قسم العلم والدعوة(/)
أسباب الثبات على طلب العلم
للشيخ صالح آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين؛
أما بعد:
هذه بداية للدروس التي سبق أن بدأناها في العام الماضي أسأل الله جلّ وعلا أن ينفعنا بما مضى وأن ينفعنا بما سيأتي وأن يثبته في قلوبنا، وأن يمنّ علينا بالعمل بما علمنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى العظيمة الجليلة وأن يمنّ علينا بالبصيرة في كلّ ما نأتي وما نذر وأن يجنبنا سلوك غير سبيل سلف هذه الأمة في كل أحوالنا إنّه جواد كريم.
وبمناسبة هذه البداية نذكر بشأن العلم وما ينبغي أن يستحضره طالب العلم وهو يعاني العلم ويعاني حمله ويسير في طريقه لأنّ العلم ليس بالطريق الهيّن وكما قيل العلم طريقه طويل قد قال بعض السلف ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)) وقد قيل للإمام أحمد وقد ظهر الشيب فيه ((إلى متى وأنت مع المحبرة)) يعني كانت معه أدوات العلم ورق ومحبرة فقال كلمة مشهورة ((مع المحبرة إلى المقبرة)) يعني أنّه مواصل في هذا لا ينقطع وسبب الانقطاع فيمن انقطع عن العلم يرجع إلى أسباب من تلك الأسباب:
1- أنّه لم يعي حقيقة معنى العلم ولماذا يطلب العلم.
2- أنّه ربما كانت النية في أصلها ضعيفة لأنه بقوة النية في طلب العلم يكون الاستمرار والحرص عليه.(1/1)
3- أن يكون المرء متعجلا يريد أن يكون طالب علم أو أن يكون عالما محصلا عارفا بأكثر المسائل في سنوات قليلة هذا لا يحصل أبدا بل العلم طريقه طويل وقد يكون السبب راجعا إلى ضعف بصيرته في شأن العلم ويظن أن العلم نفعه قليل وأن غيره من الطرق التي ربما يغشاها بعض المستقيمين أو الذين ظاهرهم الالتزام أنها أسرع في تحصيل المقصود أن بها يحصل المرء على ما يتمنى من رجوع الخلق إلى ربهم جلّ وعلا وهذا من أسباب الانقطاع عن العلم يقول ماذا فعل العلماء ماذا حصلنا من العلم ولكن هناك طرق أخرى كذا وكذا هذه بها يكون المرء أكثر تأثيرا ويكون محقا للحق ومبطلا للباطل فتنصرف نفسه عن العلم وفي الحقيقة فاته أنّ العلم كالماء الذي يثبت في الأرض فينفع الله جلّ وعلا به من يأتي بعد كما مثل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي قال فيه ((مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضا)) فالعلم الشرعي غيث وهذا الغيث نافع ومن فوائد الفروق اللغوية في التفسير أنّ أكثر ما يستعمل الغيث في الكتاب والسنة فيما ينفع من الماء والمطر، أما المطر فأكثر ما يستعمل فيما يضر مما ينزل من السماء، {فأمطرنا عليهم مطر فساء مطر المنذرين} {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} فالنّبي عليه الصلاة والسّلام مثل لنا العلم بالغيث وهذا فيه مع تتمة الحديث بأنّه أصاب أنواعا من الأرض فكانت منها أرض قبلت العلم فارتوى الناس منه وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وفيه أيضا تسميته بالغيث والغيث يغيث الأبدان ويغيث القلوب وهكذا العلم فإنه بهذه المثابة.(1/2)
من أسباب الانقطاع عن العلم التي لمسناها في الشباب في السنين الماضية ودائما تتجدد أنهم لا تكون صلتهم بالعلم وأهل العلم مستمرة بل عهدهم بالعلم وأهل العلم في الدروس فقط وما عدا ذلك فهم يصاحبون الناس من أصناف شتى فلا تكون النفس دائما متحركة بالعلم بل تكون تتحرك بالعلم في وقت قليل في وقت الدرس وما بعد ذلك فأكثر الحديث الذي يتحدث به ليس في العلم هذا يجعله غير متعلق بالعلم، والعلم يحتاج إلى أن يتعلق به طالبه دائما (نفسه معه في كل حال) قد كان بعض أهل العلم ينصرف عن ملذات الدنيا لأجل العلم الملذات المباحة من مال ومن زوجة أو من النظر المباح أو أنس من أجل العلم ولانشغاله به وقد قال بعض الشعراء في ذلك من العلماء حيث أتته جارية ولم يلتفت وقد كانت حسنة الخلق والخلق فقال فيها أبيات فقال:
فقلت ذريني واتركيني
ولي في طلاب العلم والفضل والتقى
فإنّني شغلت بتحصيل العلوم وكشفها غنى عن غناء الغانيات وعرفها
يعني أنّه مشغول بشيء أعظم غلب على نفسه وهذا متى يكون إذا كان المرء دائما مع العلم قراءة في صحبة من يتكلمون في العلم في تبليغ العلم في الكلام في العلم في رؤية العلماء في الحديث معهم في سماع كلامهم تجد النفس تنشغل به ويكون العلم طبعا له أولا يكون تطبع يأتي بشيء من الكلفة ثم يكون طبعا له حتى إذا تحدث حدّث بالعلم إذا أرشد أرشد بالعلم إذا بيّن بالعلم فيكون في ذلك الأنس له ولا شك أنّ هذا يحتاج إلى جهاد وقد قال جلّ وعلا {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} فالجهل هو ضد العلم والجهل داء كما قال ابن القيم داء قاتل يقتل صاحبه من حيث لا يشعر يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
علم من القرآن أو من سنة
أمران في الترتيب متفقان
وطبيب ذاك العالم الرباني(1/3)
الجهل داء لا شك قاتل لعماية العبد عما يجب عليه في دينه كذلك داء قاتل لجعله العبد ليس من الأحياء فالعلماء أحياء وغيرهم أموات وسبب موتهم هو الجهل لأنّ الجهل مميت مثل ما قال هنا قاتل فكل من جهل فقد قتل وقد مات والجهل ليس بمرتبة واحدة بل الجهل أنواع كثيرة فكل من جهل شيئا فقد أصيبت مقاتله من الجهة التي جهل فيها قال والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان علم من القرآن أو من سنة هذان الأمران علم من القرآن أو من السنّة من الذي يبيّن نصوص القرآن والسنة وينزلها منازلها ويجعلها في معانيها الصحيحة قال: (وطبيب ذاك العالم الرباني): (ليس أي عالم) لكنّه عالم رباني يخشى الله ويتقيه فيما يقول وفيما يأتي وفيما يذر فنصوص الكتاب والسنة هي شفاء الجهل وكثير من الناس ينفي الجهل عن نفسه بالحرص على الكتاب والسنة لكنه لم يستضيء بكلام أهل العلم بنور أهل العلم لم يستضيء بذلك ولما لم يستضئ بذلك أصيبت مقاتله قال وطبيب ذاك العالم الرباني هذا التعبير يفهمك بأن العلم دواء فإذا أتى رجل فأخذ من الدواء ما لا يصلح له يهلك أولا يهلك؟ يهلك قد هلكت الخوارج لأنهم أخذوا نصوص الكتاب ونصوص السنة ولكن نزلوها في غير منازلها فأخذوا من نصوص الكتاب ما استدلوا به على أنّ فاعل الكبيرة كافر قال {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} قالوا: هذا يدل على أنه كافر.
أخذت المرجئة بعض النصوص نصوص الكتاب ونزلوها في غير منازلها ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) ((من كان آخر كلامهم لا إله إلا الله دخل الجنة)) ونحو ذلك من النصوص فنفت العمل وأبقت القول والاعتقاد وأرجأوا ذلك فأصيبت مقاتلهم لماذا؟(1/4)
لأنهم لم يكن طبيبهم في فهم النصوص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علماء زمانهم أخذوا من أنفسهم ولم يتابعوا أهل العلم المتحققين به فأصيبت مقاتلهم وهكذا في كل زمن الحرص على العلم مطلوب لكن لا يمكن أن تكون حريصا على العلم ومصيبا في ذلك إلا أن تستضيء بفهم أهل العلم لأن العلم في هذه الأمة موروث ليس علما مستأنفا مبتدأ في كل زمن يبتدئ الناس منه ويستأنفون علما جديدا لم يكن معروفا في من قبلهم بل علمنا في هذه الأمة علم موروث ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((العلماء ورثة الأنبياء فإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) لهذا!تنتبه إلى هذا الأصل العظيم ألا وهو الحرص على العلم ولكن ينبغي أن يكون طبيبك في ذلك الحرص -(في تلقي النصوص)- طبيبك العالم الرباني فإن لم يكن ربانيا كان عالما ذا هوى فهم له مقاصد له أغراض أيضا أصابك شيء من عدم فهم نصوص الكتاب والسنة وأصابك شيء من الجهل بقدر ما فاتك من ذلك.
إذا علمت أنّ الجهل خطير وداء قاتل ولابد أن تسعى في شفاء نفسك منه عن طريق أهل العلم بفهمهم نصوص الكتاب والسنة فاعلم أنّ العلم أنواع كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواع ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونعته
وكذلك الأسماء للديان
هذا العلم الأول الأسماء والنعوت والصفات (التوحيد جميعه توحيد العبادة توحيد الربوبية) كله من ثمرات العلم بأسماء الله وصفاته ففي اسم الله الأعظم ((الله)) الذي (مرجع الأسماء الحسنى جميعا إليه) فيه أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه ففي اسمه الرّب أنه هو ذو الربوبية في نعوت الجمال أنّه هو المستحق للعبادة وفي نعوت الجلال أنّه هو المستحق للإجلال والتعظيم وإفراده بالربوبية وهكذا...فقال:
علم بأوصاف الإله ونعته
كذلك الأسماء للديان(1/5)
هذا ثلث العلم بالتوحيد ولهذا سورة الإخلاص صارت ثلث القرآن لأن القرآن، فيه العلم كله فثلث العلم التوحيد فصارت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها فيها التوحيد كله توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات قال بعدها: (والأمر النهي الذي هو دينه) هذا هو النوع الثاني من العلم الأمر والنهي هو معرفة الحلال والحرام المأمور به يشمل الواجب والمستحب والمنهي عنه يشمل المحرم والمكروه هو علم في فقه الحلال والحرام (علم الأحكام).
والثالث: منها هو علم الجزاء يوم القيامة قال: وجزاؤه يوم المعاد الثاني، الذي يدخل في ذلك علم السلوك ما يصحح به المرء قلبه ما يصحح به سلوكه مقامات الإيمان ومقامات الزهد والعبادة ومعرفة جزاء كل عمل يوم القيامة وما يحصل يوم القيامة من أنواع الجزاءات للمؤمنين المطيعين والمقصرين والكافرين (لأنواع الناس) إذن فلنعلم هنا أنّ هذه الثلاث هي العلم فتسعى إلى العلم بالتوحيد هذا ثلث العلم إلى العلم بالحلال والحرام هذا الثلث الثاني من العلم إلى العلم بما تزكي به نفسك {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} كيف تحصل على هذا العلم؟(1/6)
بتدبر نصوص الكتاب والسنة بما يكون يوم القيامة وحال الناس يوم القيامة والنصوص التي جاءت بما يكون به الثواب يوم القيامة نصوص الزهد نصوص الثواب الأذكار ما يتعلق بذلك كلها من فروع هذا إذن أقسام العلم ثلاثة إذا كنت حريصا على هذا العلم فلتكن حريصا على هذه العلوم الثلاثة ثم لتنفي عن نفسك ما استطعت من أسباب الجهل وقد عرفت أسباب الجهل ثم احرص على تمام الحرص على أن لا تنقطع عن الطريق وتذكر قول ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث نصح المتعجلين فقال: ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة)) فإنما يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي قليلا قليلا ولو أنّك لم تكسب كلّ يومين إلا مسألة تضبطها تكون ثابتة واضحة بدليلها فبعد سنة ستحصل قريبا من مائة وثمانين مسألة وبعد سنتين ثلاثمائة وستين مسألة واضحة بعد عشر سنين ألف وستمائة مسألة أحسب بعد ثلاثين سنة يكون الواحد عالم راسخ في العلم تكون المسائل واضحة مبسوطة عنده بوضوح وفهم غير ملتبسة هذا إذا كان في كل يومين مسألة فكيف يكون لو كان في كل يوم مسألة لو كان في كل يوم مسألتين، خذ ما تحصل من العلم ولكن يحتاج منك إلى مواصلة؛ فالغيث إذا أصاب أرضا وكان شديدا يمشي أو يظل راكدا في الأرض بل يذهب إلى الأودية والشعاب لأنّه قوي لكن هل الأرض التي نزل عليها أول مرّة نزولا شديدا يكون انتفاعها مثل الأرض التي استقر عليها الماء؟ هذا مثال للتقريب هذا وصف بليغ فيما يناسب العلم إذا ارتويت من العلم بعد ذلك الشيء القليل الذي يأتي تحس أنه ينفع الناس وتذكره بوضوح فمثلا تجد بعض طلاب العلم قد يتكلم بالكلمات لكن ما تقنع منها النفوس وهو طالب علم لأنها لم تنتج عن رسوخ وفهم لما يتكلم فيه تلحظ في الكلام شيء من الاضطراب في شيء من عدم الوضوح ما استطاع أن يوصل لك الكلام بوضوح تام لماذا؟(1/7)
لأنّه غير راسخ في هذا المقال الذي قاله وهكذا طالب علم أو عالم يكون عنده تسعين في المائة من العلم الذي معه واضح وعشرة في المائة غير واضح تجد أنه يلتبس عليه فلا يستطيع تأدية هذا الذي يلتبس عليه (مشكل عنده) فإذا كان العلم راسخا واضحا قد طلب على مهل فإنه يثبت في القلب وبعد ذلك يمكنك أن تنفع الناس به فلا يغيبنّ عنك هذه الحقيقة وهي أنّ العلم يطلب شيئا فشيئا أما من طريقته ومنهجه التذوق فهذا ليس من العلم في قبيل، ما معنى التذوق؟
هو ما رأيناه كثيرا يحضر عند فلان من المعلمين أو من المشايخ الكبار شهر وبعد ذلك يتركه يمشي أين يذهب؟
إلى آخر يذهب إلى ثالث...فما استفاد لأنه متذوق، فتجد الإخوان يقبلون سنة شهر شهرين ثم يهبطون هذا العلم غير متصل هذا ما يستفيد سنين ثم ينقطع في الغالب ينقطع ثم يصبح كغيره من الناس أما الذي يصبر ويصابر على مرّ الزمان فإنه هذا يحصل بحسب ما كتب الله له.(1/8)
ومما هو من أسباب ثبات العلم وعدم الانقطاع عنه أن تكون مخلصا القصد فيه لابد من الإخلاص في العلم لأن العلم قد أمر به في القرآن وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان مأمورا به فإنه عبادة لأنّ العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي فإذا كان مأمورا به فهو عبادة فإذا كان عبادة يلزم فيها الإخلاص كيف يكون اِلإخلاص في العلم؟ ما النية في العلم؟ سئل الإمام أحمد عن ذلك كيف يكون مخلصا في العلم؟ كيف يكون مخلصا في عمله في صلاته في صيامه ...إلخ كل عبادة يخلص فيها إذا أراد بها الله جلّ وعلا العلم مع إرادته الله وعدم إرادته الرياء والسمعة ولا المكابرة ولا المجاهرة في الناس بالكلام ولا التقدم والتصدر أن يريد بالعلم نفي الجهل ورفع الجهل عن نفسه قيل للإمام أحمد كيف النية في العلم؟ قال ينوي رفع الجهل عن نفسه لماذا لأنّ جهله بالله جلّ وعلا جهله بما يستحقه جلّ وعلا جهله في صفاته جهله في أسمائه جهله بأمره ونهيه جهله باليوم الآخر وما فيه من تفصيلات وجزاء كل واحد على ما يعمل هذا لا شك ما يبدأ به ذوي النفوس الحية قبل طلبهم العلم فإنّ من طلب العلم يريد به الدنيا فهو من أهل الدنيا فإذا طلب العلم لله يريد الأجر والثواب ويريد نفي الجهل عن نفسه فإنه يكون مخلصا لاحظ هذه النية إذا أتت إليك واستقرّت فهي مباركة لأنك دائما تحس أنك جاهل لا أحد ينقطع من العلم حتى من عمّر مائة عام أو أكثر وهو في العلم ما انقضى، العلم واسع سعته هذه تحتاج إلى أن تكون دائما معه بالنية أن تنوي رفع الجهل عن نفسك وستلحظ أنّ بها أشياء ما عرفته فإذا كانت النية الصالحة موجودة ستستمر على العلم لكن إذا كانت النية غير صالحة ستكتفي بالضحالة من العلم.(1/9)
والعلم بالقرآن العلم بالتفسير لا ينتهي فإذا تأملت أنّ ابن جرير رحمه الله صنف كتابه التفسير مختصرا وقد قال لهم هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: قدر كم؟ قال: قدر ثلاثين ألف ورقة قالوا هذا مما تمضي فيه الأعمار فقال الله المستعان ماتت الهمم فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة يعني قدر العشر وهو الموجود اليوم في ثلاثين جزءا فأين الباقي موجود في غيره من التفاسير أشياء لم يذكرها ابن جرير رحمه الله وإنما هو قرب علمه بالتفسير واختصر هذا القدر من العلم بالقرآن إذا وصلنا إلى آخر التفسير نسينا شيئا من أوّله هذا حاصل نمرّ على تفسير سور القرآن ثم من الآيات ما نسينا تفسيرها اشتبهت فإذا كان المرء معه دائما نية رفع الجهل عن نفسه لا ينقطع عن العلم دائما يحس أنه ضعيف جاهل يأتيه الصغير فيعلمه شيئا لم يعلمه من قبل وهو أصغر منه يقول والله اطلعت على هذه المسألة وفوق كل ذي علم عليم يفرح بها (تجد أن صاحب النية الصحيحة إذا أرشده من هو أصغر منه أفرح ما يكون) لماذا؟ لأنّه حصل علما يرفع به الجهل عن نفسه ومن لم تكن نيته صحيحة فإنّك تجد عنده استكبار في العلم: لا...ليس كذلك، لا يفرح بالعلم تأتيه بالعلم الواضح الصحيح لا يفرح به لماذا؟ لأنّ نيته مدخولة، النية الصالحة في العلم سبب عظيم من أسباب الثبات عليه.(1/10)
أيضا من أسباب الثبات: الصبر على المعلّم فإنّ المعلمين أو المشايخ ليسوا على درجة واحدة في التعامل مع الطلاب يختلفون كل واحد تجد عنده أشياء فمنهم من قد لا يهتم بالسؤال ويفصل الجواب لكلّ أحد إذا كان الطالب يستريح له المعلم فصّل له أمّا إذا كان يرى أنه ليس بأهل للتفصيل أو فيه نظر ما فصل له فيحتاج طالب العلم إلى أن يصبر، كذلك قد يكون في بعض المعلمين فيه خصال ومعلوم أنّ كلا من المعلم والمتعلم فيه عيوب أو فيه نقص أو له طبائع خاصة به لأنّهم بشر فإذا كان طالب العلم يطلب في معلّميه الكمال والسلامة من العيوب والنقص فهذا لن يحصل تجده يأتي إلى فلان وينتقده والثاني ينتقده والثالث مَنْ الكامل عنده؟ وهذا يغلب على الذواقين الذين يتنقلون اليوم عند فلان وغدا عند آخر لمَ؟ لأنّه لم يعجبه حتى إنّ بعضهم حضر عددا من الدروس المختلفة سأله أحد العلماء عما أخذ من العلم فقال: حضرت عند فلان فذكر كذا وكذا هذاوالثاني قال كذا والثالث لم يفصل جيدا والرابع أخطأ الحديث و...أخذ يعد ويعد فقال له بئس الرّجل أنت.
من أسباب عدم المواصلة في العلم أن يطلب طالب العلم معلما فيه الكمال هذا لا يوجد إلاّ في المشايخ في علية المشايخ يعني المشايخ الراسخين في العلم الكبار وهؤلاء قد لا يمكنهم أن يعلموا كل الأمة أن يعلموا كل من أراد طلب العلم ولكن خذ من المعلم ما أصاب فيه وهو الأكثر ما دام أنه مؤلف ووثق فيه الطلاب له حسن أداء للعلم وتصور له صوابه أكثر من خطئه أو خطأه يعد قليلا فخذ منه صوابه والخطأ راجعه فيه بصره حتى يبصر.(1/11)
من المهم في طلب العلم أن تكون متواضعا مع المعلمين وهذا سبب من أسباب مباركة الله جلّ وعلا في علمك لأن التواضع للمعلم سبب للاستقرار وعدم التواضع للمعلم سبب للانقطاع هذا مأخوذ من قصة موسى عليه السلام مع الخضر موسى عليه السلام ما صبر والخضر عنده علم عجيب علم من الله جلّ وعلا فموسى رأى الأول (أمر السّفينة) فاعترض مع أنّه عاهده أن لا يعترض والمسألة الثانية الغلام الذي قتله الخضر اعترض موسى عليه السلام قال {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} ثم الجدار فأخبره أنه لم يستطع معه صبرار قال {هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا} ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: وددنا أنّ موسى صبر لو صبر لأخذنا علم كثير لكنه لم يصبر فحرم من علم الخضر وسبب الخلاف في الاستنكار هو الاختلاف في العلم الخضر في هذه المسائل أعلم من موسى فاستنكر موسى عليه السلام وهو كليم الله جلّ وعلا ومن أولي العزم من الرّسل كان عند غيره من العلم ما ليس عنده ما سبب الخلاف؟ سببه الاعتراض واختلاف العلم لهذا قد يكون عند بعض الطلاب اعتراض عدم فهم عدم قناعة لكن السبب في عدم القناعة اختلاف العلم ولهذا قال ابن الوزير محمد بن إبراهيم اليماني أو غيره في أبيات حسنة في بيان سبب اختلاف الناس سبب اختلاف الآراء وأن سبب ذلك هو اختلاف العلوم قال:
تسلّى عن الوفاق فربنا
كذا الخضر المكرّم والو
تكدّر صفو جمعهما مرارا
ففارقه الكليم كليم قلبه
وما سبب الخلاف سوى
قد حكى بين الملائكة الخصام
جيه المكرّم إذا ألمّ به لماما
فعجل صاحب السر الصراما
وقد ثنى على الخضر الملامة
اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما
الخصام بين الملائكة في أي شيئ؟ في قصة آدم وفي حديث اختصام الملأ الأعلى كذلك الاختصام بشأن أهل النار وغير ذلك...(1/12)
قوله: (الوجيه المكلّم) هو موسى عليه السلام قوله: (تكدّر صفو جمعهما مرارا) تكدّر صفو الجمع بأي شيئ؟ باعتراض موسى عليه السلام موسى اعترض فبين له الخضر أن ليس له هذا (ليس من أدب المتعلم مع المعلم أن يعترض عليه بشيئ لا علم له به) {هل أتّبعك على أن تعلمني مما علّمت رشدا} فلما لم يفِ موسى عليه السلام بالشرط عجل صاحب السّر (الخضر) الصرامة (الفراق) ففارقه الكليم (موسى) وقد ثنى (أعاد) لاعتراض.
ما سبب الخلاف؟ اختلاف العلوم هذا الطالب مثلا يستنكر على المعلم يقول: لا ليس كذا (وهو نظر لها من جهة) سبب الاختلاف هو اختلاف العلم هذا علمه واسع وهذا علمه ضيق فصاحب العلم الضيق اعترض على صاحب العلم الواسع فصار بينهما ما سبّب الانقطاع من الاستفادة ولذلك قال:
وما سبب الخلاف سوى اختلاف
فكان من اللّوازم أن يكون الإله
فلا تجعل لها قدرا وخذها
العلوم هناك بعضا أو تماما
مخالفا فيها الأناما
شكورا للذي يحيى الأناما(1/13)
يعني (هذه في مسائل القدر) إلى آخر أبياته المقصود من ذلك أنّ صبر المتعلم على المعلم وعدم كثرة الاعتراض هذا يجعله يستمر ويستفيد لأنّ طالب العلم وهو يسمع إذا عوّد ذهنه أن يعترض، أن يستشكل لن يتابع الكلام يفهم أوله وآخره وتسلسل المعلم فأنت تسمتمع مثلا لأحد المشايخ وهو يتكلم فكلما أورد كلمة أتيت باعتراض إذا أورد لفظ حديث قلت في ذهنك: لا هذا ليس لفظ الحديث، الحديث له ألفاظ وروايات أنت حفظت واحدة فلعلّ المعلم عنده ثلاث أربع روايات فانشغلت بالاعتراض إذا انشغلت بالاعتراض حرمت ولكن إذا انشغلت بالفائدة فما كان من الفوائد فيها الصواب استفدت وما كان فيه غير الصواب خطأ (ذهب وحده) أو شيء صححته بينك وبين نفسك أو راجعته فيه هكذا يكون العلم، أما الاعتراضات النفسية هذه التي تطلب الكمال أو نفسية الناقد أي كلّما سمع شيئا من معلمه نقد ولو في نفسه، فتجده يحضر في نفسه أسئلة واعتراضات والمعلم يتكلم هذا لا يستفيد وهذا سبب من أسباب الانقطاع في العلم.(1/14)
من أسباب الانقطاع: وهذا أيضا ملاحظ أن يكون المرء يطلب شيئا كبيرا فعنده همة في أول الطلب هذه الهمة تكسّر الجبال ماذا تريد؟ أنا أريد أحفظ الكتب الستة أو يقول: الواسطية هذه مختصرة أنا أريد أحفظ التدمرية أو يقول ما أريد أحفظ بلوغ المرام بلوغ المرام هذا خفيف أريد أحفظ منتقى الأخبار فيه ستة آلاف حديث أونحو ذلك ما أريد أحفظ زاد المستقنع هذا مختصر أريد أحفظ مثلا الإجماع والخلاف الذي في المغني مرض هذه الأشياء التي ذكرتها مرّ عليها بعض الشباب ممن هم على هذه الشاكلة صحيح أول الأمر عنده هذه الهمة العظيمة ويشكر عليها لكن هذه الهمة لا تستمر وما عرف عن أحد إلا نوادر أن تستمر معهم هذه الهمة فإذن من أسباب الانقطاع عن الطلب أن تحمل نفسك في فترة الهمة والقوة ما لا تحتمله في تلك الفترة ولكل عمل شرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح قال: ((إنّ لكل عمل شرة وإنّ لكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى معصية فقد خاب وخسر)) لكل عمل شرة حتى الإقبال على العلم له شرة (عنفوان) كأنّه سيقرأ مائة مجلد وسيحفظ ويعمل...ولكن لهذه الشرة فترة لابدّ: ((إنّ لك عمل شرة)) الشرة العنفوان والقوّة ولكل شرة فترة حتى في العبادات يجد من نفسه نشاط وإقبال تجده مقبلا على العبادة وكثرة الطاعات وإقبال على التلاوة ويجد أحيانا من نفسه كسل إذن الفترة هذه لابد منها لكن المهم لا تكن فترة إلى نكوص فإذا كان كل واحد له فترة فأسأل الله أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين ((لكل عمل شرة)) ما الذي ينبغي أنه إذا أقبلت ووجدت من نفسك الشرة خذ بما يطاق لا تأخذ بشيء لا تحتمله في الفترة مثلا إذا وجدت إقبالا احفظ القرآن احفظ مثلا من متون الأحاديث الأربعين النووية في شرة في فترة قوة أحفظ مثلا بلوغ المرام عمدة الأحكام بحسب ما يتيسر لك، وجدت عندك قوة احفظ كتاب التوحيد احفظ مثلا الواسطية ونحو ذلك.(1/15)
هذه إذا حصلتها في فترات الشرة في فترات القوة فأنت على خير عظيم والواقع أن الذين وجدوا من أنفسهم الشرة هذه والقوة والعنفوان ما استطاعوا أن يكملوا هذه الكتب إلا نوادر حتى هذه الكتب التي عند بعض الناس إنها مختصرة ما استطاعوا أن يكملوها ولهذا عليكم من العمل ما تطيقون.
من أسباب الانقطاع: أنّك تطلب شيئا بعيدا تطلب أشياء العلماء إلى الآن ما حصلوها إلا نوادر في الأمة حصلت ذلك فإذا وجدت هذا من نفسك لتكن قوتك فيما تطيق وما ينفعك وإذا تحركت رياحك فاغتنمها كما قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
إنّ لك لّ عاصفة سكون
من أسباب الانقطاع: عن العلم أنّ المرء لا يطالع ولا يبحث من بعض طلبة العلم يأخذ بالوصية المعروفة بالتدرج في العلم وأن يمشي شيئا فشيئا ولكن لا يبحث ولا يطالع.(1/16)
مثلا تقول لطالب العلم أولا تمشي على الواسطية وشروح كتاب التوحيد والفقه في الزاد وشروحه وغيرها من العلوم لكن لا يكون عنده مطالعات فيجد أنّ هذه المتون فيها شيء من الثقل ما فيها إفراح للنفس والنفس تحتاج إلى تنويع وتقليب فإذا لم يكن عنده مطالعات مثلا في التراجم مطالعات في التاريخ مطالعات في الأخبار مطالعات في اللغة لم يكن يبحث كان إذا مرّت عليه مسألة هذه المسألة تجمع الأقوال فيها هذه آية ما كلام المفسرين فيها إذا ما كان عنده مطالعة متنوعة ولا بحث فتجد أنه يخمد بعد فترة فإذن يحتاج طالب العلم مع التدرج إلى أن يكون له إلمام كيف يبحث؟ ويكتب ويطلع معلمه أو يطلع المشايخ على ما كتب حتى ينمون عنده هذه الموهبة ولقد قال النووي في مقدمات المجموع أو في غيرها انه من أسباب ثبات العلم وتحقيقه أن يكتب المرء ما بحثه وما حققه يبحث وينظر ويكتب لا يكتب للتصنيف مثل ما هو موجود الآن صغار مثلا ما حققوا العلم تجد أنهم ألفوا كتبا ونشروها بعض الرسائل الصغيرة التي رأيتها رسالة من أولها إلى آخرها فيها حوالي خمسة وعشرين صفحة فيها ثمانية عشر خطأ في اللغة وهي خمس وعشرين صفحة هذا مثل ما قال ابن حزم في رسالته التلخيص في وجوه التخليص: ((كيف يكون مأمونا على العلم من لا يحسن اللغة)) كيف يؤمن على العلم؟ كيف نأمنه على فهم الكتاب والسنة؟ وعلى ما نقله لنا من كلام أهل العلم وقد فهمه جيدا؟ إذا كان ما أحسن كتابة عشرين صفحة بدون أخطاء فكيف يكون مأمونا على كلام العلماء الذين ينقل عنهم إذن فانتبه إلى هذه إنه القصد من الكتابة التي أقول لك هو البحث ليس هو النشر لا بل تبحث مسألة تجعلها في نفسك فكم من مسألة كتبنا فيها وهي مطمورة إذا رأيتها عجب لكن في فترة ما كتبناها في فترة أوائل الطلب والشخص فرح بها جدا فرح أنه كتب وحقق وقد حصل لي في فترة من الفترات أن جمعت الأصول اللغوية لعلوم الحديث وكان أحد الذين كتبوا في المصطلح يتمنى أن(1/17)
تجمع الأصول اللغوية لعلوم الحديث مثلا حديث الصحيح ما معنى الصحيح في اللغة ولماذا اختار أهل الحديث هذا الاسم؟ الحسن لماذا؟ المضطرب المدبج المنقطع المقطوع المرسل المدلس الضعيف لماذا اختارو؟ من فترات الشباب أن جمعت هذا من كتب اللغة في بحث استمرّ مدّة طويلة هذه الأقوال فأخذتها وقرأتها على الشيخ الأستاذ أديب العربية محمود شاكر المعروف كان في الرياض مكثت فترة قرأت فيها عليه بعض كتب اللغة وأنا فرحان بهذا الذي كتبت وهو دقيق ينظر فيه وفيه عجب فقلت: يا شيخ أنا عندي كتابات في اللغة لعلك نعطيك فترة فلما قرأ ما قرأ قلت: يا شيخ إيش رأيك قال: ماش أنا كنت أبغاه يمدح، قال: هذا عبث شباب هي كلمة قاسية لكنها نافعة لكنها كانت خطوة في البناء اللغوي مثلا في طلب العلم لكن نشرها لم يكن مناسبا مثل ما قال هذا عبث شباب صحيح شاب فرح وجمع إلى أن حصل على الشيء وكتبه.
