؛ بل أمر الله جل وعلا بأداء الحقوق لغير المسلمين في كتابه إذا لم يكونوا حربيين إذا لم يكونوا مظهرين العدواة، فقال جل وعلا: ?لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلُّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[الممتحنة:8-9].
فإذن الحق الذي للذمي ثابت في الشريعة، فلا يعني كونه كافرا أن نهضمه حق الإنسانية، هو حق جعله الله جل وعلا له، قال عليه الصلاة والسلام: «من آذى ذمياً فقد آذاني» أو كما جاء في الحديث، وصحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، لماذا؟ لأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، هذا قد جاء بعهد، وجاء بأمان، وكان في بلاد الإسلام بأمان وعهد، فالواجب ألا يُعتدى عليه في نفسه، وألا يعتدى عليه في دمه، وألا يعتدى عليه في عرضه، وألا يعتدى عليه في ماله، فالحقوق واجبة له شرعاً.
والنصوص في أداء حق أهل الذمة وحق المعاهَدين وحق المستأمَنين متعددة، وكلام العلماء في ذلك كثير.(8/16)
أما الحربيون فهم الذين بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء بيننا وبينهم حرب، فيه أحكام كثيرة تتعلق بهم، وحتى لو تمكنا منهم، فإنهم إذا كانوا أسارى فإنهم يكرمون، وإذا تُمِكن منهم فإنه لا يقتل الوليد، ولا يقتل الطفل، ولا تقتل المرأة، ولا يتقل منهم الشيخ العجوز ونحو ذلك من الأمثلة.
مع أن في شرائع أخرى يقتل الجميع كما ذكر أن في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام أن الجميع يقتلون في حال الحرب.
أما شريعة الإسلام فالله جل وعلا حباها لما في ذلك من المصلحة لامتداد الشريعة إلى قيام الساعة بألا يقتل من المحاربين إلا المقاتلة فقط، وإذا أسر فإن للأسرى أحكاما كثيرة.
الذمي في دار الإسلام له حقوق، إذا كان في بيته فانه يمارس ما شاء، لكن ليس له أن يُعلن في شارع المسلمين أو أن يظهر شيئاً من المحرمات، إما أن يظهر دينه ليس له ذلك يعني في..... هذا في المعاهد والمستأمن.
أما الذمي ففيه تفصيل الكلام، كما إذا كان في أرض قد فتحت، وفيها الكنائس والبيع كما في بلاد الشام وفي مصر والعراق ونحو ذلك، هذا له تفصيل كلام؛ لكن في العموم مثل الحالة عندنا في هذه البلاد ليس له أن يظهر، وكذلك حتى في البلاد الأخرى ليس له أن يُظهر ناقوساً، وليس له أن يظهر صليباً، وليس له أن يُظهر خمرا ويشرب، وليس له أن يزني كما شاء، فهذه ليس له أن يظهرها في بلاد المسلمين، ولكن إن شاء إن يشرب الخمر في بيته فله حق أن يحفظ سره، وإن شاء أن يفعل في بيته ما شاء فهذا له، والشريعة تحفظ له هذا الحق، لكن الإعلان!!!، فلا يجوز له أن يظهر في بلاد المسلمين ما يخالف شريعة الإسلام، أما إذا استتر بذلك فإننا لا نبحث عنه، وأيضا في ممارستهم المالية كأن يأتي تجار يستأذنون عمر فيبقيهم في المدينة، ولا يمنحهم أن يمكثوا أكثر من ثلاث ليال، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى اليهود والنصارى في جزيرة العرب، ويتاجروا، وينتفعوا إلى غير ذلك من أداء الحقوق المالية.(8/17)
إذن يتضح لك من هذا العرض السريع أن شريعة الإسلام أعطت الحقوق المالية والمساواة والعدل في أبواب كثيرة، وهذه في أروع صورها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في عهد خلفائه الراشدين، هذا قسم.
أما القسم الثاني الذي يتعلق بحقوق الإنسان، فهو المتصل بالحريات، والحريات –كما ذكرت لك- لا توجد إلا مقيدة، والحرية الشخصية تتنوع –يعني من حيث البحث-:
فمنها حرية المرء في تصرفاته المالية.
ومنها حرية الإنسان في تصرفاته في سفره وإقامته، وفي اختياره للبلد الذي يعيش فيه ونحو ذلك.
ومنها الحرية السياسية التي يعبر عنها بهذا التعبير.
ومنها الحرية الدينية بأن يختار أي دين شاء.
فهذه الحريات تطرقت إليها مواثيق حقوق الإنسان.
وأما في الشرع -كما ذكرت لك- الحرية لا توجد حرية مطلقة، لأن جعل الناس أحرارا مطلقا يتصرفون كيف يشاءون في أي مجال من المجالات هذا ضد لمصلحة الناس بأجمعهم، وأن مصلحة الناس، ومصلحة المجتمع، ومصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الفرد بخصوصه باتفاق الشرائع وباتفاق المبادئ.
لهذا كفل الإسلام وكفلت شريعة الإسلام للإنسان الحرية العظيمة في أمور كثيرة، لكن بحيث تصب هذه الحرية في المصالح التي جاء الإسلام برعايتها، والمعلوم لديكم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وبدرء المفاسد وتقليله.
وأيضا جاءت بالمحافظة على الضروريات الخمس التي لا تستقيم حياة الناس إلا بالمحافظة عليها، وهي:
· المحافظة على الدين.
· والمحافظة على النفس.
· والمحافظة على المال.
· والمحافظة على العقل.
· والمحافظة على النسب أو العرض.
هذه الضروريات الخمس جاءت الشريعة بالمحافظة عليها، وإلا فإنّ الناس في أكثر شؤونهم أحرار في شريعة الإسلام.(8/18)
من أوجه الحرية التي كفلها الإسلام للإنسان أنه حر في تصرفاته المالية؛ لكن بشرط أن يكون مرشدا في ما فيه صلاحه، أما إذا أراد أن يُفسد ماله بما يعود عليه بالضرر، فإنه يحجر عليه، وثَم باب معروف في الفقه اسمه: باب الحجر، معروف، حتى الرجل الكبير يتصرف عنده مثلا مائة ألف ريال بدل أن يحفظها لنفسه ولأولاده، ويحسن تصرفه فيها فإنه يبذرها كيف شاء، ثم يبقى هو عالة على غيره، فهذا إذا احتجّ أهل المصلحة -أولاده أو احتجَّ أقرباؤه- على تصرفاته فإنه يُحجر عليه في ماله. كذلك اليتيم الصغير إذا ورث فإنه لا يقال: إنه ورث مالا كثيرا فإنه يمكن منه، ذو ثماني سنين، أو عشر سنين من شراء سيارة على شهوته، أو يريد أن يسافر على شهوته أو أن يفعل في ماله كيف يشاء، ليس كذلك؛ بل جعلت الشريعةُ عليه ولاية، والولي يفعل في مال اليتيم ما هو الأصلح، وقد قال جل وعلا في حال هؤلاء: ?فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ?[النساء:6]، والرُّشد هو معرفة التصرف والصلاح في المال.
إذن فثَم حرية كبيرة في المال، أنه يتملَّك الإنسان ما شاء من المباحات، أنه يتصرف في ماله كيف يشاء يلبس يعطي يقرض يتملك يسافر به إذا كان في حدود رشده وما فيه مصلحته ومصلحة من يعول. أما إذا خالف ذلك فان الحرية هنا تنقص.
لماذا حُبست الحرية مع أن له الحق في أن يتصرف في ماله؟! لأنه لو أعطي هذا الحق أن يتصرف في ماله كيف شاء، لصار الضرر على نفسه والمرء إذا أراد أن يضر نفسه فإنه واجب على الجميع أن يراعوا مصلحته، لماذا؟ لأن المسلمين في شريعة الإسلام أخوة، فالمؤمنون أخوة يسعى بذمتهم أدناهم، يتكافلون ويتناصحون، فليس للمرء أن يفعل في أمواله ما يشاء، بما يضره في دنياه أو في آخرته.(8/19)
إذن فالحرية المالية مكفولة، ومنع الإنسان من تصرفه بماله كما ترون من تطبيقها مثلا في مجتمعنا قليل جدا أن يحجر على المرء تصرفاته المالية نادر، والأكثر أن يتصرف في المال كيف يشاء إذا كان في حدود ما أذنت به الشريعة.
مثال آخر من الحريات الحرية التي تسمى الحرية السياسية، والحرية السياسية هذه لفظ ورد ومورس في الغرب، ويريدون به الانتخابات الديمقراطية، والانتخابات الديمقراطية تارة تكون عادلة وتارة تكون بتأثير؛ لأن من الذي ينتخب؟ الناس، وأنتم ترون الآن الدول المتقدمة التي تمارس هذه الانتخابات بسعة ترون أنها يؤثر في الانتخابات هذه بالدعايات، فصاحب المال هو الذي يكون أكثر دعاية ويستطيع أن يقنع الناس، فإنه يكسب الأمر، وقد لا يكون الأصلح فعلا؛ لكن الناس انتخبوه لظنهم أنه هو الأصلح، وهم يُخدعون، والناس جميعا لأنهم لا يعلمون مصالحهم، ولا يعرفون من يختارون، الناس إدراكاتهم مختلفة، بل إن أكثر الناس ليسوا من ذوي العقول الواعية، وليسوا ممن يعرف مصالح العباد ويعرف مصالحهم الدنيوية، ومصالح الأمة الخاصة، ومصالح الأمة العامة، أكثر الناس لا يدركون هذا.
ولهذا دخل التأثير في نتائج هذه الانتخابات، وكان ممن يؤثر في الانتخابات بالمال الجهات اليهودية والصهيونية التي تمتلك من المال ما يفوق الوصف، فتؤثر في الانتخابات هنا وهناك، حتى يأتي من يؤيدهم إذا نجحوا في ذلك.
المقصود أن الحرية السياسية التي هي وجود الانتخابات وجود البرلمان لا تخدم دائما صالح الأمة في تلك البلاد.(8/20)
أما في الشريعة الإسلامية أما في تاريخ الإسلام، وفي تطبيق الإسلام في عهد خلفائه الراشدين فإنه جُعل أمر الولاية لأهل الحل والعقد، ما جُعل للناس جميعا، يستوي في اختيار الوالي وفي اختيار فالإمام وانتخاب الأصلح واختيار من يصلح لهذه الأمور، لم الشريعة تجعل الناس سواسية في هذا، يستوي أجهل الناس مع أعقل الناس، يستوي الذي لا يعرف أحكام الشريعة مع العالم في اختيار الوالي، هذا له صوت، وهذا له صوت، هذا لم تأت به الشريعة، ولو كانت المساواة بهذا الفعل لكان هذا من المساوئ، بل جعلت الشريعة الأمر إلى أهل الحل والعقد، ولهذا أبو بكر رضي الله عنه نصّ على عمر، وعمر رضي الله عنه جعل الوِلاية في أهل الشورى، وهذا موضوع يطول.
إذن فالحريات السياسية التي يزعمون، والبرلمانات والانتخاب على هذا النحو الموجود، هم لم يطبقوه في كل مكان أولا، وأيضا ليست المصلحة حتى في بلادهم إلا في إرضاء الناس، أما المصلحة الفعلية فقد تولى من الرؤساء ومن يلي أمور البلاد الغربية من ليس أصلح الموجود، لكن الناس هكذا أرادوا.
ومما يتصل أيضا بموضوع الحريات السياسية على حسب مصطلح القوم أنهم يريدون بالحريات السياسية أن لأي فئة من الناس تكوين حزب، وهذا الحزب ينشأ في الناس وينشط ويؤثر في السياسة العامة بحسب توجهات الحزب، لهذا وُجد في الدول الغربية والدول الشرقية أحزاب متضاربة، هذا حزب ديمقراطي، وهذا حزب جمهوري، وهذا حزب اشتراكي في بعض الدول، وهذا حزب للعمال، إلى آخره.(8/21)
وهذه تتنافس، فإذا انتصر الحزب في شيء ما نفذ أغراضه وفكرته وآراءه السياسية والوجودية والقضائية، نفذها في الناس جميعا، ولذلك تجد أن انتصار حزب على حزب لما تكونت الحريات التي يسمونها السياسية ليس فيه رضا الناس؛ بل تجد أن أصحاب الحزب يبقون راضين، وأما غيرهم فلا يودون أن هذا الحزب انتصر، ويذمون أفعاله، ويذمون آراءه فإذا تمكن الحريات السياسية على حسب ما وضع عندهم جعل هناك منافسات بين أحزاب سياسية قد لا تقود البلد إلى فكرة واحدة، وإلى مصلحة واحدة، وقد لا تقود الناس إلى الرضا بتصرفات الدولة جميعا، لهذا يصير هناك فيه ضرار، ينتصر حزب بحكم الحرية السياسية والديمقراطية ثم لا يقبل به.
وأمامكم تجارب عظيمة في ذلك، لما انتصرت بعض الأحزاب الإسلامية في الجزائر وفي تركيا، لم ترض الدولة بذلك، لأن الحكم عسكري، وهم يريدون ديمقراطية، وحقوق إنسان، لكن إذا انتصر الإسلاميون فإن هذا غير مقبول، ولهذا حتى حقوق الإنسان والأمم المتحدة، وحتى الدول الغربية لم تمارس حقوق الإنسان بحسب ما أعلن، بل تخلفوا عن كثير منها في المبادئ التي نادوا بها.
والكلام يطول في ذكر مخالفات الدول الغربية والأمم المتحدة والكفرة بأنواعهم والمنافقين لما تزعموه من حقوق الإنسان في الحريات السياسية.(8/22)
أما الشريعة فجاءت بشيء أعظم من هذا الباب، بشيء أعظم من كل التجارب التي مرت بالبشرية، وهو مبدأ النصيحة، والتعبد لله جل وعلا بنصيحة ولاة الأمر، ونصيحة ولاة الأمر فرض شرعي، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: «الدَّينُ النَصِيحَةُ، الدَّينُ النَصِيحَةُ، الدَّينُ النَصِيحَةُ »، قلنا: لِمنْ يا رسول الله؟ قال «لله،وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المْسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِم» أئمة المسلمين نصيحتهم واجبة، ولا خير فيهم إذا لم يسمعوا النصيحة، ولا خير في المؤمنين أيضا إذا لم يقولوا النصيحة، لكن كيف تصل هذه النصيحة؟ وقنوات وصول هذه النصيحة غالبا ما كانت في زمن الإسلام الأول كانت عن طريق أهل الحل والعقد وأهل الشورى الذين يستطيعون أن يعرفوا ما يناسب مما لا يناسب في هذا الباب.
الحرية التي أيضا نادت بها تلك المبادئ ولا يجوز أن يقال بها في الإسلام: حرية الدين، وحرية التفكير:
أما حرية الدين فهم يقولون للإنسان أن يختار أي دين شاء؛ يعني إذا كان تديُّناً في نفسه، مَا لَه تعد على الآخرين أو ممارسات متعدية، فله أن يختار أي دين شاء، أما دين الله جل وعلا الذي أنزله سبحانه وتعالى على رسوله وهو الإسلام، فهو الدين الحق، ولذلك من اختار الإسلام دينا، وصار مسلما، فإنه لو أراد أن يقول: أنا حر أختار غير هذا الدين، فإنه لا ُقَرُّ عليه لماذا؟ لأنه أصبح كالمجنون الذي لا يعرف مصلحته، فمصلحته إنما هي في دين الإسلام، في الدنيا وفي الآخرة، ولو سُمح له بالانتقال لسمحنا له أن يكون من أهل النار، ولذلك فإنه من ارتد عن دينه فإنه يقتل، «من بدَّل دينه فاقتلوه» كما صح عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، يعني أي مسلم اختار غير دين الإسلام فانه يجب قتله، ومن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.(8/23)
أما غير المسلم فإنه يختار الدين الذي يشاء لا نُكْرِه الناس على أن يكونوا مؤمنين، واحد يقول أنا نصراني، ما نقول لازم أن تكون مسلما، والنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ اليهود على ديانتهم وأقرَّ النصارى على ديانتهم ولكن دعاهم وأمرهم ونهاهم، ولما جاء الجهاد خُيِّرُوا بين ثلاث خصال، بين أن يجاهدوا، أو أن يدفعوا الجزية ويقروا على ما هم عليه، إلى آخر ذلك.
إذن فالحرية الدينية مكفولة؛ لكن بشرط أن لا يكون تم انتقال من الإسلام إلى غيره، لأنَّ الإسلام هو الدين الحق، والشريعة جاءت بحفظ مصالح الناس، وتغيير هذا الدين يدل على أن من اختار ذلك فإنه غير راشد.
من الحريات أيضا التي ذُكرت -وهي ممنوعة في الإسلام، يعني على إطلاقها- التي هي حرية التفكير، وحرية التعبير عن الرأي، وهذا يقولون: كل إنسان حر من حقوقه أن يكون حرا في أن يُبدي ما شاء، أي فكرة يريد أن يبديها، وأي رأي يريد أن ينشره أن يقول به، فإنه لا يحاسب عليه.
وأما في الشريعة فهذا غير صحيح، فلم تعط الشريعة لأحد أن يقول كيف ما شاء، وذلك أنّ الناس مختلفون في استعداداتهم، والشريعة جاءت بتعبيد الناس لربهم جلا وعلا.(8/24)
والناس في الإدراك ليسوا سواء، فإذا مُكِّنَ الناس من الشبهة في إلقائها فربما كان ضعيف الإيمان؛ من ليس عالما غير مؤهل لرد شبهة الشيطان، ولهذا عمر رضي الله عنه لما أتى صبيغ بن عسل إلى المدينة، وصار يدور على الناس ببعض الأسئلة التي فيها ذكر متشابهات من القرآن، ما الذاريات ذروا، وما الحاملات وقرا؟ ما المراد بكذا، أتاه عمر رضي الله عنه وعلاه بالدِّرَّة، الدِّرة بالكسر –ليست دُرَّة- دِّرَّة اسم للعصا، أي ضربه بالدرة، وقال له: أنت تقول كذا وكذا وتفشي في الناس ذلك، قال: نعم، شيء أجده في رأسي، يعني ليش تمنعني؟ فعلاه بالدرة عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب الذي كنت أجد. يعني عافاني الله وفهمت، ولم يعد عندي شبهة، فنفاه عمر رضي الله عنه وأوصى بأن لا يخالط الناس حتى لا يؤثر عليهم، لماذا؟ الشريعة، بُعثت الرسل لماذا؟ لتعبيد الناس لربهم جل وعلا، فإذا واحد يطلع ينشر ما شاء، ويفسد دين الناس، فهذا مضاد لأصل بعثة الرسل، فبعثة نبينا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دين الإسلام لتعبيد الناس لربهم جل وعلا بتحقيق حقائق الإسلام بالدَّيْنُونَة لله جل وعلا رب العالمين. إذا أتى أحد يريد أن ينقض هذا الأصل، أو أن يحفر من تحت حتى يسقط البناء فيجب أن يوقَف عنده حتى ولو بإثارة الشبهات فيجب أن يضرب على يده، فليس عندنا في الإسلام حرية مطلقة في التعبير بالرأي، فهناك أشياء تعبر فيها عن رأيك، ما لم تكن قادحة في القرآن، ما لم تكن قادحة في السنة، ما لم تكن قادحة في أصول الإسلام، أما إذا أتى إيراد الأفكار بما يطعن في الدين، أو يذهب هيبته، أو يبعد الناس عن التعبد لله رب العالمين، فهذا مناقض لأصل البعثة التي هي تعبيد الناس لرب العالمين.(8/25)
ومما ينبَّه عليه ما ذكرته لك من أننا جميعا لسنا في استعداداتنا سواء، وجملة الناس عاطفيون، ليسوا ببرهانيين، ليسوا بنخبة يقيمون يقيّمون الأمور بالدليل والبرهان والمصالح والمفاسد ويذهب يحلل، أكثر الناس عاطفيون يأخذون الكلام الذي يؤثر، وأحيانا القاضي قد ما يكون هناك حجة ويكون أحد الخصمين ألحن بحجته من بعض، فيقضي على نحو ما يسمع، كما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في ما معنى الحديث: يأتيني الآتي فيكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له، وإنما أقضي على نحو ما أسمع، فأي ما امرئ قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ، أو ليدع. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذن فتح باب حرية الرأي بما يؤثر على الناس في دينهم، هذا يذهب الديانة، ويضعف الإسلام ويذهب آثار البعثة، واقتناع الناس بدين الله رب العالمين.
وأنتم ترون الآن في الدول التي فُتح المجال فيها للآراء على اختلاف أنواعها كيف أن الناس أخذوا يتأثرون بكثير من الأفكار، وذهب كثير منهم عن دينهم، نسأل الله السلامة والعافية.
إذن أكثر الناس عاطفيون يأخذون الكلام، والله هذه فكرة صحيحة، هذا منطق هذا معقول، لكن ما يعرف وجهة النظر الأخرى، ولا شك أن ثم واجبا على العلماء أن يبينوا فساد قول كل صاحب مقالة فاسدة، لحماية الدين، والردّ عن دين محمد عليه الصلاة والسلام لكن قد ما يتاح دائما، فلو قيل بحرية الرأي مطلقا لصار ذلك سببا لإفساد عقائد الناس، أو ديانتهم، لأن الناس ليسوا في مستوى رد الشبه.(8/26)
فإذن نقول: إنّ الديانة –شريعة الإسلام- جاءت بحفظ حقوق الإنسان، سواء أكان هذا الإنسان والدا أو ولدا، زوجا أو زوجة، إمامًا أو رعية، قاضيا أو مقضيا عليه، واليا أو مولى، أميرا أو مأمورا، حراً أو عبدا، ذكرا أو أنثى، جاءت الشريعة بحفظ هذه الحقوق، وتبين ذلك واضحا من المحاضرات التي مضت، والتي ستأتي أنواع ما كفلته الشريعة لأنواع الإنسان من الحقوق، كحق حق الوالدين –أظن فيه محاضرة حقوق الوالدين مضت-، وحق الأولاد، وحق الزوج وحق الزوجة، وحق المسلم على المسلم، وحق الكافر، الكافر له حق أيضا، إذا كان كافر بجواره فله حق الجيرة، كما أن المعاهد له حق المعاهدة حق الاستئمان فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طبخ مرقة في بيته أرسل لجارهم اليهودي منها، لمصلحة شرعية.
فإذن الشريعة كفلت الحقوق: الحقوق المالية، وحقوق الجوار، والحريات، لكن بما يخدم المصلحة التي جاءت الشريعة بتحقيقها.
والشريعة لم تأت للدنيا كما هي مبادئ الكفار، وإنما أتت للدنيا والآخرة، ففيها صلاح المعاش وصلاح المعاد، وصلاح الدنيا، وصلاح الآخرة.
هذه جمل يسيرة فيها ذكر أصل هذا الموضوع المهم، وهو موضوع حقوق الإنسان.
وطبعا كما ترون بل كما سمعتم لا يفي بهذا المقام، أن ما ذكرته لك لا يفي بهذا المقام، ولا يمكن أن يغطي كل جوانبه، لكن يفتح لك بابا إلى فهم هذه الكلمة التي يكثر تردادها.
ولابد من اليقين من أن أي بلد تعظم فيه الشريعة، وتعلو فيه الشريعة، وتطبق فيه شريعة الإسلام، فإنه يكون هو الأحفظ على حقوق الإنسان وكلما ضعف تطبيق الشريعة في بلد، فهو الضعف في تحقيق حقوق الإنسان.
لهذا حقوق الإنسان الشرعية مرتبطة في تحقيقها بتحقيق الشريعة في حياة الناس، إذا حققت الحقوق القضائية الحقوق المالية، العدل بين الناس، رد المظالم والحريات التي أذنت بها الشريعة فهذا يعني أن الناس أخذوا حقوقهم، وأن الإنسان في هذه الدار أخذ حقه.(8/27)
ومعلوم أن أكمل تطبيق لحقوق الإنسان هو عصر النبي عليه الصلاة والسلام وعصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفي كل دولة من دول الإسلام التي مضت الأموية، والعباسية إلى زماننا الحاضر، كلما كان تطبيق الشريعة أكثر وأعظم كلما كان حفظ حق الإنسان أعظم وأكثر.
هذه لمحات موجزة قصيرة في هذا الخضم الواسع.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الدعاة إلى دينه، ومن المصابرين الصابرين، وأن يجعلنا من أنصار شريعته، ومن حملة العلم ومحصليه، ومن الذابين عن سنة سيد المرسلين وشريعة رب العالمين، أنه سبحانه جواد كريم.
أسأل الله جل وعلا أن يغفر لي ولكم ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا، في امرنا، وكن لنا يا ربنا ولا تكن علينا، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أتباع الحق، ومن القائمين به، ومن الذابين عن دينه.
اللهم وفقنا لما فيه رضاك وجنبنا ما تسخطه وتأبى يا أكرم الأكرمين.
اللهم وفق علماء المسلمين لرد كيد الكائدين، ولنصرة الدين، اللهم ألهمهم رشدا في أقوالهم، وفي أعمالهم، واجزهم خيرا.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، واجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وهيئ اللهم لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وباعد بينهم وبين بطانة السوء التي تأمرهم بالشر وتحثهم عليه، إنك أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الأسئلة]
س1/ هل يجوز للبلدان الإسلامية أن توقع على ميثاق الأمم المتحدة على حقوق الإنسان على بنوده، رغم أن فيها ما يصادم الشرع؟
ج/ الحمد لله، هذا فيه تفصيل.
والأصل في هذا أن الاتفاق الذي فيه شروط، اختلف العلماء: هل يلزم كله أن لا يلزم إلا ما يوافق الشريعة؟(8/28)
وأخذوا هذا من حديث بريرة حيث إنه أُشترط على عائشة شرط مخالف وهو أن يكون الولاء لهم، وقال والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بعيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن اعتق كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» دل الحديث على أن الموافقة ظاهرا على شرط باطل شرعا مع إضمار والالتزام بعدم تطبيقه فإن هذا يجوز؛ لأنه شرط باطل فإذا جرى التبايع مع شروط باطلة فإنه تصح الشروط الموافقة للشرع، والباطلة التي لا توافق الشرع فإنها تكون باطلة ولو وُقع على المجموع.
والعلماء المعاصرون اختلفوا في هذا والذي عليه كثير من علمائنا أخذا من هذا الاستدلال أنه إذا اُضطرت الدولة الإسلامية إذا اضطر البلد إذا اضطر ولي الأمر إلى أن يوقّع مثل هذا فإنه لا بأس بشرط أن لا يكون منفذا لما يخالف شريعة الله لأجل الأثر السالف.
س2/ أي أقسام الكفار الأربعة موجود في الوقت الحاضر؟
ج/ الأقسام الأربعة موجودة جميعا:
فالذميون موجودون في مصر في الشام وفي العراق في اليمن، أهل الذمة يعني أهل الكتاب الذين لهم ذمة؛ يعني [كبوا] في ديارهم لما فتحت تلك الديار وأقروا على دينهم وأعطوا الجزية في ذلك، فهم أهل ذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فبمقابل ما يأخذه أهل الإسلام يأخذه الولي المسلم يأخذه الإمام من الجزية يحميهم ويدفع عنهم الأعداء مع جملة من يدفع عنهم من المؤمنين.
والمعاهد هو الذي يكون بيننا وبينه عهد، وهذا قد يكون بين طوائف دولة ودولة بينها عهد، أو يكون بين فرد وفرد يكون عهد أنا آتي ولا يعتدى عليّ، هذا معاهد.
والمستأمن من دخل بأمان إما لعمل أو لزيارة أو لملاقاة الإمام؛ الرسل رسل الملوك ورسل الرؤساء من وقت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلون بأمان، ليس بعهد يدخلون بأمان، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، فلو أن مسلما أمن مسلما آخر فإنه يؤخذ بتأمينه ما لم يعارض مصلحة شرعية أكبر من ذلك، هذا المستأمن.(8/29)
المحارب، الحربيون هو من بيننا وبينهم حرب، الدول التي فيها جهاد في سبيل الله يكون بيننا وبينهم حرب، مثل الآن ما بيننا وبين اليهود، اليهود في أرض فلسطين حربيون، مثل الدول التي فيها جهاد عام مثل أولا البوسنة والآن كوسوفو وأشباه ذلك هنا يكون الحربي، يوجد الحربيون إذا وُجد القتال إذا وجد الجهاد ما بين الدول الآن عهود يعني بيننا.
مابين كذا في أوروبا أو بين أمريكا أو بين الدولة كذا الكافرة هذا يكون معاهدة يكونون معاهدين لهم حقوق المعاهدة.
س3/ نرى بعض الشركات النصرانية تظهر شعارا يتضح فيه رسم الصليب فما رأيكم ؟
ج/ لا يجوز لأحد من الكفار من أهل الكتاب أن يُظهر الصليب في دار المسلمين.
والصليب في شكله اختلف الفقهاء فيه؛ هل كل شكل متلاقي يعني هذا شكل زائد أو نحو ذلك يعني كل شكل من هذا يعد صليبا أم أن الصليب هو الذي عُبد من دون الله والذي عليه أكثر الفقهاء وشراح الحديث عند شرح حديث لم يدع شيئا فيه تصليب إلا نقضه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدي لما أتاه عليه الصليب «ألق عنك هذا الوثن» خصه أكثر الفقهاء والعلماء بالصليب الذي هو على هيئة الخشبة التي صلب عليها شبه عيسى عليه السلام وهو في ظن النصارى أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وما صلبوه ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157]، فالصليب الذي هو باتفاق هو الذي كون على هيئة الرأس واليدين المفتوحة وبقية الجسم، وبقية الأنواع هذه مختلف فيها بين الفقهاء.
وأما الذي ينبغي سدا للذريعة أن تُجعل أنواع الصليب كلها داخلة في الحكم؛ لأننا نرى أن جمعيات الإسعاف الدولية تسمي تلك الجمعية الصليب الأحمر وشكل الصليب الذي عليها (زائد) ليس طويل فهذا من أشكال الصليب التي عندهم.
س4/ كيف نرد على من قال أن الإسلام قام بالسيف؟(8/30)
ج/ الإسلام قام بالسيف، هذه شبهة قديمة أن الإسلام انتشر بالسيف، هذا ليس بصحيح.
الواجب هو الدعوة، والله جل وعلا جعل الجهاد إذا لم يتمكن المسلمون أو رُدُّوا عنه إجابة لنداء الله جل وعلا يعني رد الناس عن إجابة دين الله جل وعلا فيشرع الجهاد، فالأصل هو الدعوة إلى دين الله كما جاء تشريع ذلك في مكة ثم في المدينة، أُذن بالقتال لمن قاتل ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ?[الحج:39]، في آخر الأمر أمر الله جل وعلا بمجاهدة المشركين كافة ?وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً?[التوبة:36]، وهذا القتال لا يعني أن يكون حلا وحيدا؛ بل يخيَّر القوم بين ثلاثة خصال كما جاء ذلك في الأدلة الصحيحة أنه يخير بين ثلاثة خصال:
· إما أن يسلموا فيَسلموا.
· وإما أن يقاتلوا فتفتح البلاد في المقاتلة.
· وإما أن يعطوا الجزية ويبقوا ويتركوا في ديارهم.