فالمقصود البحث ينمي عندك القوة العلمية ويجعلك مواصلا في الاطلاع على الكتب وفي النظر لكن لا تنشر ولا تستعجل خلها عندك لأنها جزء من بناءك العلمي فإذن كيف تمتع الانقطاع لمن كان متدرجا في طلب العلم برعاية المتون يكون بهذا الأمر وهو أنك تبحث وتكتب وتري المعلمين ما كتبت حتى يصححوا لك المسار تكون كتاباتك نقية ومتزنة ولكن لا تستعجل بشيء فإنما هي لغرضين لاستمرارك في العلم وعدم الانقطاع في العلم ولتكوين الملكة العلمية المناسبة.
هذه كلمات اقتضاها عدم مجيء أكثر الإخوة في هذا الدرس ولعل أن يكون فيها بعض النفع وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
محاضرة بعنوان
أدب السّؤال
للشيخ صالح آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/18)
أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر وهذه الثلاث هي عنوان السعادة من وُفّق إليها فقد أوتي خير كثيرا ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن (أدب السّؤال) والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أن يكون السؤال فيه الاعتداء أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: ((إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة)).
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم؟ وعمّا يُسألون؟ وكيف يكون السؤال؟ وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.(1/19)
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم (في أدب العلم والتعلم) وفي (أدب الطالب مع شيخه) وفي (حقوق أهل العلم بعامة) والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} قال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويقيل عثرة بعض ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الولاية والمحبة والنصرة أهل العلم لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا {شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا (رفعهم درجات) ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات فهم الخاصة وهم الصفوة لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم لأنّ النور بالعلم والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة {قد جاءكم من الله نور} من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.(1/20)
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل بيته في عمله أو نحو ذلك ويسأل المتعلم المعلم لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهل العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) قال: أهل العلم قوله كثرة مسائلهم يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المنزل ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته)) وقد قال جلّ وعلا {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها} والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلها في القرآن وقد قال جلّ وعلا: {ويسألونك عن المحيض} {وإذا سألك عبادي عني} إلى آخر هذه المسائل مجموع ما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن خارج المدينة حتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: ((إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال))(1/21)
وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثمالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم وكثرة السؤال...)) فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأن يسألوا إذا جهلوا وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا وقالوا إن الرسول يجب أن يكون ملكا قال سبحانه وتعالى في سورة النحل {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ إذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر فأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه {إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة لأنهم أحق ببيان ما نزل الله جلّ وعلا ولهذا قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين ليناس ما نزل إليهم} قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم وإنّ أعلى أنواع العلم، العلم بكتاب الله المنزّل فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسآلهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة إذن الأصل(1/22)
موجود في كتاب الله وإنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم وإذا سأل عنه أهل العلم: (أهل الكتاب والسنة الذين رسخت قدمهم في ذلك) فإنّ تبعته في ذلك تزول لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتاه ثبت فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال (الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال):(1/23)
حال من جهة السائل وحال من جهة المسئول لنعلم جميعا أنّه حتى يصل المسئول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها: أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة (يتبيّن المسألة قبل أن يسأل) والملاحظ أنّ من السائلين (المستفتين) مَنْ إذا طرأت على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة (دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة) أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له (دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة) فإذا استوضح المسئول أو العالم وسأله عن بعض التفاصيل قال والله ما أعلم هذا فلان أوصاني أن أسأل له هذا كذا قال:...فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل لأنّه يسأل عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركه أدرك الحكم والمسئول (العالم) الذي يسأل لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيئ ليس بواضح؟ ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة لا تظنّ أنّ المسئول (المفتي) طالب العلم (الذي تأهّل للجواب) لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف (في السنة) وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي (ضيق وقت المجيب على السؤال) فعليه أنْ يعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته وحتى تكون المسألة أنفع يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك بل اعلم أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة وتقبل الجواب بحسب ما أورد فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل للنبي صلى(1/24)
الله عليه وسلم دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أخبرني عن الإسلام أخبرني عن الإيمان أخبرني عن الإحسان؟ وعن أشراط الساعة وما أمارتها)) ونحو ذلك فوضوح السؤال وقلة ألفاظه واستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة لأنّ السائل لم يحسن السؤال ولم يستعد للسؤال فلوا استعدّ وجمع تفاصيل السؤال لكانت الإجابة واضحة.
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن لا يسأل السائل أهل العلم عن شيء يعرف جوابه بعض طلبة العلم أو الذي لديهم اطلاع لديهم معرفة يكون قد بحث المسألة وعرف ما فيها من الأقوال فيذهب ويسأل فإذا سأل وأجيب بجواب موافق لأحد الأقوال أتى باعتراضات يقول: هذا ما دليله؟ هذا الدليل قدح فيه بكذا... أو وجّه بكذا... قال بعض أهل العلم فيه كذا ونحو ذلك... ففرق ما بين أن تسأل لتستفيد أو لتعلم وأنت لا تعلم وما بين أن تناظر.
العالم أو المعلم ليست وظيفته المناظرة ولم يفتح لك المجال لتناظره تأتي وتقول أنا أريد أن أناظرك في المسألة الفلانية ما معنى المناظرة؟(1/25)
معناها أجادلك فيها تعرف ما عندي وأعرف ما عندك حتى نصل إلى الحق وهذا من عدم رعاية الأدب مع أهل العلم لأن في ذلك بعض التّعدي على حق أهل العلم إلا إذا افصحت له بأنك تريد أن تبحث معه هذه المسألة فإذا أذن لك بالبحث فإنه عند ذاك تخرج المسألة من كونها استفتاء وسؤال وجواب إلى مسألة بحث واستفصال وهذا أيضا يكون عند المتعلمين في مجالس العلم فإنه يكون عنده معرفة بالجواب ولكن يسأل ليختبر (بعض الأحيان) أو (ليعلم غيره بأنه سأل سؤالا جيدا) ونحو ذلك وهذا الوقت الآن تقاصر عن أن نسأل عن شيئ قد علمنا فلنسأل عن شيئ لم نعلمه ولهذا كان مما ينبغي التأدب فيه أن لا تسأل عن شيئ إلا عن شيئ لم تعلمه وذلك لأنّ الله جلّ وعلا قال {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإن كنت تعلم فلا تسأل لأنه قد جاء عندك العلم ووقت المفتي أو العالم أو طالب العلم ينبغي أن يصرف في أشياء كثيرة والواجبات الآن يتقاصر عنها وقت الكثيرين فكيف بالاستطراد ونحو ذلك.(1/26)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال ألاّ تسأل أكثر من عالم بحثا عن جواب تهواه نفسك، بعض الناس يسأل أهل العلم بالهاتف (والهاتف الآن قرّب) وأكثر الإشكالات تقع حين يسأل عالما وبعدها يسأل الثاني ويسأل الثالث والرابع فهو يضطرب في فهم إجابات أهل العلم وفي الجمع بينها ثم بعد ذلك يذهب إلى (شيئ غير) جيّد وهو أنه يذهب إلى أسهل تلك الأقوال وهذا لا ينبغي فإنه الذي ينبغي في السؤال أن تبحث عمن تثق بعلمه ودينه في ذلك كما قال أهل العلم ينبغي للمستفتي أن يسأل من يثق بعلمه ودينه فإذا وثقت بعلمه فإنك تسأله ولا تسأل غيره لأنك إذا سألت غيره فإنه قد يكون عنده من الجواب غير ما يكون عند الأول فتقع أنت في حيرة لكن لك أن تسأل غيره فيما إذا كان جوابه مشكل من جهة الدليل فإنّ له أن يسأل غيره لأنه ما اقنع بالجواب لا من جهة عدم مناسبته لحاله أو من جهة صعوبة الجواب أو أنه لا يناسب أو يريد أن يسأل عمن يخفف له لا ولكن من جهة أنه استشكل هل هذا حكم الله جلّ وعلا وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المسألة أم لا؟ لفهمه من بعض الأدلة والأحاديث خلاف ذلك، إذن من الآداب ألاّ تسأل أكثر من عالم في المسألة لأن كثرة الأسئلة هذه:
أولا: تضيق وقت العلماء والثاني: أنه يوقع ذلك السائل في اشكالات وكثير من الذين سألوا يقولون: احترنا ما ندري هذا يقول كذا وهذا يقول كذا نقول: أنت الذي أخطأت أوّلا حيث سألت أكثر من عالم، سل من تثق بعلمه ودينه وخذ بفتواه وتبرأ أمام الله جلّ وعلا لأن الله جلّ وعلا أمرك بأن تسأل أهل الذكر وقد امتثلت بسؤال أهل الذكر فلا تزد على نفسك ثقلا وحملا.(1/27)
من الآداب: أيضا أن لا تسأل حين تسأل بإلغاز السؤال مثلا هناك من يسأل ويقول فلان من الناس حصل له كذا وكذا وهو يريد أن يخرج عن مسألته بخصوصه إلى مسألة مشابهة وهو يظن هذا السائل أنه إنْ أجيب على تلك فمسألته مثل تلك المسألة فيقول مثلا لو حصل عليه كذا وكذا ومسألته في الواقع تختلف عن تلك ولكنه يظن أنّ هذه وتلك سواء وحتى لا يظن العالم أنّ السائل هو الذي وقع في المسألة (ويحتاج إلى الجواب) فيوحي بطريقته هذه أنه يسأل لغيره، سؤال أهل العلم ليس فيه عيب بل هو شرف ويدل على حرص السائل على الخير ورغبته في إبراء ذمته ويكون متخففا من التبعة حين يلقى ربه جلّ وعلا فحين تسأل لا تسأل أهل العلم بإلغاز (سل عما وقع بوضوح ولا حرج في ذلك) فقد سألت بعض الصحابيات النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت ماذا يكون حكمها؟ والحياء لا يكون في السؤال لأنّ الحياء محمود لكن فيما إذا كان الحياء يبعدك عن معرفة حكم في الدين فإن ذلك غير محمود كما جاء في الحديث.(1/28)
إذن من الآداب التي ينبغي لنا أن نراعيها أن تسأل السؤال الذي تحتاجه وأن لا تظن أنك إذا ألغزت بالسؤال وأجاب أنّ الجواب ينطبق على مسألتك لو قلت له المسألة بوضوح والسؤال أو الحادثة التي تريد أن تسأل عنها بوضوح يكون الجواب مختلفا تماما فلا تكن ملغزا في سؤال أهل العلم لا عن مسألة فقهية ولا عن أشخاص ولا عن أحوال بل ينبغي أن يكون السؤال واضحا وذلك من توقير أهل العلم ومن السعي للوصول إلى الجواب الصحيح أما أن نعمي على أهل العلم حتى نحصل منهم على جواب فإن هذا لا يوافقه ما ينبغي من توقير أهل العلم وأيضا لا تبرأ به أنت لأنك أوقعت العالم في الجواب ولو عرف السؤال على حقيقته ومرادك منه لربما أجاب بجواب آخر فأنت لا تبرأ ولهذا نرى أن كثيرا من الإشكالات التي حصلت في تضارب أقوال بعض أهل العلم في بعض المسائل إما الفقهية أو المسائل الواقعة أو الاجتماعية ونحو ذلك إنما جاء من جهة من يسأل بسؤال ملغز معمى أو يكون المراد وراءه وليس في ظاهره وهذا لا ينبغي لأنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر واضح فتعدى هذا الأمر تعدى لما ينبغي من الأدب في السؤال.(1/29)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن يكون السائل يسأل لنفسه وأن لا يسأل لغيره، كثير من الأسئلة يكون فيها سائل يقول: أحد الأقارب أوصاني يسأل عن كذا وكذا أو يقول لو حصل لفلان (صديق لي في العمل) حصل معه كذا وكذا وأوصاني لأسأل له!! لم هو لا يسأل؟ يختلف الحال لأنّ المفتي أو العالم لابدّ أن يستفصل لابدّ أن يسأل ما الذي حصل؟ هل حصل كذا وكذا؟ فإذا كان السائل غير من حصلت له المسألة فإنه لا يكون ذلك معينا على الجواب إلاّ إنْ كان السّؤال مختصرا وكان المانع من سؤال السائل هيبة العالم أو الاستحياء كما فعل علي رضي الله عنه حيث كان رجلا مذاء يعني (كثير المذي) فاستحيا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته (لأجل أنّ فاطمة رضي الله عنها زوج علي رضي الله عنه) فاستحيا أن يسأل في مثل هذا السؤال الذي له تعلق بالزوجة فأوصى المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة (كثرة المذي) فسأله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل الجواب إلى علي رضي الله عنه إذن الأصل أن لا يسأل المرء إلا فيما يخصه لأنّ الجواب يختلف بحسب السائل وبحسب عرض السؤال والناقل ليس دائما ينقل الصورة على حقيقتها وكثيرا ما يحصل من الأجوبة ما ليس فيه دقة بسبب عرض السائل.(1/30)
من الآداب المرعية في السائل أنه إذا سأل أهل العلم في الهاتف أو في غير الهاتف فلا يسجل الجواب مكتوبا أو على جهاز التسجيل إلا بإذن العالم وقد مرّ عليّ أنْ سجل بعض الإخوة لأحد أهل العلم جوابا ليس كما ينبغي وهذا راجع إلى أنّ العالم يجيب على قدر الاستفتاء ولو أخبر العالم أنّ هذا يسجل وأن الجواب يسمعه آخرون لكان جوابه غير الجواب الأول فمن عدم توقير أهل العلم وعدم رعاية حقهم بل من الافتئات على حقهم أن تسجل جواب أهل العلم بالهاتف أو كتابة ثم تنشره دون إذنه لأنه هو الذي له الحق في أن تنشر فتواه على الملأ أو لا تنشر أو لا تسجل فالسائل سأل فيما يخصه فهل أذن العالم لك أن تسجل السؤال والجواب بالهاتف؟ فإذا أردت أن تسجل فتستأذن في البداية وتقول أحسن الله إليك أنا محتاج للجواب مسجلا على الشريط والآن أريد أن أسجله فإذا أذن تكون أنت قد أتيت بما ينبغي من الأدب (ولم تكن ممن لا يوقرون أهل العلم أو يجعلون الأمر غير واضح لهم فيستغل بعض الفرص فيسجل عليهم ما لا يرغبون في تسجيله) مرة من المرّات حصل مثل هذا ولما سئل قال: أبدا ما قلت كذا وكذا على تفاصيله، بل المسألة فيها تفصيل بنحو ما، لم قال العالم إنّ المسألة فيها تفصيل لأنّه استحضر من المسألة الآن إنه سيكون أخذ ورد معنا ذالك فيه إشكال لكنه ظن حين سأله السائل بالهاتف أنها لا يعدو عن اهتمام السائل بنفسه إذن مما ينبغي من توقير أهل العلم وقد أمرنا بتوقيرهم كما جاء في الأثر عن عدد من التابعين أمرنا بتوقير أهل العلم ومن توقيرهم أن لا تفتئت عليهم بتسجيل أو كتابة وتنشر إلا بعد اقراره حتى ما تسمعه منه في درس (في شرح مسائل) لابد من تعرضه عليه فيقر أن ينشر أو يصور أو ينسخ أو يسجل ... لابد من ذلك لأن ما يصلح للقليل قد لا يصلح للكثير لأن الكثير يعني الأمة أو الناس تختلف طبقاتهم، العالم حين يتكلم إلى الحاضرين يرعى حال الذين أمامه (عدد قليل محدودون محصورون) لكن(1/31)
لو استحضر أنه سينشر على الناس فيطلع عليه فئات من الناس وبعقول مختلفة لكان جوابه يختلف عن الجواب الأول وبهذا ترون أن بعض الأسئلة التي يسأل فيها أهل العلم بالهاتف يكون الجواب مختلفا عما لوسئلوا مثلا في برنامج نور على الدرب فيكون الجواب هناك في تفصيل وفيه دليل وفيه تعليل ونحو ذلك لأنه سينشر على الملأ لكن الجواب لك يكون على حسب الحال يصلح هذا أو لا يصلح يجوز أو لا يجوز السنة كذا (باختصار) لأن الوقت يضيق عن أن يفصل لكل أحد.
هذه من بعض الآداب المتعلقة بالسائل.(1/32)
لعلنا نضيف من الآداب المتعلقة بالسائل أن لا يسأل السائل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة ويثير السؤال أمام العامة يعني في مثل هذه المحاضرة يأتي سؤال قد لا يعلم معناه ولا يفهم جوابه إلا فئة قليلة من طلبة العلم فلم تسأل أمام الناس؟ كذلك إذا حضرت في مجلس عند بعض أهل العلم فإن المجلس يحضر فيه العامي والمتوسط المثقف المتعلم طالب العلم فلا تسأل العالم أو طالب العلم عن سؤال إنما هو للخاصة (ليس العامة) وقد قال علي رضي الله عنه: ((حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)) وقد بوب البخاري في (كتاب العلم) من صحيحه بقوله: ((باب من خص بالعلم قوما دون آخرين كراهية أن يقصر فهمهم عنه فيقعوا في أشد منه)) مثال ذلك أن في مثل هذا الجمع المبارك يأت ويسأل عن بعض المسائل الدقيقة في العقيدة (الناس يطلب منهم المسائل العامة فيما يجب عليهم من العقيدة) لكن لا ينبغي أن تسأل عن المسائل الدقيقة أمام من لا يفهم الجواب فيما لو أجاب المسئول عن السؤال، مثلا الكلام على بعض أحاديث الصفات التي قد لا يفهمها البعض مثلا الكلام على بعض الآراء في مواقف يوم القيامة والاختلاف فيها ونحو ذلك والكلام على بعض دقائق المسائل في الفقه واختلاف أهل العلم فيها هذا يقول كذا وهذا يقول كذا العامة إنما يحتاجون قولا واحدا بدليله يمشون عليه ولكن السؤال الخاص إنما يكون لأجل هذا السائل ولمن هم في طبقته ولهذا ينبغي أن تفرق فرقا مهما بين السؤال والبحث (بين السؤال الذي تحتاج معه إلى جواب وبين بحث المسألة) فتارة يكون السائل يريد بحث المسألة في المقام ويعرضها بصيغة سؤال وهذا غير مناسب ولهذا نقول لا تسل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة فمن أدب السؤال أن تسأل بما يناسب المقام وألاّ تسأل عن أشياء لا يستوعب الجواب عليها أكثر الحاضرين.(1/33)
من الآداب أيضا أنك إذا سألت فأجبت أو سمعت علما فإنك تستفصل فيه أو تسترجع فيه حتى تفهمه لأنّ بعض أهل العلم قد يكون جوابه سريعا مثلا تسأل أنت وقد أتيت بأدب السؤال وأتيت بكلمات واضحة وتأنيت فيه فأوضحت على العالم فيكون الجواب سريعا، فهنا ينبغي لك أن لا تأخذ ما علق بذهنك في هذه الحال بل إذا كان عندك اشتباه فتستفصل منه أو تسترجعه في الجواب حتى تفهمه قد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة أنه قال: ((كانت عائشة رضي الله عنها لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه)) وقد بوب عليه البخاري أيضا في (كتاب العلم) من صحيحه.
فالأدب الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم إذا سمعوا شيئا يستشكل عليهم فإنهم يراجعون حتى يفهموا حتى لا ينقلوا للناس نقلا خاطئا أو حتى لا يعمل بشيئ غير واضح فإذن هذا ينبغي للسائل إذا أجيب ولم يتضح له جواب أن لا يترك السؤال على الجواب الذي هو غير واضح فيذهب يعمل بشيئ غير واضح بل يسترجع ولا بأس أن يقول ما فهمت الجواب وليسأل مرّة ثانية هل كذا أو كذا فيستوضح حتى يكون الجواب واضحا قارا في ذهنه.
من الآداب التي ينبغي على السائل مراعاتها أن يكون لبقا مع أهل العلم متأدبا معهم وأن يكون لأهل العلم هيبة في سيرهم وتوقيرا في قلبه فإنك إذا زدت في احترام العالم وشعر بذلك منك فإنه يزيدك من العلم والجواب بأنك قد تحققت بالزيادة يعني أصبحت متأهلا للزيادة لأنّ دليل تأهّل طالب العلم للتفصيل في الجواب والاستفادة الكاملة من العالم أن يكون متأدبا معه لا يأتي مثلا ويستعمل كلمات غير جيّدة أو كلمات فيها جفاء بل يتأدب ويتحيّن الفرصة الجيّدة للعالم فيسأله.(1/34)
هنا تنتبه إلى أنّ أوقات العالم تختلف فهناك وقت قد يكون مناسبا لك لا يكون مناسبا له فيكون الجواب الذي جاءك بحسب حاله هو قد يكون مستعجلا قد يكون وراءه أمر قد يكون وقت الصلاة قرب يكون وقت نومه قد يكون عنده ما يشغله قد يكون في البيت شيئ أهمّه قد يعالج في ذهنه مسألة من المسائل التي في المجتمع أو التي يريد أن يبذل فيها بعض الشيئ فيكون ذهنه منشغلا فينبغي أن تراعي حال العالم حيث تسأله فتقول له هل هذا وقت مناسب للسؤال أو أرجئ السؤال إلى وقت آخر فإذا قال: أرجئه إلى وقت آخر فيكون هذا زيادة في أدبك وأجر لك ويكون قد راعيت وتأدبت وإذا أتى وقت آخر وسألته يكون مهيأ نفسه لأن يفصّل لك ويجيب المسألة بما ينبغي فالمتصل دائما وهذا وارد هو المرتاح وأما المتصل به فلا يدري حاله فهذا يظن أنه ينبغي له أن يقول العالم له كذا وكذا وأن يرحب به بأعظم ترحيب وأن يفصل له (لا تدري ما حال المتصل به) أحوال الناس في بيوتهم في أعمالهم مختلفة وقد يكون الذّهن منشغلا بتلك الحال فقد يكون ويكون... فينبغي أن يراعي ذلك وأن لا يظنّ أنّ المسئول أو طالب العلم إذا سُئل أنه دائما ذهنه في نفس المستوى وفي نفس التأهيل بأن يجيب دائما جوابا مفصلا بأدلته إلى آخره ولهذا لو تذهب وترى في المدوّنة مثلا التي دونت فيها أسئلة مالك وبعض أصحابه والأجوبة وكذلك أسئلة الشافعي وكذلك أسئلة أصحاب أحمد لأحمد لا تجد الأجوبة متفقة من حيث التفصيل وعدمه فتجد بعض أصحاب أحمد لو رأيت المسائل المختلفة فيكون الجواب لا يصلح هذا أكرهه وفي مسائل أخر تجد أنه يفصّل لم؟ موضع اختصر وفي موضع فصل؟(1/35)
نحن نقرأ الكتاب لا نستحضر الحال التي سئل فيها ذاك السؤال والحال التي سئل فيها السؤال مرّة أخرى واقع الحال وواقع العالم النفسي والذهني والزمني والمكاني يفرض عليه أشياء كما سيأتي أيضا ولهذا ينبغي أن يراعى ذلك في حال سؤال أهل العلم تعلم أخي الكريم أنّ ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة في القرآن يعني كثير العلم في كتاب الله عزّ وجل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم مكث زمانا طويلا تردد في نفسه مَن المقصود بالمرأتين في قول الله جلّ وعلا {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإنْ تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} من المرأتان قال ابن عباس: تردد ذلك في نفسي زمنا طويلا وهبت أن أسأل عمرا لأنّ عمر كان يحب ابن عباس وكان يقدمه في المجالس ويباهي به كبار الصحابة لما يظن ويلمح فيه من علم وتُؤدة وأدب وفهم عنده في الكتاب والسنة قال ابن عباس: هبت أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حتى كان منصرفه مرّة من الحج فصحبته فقال لي: يا ابن عباس قرّب لي وَضوءا (يعني ماء) فلما قرّبت له الوضوء قلت له في أثنائه يا أمير المؤمنين مَن المرأتان؟ قال: فأجابني عمر فقال: عائشة وحفصة وكان ابن عباس ربما توسد بردته في يوم حار عند باب أحد الأنصار ليستفيد منه علما سمع عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتثبّت منه أو أراد أن يأخذه منه مباشرة فيأتي فيطرق الباب فيقولون قائل (يعني نائم) أو في الدّار أو مثل ما يقول أحدنا اليوم هو مشغول فانتظر حتى خرج فلما خرج قال: يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ متى وأنت هنا فقال ابن عباس: منذ كذا وكذا وكان يتوسد البردة وتسفي الريح التراب عليه تذللا في العلم واحتراما لأهل العلم فلما رآه على هذه الحال انشرح صدر المسئول أن يجيبه عما أراد وعظم في نفسه فكان ابن عباس إذا سأل أجيب غير كثير ممن هم في طبقته من(1/36)
الصحابة رضي الله عن الجميع، ولهذا قال كلمته المشهورة: ((ذللت طالبا فعززت مطلوبا)) يعني لمّا كنت طالبا كنت أذلّ لمن أستفيد منه ولكن لما أحتاج الناس إلي عززت مطلوبا لأنه صار عندي من العلم ما ليس عند غيري وقد قال ابن عباس لبعض الأنصار (كان صديقا له) اذهب بنا يا أخي إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسألهم عن العلم ونستفيد منهم فقال: ذاك الأنصاري يا ابن عباس أتظنّ النّاس سيحتاجون إليك وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار بين ظهرانيهم قال: فتركت العلم والسؤال وذهب ابن عباس يسأل ذهب كبار الصحابة فأتى زمن ابن عباس فيه هو من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتاج الناس إلى علمه واضح بجيب الناس بما فتح الله جلّ وعلا عليه ومنّ عليه من العلم، الشاهد من ذلك أنّ السائل والمتعلم يحتاج إلى أدب وهو مراعاة أهل العلم وأن لا يضيق بالعالم إذا لم يفتح له صدره دائما هو يشر، أحيانا يكون على حال وأحيانا يكون على حال أخرى وهذا لعله من أسباب عدم إكثار الصحابة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم تأدبا معه وتوقيرا له عليه الصلاة والسلام وحتى يكون ذلك أبلغ في الأدب معه عليه الصلاة والسلام هذا من جهة أدب السائل.(1/37)
أما العالم أو طالب العلم أيضا يحتاج إلى أن يكون أدب في الجواب وأهل العلم يعلمون ذلك وهم الذين يعلمون غيرهم في ذلك فإن كان من بعض طلبة العلم أو المنتسبين إلى العلم أو أهل العلم من لم يكن للسائل حفيا أو اشتد على السائل أو وبخه فلا يغضب السائل ويأتي كما هو حاصل اليوم يذهب ويقول فلان من المشايخ سألته ونهرني وقال لي كذا وكذا لأيّ شيئ لم نستيجده لم نطلب منه شيئا ونحو ذلك هذا لا ينبغي لأنّ المسئول ينبغي لك أن تعذره لأنّنا في هذا الزمن ليس في زمن الرياض أو المملكة منذ خمسين سنة (الذين هم في الرياض كلهم خمسة آلاف أو أربعة آلاف) الواحد في اليوم يسأل سؤالا واحدا فيجاب البال مرتاح وانتهى الأمر لا معه الآن الهاتف كل لحظة يرنّ والمسجد هذا سائل والثاني والثالث والرسائل التي تحتاج إلى جواب ونحو ذلك من المشكلات العظام أيضا التي تحتاج إلى علاج وما أشبه ذلك.
فلابد أن نكون ملتمسين عذرا لأهل العلم ولطلبة العلم لابد وإذا كنا غير ملتمسين للعذر فإن هذا غير جيد في حقنا ومن ترك مراعاة الأدب أدب السؤال وأدب الجواب.أيضا العلماء يختلفون بعضهم يكون سهل الجواب وبعضهم يكون غير سهل الجواب وهذا راجع إلى طبيعتهم الطبيعية التي جعلها الله عليه فإذن السائل ينبغي له أن يلتمس العذر وأن يتأدب وأن يوقر العالم ويستفيد من علمه بقدر ما يحبه العالم وأن لا يقصيه في أموره.(1/38)
من الأدب المهم أيضا أدب السائل أن لا يحرج السائل العالم أو طالب العلم مثال ذلك مثلا أسئلة مرّت جاءني في أحد المحاضرات سؤال يقول أسألك بالله وبوجهه وأقسم عليك أن تجيب على هذا السؤال، طيب المسؤول قد يكون له نظر في أن لا تناسب إجابة هذا السؤال على العامة فأنت الآن أحرجته شرعا لأنّ من السنة إبرار المقسم فإذا أقسم عليك أحد بالله فإنه من السنة أن تجيبه (من سألكم بالله فأجيبوه) فالآن أحرجته هو يرى المصلحة الشرعية السؤال لا يعرض ولا يجيب عيه وأنت تحرجه شرعا في أن يجيبه وهذا من غاية ما يكون من عدم رعاية الأدب وعدم احترام أهل العلم وطلبة العلم لأنّك تريد أنت الإجابة لغرض في نفسك (ومثل هذا الذي يكون معه إقسام وسؤال بالله غالبا بل الأكثر والجلّ لا يكون هو الذي يريد أن ينتفع لنفسه) وإنما يريد أن يكون هذا جوابا لأشياء تتعلق بالمجتمع أو بالأمة بالرأي العام ونحو ذلك يريد أن ينتشر الجواب عن ذلك فالعالم أو طالب العلم قد يترك جواب بعض المسائل لغرض شرعي صحيح يرعاه وقد يرعى من المصالح الشرعية ما لا يستبينه السائل فإذا أحرج السائل طالب العلم في مثل هذا التحريح كان هذا في غاية ما يكون من الإساءة فإما أن يجيب عليه العالم فيجانب المصلحة الشرعية وإما أن يرتكب النهي، فبذلك يوقع العالم أو طالب العلم في الحرج في أي المفسدتين أدنى حتى يرتكبها هل يرتكب مفسدة الجواب أو مخالفة إبرار المقسم ونحو ذلك.
المسائل التي يسأل عنها تنقسم إلى مسائل في التوحيد والعقيدة ومسائل فقهية ومسائل اجتماعية.(1/39)
المسائل التي في العقيدة تارة تكون غايتها بالبحث والفائدة وتارة تكون لها مساس بموقف سيكون في الواقع، فتارة يكون البحث في مسائل التوحيد والعقيدة لغرض إفادة السائل فهو يبحث عما يريد أن يستفيده مثلا مسألة في التوحيد معنى الشهادتين في شرح باب من أبواب التوحيد أو مسألة في مسائل الصفات أو الإيمان بالقدر أو ما أشبه ذلك وهناك أسئلة يسأل لكي ينبني على هذا السؤال شيئ من التصرفات في نفسه أو في من معه سواء في داخل هذه البلاد أو في خارجها فهنا ينبغي على السائل بل يجب عليه أن يبين غرضه للعالم الذي يسأله وألا يدلس عليه فيقول هذا السؤال لشخصي أو يقول هذا السؤال أريد أن أرسله لبلد كذا وكذا لكي ينتفع منه بعض من سألنا هناك مثلا أسئلة جاءت من الجزائر يختلف الجواب عن أسئلة جاءت من مصر إذا كان السؤال تبعثه من نفسك بنفسك يختلف جوابه عما إذا كان سينبني عليه عمل أمة يترتب عليه مصلحة أو مفسدة إلى آخره لأنّ الحكم الشرعي الفرق بين العالم وطالب العلم والدارس الفرق بين المفتي والباحث أن المفتي يبني بفتواه على أشياء كثيرة يرعى النصوص ويرعى كلام أهل العلم ويرعى القواعد الشرعية ويرعى ما أمر الله جلّ وعلا به من الأصول وما نهى الله جلّ وعلا عنه فيرعى أشياء كثيرة غير المسألة الموجودة في الكتاب فقد يجد السائل المسألة موجودة في الكتاب موجودة في كتاب من الكتب ويذهب يطبقها على الواقع لا ليس الأمر كذلك ولو كان الأمر لما احتاج أهل العقول أن يطلبوا العلم على أهل العلم وإنما يقرأون ويكتفي بقراءتهم ولهذا قال بعض من تقدم لا تأخذ العلم عن صحفي ولا القرآن عن مصحفي الصحفي الذي يقرأ في الصحف والنسبة إلى الصحف صَحَفي وليس صُحُفي لأن النسبة تكون إلى الصحيفة على وزن فعيلة وليس النسبة إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى المفرد لا إلى الجمع فقال: لا تأخذ العلم عن صحفي(1/40)
ولا القرآن عن مصحفي (الذي قرأ القرآن من مصحف وحفظ من المصحف) لا تأخذ عنه القرآن لابدّ أن يكون قد قرأ القرآن على شيخ أخذه عنه لأنه هناك أشياء لا يدركها بقراءته في المصحف كذلك العلم هناك أشياء لا يدركها بقراءته للكتب ولهذا عاب بعض أهل العلم بعض الفحول في مسائل لأنهم اقتصروا على ما قرأوا أخطأ ابن حزم في مسائل في الحج ما السبب أنه قرأها وما حجّ ورأى المشاعر ورأى ما فيه النفس شيخ الإسلام ابن تيمية كتب منسكا من المناسك على ما هو موجود عنده في الكتب ثم لما حجّ غيّر رأيه في مسائل كثيرة كذلك ابن القطان أحد علماء الحديث المعروفين لكنه لم يأخذ علم الحديث عن رواية وعن أهل العلم وإنما كان ذكر ذلك الذهبي كان أكثر أخذه لذلك عن طريق القراءة ووقع في أشياء كثيرة لا يقع فيها أمثاله من أهل العلم إذن هناك فرق بين أن يكون السؤال لحاله تخصك أنت أو أن يكون السؤال لحالة عامة في مسائل العقيدة والتوحيد وكذلك في مسائل الفقه إذا كان السؤال شخصي هذا له حال وإذا كان السؤال ستنشره وسيبني عليه عمل أناس كثير هذا ينبغي أن توضحه للعالم حتى يتحرى في جوابه الأنفع للأمة ولهذا بعض أهل العلم يفتي بفتاوى خاصة لفلان من الناس ويأتي هذا ويقول أفتاني الشيخ بكذا وكذا فيذهب على أن الشيخ هذه فتواه وإذا سئل العالم يقول لا هذه فتوى ما أفتيت بها يعني للعامة وإنما أفتى بها لمسألة خاصة.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إمام هذه الدعوة عجّل الله له المثوبة ورفع درجته في الجنة أفتى في بعض المسائل في مسألة معروفة في الطلاق مرة واحدة فقط مدونة موجودة وفي بقيتها يفتي على غير هذه الفتوى في تلك المرة هل نأخذها ونجعلها قاعدة لا لأنه رأى من حال السائل وحال السؤال ما يجعله يفتي بتلك الفتوى.(1/41)
فإذن العالم قد يخص في حالة معينة بفتوى لو قيل له إنها ستنتشر لا يفتي بتلك الفتوى وهذا مما ينبغي للسائل أن يرعاه فيكون الأدب في ذلك أن تخبر العالم أنّ هذا السؤال خاص بي في مسائل التوحيد والعقيدة أو أنّه سيبعث إلى بلد كذا وكذا وينتشر أو نتتدارسه نحن والإخوان وسنرتب عليه كذا وكذا في عمل في إنكار منكر... في...
فهذا يختلف وبعض السائلين وحصل مرارا، وأنا أدركت بعض هذه الأشياء مع الأسف أنه يعتقد من الذكاء أن يبهم السؤال ويستغفل العالم فيسأله حتى يقع في جواب هو ما أوضح له الصورة فيقول مثلا إذا حصل من واحد أنه قال كذا وكذا فهل يكون مرتدا أم لا؟ هل يكون مبتدعا أم لا؟ هل يكون فاسقا أم لا؟ بعض العلماء خاصة بعد ما مرت تجارب يستفصل أو قد لا يجيب على السؤال وبعضهم قد يجيب على ظاهره باعتبارها مسألة علمية عامة لو سئل عن تنزيلها في الواقع ربما اختلف جوابه فهذا من المهم أن تتبينه قبل السؤال وأن لا تلغز أو تبهم وتظن أن هذا من الذكاء أو أنك أخذت منه جوابا في الواقع أنت تأثمت بما ستنقل وتأثمت بوضع العالم وقد حصل كما رأى بعضكم كثير من الاختلاف في الفتاوى في فترة مضت هذا ينقل كذا وهذا ينقل كذا وكثير منها راجع إلى أنّ السائل ما أعطى العالم الحقيقة في ما وراء كلمات سؤاله إنما سأل سؤال عام ذلك ظنّ أنها مسألة علمية وما استفصل منه فأجاب فهذا ما راعى الآداب والتفريق بين المسألة العلمية وتطبيقها في الواقع فلهذا أخذ هذا الجواب وحصل من الاختلاف والآراء المتضاربة وحصل ما حصل لأجل هذه المسائل.
إذن إذا كانت المسألة عقدية أو كانت المسألة فقهية فلابدّ أن ترعى الأدب فيها وأن تفرق حين تسأل السؤال بين أن تكون شخصية أو عامة وأن تبين ذلك للعالم الذي تسأله.
أحوال السّؤال(1/42)
السّؤال له أحوال سؤال المسجد (بعد المحاضرة) يختلف عن سؤال المسجد بعد ما ينصرف العالم من الصلاة يختلف عن السؤال في الجامعة يختلف عن السؤال في درس يلقيه العالم يختلف عن السؤال فيما إذا كان راكبا سيارته (يسمع بسرعة ويجيب) فهذا السائل يأتي مرتاح مطمئنا والمسئول يكون مجهدا مثلا ألقى محاضرة استغرقت مدّة من الزمن ويلقي السائل سؤاله عرضا ويريد جوابا يكون على نحو ما فيأتيه الجواب فيأخذ هذا الجواب وهو صادق في أنّ العالم أجابه لكن غير صادق في أنّ العالم فهم ما أراده بإبعاده وينقله ويحدث الناس بأنّ العالم أفتاه بكذا وكذا وما وراء كلمات السؤال ولهذا ينبغي أن نفرق (رعاية للأدب وإبراء للذمة) بين أحوال السؤال سؤال المسجد بعد محاضرة له حال سؤال المسجد بعد الإمامة له حال سؤال بعد درس من الدروس في مجلس من مجالس العلم في الفقه أو في التوحيد له حال في الإجابة والاستفصال والرد إلى آخره سؤال الجامعة سؤال الهاتف له حال سؤال السيارة له حال وغير ذلك من الأحوال وقد ذكر لي بعض كبار السن أنه أراد مرة أن يسأل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله سؤالا في السيارة فأجابه الشيخ قائلا: إنّ السيارة ما فيها فتاوى إذا عدنا إلى البيت فادخل أو إذا كنا في المسجد ادخل واسألني فيه لماذا؟ لأنه راكب معه في السيارة فيعرض له أشياء هذا مار وهذا يسلّم وهذا... والمفتي ينقل عن الله جلّ وعلا وموقع عن رب العالمين حينما يجيب يقول هذه فتوى الله جلّ وعلا في المسألة {يستفتونك قل الله يفتيكم} هذا كلام الله جلّ وعلا هذا حكم الشرع فالمسألة عظيمة ولهذا كثير من السلف هاب السؤال ورد السائل وتردد وقال: (لا أدري) كثيرا، الإمام مالك رحمه الله كان يسأل ويجيب لا أدري وهو أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله أتاه سائل من مصر بعيد قال: يا أبا عبد الله أتيتك من بلد كذا وكذا من أبناء لك أو إخوان لك يحبونك وحملوني أربعين مسألة فقال مالك سل فسأل(1/43)
المسألة الأولى فقال الإمام مالك: لا أدري والثانية: لا أدري والثالثة: لا أدري أجاب عن سبع مسائل أو أربع مسائل وفي ثلاث وثلاثين أو ست وثلاثين مسألة قال: لا أدري لو عالم يأتي ويقول اليوم هذا لا أدري ولا أدري سيقال: هذا ما عنده خبر هذا ما عنده علم قد يكون الحال غير مناسب قد يكون يريد أن يؤدب السائل وقد وقد... فقال هذا للإمام مالك: يا أبا عبد الله أتيتك من كذا وكذا وكلهم ينتظرون جوابا أأذهب إليهم وأقول: مالك يقول في ثلاث وثلاثين مسألة لا أدري قال: قل لهم إنّ مالكا لا يدري، ما أبردها على القلب لماذا لأنه إذا أجاب يجيب عن الله جلّ وعلا هذا حكم الكتاب والسنة وهي مسألة تجلّ لها القلوب ولهذا نهينا عن كثرة المسائل، وهذا مما ينبغي لنا أن نتركه هذا سؤال عن كذا؟ وهذا سؤال لمَ كذا؟ في مكان واحد مائة سؤال مائتين سؤال وذهن المسئول يكلّ ويتعب وقد يضعف في آخره ولهذا يأتي بالمسائل الكبيرة ويضعها في آخره شيء العالم بشر فينبغي أن يراعى الحال وأن لا تكثر المسائل جاء في النصوص ونختم بهذا وحتى لا نطيل عليكم جاء النهي عن كثرة المسائل وقد قال العلماء كثرة المسائل الناس تجاه على أحوال يعني على أقوال من الناس وهو قول طائفة من المنتسبين لأهل الحديث من لم يسأله وقالوا يكفينا ما عندنا من النصوص ولا نحتاج أن نسأل لأنه نهينا عن السؤال ويأخذون بعموم ما ورد في النهي عن المسألة والنهي عن كثرة المسائل وإياكم والمسائل والأغلوطات ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث، فأخذوا به على ظاهره فلم يسألوا وهؤلاء أدى بهم ذلك إلى ألاّ يكونوا فقهاء وأن يكون فهمهم للشريعة قاصرا أو على غير السداد كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله تعالى هذا صنف قالوا لا تسل عندك النصوص عندك الكتب ما يحتاج لأنّ السؤال منهي عنه وكثرة المسائل معيبة فعندك إذا احتجت دور من الكتب وإذا لم تحتاج فلا تسل وهذا الحال أو الفعل (غير صواب) والفعل الثاني أو الحال(1/44)
الثاني: حال أهل الرأي الذين شققوا المسائل وسألوا عن أشياء لم تقع وافترضوا أحوال لم تقع في زمانهم منها أشياء لم تقع ولن تقع أبدا لأنها خيال أو لا يمكن أن تتصور إلا في الذهن أما في الواقع لا تتصور ومنها أشياء تخيلوها ووقعت ووقوع البعض لا يعني أنّ ما شققوه أنه مأذون به (بالمثال يتضح الحال) بعض فقهاء أهل الرأي من الحنفية وغيرهم لهم كتب فيها الطريقة التالية أرأيت إن كان كذا فمثلا يبدأ الكتاب الوقف هو كذا أرأيت إن كان كذا فالجواب كذا يعني أنه يسأل العالم مائة سؤال مائتين ثلاثمائة سؤال كلها تشقيق للمسائل في أشياء واقعة في أشياء غير واقعة وبإيراد الحيل في هذه المسائل وابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجل يسمع حديثه فقال ابن عمر من السنة تقبيل الحجر الأسود قال الرجل: أرأيت إن غلبت عنه؟ قال: من السنة تقبيل الحجر الأسود؛ قال: أرأيت إن لم يمكني تقبيله قال: دع أرأيت في اليمن وهو كان من أهل اليمن من السنة تقبيل الحجر الأسود (فإذا تمكنت من تطبيق السنة فطبق ما تمكنت لا تكثر من أرأيت إن حصل كذا أرأيت إن حصل كذا) وهذا يحرمه كثيرون يظنون العلم كثرة السؤال يسأل عن أشياء لا يعلم عن حكمها يسأل ويسأل لا العلم بالتعلم وإنما السؤال كاشف للعلم وليس أساسا في العلم لأنّ الله جلّ وعلا يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإذا استشكلت فاسأل إذا كنت لا تعلم فسل وأما كل شيئ تسأل عنه في موقع واحد تسأل عشرين ثلاثين سؤال هذا غير محمود فإذن هذا القسم وهو السؤال عن أشياء لم تقع وكثرة المسائل داخل في النهي عنه فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم سؤال عن أشياء لم تقع.(1/45)
القسم الثالث: وهو حال فقهاء الأمة فقهاء أهل الحديث ومن تابعوا حال السلف في ذلك وهم الذين يسألون عن معاني الكتاب والسنة وعما يدخل في دلالاتها من الفقه هذا السؤال المحمود الذي من بحث عنه فهو الذي يرضى قوله وعمله تسأل عن معنى آية تسأل عن معنى حديث استشكلته فاسأل عن ذلك فهذا لا يدخل ضمن المنهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب عذب)) فقالت عائشة: يا رسول الله أليس الله جلّ وعلا يقول: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك العرض عليه ومن نوقش الحساب عذّب)) تعرض عليه أعماله عملت كذا وكذا وسترتها عليك وعملت كذا وكذا وأثيبك عليها وهكذا...
هذا عرض وأما المناقشة فإنّ معها العذاب لأنّ الله جلّ وعلا لا يناقش الحساب أحدا إلاّ عذبه كما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذّب، هذا القسم محمود سؤاله وهو الذي فعله أهل العلم ويفعلونه مع مشايخهم يسألون عن أشياء تخصهم في دينهم يسألون عن معاني الكتاب والسنة ويسألون لرجاء نفعهم.(1/46)
من المسائل التي ينبغي أيضا أن تراعى في أدب السؤال ما يخص الذين يسألون أهل العلم في عقب المحاضرات أو الندوات السائل الذي أرسل السؤال في الورقة طبعا يضيق المقام أن تعرض جميع الأسئلة بعد محاضرة أو ندوة لكن هو يحتاج إلى الجواب وهذا الذي يفرز الأسئلة ينبغي أن يكون متأدبا مع العالم في السؤال وأحيانا لا يرعى الأدب في ذلك بأن تحجب بعض الأسئلة ويعرض بعض الأسئلة، الأسئلة التي فيها مخالفة لرأي هذا الذي يفرز لا يعرضها والتي توافق رأيه يعرضها ولم يؤتمن على هذا!! ائتمن على أنّ المسألة التي تفيد السائل وتناسب الحال وله أن يقيم الحال حال المسجد يرعى المصلحة ويدرأ المفسدة أو ينظر لرغبة الشيخ أو العالم فيما يسأل عنه وما لا يسأل عنه هذا لابد منه، لكن أن يكون هو يختار ما يريده ويلغي ما لا يريده هذا نوع من عدم الأدب مع أهل العلم في السؤال وسبب إشكالات كثيرة يأتي هذا ويستدعي عالم أو يطلب من عالم يسأله عن أشياء هو يريدها أو تأتي الأسئلة فيبعد بعض الأسئلة التي يكون جواب العالم فيها لا يرضي جواب من يفرز الأسئلة أو لا توافق رأيه هو يعلم أنّ العالم سيجيب هذا لكن الجواب على خلاف ما يهواه فهل أنت حكم على أهل العلم في أجوبتهم؟ هذا يسبب فرقة في الأمة ويسبب أشياء من عدم رعاية وتوقير أهل العلم الذي ينببغي من الأدب للذين يسألون أهل العلم أن يسألوا الأسئلة النافعة سواء كانت توافق ما عنده أو لا توافق لأنّ العالم هو الذي سيجيب بما دلت عليه النصوص (إذا كان راسخا في العلم) والهوى بعيد عن أهل العلم وهذا بتزكية الله جلّ وعلا لهم ولهذا لا ينبغي لهذا الذي يفرز الأسئلة أن يتقي على رغبته بل يسأل ويقول للعالم قبل أن يأتي الأسئلة إذا جاءت ما الأسئلة التي تحب أن تعرض وما التي لا تحب أن تعرض فيقول له الأسئلة التي فيها كذا وكذا لا تعرضها لأنه قد لا يناسب عرضها أمام الناس في مسجد منهم من يكون خالي الذهن أصلا عن بحث هذه(1/47)
المسألة يأتي تعرض فيطلع على شيئ هو في غنية عن أن يطلّع عليه إذن هذه المسألة بحاجة أن ترعى في الندوات والمحاضرات أن يكون الذي يفرز الأسئلة يرعى ما يرغبه العالم فيما يعرض وفيما لا يعرض وألاّ يتحكم هو لأنّ تحكمه يسبب بعض عدم رعاية وتوقير أهل العلم لهذا نجد أنّ بعض المشايخ يعتذر عن بعض الندوات ويعتذر عن بعض المحاضرات لمَ؟ لأنّه يخشى أن تأتي أسئلة لا يناسب الجواب عليها أمام العامة مثل ما ذكرنا السلف ما أجابوا على كل سؤال في كل مقام وإنما يختلف الجواب بحسب اختلاف الحال يفصل في موضع لا يفصل في موضع يمتنع عن الجواب في موضع... إلخ.(1/48)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم فأتاه رجل فسأله متى الساعة فلم يجبه (عليه الصلاة والسلام) وأكمل حديثه ثم قال: متى الساعة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال: {يسألونك عن الساعة أيّان مرساها فيم أنت من ذكراها} لا يعلمها عليه الصلاة والسلام {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} جلّ وعلا فلما ألحّ في المسألة كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) هذا الجواب غير السؤال لأنّ السؤال كان بمتى عن الزمن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بقوله إذا وسّد بعلامة من العلامات وأشراط الساعة معلومة كذلك في قول الله جلّ وعلا لها سأل النبي عليه الصلاة والسلام الناس عن الأهلّة كان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} الصحابة سألوا وقالوا لمَ يبدأ الهلال في أوّل الشهر رفيعا ثم يكبر ثم يكبر حتى يستتم؟ فسألوا سؤالا لا تستوعب الجواب عليه عقولهم فكان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} أجيبوا بشيئ غير السؤال بما ينفعهم وهو أنّ الأهلّة هذه مواقيت لم يبدو كذا ثم يكون كذا هذا عدل عن الجواب عنه وفي هذا أصل شرعي في أنّ العالم قد يعدل عن الجواب إلى شيئ آخر ويأتي بعض الناس ويقول هذا هروب من الجواب الشيخ ما أجاب هرب من الجواب ليس هروبا من الجواب لأنّه لا يريد أن يجيب لخوفه من الجواب ونحو ذلك لا العالم مربي يربي الناس ويجيب بالأصلح لهم لما يرعى فيه المصلحة ويدرأ المفسدة هذه بعض ما يتعلق بالآداب التي ينبغي مراعاتها حين السؤال وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعني وإيّاكم بما سمعنا وأن يجعلنا من المتأدبين الذين يريدون وجه الله والدّار الآخرة وأسأله جلّ وعلا أن ينفعنا بعلمائنا وأن يجعلنا من المتعاونين معهم على البرّ والتقوى والمتأدبين معهم والذّابين عنهم قول أهل السوء أسأله سبحانه لي ولكم العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدّنيا والآخرة وأن يختم علينا هذا الشهر الكريم بقبول(1/49)
وغفران وألاّ يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضى هذا وصلى الله وسلم وبارك على من علمنا الخير وأدبنا أحسن تأديب نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر لكم حسن هذا الاستماع وحسن الإقبال وأسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن غفر له أول ذنبه وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.(1/50)
كيف تدعو إلى الله؟
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلواتُ الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد وعلى صحابته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع هذا الدرس كيف تدعو إلى الله؟(2/1)
وسبب اختيار هذا الموضوع ما هو معلوم من أن الدعوة إلى الله جل وعلا مهمّة عظيمة، وأن كلَّ من رغِب في الخير واستقام على الإسلام فإنه يروم أن يهديَ غيره؛ لأنّ في ذلك الفضل الجزيل، وفي ذلك العائدة العظمى عليه وعلى غيره, وأعظم عائدةٍ على المستقيم على الصراط أن يكون له مثل أجور من هداهم إلى الله جل وعلا, فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا يَنْقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء» وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي حين بعثه إلى خيبر «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» يعني من الإبل الحمراء الغالية عند أهلها، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا؛ وأن يهدي الله على يديك واحدا من الناس رجلا أو امرأة، صغيرا أو كبيرا فإن في ذلك الفضل العظيم عليك؛ ولأن تعطى كذا وكذا من الأموال الجزيلة في هذا الزمن ليس بأفضل لك من أن يُهدى على يديك رجل واحد، لكن كما نرى أن كثيرين يريدون أن يدعوا, كثيرين يريدون أن يهدوا الناس، لكن سبيلُ ذلك لا تكون ماثلةً أمام أعينهم، ربما جربوا تَجْرُبات ليست بالمستقيمة، ربما حاولوا محاولات لم تكن مؤصلة لم تكن عن تجربة، لم تكن عن استرشاد بمن جرّب فنجح، فلهذا تكون خطاهم متعثّرة، وهؤلاء ربما فعلوا أشياء ودعوا، وكان في دعوتهم من الخطأ ما حجز آخرين عن قبول الحق والهدى؛ لأن خطأ الداعية ليس كخطأ غيره، ولهذا أمر الله جل وعلا الأنبياء جميعا بالصبر وأن لا يستخفَّهم الذين لا يؤمنون، كما قال جل وعلا?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]، ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ?[الأحقاف:35]، فإن الدعوة أساسُها الحكمة، أساسها الأناة،(2/2)
أساسها أن يكون العبد سائرا على ما أمر الله جل وعلا به، وما نهى، فيما يأتي ويذر في أمر الناس، وإذا كان كذلك فإنّ دعوته يُرجى أن تُؤتي ثمارها ولو بعد حين.
الدعوة إلى الله جل وعلا مطلبٌ للجميع؛ مطلب من حيث العمل، ومطلب من حيث الغاية؛ لأن الغاية؛ غاية المجتمع المسلم أن يكون مستسلما لله جل وعلا، منقادا له في الظاهر ومنقادا له في الباطن أيضا, وهذه الغاية ينبغي للأفراد أن يسعوا في تحقيقها، وللمجتمعات أن تسعى في تحقيقها، وكذلك لدولة الإسلام أن تسعى إلى تحقيقها، فإنّ تعبيد الناس لله جل وعلا هو الغاية من خلقِهم، فإذا أدرك الناس ذلك فاستقاموا عليه، فذلك فضل، و إلا فإن الناس يدعوا بعضهم بعضا ويُرشد بعضهم بعضا، لهذا كانت هذه المحاضرة أو كان هذا الدرس؛ كيف تدعو إلى الله جل وعلا؟ كان مُهِمًّا في إعطاء بعض النقاط، وليس بشمول ما يتصل بهذه المسألة؛ لأنها طويلة الذيول، لكن بما يفتح آفاقا لدى الذي يحب أن يكون هاديا للناس سائرا على الحق على صراط سوي.
المتأمل اليوم في أحوال الناس يجد أن الدعوة على أنواع:
?منها دعوة فردية ونعني بالدعوة الفردية أن يكون الفرد يدعو فردا آخر، أو أن يكون أفرادا يدعون أفرادا.
?ومنها دعوة جماعية، والدعوة الجماعية أيضا من حيث الواقع منقسمة إلى قسمين:
· منهم من يدعو جماعيا على أساس التعاون على البر والتقوى؛ ويتعاونون ويجتمعون على أن يهدوا الناس، يُرتّبون أمرهم؛ كيف دعوة هذا ومصداقية في نجاح التأثير عليه أو التأثير على هذه الأسرة أو نحو ذلك..
· وهناك قسم آخر من الدعوة الجماعية وهي الدعوة الجماعية المنظّمة التي تكون عن تنظيم بتجسيد المهمات ويكون هناك قيادة وهناك فروع لهذا التنظيم.
وهذه التقسيمات من جهة الوجود، أما من حيث مشروعية كل قسم وتفاصيل الكلام عليه فسنعرض له إن شاء الله تعالى في مكان آخر من هذه الدروس.(2/3)
الذي يهمُّنا من هذا التقسيم في هذا الدرس هو القسم الأول وهو الدعوة الفردية التي يمكن أن يعمل بها المرء بمفرده, كيف يمكن أن تكون أنت داعية إلى الله جل وعلا؟ كيف يمكن أن تهدي الناس؟ كيف تمشي في هذا الطريق دون عقبات ودون أن تتردد فيه وتؤثر على الناس ويُقبَل منك ذلك؟
إذا تأمّلت الواقع الذي تعيشه هذه البلاد، بل وواقع الأمة الإسلامية بعامة وجدتَ أن الخير ينتشر يوما بعد يوم من جهة اهتداء الناس إلى الإسلام ومحبتهم إلى الالتزام به، ورغبتهم في تعاليمه، وإقبالهم على الخير، لا شك أن الناس يزدادون إقبالا يوما بعد يوم.
فإلى أي شيء يُعزى هذا الانتشار العظيم؟
هل هو نتيجة للدعوة الجماعية التنظيمية؟ لاشك فإن الذي يقول إنه نتيجة لذلك أنه مغالي وليس له في الواقع نصيب.
هل هو نتيجة لدعوة جماعية فيها تعاون على البر والتقوى؟ أيضا يعني دعوة جماعية مرتّبة ليس فيها تنظيم وقيادة إلى غير ذلك، يعني ليس لها صفة الحزبية أيضا هذا فيه بعد.
ولكن الواقع أن أكثر الأسباب ظهورًا إلى انتشار الإسلام، وفي زيادة الصحوة، وإقبال الناس نساء ورجالا على الخير وعلى الهدى، هو نشاط الأفراد؛ هذا ينشط في عمله، وهذا ينشط في أسرته، وهذا ينشط في حيِّه، وهذا الإمام ينشط مع جماعته، إلى آخره، فأكثرها نشاطات فردية، وهذه النشاطات الفردية لا شك تستفيد مما يجري حولها بأنواع من الاستفادة منها ما هو جيد ومنها ما هو ليس بجيد، منها ما هو منضبط ومنها ما ليس بمنضبط، إلى آخر ذلك..
المهم أن سبب انتشار الخير كان هو الدعوة الفردية؛ دعوة الناس بعضهم بعضا بدون مؤثرات عظيمة؛ مؤثرات جماعية، وإنما هذا يُرغّب في الخير فأثّر في أسرته، هذا يُرغّب في الخير فأثَّر في عمله، تجد أنه قرأ كلمة طيبة فنشرها إلى آخر ذلك..(2/4)
فهذا الترتيب وهو أن من أكبر أسباب انتشار الصحوة وزيادة الخير هو جهد الأفراد، هو الذي نريد أن يعلُق بالأذهان حتى لا يظن الظان أنه لا يمكن أن يدعو حتى يكون معه أناس، وحتى يكون معه من يساعده، وحتى يكون هناك من يرتبه، وهذا أمر لا بد منه، لأنه إذا شعر بأنه يمكن أن يعمل بمفرده، يمكن أن يدعو بمفرده، لاشك أنه إذا كان هناك معه غيره يدعون بما فيه تعاون على البر والتقوى، تُؤتِي الدعوة ثمرات أكثر في قطاعات كبيرة لكن إذا كان يشعر أنه إذا عمل بمفرده فإنه سينتج ولا يحتاج إلى غيره في أمر الدعوة فإنه يشجّعه ذلك، وهذا الذي ينبغي أن يقرّ في الأذهان بادئ ذي بدء قبل الدّخول في هذا الموضوع الذي نعرض أطرافا منه.
إذن فمهمتك أيها المسلم هي أن تحمل أولا همَّ هذه الدعوة، أن تحمل أولا همَّ مصلحتك؛ لأنك إذا دعوت فإنك لا تدعو لأجل أن تكون المصلحة لغيرك، أن تدعو لأجل أن تكون المصلحة لك، لأنك إذا دعوت أحدا إلى الله جل وعلا فاستقام وعمل شيئا من الخير فلك مثل أجره، فتزداد حسناتك بسبب هداية الناس إلى الحق والهدى، هذا الترغيب الذي يجعلك تقدم، لابد له من ضوابط، لابد أن تعرف ما فيه من محاذير، لابد أن تعرف ما له من أحكام، وهذا هو الذي سنطرقه إن شاء الله فيما نستقبل من الكلام.
الداعية المفرد الذي يدعو بنفسه أولا لابد أن يكون نبيها ذكيا من جهة حال المدعوين بل أقول قبل ذلك.
?أولا: لابد أن يكون في دعوته متجردا مخلصا لله جل وعلا، يعني له رغب في قلبه أن يجعل الناس مطيعين لله جل وعلا، ليس له رغب في الدنيا، ليس له رغب في الجاه، ليس له رغب في السمعة، ليس له رغب في السيطرة، ليس له رغب في أن يكون متعاليا على الناس، مما هي من أنواع الأخلاقيات التي قد تعرض على بعض القلوب التي تدعو إلى الله.(2/5)
المهم الأول أن يكون مخلصا لله متذللا مطيعا، ترغب أن تهدي الخلق إلى الله جل وعلا، لا أن تهديهم إلى غيره، وهذا الشرط جاء في قول الله جل وعلا?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف:108]، في هذه الآية أمر الله جل وعلا نبيَّه أن يقول هذه سبيلي؛ قل يا محمد للناس جميعا وللكفار بوجه الخصوص (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ), قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد في قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) التنبيه على الإخلاص، وهذا أمر مهمّ مطلوب دائما أن يكون في قلبك العمل لله جل وعلا، ثم قال على بصيرة والبصيرة للقلب كالبصر للعين، البصيرة هي العلم الواضح الذي يكون معه صورة الأشياء العلمية، صورة الأشياء العملية أمام الخلق في وضوح، كما تكون الأشياء المبصَرة بالعين أمام العين في وضوح إذا توجه النظر إليها, (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) فذكر شرط الإخلاص وذكر شرط البصيرة والعلم مما سيأتي بيانه. هذا الشرط معروف ولابد أن يتوطَّن قلبك أن تكون مخلصا لستَ مسيطرا، لستَ طالبا ذا سمعة، و هذا من الأخلاقيات المهمة، والدعائم المهمة للداعية، لما؟ لأن بعض الناس قد يأتي يدعو يرى الذي أمامه عنده مخالفات، عنده بلاء عظيم، حتى ولو كان الشرك والبدعة أو ما هو أقل من ذلك من كبائر الذنوب، أو تفريط في الفرائض أو الصغائر، قد ينظر إلى أنه متعالي عليه، فيأتي فيدعو من جهة التعالي، من جهة الاستعلاء، فيكون أمره ونهيه ليس صادرا من قلب مخلص تمام الإخلاص، وإنما فيه شيء من الاستعلاء وهذا يفسد القبول.
فإذن عندنا الأمر الأول المهم هو أن تكون مخلصا وفهمتَ معنى الإخلاص:
· أولا: أن لا تدعو إلى غير الله يعني لا تحبب الناس في غير الله، وإنما تريد أن يطيع الناس رَّبهم جل وعلا وحده.(2/6)
· الثاني: أن تكون غير متعالي على الناس يعني أن تكون أنت وهم بمنزلة واحدة ليس معناه أنه عاصي معنى أنَّك خير منه لا تدري لمن تكون الخاتمة السعيدة، ولكن تكون أنت مقبلا في أن يكون هذا مقبلا على الله جل وعلا وأنت مخلص في أن يكون مهتديا إلى الله جل وعلا.
هذا الخُلق الأول الإخلاص مهم بل شرط من الشرائط وواجب من الواجبات، وإذا قيل خُلق أو أدب في عُرف أهل العلم لا يعني أن يكون مستحَبًّا، فقد يكون واجبا قد يكون شرطا قد يكون مستحبا.