فليس القتال حلا وحيدا لكن الأرض لله جل وعلا يورثها من يشاء من عباده، والأصل هو الدعوة، والجهاد ليس هو الأصل، الجهاد بالقرآن هو الأصل، وأما الجهاد بالسيف فإنما هو لحماية الجهاد بالقرآن، وقد ذكر شيخ الإسلام بن تيمية في أول رده على النصارى أن الجهاد بالسيف إنما هو للضرورة وللدفاع وليس للابتداء.(8/31)
الإسلام لم ينتشر بالسيف ولكن البلاد فتحت بالسيف، نعم بلاد كثيرة أَبَا صناديدها وطغاتها الذين يلونها من فارس والروم وصناديد المشركين أبوا أن يشرح الإسلام لتلك الأقوام؛ للناس، والإسلام دين الله جل وعلا لمن في الأرض جميعا ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، فلابد من تبليغ رسالة الله، فإذا هم صدوا ذلك ولم يقبلوا به فإنهم يقاتَلون على ذلك حتى يسمع الناس كلمة الله؛ لكن لا يكره الناس على الإيمان، ففرق ما بين فتح البلاد وما بين إكراه الناس على الإيمان، فالإسلام ما انتشر بالسيف؛ لكن الدولة الإسلامية اتسعت نعم بالجهاد وبالقتال؛ لكن انتشر الإسلام بالقناعة، انتشر الإسلام بالهداية، ولذلك صار من دخل في الإسلام صاروا أنصارا للإسلام ومجاهدين في سبيل الله، وهذه لا تكون لمن أُرغم هنا يبذل نفسه في سبيل الله لا تكن لمن أرغم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن الذي يقول هذه المقالة وهم النصارى وأتباع النصارى والمتأثرون بهم ينسَوْن أيضا أن النصرانية ما دخلت أوروبا إلا عن طريق السيف، والنصرانية أيضا ما دخلت أمريكا إلا عن طريق السيف؛ قتلوا الهنود الحمر فيها وبالقوة نشروا فيها ديانتهم وثقافتهم وأجلوا من كان في البلاد، فهذه سنة الله جل وعلا والإسلام حافظ على أرواح الناس وحافظ على عقائدهم وحافظ على مصالحهم أعظم من غيره؛ لأنه دين الحق جل جلاله وهو الحق الذي خلافُه باطل وناقص وضعيف.
س5/ هل وُجد في جزيرة العرب من اليهود والنصارى حقوق مع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أخرجوا الكفار من جزيرة العرب» ؟(8/32)
ج/ الجواب أن الحق إذا كانوا أنوا بعهد أو بقوا بذمة مثل الذي في اليمن اليهود الذين في اليمن وأظن نصارى ثَمَّ، أو جاءوا بأمان، فإن هذا حق لهم، فما دام أنه أذن لهم وجاءوا بأمان من المسلم أو من الدولة فإن حقهم محفوظ، ومن قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، فجزيرة العرب قال فيها نبينا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» ولم يُخرجوا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإنما أخرجهم عمر رضي الله عنه.
فاستدل به بعض أهل العلم على أنّ المصلحة إذا كانت في بقائهم أو في وجودهم في الجزيرة فإنه يجوز تأخير ذلك.
وقال آخرون إن قول عمر موافق للنصوص في ذلك وهو الحق فيما رجحه أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.
أما مسألة حق المعاهد وحق الذمي وحق المستأمن هذا باتفاق أهل العلم، حتى لو وجد في مكان ليس له الحق شرعا أن يوجد فيه لكن دخل بأمان فإنه يُجرى عليه الأمان وتعطى له الحقوق كاملة. والله أعلم.
اللهم صل وسلم على محمد.
?????
قدّم لكم هذه المادة: المنكدر، في شبكة سحاب
قام بتنظيمها: سالم الجزائري(8/33)
مسائل في الهجر وما يتعلق به
مجموعة من بعض أشرطة الشيخ
[مفرّغة]
إذا تكلمت إجابةً فلا ينبغي تنزيلها على واقع في ذهن المستمع، بل نؤصل التأصيل الشرعي، والتنزيل ليس مرادا؛ لأنّ التأصيل شيء والتنزيل شيء آخر.
التأصيل له قواعده، والتنزيل له أحكامه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَطْرة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عِقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
أما بعد/ قد هداني الله جل وعلا إلى أن أجمع بعض الكلمات النيرات للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى عن:
مسائل الهجر وما يتعلق به.
وترتكز على نقاط أهمها:
أولا: تبيين أن الهجر منه ما يكون لأجل الدين ومنه ما يكون لأجل الدنيا، وضابط ذلك.
ثانيا: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف في الهجر.
ثالثا: الحكم بالبدعة والرد على المبتدعة وهجرهم، والرد على الحزبيات القائمة اليوم.
وبعدها التطرق إلى أمور لها صلة وثيقة بالهجر:
أولا: هجر كتب أهل البدع؛ لأنه أصل الضلال.
ثانيا: ضابط النقل من كتبهم لم؟ ومن يقوم به؟
ثالثا: مسألة التثبت في الأخبار.
وأخيرا خُتمت بنصيحة لتعامل الإخوة فيما بينهم.
وأرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ في التنسيق بينها.(9/1)
وأسأل الله جل وعلا أن يجزي الشيخ صالح عنا كل خير، وأن يمنَّ علينا وعلى كل المسلمين بالهداية للسير على الصراط المستقيم في الدنيا، وأن يجود علينا أيضا بالهداية التامة يوم القيامة للسير على الصراط المستقيم. آمين.
أخوكم: سالم الجزائري
الهجر حكمه وضوابطه
قال في شرحه للأربعين النووية
قال بعدها عليه الصلاة والسلام (وَلاَ تَدَابَرُوا) يعني لا تسعوا في قول، أو عمل تكونوا معه متقاطعين؛ لأن التدابر أن يفترق الناس كل يولي الآخر دبره، وهذا يعني القطيعة والهِجران.
وهجر المسلم وقطعه حرام إذا كان لأمر دنيوي، فالهجر ينقسم إلى قسمين:
? هجر لأمر الدين، وهذا له أحكامه المختصة، وضابطها: أنه يجوز هجر المسلم لأجل الدين إذا كان فيه مصلحة لذلك الهجر، وهذا كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك وأمثال ذلك.
? والقسم الثاني: الهجر لغرض دنيوي أن يهجر المسلم أخاه لغرض له للدنيا؛ لإيذاءٍ أذاه، أو لشيء وقع في قلبه عليه، فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى ثلاثة أيام، وما بعدها فحرام عليه أن يهجره، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا يَهْجُر مُسْلِمٌ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا. وَخَيْرُهُمَا الّذِي يَبْدَأُ بِالسّلاَمِ».
قال العلماء: الهجران إلى ثلاث مأذون به في أمر الدنيا، يعني إذا كان لك هذا لحظ نفسك، -هذا لحظ نفسك إلى ثلاثة أيام وما بعدها فحرام أن تهجر أخاك فوقها-، وخير الرجلين الذي يبدأ بالسلام، أما أمور الدين فهذه بحسب المصلحة كما ذكرنا في القسم الأول، قد يكون هجرانا إلى أسبوع، أو إلى شهر، أو يوم بحسب ما تقضي به مصلحة المهجور.
?????
وقال في شريط حقوق الأخوة
الزلاّت قسمان: زلات في الدين وزلات في حقك, يعني زلات في حق الله وزلات في حقك أنت:(9/2)
· أما ما كان في الدين؛ إذا زلّ في الدين بمعنى فرّط في واجب؛ عمل معصية، فإن العفو عن هذه الزلة أن لا تشهرها عنه، وأن تسعى في إصلاحه، لأن محبتك له إنما كانت لله، وإذا كانت لله فأن تقيمه على الشريعة، وأن تقيمه على العبودية، هذا مقتضى المحبة, فإذا كانت في الدين تسعى فيها بما يجب؛ بما يصلحها، إذا كانت تصلحها النصيحة فانصح، إذا كان يُصلحها الهجر فتهجر.
والهجر كما ذكرنا لكم في درس سالف الهجر نوعان: هناك هجر تأديب, وهناك هجر عقوبة, هناك هجر لحضك، وهناك هجر لحض المهجور، إذا كان هو عمل زلة.
فما كان لحضه هو إذا كان ينفع فيه الهجر فتهجره, إذا كان بين اثنين من الأخوّة والصحبة والصداقة ما لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر فرأى أحدهما من أخيه زلة عظيمة، رأى منه هفوة بحق الله جل وعلا، فيعلم أنه إذا تركه ولم يجبه، إذا لقيه بوجه ليس كالمعتاد، فإنه يقع في نفسه أنه عصى، ويستعظم تلك المعصية؛ لأن هذا لا يستغني عن ذاك، فهذا يُبذَل في حقه الهجر، لأنّ الهجر في هذه الحال مصلح.
أما من لا ينفع فيه الهجر، فالهجر نوع تأديب وهو للإصلاح، ولهذا اختلف حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المخالفين؛ مع من عصى، فهجر بعضا، ولم يهجر بعضا.
قال العلماء: مقام الهجر فيمن ينفعه الهجر؛ فيمن يصلحه الهجر، ومقام ترك الهجر فيمن لا يصلحه ذلك.(9/3)
· أمّا ما كان من الزلات في حقك، فحق الأخوّة أولا أن لا تعظِّم تلك الزلة, يأتي الشيطان فينفخ في القلب، ويبدأ يكرر عليه هذه الكلمة، يكرر عليه هذا الفعل حتى يعظمها، يعظمها وتنقطع أواصل المحبة والأخوة، ويكون الأمر بعد المحبة وبعد التواصل، يكون هجرانا وقطيعة للدنيا، وليس لله جل جلاله, سبيل ذلك أن تنظر إلى حسناته؛ تقول أصابني منه هذه الزلة، غلط علي هذه المرة، تناولني بكلام، في حضرتك أو في غيبتك، لكن تنظر إلى حسناته، تنظر إلى معاشرته، تنظر إلى صدقه معك في سنين مضت، أو في أحوال مضت، فتعظم الحسنات، وتصغر السيئات، حتى يقوم عقد الأخوة بينك وبينه، حتى لا تنفصل تلك المحبة.
?????
وقال في شرح لمعة الاعتقاد
قال (من السنة هِجران أهل البدع ومباينتهم) وهذا هو الذي كان أئمة أهل السنة يوصون به من عدم غشيان المبتدعة في مجالسهم ولا مخالطتهم، بل هجرانهم بالكلام، وهجران بالأبدان، حتى تُخمد بدعهم، وحتى لا ينتشر شرهم، فالدخول مع المبتدعة ومساكنتهم، سواء كانت البدع صغيرة أو كبيرة، والسكوت عن ذلك، وعدم هِجرانهم، والاستئناس لهم، وعدم رفع الرأس بحالهم مع بدعهم، هذا من حال أهل الضلال، إذْ أهل السنة تميزوا بأنهم لهم الموقف الأعظم الذي فيه القوة والشدة مع أهل البدع مهما كانت البدع، فيهجرون أهل البدع.(9/4)
هجر المبتدع من أصول الإسلام، بل من أصول أهل السنة؛ لأن جنس البدع أعظم من الكبائر، فالبدعة أشد وأعظم من الكبائر، وذلك من خمس جهات، نذكر بعضا منها: الأولى أن البدعة من باب الشبهات، والكبائر من باب الشهوات، وباب الشبهات يعسر التوبة منه، بخلاف أبواب الشهوات، ولهذا جاء في الأحاديث من حديث معاوية وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف أهل البدع «تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقَى منه عرق ولا مفصل إلا دخله»، وقد بيّن عليه الصلاة والسلام -إن صحّ الحديث وقد صحّحه جمع من العلماء- أنه قال « أبى الله أن يقبل توبة صاحب بدعة حتى يدع بدعته» وقد جاء في ذلك أيضا بعض الأحاديث، التي منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، ومنها ما رُوي أنه قال «من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام».
ونلاحظ اليوم أنه في هذه المسألة فيه تَرْكٌ لهذا الأصل، فكثير من الناس يُخالط المبتدعة ولا يهجرهم بحجج شتى؛ إمَّا دنيوية، وإما تارة تكون دعوية أو دينية، وهذا مما ينبغي التنبه له والتحذير منه؛ لأن هِجران أهل البدع متعين، فلا يجوز مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدعوة، ولا مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدنيا، ولا مخالطتهم وعدم الإنكار عليهم بدعوى أن هذا فيه مصلحة كذا وكذا، إلا لمن أراد أن ينقلهم لما هو أفضل لما هم فيه، وأن ينكر عليهم ويغيّر عليهم.(9/5)
الاهتمام بالسنة والرد على المبتدعة هذا كما تعلمون ظاهر في حال أئمة أهل الإسلام، فقد كانت حياتهم في الرد على المبتدعة، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على الكفار الأصليين من اليهود والنصارى، فإذا رأيت كلام الإمام أحمد، وسفيان، وحمّاد بن زيد، أو حمّاد بن سلمة، ونعيم وهم أئمة أهل السنة، والأوزاعي، وإسحاق، وعلي بن المديني، ونحوهم من أهل السنة والإسلام، وجدتَ أن جُلّ كلامهم وجهادهم إنما هو في الرد على المبتدعة وفي نقض أصول المبتدعة، وإن كانوا باقين على أصل الإسلام، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على اليهود والنصارى وسائر ملل أهل الكفر، وذلك لأن شر المبتدع لا يظهر على أهل الإسلام، ولا يؤمَن على أهل الإسلام، أما الكافر الأصلي من اليهود والنصارى فشرُّه وضرره بين وواضح لكل مسلم؛ لأن الله جل وعلا بيّن ذلك في كتابه، وهم ظاهرون، أما أهل البدع فالشر منهم كثير، ولهذا لا يحسن أن يُنسب لأهل السنة والجماعة أنهم مفرّطون في الرد على اليهود والنصارى ومنشغلون بالرد على أهل الإسلام، كما قاله بعض العقلانيين من المعتزلة وغيرهم: إن أهل السنة انشغلوا بالرد على أهل الإسلام، وتركوا الرد على الكفار من اليهود والنصارى، وسائر أهل الملل الزائفة.(9/6)
وهذا سببه هو ما بينته لك أن شر البدع أعظم؛ لأن هؤلاء يدخلون على المسلمين باسم الإسلام، وأما أولئك ففي القلب منهم نفرة من اليهود والنصارى، فهدي أئمة الإسلام كان ظاهرا في الرد على المبتدعة، والرد على أهل الأهواء، ولم يعرف عنهم كبير عمل في الرد على اليهود والنصارى، وليس معنى ذلك أن المؤمنين من أهل السنة لا ينشغلوا بالرد على اليهود والنصارى، لا، ولكن نذكر ما تميز به أئمة أهل السنة وإلا فالرد على كل معادٍ للإسلام من الكفار الأصليين، ومن أهل البدع متعيِّن وفرض، لكن من انشغل بالرد على المبتدعة لا يقال له لم تركت اليهود والنصارى لم ترد عليهم وانشغلت بهؤلاء؟ نقول هذا هدي الأئمة الأولين، وكلٌّ يرد في مجاله؛ منا من يرد على اليهود والنصارى، ومنا من يرد على المبتدعة، ونحن جميعا نكون حامين لبيضة الإسلام من تلبيسات الملبِّسين، وبدع المبتدعين، وشرك المشركين، وضلالات الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم.
?????
وقال في شريط نصيحة للشباب(9/7)
والثانية في الآية: هي الوصية في إصلاح ذات البيْن ?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ?[الأنفال:1]، وإذا كان كما هو معروف بسبب النزول أنه لما اختلفوا على الأنفال في غزوة بدر وحصل بين بعضهم وبعض كلام، وهذا يخطِّئ هذا وهذا يخطئ هذا، فأمر الله جل وعلا بتقواه وبإصلاح ذات البيْن وطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في فتنة الأنفال وتركها لله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على عظم هذا الأمر وإصلاح ذات البيْن، فإنّ المرء أعظم ما يتقرب به في الحقوق العامة للناس أن يسعى في إصلاح ذات البيْن، قد ثبت في الصحيح صحيح مسلم بن حجاج رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يُغفر لكل مسلم يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول كل يوم اثنين إلا رجل كانت بينه وبين أخيه خصومة، فيقال أَنْظُرُوا هَذَيْنِ حَتّىَ يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتّىَ يَصْطَلِحَا» يعني أخروا هذين فلا تُغفر لهم الذنوب حتى يصطلحا، ولهذا من أسباب مغفرة الذنوب إصلاح ذات البيْن وأن لا يكون بينك وبين أحد من أهل الدنيا -أحد من المسلمين- شحناء بسبب الدنيا.