?ثانيا: أن يكون ذكيا، حصيفا، نبيها، لأن حالة المدعو كثيرا ما تحتاج إلى تنبؤ، وهذا يأتينا في الأسباب يعني في دراسة حال المدعوّين، ينبغي أن يكون الداعية ذكي ونبيه وحصيف؛ يعني يعرف كيف يدعو، كيف يرتِّب النتائج على المقدمات، كيف يعرف الطريق الأحسن للدخول لذلك، والذكاء هنا ليس أمرا فطريا فحسب، بل يكون أيضا بالتجرُبة، يكون بالتدرج، لهذا من خالط، من جرّب الدعوة اكتسب شيئا من الخبرة في معرفة كيف يكون الذكاء والحصافة والرأي في التعامل مع الناس.(2/7)
?الأمر الثالث من أخلاق الداعية: أن يكون الداعية محبًّا لبذل الخير راغبا في هداية الناس عن طريق بذل ما عنده، وأن لا يحقر شيئا من الخير، يبذل جميع ما عنده، جميع قدراته التي يمكنه أن يبذلها, يبذلها إن كان شيئا من المال يستطيع بذله أو من الجاه يستطيع بذله, شيء من الحركة والعمل, من الخدمة, من طلاقة اللسان، من بذل بعض الأمور التي يكون لها أثر، هذه مطلوبة من الداعية، يعني أن يبذل ما عنده، وهذه قد قال فيها عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» لا تحقرن من المعروف شيئا, هذه كلمة عظيمة لا تحقرنَّ من المعروف شيئا لأنك ربما حقرت شيئا من المعروف ولو بسمة واحدة حقرتها لكن أثرها لن تراه أنت ربما يراه غيرك؛ بانفتاح صدر هذا المدعو في قبوله ما عند صاحب الخير، أما إذا لقي الداعية أو الذي يرغب في هداية الناس للخير، لقي الناس وهو مكفهرّ الوجه أو وهو غير متقدم لهم بنفس طيبة؛ يحقر المعروف يحقر الخير، فهذا لا شك يشكل شيء من الحواجز أمامه، لهذا على الداعية أن يوطِّن نفسه أن يكون باذلا؛ إذا أردت أن تتحرك بالدعوة فابذلْ، تُوَطِّن نفسَكَ على أن تبذل، إذا كنت شحيحا لست بذي جود فلا تصلح للدعوة؛ الداعية يصلح له أن يكون جوادا؛ يعني أن يكون باذلا للخير غير شحيح، والشحّ ليس في المال فحسب، الشح يكون في اللفظ، في الحركة، يكون في المعروف، في أشياء كثيرة، ومنها المال، وقد قال جل وعلا?وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?([1]), ووصف ابن القيم رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره في كتاب مدارج السالكين في منزلة الجود ذكر شيخ الإسلام وقال:لم أرَ في العلم أجود من شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أنه يأتي السائل فيسأله عن مسألة، فيجيب عن أكثر منها، وهذا ربما أُنتقد عليه، ولكن هذا من الجود بالعلم لأن مثل ذلك مثل من سئِل عن الطريق إلى مكة فوصف للسائل طريق(2/8)
مكة وطرق المدينة وطريق كذا وطريق كذا إلى آخره.. وهذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن التوضأ بماء البحر قال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»جواب السؤال (الطهور ماؤه) أما (الحل ميتته) فهذا زيادة في الجواب من الجود الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى.
إذن في أخلاق الداعية لابد أن تُوطّن نفسك على أن تكون جوادا؛ جوادا في بيتك، جوادا في عملك، جوادا في السوق، جُود الطبيب وهو يمارس مهنته، جُود التاجر وهو يمارس مهنته، جُود القريب وهو يتعامل مع أقربائه، إلى آخره؛ يعني جُود هؤلاء وكونهم يكونون من أهل الجود، هذا من المهم في كل نِطاق لأن الجود سبب لانفتاح القلوب والناس يحبون من أحسن إليهم:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ(2/9)
وهذا واقع، إذن هذه الخصلة لابد أن توطّن نفسَك عليها، تكون جوادا ولو لم تكن كذلك في الداخل جرِّب نفسك؛ أن تكون جوادا بالكلمة، جوادا بالبشاشة، جوادا بالبذل مثلا من الأمثلة –وهذا سيأتي تطبيق له فيما نهدف إن شاء الله- مثلا رجل في بيته يشكو من وضع والده، يشكو من وضع ولده، يشكو من وضع إخوانه –مثلا- ويشكو, ويشكو، وهو إذا تعامل معهم في الدعوة يتعامل معهم من جهة الأمر والنهي، لكن لو خالط زملاءه، لو خالط أصحابه، وجد أنه معهم بشخصية أخرى غير الشخصية التي يتعامل بها مع أهل بيته، هذا الانفصام سببه أنه جواد مع أولئك بالكلمة، بالبذل، بالأخذ، فأثر فيمن أثر، وثبَّت من ثبَّت بتوفيق الله جل وعلا، أما في بيته فهو إنما هو آمر ناهي, والناس ليست مجبولة على من يحب أن يتسلط عليها؛ من يأمر وينهى، وإنما مجبولة على حب أن يقدّم لها، من يحسن إليها. إذن في البيت الجود لو جرّبته له أثره العظيم فجرّب مع أخيك الصغير، مع أخيك الكبير، مع والدك، مع ابنك، مع بنتك، مع أختك، مع قريبك، جرِّب هذا ستجد أن له أثرا وإن كان هذا الأثر ربما يكون بعد مدة لكنه أثر, وأوّل درجات الدعوة انفتاح قلب المدعو إلى الداعية؛ قلب من تريد أن تؤثر عليه أن ينفتح قلبه لك, ويحب الكلمة التي يسمعها منك, ويقتنع بالكلام الذي تقوله, ولو عشرة في المائة، عشرين في المائة, خمسين في المائة, في البداية. هذا خير عظيم، الأمور لا تصل إليها على خطوة واحدة، ومن الأسباب المهمة ما ذكرته لك وهو الجود فلا تحقر هذا السبب، فقد قال لك عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنّ من المعروف شيئا» أيّ شيء من المعروف لا تحقره «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» بل إن ذلك فيه تنبيه على أن تلقى أخاك دائما بوجه طلق كما قال في الحديث الآخر «وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة».(2/10)
?من الأخلاق المهمّة للداعية أن يكون واسع الأفق، يعني محلِّلا لما يجري حوله؛ يعني أحيانا يكون الأثر الذي يؤثر في المدعو سلبا, أو يؤثر في المدعو إيجابا، يكون هذا أثر غير مَرَضي يكون فيه أشياء في جوانب حياة هذا المدعو خاصة من لا تعاشره دائما, فهذا كيف تؤثر عليه؟ لا بد أن يكون عندك رؤية متّسعة للمؤثرات التي تؤثر على هذا المدعو، وهذه الرؤية المتسعة ستستنتج منها الأسباب التي تصدّ هذا المدعو عن قبول الخير، وستستنتج منها الأسباب التي تجعل هذا المدعو يُقبل على الخير، يعني هناك أشياء تجعل هذا يقبل لأن كل إنسان له عواطفه، له محبته وخاصة إذا كان مسلما فإنه عنده من الخير ما عنده، لكن ربما غطّى عليه كثير من الرَّان المنتشر في الناس، ولأسباب أخرى تارة تكون من نفسه والشيطان، وتارة تكون ممن حوله من الشياطين الذين يصدون الناس عن الحق، هذا لابد أن يكون عند الداعية استيعاب لما حوله، ثم إذا استوعب كانت رؤيته غير محدودة، بل رؤيته متسعة بعد ذلك يدرس هذه الأسباب، ويحاول أن يأتي ويحصّل الإيجابيات وأن يبتعد عن السلبيات، ولهذا جاء مبدأ المشاورة والتطاوع في الدعوة، يعني أحيانا يكون الإنسان لا يدرك الأشياء بنفسه خاصة من تحليل نفسيات المدعوين، لهذا قال عليه الصلاة والسلام لمن أرسلهما إلى اليمن «تطاوعا ولا تختلفا وبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا».
? أيضا من المهمات في أخلاق الداعية: أن يكون معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة، وأنّه يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا مراتبها كبيرة جدا، هناك من الدعوة ما لا يصلح إلا للعلماء، هناك من الموضوعات ما لا يصلح أن يدعو إليه من العلماء, هناك من الموضوعات ما يصلح أن يدعو إليه كل مسلم؛ لأن كل مسلم معه من اليقين والعلم بأشياء من الحق ما ينبغي له أو إذا دعا فهو عنده من العلم في تلك الأشياء ما يجعله يدعو إليها.(2/11)
العلم ذكرنا دليله في قوله جل وعلا?عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي? والبصيرة هي العلم؛ والعلم مهم وكما قلنا درجات، ولهذا أهل العلم يقولون لا يجوز لأحد أن يدعو حتى يعلم ما يدعو إليه، أما إذا كان جاهلا بالحكم، جاهلا بما يدعو إليه، فكيف يدعو إلى شيء وهو يجهل حكمه؟ لكن إذا دعا إلى تحبيب الناس في الخير، إلى تحبيب الناس في الاستقامة، في الصلاة، في الطاعة، في مؤاخاة الصالحين إلى آخره.. هذه أمور يشترك في معرفتها وفي العلم بها جميع المسلمين.
العلم لابد منه فيما تدعو إليه، إذا أردت أن تدعو إلى مسألة ليست من الواضحات فلا يجوز لك أن تتكلم فيها إلا بعد أن تكون عالما بها على ما قاله أهل العلم.(2/12)
?أيضا من الأخلاق المهمة أو من الآداب المهمة للداعية التي تكون من خلقه وشخصيته: أن يكون مرتبا للأولويات وهذا ما يُسمى بتقديم الأهم على المهم، أو ما يسميه بعض المعاصرين بفقه الأولويات -وهذا صحيح- تقديم الأوْلى على ما هو دونه، هذا مهم، تقديم الأهم على المهم، هذا أصل شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم..» قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مسائل كتاب التوحيد: فيه البداءة بالأهم على المهم. نعم الأهم يُبدأ به قبل المهم، لابد أن يكون عندك معرفة بالأولويات ما المهم؟ بعض الناس ممكن أن يبدأ بالدعوة بفرعيات يعني بمستحبات ويترك الأصول، هذا ما بدأ بالأهم وترك المهم، بل بدأ بما هو من المستحبات وترك ربما الواجبات والفرائض، لابد أن يكون الداعية متمرسا في معرفة الأولى فالأولى، هل الأولى فالأولى في جميع الناس واحد؟ لا, في جميع المجتمعات واحد؟ لا، المجتمعات تختلف وكذلك الأفراد يختلفون، بل البيوت تختلف، فهناك أولويات في بيت ليست هي الأولويات في البيت الآخر، بل نفس الداعية عنده أولويات في بيته للدعوة، وينتقل قلبه إذا اتجه إلى عمله إلى أولويات أخر، وينتقل قلبه إذا خالط أصحابا له في أولويات أخر، فيكون عنده من فقه الأولويات ما يجعله إذا تكلم في كل مجلس يظن الظان أنه متناقض؛ يتكلم هنا بكلام وهناك بكلام، والواقع أنه من فقهه؛ جعل الأولويات التي يتكلم بها مع أهله غير الأولويات التي يتكلم بها مع أصحابه غير الأولويات التي يتكلم بها مع العامة وهكذا.(2/13)
فإذن من فقه الداعية ومن الأخلاق التي لابد له أن تكون معه أن يكون عنده ترتيب للمهمات ترتيب للأولويات، وهذا يتطلب أن يكون معه الأشياء السابقة وهي أن يكون ذكيا فطنا واسعا حتى يمكن أن يعرف ما هي الأولويات المتصلة بهذا الفرد، بهذه الأسرة، بهذا البيت، إلى آخره, فإذا رتبت هذه الأولويات عرفت كيف تبدأ، وأما إذا لم ترتب ربما أتيت من قبيل الغيرة، وأمرت ونهيت وأقمت الدنيا وأقعدتها، لكن هل أثرت في القلوب؟ الجواب: لا. ربما المرء يحترم في بيته قد يحترمه أولاده، قد يحترمه إخوانه، لكن المهم أن يحترموه وبعد الاحترام أن يطيعوه, وأن يقتنعوا بالحق الذي معه, وهذا ليس مهمة الآمر الناهي فقط. بل مهمته أن يكون مع أمره ونهيه دعوة بشرائطها ومتطلباتها.
?أيضا من الأخلاقيات المهمة في الداعية: أن يكون متخلِّصا عن حظ نفسه، دائما يكون باغٍ لحق الآخرين بعيدا عن أداء حق نفسه, وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربما أتى إليه الأعرابي وجذبه من وراء ظهره بقوة من ردائِه، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه إجابة سمحة، وربما قام عليه الرجل فتكلم عليه، وقام عليه بسيفه، فأجابه بإجابة يكون فيها البَر والطمأنينة له، فيه أحاديث معلومة ليس هذا محل ذكرِها.(2/14)
المقصود من هذا أن الداعية يجب عليه أن يكون متخلصا، يعني وأنت في دعوتك تكون متخلصا عن نفسك يعني هذه النفس التي بين جنبيك احترامها، قوتها، إلى آخره هذه اجعلها تنزل مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث لأن الناس خاصة إذا تعاملوا مع من يدعوهم إذا رأوا أنه يتسلط ولو بكلمة فيها شيء من القوة والغلظة فهم لا يقبلوها ?وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ?[آل عمران:159] وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وهم صحابته الكرام عليهم رضوان الله، هكذا الناس، الناس مجبولون على أنهم لا يقبلون الذي يخالف ما هم عليه؛ إذا تأمره بشيء يخالف رغبته لا يقبل ذلك، فمتى يكون لك حظ عند المدعوين؟ إذا تخلصت من رغبات نفسك, وهذا يظهر عند اللقاء، عند النقاش؛ فإذا أمرت أو دعوت فتكلَّم عليك ربما والدك، ربما ابنك، ربما أخوك، ربما أختك، وهكذا ربما يتكلم عليك، فهل معنى ذلك تظهر لك العزة وأنت تتمثل مقام الدعوة؟ لا, بل يظهر عندك مقام الداعية رحْب الصدر الذي يمكن أن يناقش، يمكن أن يتكلم في كل مسألة، وإذا ضاق به الأمر وأُحرج؛ لأنه ربما يكون المدعو يُحرج الداعية بأشياء، لأنه هو مضطرب فيها أو لا يكون عنده إلمام بها إلى أشباه ذلك يعتذر لأنه دون خطأ, لكن يرتب المهمات لأن المهم إذا وصلتَ إليه يعني الأَوْلى الأهم إذا وصلت إليه فإنه متفَق عليه؛ المحافظة مثلا على الصلوات، التزام المرأة مثلا بحجابها، بسترها، بقلة خروجها إلى آخره, التزام الرجل بآدابه، عدم مخالطة الأشراف إلى غير ذلك، هذه الأشياء تكون متفق عليها، فيأتي الكلام في خلافيات معينة.(2/15)
الانتصار للرأي يَحْرِم الدعوة، فلهذا على الداعية أن يكون واسع الصدر، أن يكون متخلصا عن نفسه، وعن الانتصار لنفسه؛ يعني لا بأس أن يقول أخطأتُ ولا بأس أن يقول معك الصواب، وألا يرتفع لأنه إذا رفع نفسه على غيره فإنه لن يقبل الداعية ندًّا, لا بد أن يكون جاعلا نفسه أقل من غيره وهو يخاطب الآخرين؛ إذا جعل نفسه ندًّا لغيره أو متعاليا فإنه في الغالب يكون كلامه محترمًا، لكن لا يكون محل قناعة وقبول.
القسم الثاني هو الميدان:
كيف تبدأ العمل؟ كيف تدعو عمليّا في بيتك؟ كيف تدعو عمليّا في مكتبك؟ كيف تدعو عمليّا في مؤسسة، في الشركة؟ كيف تدعو عمليّا في المتجر؟ كيف تدعو عمليّا في قريتك إذا رجعت إليها، أو إذا سافرت إلى أي مكان في الطائرة ؟... إلى آخره.
هذا المجال الذي هو المجال الميداني لا شك أنه من المصاعب، ويحتاج إلى تجربة، لكن هو سهل ميسور إذا أخذته بتسهيل.
الأول البيت: البيت مركّب من رجل وامرأة كبير أو صغير, الأطفال ليس هذا محل بيان كيف يؤدبون وكيف تتكلم معهم لكن مع الكبار.(2/16)
البيت يحتاج منك إلى أن تنظر في هذا البيت، في ما فيه من الخير الذي يَرْغَب فيه أهل البيت وما فيه من الشر الذي يقع فيه بعض أهل البيت وأنت لا ترض عنهم، –كل بيت من بيوت المسلمين فيه أشياء من الخير وفيه أشياء من الشر-. النظر إلى الخيرات لابد أن يكون مع النظر إلى الشرور والمنكرات لما؟ لأن تلك قَبِلُوها وهذه قَبِلُوها، فأنتَ تريد أن يقبلوا منك زيادة في الخيرات التي يمارسونها، وأن يقبَلوا منك التخفيف من الشرور والمنكرات التي يمارسونها، فإذن في نظرك إلى البيت حلّل أولا الإيجابيات والسلبيات -كما يقال-، حلّل الخيرات, وحلّل المنكرات, فانظر إلى أسباب حدوث الخير وأسباب حدوث الشر، فترى تارات كثيرة أن أسباب حدوث الخيرات هو الإيمان الكامل في نفوسهم، الرغبة الصادقة في أهل البيت في الدار الآخرة وفي الخير، هذه تحتاج منك إلى تنمية؛ تنميتها بأمور تغرس الإيمان في القلب، وأهمّ ذلك أن يُوَطَّن أهل البيت على محبة القرآن والذِّكر، هذه أدْخِلْها إلى البيت، ولو بقراءات بينك وبينهم في فترة وجيزة من فترات الزمن يعني خمس دقائق، عشر دقائق, يجتمع الجميع على قراءة كتاب الله و الإستماع له وحفظ آية أو نحو ذلك هذا شيء يشترك فيه الجميع لحُسنه، وأظنّ خمس دقائق أو عشر دقائق ليس ثَم من يعارض فيها.
مسألة الصلاة فيما يوجد مثلا عند النساء, النساء تجد أنهنَّ في البيت وهنّ مغفولٌ عنهنّ تجد أنهم يصلين لكن الصلاة عند كثيرات منهن بدون خشوع، يعني كثير من النساء ينقر الصلاة نقرًا، فهذه أنظر لها وحاول أن تعالجها بالطريقة الملائمة، بأن تقول مثلا هذه الفتوى لأهل العلم وهذه الأحاديث الواردة في ذلك, الصلاة زيدي فيها تسبيحة, زيدي فيها تسبيحتين، ونحو ذلك، لا يصح نقر الصلاة وبخطاب مودود بين المتكلم والمخاطب.(2/17)
إذا نظرتَ مثلا إلى الجهة الأخرى التي قد يعتني بها كثير من الدعاة، أو من الذين يهتمون بإصلاح البيوت جهة المنكرات الموجودة في البيوت؛ المنكرات درجات فهناك منكرات كبيرة عظيمة, وهناك منكرات وسط, وهناك منكرات أخص, والجميع يشترك في أنه منكر ومحرم, فترتيب النّظر في هذه مهم، يعني مثلا هناك بيت أهله من الرجال لا يحضرون الصلوات وتجد عندهم –مثلا- بلاء؛ فيه دخان يعني شُرب الدخان أو رؤية المنكرات، عندهم أجهزة لرؤية النساء والمحرمات ونحو ذلك، أو عندهم ممارسات لأشياء محرمة في البيت؛ علاقات أو اتصالات أو غير ذلك، فكيف تُرِّتب وضع هذا البيت، بحيث يهيئ لك الانتقال إلى المرحلة الأخرى، إذا أتيت إلى الشيء الذي هم أكثر تعلقا به وكان هو الأخص فتركتَ الكلام فيه ربما قبِلوا، وهذا جُرِّبَ وَوُجِدَ في بيوت كثيرة له نجاح؛ يعني هناك شيء يتعلقون به مثل وجود التلفاز في البيوت والتعلق به، و هم عندهم مخالفات أكبر من ذلك، فإذا أتى كلام الداعية في هذا ليلا نهارا رجع هناك بحواجز بينه وبينهم، لكن إذا سكت عنه كما سكت العلماء عن أشياء، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُؤمر أولئك بالصلاة قبل الزكاة، فإذا سكتَّ عنه ونظرت إلى المصيبة الأكبر أو المنكر الأكبر الموجود فجهدت في إزالته وتركت هذا ولو سنة، فإن هذا يسبب قبولا، لأن من عوائد النفس أن لا تحبب الانفتاح على كل ما فيها مرة واحدة، وأنت أنظر إلى نفسك لمن لم يكن مهتديا من قبل ثم اهتدى، وقد قال جل وعلا ?كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا?[النساء:94]، هذا ينظر إلى نفسه لو أتى واحد وقال له انتقل في يوم من الحال التي أنت عليها إلى الحال التي عليها اليوم. لا يمكن أن يتصور ولا يمكن واحد أن يقول هذا الكلام ويقبل منه فورا, ولكن هي مدة من الزمن، فإذن هناك أشياء يمكن أن تسكت عليها، يمكن أن لا تُغلِظ وجهك فيها، ولا الكلام فيها،(2/18)
ولا تنكرها حتى يأتي زمن يقبلوا منك ذلك, لكن بشرط أن تكون ساعيا في نقلهم إلى شيء أفضل، يعني في إنكار شيء أفضل من هذا الذي يمارسونه، وهذا واقع في البيوت، وكل بيت وله تحليلاته وله أوضاعه الخاصّة.
إذا نظرت من جهة أخرى إلى وضع الرجل في بيته أنه يعطي البيت القليل، ويَرغَب من أهل بيته أن يكونوا كما يريد، هذا لا يمكن فلا بد أن تعطي البيت الكثير سواء أكان والدا, أو كان أخا، لابد أن يعطي بيته كثيرا من وقته، حتى يقبل منه أولئك لهم طلبات؛ يريدون في هذا الزمان أن يذهبوا هنا وهناك، رجالا ونساء وأطفالا، مراهقين، شبابا وشابات, يريدون من الرجل أن يبذل لهم، أن يذهب بهم هنا وهناك، إذا لم تبذل لهم؛ النفس لها طبيعة لابد أن تتسلط عليها أفكار وأفكار قد يتولد منها أشياء لا تحبذها أنت، فإذن من وسائل الدعوة المهمة العملية في البيت أن تبذل من وقتك الكثير وتنقل أهلك إلى ما يحبون، وفي خلال هذه المدة يمكن أن تُمرِّر كثيرا من الأشياء التي أمر الله جل وعلا بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذه إعطاء البيت وقتا في القعود في نفس البيت، في الجلوس أيضا، في الخروج للصغار والكبار.(2/19)
أيضا من المهمات في البيت أن تنظر إلى نفسية أهل البيت، وكل واحد تعالج نفسيته بما هو عليه، مثلا –وأنا ربما أركّز على النساء- البنت في البيت بدأت في العمر الثالثة عشرة, الرابعة عشرة, الخامسة عشرة, هذا السِّن إما أن يتسلط عليها الخير وإما أن يتسلط عليها الشر، لا تظن أن الخير سينغمس فيها بكلمة في خِضَمِّ هذا المجتمع الذي فيه كثير من التأثيرات بالباطل والتي قد توافق نفسية المراهقة لا بد أن تدخل في نفسياتها، أن تحتاج إلى أشياء تحتاج إلى المدح –مثلا- في زينتها، تحتاج إلى المدح في هيئتها، في كلامها، تحتاج إلى أن تلبَّى طلباتها، تحتاج أن تُنقل من شيء إلى شيء إلى أن تُقنعها بقناعات مع التسليم لها بأشياء، أن تدخل معها في المشاركة في اهتماماتها, هي مهتمة بأشياء وهي عندك لو اهتم بها فلان واطلع عليه الناس لعِيب ذلك، لكن في الواقع لعِلاج ما في البيت لا يعاب ذلك, فأنت اهتم معها باهتماماتها الخاصة؛ الاهتمامات التي تجعل هذه تشعر أنك دخلت معها في نفس الاهتمامات، ثم بعد مدة يأتي التوجيه شيئا فشيئا، وهذا يجعل هناك صدى وارتباط بين الأخ أو بين الأب في الأسرة وبين هذه الفتاة التي وصلت سن المراهقة.
بعض الآباء في البيوت يكون رجل ديّنا صالحا وفيه خير, لكن حصل في بيته أمور غير محمودة، كان من أسبابها أنه لم يهتم يوما ما لا بالشاب ولا بالشابة، هذا أحد الأسباب؛ ما اهتم بها، ما تكلم معهم في مشاكلهم، ما في داخلهم، كل واحد عنده رغبات، رغباته أحيانا تكون محرمة، رغباته أحيانا تكون بعيدة عن العقل والصواب، لكن لا بد أن تستخرج منها ذلك لأنك إن لم تستخرج منها ذلك، فسيستخرجه الأصدقاء، وسيعنى الأصدقاء بتوجيههم وإذا أتى الأخلاء والأصدقاء بتوجيهاتهم فربما وقع ما لا يحمد.(2/20)
فإذن من المهم أن تعطي البيت وقتا، وإذا أعطيت البيت وقتا فإنه مجال خصب للدخول معهم في ما تحب، والدعوة كما أنك ترى أنه لا يمكن أن تؤثر على الآخرين في خارج البيت بدون وقت، كذلك البيت لا يمكن أن تؤثر عليه بدون وقت.
النقطة الثالثة أن تأتي بكل وسيلة من وسائل الخير فتدخلها إلى البيت من شريط مستقيم طيب، ومن كتب خاصة؛ كتب الأذكار، وكتب المواعظ، والكتب النافعة التي فيها علاج المشكلات، والمجلات المأمونة الطيبة التي تعالج بعض الأشياء وتجعلها في البيت، وهم لا شك سيقرؤون، وسيكون هناك نوع تأثر بوضعها، لمجرد الوضع لا الفرض، فرض تلك الأشياء.
بالنسبة للعمل: العمل ميدان آخر مختلف تماما عن البيت، معالجة البيوت أسهل من معالجة زملاء العمل؛ لأن هؤلاء قد بلغوا من العمر ما بلغوا؛ لهم قناعاتهم, لهم شخصياتهم, لكن هؤلاء لا شك أنهم درجات يختلفون، هؤلاء لا تنظر إليهم نظرا واحدا، بل كل واحد له وضعه، له تفكيره، له عواطفه التي في داخله, زملاء العمل من أحسن ما يؤثر به عليهم، أن يكون هناك اثنين أو ثلاثة يبتدؤون بوضع شيء من الزيارات الخاصة التي يكون فيها حضور لبعض أهل العلم، يعني يجعل مثلا بينهم مثلا لقاء أسبوعي أو ما يسميه بعض الناس دورية، يكون في ثلاث مرات في الشهر جلسة عامة يتحدثون كما يشاءون، ومرة في الشهر يأتيهم بعض أهل العلم ويتناقشون معه في ساعة من الزمان، في أمر من الأمور([2]) هذا النوع من الربط الذي معه عدم فرض الشخصيات على أولئك؛ لأن منهم من لا يقبل أن يأتي كل مرة, واحد يتحدث له في هذه المجالات يعني المجالات الدينية, لكن إذا كان مرة في الشهرين، مرة في الشهر في أول الأمر، هذا مقبول, هذه وسيلة.(2/21)
الوسيلة الثانية نشر أشياء في العمل من جهة فتاوى لبعض أهل العلم بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة من نشر أشرطة نافعة يكون فيها الأثر من قضية صحبة خاصة, نفع لبعضهم، توسط لبعضهم، السعي في نفعهم بالأخلاقيات التي ذكرنا؛ يعني أن يكون المرء في عمله -الذي يخاطب الآخرين- يكون رأى منه ذاك أنه يبذل له ما لا يبذله غيره، وهذه وسيلة مهمة؛ لأنها تُدخِل الخير في النفوس ولو بعد زمن. كذلك إذا كان هناك مسؤول العمل، وإذا قلنا مسؤول العمل لا يتصور أنه –مثلا- وظيفة رسمية في أي مجال من مجالات العمل؛ إذا كان مسؤول العمل رجلا جيدا وصالحا، يمكن أن تأخذ لقاءات لكل العاملين، ويؤثر عليهم عن طريقها، يعني أمامك مجالات في جهد فردي في العمل، يمكن أن تبذله ويكون معه أشياء من الخير، ولا يمكن طرق جميع الجوانب، لكن إذا كان هناك من سعى في ذلك يجود بخبرته على الآخرين، أو إذا رأى المرء أنه سيبدأ في ذلك يشاور إخوانه، ولابد أنه هناك تجارب كثيرة في هذا المجال.(2/22)
جهة أخرى وهي ميدان الدعوة في القرى: من الناس من يأتي مثلا إلى الرياض أو للمدن، وبعد انتهاء فترة الدراسة، أو يريد أن يرجع إلى بلده في إجازة وظيفية إلى آخره, والقرى وضعُها يختلف عن وضع المدن؛ وضع الناس فيها يختلف عن نفسيات أهل المدن -كما هو معروف- كيف يخاطب أولئك وكيف يسعى فيهم؟ أولئك أقرب في الغالب، أقرب إلى الخير؛ يعني أقرب إلى عدم مجادلة أهل الخير من أهل المدن, لأن أهل المدن ترتبت فيهم أشياء من القناعة في بعض المنكرات، أما أهل القرى لا زالوا يحترمون أهل العلم احتراما طيبا، ويحترمون أهل الصلاح احتراما جيدا، هؤلاء تدخل معهم في نطاقات: النطاق الأول تنشيط مجال الدعوة في البلد؛ يعني أن يكون لك صلة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلد، أن يكون لك صلة بمكتب الدعوة في القرية أو في المنطقة, تنشيط الكلمات في المساجد والمحاضرات، الدروس التي تقام في المساجد أو المواعظ التي تقام بعد الصلوات, هذه لها أثر في نفسية أهل القرى قريبا, كذلك في الدعوات العامة وما يسمى باللقاءات العامة، هذه الحديث يكون فيها دائما متركز على رغبات الناس، والداعية إذا نظر إلى هذا المجال وجد أن هذه الأحاديث غالبا ما يتكلم فيها الناس مع أول متحدث؛ يعني إذا فتحتَ أنت موضوعا من الموضوعات فإن الحديث سيمرُّ وقتا من الزمن في هذا الموضوع، إذا طرحته في طرح جيد مقبول، يعني إذا تكلمت مثلا عن شيء من أخبار الصحابة رضوان الله عليهم أو أخبار بعض أهل العلم وما هم عليه، أو تحليل لموقف من المواقف أو نحو ذلك، أو حدث من الأحداث فإنه سيتكلم هذا المجلس في هذا الموضوع شيء من الزمن؛ ربع ساعة، ثلث ساعة، بقدر نباهة وانتباه الداعية يمكن أن يطيل ويشقق هذا الموضوع حتى يكون هناك استفادة أكبر من طرح تلك الموضوعات، يعني أن يكون هذا المشارك مهتمًّا في أن تكون الجلسات العامة ليست جلسات قيل وقال، بل تكون الموضوعات المطروحة فيها مدروسة،(2/23)
وهذا لا بد أن يكون معه كما ذكرنا من قبل دراسة موضوعية لما يكون في تلك البلاد أو القرى من الأمور الإيجابية والسلبية.
مجال رابع من مجالات الدعوة الفردية أيضا هو: التأثير على من هم أقل منك؛ يعني المعلم مع طلابه, كبير الزملاء مع صغار زملائه وهكذا, هذا نوع من التأثير أو نوع من المخالطة موجود, والتأثر به كبير، والتأثير عن هذا الطريق سهل؛ ذلك لأن الصغير في الغالب يرى المعلم، أو الزملاء الصغار يرون الكبير فيهم له محلا من الاحترام ومحلا من التقدير, وهذا يجعل الفرصة سانحة لكي يقول ما عنده، ويؤصل الدعوة الصحيحة بما يحصل لهم به الخير وينتقلون معه إلى الأفضل.
أكتفي بهذا القدر، وربما ما عندي من النقاط ما يجعلِّي الكلام مستقيما من كل جهة.
فنجيب على بعض الأسئلة وتعذروني عن القصور وجزاكم الله خيرا.