أما إذا كانت بسبب حق الله جل وعلا هذا فيه تفصيل كما هو معروف في باب الهجر، وأما أن يتخاصم اثنان ولا يسلم هذا على هذا لأجل أن هذا غمزه مرة بكلمة وهذا مرة قدح فيه في مكان بكلمة ونحو ذلك، فهذا ليس من صنيع أهل الإيمان أن يتهاجروا في الدنيا.(9/8)
بل إذا حصل الهجر الشرعي يكون بشروطه ودواعيه المأذون بها شرعا، والمسلم لا يحلُّ له أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث؛ يعني لأمر من أمور الدنيا، لك إذا اعتدى عليك في عرضك أو أخطأ عليك في نفسك وسمعتَ هذا منه وحصل بينك وبينه خصومة أن تهجره لحق نفسك ثلاثا؛ إلى ثلاث فقط، ومن أتى وأصلح فأجره على الله، أما ما هو أكثر من الثلاث فلا يجوز، ومن فعله يعني هجر أخاه فوق ثلاث لحظٍّ من حظوظ الدنيا فإنه داخل فيمن هجر المسلم بغير حق ومن من لم يصلح ذات البيْن.
?????
و سئل في الشريط نفسه أيضا
السائل: الشيخ بارك الله فيك فيه قضية كَثُر حولها الجدل قضية الهجر، فالسؤال: متى يُهجر المبتدع ومن الذي يحكم بالهجر؟
الشيخ: ينبغي أن يكون السؤال: ومن هو المبتدع أيضا؟ لأنّ من الذي يحكم بالبدعة أولى من الذي يحكم بالهجر.
أما حكم الهجر فهو: الهجر مشروع والنبي صلى الله عليه وسلم هجر الثلاثة الذين خلفوا -كما تعلمون- هجرهم شهرا أو أكثر، فدل على مشروعية الهجر؛ يعني لأجل الدين، لأجل الشرع، لأجل المصلحة الشرعية للمهجور.
والنبي عليه الصلاة والسلام كانت حاله مع العصاة في عهده ومع المنافقين ومع المشركين متنوعة.
فالذين هجرهم هم بعض العصاة، وليس كل عاص يُهجر؛ بل بعض أهل المعصية هو الذي يُهجر.
وكذلك المنافقون لم يهجرهم عليه الصلاة والسلام.
والمشركون الذين قدموا عليه -عليه الصلاة والسلام- لم يهجرهم.
والنصارى أيضا الذين قدموا عليه لم يهجرهم.
فدل على القاعدة التي قعدها أهل العلم والأئمة من المحققين وقررها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع بأن الهجر تبع للمصلحة الشرعية، فإنما يهجر من ينتفع بالهجر، وأما من لا ينتفع بالهجر فإنه لا يهجر؛ لأن الهجر تعزير إصلاح، فإذا كان التعزير غير نافع فإنه لا يشرع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يهجر الجميع.(9/9)
والهجر قد يكون عمل، قد يكون بقلب، قد يكون بترك السلام، بترك رد السلام، قد يكون بترك دعوته أو استجابة دعوته... إلى آخر ذلك، فهذا مقيد بمن ينتفع به.
المسألة الثانية من الذي يحكم بالبدعة؟ البدعة حكم شرعي، والحكم على من قامت به بأنه مبتدع هذا حكم شرعي غليظ؛ لأن الأحكام الشرعية تبع الأشخاص: الكافر، ويليه المبتدع، ويليه الفاسق، وكل واحدة من هذه إنما يكون الحكم بها لأهل العلم؛ لأنه لا تلازم بين الكفر والكافر، فليس كل من قام به كفر فهو كافر، ثنائية غير متلازمة، وليس كل من قامت به بدعة فهو مبتدع، وليس كل من فعل فسوقا فهو فاسق بنفس الأمر، قد يُقال إنه كافر ظاهرا باعتبار الظاهر، وفاسق ظاهرا، ومبتدع ظاهرا، لكن هذا لا يعني إطلاق الحكم، فالتقييد بالظاهر غير إطلاق الحكم كما هو مقرر في موضعه.
فالحكم بالبدعة وبأن قائل هذا القول مبتدع وأن هذا القول بدعة ليس لآحاد من عرف السنة، وإنما هو لأهل العلم؛ لأنه لا يحكم بذلك إلا بعد وجود الشرائط وانتفاء الموانع، وهذه مسألة راجعة إلى أهل الفتوى وأنّ اجتماع الشروط وانتفاء الموانع من صنعة المفتي.
لهذا لا ينبغي؛ بل لا يجوز التجاسر على الحكم بالبدعة على من لم يحكم عليه أهل العلم الرّاسخون فيه بأنه مبتدع، بل يُصار إليهم فيما قالوا وفيما تركوا.
ومن حكم فهذا اجتهاد منه، إن كان من أهل الاجتهاد فهو له ولكن لا يتابع عليه يعذر فيه لكن لا يتابع عليه؛ لأن التبعية إنما هي لأولي أهل العلم الراسخين فيه، وإن كان من غير أهل الاجتهاد فقوله مردود عليه ويصبح اجتهادا في غير محله.
?????
قال في شريط جلسة خاصة
س/ [السؤال غير مسموع من الشريط]
ج/ لابد أن يكون من ولي الأمر، لابد أن يستشير ولي أمر:
? إذا كان في مسألة دينية؛ في رد البدعة ظاهرا لتحذير الناس من الرجل المسلم يكون ولي الأمر في هذا العالم.(9/10)
? وإذا كان في مسألة حبسه أو قتله أو كذا لابد أن يستأذن ولي الأمر الذي هو الحاكم.
أما مجالسة أهل البدع والسماع منهم فهذا شر، الواحد ما يضمن نفسه، الواحد الذي أمنَّ الله عليه بالهدى لا يفرط فيه، الذي منَّ الله عليه بالسنة لا يفرط فيها، ومن أسباب التفريط سماع الأذن هذه، تسمع كذا ممن ليس متحصنا لا،... والله أعلم
?????
قال في شرحه للحموية
البخاري رحمه الله تعالى هجره محمد بن يحيى الزهري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة لما أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق -كما قيل في الرواية-.
والبخاري أراد شيئا حقا؛ لكنهم تمسكهم بالسنة ما اكتفوا منه باللفظ الغير واضح، فأطلقوا أنه مبتدع، ولذلك تركوا التحديث عنه حتى مات رحمه الله تعالى، ترك المجلس وذهب إلى بلده واستقر فيه مدة ثم توفي.
لهذا تجد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ترجم للبخاري قال: محمد ابن إسماعيل البخاري أبو عبد الله تركه أبي وأبو زرعة لما أظهر عندهم مسألة اللفظ. يعني متروك.
مسلم أيضا دافع عن البخاري في هذه المسألة، وانحرف عنه بعد ذلك؛ لأنه من تلامذته الخاصين فلما ترجم له ابن أبي حاتم -وهو من أئمة السنة هو وأبوه وأيضا أبو زرعة- قال لما ترجم لمسلم مسلم بن حجاج النيسابوري: صدوق. لأجل هذه المسألة.
?????
قال في مسائل الجاهلية
يقول: ما رأيكم فيمن يقول: إن على العالم أن يعلم منهج السلف الصالح دون التطرق إلى الفرق الضالة وأصحاب المناهج الضالة، ألا يدخل في مقولة عمر رضي الله عنه تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟(9/11)
والجواب: أن هذا الكلام غير دقيق وليس بصحيح بل هو غلط؛ لأن الرد على المخالف في دين الإسلام، الرد على المخالف من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا هو أول من ردّ، وأعظم من رد على المخالفين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي حاجهم بنفسه جل وعلا، فالرد على المخالفين من أعظم القربات، يقول شيخ الإسلام: وهو من أعظم أنواع الجهاد. وهذا صحيح وقد يفوق جهاد الأعداء الخارجيين؛ يعني أن مجاهدة العدو الداخل أعظم من مجاهدة العدو الخارج؛ لأن العدو الخارج بينةٌ عداوته أما العدو الداخل فهذا قد يخفى، ومن أعظم العداوات أن ينشأ في المسلمين من يدعوهم إلى غير منهج السلف لأن هذا -كالبدع والشركيات والمناهج الضالة من منحرفة كالرافضة والخوارج ونحوها- فإن هذا لا شك أنه الرد على هؤلاء من أعظم القربات، الخرافيين الصوفيين أهل الطرق ونحو ذلك كل هؤلاء الرد عليهم من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو نوع من الجهاد لا بد منه قال جل وعلا ?فَلَا تُطِع الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا?[الفرقان:52] ومجاهدهم بالقرآن وبالعلم من أعظم أنواع الجهاد، أما أن يتركوا ويسكت عنهم، فمتى يعرف الحق؟ إذا سكت العالم على بيان ضلال الضالين، متى يعرف الحق؟ لأننا يجب علينا أن نرعى الدين، الدين علينا أهم من الأشخاص فإذا كان الرد على فلان يحمي حمى الدين –هذا المخالف- ولا مفسدة راجحة في الرد؛ من سفك دماء ونحوه، فهذا يتعين الرد، فالرد على المخالفين من أصول الإسلام ولا شك.
فقوله أنه عليه أن يبين منهج السلف دون التطرق إلى الفرق الضالة كلام غير دقيق وغير صحيح.
?????
وسئل أيضا
يقول: بالنسبة لأهل البدع غير المكفرة هل يشهر بهم ويحذر منهم ومن آرائهم؟(9/12)
الجواب: أن هدي السلف الصالح أنّ أهل البدع سواءً كانت بدعتهم مكفرة أو كانت بدعتهم ليست بمكفرة أنهم يلزم أن يبيَّن للناس من حالهم؛ لأجل أن لا يتعدى ضررهم إلى الناس، لأنه ما من مبتدع إلا وسيمارس بدعته، إن لم يدع إليها قولا دعا إليها فعلا، وهذا يتعين أن يُحمى الدين من هؤلاء؛ لأن حماية الدين وحراسة الملة أصل من أصول الإسلام وواجب من واجباته العظام على هذه الأمة، فلا بد أن تبقى في هذه الأمة طائفة تحرس هذا الدين من بدع المبتدعين، سواء أكانت بدع مكفرة أو كانت بدعهم غير مكفرة؛ لأن حماية الدين أغلى من حماية ورعاية الأشخاص، ومهما كان مقامهم في العلم، مقامهم في السلوك ونحو ذلك، فالسلف مازالوا ينكرون في وقتهم على من كان معروفا بالصلاح؛ أنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي، أنكر الإمام أحمد على طائفة، بل أنكر الأئمة على الواقفة في خلق القرآن، مع ما حصل في تلك الأزمنة من المحنة العظيمة.
فإذن هدي السلف الإنكار على أهل البدع، لكن هذا متوقف على شيء، وهو أن يثبت وصف البدعة لمن ينكر عليه، فإذا ثبت وصف البدعة على من ينكر عليه، بوصف أهل العلم الراسخين العارفين بالبدع، بوصفهم لذلك، فإنه ينكر عليهم، لا يكون مسألة البدع والابتداع محل اجتهادات فلان من الشباب يرى أن هذه بدعة والآخر لا يرى، إن اختلفنا في هذه المسألة من جنس المسائل الأخرى الرجوع فيها إلى أهل العلم، هل هذه بدعة أو لا؟ فإن من الناس من يكفر بما ليس بمكفر، ومنهم من يبدع من ليس بمبدع، وهكذا، فيجب أن يثبت العرش أولا مثل يقول القائل: أثبت العرش ثم أنقش، يعني أولا يثبت أنها بدعة بإثبات أهل العلم، ثم بعد ذلك ينكر على أصحابها إنكار أهل بدع.
هناك مقولة انتشرت ألا وهي أنه لا ينكر إلا على أهل البدع المكفرة، وهذه المقولة خطأ ومخالفة لمنهج سلف هذه الأمة من أصله.
?????
وسئل أيضا(9/13)
فيه بعض طلبة العلم يترفع عن مخالطة العوام، ويقول لا أخالط إلا من فيه خير، هل هذا من التكبر والأنفة؟
ج/ يخالط العوام الذين فيهم خير، أما العوام الذين ليس فيهم خير لا يخالطهم، العامي قد يكون في عقيدته وفي استسلامه لله أحسن من بعض المنتسبين, وهذا ظاهر قد يكون عليه بعض مظاهر التقصير أو مظاهر المخالفات لكنه في حقيقة الأمر هو أقوى يقينا وإيمانا –يعني في مسائل إيمان القلوب- من غيره، فمخالطة العوام لأجل دعوتهم والتأثير فيهم ونحو ذلك مطلوبة، لكن مثل ما قال «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي», يحرص المرء على أنه إنما يخالط من ينفعه أو يؤثر عليه.
?????
وسئل في شريط كيف تدعو إلى الله؟
هل الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات، مما يدعو إليه كل أحد أو العلماء فقط، وإذا كان ذلك لكل أحد فكيف يكون ذلك؟
الجواب: الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذا مطلبٌ للجميع, لأن الواقع يدلّ على أن ضيق العمل الإسلامي وضيق الدعوة إلى الله إنما جاء من جهة الحزبيات, الحزبيات هذه تجعل المرء يتحرك في دائرة ضيقة، وأنا أذكر زمنا مرت به هذه البلاد من نحو عشرين سنة ما كان الشاب يخالط إلا شابا، ما كان يعرف يدعو أهله بل كان إذا أتاه بعض زملائه يريد أن يجتمع بهم ليقرؤوا في كتاب أو نحو ذلك ربما أغلق الباب، وهذا من الفهم الخاطئ للدعوة، وسببه الحزبيات.
الحزبيات فيها إعطاء نفسية من بداخل تلك الجماعات نفسية الانغلاق، طبعا هذا تغيّر في الفترة الأخيرة يعني من نحو عشرة، اثنا عشر سنة، فصار هناك انفتاح على الناس في ذلك، لكن يبقى أثر الحزبيات في النفوس أنه يبقى المرء منغلقا، يبقى المرء ضيقا، إذا أراد أن يتوجه لشيء وجد ثَم من يمنعه لرؤية غيره، وهناك أشياء من الخير كثيرة يمكن أن يسلكها المرء، لكن لأجل وجود تلك الإطارات ربما حُدّ ذلك من نشاطه.(9/14)
فالدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذه عند العقلاء والمصلحين هذا مطلب عام يشترك فيه الجميع؛ لأننا وجدنا في مسيرة الدعوة في هذه البلاد أنها تسير ولله الحمد -إلى وقتنا هذا وفيما نستقبل من الأيام والسنين إن شاء الله- تسير إلى التخلص من الحزبيات شيئا فشيئا، لكن التخلص من الشيء مرة واحدة هذا ليس بالسهل، لكن شيئا فشيئا ستنتهي ويكون الناس جميعا متحابين في جماعة واحدة، كلهم يدعون إلى شيء واحد ويحكمون عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم.
الناس يختلفون في طرح هذه الموضوعات عليهم، ولهذا من يطرح هذه الموضوعات أحيانا يكون مصيبا، وأحيانا يكون مخطئا، لأن المدعو ما حاله حتى تَطرحَ عليه موضوع جماعات أو حزبيات أو نحو ذلك، ربما لا يكون عنده فكرة أصلا عن الحزب، ليس عنده شيء من ذلك حتى تنقله إلى غيره، ومن التصور الخاطئ الذي في أذهان بعض الإخوة أن هذه الصحوة -التي تراها- الكبيرة، وهؤلاء الشباب -ولله الحمد- والشيب والنساء في إقبالهم على الخير، أنّ الأكثر عنده جماعة أو عنده حزب ونحو ذلك، إما متحزب أو في جماعة أو عنده اجتماع فهذا ليس صحيح، إنما الجماعات أو الاجتماعات في خضم هذا الموج ولله الحمد أو هذا الانتشار العظيم للدين قد لا يمثل عشرين في المائة، لكن هذا التأثر العظيم، هم يتأثرون بمن حولهم، يتأثرون بمن يقول لهم، الجميع مقبل على الخير ومقبل له، فمن الذي يبلغهم الخير؟ هم مع من يبلغهم، فإن بلغهم بطريقة صحيحة كانوا معه، وإن بلّغهم بطريقة غير صحيحة كانوا معه؛ لأنهم ليس عندهم من العلم ما يميزون به بين الحق والباطل، رأوا شيئا من الفساد، ورأوا شيئا من المخالفات وأنواع من المنكرات التي لا يقرها الدين ولا أهل العلم ولا يقول أحد بجواز وجودها، فيأتي من يقول لهم إن هذا منكر ولا يجوز ويثير فيه الغيرة فيقبل عليه سواء كان في حزب أو جماعة أو لم يكن كذلك.(9/15)
إذن النظرة إلى وجود الحزبيات أو وجود الجماعات عندنا أو في العالم الإسلامي بعامة ينبغي أن تكون في إطارها الصحيح، وأن لا يُتَصوَّر أنَّ كل شخص يتكلم بكلام قد يشترك فيه مع بعض الجماعات أنه يكون منهم، لا، هذه تأثرات عامة في المجتمع، وأهل الاجتماع والجماعات قليلون جدا.