السؤال الأول: يقول من خلال الحديث عن كيفية الدعوة، هناك مشكلة تواجهني في هذا الجانب وكثير من الناس، وهي كيف أدعو زوجتي إلى الاستقامة إلى الدين، وما أفضل الطرق في ذلك لأني تعبت، ولم أرى تغيرا أرجو إفادتي وغيري بهذا الموضوع المهم؟
الجواب: التأثير على الزوجة لا شك أنه من المهمات, كذلك تأثير الزوجة على زوجها، وإن كان في الغالب تأثير الزوج على زوجته أكثر قبولا وأكثر واقعيا.(2/24)
الزوجة إذا كانت محترِمة لزوجها فإن عطاء الزوج لزوجته بمقداره يكون القبول؛ عطاء الزوج لزوجته من حيث الكلمة، من حيث العمل، من حيث المال، من حيث تلبية الرغبات، عندها أشياء مخالفة لا يريدها الزوج، عندها اهتمامات غير محمودة, محرّمة، تفعل أشياء منكرة، تجادل في أشياء لا يجوز أن تجادل فيها؛ مثل بعض مسائل الحجاب واللباس ونحو ذلك.. لكن نفسية الزوجة رقيقة؛ المرأة رقيقة بطبيعتها, فالزوج يؤثر على زوجته أول الدرجات بأن ينطلق لسانه, وكثير من الأزواج -ويعذرني الإخوان- خاصة المستقيمين لسانه ليس رطبا مع زوجته وفي هذا الزمن أن ترى المرأة أي الزوجة تسمع -نسأل الله العافية- حديث الرجل مع المرأة في الأجهزة المختلفة في التلفزيون أو في الفيديو أو إلى آخره إذا كانوا يرونه، يسمعون حديثا لم تسمع المرأة أن زوجها يخاطبها به, كذلك تسمع من زميلاتها وصديقاتها زوجها فعل معها كذا أو فعل معها كذا أو اهتم بها بهذا النوع من الاهتمام, لاشك أن هذا يولد عندها أشياء في نفسها تجعل هنالك حواجز من قبول لما يقوله الزوج, ومن المهمات أن يكون لسان الزوج منطلقا مع زوجته, يعني لا يحسن أن يكون الزوج مع زوجته صامتا -بل هذا يعد من العيوب- إلا فيما يشتهيه هو؛ إذا اشتهى شيئا تكلم أما الأشياء التي لزوجته لا يتكلم فيها, كيف يكون القبول إذن؟ الزوجة تحتاج إلى مدح, تحتاج إلى ثناء ولو كان طويلا, لا يعد هذا نقص في قيمة الرجل, الرجل له شخصيته لا تؤثر فيه هذه الكلمات, له شخصيته المتزنة يحزم مواضع الحزم, ولكن أيضا يكون لسانه طريا في مواقعه. وكذلك ادعي الإعجاب بالمرأة, المرأة ضعيفة مع الأسف, امرأة وُجِدَت على أمر ليس بحسن -مثلا مكالمة هاتفية- وهي امرأة مستقيمة في الجملة ليست لهذه الأمور, كان سبب دخول هذا الخبيث إلى قلب هذه المرأة كلمة؛ مدحها بكلمتين، أظن بصوتها أو بطريقة كلامها، فظنت أن هذا صادق فيما يقول، وربما يكون هو كاذب فيما قال,(2/25)
لكن هي صدّقت، وهكذا طبيعة المرأة, فإذن لابد أن يكون الرجل مُبدِيا لما في المرأة, المرأة تحتاج إلى ذلك، يعني الكلمة مهمّة لسانك لا ينعقد لسانك بالكلام مع زوجتك، بل من المستحسن أن تكون مبديا لإعجابك بالمرأة في لباسها، في كلامها، في أدائها لمهمّات البيت، في تربيتها للأولاد، ما تعمل, تعمل, تعمل وأنت لا تبدي شيئًا؛ ساكت, فكيف ستقبل؟ لا بد أن يكون منك شيء، وهي بالتالي سيكون منها أشياء هذه نقطة.
النقطة الثانية البذل من جهة المال؛ يعني بعض النساء يكون عندها حاجة لأشياء، تريد أن يكون ملبسها على نحوٍ ما، أو وضعها في بيتها على نحوٍ ما، أو وضعها فيما تعمل في البيت على نحوٍ ما ونحو ذلك.. فيكون الرجل متسلطاً في أن لا يأتي بهذه الأشياء، إتيانه بهذه الأشياء، والموافقة على طلبات المرأة يُسبب لينًا عندها؛ لأنها إذا وجدت أنك تنفِّذ أو أنّك تأتي لها بما تبغي تقبل منك, على الأقل في البداية خشية أن تخسر ما تبذل، هي تفكر تقول هو بذل لي أخشى أن أعانده أو لا أوافقه بعده أخسر بعض الأشياء، فهي توفِّق حتى يكون لها الخير؛ طبيعةً وجِبِلّة.
الجهة الثالثة أن المرأة تحتاج إلى الخروج مثلا من المنزل، ليس النساء على مرتبة واحدة، بعض النساء ممكن أن تجلس يوم، يومين، ثلاثة، أسبوع ما تخرج، ما عندها إشكال, بعض النساء لا؛ تعوّدت قبل أن تأتي للزوج في وضع في بيتها، قبل أن تأتي إلى هذا الزوج في وضع، مثلا في اشتراء بعض الملابس والأشياء، فإذا أتى الزوج وحملها على غيره وأراد منها أن تتخلص من أشياء كانت تمارسها في بيت أهلها مثلا، أو نحو ذلك من الأشياء غير المحمودة، فإنها لن تقبل، أو يكون هنالك شيء من عدم القَبول.
فإذن المقصود من ذلك أن يكون هنالك توازن في شخصية الزوج، فبذله للمرأة وتحليله لنفسيتها من كل الجهات ومعالجة تلك النفسية, هذا سبب من أكبر الأسباب في علاجها واهتدائها إن شاء الله.(2/26)
السؤال الثاني: إن لي أخا صغيرا لا يطيع أوامري ويشرب الدخان لأنه مُتَيَقِّن أني لن أخبر والدي.
الجواب: الدخان أمر ليس حَلُّه في يوم وليلة، ولكن مع الزمن، وترغيبا في الخير وحضوره الجماعات والصلوات، وكثرة التحديث، وكثرة تلاوة القرآن له، سماع القرآن, يبدأ يستحي على الأقل في البداية من شرب الدخان، ثم يستتر به، ثم يتركه إن شاء الله تعالى.
السؤال الثالث: ذكرتَ في درس الأصول الشرعية في التعامل مع الناس، تعامل المرء مع نفسه ومجاهدتها، وهذا عنصر مهم يعيشه كثير من الشباب وهو ضعف الشخصية أمام الوالدين، والإخوان، والزملاء، بحيث أن الشخص قد يرى المنكر أمامه ولا يستطيع أن يفعل أي شيء خوفا من والده أو أحد آخر، ما هو علاج لهذا الموضوع؟
الجواب: هذا أمر نفسي؛ يعني يخاف أن يتكلم، يخاف أن يُبدي ما عنده، هذا أمر نفسي علاجه لا بد أن يكون المرء منتبهًا لنفسه. أولا أن يُجَرِّئ نفسه على الحق, الحق ما فيه المجاملة، لكن الحق ينبغي أن يؤديه بالطريقة الصحيحة، ليس بطريقة الاستعلاء، بطريقة المحبة والإرشاد والترغيب في بداية الأمر، أما إذا كنت في بيتك الذي تعوله، وأنت رب ذلك البيت - يعني أنت صاحبه ولك فيه الأمر والنهي- أنت لست معذور على وجود منكرات فيه، إلا إذا كان هناك ترتيب في بعض المصالح في أشياء معينة من المنكرات، لكن إذا كان في بيت الوالد أو معك الإخوان -إخوانك أو نحو ذلك في البيت- هذا يحتاج منك أن تكون مرشدا محببا متوددا شيئا فشيئا، الخوف يكون غالبا في الإنكار، لكن إذا ابتدأت أن تكون داعيا غير منكرٍ يعني مرشدا تُبَيِّن للناس الخير، تحثهم على الخير, لكن لا تنكر عليهم الشر؛ في البداية ينطلق لسانك، ثم بعد ذلك تبدأ تقول الجهتين؛ ما يرغِّبهم في الخير وما يبعِّدهم عن الشر.
هذه كلها توجيهات, من جهة الواقع العملي، أمَّا لو كانت فتاوى, فلكل واحد حالة تخُصُّه, معلوم أن الفتوى العامة غير الفتوى الخاصة.(2/27)
السؤال الرابع: هل ترون أن تخرج المرأة إلى دُور العلم لحفظ كتاب الله، وقد قلتَ يجب على المرأة ألا تخرج إلا قليلا؟
الجواب: أنّ الأصل أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ماسّة, هذا الأصل من جهة الاستحباب, يعني أن لا تخرج إلا إذا احتاجت لشيء تشتريه لشيء تحتاجه في بيتها، لأمر ليس لها منه بد ونحو ذلك، هذا الأصل، قد قال جل وعلا?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?[الأحزاب:33], فالقرار في البيوت هذا من خصال المرأة الصالحة في الجملة, وإذا نظرتَ إلى هذا الزمن وما فيه، فإن قرار المرأة في بيتها قد لا توافق عليه كثير من النساء, وكثير من النساء ربما إذا أكثرت المكث في البيت تولدت عندها أشياء ارتدت على العلاقة بينها وبين زوجها في البيت بأشياء غير محمودة، فهذه يُخرَج بها بما يحصل الخير ويجتنب الشر؛ فمثلا إذا كان لها رغبة في حضور مجالس الخير يحضر بها إلى مجالس الخير، إذا كان لها رغبة تُدرِّس القرآن أ و تدرُس القرآن يُذهب بها إلى المدرسة والذهاب بها منها، وهكذا إذن الأصل في مسألة خروج المرأة أنّ المرأة لا تخرج إلا لمصلحة؛ لمصلحة شرعية، وخروجها للمباحات هذا مختلف فيه بين أهل العلم هل هو مباح أو مكروه؟ والظاهر الكراهة في هذه؛ لأن الأصل عدم الخروج، فإذا كان الخروج ليس لمصلحة؛ يعني ليس فيه تحقيق مستحب ولا واجب، فإنه يكون مكروها، لكن إذا كان سيصاب بهذا الخروج مفاسد أخر وسيحصل منه مصالح فإن خروج المرأة على ذلك يكون مشروعا.
السؤال الخامس: هل إحضار الخادمة حسب طلب الزوجة يكون من حسن العشرة ؟(2/28)
الجواب: إحضار الخادمة إلى البيت لاشك أنه محفوف بمصالح ومحفوف بمخاطر أيضا، والخادمة كما قال أهل العلم لا يجوز أن تُحضَر إلى البيت إلا إذا كان ثَم حاجة لها؛ مثل أن تكون أشغال البيت كثيرة لا تستطيع المرأة أن تقوم بها من كثرة الأولاد مثلا أو انشغالها بخدمة زوجها, الرجل مثلا مِضياف أو كثير الطلبات منها، أو نحو ذلك من الأسباب، أو امرأة مريضة فإذا كان ثم سبب يجعل إحضار لها خادم فإنه يجوز إحضار الخادمة للمرأة، وقد قال الفقهاء أن الرجل يلزمه أن يُحضر للمرأة من يخدمها ويخدمه إذا كان من عادتها ذلك؛ يعني إذا كانت المرأة في بيت أهلها تُخدم إذا كانت في بيت أهلها معتادة على أنها لا تقوم بمثل هذه الأعمال فإنه من المعروف أن يؤتى لها بمثل ما كانت عليه, لأنها إنما تعاشر بالمعروف يعني ما كانت تعرفه هي في بيت أهلها, وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكر أنه مما يستفاد من قوله تعالى ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ?[النساء:19]، يعني مما يتعارفه الناس في كل زمان؛ مما يتعارفه الناس في كل زمن تحصل العشرة بالمعروف فليست مقيدة بزمن.
والفقهاء تكلموا هل يجب على المرأة أن تخدم زوجها؟ ففقهاء الحنابلة رحمهم الله يقولون:لا، المرأة إنما هي معقود عليها للاستمتاع ليس عليها واجبا شرعيا أن تخدم زوجها؛ يعني أن تفعل له كذا، أو أن تطهو له، إلى آخره، أو أن تعمل له بيته، لكن هو أخذها للاستمتاع فهذا حظه منها.(2/29)
وشيخ الإسلام ابن تيمية اختار، قال: هذا القول مرجوح والصواب أن قوله تعالى ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ?[النساء:19] يعم كل أنواع المعروف، فإذا كانت المرأة من المعروف عنها في بلد من البلدان إنما تُطلب زوجة للعشرة يعني للاستمتاع وللخدمة أيضا، يعني تكون مع زوجها تطبخ له وتنظف له وتكون معه وترعى الأولاد إلى آخره، فإذا كان هذا من المعروف فهو داخل في قول الله تعالى ?وَلَهَّن مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ?[البقرة:228] فعليها هذا لأن هذا من المعروف.
وهذا القول هو المفتى به وهو الصحيح، فحصل من ذلك أنه إذا كان من عادة المرأة أنها تُخدم، أو أنها لا تستطيع أن تقوم بعمل البيت لسبب من الأسباب أو كثرة أولادٍ فإن للزوج أن يأتي لزوجته من يخدمها، هذا من جهة الحكم.
لكن وجود الخادمة في البيت له أضرار كثيرة من جهة الزوج، فعليه إذا حضرت أن يلزمها بالحجاب الشرعي عنه وعن غيره، وأن يبتعد معها عن الخَلوة، وعن الكلام فيما لا يعني، وأن ينتبه من المحاذير التي قد تكون من جهة الخادمة.
السؤال السادس: هل اليهود يصومون يوم عاشوراء إلى يومنا هذا أم لا؟ وهل يهود هذا الزمان مختلفون عن اليهود في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟(2/30)
الجواب: أن يوم عاشوراء اليوم الذي نجّى فيه الله جل وعلا موسى عليه السلام ومن معه في توقيتهم كان قبل مجيء توقيت الهجري قبل مجيء محرم وصفر؛ لأن وقت موسى عليه السلام قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - بنحو ألف وزيادة من السنين، فيوم نجى الله موسى عليه السلام ومن معه كان التوقيت عند بني إسرائيل يختلف عن هذا، يعني التأريخ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ووجدهم يصومون ذلك اليوم؛ يصومون يوم عاشوراء، يعني بما يوافق تلك السنة، أو بما شاع عندهم في تلك السنين أنه هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، وموافقة التاريخ للتاريخ لا أعلمه، ولهذا اليهود يصومونه عندهم شكرا إذْ نجى الله جل وعلا موسى من فرعون، لكن لا يعني ذلك أن يوافق العاشر من محرم عندنا؛ لأن التاريخ غير التاريخ، وإنما جاءت المناسبة أنه جُعل العاشر من محرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة وجدهم يصومون ذلك اليوم، وكان يوما من تلك السنة يوافق العاشر من محرم هذا الذي يظهر لي، وإلا فإن تاريخ اليهود غير تاريخ المسلمين.
السؤال السابع: يقول هل الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات، مما يدعو إليه كل أحد أو العلماء فقط، وإذا كان ذلك لكل أحد فكيف يكون ذلك؟(2/31)
الجواب: الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذا مطلبٌ للجميع, لأن الواقع يدلّ على أن ضيق العمل الإسلامي وضيق الدعوة إلى الله إنما جاء من جهة الحزبيات, الحزبيات هذه تجعل المرء يتحرك في دائرة ضيقة، وأنا أذكر زمنا مرت به هذه البلاد من نحو عشرين سنة ما كان الشاب يخالط إلا شابا، ما كان يعرف يدعو أهله بل كان إذا أتاه بعض زملائه يريد أن يجتمع بهم ليقرؤوا في كتاب أو نحو ذلك ربما أغلق الباب، وهذا من الفهم الخاطئ للدعوة، وسببه الحزبيات, الحزبيات فيها إعطاء نفسية من بداخل تلك الجماعات نفسية الانغلاق، طبعا هذا تغيّر في الفترة الأخيرة يعني من نحو عشرة، اثنا عشر سنة، فصار هناك انفتاح على الناس في ذلك، لكن يبقى أثر الحزبيات في النفوس أنه يبقى المرء منغلقا، يبقى المرء ضيقا، إذا أراد أن يتوجه لشيء وجد ثم من يمنعه لرؤية غيره، وهناك أشياء من الخير كثيرة يمكن أن يسلكها المرء، لكن لأجل وجود تلك الإطارات ربما حُدّ ذلك من نشاطه، فالدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذه عند العقلاء والمصلحين هذا مطلب عام يشترك فيه الجميع؛ لأننا وجدنا في مسيرة الدعوة في هذه البلاد أنها تسير ولله الحمد إلى وقتنا هذا وفيما نستقبل من الأيام والسنين إن شاء الله، تسير إلى التخلص من الحزبيات شيئا فشيئا، لكن التخلص من الشيء مرة واحدة هذا ليس بالسهل، لكن شيئا فشيئا ستنتهي ويكون الناس جميعا متحابين في جماعة واحدة، كلهم يدعون إلى شيء واحد ويحكمون عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم.(2/32)
الناس يختلفون في طرح هذه الموضوعات عليهم، ولهذا من يطرح هذه الموضوعات أحيانا يكون مصيبا، وأحيانا يكون مخطئا، لأن المدعو ما حاله حتى تَطرحَ عليه موضوع جماعات أو حزبيات أو نحو ذلك، ربما لا يكون عنده فكرة أصلا عن الحزب، ليس عنده شيء من ذلك حتى تنقله إلى غيره، ومن التصور الخاطئ الذي في أذهان بعض الإخوة أن هذه الصحوة -التي تراها- الكبيرة، وهؤلاء الشباب ولله الحمد والشيب والنساء في إقبالهم على الخير، أنّ الأكثر عنده جماعة أو عنده حزب ونحو ذلك، إما متحزب أو في جماعة أو عنده اجتماع فهذا ليس صحيح، إنما الجماعات أو الاجتماعات في خضم هذا الموج ولله الحمد أو هذا الانتشار العظيم للدين قد لا يمثل عشرين في المائة، لكن هذا التأثر العظيم، هم يتأثرون بمن حولهم، يتأثرون بمن يقول لهم، الجميع مقبل على الخير ومقبل له، فمن الذي يبلغهم الخير؟ هم مع من يبلغهم، فإن بلغهم بطريقة صحيحة كانوا معه، وإن بلّغهم بطريقة غير صحيحة كانوا معه؛ لأنهم ليس عندهم من العلم ما يميزون به بين الحق والباطل، رأوا شيئا من الفساد، ورأوا شيئا من المخالفات وأنواع من المنكرات التي لا يقرها الدين ولا أهل العلم ولا يقول أحد بجواز وجودها، فيأتي من يقول لهم إن هذا منكر ولا يجوز ويثير فيه الغيرة فيقبل عليه سواء كان في حزب أو جماعة أو لم يكن كذلك.
إذن النظرة إلى وجود الحزبيات أو وجود الجماعات عندنا أو في العالم الإسلامي بعامة ينبغي أن تكون في إطارها الصحيح، وأن لا يُتَصوَّر أنَّ كل شخص يتكلم بكلام قد يشترك فيه مع بعض الجماعات أنه يكون منهم، لا، هذه تأثرات عامة في المجتمع، وأهل الاجتماع والجماعات قليلون جدا.
وهؤلاء كيف تعرفهم؟ كيف تعرف أن هذا من الجماعة الفلانية وينتمي لها؟(2/33)
لا يمكن أن تجزم على أحد بعينه إلا بشروط خاصة أن هذا فعلا من الجماعة الفلانية، ومنتمي، إلى آخره، وأكثرها ظنون، ومعلوم أن الشرعيات لا تُبنى على الظنون، وإنما تبنى على الحقائق، فمجال الدعوة أن تحذر من هذه الأمور، يعني من الحزبيات ونحو ذلك، أن تحذِّر من هو واقع فيها، وترى عنده بُعْد عن الصواب فيها، عند التعصب لجماعة من الجماعات، عنده غلو، عنده دعوة إلى أن ينتمي الناس إلى هذه الجماعة، ونحو ذلك، دفاعٌ عنها وعن أصولها ومبادئها، هذا هنا يخاطب بنفسه، أمّا تخاطب العامة جميعا بمسألة ربما ما يدري وهو في الحالة هذه، ما يعرف جماعة أو غير جماعة، فيسبب شيء في نفسه من الشكوك في الالتزام كما حصل ذلك فعلا.
إذن الكلام على هذه المسألة لا يقال الداعية يتكلم فيها بإطلاق، ولا يقال يتركها بإطلاق، بل يتكلم عنها في حدودها الشرعية، والكلام في هذه المسائل يحتاج إلى علم وحكمة وبصيرة، والشريعة -كما هو من القواعد- جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وجاءت بدرء المفاسد وتقليلها، فالكلام في هذه الأمور بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد مطلوب؛ لأن تحقيق المصالح الشرعية أمر متفق عليه، ودرء المفاسد أمر متفق عليه، أمّا أن تحدث مصلحة ويكون معها مفاسد كثيرة فهذه لا تجوز؛ يأتي واحد وتدعوه وهو مقبل على الخير وتجعل في نفسه الكلام على فلان وفلان، وفلان أو الجماعة الفلانية والجماعة الفلانية ربما ما تَحَمَّلَ عَقْلَه ذلك فَكَرِهَ الخيرَ كلَّه.
فإذن هذه المسائل لا يُتكلَّم فيها إلا مع من كان واقعا في تلك الاجتماعات أو الجماعات رغبة في إصلاحه وإسداء الخير له بالكلام عام أيضا وخاص.
نرجو أن يكون هناك كلمة في أحد الدروس أو درس من الدروس في علاج هذه المسألة من جوانبها المختلفة.
السؤال الثامن: في هذا العصر كثرت وسائل الدعوة إلى الله وفي بعضها شبهة عندي مثل التمثيل والأناشيد فهل هي جائزة أم لا مع أن بعضهم قيد.....؟(2/34)
الجواب: جواب هذه المسائل مُورِست في الدعوة التي هي التمثيل والأناشيد ونحو ذلك..
والأناشيد تختلف عن التمثيل, الأناشيد فيما أعلم من كلام علمائنا الذين يُصار إلى كلامهم في الفتوى أنهم على عدم جوازها؛ لأن الأناشيد أتت عن طريق – يعني في الخارج- الإخوان المسلمين, والإخوان المسلمون كان من أنواع التربية عندهم بالأناشيد، والأناشيد كانت ممارسة في الطرق الصوفية كنوع من التأثير على المريدين، فدخلت كوسيلة من الوسائل، وبحكم التجارب أو نقل الوسائل دخلت هاهنا في هذه البلاد، ومورست في عدد من الأنشطة، أفتى أهل العلم لما ظهرت هذه الظاهرة لا تجوز، قد قال الإمام أحمد في التغبير الذي أحدثه الصوفية، وهو شبيه الأناشيد الموجودة حاليا، قال إنه محدث وبدعة وإنما يراد منه-هذا كلام الإمام أحمد- الصدّ عن القرآن وكانوا يسمونه بالسماع المحمود وهو ليس بسماع محمود بل مذموم. هذا بالنسبة للأناشيد.
أما التمثيل فبحكم ما سمعت من فتاوى المشايخ فإنهم اختلفوا: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من أجازه بشروط -هؤلاء علماؤنا- ومنهم من قال ممنوع بجميع أنواعه، منهم من أجازه بشروط منها أن لا يشتمل على كذب ونحو ذلك، ومنهم من أجازه لأن فيه المصلحة.(2/35)
فالتمثيل من جهة الحكم صار فيه اختلاف، ولكن من جهة العمل الذي ينبغي أن يُجعل الشباب على -يعني في وسائل الدعوة- أن يأتوا إلى المتفق عليه؛ لأننا في هذا الزمن نحتاج إلى الائتلاف، نحتاج إلى الاجتماع، نحتاج إلى عدم الفرقة، وأن نسعى إلى ذلك ما استطعنا، وإذا كان كذلك فإن استعمال وسائل قد يكون فيها اختلاف مثل التمثيل؛ وهذا يحتج يقول أفتاني الشيخ فلان، وذاك يقول أمنع لأنه أفتى الشيخ فلان، فيعود في الحقيقة تضارب بين أقوال المشايخ، نقول هذا تركه فيه مصلحة شرعية من هذه الجهة؛ لأننا إن قلنا يمنع التمثيل فسيقول القائل أفتى الشيخ الفلاني بجوازه، وإن قلنا يجوز سيقول القائل أفتى الشيخ الفلاني بمنعه, فبقي التمثيل من هذه الجهة على أنه من المصلحة الشرعية المتحققة أن يُترك درءا للاختلاف ودرءا للافتراء.
مع أن كلامي أنا الذي أكرره في باب التمثيل والأناشيد أنهم جميعا من باب واحد، وأنه لا يجوز جعلها من وسائل الدعوة أصلا لأن في الوسائل الشرعية ما يكفي ويفي ولله الحمد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
قام تفريغه: سالم الجزائري.
فهرس
مقدمة ............................................03
?القسم الأول: أخلاق الداعية........................................05
لابد أن يكون في دعوته:
?متجردا مخلصا لله جل وعلا...........................07
?ذكيا، حصيفا، نبيها..................................09
?محبا لبذل الخير راغبا في هداية الناس..................10
?واسع الأفق.........................................12
? معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة................13
?مرتبا للأولويات.....................................14
?متخلِّصا عن حظ نفسه..............................15
?القسم الثاني: ميدان الدعوة......................................17
?في البيت...........................................17(2/36)
?في العمل...........................................22
?في القرى............................................23
?التأثير على من هم أقل منه...........................24
الأسئلة:
1- كيف أدعو زوجتي إلى الاستقامة إلى الدين؟........................25
2- لي أخ صغير لا يطيع أوامري ويشرب الدخان؟.....................27
3- ضعف الشخصية أمام الوالدين والإخوان والزملاء، ما هو العلاج لهذا الموضوع؟.....................................................28
4- هل ترون أن تخرج المرأة إلى دُور العلم لحفظ كتاب الله؟.............29
5- هل إحضار الخادمة حسب طلب الزوجة يكون لحسن العشرة ؟.......30
6- هل اليهود يصومون يوم عاشوراء إلى يومنا هذا أم لا؟................31
7- هل الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات مطلب كل أحد أو العلماء فقط؟.............................................32
8- كثرت وسائل الدعوة إلى الله، مثل التمثيل والأناشيد فهل هي جائزة أم لا؟.............................................................35
-
---
(1) سورة الحشر, الآية9, سورة التغابن, الآية 16.
(1) هنا ينتهي الوجه الأول من الشريط(2/37)
كيفية دراسة الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية دراسة الفقه/ لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ.
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق للصالحات والسداد في القول والعمل. والإصابة في كل حال وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يمن عليه بالعلم النافع والعمل الصالح وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، لا حول لنا ولا قوة إلا به سبحانه، اللهم وفقنا للصالحات، ومُنّ علينا بما تحب وترضى.
أما بعد:
فنذكر مقدمة في كيفية الاستفادة من كتب الفقه، وكيف يدرس طالب العلم الفقه على أنجح السبل.
أولاً : الفقه من حيث مسائله:
منه المسائل التي كانت واقعة في زمن النبوة فنزلت فيها آيات أو آية فأكثر وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، فهذه مسائل منصوص على حكمها وفي الغالب تكون النصوص الدالة على ذلك ظاهرة في المعنى، ومنها ما هو قابل لاختلاف المجتهدين في فهم دلالة النصوص على تلك المسائل.
ومنها مسائل وقعت بعد زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهذه المسائل احتاج إليها الناس لتوسع البلاد الإسلامية، ومخالطة العرب لغيرهم ومعلوم أن طبيعة أهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة ليست هي طبيعة أهل الشام والعراق وأهل فارس وأهل خراسان وأهل مصر، فطبائع مختلفة في الحالات الاجتماعية في المساكن فيما يستخدمون في الوقت في الجوّ إلى آخره، فظهرت مسائل احتاج إليها الناس يسألون عنها الصحابة رضوان الله عليهم.(3/1)
وهذا هو القسم الثاني، وهي المسائل التي اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واجتهاد الصحابة في هذه المسائل كان مبنياً إما على دلالة نص في ادخال مثلاً المسألة في عام، أو في الاستدلال بمطلق على هذه المسألة أو بالاستدلال بقاعدة عامة دلّ عليها دليل في هذه المسألة نحو القواعد المعروفة كرفع الحرج والمشقة تجلب التيسير والأمور بمقاصدها، ونحو ذلك من القواعد العامة.
وهناك مسائل اجتهدوا فيها والاجتهاد كان على غير وضوح في الدليل يعني يُستدل له ولكن قد يُستدل عليه وهذا ظهر وظهرت الأحوال المختلفة بين الصحابة بقوة في هذا الأمر فهذا النوع مما دُوِّن بعد ذلك في أقوال الصحابة وصارت المسألة عند الصحابة قولين أو أكثر من ذلك من مثل حكم الصلاة في الجمع بين الصلاتين للمطر، هل يقتصر فيها على المغرب والعشاء أم يلحق بها أيضاً الظهر والعصر ومن مثل الكلام في الأقراء هل هي الطهر أم الحيضات، ونحو ذلك من مسائل اختلف فيها الصحابة وهذا من نوع الاختلاف الذي له دلالته في النصوص.
هناك مسائل كما ذكرتُ لكم ظهرت مثل استخدام مصنوعات أو أطعمة، مِثل الكفار التي قد يستخدمون في صنعها بعض الأمور مثل أنفحة الميتة ونحو ذلك، هذا ما ظهر إلا لما دخل العراق ظهر مثل هذه المسائل مثل بعض الألبسة الخاصة التي كانت عندهم مثل الحمام، ودخول الحمام، وهو بيت الماء الحار الذي كان في الشام ونحو ذلك.(3/2)
وكذلك مثل أنواع من البيوع لم تكن معروفة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أُحدثت بعد ذلك، وأمثال هذا كثير مما فيه الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم غالبه مسائل اجتهاد، وقليل منه مسائل خلاف، والفرق بينهما أنّ المسائل المختلف فيها تارة تكون مسائل اجتهاد وتارة تكون مسائل خلاف فيُعنى بمسائل الاجتهاد ما لم يكن في الواقعة نصٌ فاجتهد هذا الاجتهاد، ويُلحق به ما كان فيها نص، ونعني بالنص ما كان فيها دليل من الكتاب أو السنة، لكن هذا الدليل يمكن فهمه على أكثر من وجه، فاجتهد في المسألة ففهم من الدليل كذا وفهم آخر من الدليل شيئاً آخر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } هنا هل القرء هو الطهر أم هو الحيضة؟ هذه تدخل في مسائل الاجتهاد الذي لا تثريب على المجتهدين فيما اجتهدا فيه.
القسم الثاني: مسائل الخلاف وهو وجود خلاف في بعض المسائل وكما ذكرت لكم كان نادراً عند الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف ما يكون اجتهد برأيه في مقابلة الدليل مثل ما كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي في مسألة الربا بأنه لا ربا إلا في النسيئة وأنّ التفاضل في الربويات ليس من الربا، وإنه ليس ثم أصناف ربوية، لكن النسيئة (التأجيل) أما التفاضل بين نوعين مختلفين مما هو معروف بربا الفضل فإن هذا لا يعده ربا، هذا اجتهاد في مقابلة النص.(3/3)
كذلك إباحته مثلاً في زمن طويل كثير من عمره رضي الله عنه نكاح المتعة وظنه أنّ هذا ليس بمنسوخ ونحو ذلك، وغير هذا من المسائل التي جاء فيها دليل واضح، هذه تسمى مسائل خلاف وهذا يكون الخلاف فيها ضعيفاً ولا يجوز الاحتجاج بمثل هذا، لأن المجتهد من المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم قد يجتهد ويغيب عنه النص يغيب عنه الدليل أو يكون له فهم ولكنه معارض بفهم الأكثرين، فهذه هي التي يسميها أهل العلم ويخصها شيخ الإسلام ابن تيمة بالذكر بأنها (مسائل خلاف) ومسائل الخلاف غير مسائل الاجتهاد، قالوا وعليه فأن المقالة المشهورة (لا انكار في مسائل الخلاف)، وتصحيحها : (لا انكار في مسائل الاجتهاد ) ونفى بمسائل الإجتهاد المسائل التي حصل فيها خلاف، وللخلاف حظٌ من النظر للخلاف حظ، من الأثر حظٌ من الدليل.(3/4)
أما إذا كان القولان: أحدهما مع الدليل بظهور والآخر ليس كذلك فإنا نقول: ليس هذا من مسائل الاجتهاد، بل من مسائل الخلاف، والخلاف منهيٌ عنه، والعالم إذا خالف الدليل بوضوح فيقال هذا اجتهاده وله أجر، لكنه أخطأ في هذا الأمر، ولا يعوّل على اجتهاده في مقابلة النص، هذه الأقوال أيضاً كثرت في زمن التابعين وزمن التابعين كانت الحاجات تزيد في وقائع جديدة وكثرت الفتوى بناء على ما استجد من الواقع على نحو ما ذكرت من استدلالهم بالكتاب، استدلالهم بالسنة، استدلالهم باجماع الصحابة ونتجت هناك أقوال في مسائل في التابعين، ومن المتقرر أن المسألة إذا كانت بعينها في زمن الصحابة، فإن احداث قول زائد على أقوال الصحابة يعد هذا من الخلاف الضعيف، يعني إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة على قولين، فإن زيادة التابعي بقول ثالث، فإن هذا يعد ضعفاً يعني يعدّ من الخلاف الضعيف عند أكثر أهل العلم، ذلك لأنه يكون القول الثالث فهمٌ جديدٌ للأدلة فهم زائدٌ على فهم الصحابة للأدلة، وإذا كان كذلك كان مقتضى أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فاتهم فهم قد يكون صواباً في الآية ، وهذا ممتنع لأن الصحابة رضوان الله عليهم الفهم الصحيح للآية عندهم ولم يدخر لسواهم من الفهم الصحيح ما حجب عنهم بل الخير فيهم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً كما ذكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، يجتهد التابعي في مسألة نازلة جديدة اختلفت في حيثياتها عما كان في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ظهرت هناك أيضاً مسائل جديدة حتى جاء في القرن الثالث للهجرة فدونت الكتب لما دونت الكتب كان تدوين الكتب على نوعين:
كتب للأثر ، وكتب للنظر وللرأي.(3/5)
أما الكتب للأثر فهي الكتب التي يصنفها أئمة الحديث والفتوى يجعلون باباً للطهارة وباباً للآنية وباباً للجلود وباب خاص لجلود السباع مثلاً جلود ما يؤكل لحمه ... الخ. ويأتون بالآثار في هذا كما صنع ابن أبي عروبه وعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة وغير هؤلاء كثير، وكما صنع أيضاً مالك في الموطأ وجماعات هذا نوع، وهو العلم الذي نقل فيه هؤلاء الأئمة أقوال من سبقهم في الأحكام، وهذا لما صُنف صار أئمة الأثر والحديث يدورون في المسائل حول أقوال المتقدمين من الصحابة والتابعين، ومن اشتهر بالفقه ممن بعدهم يدورون حول هذه الأقوال.(3/6)
والقسم الثاني من الكتب هي كتب الرأي، ويعنى بكتب الرأي الكتب التي تعتمد في الأحكام على الأقيسة، وهذا مبني على مدرسة كانت في الكوفة ، وهي مدرسة أهل الرأي من مثل حماد بن أبي سليمان، قبل إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وكذلك في المدينة مثل ربيعة الرأي شيخ مالك ونحو ذلك ظهرت كتب لهؤلاء ولمن بعدهم ممن تبعهم هذه معتمدة على الأقيسة وعلى القواعد العامة فيفرعون الأحكام على الأقيسة والقواعد، لاحظ أنَّ هذه هي التي عناها أهل العلم بالأثر وأهل الحديث بالذم، إيّاكم وكتب الرأي، أياكم وأهل الرأي، فإنهم اعيتهم الآثار أن يحملوها فذهبوا إلى الرأي ونحو ذلك، لأنه يستدلون بالقياس وبالقواعد، ويقدمونها على الآثار، وهذا لا شك أنه ليس بطريق سويّ، وذلك لأن أولاً من حيث التأصيل أولئك جعلوا القياس أصحّ من الحديث، ويقولون القياس دليله قطعي، القاعدة دليلها قطعي، طبعاً القياس حينما نقوله هو أعم من خصوص ما عليه الاصطلاح الأخير، يعنى بالقياس ما يدخل فيه تحقيق المناط، يعني القواعد التي تدخل في العبادات والمعاملات، فيستدلون بأدلة قطعية على القواعد، فإذا أتى دليل يخالف القاعدة يقولون هذا حديث آحاد فلا نقدمه على الأقيسة، يقدمون مثلاً القياس على الحديث المرسل، يقدمون القياس على الحديث المتصل إذا كان لا يوافق القواعد، وهكذا فظهر عندهم خلاف للآثار وهذا الذي عناه السلف بذلك، وهم لهم أصولهم فالحنفية مثلاً عندهم أصول الفقه التي تخالف أصول أئمة الفقه الذين هم من أهل الحديث مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين في أنحاء كثيرة في أبواب كثيرة، مثلاً عندهم أنّ العام أقوى من الخاص، فعندهم أن دلالة العام على أفراده قطعية إذا كان الدليل قطعياً.(3/7)
وأما دلالة الخاص على ما اشتمل عليه من الفرد يعني من المسألة الخاصة فهذه دلالتها ظنية فيجعلون العام مقدماً على الخاص، ولا يحكمون للخاص على العام، وهكذا في التقييد والإطلاق هكذا في مسائل شتى مثلاً عندهم الحديث المرسل مقدم على المسند فالحديث المرسل مثلاً عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، عن إبراهيم النخعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وهكذا المراسيل عامة كمراسيل أبي العالية ونحوهم من كبار التابعين وغيرهيم، يعتبرون أن هذه المراسيل أقوى من الأحاديث المسندة، فإذا أتى حديث مرسل وحديث متصل في المسألة نفسها، أخذوا بالحديث المرسل وتركوا الحديث المسند المتصل لأصولهم لدلالة عقلية عندهم على ذلك، وهذا طبعاً انتج أقوالاً أكثر من الأقوال التي كانت موجودة في زمن الصحابة والتابعين، فصار عندنا تفريعات كثيرة.(3/8)
كذلك في مسألة القواعد يقولون الاستدلال بالقياس مقدم على الاستدلال بالأثر لأن القياس دليله واضح يعني مثلاً القاعدة دليلها واضح، وأما الأثر فإنه فرد، والقاعدة شملت أحكاماً كثيرة، كل أدلتها تعضد هذه القاعدة، وأما الأثر فهو واحد في نفسه، وعندهم أن القاعدة هي قطعية على ما اشتملت عليه وأما الآثار فإنها ظنية، هذا هو الذي نهى عنه السلف بشدة، وحذّروا من النظر في الرأي لهذا الأمر، وكتب الحديث على هذا، على الذي أسلفت فيما هو تبويب وإيراد ما في الباب من أدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعني من آثار أو من كلام الصحابة أو من التابعين أو من تبع التابعين بالأسانيد أهل الأثر ويمثلهم بوضوح في اتباع أصولهم الإمام أحمد رحمه الله ورحمهم أجمعين ينظرون في المسألة فإذا كان فيها حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قدّموه إذا كانت دلالته ظاهرة أو من باب أولى إذا كانت نصاً فإذا لم تكن كذلك نظروا في فتاوى الصحابة فيما يثبت أحد الاحتمالين في الفهم كذلك إذا جاءت فتوى عن الصحابي وكان فيها احتمال في الفهم نظروا في أقوال أصحابه من التابعين بما يوضح لهم معنى قول الصاحب إذا كان القول ظاهراً أو نصاً من الصحابي في مسألة نازلة وليس له مخالف أخذوا به، وإذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين هنا تنازعوا، يأخذون بقول من؟ فمنهم من قال نأخذ بقول الخلفاء الراشدين أو بأحدهم إذ وُجِد ذلك،لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وإذا مثلاً عثمان خالفه ابنُ عباس أخذوا بقول عثمان، وإذا عمرُ خالفه ابنُ عمر أخذوا بقول عمر وهكذا، وإذا اجتمع الخلفاء الأربعة في مسألة أخذوا بها بقوة، وتارة تكون الآثار متعارضة في المسألة فيكون للإمام أكثر من قول وفي هذا كثرت الروايات عن الإمام أحمد في المسائل تجد مسألة له فيها عدة روايات لأنه في الرواية الأولى مال إلى ترجيح أحد الآثار في(3/9)
المسألة، والرواية الثانية نظر في المرة الأخرى واختار الآخر، وهكذا، فالمقصود أنهم يدورون بالنظر مع الآثار، والإمام أحمد لما استفتي أو كان يستفتى كثيراً تلامذته صنفوا المسائل عنه فهذه المسائل عن الإمام أحمد كثيرة تبلغ نحو سبعين كتاباً من المسائل أو نحو ذلك لأصحابه منها الشيء المختصر ومنها الكثير، أعني الكبير، هذه نقل منها طائفة من أصحابه ما هو معتمد عنده مما يعرفونه من كلام الإمام أحمد وهم المسمون بالجماعة عن الإمام أحمد، هذه الأقوال دونها بعض الحنابلة في المختصرات ابتداءاً من الخرقي.
فمن بعده حولوا الفقه إلى أنه فهم الإمام في النصوصكان سابقاً مثل ما ذكرت لكم الأئمة ينظرون في الآثار فلما أتى التلامذة كثرت عليهم الآثار تنظر مثلاً في الفقه في المصنف مصنف ابن أبي شيبة مصنف عبد الرزاق تحتار أقوال مختلفة وأسانيد، ومسائل تعترضها أحياناً أدلة أصولية، وأحياناً أدلة تحتاج إلى معرفة رجال الإسناد.(3/10)
وأحياناً النظر في القرآن وفي السنة وهل يحمل هذا على هذا أو لا، فالتلامذة ضعفوا عن ذلك مع وصية الأئمة بأن يأخذوا من حيث أخذ الأئمة، لكن وجدوا في أنفسهم الضعف فتمسكوا بفهم الأئمة للنصوص لأجل أن يريحوا أنفسهم دونوا هذا، وهذا التدوين أضعف باب النظر في آثار السلف تدوين الفقه، مثل مختصر الخرقي وغيره أو مختصر المزني للشافعية أو مختصر الطحاوي أو مثلاً كتب محمد بن القاسم عن مالك مثل المدونة وغيره أضعف النظر في الآثار التي هي عمدة هؤلاء الأئمة فصاروا يدورون مع نصوص الأئمة بل زاد الأمر بعد ذلك حتى أصبحو يخرجون عليها كأن هذه قد نص عليها الإمام بمسألة جامعة، وهي كما ذكرت لكم أنهم ذكروها جواباً على الاستفتاءات والمُستفتي إذا استفتى فالجواب يكون على قدر الفتوى ولا يستحضر المفتي حين السؤال أن كلامه سيكون عاماً أو خاصاً أو نحو ذلك، فإنما يجيبون على حسب السؤال أحياناً ينتبه لهذا الأمر فيجيب قدر السؤال، لهذا ظهرت هناك أقوال، أقوال في المذهب الواحد، مثلاً عند الشافعية أقوال العراقيين وأقوال الخراسانيين قول للشافعي في القديم وقول في الجديد ومن منهم من أخذ بهذا ومن منهم من أخذ بهذا لأجل نظرهم بأن الإمام ما أراد بنصه هذا المعنى المعين بل أراد شيئاً آخر هذه كانت جواب، أو هذه أراد بها خصوص المسألة ما أراد مثيلاتها ونحو ذلك.
كذلك أصحاب الإمام أحمد كثرت عندهم الأقوال وأصحابه كثير ولأجل كثرة الروايات تعددت الأقوال في المذهب لهذا مثلاً عند الحنابلة عندنا عدد مراحل مرت بها وهي ثلاثة مراحل:
1- مرحلة المتقدمين.
2- مرحلة المتوسطين.
3- مرحلة المتأخرين.(3/11)
فالمتقدمون من أوله يعني من الخرقي او ما قبله إلى القاضي أبي يعلى ومن القاضي أبي يعلى إلى آخر الشيخين الموفق والمجد هذه تعتبر من المتوسطين ثم بعد ذلك يبدأ المتأخرون على خلاف بعضهم يزيد في هذا قليلاً، مثلاً فالشافعية عندهم قسمان متقدمون ومتأخرون والحد عندهم بين المتقدمين والمتاخرين رأس الأربعمائة وهكذا عند المالكية أيضاً عندهم طبقات هذا تجديد في فهم الكتب فهم نصوص الأئمة الى آخره.
هذه المراحل في كل مرحلة دونت كتب هذه الكتب تختلف في أسلوبها سواء في الفقه أو في أصول الفقه تختلف في أسلوبها تختلف في استيعابها ما بين ماتن وموسع قليلاً ما بين ضابط للعبارة وسهل العبارة وما بين ذاكر للخلاف وغير ذاكر للخلاف.
فلهذا المسائل التي يذكرها المتقدمون تجدها أوضح من التي يذكرها المتأخرون، فكل ما تقدم الزمن كلما كان الكلام أوضح، فالمتأخرون يذكرون المسائل لكن يصعب فهم كلامهم في بعض الأنحاء.
فإذا صعب فهم كلامهم ترجع إلى كلام المتقدمين في نفس المسألة تجدها أوضح، وليس المقصود بذكر المذهب الحنبلي فقط، لكن كتأصيل عام لهذا نقول أن التفقه وحرص المرء على أن يكون عنده ملكة فقهية يكون مبنياً على هذا الذي ذكرته وأنت تلاحظ فيما ذكرتُ كان هناك متون وهذا الأخير وكان هناك استفتاءات وهي المتوسطة وكانت هناك الآثار وهي المتقدمة.(3/12)
فأولاً: الآثار هي التي ظهرت في الأمة وهذه الآثار كان منها ما هو جواب أسئلة ثم بعد ذلك كلام الأئمة كان عن استفتاءات مثل المدونة سئل الإمام مالك فأجاب كذلك الإمام الشافعي كثير منها أسئلة، وعلم الإمام أحمد في المسائل كثير والثالث مصنفات، لهذا الفقه وتنمية الملكة الفقهية والحاسة الفقهية في فهم المسائل وفي التعبير عنها وفي إدراك كلام العلماء على المسائل الفقهية يكون برعاية هذه الثلاث مجتمعة . أولاً: العناية بالمتون. ثانياً: العناية بالفتاوى. ثالثاً: العناية بالآثار. لا بد منها على هذا النحو يعني تعكس هي في تاريخ الأمة بدأت الآثار الفتاوى ثم تدوين المتون الآن نعكس إذا أردنا طلب الفقه لأن مثلاً في زمن أهل الآثار زمن الصحابة والتابعين عندهم اللغة وأصول الفقه، وأصول الفقه مبناها على اللغة فعندهم ملكة في الفهم والاستنباط وهذه ليست عند المتأخرين لكن ننمي هذه الملكة وتتنامي هذه الملكة: إذا عكسنا الطريق
أولاً : نبدأ بالمتون ثم بالفتاوى ثم بالآثار، فإذا اتيت إلى الناحية التطبيقية مثلاً عندنا تقرأ في الزاد متن من متون الكتب للمتأخرين من الحنابلة، هذا تأخذه وتتصور مسائله مسائل مجردة تفهم صورة المسألة وهذا أهم مما سيأتي بعد لأن ما بعده مبني عليه فإذا لم تتصور المسألة كما هي صار ما بعدها مبنيٌ على غلط وما بُني على غلط فهو غلط، فإذن تبدأ أولاً بتصور المسائل، مسائل الباب إذا كان هناك معها أدلة واضحة في كل مسألة هذه دليلها كذا، وهذه دليلها كذا كحجة للمسألة. .. الخ.(3/13)
ثم تنظر في فتاوى الأئمة، تنظر في فتاوى علمائنا مثلاً فتأخذ مثلاً باب المسح على الخفين، تقرأ هذا الباب وتفهم مسائله على حسب ما يذكر من الدليل المختصر ما تتوسع لأنك إذا توسعت ضعت إذا توسعت في كل مسألة وطلبت أدلتها والآثار فيها ما نخلص في كل مسألة فيها في الكتب كتب الآثار وكتب الحديث وكتب العلماء من الخلاف الشيءالكثير، لكن تفهم هذه المسائل ثم تنظر في الفتوى السؤال والجواب من علماء وقتك يعني من علمائنا فإذا نظرت إلى هذا يقوى عندك أنّ الفهم الذي فهمته في المسائل مع ربطه بالواقعة الذي هو بالسؤال يكون الفهم عندك اتصل من المتن إلى الواقع، وكثير من الناس يفهم الفقه فهما نظرياً لكن إذا أتى يُسأل، ذهنه ما دربه على هذا الانتقال أي الانتقال من المسائل الفقهية بأدلتها إلى أن هذه الصورة المسئول عنها هي داخلة في ذلك الكلام، أو هي المرادة بتلك الجملة في المتن.(3/14)
كيف تتنمي هذه الملكة؟ إذا الربط بين الكتاب الفقهي والواقع بمطالعة الفتاوى هنا تتنامى، تبدأ يكون عندك حاسة في المقارنة إذا سُئلت ذهنك مباشرة ينتقل لأجل هذه الدربة أو ما نقول سُئلت مثلاً سألك أحد في بيتك أو أنت سألت نفسك أو وقعت واقعة تبدأ تتأمل سيكون عندك دربة إلى أنَّ هذا هو المراد أن هذه داخلة في المسألة أنت تلحظ أنه بمطالعة كلام المفتين على المسائل يصير عندك سعة في الدليل (واحد)، وتثبيت لتصور المسألة ولحكمها (اثني)ن، (والثالث) يكون عندك معرفة بما عليه الفتوى من علمائك، وهذه الثالثة مهمة لماذا؟ لأننا مثلاً الآن الواحد عمره مثلاً خمسة وعشرين سنة أو ثلاثين سنة. كم هذه المسائل عهده بها عهده بها خمس سنين أو عشر سنين، صحيح؟ لكن العالم الذي يفتي مثلاً عمره خمسين أوستين أو سبعين أو ثمانين، هذا له بها من العهد خمسين سنة مرت عليه ما هو مرة أو مرتين، مرت به عشرين ثلاثين خمسين مرة، ألف مرة، حتى صارت عنده واضحة مثل اسمه من كثرة تكررها، فإذن هنا هذه الفتاوى بمنزلة المصفِّي للكلام الذي تقرأه في المتن، هل هو مما يُفتى به ويعمل به أم لا؟.(3/15)
مما نلحظ مما سبق أن ذكرناه فيه مسائل نقول ليس عليها العمل، يعني الفتوى ليست عليها في مسائل كثيرة، مثلاً في طهارة جلد الميتة بالدباغ من المعروف مثلاً في ما قرأناه في زاد المستقنع أنه لا يطهر جلدُ ميتة بدباغ مطلقاً، لكن لو كان الحيوان قالوا يباح استعماله في يابس من حيوان طاهر حال الحياة، مما يحل بالزكاة فيه أي يحل أكله بالزكاة يعني مما يباح في ذلك، أو مما كان دون الهرة في الخلقة، إلى ما هو معروف، إذا نظرت في الفتوى الفتوى على خلاف ذلك، فإذن هنا الضرب الفتوى تبين لك ما عليه العمل في المتن مما ليس عليه العمل فإذا ضبطت هذا الضرب يأتي عندك هناك سعة جديدة في الفهم فتنتقل - بعد ما تحكم هذا الأمر تحكم الباب أو تحكم الأبواب - إلى كتب الخلاف كتب الآثار يكون عندك فهم إلى أن هذا القول أقوى من هذا القول، هذا القول ليس عليه العمل تظهر عندك إشكالات، لماذا يفتون مثلاً بهذا أو بهذه الفتوى؟ والآثار جاءت فيها كذا وكذا، بغير ذلك، في مثلا هل المرأة الحائض تقرأ القرآن أو النفساء تقرأ القرآن أم لا؟ تعرف الفتوى عند أكثر المشائخ على أي قول؟ ثم إذا نظرت في الآثار ظهر عندك شيءٌ ثاني، يبدأ عندك هناك علم مهم جداً في الفقه، وهو يوجد في كل فن وهو علم الاستشكال، إذا استشكل مستشكل هذا معناه أنه يفهم إذا كان استشكاله واقعياً إذا استشكل لماذا يفتون بكذا؟ مع أنّ الأثر دل على كذا مع أن الدليل يحتمل كذا، فإذا سأل أحداً من أهل العلم أزال عنه الإشكال وأجاب عن إشكاله، وقد قال القرافي في "فروقه" قاعدة الفرق بين الكبائر والصغائر "ومعرفة الإشكال علم في نفسه"- من المهم أنك تستشكل ما فهمت كيف يقولون كذا، والدليل محتمل لكذا ليش، ما اعتنوا بكذا؟ لماذا ما ذكروا القاعدة؟ هذه القاعدة تشمل هذه لماذا ما ستدل بالقاعدة؟. هنا استدلالات كانت مهجورة عند السلف، الأدلة موجودة ولم يستدلوا بدليل منها، ولما أتى المتأخرون أو بعض(3/16)
المعاصرين استدلوا بأدلة لم يستدل السلف في المسألة بتلك الأدلة هذا اشكال لماذا؟ لماذا السلف ما استدلوا إلى مسألة كذا وكذا بالدليل الفلاني واستدل به بعض الناس من هذا العصر ما استدل السلف بالدليل واستدل به بعض الناس من هذا العصر بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم لماذا؟ هذا الاشكال يتولد عندك مع اشكالات أخرى تحل هذا وتحل هذا حتى يرسخ الباب في ذهنك يرسخ الباب بتصوره بمعرفة دليله وبمعرفة الفتوى وبمعرفة الأقوال الأخرى بعد حين هذه مراتب ومعرفة الأقوال الأخرى وجواب هذا وجواب هذا. إذا عكست المسألة ما يحصل عندك ملكة فقهية، إذا بدأت مثلاً بالآثار فسيكون عندك معرفة بالخلافيات كثيرة لكن الملكة الفقهية ضعيفة وتحصيلك للمسائل قليل لإن مثلاً إذا نظرنا في كل مسألة سنبحث عما جاء فيها في الأسانيد والمصنفات أو في كتب الحديث وهي هذا صحيح أم غير صحيح وما ورد عن الصحابة والتابعين سوف تطول المسألة والأئمة في عهدهم كانوا على قرب من عهد الآثار على قرب من عهد الصحابة ما عندهم علوم كثيرة جداً اشغلت أذهانهم.
الآن مثلاً من القرن الثالث إلى الآن ألف ومائة سنة كم ظهر من العلوم التي شغلت اذهاننا وأخذت خيراً منه من الأذهان، ولذلك صار الذهن لا يستطيع أن يكون مركزاً على ذلك يعني غالب الطلاب يكون مُركّزاً على الآثار ومستخرج منها الفقه الصحيح لهذا نعم نقول الغاية هي الآثار وهذا الذي يجب فالدين هو كتاب وسنة وأثر ولكن كيف تصل إليه؟ لا بد أن تسلك الطريق الذي سلكه العلماء في الأزمنه المتأخره بعد فوات التمكن في العلوم والآتها. بدأوا بالمتون المختصرة جداً هذا كالبناء ثم بعد ذلك يرون فتاوى العصر فيرون ماذا يفتي به علماء عصرهم الشافعية على الشافعية والحنفية على الحنفية ثم يبدأون بإيراد الإشكالات والنظر في الآثار.
* مسألة : كيفية التدرج في طلب الفقه.(3/17)
الفقه طويل وهذا شيء مما لا شك فيه، ويحتمل في تدرسيه كل يوم عدة سنين لو ندرس مثلاً مثل كتاب زاد المستقنع لكن هذا الأمر وهو كون الفقه طويلاً وأنهيحتاج إلى سنين هذا يسهل باتباع الطريقة الآتية:
أولاً: أن تأخذ كل باب على حده ما تخلط بين الأبواب تأخذ متن فتأخذ مثلاً كتاب الزكاة تأخذه وتفهمه لو تجلس فيه شهر مع معلم أو مع نفسك تدرسه جملة جملة تقرأ وتنظر حتى تتصور الجملة هنا إذا كان المعلم قد وصل معك إلى كتاب الزكاة أو كان في أحد من المشائخ يقرأ على سبيل المثال في الزكاة فهنا تستمر معه يجري لك الأمر وإذا لم يمكن ذلك وأردت أن تقرأ أنت فلا بد من أنت تكون على صلة بأحد العلماء الذين بعون كلام أهل الفقه هذه الصلة فائدتها كلما استشكلت شيئاً تسأل كل ما فهمت عبارة تسأل تركيبية ما استقام في ذهنك تسأل وهو يوضحك هذا الإيضاح أما باتصال هاتفي أو بملاقاة هذا الإيضاح وهذه الصلة تجعل المسائل تتضح ثم أيضاً يكون الحرص على ملازمة أهل العلم في سماع كلامهم لأنه جربنا هذا قبلكم في مسائل كثيرة في الفقه تمر عليها لكن ما تتضح لك إلا بسماع كلام أهل العلم فيها، إما مثلاً في كلمة أو في فتوى أهو تكلم يناقش المسألة تناقشه تجد أنه يعطيك مفتاح لفهم هذا الباب أو لفهم هذه المسألة ما أدركته بمجرد القراءة.
فاذن.
أولاً: أحكام الباب يكون بدون مداخله يعني تأخذ كتاب معيناً ككتاب الزكاة مثلاً أو باباً معيناً فتدرسه بدون مداخله، يعني مثلاً واحد يقول أنا باقرأ مثلاً في كتاب الزكاة وفي نفس الوقت يأخذ في كتاب البيوع، وفي نفس الوقت يأخذ كتاب في الحدود فالذهن لا يجمع بهذا الطريقة فتختلط عليه المسائل، فإذا أخذت مثلاً كتاباً على هذا تبدأ بتحرير جملة وإذا حررت جملة على وقت ما عندك فهمت، أعني بتحرير الجمل معرفة كل لفظ ومعناه من حيث اللغة ثم بعد التركيب.(3/18)
طالب العلم في الفقه بخصوصه لا بد أن يكون حساساً في اللغة، لأنه إن لم يكن حساساً في اللغة استعمل في كلامه غير لغة العلم وهذا يضعف مع طالب العلم، فإذا تكلم مثلاً في الفقه كلام ثقافي يعني موعظة كأنه، كلاماً عاما، هذا يضعف الواحد معه، لكن إذا درب ذهنه ولسانه على أن كل لفظ له دلالته يجتهد على أن يستعمل ألفاظه مع مرور الزمن، يبدأ يتربى شيئاً فشيئاً حتى يستعمل ألفاظه، فإذن : 1- معرفة ألفاظ الفقهاء ودلالة كل لفظ . ثم : 2- معرفة التركيب لهذه الجملة، ثم: 3- الحكم. 4- دليل الحكم، قد يكون راجحاً في نفس الأمر وقد يكون مرجوحاً، المهم تعرف الدليل الذي اعتمد عليه في هذا الحكم، لأن معرفة الدليل يعطي ذهنك قريحة في استنتاج الحكم من الدليل على فهم جماعة من العلماء الذين صنفوا هذا أو رضوه أخذوه مذهباً.
الخامس : القول الآخر في المسألة بشرط أن يكون قولاً قوياً، وليس في كل مسألة، يعني مثلاً: مثل ما كان في المشايخ رحمهم الله الأولين الذين يدرسون الفقه عندنا هنا يذكرون اختيارات شيخ الإسلام ، وقد يكون بعدها استدلال أو ترجيح.
هذه خمس خطوات، إذا أخذت مثلاً باب من الكتاب بعد ذلك ترجع إلى نفسك باختبار، إذا سمعت شرح الباب مثلاً من معلم من شيخ او عالم أو قرأته وناقشت فيه أحد العلماء أو سمعته بواسطة شريط أو نحوه بعد ذلك اختبر نفسك في هذا الباب. كيف تختبر نفسك ؟(3/19)
تأخذ متن مجرداً عن الشرح وتجتهد في أن تشرح، أن تعلق مثلاً، الروض المربع أو شرح الشيخ بن العثيمين أو حاشية البليهي أو حاشية بن قاسم إلى اخره، ستلحظ في أول مرة أنك فيه مسائل تصورتها ، وعبارتك كانت عبارة جيدة رضيت عنها، لكن في مسائل أردت أن تتكلم اشتبكت عندك الخطوط ما عرفت، اشتيكت مع أنك حين القراءة كانت واضحة، مثل ما يأتي في الاختبار فقبل الاختبار تقول : أنا والله فاهم، وحينما جاء الاختبار استشكلت أو ضاعت عليك، كذلك في الفقه، فإذا راجعت على هذا النحو وحاولت أن تشرح فسيكون تقييمك لنفسك شيئاً فشيئاً، بهذا الطريقة تقوى مداركك تقوى قوة ذهنك.
ثانياً : يقوى تعبيرك عن مسألة بلغة العلم يقوي تعبيرك عن مسألة بلغة العلم.
ثالثاً : يكون لسانك متحرياً في الألفاظ لا تأتي إلى المسألة فتذكرها بالمعنى، يعني تذكر ما يدل عليها بحسب ما تفهم، بل تكون دقيقاً في اللفظ فتعبر بتعبيره، تعبر بلغته شيئاً فشيئاً بحسب ؟؟؟(3/20)
أنت والله أخذت خمسين من عندك نفسك استشكلت مسائل تعيدها ثم تكرر مرة أخرى حتى يكون عندك دربة هنا وأنت تسير على هذا تأتيك مسائل يكون لك رغبة في أن تطلع على الكلام فيها، فهنا لا بأس في أن تذهب إلى المطولات، مثل المغني في الفقه، أو المجموع أو نحو ذلك، لكن ما يكون ديدنك هذا في الباب كله تطالع . لا. هذا يكون في مسائل تختارها فتطالعها ، لماذا؟ لأن الكتب المطولة كتب سائحة،والكنب المختصرة كتب مجموعة، تناول المجموع أسهل من تناول المبسوط أو السائح، لماذا؟ لأنك طبعاً المغني أصعب من الزاد، والله واحد يجيء يقول الزاد عبارته كده والمغني كله أدلة، فتمشي معه بسلاسة، ولكن الواقع أن المغني بالنسبة لطالب العلم المبتدئ مضرٌ، بخلاف مثلاً المختصرات لأن المختصر يعود العقل على نوعية معينة من التعامل مع الكلام الفقهي يعوده على الحصر، يعوده على العبارة من لفظين ثلاثة، يعوده على مبتدأ وخبر، يعوده على شروط، يعني يحكم الذهن، أما ذاك فيكون مبسوطا، والمبسوط الذهن يقرأه بسهوله، يمشي ثم بعد ذلك ما يتربى عنده إلا يتذكر أن المسألة فيها أقوال، أما العبارة والإدراك ما يتربى عنده، ولهذا كان الشيخ عبد الرزاق رحمه (عفيفي) الله يقول الموفق، صنف في الفقه كتاباً أربعة للابتدائي وللمتوسط وللثانوي وللجامعي، فصنف للابتدائي العمدة في الفقه، وصنف للمتوسط المقنع، وصنف للثانوي الكافي، وصنف للجامعي المغني، فلاحظ عمدة، ثم مقنع، ثم كافي ثم مغني، والغناة لا يريد أحد بعدها شيء.(3/21)
لكن هذا لا بد يمشي على هذا النحو، لا بد أن يكون عندك تسلسل، فقراءة في المغني المطول دائماً، هذا غلط، وتركه دائماً أيضاً غلط. لماذا ؟ لأن المطولات فيها اسهاب في الاسهاب يحل بعض الاشكالات، فأحياناً يأتيك قول لم تفهمه أصلاً كيف تحل المسألة؟ مثلاً اتصلت ما وجدت أحداً، كيف تفهم هذا القول في الفقه بخصوصه؟ تذهب إلى الخلاف في المسالة، إذا لم تفهم قولاً من الأقوال اذهب إلى الكتب التي فيها ذكر الخلاف بمعرفة الأول المختلفة يتضح لك المراد بالقول الذي استشكلته، هذه مجربة ونافعة جداً في حل مثل هذا.
على كل حال هنا عدة أشياء أُخر لكن ربما احتاج الكلام عليها إلى طول مثل كلام مراتب كتب الحنابلة لماذا اختاروا كتاباً دون كتاب، كيفية الدمج بينها؟ وهل يسوغ لطالب العلم أن ينوع مثلاً عند أحد العلماء من الزاد وعند الثاني منار السبيل وعند الثالث من كذا .. . هذه كلها أشياء تحتاج إلى أجوبة لكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت، نكتفي بهذا القدر .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله.(3/22)
مسائل في طلب العلم
الدرس الثاني والأربعون
من شرح العقيدة الطحاوية
[مفرّغ]
الدرس الثاني والأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل القبول لديه، وممن غُفر لهم الذنب والتقصير.
اللهم من أحسن منا فتقبل منه إحسانه، ومن أساء منا فاعفُ عنه وتجاوز عن إساءته.