وهؤلاء كيف تعرفهم؟ كيف تعرف أن هذا من الجماعة الفلانية وينتمي لها؟
لا يمكن أن تجزم على أحد بعينه إلا بشروط خاصة أن هذا فعلا من الجماعة الفلانية، ومنتمي، إلى آخره، وأكثرها ظنون، ومعلوم أن الشرعيات لا تُبنى على الظنون، وإنما تبنى على الحقائق، فمجال الدعوة أن تحذر من هذه الأمور، يعني من الحزبيات ونحو ذلك، أن تحذِّر من هو واقع فيها، وترى عنده بُعْد عن الصواب فيها، عند التعصب لجماعة من الجماعات، عنده غلو، عنده دعوة إلى أن ينتمي الناس إلى هذه الجماعة، ونحو ذلك، دفاعٌ عنها وعن أصولها ومبادئها، هذا هنا يخاطب بنفسه، أمّا تخاطب العامة جميعا بمسألة ربما ما يدري وهو في الحالة هذه، ما يعرف جماعة أو غير جماعة، فيسبب شيء في نفسه من الشكوك في الالتزام كما حصل ذلك فعلا.
إذن الكلام على هذه المسألة لا يقال الداعية يتكلم فيها بإطلاق، ولا يقال يتركها بإطلاق، بل يتكلم عنها في حدودها الشرعية، والكلام في هذه المسائل يحتاج إلى علم وحكمة وبصيرة، والشريعة -كما هو من القواعد- جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وجاءت بدرء المفاسد وتقليلها، فالكلام في هذه الأمور بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد مطلوب؛ لأن تحقيق المصالح الشرعية أمر متفق عليه، ودرء المفاسد أمر متفق عليه، أمّا أن تحدث مصلحة ويكون معها مفاسد كثيرة فهذه لا تجوز؛ يأتي واحد وتدعوه وهو مقبل على الخير وتجعل في نفسه الكلام على فلان وفلان، وفلان أو الجماعة الفلانية والجماعة الفلانية ربما ما تَحَمَّلَ عَقْلَه ذلك فَكَرِهَ الخيرَ كلَّه.(9/16)
فإذن هذه المسائل لا يُتكلَّم فيها إلا مع من كان واقعا في تلك الاجتماعات أو الجماعات رغبة في إصلاحه وإسداء الخير له بالكلام عام أيضا وخاص.
نرجو أن يكون هناك كلمة في أحد الدروس أو درس من الدروس في علاج هذه المسألة من جوانبها المختلفة.
?????
أمور تتعلق بالهجر
قال في شرحه للحموية
فإذن تنتبه على أن أصل الضلال هو الذهاب إلى أحد الطريقين:
الطريق الأول: وهو أن يغلو العبد في النصوص وأن يحملها ما لا تحتمل، أو أن تسيطر عليه الشبه فيها، ولا يعلم ما دلت عليه علم الحق واليقين.
والثاني: أنه يخشى عليه من الملل؛ الملل من قراءة كتب السنة والحديث والتوحيد على طريقة السلف فيذهب إلى غيرها فيحصل عنده أولا إعجاب ثم بعد ذلك تحصل عنده شبهة ثم بعد ذلك يحصل عنده بدايات الانحراف والضلال ولهذا قال من قال من السلف:
لا تصغي إلى ذي هوى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك
?????
قاعدة عامة
وهذا منهج عام لإقامة الحجة وإيضاح المحجة في أبواب الدين كله؛ وهو أنه لا يلزم من نقل الناقل عن كتاب أنه يزكيه مطلقا، وقد ينقل عنه ما وافق فيه الحق تأييدا للحق، وإن كان خالف الحق في غير ذلك فلا يعاب على من نقل من كتاب اشتمل على حق وباطل إذا نقل ما اشتمل عليه من الحق.
وأيضا تكثير النقول عن الناس على اختلاف مذاهبهم هذا يفيد في أن الحق ليس غامضا؛ بل هو كثير شائع بيِّن.
وأيضا لا يلزم من اختلاف الناقل مع المنقول عنه أن يترك الاستفادة مما قاله، لهذا ينقل علماؤنا عن بعض المتكلمين وعن بعض المفسرين الذين عليهم ملاحظات كـ: ما ينقلون عن أبي السعود مثلا، وعن الرازي، وعن القرطبي، وأشباه هؤلاء الذين عليهم ما عليهم من ملاحظات في العقيدة لكن ينقلون ما أصابوا فيه، فإذا أصاب القائل فإنه ينقل عنه ما احتيج لتقرير الحق في مسألة ما، كما فعل شيخ الإسلام ها هنا.(9/17)
فيقبل الحق ممن جاء به ولو كان كافرا، كما قبل الحق من الشيطان في قصة أبي هريرة مع الشيطان في صدقة الفطر المعروفة؛ حيث جاء يأخذ فمسكه أبو هريرة، ثم جاء يأخذ فمسكه، ثم جاء يأخذ فمسكه، ثم قال له: ألا أدلك على كلمة إذا قلتها كنت في أمان أو عصمتك ليلتك كلها اقرأ آية الكرسي كل ليلة فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح. فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فقال عليه الصلاة والسلام «صدقك وهو كذوب» سلم بهذا التعليم وأخذ به مع أنه من الشيطان.
كذلك النبي عليه الصلاة والسلام أقرّ إفادة اليهود والنصارى لنا بما فيه تنزيه رب العالمين وعدم التشريك به في قول من قال ما شاء الله وشاء محمد، فقال عليه الصلاة والسلام «قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد» لأن اليهود قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون.
كذلك قالت طائفة من النصارى: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون، تنددون يعني بقول ما شاء الله وشاء محمد، فأخذنا هذا منهم مع أنهم ليسوا بأهل توحيد، هم أهل شرك، وهم أهل التنديد الأعظم بالله، لكن ينطق الله بعض عباده بالحق وإن كان على الباطل في بعض أموره.
لهذا ذكر الأئمة؛ أئمة الدعوة رحمهم الله وخاصة الشيخ محمد رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد أنّ صاحب الهوى يكون له فهم فيؤخذ من فهمه، فلهم ذكاء فيؤخذ من ذكائهم ما أصابوا فيه.
وهذه قاعدة عامة في طريقة الأئمة.
فإذن فهذه النقول الكبيرة من المخالفين في العقيدة ومن متكلمين ومن أشاعرة فيما نقل شيخ الإسلام في هذه العقيدة الحموية تدل على أن النقل لإقامة الحجة وللتكثير والإفادة منه عن من عليه نزعة اعتقاد باطل أنه لا بأس به إذا كانت الحاجة للنقل عنه قائمة: إما في إقامة الحجة أو في تكثير من قال بهذا القول أو لغرض شرعي صحيح.
?????
وسئل في شريط نصيحة للشاب(9/18)
السائل: شيخ، في قضية خاصة في مثل هذا الكلام الذي وصفته أن هناك من يحكم بالذنب؛ لأن الفتنة يحصل فيها أمور، فيظن أن هذا يقصد هذا أو هذا فيحكم في مسائل ظنية دون أن يتأكد، وهناك من ينقل الكلام ويقبله دون تثبت فما هو القول في هذا؟
الشيخ: أما هذا من حيث التأصيل فواضح في كلام الله جل وعلا وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الصحابة وكلام أهل العلم، وإذا تكلمت إجابة فلا ينبغي تنزيلها على واقع في ذهن المستمع، بل نؤصل التأصيل الشرعي، والتنزيل ليس مرادا؛ لأن التأصيل شيء والتنزيل شيء آخر؛ التأصيل له قواعده والتنزيل له أحكامه.
لهذا نقول أما إساءة الظن وبناء الأمور على الظن فهذا منهي عنه، والله جل وعلا أمر بأن يُجتنب كثير من الظن فقال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?[الحجرات:12].
قال العلماء: الظن أكثره منهي عنه. يعني أن يحكم بالظن، ومأمور أن يجتنب إلا في:
البيّنات التي تكون عند القاضي.
والفقه فإن الفقه مبني على الظن في أكثر مسائله كما هو مقرر في الأصول.
وحكم القاضي مبني أيضا على الظن كما هو مقرر في الفتوى والقضاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح «لَعَلّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فإنما أحكمُ عَلَىَ نَحْوِ مّا أَسْمَعُ فمن حكمتُ له -أو قال: قضيت له- مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنّمَا هو قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ فليأخذ أو فليدع».
فالآية فيها النهي عن الظن وفيها الأمر باجتناب الظن، وقال (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) لأنّ بعض الظن مطلوب عند القاضي وعند المجتهد، وهنا إنما يحكم بما يظن أنه لا يتيقن به؛ لأنّ التيقن الكامل -اليقين- هذا صعب أن يكون دائما.(9/19)
إذن فيما بين الناس فلان مع فلان يظن أنه كذا لكلمة سمعها منه، يظن أنه كذا بفعل فعَلَه، معلوم أنّ الكلمة لها احتمالات، والفعل الواحد له احتمالات، ربما رأيت شيئا ويكون هناك عدة احتمالات، النبي عليه الصلاة والسلام رُئيت معه صفية فأطرقا الصحابيان، فَقَالَ النّبِيّ عليه الصلاة والسلام «عَلَىَ رِسْلِكُمَا. إِنّهَا صَفِيّة»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: «إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَىَ الدّمِ. وَإِنّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً».
... وأن يجتنب الظن السيئ في المسلمين ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وغيرُه أنّ عمر رضي الله عنه قال –أيضا تنسب إلى غير عمر رضي الله عنه– قال: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.
كذلك في الأعمال، لا في الأقوال ولا في الأعمال يجتنب الظن، وإذا كان الظن الذي يخطر في البال لا يجوز؛ لأن الظن في النفس يعني في القلب، فكيف بالظن الذي ينبني عليه أفعال وتصرفات، فلا شك أن هذا أعظم حرمة، فالظن الذي تعتمد عليه وتبني عليه تصرفك معه وتبني عليه نقلك لآخرين رأيك في فلان بناء على ظن ظننته في قوله أو على ظنِّ ظننته في فعله هذا غيبي حتى يكون برهان بيِّن؛ يكون بيِّن، إما بكلام يسمع منه لا يحتمل، أو كلام يحتمل فيُستفصل منه فيقول أنا كذا مما هو لا يجوز، أو بكلام كتبه لا يحتمل أو بكلام كتبه يحتمل فاستفصل منه فقال: أنا أريد كذا.
ولهذا عند الأصوليين الدلالات متنوعة ومنها الدلالة الحملية، والدلالة الحملية التي يحمل عليها الكلام، فيقال: إن الكلام إذا أفرد كان له معنى، وإذا حمل بعضه على بعض كان له معنى.(9/20)
فينظر في الكلام ما يحمل عليه بسياقه وبلحاقه، فإذا كان يوضح المراد فيبين ذلك، وهذا أخطأ فيه بعض المعاصرين فظنوا أنّ الكلام يجب أن يكون صوابا في أفراده وفي حمله، وهذا ليس بواجبٍ مطلقا لأن الكلام يفسر بعضه بعضا، ولهذا نقول الحكم على الناس، الحكم على الأشياء بناء على الظن لا يجوز شرعا؛ بل لا بد أن يكون على اليقين إلا من كان أصله -يعني الظن فيه- لأصل ما هو عليه، فهذا الأصل يتبعه فروعه. نعم
السائل: النقل من غير تثبت؟
الشيخ: أما النقل بغير تثبت فالله جل وعلا كرّهه في قلوبنا بِجَعْل الناقل من غير تثبت فاسقا، ويكفي في هذا ما يحمل القلوب على كرهه فقال جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا? -وفي القراءة الأخرى ?فَتَثَبَّتُوا?- ?أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6]، فجعل صفة الذي ينقل بلا تثبّت جعله فاسقا، وهذا مما جعل هذا الفعل يَكْرَهُهُ كل من في قلبه إيمان لأنه آمن ليخرج من الفسوق، ولهذا سبيل الخلاص من ذلك أن تنقل ما يُحتاج في نقله شرعا، وما لا يحتاج إليه فاكتمه، ومن حدث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبين أو أحد الكاذبين «وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» كما ثبت في الأحاديث، لهذا ما تسمعه يجب أن لا تنقله؛ لأنك قد تتعرض للإثم إلا في ما المصلحة الشرعية في نقله وما المصلحة الشرعية في نقله أحد ثلاث صور وهي الجائية في سورة النساء ?لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114]، فمن نقل قولا لا يريد به الصدقة بمفهومها الواسع، ولا يريد المعروف، ولا يريد به الإصلاح بين الناس فإنه ليس على خير بل هو آثم بما نقل وإن خرج سالما فإنه لا يخرج في المرة الأخرى سالما.(9/21)
ولهذا لكل محبّ لنفسه ولنجاتها ألاّ ينقل إلا ما هو يقين جدًّا مما سمع وما هو يقين ينقل منه ما هو داخل في أحد الثلاثة هنا قال (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ) هذه فيها خير الثلاث، وغيرها قد يكون مباحا وقد يكون إثما وهو الأكثر.
?????
?
نصيحة
قال في شريط حقوق الأخوة
أولا أن تسكت عن ذكر العيوب؛ لأن المصادقة أو الأخوة الخاصة تقتضي أن تطّلع منه على أشياء، يقول كلمة، يتصرف تصرفا، فعل فعلا, ما معنى الأخوة الخاصة إلا أن تكون مؤتمنا على ما رأيت، أن تكون مؤتمنا على ما سمعت، وإلا فيكون كل واحد يتحرز ممن يخالطه، فليس ثَم إذن إخوان صدق، ولا إخوان يحفظون المرء في حضوره، وفي غيبته، مما حَدَا ببعض الناس لما رأى الزمن -زمنه- لما رأى زمنه خلا من هذا الصديق، وهذا المحب الذي يحفظ عِرضه، ويكون وفيًّا معه، هداه أن ألف كتابا وسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لأنه وجد الكلب إذا أحسن إليه من ربَّاه، فإنه يكون وفيا له، حتى يبذل دمه لأجل من أحسن إليه، فقال تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لأن كثيرين يخونون؛ يخالط مخالطة خاصة، ويطّلع على أشياء خاصة، ثم ما يلبث أن يبُثَّها، وأن يذكر العيوب التي رأى، وأن يفضحه بأشياء، لو كان ذاك يعلم أنه سيخبر عنه لعدّه عدوا، ولم يعدّه حبيبا موافيا، لهذا من حق أخيك عليك أن تحفظ عرضه بالسكوت عن ذكر عيوبه، سواء بمحضر الناس في حضرته، أو في غيبته من باب أولى، فإن حق المسلم على المسلم أن يحفظ العرض فكيف إذا كان ذلك خاصا.
?????