ثم إن الدروس الباقية في هذا الفصل قليلة، وبودي أن لو تمكنا من ختم هذا المتن المختصر الطحاوية، ولهذا فإنه قد يكون من المناسب أن نجعل الأسبوع القادم الدروس فيه يومية؛ يعني كل يوم بعد المغرب من السبت -فقط الأسبوع القادم - حتى نعطي خمسة أو ستة دروس في الأسبوع يمكن معه إن شاء الله تعالى أن نختم الكتاب بإذنه تعالى.
وتكون إذن بعد المغرب من يوم السبت القادم إن شاء الله السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء والخميس إن احتجنا إليه.
أسأل الله للجميع الإعانة والتوفيق، وتنبهون الإخوان الذين ما حضروا؛ لأن الدرس سيصير بعد المغرب يوم السبت، ونسير على ذلك الأسبوع القادم، ثم نرى إن كان من المناسب أن نكمل على هذه الطريقة حتى نختم؛ لأن هناك قرب اختبارات وأشياء قد ما نتمكن من الختم إلا بهذه الطريقة.
ثم إنه بين يدي هذا الدرس نذكر أشياء تهم طالب العلم في سيره لطلب العلم والتلقي عن الأشياخ والحرص على ما ينفعه، وهي تذكرة وربما يكون بعضها قد سبق لكم سماعه مني أو من غيري.(4/1)
الأمر الأول: الذي ينبغي لك أيها الطالب أن تعتني به أتم عناية أن تذكر نفسك دائما بأن العلم عبادة تتقرب بها إلى الله جل وعلا، وأنّ العلماء ذكروا أن أفضل التطوع أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم، وكثير منا طلبه للعلم يكون واجبا؛ لأنه لم يأخذ القدر الكافي فيما ينفعه في دينه؛ في التوحيد في إصلاح العقيدة وفي إصلاح العمل بمعرفة الأحكام الشرعية، وهذا يحثّك ويجعلك لا تمل ولا تكل، وهما الدعّان اللذان يصيبان طالب العلم الملل والتعب والكلل من الحفظ ومن المدارسة ومن الكتابة ومن اقتناء الكتب ومن المطالعة إلى آخر ذلك.
فإذا علمت عظم المقصود وعظم الفضل للعلم وفي طلبه، وأنه أفضل الأعمال، حتى إن أهل العلم فضلوه على الجهاد -جهاد النفل جهاد التطوع يعني جهاد الأعداء-؛ لأن طلب العلم متعدٍ، لأن طلب العلم متعدي النفع، والقاعدة الشرعية أن الأعمال المتعدية في النفع هي أفضل من الأعمال القاصرة، وكلما كان التعدي تعدي النفع أكثر، كلما كان أفضل مما هو أقل منه في تعدي النفع، ولهذا كان مذهب كثير من أهل العلم أنَّ طلب العلم أفضل من الجهاد التطوع؛ يعني لأن نفعه أكثر تعديا في الغالب.
المسألة الثانية: هي طريقة طلب العلم، وألحظ الإخوة الذين أمامي الآن أن أكثرهم ربما يكون قد سار بتوّه في طريق طلب العلم أو توسط.(4/2)
طريقة طلب العلم مهمة، طلب العلم منكم من يحرص على الحضور عند المشايخ وطلاب العلم والمعلمين، فيحضر ويسمع ويكتب، أو يحرص على التسجيلات؛ لكن هذا وحده لا يكفي لابد من الدرس والمراجعة، لابد أن تدرس كأنه غدا لديك اختبار، تختبر في هذه المواد؛ لابد تدرس وتدقق في الألفاظ وفي الأدلة وتحفظ وترتب وتكتب حتى يكون عندك التلقي على أقوى ما يمكن أن تعمله، وإلا فالسماع والكتابة وحدها لا تنفع، تسمع فقط وإلا تسمع وتكتب ثم تنسى هذه الفوائد إلى بعد سنة، ترجع إليها تثقل عليك؛ لكن إذا كان لك مراجعة فيما سمعت مراجعة أسبوعية تدرس فيها الفوائد، تدرس فيها المتن أولا، وتراجع الكلمات ثم الشرح والفوائد، وتحفظ الأدلة، وتنظر كيف تعامل المعلم أو الشيخ كيف تعامل مع النصوص الشرعية، كيف تعامل مع المتن، كيف تعامل مع المسائل، كيف شرح أوضح، هذا هو بالدربة احفظ المسائل ويكون عندك قدرة ودربة على نقل هذا العلم.
فإذن كي تتعلم؟ هذا مهم أن تسأل نفسك دائما كيف تتلقى العلم؟ وكيف تأخذ بذلك؟ ومن المهم هنا أن تحرص على ثلاثة أمور:
الأول: أن يكون ما تقيده من الفوائد عن المعلم أو عن الشيخ أو عن طالب العلم أن يكون مرتَّبا بخط واضح، البعض يكتب بخط صغير متقارب الكلمات ويحشر الصفحة، هذه لا تنشِّطه للقراءة، إذا أراد أن يراجع، فتكتب سطر وتترك سطر بخط واضح والصفحات ولله الحمد والورق كثير.
الأمر الثاني: أن يكون هناك تلخيص لما قرأت؛ يعني بعد أن تسمع أنت ستنتخب أحسن ما سمعت، ثم بعد ذلك اختر أيضا الفوائد مما كتبت؛ لأن بعض ما كتبت ربما يكون فيه تكرار، ربما يكون فيه زيادة ونحو ذلك.
المرحلة الثانية أن تنتخب أحسن ما كتبت، الفوائد التي تراها أكثر فائدة لك وترددها وتحفظها.(4/3)
الأمر الثالث: أنه بعد حين يجب أن ترجع إلى ما كتبت عن الشيخ وتراجعه مرة أخرى حفظا ودراسة؛ لأن العلم يذهب بالغفلة ويبقى مع التَّرداد، فيه كتب كثيرة ومختصرات إذا قرأناها مرة ثانية وقد قرأناها عشرة وعشرين مرة تخرج لنا منها فوائد، والمرء لا([1]) يقل هذا الكتاب قرأناه هذا المتن قرأناه، لا إذا صار عند فرصة تراجع ما كتبت تراجع ما قرأت، وكلما كان الأمر أثبت كلما كان أقوى لك في المستقبل؛ لأنه كلما ثبتت عندك العلوم كلما كان التصور أسهل لديك وحفظ المعلومات الجديدة أسهل؛ لأن ما بني على صحيح فهو صحيح، وما بني على مختل فهو مختل، وما بني على غلط فهو غلط، لهذا صارت البنية الأساسية واضحة وصحيحة فيكون ذلك له أثره فيما بعده.
الثالثة: مما ينبغي لطالب العلم أن يعتني به كثيرا أن يمايز بين الزوائد في شرح الكتاب الواحد أو شرح الكتب المتماثلة المتقاربة، مثلا شرحنا لمعة الاعتقاد، شرحنا الواسطية، وشرحنا الحموية، الآن الطحاوية لك في كل شرح فيه زيادات على الشرح الآخر، ربما يكون شرح الواسطية أطول من غيره؛ لكن تجد في شرح الطحاوية مسائل جديدة ليست هناك، وأيضا في المسألة ربما فيه فوائد وتفصيلات ليس فيما مر، هذه أيضا مع بقائها في شرح الطحاوية تأخذها زيادة، وتضعها مع شرح الواسطية، هذا بالنسبة إلى شرح الشخص الواحد؛ لكن إذا كنت تحضر عند أكثر من عالم وأكثر من طالب علم أو سمعت عددا من الأشرطة، والشروح سمعت من هذا، وسمعت من هذا، وسمعت من هذا، كيف تستفيد من هذه الكتب جميعا؟ كل معلم له طريقة له طريقة في التعامل مع الفن أصلا له طريقة في التعامل مع الكتاب في شرح المسائل في تقريب العلم؛ لكن هناك قدر مشترك من المعلومات يكون عند الجميع، وهناك فوائد يتميز بها فلان عن فلان؛ لأنه وفوق كل ذي علم عليم، لابد، لابد أن يكون هذا له ما ليس عند ذاك من الفوائد، لن يتطابق الجميع على شرح واحد.
لهذا كيف تعمل في مثل هذه الحالة؟(4/4)
تنظر إلى أكثر الشروح تفصيلا وإفادة، ثم تنشر الزوائد من الكتب التي سمعت شرحها، أو مما دونت من الفوائد تدونها على هذا حتى يكون أصلا.
يعني تأخذ مثلا شرح سماحة الشيخ على كتاب التوحيد مثلا وتجعله أصلا ثم تأتي في الفوائد الأخرى وتدونها على هذا الشرح، فيكون عند الشرح لهذا الكتاب قد جمعته من شروح أهل العلم ودونت فيه أكثر الفوائد التي حرصت عليها.
إذن هذه الطريقة مهمة في التلقي من معلم واحد أو من شيخ واحد، وكذلك في التلقي من عدد من المعلمين أو عدد من طلبة العلم والأشياخ.
تختار أحد الشروح التي هي أكثر فوائد، ثم بعد ذلك تأتي بالفوائد الزائدة وتدونها عليه.
المسألة الرابعة: فيما ينفعك في طلب العلم أن تنتبه دائما إلى أن كثرة التفصيلات ليست دليل صحة، وقلة التفصيلات ليست أيضا دليل صحة.
وهذه مهمة لطالب العلم؛ لأنه سيتعامل مع شروح المشايخ، ويتعامل مع شروح الكتب، ويتعامل مع فوائد ينتقيها من هنا وهناك.
فإذن متى تحرص على التفصيلات؟ ومتى لا تحرص عليها؟ التفصيلات التي هي طول شرح للمسائل تارة تكون تابعة لأصل المسألة، فهذه احرص عليها وتارة تكون استطرادات يستغنى عنها في فهم أصل المسألة وما يتصل بها، فهذه يمكنك أن تستغني عنها في الدرس وفي المراجعة إلى آخره.
وأنت تقرأ مثلا لابن تيمية رحمه الله أو لابن القيم يورد المسألة ثم بعد ذلك يستطرد، هذه الاستطرادات تارة تكون تخدم أصل المسألة وتارة تكون لا هي تنظير للمسألة من مسألة إلى أخرى.
وهنا لابد من الانتباه كثيرا إلى كثرة المعلومات، ونحن الآن في وقت كثرة المعلومات، تسمع من الفتاوى الكثير، تسمع من الشروح الكثير، وتقرأ من الكتب الكثير، وهذا الشرح مطول وهذا مفصل، ترجع إلى فتح الباري تجد فيه، وترجع شرح الطحاوية تجد فيه، ترجع إلى فتاوى ابن تيمية.(4/5)
كيف تتعامل مع هذا الطول؟ تتعامل معه بأنه ما يخدم فهمك للفن اجعله الأساس، ثم هذه التفصيلات إذا كانت تخدم المسألة فانقلها على نحو ما ذكرنا سابقا، وكثّر الفوائد والتفصيلات التي تخدم أصل المسألة، وإلا فإن المسألة الواحدة يمكن أن نمكث في شرح حديث أسبوع كامل، شرح حديث واحد، إذا كان سنتكلم على التحليلات اللغوية، ثم أولا قبل كل شيء التخريج مثلا، وتراجم الرواة والتصحيح والتضعيف، ومن قال بصحته والاستطراد في ذلك، ثم نتكلم على اللغويات والتراكيب والقواعد اللغوية في الحديث، ثم بعد ذلك المسائل الأصولية والأحكام الفقهية واختلاف العلماء والفوائد، هذه تطول جدا المسائل.
ثم لا غرابة أن وجدنا أن الحافظ بن دقيق العبد رحمه الله شرح في مجلدين كبيرين إذا طبعا فستكون أربعة كبار، شرح في هذين المجلدين نحوا من أحد عشرة حديثا من كتابه الإلمام، وهذا المسمى بشرح الإلمام لابن دقيق العيد الموجود منه مجلدين، لم يؤلف منه إلا مجلدين شرح فيه بضعة عشرة حديثا أو اثنا عشرة أو ثلاثة عشرة؛ يعني أنه لا زال في أوله، حتى أنه ذكر عند حديث لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة أكثر من ثلاثمائة مسألة، هذا لو أردنا أن نتعرض لمثل هذه التفاصيل في الشروح.
إذن سيكون الطالب يجلب له كل شيء في الكتب وكل المسائل تعرض عليه، هذا ليس هو العلم، العلم أن تخدم المتن الذي تحفظه أو تدرسه مما يكون موافقا للمنهجية أن تخدمه بالشروح والتفصيلات حتى تضبطه.
ثم بعد ذلك إذا جاءت التفصيلات تأتي التفصيلات وأنت بالخيار تأخذ منها ما تشاء وتدع منها ما تشاء؛ لكن الطول لا يخدم.
لهذا تهتم كثيرا ما ينفعك من التفصيلات، التفصيلات هذه لا تتساهل في أن تسمع الكثير وتقول هذا أفضل، لا، قد يكون ذلك ويشتت ذهنك في العلم.(4/6)
فإذن الطريقة المثلى لهذا ما ذكرته لك من أن هذه التفصيلات تميزها، هل تخدم أصل الكتاب؟ هل تخدم أصل المسألة أم أنها استطرادية في مسائل لا صلة لها بأصل المسألة.
مع الزمن ستجد أنك ترقّيت في العلم، تفصيلات استغنيت عنها في سنتك الثالثة في طلبك للعلم أو الرابعة؛ لكنك تجد ...... في أول السن صار واضحا بحيث تقول كيف استفدت هذه الفوائد؟ كيف أجعلها فوائد أصلا فتجد أنك تحتاج إلى تفصيلات أخر ومزيد من العلم وتدقيقات، وهكذا ينبني بناء العلم لك شيئا فشيئا.
المسألة الخامسة: وقد ذكرتها لكم مرارا الاهتمام بالكتب التي تقرأ فيها، والطبعات، والآن المطابع ترمي بآلاف من المطبوعات المختلفة، لابد أن تنتقي الكتاب الذي تأخذ منه، تجعله مرجعا لك في مكتبتك، ليس كل كتاب يصلح، ليس كل طبعة أعني تصلح، يعني مثلا فتح الباري متقاربة الطبعات؛ لكن مثال كم له من طبعة؟ له أكثر من عشر طبعات، بداية من طبعة الهند إلى الطبعات الأخيرة هذه الملونة التي فيها أحمر ... صغيرة طيب عندك شرح مسلم للنووي أيضا طبعات كثيرة، المغني كم هناك من طبعة له الكثير كتب الفقه، كتب الحديث، كتب الرجال كم لها من طبعة؟ تأخذ الطبعة وتحفظها بحيث أنه تكون عندك في المراجعة.
هذه المعلومات سبق أن سمعها الأكثر مني؛ لكن وجود كثير من الأخوة ممن ربما لم يسمعوا القديم يجعلنا نكرر ليتضح الأمر.(4/7)
المسألة السادسة: أهمية البحث، وهذه ألقينا فيها كلمة مستقلة مطولة، وجاءتني رسالة من بعض الإخوة يقول فيها أنه سمع هذه المحاضرة أو الكلمة في منهجية البحث، وهي ألقيناها هنا في بداية الدروس في أحد الفصول، وأراد التعقيب للعلم الذي ذكرت التعقيب للعلم ويثبط الهمة ووو إلى آخره من الكلام، قال في أخره أظنك أنت يعنيني أظنك لا تطبق ما ذكرت أصلا، وهذا الكلام وإن كان انفعاليا؛ لكنه دليل صحة لأنه كون المرء استمع للكلام وتأثر وحسن الطعن هذا دليل خير، لماذا؟ لأنه يدل على أنه وجد أن الطريقة التي كان يسير عليها في البحث ليست هي الطريقة السليمة، هذا الذي كان يهمنا أن نوصله للإخوة، أن يكون هناك سعي في أن يكون البحث موافقا للطريقة السليمة، والعلوم إنما تثبت بالبحث، لا يمكن أن تتقدم في العلم إلا بالبحث، والبحث إذا كان سليما كانت النتائج سليمة، وإذا كان البحث قاصرا أو غير ممنهج كذلك ستكون النتائج على غرار قوة البحث وضعفه.
لهذا نقول: كيف تبحث؟ هذه مهمة جدا، فينبغي أن تراجع الكلمة التي قلناها سابقا وتهتم بالبحث يعني أن يكون عندك تقسيم لوقتك، تدرس على المشايخ، تقرأ المتون الأساسية وتحفظ وتؤسس نفسك في جزء، تقرأ المطولات والشروحات هذه والأشياء التي ترغب فيها في بحث المسائل، وأيضا تبحث في مسائل بحثا مكتوبا، هذا مهم لأن الذي لا يبحث لا تتأصل عنده المسائل، الذي لا يبحث ويطالع المسألة ينظر ماذا قال هنا وماذا قال هنا أوش قال في الكتاب الفلاني، لا تتأصل عنده المسائل.
في مسألة من المسائل كنت أنا أظن أنه مجمع عليها، وإذا بي في حج هذا العام عرفت أن فيها خلاف، وخلاف قديم للسلف وقوي، وهناك من نسبها من نسب المسألة إلى الإجماع أن العلماء أجمعوا عليها.(4/8)
فإذن العلم لا يكون إلا بالبحث؛ لكن البحث هنا لا يكون بحثا مقروءا؛ يعني تقرأ فقط، بل لابد أن تكتب؛ لأنه إذا لم تكتب فتلحظ أنه أن بحثك بعد شهرين أو ثلاثة أربعة خمسة انتهى، لا تذكر منه شيئا، لهذا إذا بحثت في ساعتين أو ثلاث أو خمس تكتب ما بحثت يبقى، وإلا فستبقى المعلومة معك لمدة أسبوع أسبوعين ثم تذهب.
وهذا واقع ومجرب، لهذا أؤكد على أهمية أن تبحث وأن يكون بحثك مكتوبا تارة أو تارات، ومقروءا تارة.
في تفسير آية لا تحرص أن تسأل إيش معنى الآية الفلانية؟ ابحث قبل، ثم بعد ذلك اسأل المشايخ والعلماء عن معناها.
المسألة الفقهية، ما حكم كذا؟ ابحث قبل، ثم بعد ذلك سل.
ومرة كتب أحد القضاة إلى سماحة جدّي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، كتب إليه يسأله عن حكم مسألة عرضت له في القضاء، فأجابه الشيخ بسطرين قال: المسألة معروفة في جميع كتب أهل العلم؛ لكنك كسلان لا تبحث والسلام.
وهذا واقع؛ لأن طالب العلم إذا تعود على أن يسأل ولا يبحث، فإنه سيصاب لأن السؤال لن يأتي دائما، السؤال لا ينشط الإنسان.
ومرة كان الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في الحج، ذكرت لكم القصة وكان واحد جنبه يسأله ويسأله، قال العلم لا ينال بهذه الطريقة، اقرأ المسائل اقرأ العلم اقرأ الكتب بعد ذلك أشكل شيء تسأل عنه، أما كل مسألة تسأل عنها، ما حكم كذا ما حكم كذا، لو عمل كذا لو لم يعمل لا تحصّل العلم بذلك.
فإذن البحث مهم وبعد البحث تسأل، بعد البحث تعرض على أهل العلم ما بحثت، والله هذه طريقتي في بحث مسألة فقهية هل هي سليمة أم ليست بسليمة؟ هذا تخريج حديث أحاديث خرجتها بهذه الطريقة، مثلا تكون متأثرا بتخريج الأحاديث بمدرسة من المدارس الموجودة في تخريج الأحاديث، وتكون المدرسة عليها ملاحظات أو ليست المدرسة الصحيحة في التخريج، فإذا عرضتها على من يبحث معك أو يناقشك أو يعلمك فإنك ستستفيد.(4/9)
فإذن من المهم أن يكون لطالب العلم بحث مقروء يقرؤه هو، يبحث المسائل، وبحث مكتوب يعرضه على من هو أعلم منه.
المسألة السابعة: كثيرا ما أورد مثلا أو يورد غيري من المدرسون -خاصة العقيدة- خلاف المذاهب الضالة، مثلا قول الخوارج، قول المعتزلة، قول الأشاعرة، قول الماتريدية قول كذا، وربما يأتي بعض طلبة العلم منكم يحرص على مراجعة كتب القوم، وهذا لا يُنصح به، ولا ينبغي لطالب العلم في طلبه للعلم أن يسلك هذا السبيل؛ لأن الأصل أن مذاهب هؤلاء من مذاهب أهل الأهواء، وأهل الأهواء لا يقرأ كلامهم؛ لأنه لا يؤمن على طالب العلم أن يتأثر، أو أن يجد فيما قرأ شبهة لم يردها شيخه، فتبقى الشبهة ويحتار في رده عليها إلى آخر ذلك.
لهذا يعني عدد من الأخوة طلبوا أسماء مراجع المذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة من كتب المعتزلة والخوارج والأشاعرة، وطبعا الجواب أنه لا يرشد أحد إلى هذه المذاهب من طلاب العلم إلى كتب القوم حتى يقرأها، لا؛ بل الذي نقل له هذه المذاهب وبينها له ثقة فيأخذها على هذا النحو.
وقد كان مشايخنا رحمهم الله رحم الله الأموات وأطال في عمر الأحياء وبارك في الجميع، كانوا يعتمدون في نقل المذاهب المخالفة على أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ونحوهما ممن يعتنون بنقل المذاهب هذه فقط، ولا يرجعون إلى أصل الكتب؛ لأنهم ثقات وحديث النبي صَلَّى الله عليه وسلم إذا نقله عدل ثقة قبلناه واعتمدناه وصار حجة لنقل العدل الضابط عن مثله، فكيف بمذاهب الآخرين التي هي مذاهب ردية.
ربما يأتي وقت يكون طالب العلم بحاثة في تحقيق مسألة ما، هنا قد يرخص له إذا كان يريد الرد ويريد المناقشة ونحو ذلك، قد يرخص له في حد محدود؛ لكن طلاب العلم من أمثالكم يقرؤون في كتب القوم وفي تفاسير الأشاعرة وتفاسير المعتزلة أو نحو ذلك، لا، ولا يعرّض المرء دينه للخطر.
هذه بعض الكلمات تناسب البداية، ونجيب بعدها على بعض الأسئلة.
[الأسئلة](4/10)
س1/ لا يخفى عليكم ما يحصل من مخالفات في التعزية في هذا الزمن، وأقلها اجتماع أهل الميت القريبين والبعيدين في بيت أحدهم أو في بيت الميت، وتلقي العزاء لمدة أيام، وقد اختلفت آراء العلماء في هذا.
فالسؤال: إذا حصل لي ذلك هل أترك المنزل ولا أستسلم مع أن أقاربي يحملون الإنسان على ذلك، إلى آخره؟
ج/ مسائل التعزية واجتماع أقارب الميت الذين يقصد تعزيتهم أو مواساتهم في موت قريب لهم؛ يعني الاجتماع المعروف الذي يسمى اجتماع العزاء هذا حصل الكلام؛ كلام الشباب فيه وبعض الناس في هذا الوقت من جرّاء فتوى من لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في أنّ الاجتماع لا يشرع، أصل الاجتماع بل الذي يشرع هو التفرق.
وبقية علمائنا وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية، والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام «من عزى مصابا فله مثل أجره»، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية.
ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعا فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، في مثل هذه المدن الكبار مثل تفرق الناس ونحو ذلك، لا يحصل إلا بهذا، إلا فيما ندر إذا كانت القرية صغيرة أو الإنسان معروف أنه طول الوقت في هذا أو كان المعزى واحد فقط؛ يعني واحد فقط إما أن يكون في بيته أو في عمله، فهذه المسألة تختلف؛ لكن إذا تعددوا وصارت التعزية لا تحصل إلا بالاجتماع اجتماع من يُعزى أولى من تفرقهم؛ لأن التعزية التي فيها تسلية ومواساة وتحصيل لأجر لا تحصل إلا بذلك.(4/11)
هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعدّ من النياحة إلا إذا انظم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعا ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع، لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان أنه أكبر عزاء، أو أنهم اجتمعوا لأجل فلان، ما يموت ويروح هكذا، مثل ما يقول بعض البادية، فيعملون [...] ضخمة وكذا، وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وبذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمع عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق.
أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة، وقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء من قرابتها إليها، اجتمعوا إليها، فقالت: فربما حضر وقت الطعام فقامت امرأة إلى برمتها أو كذا فصنعت شيئا يأكلونه. يعني هؤلاء القرابة القليلين.
استدل بهذا الحديث على أن أصل الاجتماع للنساء لأجل المواساة تجتمع المرأة بقريبتها أختها فلانة كذا أن هذا له أصل من هدي السلف.
أيضا الاجتماع اجتماع الرجال ليس ثم ما يمنع منه.
ابن القيم رحمه الله وغيره تكلموا عن مسألة الاجتماع، وقالوا: إن هدي السلف هو التفرق، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم ما أثر عنه أنه جلس في مكان ليقبل العزاء أو نحو ذلك. وهذا صحيح؛ لكن ليس الحال هو الحال، وليس الوقت هو الوقت، وليست الصورة هي الصورة الموجودة في هذا الزمن، فكلام ابن القيم على بابه في قرية؛ واحد معروف إذا ما لقيته في بيته تلقاه في المسجد أو في السوق أو نحو ذلك، في شيء محدود هذا صحيح.(4/12)
أما في مثل بلد لا يمكن أن يلتقي فيه الناس إلا باجتماع، أو إذا تفرقوا عسر على الناس تحقيق سنة العزاء فإن الاجتماع للعزاء لا بأس به.
أما تحديد مدة فلا أصل له، تحديد مدة ثلاثة أيام سبعة أيام اختلف فيها الفقهاء لكن لا أصل له من السنة، السنة ليس فيها دليل يدلُّ على أن مدة العزاء محدودة بأيام؛ بل مدة العزاء تكون بحسَب من يأتي، إذا كان الناس يأتون يوم فينتهي، يومين وانتهى، خمسة أيام وانتهى وهكذا، وإن كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام الأول ينتهون؛ لكن لا اصل لتحديد المدة في الشرع.
س2/ ما هو رأيكم في قراءة طلاب العلم للجرائد؟
ج/ الجرائد هذه فيها ما ينفع وفيها ما يضر، فهي بحسب الحال، إذا كان يطلع على أشياء تنفعه في دينه أو في الأخبار أو فيما حوله ليكون على بينة، هذا طيب لا بأس به، أما إذا كانت ستشغله على طلب العلم أو يقرأ جريدة يبقى فيها ساعة، والكتاب ما يصبر عليه ساعة، هذه ليست من سيما أهل العلم.
س3/ لو رأيتم جعل الدروس بعد صلاة العشاء نظرا لأحوال بعض الطلبة؟
ج/ بعد العشاء الوقت ضيق وصعب أننا نستمر بعد العشاء الأسبوع القادم نستمر الأسبوع كاملا؛ يعني كل يوم بعد العشاء؛ لأن بعد العشاء تعترضه ارتباطات ومناسبات وإلى آخره، بعد المغرب يمكن أن نستمر في الأسبوع كله، ونسأل الله الإعانة للجميع.
س4/ نحن مجموعة شباب نريد أن نقرأ العلم على المشايخ؛ ولكن لم نجد أحدا من المشايخ نقرأ عليه، كما هو المعتاد في التدرج لطلب العلم.
ج/ ستجد إن شاء الله تعالى، المشايخ ولله الحمد كثير خاصة في [...] الكثيرة مثل الرياض والقصيم ومكة والمدينة وأشباه ذلك هاهنا طلبة العلم والمشايخ كثير؛ لكن لا تشترط خذ من يفيدك من يكون نافعا للطلاب وصابرا عليهم، ولا تشترط أن يكون الذي تقرأ عليه فلان.(4/13)
بعض الناس فلان، مرة أذكر أحد الطلاب كان من القصيم، وقيامي في مكان نسيت الآن أين هو، قال أنا جاي من القصيم وأريد أن أقرأ عليك، أمر عليك متن من المتون نسيت ماهو، أظن ثلاثة الأصول أو غيره، قلت له خير إن شاء الله ذاك الوقت كان عندي بعض الفراغ، قلت غدا إن شاء الله بعد العصر أو بعد غد، قال: لا أنا أريد الليلة. لماذا الليلة؟ قال لأني بعد الفجر راجع إلى القصيم، طيب الليلة الآن فيه دعوة قد ننتهي عشرة ونصف أو إحدى عشر، قال استرحلك ساعة وبعد الثانية عشر أن مستعد أسهر إلى الفجر حتى نتمه، هذا شيء مو معقول، قال: والله المستعان الأولين جاهدوا في طلب العلم وفي التعليم، طيب أنت.....
الشاهد بعض الإخوة يتشدد في اختيار المشايخ والمتون الأولى لا تحتاج إلى تشدد تأخذ من تقرأ عليه؛ لأن التصور الأول والإمرار الأول لعلم يكون ممن ينفع لا تشترط لا تتشدد فيه، وبعد ذلك يمكن أن تجد من هو أمكن في تدريس العلم.
س5/ مريد منهجا جيدا في قراءة الكتب، هل يكتفى بقراءة مرة واحدة أم لابد من تكرار الكتب، وكيف يمكن هذا مع الكم الكثير للكتب؟
ج/ قراءة الكتب تختلف، بعض الكتب يكون كتاب علم مؤصل، هذا ممكن تقرأ مرتين ثلاث، وبعض الكتب لا يكون للمرجع فقط تقرأ مرة عند الحاجة، يعني مثلا تيسير العزيز الحميد فتح المجيد، هذه تقرأها عدة مرات لأنها كتب أصول، وشرح الواسطية للشيخ ابن رشيد رحمه الله، مثل شرح الطحاوية ونحو ذلك هذه مهمة لو قرأتها كذا مرة لا بأس، مثل شرح شروح البذور، مثل الشروح على الزاد أو الحواشي ما يضر هذا بل هو أفضل إذا كررتها؛ لكن مثل فتح الباري تمر عليه مثل المغني الكافي إلى آخره تمر عليه كذا مرة ليس هذا الكتاب أو ذاك مما يقرأ كثيرا.
فإذن بعض الكتب إذا كررتها أمكن لك وبعضها إذا مرت عليها وقت الحاجة وعند المراجعة فهذا هو المقصود.
س6/ كتاب مدارج السالكين نرجوا أن تكون هناك كلمة قصيرة حوله؟(4/14)
ج/ مدارج السالكين من الكتب الكبيرة المهمة للعلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله شرح به كتابا مختصرا لشيخ الإسلام الهروي كتاب اسمه منازل السائرين إلى الله، وهي مراتب في المقامات والأحوال عند أهل التصوف، شيخ الإسلام الهروي كان حنبليا؛ ولكنه ربما تأثر بالطرق الصوفية وشارك القشيري والحويني وجماعة ومثل هؤلاء [الكلابادي] المقامات والأحوال والتعاريف لها.
هذا الكتاب الذي هو منازل السائرين اعتنى به الصوفية وحولوه إلى أشياء من وحدة الوجود وأشياء تخالف هدي السلف فأراد ابن القيم، وقد كان في فترة من حياته متأثرا بالقوم بعض التأثر، أراد ابن القيم رحمه الله أن يكتب كتابا سلفيا في السلوك يهدي به المتصوفة ويكون أيضا سبيل لأهل السنة لإطلاع على السلوك والسلفية........ منازل السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
الكتاب في أكثره في أكثر الكتاب يمكن أن يفهم ويوجه على منهج السلف، وفي بعضه أشياء لا توافق منهج السلف ولا تربية السلف إلا على ضرب من التأويل يصعب، مثل الكلام على منزلة البرق ومنزلة الصعق ومنزلة كذا وكذا، ومثل الكلام على الفناء وأشباه ذلك مما لا يفهمه كل أحد.
حتى إنه في أثنائه ذكر أشياء ربما اعترض عليها بعض العلماء؛ لكن ابن القيم له وجهته في ذلك ووجهته صحيحة، وأراد به هداية الطائفتين يعني الصوفية يهتدوا إلى منهج السلف، ويريد ممن يكونوا على منهاج السلف أن يكون عنده سلوك شرعي؛ يعني عنده زهد عنده عبادة عنده رعاية لمقامات القلوب وأحوال القلوب والإيمان والعمل الصالح وما أمر الله جل وعلا به من منازل العبادة.
س7/ هل يمكن أن يخرج الشرح للطحاوية مطبوعا كما فعل بعض المشايخ الآن؟ نأمل ذلك.