وكذلك قال في الشريط نفسه:(9/22)
أن تحفظ أسراره, وأسراره هي التي بثها إليك، بثّ إليك نظرا له، بثّ إليك رأيا رآه في مسألة, تكلمتم في فلان، فقال لك رأيا له في فلان، تكلمتم في مسألة فله رأي فيها بثَّه إليك؛ لأنك من خاصته، ولأنك من أصحابه، ربما يخطئ وربما يصيب، فإذا كنت أخا صادقا له فإنما بث إليك ذلك لتحفظه لا لأن تشيعه، لأن مقتضى الأخوة الخاصة أن يكون ما بين الأحباب سر، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود في سننه «الرجل إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت عنه فهي أمانة» هي أمانة، والله جل وعلا أمرنا بحفظ الأمانات، وحفظ الأعراض، لأنّك إذا ذكرت هذا الرأي منه، فإن الناس سيقعون فيه، ترى منه رأيا عجيبا، تقول فلان يرى هذا الرأي، فلان يقول في فلان كذا، ما معنى الأخوَّة؟ هل تُشيع عنه ما يرغب أن يُشاعَ عنه؟ بل أعظم من ذلك أن يأتي أخ بينه وبين أخيه عقد أخوّة خاصة فيستكتمه على حديث فيقول: هذا الحديث خاص بك لا تخبر به أحدا. فيأتي هذا الثاني ويخبر ثالثا ويقول: هذا خاص بيني وبينك ولا تخبر أحدا. ثم ينتشر في المجتمع والأول غافل عنه، كما قال الشاعر:
وكل سرٍّ جاوز الاثنين فإنه
بنفس وتكسيرِ الحديثِ قمين
فهذا واقع، فإن المرء إذا اصطفى آخر؛ إذا اصطفى صاحبا له، أخا له فأخبره بسر، فلا بد من الكتمان، خاصة إذا استأمنه عليه، فإذا لم يستأمنه عليه فكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا حدَّث الرجلُ الرجلَ بحديث ثم التفت عنه فهي أمانة» فكيف إذا استكتمه إياه، ولم يأذن له بذكره.(9/23)
من مظاهر حفظ العرض أن يُحجم المرء عن ذكر المساوئ التي رآها في أخيه، أو في أهله أو في قرابته، أو في ما سمع منه، مثلا واحد يتّصل بأخيه، فيسمع -وهذا ساكن مثلا مع أهله أو منفرد- فيسمع في بيته ما لا يُرضي، فيذهب ويخبر؛ يقول: سمعت في بيت فلان كذا وكذا، وكذا. أو يراه على حال ليست بمحمودة، فيذهب يخبر بمساوئه، ليس هذا من حفظ العرض، بل هذا من انتهاك العرض، والواجب عليك أن تحفظ عرض أخيك، وإذا سمعت شيئا عنه، أو رأيته هو على حال، أو تكلم بمقال، أو رأيته على شيء لن يحمد، أو نحو ذلك فحفظ عرضه هو الواجب، لا أن تبذل عرضه، وأن تتكلم فيه؛ لأن العرض مأمور أنت بحفظه، والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.
?????
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد(9/24)
وقفات مع كلمات لابن مسعود
رضي الله عنه
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
... وأنعم عليهم بقبولها منهم بعد التوفيق، وأنعم عليهم بمجازاتهم عليها يوم العرض عليه، فالحمد لله الذي تفضل وأنعم، وتكرم وأعطى بغير حساب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا معبود لنا غيره، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فلا خير إلا دلها عليه، ولا شر إلا حذرها منه، فتركها بعده - صلى الله عليه وسلم - على طريق واضح نهج بين لا يزيغ عنه بعده - صلى الله عليه وسلم - إلا هالك.
اللهم صلي على محمد كفاء ما أرشد وعلم، اللهم صلى على محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى زوجاته، وعلى صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا.
أما بعد:(10/1)
فإن من القصور الذي يعانيه الناس اليوم أنهم يعلمون كلام أهل العصر أو أهل العصور التي يعيشونها ويقصرون في تتبع ومعرفة وتدبر كلام سلفنا الصالح، وكلام السلف قليل كثير الفائدة، وكلام الخلف كثير قليل الفائدة، كما قال ذلك ابن رجب عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي –رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم فضل علم السلف على علم الخلف، وأساس ذلك أن السلف كانوا إذا تكلموا اقتفوا في كلامهم أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يوجز كلامه، وقد أوتي جوامع الكلم، وهي الكلمات القليلة التي تحوي المعاني الكثيرة، فتجد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم من الكلمات ولهم من الوصايا ولهم من الخطط ولهم من الرسائل التي يوصي فيها بعضهم بعضا ما هو قيل الكلمات قليل الحروف، ولكن من تدبره وجد تحت كل جملة العجب العجاب من تفرُّع المعاني وكثرتها وقوتها، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طبقات، ومنهم المهاجرون الذين أسلموا قديما وصحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ومن هؤلاء خاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحب نعليه وصاحب طهوره: عبد الله بن مسعود الهذلي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة.(10/2)
عبد الله بن مسعود أو ابن أم عبد كما كان عليه الصلاة والسلام يناديه، كان ممن أسلم في مكة، وصحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وسمع القرآن أول ما أنزل وحفظ القرآن، حتى إنه كان يقول: لو أني أعلم أن على الأرض أحد يعلم في كتاب الله جل وعلا أكثر مما أعلم، تبلغه المطي لرحلت إليه. وكان يحفظ القرآن وكان أقرأ الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال فيه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعني عبد الله بن مسعود، قال له عليه الصلاة والسلام مرة «يا عبد الله اقرأ علي القرآن». قال: أأقرأ عليك يا رسول الله وعليك أنزل؟ قال «إني أحب أن أسمعه من غيري». فافتتح عبد الله رضي الله عنه سورة النساء فمر حتى أتى قوله جل وعلا ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا(41)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا?[النساء:41-42]، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : «حسبك» .يعني يكفي ، قال عبد الله بن مسعود:فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام .
ابن مسعود وصى به عليه الصلاة والسلام، وصى الأمة أن تأخذ بعده، وأن تقتفي أثره.
فقد صح على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «تمسكوا بعهد ابن أم عبد». يعني إذا عهد إليكم عهدا فتمسكوا به.
وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد».
وصح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «قد رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد».
ولهذا كان ابن مسعود صاحب وصايا، يوصي ووصاياه -كما أسلفت- جمعت بين الكلام القليل والمعاني الكثيرة، وسيأتينا ما يدل على ذلك.(10/3)
كان ورعا خاشعا، كان فلاَّءً للقرآن عاملا به، آمرا به ناهيا.
فهو الذي يقول: إذا سمعت ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? فأرعها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
وهو الذي يقول في أهل القرآن: ينبغي لصاحب القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفترون.
وهو الذي أوصى في القرآن بقوله: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهزوه هز الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب.
فكان رضي الله عنه له أصحاب، وكان يوصيهم بوصايا حُفظت لنا، وكان أصحابه على هيئته يترسمون خطاه ويهتدون بهديه، وكان رضي الله عنه أشبه الناس هديا وسمتا ودلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني أنه كان حريصا على السنة، ولهذا كان أشبه الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام.
[الوصية الأولى]
كان له أصحاب، وهكذا العالم الداعي لا بد أن يتأثر به الناس، ومع ذلك كان مربيا حتى في إمامته وصُحبته.
رآهم مرة يتبعونه، ورأى العدد كثر رضي الله عنه، فقال لهم كلمته التي هي فاتحة الكلمات سنتدبر فيها من كلمات ابن مسعود قال رضي الله عنه لهم قال:
لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب على رأسي، ولوددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي، وأني دعيت عبد الله بن روثة. أخرجه الحاكم وغيره.
يقول لأصحابه (لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان) وفي رواية أخرى قال: لو تعلمون -يقسم ويقول- والله الذي لا إله غيره لو علمي لحثيتم التراب على رأسي.(10/4)
وهذه الكلمات مدرسة ولا شك؛ لأن البروز في الناس متوقع، إذا تميز أحد في الناس بشيء، ربما عظموه، وربما مدحوه، وربما تتابعوا خلفه يمشون، والمرء كلما ازداد علمه بالله جل وعلا علم أنَّ ذنوبه كثيرة كثيرة كثيرة، ولا عجب أنْ أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر -وهو أفضل هذه الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- الصديق الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر». علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو آخر صلاته بدعاء فيقول فيه: «ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت». القائل الموصِي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والموصَى أبو بكر الصديق رضي الله عنه «ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك»، كلما ازداد علم المرء بربه خشي الله جل وعلا، وخشي أن يطأ عقبه اثنان، خشي أن يعظم في الخلق، خشي أن يُرفع في الناس؛ لأنه يعلم من الله جل وعلا، ومما يستحقه الله جل وعلا ما يوقن بأنه لن يبلغ أن يوفي الله جل وعلا حقه، فيكون مقصرا في الشكر، وذلك ذنب من الذنوب.
قال ابن مسعود: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان. يشتهر الناس:
فمنهم القارئ للقرآن، يشتهر بحسن قراءته، وبحسن صوته، فيجتمع عليه الناس.
منهم العالم يشتهر بعلمه، وبفتواه، وبصلاحه، وبورعه، فيجتمع عليه الناس.
ومنهم الداعية يشتهر ببذله للناس، ويجتمعون حوله بما هداهم الله جل وعلا به إلى الحق.
ويشتهر من يؤدي الأمانة.
ويشتهر من يأمر بالمعروف وينهى عن المعروف، وهكذا.(10/5)
ومقام الشهرة مقام مزلة عظمة، ولهذا ابن مسعود أوصى وصية على نفسه يبين فيها حاله، ويبين فيها ما يجب أن يكون عليه كل من كان له تبع، فيقول: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان ولحثيتم التراب على رأسي. لابد فيمن كان على شهرة، أو كان ممن ينظر إليه الناس أن يحتقر نفسه دائما بينهم، ويظهر ذلك لا ليرتفع بينهم، ولكن ليرتفع عند الله جل وعلا، ومدار ذلك الإخلاص، فإن من الناس من ربما يزدري نفسه أمام الناس ليظهر بينهم، وهذا من الشيطان، ومنهم من يزدري نفسه من الناس والله جل وعلا مطلع على قلبه أنه صادق في ذلك، يخشى لقاء الله جل وعلا، يخشى يوم يوفى ما في الصدور يوم يطلع على ما في القلوب، ولا تخفى على الله خافية، ولا يكتمون الله حديثا.
هذه عبرة من العبر يتنبه لها كل تابع وكل متبوع، أما التابع فينتبه إلى أن هذا المتبوع يجب أن لا يعظَّم وإنما يستفاد منه بما يبلغ على الله جل وعلا، أو بما ينفع به الخلق، وأما التعظيم فإنما هو الله جل وعلا، ثم لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما باقي الخلق فلهم إذا صلحوا فلهم المحبة في النفس، وينبغي على من اشتهر أن يكون دائما خاشعا ذليلا ذاكرا ذنوبه، ذاكرا مقامه بين يدي الله، ذاكرا أنه ليس بأهل أن يطأ عقبه اثنان، وأن يتبعه اثنان.
ولهذا لما مدح أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين الناس، وخطب بعد ذلك، صح عنه فما رواه أحمد وغيره قال رضي الله عنه: اللهم اجعلني –يقولها علنا- يقول اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما يعلمون. ينبه الناس أن عنده ذنوب، حتى لا يغلو الناس فيه، فهل يستقيم هذا مع ما نرى من أحوال يزيد فيها المعظَّم تعظيما لنفسه، ويزيد فيها المعظِّم تعظيما لمن عظمه واتبعه، ليس هذا من هدي الصحابة رضي الله عنهم، عمر رضي الله عنه ربما أعجبته نفسه وهو خليفة، وهو بعد أبي بكر رضي الله عنه في التبشير بالجنة فأخذ يحمل الشيء في السوق فيزدري نفسه حتى لا تتعاظم بنفسه.(10/6)
ومن أبواب الخطايا العُجب والتعاظم أن يرى المرء نفسه معظَّما، كان من السلف الصالح من إذا أتى ليلقي شيئا، فرأى الناس اجتمعوا تركهم، لم؟ لأن صلاح نفسه ألزم عليه من صلاح الناس، لما رأى هذا الجمع اجتمعوا، ورأى أن نفسه بدأت تعالجه في أن هؤلاء حضروا، وهؤلاء أنصتوا، وهؤلاء فعلوا، وأقبلوا عليه، عالج نفسه بتركهم، فيقولون عنه ما يقولون، لكن أهم الأمر أن يكون صالحا قلبه فيما بينه وبين ربه، وصلاح قلبك أهم من صلاح قلب غيرك، فينبغي عند ذاك مجاهدة النفس في هذا المقام.
إذا فهذه الوصية من ابن مسعود حيث يقول: والله الذي لا إله إلا هو لو تعلمون علمي لحثيتم التراب على رأسي.
وهذه نرجوا أن يتذكرها كل من كان له بعض شهرة بين الخلق، معلم، أو عالم، أو قارئ، أو آمر ناهي، أو مسؤول في جهة، أو أمير، أو ملك، إلى آخره من أصناف الناس، ينبغي أن يكون مزدريا لنفسه حتى لا يتعاظم قلبه عليه، فيخسر الدنيا والآخرة. هذه وصية، وهي وصية بليغة تحتها معان كثيرة، وفيما ذكرنا إشارات، وتحت الإشارات عبارات، وتدبر تجد ذلك.
[الوصية الثانية]
الوصية الثانية والكلمة الثانية عن ابن مسعود ما رواه البخاري في صحيحه عنه رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا ولم يخرج لفظ كلام بن مسعود قال رضي الله عنه قال:
إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا فذبه عنه.
إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا-أي بيده- فذبه عنه.
مقام الناس في الذنوب مقامان:
مقام المؤمن يذنب.
ومقام الفاجر يذنب(10/7)
المؤمن يعمل الطاعات وهو وَجِلْ قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ?[المؤمنون:60]، ما معناها؟ يعني الذين يصلون ويتصدقون ويزكون ويصومون ويخافون أن لا يُتقبل الله منهم، هذا في الطاعات فكيف إذا أذنب ذنبا ماذا يكون حاله قال ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. وهذه الحال التي ينبغي أن نكون أن نتعاظم أن نذنب في حق الله جل وعلا، نذنب في التفريط في الفرائض، التفريط في الصلوات، التفريط فيما يجب في الصيام، التفريط في أداء الزكاة، التفريط في أداء حقوق الخلق؛ في المعاملات، في الكسب، في الغش، في أداء الأمانة، في معاملة الأهل، في معاملة الوالدين، في عدم العقوق، في الإتيان بالخيرات، إذا ازداد علمك فسترى أن الله عز وجل عليك في كل لحظة تتحركَها أمر ونهي، إما أن يكون في عمل الجوارح، وإما أن يكون في عمل اللسان، وإما أن يكون في عمل القلب، في كل لحظة في حياتك فلله جل وعلا عليك أمر ونهي، حتى لو جلست ساكنا، فالقلب إما أن يتحرك في معاص معاصي القلوب من الكبر والظن ظن السوء، أو أن يدبر مثلا، أو يعمل عملا يرتب له من الذي لا يجوز، أو يفكر كيف يأخذ ما ليس له بحق، أو إلى آخره، فإن هذه ذنوب إذا عمل بها بعد خاطر القلب، ومنها ذنوب قلبية ولو لم يعمل مثل ترك التوكل، مثل ترك الصبر مثل العجب مثل الرياء ، إلى آخره، فلله جل وعلا عليك في كل لحظة تحريكة لك وكل تسكينة له عليك أمر نهي، ولابد أن يقع منك الغفلة والغفلة والغفلة، فالمؤمن يكون خائفا وجلا يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، ولهذا يحذِّر الناس من ذنوبه ومن أن يغتروا به، وأيضا يحذر هو أن يختم له قبل أن يستغفر، يحذر أن يكون من الموسوسين الثرى قبل أن يحدث توبة واستغفارا، فلهذا يكون المؤمن مع هذا القول على حذر شديد يتبع ذلك الحذر كثرة الاستغفار، ولهذا(10/8)
النبي عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله جل وعلا في اليوم والليلة أكثر من مئة مرة، وفي المجلس الواحد سبعين أو مئة مرة عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان حال الصحابة، هذه حال المؤمن حال الخوف، فهو يخاف من الذنوب يرجو رحمة الله جل وعلا.
أما الفاجر الذي يعمل بالمعاصي بلا حساب، فيقع في الذنوب الكبيرة كبائر الذنوب وفي الموبقات والبدع، وفي ترك السنن، وفي الأخذ بالرأي وترك الأثر، وغير ذلك من الذنوب، وهو لا يشعر بها؛ بل كأنهما ذباب مر على أنفه فقال به هكذا، المؤمن رحمه الله بأن الصلاة إلى الصلاة مكفرات إلى ما بينهما، ورمضان إلى رمضان مكفرات إلى ما بينهما، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما؛ لكن بشرط تجتنب الكبائر، كما قال جل وعلا?إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا?[النساء:31]، فشرط لتكفير السيئات إن تجتنب الكبائر، فالصلاة إلى الصلاة مكفرات؛ لكن هل كل صلاة مكفرة؟ ليس كذلك؛ بل من الصلاة ما يعلها العبد ولا تكفر عنه ذنوبه، كذلك من الصيام ما يصومه العبد -يعني رمضان- ولا يكفر عنه ذنوبه، ومن العمرة ما لا يكفر به الذنوب، فلكل عبادة من هذه العبادات شرط أن تكفر السيئات، فمثلا في الصلاة ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه «من صلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها كانت له كفارة فيما بينها وبين الصلاة والأخرى ما اجتنبت الكبائر» الوضوء تتقاطر مع الماء الذنوب، لكن كما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه «من توضأ ما أمره الله»، العمرة كذلك.(10/9)
ولهذا من رحمة الله أن نوّع؛ جعل الصلاة إلى الصلاة مكفرات، من الناس من يبقى عليه شيء فلا تكفرها صلاته فيكفره رمضان، من الناس من لا يقوم له رمضان بالتكفير فتكفرها الجمعة إلى الجمعة، منهم من لا تقوم له الجمعة فتأتي العمرة فتكفر ما بينهما من الكبائر، فيكون المرء على وجل من فعل المعاصي، فكيف إذا كان ما يفعل الكبيرة من الكبائر -الزنا وشرب الخمر والربا والسحر- وهذه يتنكب عنها الصالحون؛ لكن ثم كبيرة يغشاها الصالحون، ومنهم من لا يشعر بها، أو لا يكون كما قال ابن مسعود في خصلة الفاجر:كذباب مر على أنفه فقال هكذا.
وهذه الخصلة وقع فيها الأكثرون في هذا الزمن الغيبة، والغيبة من الكبائر لأن الله جل وعلا قال ?وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ?[الحجرات:12]، قال العلماء جعل الغيبة كأكل الميتة وأمل الميتة كبيرة فدل على أن الغيبة من الكبائر.
والنميمة والبهتان هذه من الكبائر، فالغيبة أن تذكر أخاك بما يكره، الصلاة إلى الصلاة مكفرات ما اجتنب الكبائر فهل نخاف أو نطمئن، الله المستعان، إذا لم تجتنب هذه الكبيرة فالصلاة إلى الصلاة ليست بمكفرة، فكيف إذا ازداد على الغيبة أن تكون بهتانا، الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته»، والبهتان أعظم إثما من الغيبة، وهذه من الناس من يغتاب ويتكلم بلسانه ولا يخاف، كذباب مر على أنفه فقال به هكذا، وهي أكثر ما تكون في الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الصالحين يجتنبون كبائر الذنوب مثل الزنا أو شرب الخمر والسرقة؛ ولكنهم يقعون في ذنوب اللسان والقلب.(10/10)
يتعاظم بقلبه يتجبر يتكبر، يمرّ به أحد فيستصغر ذاك ويعظّم نفسه، ولو علم الحقيقة لربما كان ذلك الذي ازدراه أعظم عند الله جل وعلا منه، فالمرء ينبغي أن يكون حسيبا على نفسه، يجلس الناس مجالس طويلة يغتابون فيها.
والغيبة درجات، وأعظمها أن يغتاب من له الحق عليه من أهل العلم ومن الوالدين ونحو ذلك، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته، والله المستعان.
هذه ذنوب فتأمل هذه الكلمة، ولا تغتر بأنك صاحب طاعة، وتنظر إلى نفسك وأنك وأنك لا تحس بالذنوب التي تغشاها وأنت لا تشعر، لقصور علمك، أما الرجل إذا علم، أما المسلم أو المسلمة إذا علمت أمر الله فإنه سيكون في القلب الخشية ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?[فاطر:28]، فإذا أذنب ذنبا كان القلب وجلا خائفا، لا يدري ما الله جل وعلا يصنع فيما فعل من الذنب، الذي قد يكون ذنبا لسانيا، وقد يكون ذنبا قلبيا، وقد يكون أذنب ذنبا من ذنوب الجوارح.
إذا هذه الوصية مدارها أن تعظِّم أمر ذنبك، ولا تخفف أمر الذنب، فإذا عظمته، وكأنك قاعد تحت جبل تخشى أن يقع عليك، فإنك ستسعى إلى طلب المغفرة، ستسعى إلى التوبة، ستسعى إلى مفارقة الذنوب وان تُلِظَّ باله جل وعلا إن يعفو عنك ويتسامح، وهذه عبادات تلو العبادات.
[الوصية الثالثة]
ومن كلمات ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه يقول لأصحابه:
اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه.
وهذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الصحيح المروي في السنن «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» صحيح كما قال ابن مسعود: المرء لا يخاف إلا من يعجبه. يعجبه في تصرفاته، يعجبه في عقله، يعجبه في تفكيره، فإذا رأيت أحدا يخادن أحدا؛ يعني صديقا له، ملازما له، محبا له، فاعتبر هذا بذاك؛ فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.(10/11)
(فاعتبروا الناس بأخدانهم) وهذا ما يدل على ذاك.
فمن جهة الأعمال إذا رأيت من يخشى المعاصي والكبائر، ورأيت من يصاحبه ويلازمه فاعتبره بذاك، واخشَ عليه أن يكون مثل صاحبه، لأنه إما أنه لم يعمل بفعل صاحبه وإما أنه علم فرضي، ومن علم بالمعصية فرضيها كان شريكا لصاحبها في الإثم.
في الألسنة إذا وجدت إن فلانا سبابا شتاما، كثير الغيبة، كثير الوقيعة، وتجد أن فلانا كثير الصحبة له، لا يخالفه ولا ينهاه ولا يفارقه، فاعلم أنه شبيه به، رضي صنيعه.
في العقول الناس يتقاربون في العقول وفي التفكيرات، فإذا وجدت في عقل أحدهم محبة للعلم، ووجدت من يصاحبه، فتعلم أن من يصاحبه محب للعلم وإن لم يكن من أهل العلم، إذا وجدت من يصاحب صاحب السنة فتعلم أنه صاحب سنة؛ لأنه كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم. وإذا وجدت من يصاحب أهل الأثر فهو محب للأثر ولأهله، وإذا وجدت من يصاحب أهل الرأي ويلزمهم فتعلم أنه محب لهم وأن له حكمه، من أحب السنة صحب أهلها، ومن أحب المحدثات صحب أهلها، «والمرء على خليله» كما قال عليه الصلاة والسلام وهذه وصية وما وراء هذه الوصية بعد الاعتبار أن تعتبر نفسك، ليس المقصود أن تحكم على الناس؛ ولكن عبارة لطيفة من ابن مسعود حيث قال: اعتبروا الناس بأخدانهم. لكن إذا أردت أن تعتبر الناس فلا بد أن تعتبر نفسك قبل أن تعتبر الناس؛ ولكن من الناس من لا يحب أن يواجَه بالنصيحة والوصية؛ ولكن جعله ابن مسعود رضي الله عنه، جعل هذا الموصَى حكما على غيره وإذا تأمل وجد أن في العبارة أن يحكم على نفسه فاعتبر نفسك بأخدانك؛ فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه.
إذا كان كذلك فتأمل نفسك ومن تصاحب؟ هل تصاحب أهل الطاعة أم أهل المعصية؟
إذا وجدت من يأنس لأهل العصيان، ولو كان ظاهره الطاعة، ففي الغالب أن نفسه من داخلها تنازعه إلى العصيان، ولو من طرف خفي.(10/12)
وإذا وجدت من يصاحب أهل العلم، وجدت أن نفسه تنازعه إلى العلم، ولو لم يكن من طلبته.
وإذا وجدت نفسك تصاحب أهل السنة، فمعنى ذلك أن قلبك محب لها.
وإذا وجدت نفسك تصاحب أهل المحدثات وأهل الغيبة وأهل النميمة وأهل الوقيعة فتعلم أن المرء على دين خليله.
فإذن تبدأ مع نفسك بالإصلاح.
كلمة ابن مسعود هذه لنفسك ولغيرك، وهذه وصية تربوية جامعة دعوية، وكل حسيب نفسه، والله جل وعلا يقول مخبرا عن قول بعضهم يوم القيامة ? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا?[الفرقان:28-29]، اتهم الرأي وعليك بالسلامة، أطلب السلامة، لا تأخذ نفسك بالأماني، بل كن على حذر، وكن طالبا للسلامة، لا طالبا للهو واللعب، فإن الحياة ليست مدتها كافية للهو واللعب، وإن غشى اللهو واللعب الأكثر، وإنما هي لمن عقل ميدان فقط لطاعة اله جل وعلا ولا تنسَ نصيبك من الدنيا.
[الوصية الرابعة]
من كلمات ابن مسعود رضي الله عنه التي أوصى بها الناس وقد قال عليه الصلاة والسلام «تمسكوا بعهد ابن أم عبد»، وقال «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن آدم عبد» قال ابن أم عبد –عبد الله بن مسعود لأصحابه:
إنكم في زمان: كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان: قليل علماؤه كثير خطباؤه.(10/13)
في زمن الصحابة -عبد الله بن مسعود توفي سنة اثنين وثلاثين للهجرة-، قال لأصحابه ينبه ويربي: إنكم في زمان كثير علماؤه -لأن الصحابة متوافرون- قليل خطباؤه -في كل بلد فيه مسجد واحد يخطب فيه العالم في البلد- قال: سيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه -العلماء قليل تبحث عنهم وهم قليل، ولكن من الكثير؟- قال: كثير خطباؤه. الخطباء هم الذين يخطبون الناس، ويتكلمون فيهم، فيدخل فيه خطيب الجمعة، يدخل فيه المحاضر، يدخل فيه المدرسون، كل من يخطب؛ يعني يُلقي كلاما علنيا على مجموعة من الناس، هؤلاء الخطبة.
وفي هذا الزمن الخطباء على هذا المعنى كثير، ولكن العلماء -كما قال ابن مسعود- قليل. هل يقصد ابن مسعود بهذا الكلام أن يُثقف أصحابه ثقافة مجردة عن العمل يعني الآن أنتم في زمن العلماء كثير والخطباء قليل، وسيأتي زمن الخطباء كثير والعلماء قليل. هكذا معلومة ليس وراءها عهد، ولا وراءها علم، ولا وراءها وصية، حاشا وكلا.
فابن مسعود هو العالم الداعي المربي، قال هذه الكلمة ليحذِّر الناس عن الابتعاد عن طريق أهل العلم وإتيان طريق الخطباء؛ لأن في زمنه العلماء كثير ولكن الخطباء قليل، وأما في الزمن الذي يكون بعد زمنه (سيأتيكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه)، وقد قال عليه الصلاة والسلام «خيركم قريني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فذكر ثلاثة قرون وقال«لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم»، وثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ليلة عرج به إلى السماء رأى أقواما من أمته تُقرض شفاههم ويعذبون، ففزع عليه الصلاة والسلام وقال لجبريل: «يا جبريل من هؤلاء؟» قال: «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون».(10/14)
ولهذا تجد أن أثر الكلام اليوم، أثر الكلام في النفوس لم؟ لأنه كما قيل إذا صدر الكلام من موفق مخلص دخل القلوب بإذن الله، وأما إذا صار رياء وسمعه فإنه للذة لا يجاوز الآذان، يستلذ كلام طيب جميل ما شاء الله، وعجيب، ولكن هل أثَّر في حياة الناس؟ هل أثر؟ دخل في القلوب؟ ما دخل ولا أثر.
كثير اليوم نحضر في خطب الجمعة، ويأتي أمر ونهي وتذكير عظيم؛ لكن هل فزع الناس من هذا التذكير؟ هل قبلوا؟ القليل من يقبل، الأكثرون لا يقبلون، ومن أسباب ذلك أشياء راجعة إلى الخطيب، ومنها أسباب راجعة إلى المستمع. فما المخرج؟
وصية ابن مسعود وعهده أن تهتم بالعلماء، وأن تذر الخطباء؛ يعني أن التوجيه والعهد والوصية والعلم تأخذها من أهل العلم؛ لكن الخطباء هؤلاء كثير ولكنهم غير العلماء، العالم موصوف بالعلم والخطيب موصوف بالخطابة، ولما غاير بين الخطباء والعلماء دلنا على أنه يريد العلماء غير الخطباء، وإذا نظرنا إلى هذا الكلام، وتأملنا إلى الواقع اليوم وجدنا أن سماع الناس لكلام الخطباء أكثر من سماعهم لكلام العلماء ولهذا قد...([1])
[الوصية الخامسة]
كلمة أخرى لابن مسعود رضي الله عنه، قال رضي الله عنه لأصحابه محذرا وموصيا وعاهدا إليهم، وإلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال:
إنها ستكون أمور مشتبِهات فعليكم بالتؤدة، فإن الرجل يكون تابعا في الخير، خير من أن يكون رأسا في الضلالة.
(إنها ستكون أمور مشتبهات)، ابن مسعود وتوفي سنة اثنين وثلاثين، قبل فتنة مقتل عثمان –رضي الله عنه – وقبل أن تبدأ الخلافات بعد مقتله، وما حصل لعلي رضي الله عنه وما يبنه وبين معاوية -رضي الله عنهما – إلى آخر ما حدث، وبداية الفُرقة في الأمة، وبداية الأقوال، وبداية الأخذ والرد، وتنوع الأفكار والأفعال.
قال لأصحابه وللأمة من بعدهم قال:إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتؤدة؛ فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة.(10/15)
ستكون أمور متشبهات، ما معنى المشتبهات؟ العلم نوعان:
محكم.
ومتشابه أو مشتبه.
المحكم: ما تعمله حقا بدليله، أو تعلمه حقا من كلام أهل العلم الراسخين المؤتمنين على كلام الله جل وعلا وعلى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا نوع من العلم، المحكم وهو الذي الله جل وعلا فيه ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ?[آل عمران:7]، هذه المحكمات الواضحة البينة التي علمتها، وعلمت ما فيها من المعنى، وأخذتها.
لكن هناك أمور مشتبهات تحدث في الناس، ولا يجوز لك أن تنساق في المشتبهات والمتشابهات وفق رأيك وهواك؛ بل لابد أن ترد المشتبهات إلى الشرع وإلى الدين ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام:38]، لا خير إلا دلنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شر إلا حذرنا منه.
فماذا تفعل إذا أقبلت المتشبهات؟ قال رضي الله عنه مبينا كيف تكون عند ورود المشتبهات، قال: إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة. هذه الوصية (عليكم بالتؤدة) عليكم بالتؤدة يعني الزموا التؤدة، الزموا الرفق، التؤدة الأناة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على أشج عبد القيس فقال «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الرفق والأناة»، أو قال «الحلم والأناة»، يحبهما الله ورسوله: التؤدة والأناة والرفق، محبوبة لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله يحب الرفق والأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف».(10/16)
وقد دخل رجل يهودي إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: السام عليك. السام يعني الموت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام «وعليك»، سمعت عائشة –رضي الله عنها- هذا الكلام فغضبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لليهودي: وعليك السام واللعنة. فقال لها عليه الصلاة والسلام «مهلا يا عائشة»، فقالت: يا رسول الله ألم تسمع إلى ما قال؟، قال «ألم تسمعي، أني قلت وعليكم -أو وعليك-، يا عائشة: إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
وقد ثبت أيضا في صحيح مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال«إن الله الرفق ويعطي عليه»، قال«إن الرفق ما كان في شيء إلا في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه».
وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «إن الله يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه مالا يعطي على العنف».
هذه وصية ابن مسعود –رضي الله عنه-، قال: إنها أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة.
أمور مشتبهات في الأقوال، أمور مشتبهات في الواقع، في أحوال الناس، فماذا ينبغي؟ ما الوصية؟ الرفق يحبه الله ورسوله، وهذه وصية ابن مسعود الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام «تمسكوا بعهد ابن أم عبد»، قال: فعليكم بالتؤدة. إذا ابتدأت المتشابهات التي لا تدري كيف تُرجعها، لا تدري هل تفعل فيها كذا أو تفعل فيها كذا، لا تدري ماذا تقول فيها؟ فماذا تعمل؟ عليك بالتؤدة؛ لأنه لا يجوز لك أن تتصرف تصرفا إلا عن علم، إذا تصرفت عن جهل فأنت حسيب نفسك وتصرفك عليك؛ لكن لا يجوز أن تتصرف إلا بعلم لأن العلم به النجاة والجهل أودى الناس بالهلاك.
فعليك بالتؤدة يعني تتأنى، فلا تتكلم إلا بكلام تعلم حسنه في الشرع وإصابته في الشرع، فإن كنت عاميا أو طالب علم فتسأل أهل العلم الراسخين فيه يبصرونك فيما ترى، فإذا ساقوا الأدلة على قولهم فإنك تعتقد الحق بدليله.(10/17)
إذا أتت الأمور في الأقوال، أتى من يقول لك فكرة غريبة، في مجلس أتى من يقول كلاما جديدا على سمعك؛ لم تسمعه من قبل، فماذا تتصرف؟ هل تقبله هكذا أو تتئد وتترفق حتى تسأل أهل العلم حتى تكون فيما تقبل وما لا تقبل سائرا على وفق العلم، وصية ابن مسعود فعليكم بالتؤدة، فإن قيل لك كلام غريب تتئد وتتأنى وتترفق، فلا تُقْدم على شيء من تصديق قول أو تكذيبه، أو من اعتقاد أو نفي اعتقاده، أو من عمل ومسارعة في شيء أو بُعد عنه، إلا بعد الترفق والتأني والتأمل.
والفتن إذا أقبلت تشابهت، وإذا أدبرت عرفها كل أحد، كما قال السلف، إذا أقبلت تشابهت، ما أدري هذه تشبه هذه وتشبه هذه، وتشبه المشروع وهذه لا تشبه، تشتبه على الناس لأنها مقبلة، ولكن إذا أدبرت وانتهت عرفها كل أحد؛ ولكن من يعرفها حين تقع؟ إنما يعرفها أهل العلم الراسخين الذين هم ليسوا بأهل الزيغ قال الله جل وعلا في كتابه ?مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ?[آل عمران:7]، (يَتَّبِعُونَ) الذي في قلبه زيغ يتبع المتشابه، وأما الراسخ في العلم هو الذي يعلم تأويله، قال ?فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?[آل عمران:7]، على أحد الوجهين في الوقف أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما اشتبه على أكثر الناس؛ لأنهم راسخون في العلم، فإذا أتت الأمور المشتبهات فوصية ابن مسعود رضي الله عنه إن يكون المرء متئدا مترفقا، قال معللا لماذا؟ قال: فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة.(10/18)
إذا أقبلت الأمور المتشابهة إما أحوال في المجتمع وإما في بيت وإما في مجلس أو في عمل، يأتي من الناس من يغلي قلبه يريد أن يكون رأسا فيها ومتقدما فيها وآخر يتأنى، أيهما يحكم لفعله بالحسن؟ قال ابن مسعود: فإنّ الرجل يكون تابعا في الخير. تكون تابعا ليس المقصود أن تكون متبوعا، أن تكون رئيسا أن تكون رأسا لا المقصود أن تكون محصلا للخير، فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة؛ لأن الأمور المتشابهة إذا أقبلت فإنك إذا أتيتها ربما كانت عاقبتها إلى ضلالة؛ لأنك دخلت فيها دون معرفة شرعية صحيحة، والعلة أن تكون تابعا في الخير خير من أن تكون رأسا في الضلالة؛ لأن المحاسبة يوم القيامة على ما عملت لا على هل كنت رأسا أم كنت تابعا، ومن عباد الله من يحتقر فلا يشفع ولا يؤبه له ولكن من لو أقسم على الله لأبره -نسأل الله الكريم من فضله-.
فيه بقية وصايا لكن نكتفي بهذا القدر ساعة من الزمان، ووصيتي لنفسي -ولست بخيركم- ولكم جميعا أن نستمسك بعهد ابن أم عبد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أوصانا بذلك.
ثم الوصية الأخرى أن تتدبر كلمات السلف، أقبل على كلمات السلف، وتأمل هذه الكلمات، لا تمر عليها مر عجل؛ لكن قف عندها وتأمل ماذا يدل عليه الكلام، تدبر والتدبر فيه الخير، وأما العجلة فيحرم معها المرء كثيرا.
أسأل الله جل وعلا وإياكم في دينه، وأن يغفر لنا ذنوبنا وما أعظمها، وأن يعفو عنا زلاتنا، وأن يختم لنا برضاه، وأن يجعلنا من الذين إذا سمعوا عملوا، وإذا عملوا أخلصوا، هذا ورضي الله عن صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - رفع الله لهم المقام في الآخرة كما رفع لهم المقام في الدنيا، وغفر لنا وجعلنا معهم في الآخرة، وحشرنا تحت لواء محمد - صلى الله عليه وسلم -.(10/19)
وأسأله أن يأتيكم على حسن الاستماع، وأن يجزل لكم التوبة، وأن يتقبل منكم الصيام والقيام، وأن يزيد كم من الخير، وأن لا يكلكم في أنفسكم طرفة عين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]:
س1: يقول: ما هو الصواب فيما لو سئل الواحد عن بعض أهل البدع، أو سئل عن كتبهم، هل يشنع عليه ما عنده ويذكر ما عنده من الأخطاء، أو يذكر محاسنه ومساوئه؟ رفع الله درجاتكم.
ج/ أهل البدع هم الذين يعملون بالبدع أو يدعون إليها.
والبدعة: هي المحدثات في الدين قد تكون من جهة الاعتقاد وقد تكون من جهة العمل.
والمبتدعة حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عليه الصلاة والسلام «وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» قال عليه الصلاة والسلام «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»، وفي آية الأنعام قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159]، قال أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) هم أهل البدع.
فالذين أحدثوا المحدثات في الاعتقادات أو في الأعمال ولازموها ويُطلق عليهم أصحاب البدع، والواحد منهم مبتدع.
وهؤلاء هدي السلف فيهم أن لا يجالسوا، وأن يحذروا منهم ومن مقالاتهم ومن أعمالهم، وأن لا يثني عليهم إذا كان المقام مقام ردٍّ عليهم، أو إذا كان المقام بين العامة؛ لأن الثناء على المبتدع بين العامة إغراء باتباعه، وهو صاحب بدعة فإذا أثنيته عليه دللت الناس على بدعته.
والمبتدعة في الجملة الحال معهم -من جهة ما يكثر الخلط فيهم في هذا الزمن- من الثناء عليهم أو من ذكر المحاسن والمساوئ ونحو ذلك، مقام أهل العلم مع أهل البدعة على حالتين:(10/20)
الحالة الأولى: أن كون مقام رد عليهم وتحذيرا، أن يكون مقام رد عليهم ومقام تحذير منهم، فهذا لا يناسب الثناء عليهم، والمبتدع لا يستحق الثناء أصلا، فإذا كان المقام مقام ردود ومقام تحذير فلا يجوز الثناء على مبتدع ولا على من سلك سبيلهم.
أما إذا كان المقام مقام تقييم له ليس ردا عليه، فإن أهل العلم يذكرون ماله من الخير وما عليه من الشر، بإجمال دون تفضيل، مثل ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض محاسن المعتزلة حيث ردوا على اليهود والنصارى وعلى طائفة الدُّهرية وعلى كثير من طوائف الضلال من غير هذه الأمة، وأثنى على الأشاعرة مرة بردهم على المعتزلة؛ لكن إذا رد على المعتزلة سامهم ما يستحقون ولم يُثنِ عليهم البتة.
فتجد أنه في هذا الوقت خلط كثير من الناس بين المقامين مقام الرد والتحذير ومقام الموازنة.
التقييم هذا يكون على وجه الإجمال وأيضا على قلة.
ومقام الرد هو الذي ينفع العامة فهذا هو الذي لا يجوز أن يثنى على مبتدع، فقد قال رافع بن أشرس فيما رواه ابن أبي الدنيا والخطيب في الكفاية وغيرهما قال: من عقوبة المبتدع أن لا تذكر محاسنه. يعني لأجل أن لا يقتدي الناس به.
إذا تقرر هذا فتبقى قاعدة المسألة: وهي أنه لا يحكم على معيَّن بالبدعة إلا أهل العلم الراسخون، ليس الحكم بالبدع لعامة الناس، أو لعامة طلبة العلم، إنما هو لأهل العلم الراسخين، فإذا أثبت أهل العلم الراسخون أن فلانا مبتدع فإنه ينطبق عليه أحكام المبتدعة الذين ذكرنا.
والكلام المجمل ربما ساغ يعني في غير المعين، الكلام على الطوائف والفئات بغير تعيين، أما إذا الكلام بالتعيين صار المقام أصعب؛ لأن في ذلك حكما والأحكام مرجعها العلماء، والناس في هذه المسالة بين طرفين، وطريقة أهل العلم وسط فيما بين الطرفين. والله أعلم.(10/21)
س2: وهذا يقول فضيلة الشيخ: ما العمل في أمر اختلف فيه الناس بين مصحح ومخطئ، وقد اشتبه علي الأمر، والمشكل أنه ليس أمر يمكن تحديده، فهو يتعلق بمنهج دعوي وأمر ونهي، طلبة العلم الكبار اختلفوا فيه اختلافا شديدا، والعلماء لم يصرحوا فيه بشيء يشفي الغليل؛ بل إنهم يقولون بكلام يشمل التأويل فأرشدونا رفع الله درجتكم.
ج/ لم يظهر لي مراد السائل بيقين بالحال التي يريدها، ولكن العلماء ورثة الأنبياء، فإذا أجملوا فإن الإجمال مقصود وليس هروبا، وإذا فصلوا فإن التفصيل مقصود.
فقد اثني عمر بن عبد العزيز على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا. والراسخون في العلم هم ورثة الأنبياء فقد أخذوا بهذه الخصلة العظيمة، فإذا تكلّموا تكلموا بعلم، وإذا وَقفوا وقفوا بعلم، وقد يكون الإجمال في بعض الحالات من الحكمة ويكون مقصودا ويكون أفضل من التفصيل، وإن كان في الإحكام الشرعية على وجه العموم التفصيل هو المتعين إلا لحكمة، كما قال ابن القيم في النونية:
عليك بالتفصيل والتبيين فالإطلاق والإجمال دون بيان قد أفسد هذا الوجود
ولكن نجد أن من النصوص الشرعية ما هو مجمل فيبقى على إجماله.
والمجمل معناه: ما لم يتبن معناه.
لهذا نقول للسائل ولغيره: أهل العلم في واقعة أو في مسألة أوفي تقييم لحال أو غير ذلك إذا أجملوا فكن مجملا مثلهم، وإذا فصلوا ففصل مثل تفصيلهم؛ لأنك تكون تابعا غير محكِّم لرأيك ولهواك، وهذه لاشك الناس فيها طبقات ودرجات ? هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ?[آل عمران:163].
س3: وهذا يقول: فضيلة الشيخ قد يُفهم من كلامك حفظك الله تعالى أنك تزهد في الوعظ والتذكير في المساجد والمدارس، أرجو توضيح الأمر وجزاكم الله خيرا.
ج/
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم(10/22)
الكلام كان تحذيرا من اتّباع الوعاظ في المسائل التي فيها عمل، الذين يتبعون العلماء، وأما الواعظ فيعظك ويحرك قلبك، يدلك على خير وينهاك على شر، إذا كان ما دل عليه ونهى عنه واضحا لك بما تعلمه من ما أوضحه أهل العلم وما تعلم بما جاءت به النصوص فإن اتباعك لذلك وقبول كلام الواعظ واضح الصواب.
ولكن إذا أتى الواعظ بأشياء أو الخطيب بأشياء استغربتها واستنكرتها فهل المرجع الخطباء أو المرجع أهل العلم؟ المرجع أهل العلم.
وليس في ذلك غضاضة على الخطباء وعلى المحاضرين وعلى المعلمين، فالناس كل يؤدي دوره، والواعظ يؤدي دوره، المحاضر يؤدي دوره؛ فينبه وينفع الله جل وعلا بهم نفعا عظيما؛ لكن هل يتبع الناس هؤلاء؟
مثلا في الوعاظ من هو ليس بمعدود في العلماء الذين يؤخذ بقولهم في الإفتاء، ومع ذلك إذا زرته لا يسكت الهاتف من المستفتيين والمستفتيات، نصب نفسه وقبل، وكثير من الأجوبة لا توافق العلم الصحيح، هذا النوع من الأشياء التي ظهرت من قديم؛ لكن لا يجوز أن تستساغ وأن تُقبل، الواعظ له مهمة، المحاضر له مهمة، يقبل فيما جاء به من العلم الصحيح؛ لكن أن يتخذ عالما، يسأل عن كل شيء ويتتبع في كل شيء؟ هذا تداخل في أداء الواجبات، العلماء عليهم واجب، والوعاظ والخطباء عليهم واجب، فكل أحد يؤدى واجبه، ولا يدخل في واجب الآخر وفي مهمة الآخر.
وإذا وزنَّا الأمور بموازينها كن على خير وعلى مسير فيه أداء للشرع كما ينبغي، وفيه ما يوجبه أو يقضيه العقل الصحيح بما يصلح الدين والدنيا.
س4: وهذا يقول ما حكم الدعاء لولي الأمر على المنبر، سواء كان في خطبة الجمعة أو غير ذلك، وما رأيك في عدم تجويز الشاطبي لذلك في كتابه الاعتصام؟
ج/ الدعاء لولاة الأمور لم يكن في عهد الخلفاء الراشدين، وظهر في آخر عهد الصحابة وفي عهد التابعين، واستمر سنة إلى يومنا هذا.(10/23)
وبسبب ذلك أنه لما ظهرت الخوارج، وكان الخوارج يرون التدين ببغض ولاة أمور المسلمين وكراهتهم الخروج عليهم، خالفهم أهل السنة بالدعاء ظاهرا على المنابر في العلن لولاة الأمور، كما خالف أهل السنة خالفوا الرافضة بالترضي عن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن آله على المنبر.
فلما ظهر الابتداع صارت مخالفة المبتدعة سنة ماضية، ولهذا يذكر العلماء إن من سنن خطبة الجمعة إن يدعا فيها لولي الأمر، والدعاء لولي الأمر سنة ماضية، ومن علامات أهل السنة الدعاء لولاة الأمور، ومن علامات أهل البدع الدعاء على ولاة الأمور كما صرح بذلك البربهاري وغيره في كتاب السنة.
لكن الدعاء شيء والمدح شيء آخر.
المدح لا يجوز؛ لأنه يراد به الدنيا.
وأما الدعاء فيراد به صلاح الدين والدنيا والآخرة، فالدعاء مبعثه أمر شرعي لله.
وأما المدح فلأهله مقاصد مختلفة، ولهذا العلماء يدعون ولا يمدحون مدحا مطلقا، قد يثني بعضهم بثناء خاص مقيد لظهور فائدة عمل عمله ولي الأمر؛ لكن هذا على الاستثناء ليس قاعدة مطَّردة يثني لتشجيعه على الخير وترغيبه فيه وحثه عليه.
أما المدح فإنه ليس من صنيع السلف الصالح، وإنما من صنيعهم الدعاء؛ لأن الدعاء مما يرجى به صلاح دينه، وإذا صلح دين ولي الأمر صلح به شيء كثير.
نكتفي بهذا القدر، وأسال الله جل وعلا لي ولكم البصيرة والختام والحسن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])انتهى الوجه الأول.(10/24)