ج/ وأرجوا أنا أيضا ان يكون ذلك متحققا.
س8/ كيف يكون الإخلاص في طلب العلم، هل يكون طلب العلم للعمل أو للدعوة آمل الإجابة والتوضيح الشافي؟
ج/ ذكرنا لكم مرارا أن الإخلاص في طلب العلم والنية فيه يكون بشيئين:(4/15)
الأول أن يكون متقربا به إلى الله جل وعلا وحده، لا يريد بطلب العلم نيل جاه في الدنيا ولا سمعة ولا أن يصرف وجوه الناس إليه، أن يكون مخلصا لله، يرجو الله والدار الآخرة، والقصد وجه الله بالأعمال والأقوال والنيات.
والثاني في تحقيق الإخلاص والنية الصحيحة في طلب العلم أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه، حين يطلب، لماذا تطلب العلم؟ لرفع الجهل عن نفسه والجهل ذمه الله جل وعلا وامتدح أهل العلم وبين أنه رفعهم على المؤمنين درجات.
فإذن يطلب العلم ليرفع الجهل عن نفسه، لهذا سئل الإمام أحمد كيف تكون النية صالحة في العلم قال أن ينوي رفع الجهل عن نفسه؛ يعني مع نية الإخلاص لله جل جلاله.
ثم بعد ذلك يترقى وجد في نفسه انشراحا أن يعلم غيره هنا يكون معه نية أخرى أيضا أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن الناس، يكون لا ينوي أن يتصدر أن يقال هذا فلان بل ينوي أن يرفع الجهل عن الناس، وهذه النية الصالحة لها علامة ولها دلالة؛ وهو أن يكون في تعلمه لنفسه أو تعليمه أن يعلم ما يحتاجه الناس، أما أن يعلم ما لا يحتاجه الناس، فهذه ربما تكون لشهوة في النفس، وربما تكون لغرض آخر.
لهذا ابن تيمية لما بحث مسألة الأعمال -ذكرتها لكم عدة مرات- لما ذكر الأعمال التي يفعلها المؤمن لرغبة وشهوة له فيها، مثلا يحب يكرم الناس لأجل رغبة هو في داخله، إذا أكرم الناس يرتاح، يحب يعطي فلان ويعطي فلان ويسعى ويكون عنده نخوة شيء يجده في صدره، إذا كان هذا ارتاح ونحو ذلك.
طلب العلم يطلب العلم لأنه ينشرح لطلب العلم، تقول له أدرس العقيدة، يقول أنا منشرح في مصطلح الحديث وللرجال هذا منشرح الصدر في هذا الأمر منشرح الصدر في طلب الصدر، يبحث معك في الحلال والحرام لا يعرف أحكام كثيرة لا في الصلاة ولا في الحج ولا في البيوع أو في معاملته مع أهله أو نحو ذلك من الأحكام.(4/16)
فهنا سئل شيخ الإسلام هل من عمل عملا مما يتعبد به للذة تحصل له في هذا العمل هل هو مأجور أم يكون مرائيا؟ وأجاب عنها في رسالة مطبوعة بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله تعالى.
وملخص الجواب أنه إن كان في أصله مخلصا لله جل وعلا فيكون ما حصل له من لذة الطاعة يكون تبعا لأصله؛ لكن ينبغي أن ينتبه إلى التفريق ما بين اللذة التي هي للدنيا واللذة التابعة؛ يعني شيء تبع شيئا أو هو مستقل في اللذات هو يريده بلذة له.
واستدل له -الجواب طويل- استدل له بما ثبت في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبلال «يا بلال([2])أقم الصلاة أرحنا بها»، فقوله (أرحنا بها) دل على أن حصول الراحة للإنسان بالتعبد لا يمنع صحة العبادة والإخلاص فيها.
كذلك السياحة، المرء يذهب لشيء يجده في نفسه من السياحة، وقد أثنى الله جل وعلا على بعض عباده بأنهم سائحون، والسائحون إما أن يكونوا الصائمين كما في تفسير، أو أن يكونوا المجاهدين في سبيل الله في تفسير، فحصول هذه اللذة لهم لم تمنع الأجر.
المقصود من ذلك أن تحصيل النية في العلم وفي الانتباه لهذا الأصل مهم لأجل الإقبال على الخير والمداومة على ذلك.
نكتفي بهذا القدر.
ونلتقي بكم إن شاء الله تعالى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])انتهى الشريط الرابع والثلاثون.
([2])نتهى الوجه الأول من الشريط الخامس والثلاثون.(4/17)
نصائح لطلبة العلم
منتخبة من
شرح الأربعين النووية
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
منذ بدأت بتفريغ أشرطة العلامة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ سواء أشرطة الشروح أو الأشرطة المتفرقة إلا وأزدت إعجابا بسعة علمه وإطلاعه على أقوال العلماء قديما وحديثا في شتى الفنون، ويلفت النظر طريقته المتميزة في نصائحه لطلبة العلم في طلبهم للعلم وكيفية التعامل مع العلم، وهذه النصائح كثير منها منثور في أشرطته، فعزمت على تجميع المتفرق منها.
وأبدأ إن شاء الله بتلك التي في شرحه للأربعين النووية الذي يبلغ أحد عشرة شريطا.
وإن شاء الله سوف أعمم هذا الأمر على باقي السلاسل وضمها للأشرطة التي هي محاضرات ألقاها وتعالج موضوعاتها طالب العلم وما يتعلق بذلك.
ولعله في المستقبل -إذا بقي في الحياة بقية- أستخرج موضوعات أخرى.
وفي الحقيقة فأنا أعتزم على وضع فهرسة شاملة لكل ما في أشرطة الشيخ لكن أعلم أن هذا ليس بالأمر السهل، فاللهم يسّر ذلك.
أخوكم: سالم الجزائري
قال في أول شرح الأربعين النووية الوجه الأول من الشريط الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا، أن يجعلني وإياكم ممن يتحرّك لله، ويعمل لله، ويطلب العلم لله، ويتكلم ويعمل لله جل جلاله فـ«إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامْرِىءٍ ما نَوَى» وما من شك أن «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ» كما ثبت ذلك عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(5/1)
وطلب العلم له أصوله، وله رتبُه، فمن فاته طلب العلم على رتبِه وأصوله، فإنه يحرم الوصول، وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تَقَرَّ في قلوب طلبة العلم ومحبِّي العلم، ألا وهي: أنْ يُطلب العلم شيئًا فشيئًا على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام المعروف إذ قال: ”من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يُطلب العلم على مر الأيام والليالي“، وهذا كما تُدَرِّس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نُطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمرّ على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكّن من ذلك، والعلم كذلك، فالعلم منه صِغار ومنه كِبار باعتبار الفهم وباعتبار العمل وباعتبار كون العلم من الله جل جلاله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك رحمه الله تعالى إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله جل وعلا?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?[المزمل:5]، فالعلم من أخذه على أنه ثقيل صعب أدركه، وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه مُتصوّرة، وهذه مفهومة، ويمرّ عليها مرور السريع، فإن هذا يفوته شيء كثير.(5/2)
فإذن لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه، على أصوله، وعلى منهجية واضحة، ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كلُّه ثقيل من حيث فهمُه، ومن حيثُ تثبيتُه، ومن حيث استمرارُه مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم يُنسى إذا تُرِك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يُعظِّم التبعة على طالب العلم في ألا يتساهل في طلبه للعلم، فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لم يشرح لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يُؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول وعُقَد العلم، وقد قال طائفة من أهل العلم: ”العلم عُقَد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم“ وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم.
وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى بفهمٍ وتأسيس لما سبق، فلهذا أحض جميع الإخوة وجميع طلاب العلم ممن يسمعون كلامي هذا؛ أحضهم على أن يأخذوا العلم بحزم، وألا يأخذوه على أن هذه المسألة مفهومة، وهذه سهلة، وهذه واضحة؛ بل إنّه يكرّر الواضح ليزداد وضوحًا، ويكرر المعلوم ليزداد به علما وهكذا.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الأول.
عند شرحه لحديث جبريل؛ الحديث الثاني:
وقال آخرون: لا، (ووَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) هذه على فخذي جبريل أيضًا، يعني وضع كفي نفسه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -.(5/3)
في هذا أنّ طالب العلم ينبغي له أن يكون مهيِّئا نفسَه، ومهيِّئا المسؤول للإجابة على سؤاله في حسن الجِلسة، وفي حسن وضع الجوارح، وفي القرب منه، وهذا نوع من الأدب مُهم، فإنّ سؤال طالب العلم للعالم، أو سؤال المتعلم لطالب العلم له أثر في قَبول العالم للسؤال، وفي انفتاحه للجواب. قد ذُكر في آداب طلب العلم، وفي الكلام عليه أنّ بعض العلماء من علماء السّلف كانوا ينشطون لبعض تلاميذهم فيعطونهم، وبعضهم لا ينشطون له فيعطونه بعض الكلام الذي يكون عامًّا، أو لا يكون مكتملاً من كل جهاته، وذلك راجع إلى حسن أدب طالب العلم أو المتعلم، فإنّه كلما كان المتعلم أكثر أدبًا في جلسته، وأكثر أدبًا في لفظه، وفي سؤاله كلما كان أوقع في نفس المسؤول؛ فيحرص ويتهيأ نفسيًّا لجوابه؛ لأنه مَن احْتَرَم احْتُرِم، ومن أَقبل أُقبل عليه، فهذا فيه أن نتأدب جميعًا بهذا الأدب؛ فمثلاً ألحظ على بعض طلاب العلم، أو بعض المتعلمين أنه إذا أتى يسأل العالم يسأله بِنِدِّية لا يسأله على أنّه يستفيد، فيجلس جلسة العالم نفسه، أو يجلس جلسة المستغني، ويداه في وضع ليس في وضع أدب؛ واحدة هنا والأخرى هناك، وجسمه أيضًا يعني في استرخاء تام ليس فيه الاستجماع، ونحو ذلك مما يدل على أنه غير متأدب مع العالم، أو طالب العلم الذي سيستفيد منه.(5/4)
وهذه الآداب لها أثر على نفسية العالم أو المجيب، فإنك تريد أن تأخذ منه العلم، وكلما كنت أذلّ على الوجه الشرعي في أخذ العلم، كلما كان العالم أكثر إقبالًا عليك؛ ولهذا تجد أنَّ مِنْ؛ بل أكثر أهل العلم لهم خواص، هذا من خاصته، هذه الخصوصية راجعة إلى إيش؟ راجعة إلى أن هذا المتعلم كان متأدبًا في لفظه، وفي تعامله، وفي كلامه، وفي حركته مع شيخه، مما جعل شيخه يثق فيه، ويقبل عليه في العلم، ويعطيه من العلم ما لا يعطيه غيره، ويعطيه من تجاربه في الحياة وتجاربه مع العلم ومع العلماء، وفي الأمور، وفي الواقع بما لا يفيده غير المتأدب معه.
فهذه نأخذها من حديث جبريل عليه السلام هذا، ونأخذها أيضًا، من قصة الخضر مع موسى في سورة الكهف، وهي حَرِيَّة بالتأمل في آداب طلب العلم.
وقال في الوجه الأول من الشريط الثالث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الاهتمام بشرح الأحاديث يُثرِي طالب العلم في مادته، وفي فهمه للشريعة بعامة، والأحاديث منها ما يشتمل على أصول وقواعد، فهمُها يريح طالب العلم في فهم مسائل كثيرة إذا اشتبهت عليه ردَّها إلى هذه الأصول الواضحات، فاتضح له علم ما ربما أشكل أو خفي في بعض المواضع.(5/5)
فعلم الحديث وفهم كلام العلماء على الأحاديث ينبغي أن يكون متسلسلا بحسب أهمية تلك الأحاديث، فكما ذكرت لكم سالفا أنّ هذه الأربعين النووية مهمة؛ لأن في شرحها بيان كثير من الأصول الشرعية، التي إذا استوعبها طالب العلم رَدَّ إليها ما أَشكل عليه؛ تجد مثلا أن العالم أو طالب العلم إذا وردت عليه مسألة مشكلة، ربما لم يطَّلِع فيها على كلام لأهل العلم، وهي مشكلة، فيرد ذلك المشكل إلى ما يعلمه من الأصول الشرعية التي دلت عليها أدلة الكتاب أو أدلة السنة، فيتضح له الإشكال؛ لأنه مما يميز أهل العلم أنهم يردون المتشابه إلى المحكم.
فإذا ضبط طالب العلم المحكمات من الأدلة الواضحات البينات، وتبَيَّن له كلام أهل العلم الراسخين عليها، فإنه يستطيع بفضل الله ونعمته ورحمته أن يردّ ما يشكل فيما يقرأ، أو فيما يسمع، أو ربما فيما يُورد عليه من سؤال، أو في مجلس من حديث، أو نحو ذلك، يرد ما أَشْكَل إلى ما اتضح له أو يتوقف فيه.
وهذا هو الفرق ما بين طالب العلم المُؤَصَّل وطالب العلم الذي يقرأ فقط؛ فطالب العلم المؤصّل يكون عنده بناء المحكمات شيئا فشيئا في العقيدة والحديث والفقه، فلا تجد أنه يضطرب عند إيراد المشكلات، أو أنه يغير رأيه تارة هنا وتارة هناك، كما قال الإمام مالك رحمه الله ”من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل“؛ لأنه لا يكون عند كل أحد من العلم بالشريعة وفهم أصولها وفروعها والمحكمات ما يمكنه أن يرد الشبه، أو يرد الإشكالات إلى ما أُحْكِمَ من أدلة هذه الشريعة العظيمة.(5/6)
لهذا لا بد من أنْ يؤخذ العلم شيئا فشيئا، وأن تُفْهَمَ شروح أهل العلم على الأحاديث على مر الأيام والليالي، فيتحصل طالب العلم على حصيلة علمية متينة يكون معها إنْ شاء الله تعالى وضوح الشريعة، وفهم الأدلة، وهكذا كان يسير العلماء، فيحرِصون على فهم الأولويات، فهم الأشياء، أو الأحاديث التي هي مختصرة أو جوامع أو كليات، ثم ينتقلون إلى المطولات بحسَب الحاجة.
وقال أيضا عند شرحه للحديث الخامس: وعن أمِّ المؤمنين أمِّ عبدِ الله عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه البخاري مسلم]، وفي رواية لمسلمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». ما يلي :
هذا الحديث حديث عظيم جدّا، وعَظَّمَه العلماء، وقالوا إنه أصل في رد كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة، فهو أصل في ردّ البدع في العبادات، وفي ردّ العقود المحرمة، وفي ردّ الأوضاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات، وفي عقود النكاح، وما أشبه ذلك، ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكا في ردّ كل مُحدَث، كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا الحديث حرصا عظيما، وأن يحتج به في كل مورد يحتاج إليه فيه في رد البدع والمحدثات، في الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فإنه أصل في هذا كلِّه.
وقال في الوجه الأول من الشريط الخامس.
عند شرحه للحديث الثاني عشر «مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»:(5/7)
فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرتُ- القول أو السماع، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك، أو لا تعنيك في دينك، أو الحرص على معرفة الأخبار، أخبار فلان، وإيش عمل، وأيش سوَّى وقال وفعل، وخبره مع فلان، وأيش عندك من الأخبار، وأيش قال فلان، والناس أيش عملوا، ونحو ذلك، فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال، وفضول ما يسمع.(5/8)
فإذن هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا وجوبا أن نحرص على حسن الإسلام؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع، الكلام، الأسئلة التي ليس لها داع، يأتي يستفصل، وتارة مع من هو أكبر منه، أو من قد يحرج باستفصاله، وتدقيق في الأسئلة، تجميع الأخبار عن الناس، وهذا فَعَل، وهذا ترك، وهذا ذهب، وهذا جاء إلى آخره، والتحدث بها، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه، ولهذا نقول: في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ فإنّ من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، ما لا يعنيه في دينه، ما لا يعنيه في أمر دنياه، ما لا يعنيه من الأقوال، ومما يَسمع أو مما لا يُسمع، وأشباه ذلك، فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه، وصلاح عمله، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون، ولهذا قال بعض السلف في أناس يُكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال: هؤلاء خفَّ عليهم العمل، فأكثروا الكلام، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل، نجلس مجالس طويلة ساعة، ساعتين، ثلاث في كلام مكرّر، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأمَّلها كثيرة، تجد أنه يتوسع في مباح، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة، وهذا ليس من صفة طلاب العلم، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفعٌ له، يعني فيما يعنيه مما أُمر به في الشريعة أو حُثَّ عليه، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الخامس.
عند الحديث السادس عشر الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رجلاً قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، قال«لاَ تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قال «لاَ تَغْضَبْ»:(5/9)
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم، فحرى بطالب العلم، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه، والصفة التي تحمل عليه الحلم والأناة، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما.
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قَصص متنوعة، ولهذا نقول قوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَغْضَبْ) ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا، ومع أهلينا ومع الصغار، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله، كلما كان أقرب إلى الله جل وعلا، وهذا من صفات خاصة عباد الله.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الثامن.
عند شرحه للحديث التاسع والعشرين حديث معاذ بن جبل:(5/10)
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (قلتُ: يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) هذا فيه ما ينبغي التأدب به؛ على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورحمه، من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة ويباعده عن النار، قال معاذ (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه؛ ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار. لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يُقرِّب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: ”إن للعلم طغيانا كطغيان المال“، فالعلم يُطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقرِّبه إلى الجنة، ويباعده عن النار. فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله جل وعلا؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل. لهذا سأل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله جل وعلا أن يسأل ليبصِّر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار. قال عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله تَعَالى عَلَيْهِ»). هذا السؤال العظيم ”ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار“، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.(5/11)
وقال في الوجه الثاني من الشريط العاشر.
عند شرحه للحديث السادس والثلاثين:
قال (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ) وهذا فيه الحثّ والترغيب على سلوك طريق العلم، والرغب فيه، فأي طريق من طرق العلم سلكته، فإنّ الله جل وعلا يسهل لك به طريقا إلى الجنة، بشرط إخلاصك في طلب العلم؛ لأن العلم باب من أبواب الجنة، والجنة لا تَصلح إلا لمن علم حق الله جل وعلا؛ فمن طلب العلم، ورغب فيه مخلصا لله جل وعلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة.
تم بحمد الله(5/12)
نصائح لطلبة العلم
منتخبة من
شرح ثلاثة الأصول
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الرحمة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الأخيار الكرام ومن تبعهم على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
هذه المجموعة الثانية من النصائح وهي ملتقطة من شرح ثلاثة الأصول للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ لطلبة العلم لعلنا نحصِّل بها حكمة، وقد قال الشاعر وما أحسن ما قال:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
فأرجو من الله عز وجل أن يرزقنا العمل بما نعلم وأن يزيدنا علما نافعا، آمين.
أخوكم:سالم الجزائري
وقال في أول شرح ثلاثة الأصول الشريط الأول والوجه الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بالحق وأن يمن علينا بالالتزام به، وبالثبات عليه، حتى يتوفانا وهو راضٍ عنّا.
هذه الدروس متنوعة، منها درس في ثلاثة الأصول وهي رسالة لإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وبعدها درس في الورقات للجويني في أصول الفقه, وهذا بعد العصر, وبعد المغرب إن شاء الله تعالى, يكون ثَم درسان؛ الأول في التفسير؛ وسنفسر إن شاء الله تعالى سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ المسماة سورة الملك، وبعدها درس في الحديث؛ نشرح فيه إن شاء الله تعالى، ما نتمكن من شرحه من الأربعين النووية، على وجه الاختصار والإيضاح إن شاء الله تعالى.(6/1)
سبب الاختيار، أن هذه الدروس مدتها وجيزة أولا من حيث الزمن؛ لأنها مُقْتَطَعة من هذه العطلة، وبالتالي هي غير متصلة، فلهذا يناسب أن يشرح فيها أشياء تُنبه طلاب العلم إلى ما يجب أن يسلكوه في طلب العلم؛ لأن الكثير من الشباب يحب العلم، ويروم طلبه, لكنه لا يوفق إلى الطريق الصحيح لطلب العلم، فمنهم من مضى عليه سِنُون عددا يقرأ وربما يبحث، لكن لو فتّش في نفسه لوجد أنه لم يحصل من العلم ما به يكون على أرض يمكنه المشي عليها في طريق العلم اللاّحد الطويل؛ وسبب ذلك أنه فقد التأصيل العلمي الذي كان يعتني به العلماء منذ قرون كثيرة.
رسالة ثلاثة الأصول, رسالة مهمّة لكل مسلم، وكان العلماءُ -أعني علماءنا- يعتنون بها شرحا، في أول ما يشرحون من كتب أهل العلم، ذلك؛ لأن فيها الجواب عن أسئلة القبر الثلاث؛ ألا وهي سؤال الملكين العبد عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وهي ثلاثة الأصول يعني معرفة العبد ربه؛ وهو معبوده، ومعرفة العبدِ دينه؛ دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن هاهنا جاءت أهمية هذه الرسالة؛ لأن فيها من أصول التوحيد والدين الشيء الكثير.
وأصول الفقه مهمة أيضا والعناية بها ضعيفة فيما أحسب وأسمع، وتأتي أهميتها لأنه كثر المجتهدون دون معرفةٍ لأصول الاستنباط، والاستنباط له أصوله؛ أصول الاستنباط هي أصول الفقه, فكم سمعنا من متكلم في مسائل شرعية, لم يحسن الكلام عليها تأصيلا و لا استنباطا, ويظن أنه محسن مصيب في استدلاله, لم؟ من أين أتاه الغلط؟ أتاه من ضعفه بأصول الفقه, نعم, إن هذه الورقات مقدمة في أصول الفقه, لم تشتمل من أصول الفقه إلا على أشياء يسيرة, فلا تهيئ تلك الرسالة طالب العلم إلى أن يفهم الأصول كما ينبغي, ولكنها تعطيه مفاتيح يدخل بها بيت أصول الفقه.(6/2)
وأما التفسير, تأملتُ فترة فيما أختاره في التفسير, هل أختار تفسير سورة الفاتحة؟ أم أختار تفسير جزء عم؟ باعتبار أنه كثيرا ما يقرأ في المساجد في الصلوات الجهرية, وربما قرأه كثيرا من المسلمين, بله طلاب العلم في صلاتهم، وربما لم يدركوا، أو لم يعلموا كثيرا من معاني التي يتلونها كثيرا ويسمعونها كثيرا, لكن لقصر الوقت نظرت في أن سورة تبارك اشتملت على أصول عظيمة, ويمكن ببيان وتفسير آياتها ما يُنبه طلاب العلم على ضرورة الاعتناء بالتفسير, خاصة تفسير الآيات التي تحفظُها, والتي تقرأُها في صلاتك والتي تسمعها، فكم يُعاب المرء أن يَسمع كلاما يردد عليه وهو يجهل معناه، تُردد عليه قصار السور وربما جهل بعض تلك المعاني، ليس الجهل عيبا, لكن الإصرار على الجهل هو العيب, وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي حيث قال:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
وأنتم أيها الشّبَبَة قادرون بلا شك على التعلم، قادرون على الفهم, قادرون على الفقه, لكن العيب يأتي من إضاعة الوقت في غير ما ينفع, التفسير مهم ومعرفة معاني الآيات وسيلة –لاشك- من وسائل الثبات على الإيمان, وتحصيل العلم النافع.
بعد التفسير الأربعون النووية, وهذه الأربعون النووية جمعت أحاديث، شهد العلماء بعد محي الدين يحيى بن زكريا النووي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- على حسن اختياره لها, وعلى أنها جمعت الأحاديث التي عليها مدار الإسلام, لهذا اعتنى العلماءُ بشرحها؛ هذه الأربعون, ينبغي لنا أن نحفَظَها, وينبغي أن نفهم معانِيَها, وأن نقرأَ ما قاله العلماء في شرحها.(6/3)
هذه مقدمات لهذه الدروس, هذه المقدمات التي قدمتُ بها, أردتُّ منها أن أرشدك إلى أن العلم لا يُنال مرة واحدة, وإنما يُنال العلم على مر الأيام والليالي, كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى، فيما رواه ابن عبد البر في كتاب الجامع قال: "من رام العلمَ جملة ذهب عنه جملة، إنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي" وهذا حق, العلم يبدأ بتحصيل صغاره قبل كباره، إذا حصلت صغار المسائل قبل الكبار فأنت على طريق العلم، وأما إذا ابتدأت بالكبار دون معرفة الصغار؛ صغار المسائل؛ واضحات المسائل, وابتدأت بالكبار التي فيها خلاف، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى ترتيب, تنازع العلماء فيها, كما هو ديدن بعض طلبة العلم، أو بعض المبتدئين في العلم، فإنه يذهب عنك العلم، لهذا أأكد على ضرورة تأصيل العلم والسير فيه خطوة فخطوة, وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
وهذا واقع، وقد ذكر الخطيب البغدادي بإسناده في كتاب الجامع ببيان أدب السامع، ذكر حكاية عن أحد رواة الأحاديث، بأنه طلب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ، وأخذ عنهم، لكنه لم يحفظ، مرت عليه الأيام ولم يحفظ، لم يفهم، ومضى الوقت وهو على هذا فظن أنه لا يصلح للعلم فترك العلم، فبينما هو يسير مرة إذا بماء يتقاطر على صخرة، وهذا الماء قد أثَّر في الصخرة، فحفر فيها حفرة، فنظر متأملا فقال: هذا الماء على لطافته أثر في هذا الصخر على كثافته، فليس العلم بألطفَ من الماء، يعني بأخف من الماء، وليس قلبي وعقلي بأكثف من الصخر، ورجع يطلب العلم من جديد، وحصَّل وأصبح من رواة الحديث الذين لهم شهرة.
إذن فالعلم يحتاج إلى مواصلة ما نيأس نواصل, نواصل, نحفظ، ندارس, لكن ينبغي بل يجب أن يكون على أصوله خطوة فخطوة، ومن بدأ من الأهم ثم أعقبه بالمهم، فإنه يحصّل إن شاء الله تعالى.
?????(6/4)
وقال في الوجه الثاني من الشريط الأول
لأجل أن هذه الرسالة؛ رسالة علم، كلها شرح وبيان للمسألة الأولى، للواجب الأول، ألا وهو العلم، فينبه طالب العلم أن العلم مهم, مهم للغاية، حتى إنه قبل القول والعمل، فقبل أن يستغفر العبد، لابد أن يعلم العلم الواجب عليه، وهذا العلم هو الذي ينجيه بنفسه، هو الذي ينجي به نفسَه -بفضل الله جل وعلا- إذا سئل عن هذه المسائل الثلاثة.
الشيخ رحمه الله تعالى يريد أن يبين لك، ثلاثة الأصول هذه، والمسائل المتعلقة بها، فأكد لك أهمية العلم بقوله، فيما ساق عن البخاري (باب العلم قبل القول والعمل)، العلم قبل ولاشك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال، يقول:والجهلُ داءٌ قاتل. صدق؛ الجهل داء قاتل، قال:
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
[نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث]([1]) مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
بين أن الجهل داء قاتل، بما يُزال الجهل؟ قال (بنص من القرآن أو من سنة).
من طبيب ذاك الذي يرشدك ويبين لك؟ قال(وطبيب ذاك العالم الرباني), ليس كل منتسب للعلم ولكن هو العالم الرباني، الذين وصفهم الله جل وعلا في سورة آل عمران، بقوله ?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ?[آل عمران:79].
ثم بين العلم هذا ما هو -الذي تسعى إليه-؟، فقال (علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للديان)، هذه شملت التوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.(6/5)
ثم قال العلم الثاني ما هو؟ قال(والأمر والنهي الذي هو دينه) يعني الفقه؛ الأمر والنهي، الأحكام؛ الحلال والحرام، هذا مأمور به، وهذا منهي عنه، هذا افعله، وذاك لا تفعله، هذا النوع الثاني من العلم النافع.
والثالث (وجزاءه يوم المعاد الثاني) الذي هو العلم بما يكون يوم القيامة، ووسائل ذلك.
الشيخ رحمه الله تعالى يقول (العلم قبل القول والعمل)، نعم، وصدق رحمه الله، فالعلم إذا كان قبل القول والعمل بورك لصاحبه في القليل، وإن كان العملُ و القول قبل العلم ربما كانت الأعمال و الأقوال جبالا، ولكنها ليست على سبيل نجاة، ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم وجماعة عن أبي الدّرداء أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبِطُنا سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة مع بِرٍّ ويقين أعظم عند الله من أمثال الجبال عبادةً من المغترين» يقول يا حبذا، يعني يتمنى نوم الأكياس, الأكياس من؟ (إن لله عبادا فطنا) هؤلاء هم الأكياس الذين حيوا؛ قلوبهم صحيحة، عقولهم صحيحة، يقول يا حبذا نوم الأكياس؛ أهل العلم، وإفطارهم، ناموا، والحمقى على كلام أبي الدرداء سهروا ليلهم في صلاة، لكن هؤلاء لا يستوون عند أبي الدرداء مع أولئك؛ لأن أولئك عبدوا الله جل وعلا على جهل، وهؤلاء عبدوا الله بعبادات قليلة، ولكنها مع علم وبصيرة فكانوا أعظم أجرا، بحيث قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ولمثقال ذرة مع بر ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
لهذا نقول العلم في غاية الأهمية, العلم في غاية الأهمية، ويُبدأ به قبل أي شيء, خاصة العلم الذي يصحح العبادة، يصحح العقيدة، يصحح القلب، ويجعل المرء في حياته يسير على بيِّنة وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس على جهالة.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الثالث(6/6)
مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال أن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة؛ تُنوِّع الاستدلال؛ مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثَم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الرابع
الذبح من العبادات العظيمة، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح، وكيف تكون لله جل وعلا، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه، يتعلم كيف يكون حال الذبح؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد، أو لغيرها، أن يكون موحدا تماما، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها، وفيه أيضا حركة اليد، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الخامس
على طالب العلم أن يكون معنى الشهادتين واضحا في قلبه، واضحا في ذهنه، فاهما له، بحيث يستطيع أن يعبر عن ذلك بأيسر عبارة وبتنوع العبارة؛ لأن أعظم ما يدعا إليه ما دلت عليه الشهادتان.
فعلى طالب العلم أن يعوّد لسانه على تفسير الشهادتين بتنويع العبارة، وعلى حفظ الأدلة التي فيها معنى الشهادتين، وعلى تفسير ذلك.(6/7)
وإذا دَرَبَ على ذلك، فسوف يرى أنه ستفتح له أبواب بفضل الله جل وعلا وبرحمته بمعرفة التوحيد وحسن التعبير عنه، وأما أن يترك طالب العلم نفسه لفهم ما دلّت عليه، دون أن يمرن نفسه على تأدية المعنى وتعليمه لأهله وللصغار، ولمن حوله ولمن يلقاه ممن لا يعلم حقيقة معنى هذه الكلمة، فإن هذا تضيعه النفس ولا يصدق على فاعله أنه طالب العلم؛ لأن العامي هو الذي يفهم ذلك؛ يفهم ذلك فهما، لكن لا يستطيع أن يعبر عن فهمه بالتعبير العلمي الصحيح، وأما طالب العلم فعليه أن يهتم بأصل الأصول هو تفسير الشهادتين، ومر معنا بعض ما يتصل بتفسيرها.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يجعل ألسنتنا لاهجة بالثناء عليه وبذكره، وجوارحنا مقيمة على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
تم بحمد الله
---
(1) غير موجودة فربما الشريط هو المقطوع.(6/8)
طالب العلم و الكتب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد:
فأسأل الله جلَّ وعلا أن يجعل هذه السنَّة لنا سنة خير وعلم وعمل وتقى وصلاح وأن يزيدنا فيها من العلم النافع والعمل الصالح وأسأله جلَّ وعلا أن يقوي همتنا في العلم والعمل وأن يعلي عزمنا في درس العلم وتحصيله والمحافظة عليه والثبات على ذلك وكمقدمة لدروسنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى نتحدث كالعادة بحديث عام مما يسنح في الخاطر بما يكون معه النفع إن شاء الله تعالى وحديثنا سيكون عن ((طالب العلم والكتب)).
من المعلوم أن العلم يتلقى بأحد طريقين إمَّا عن طريق المشافهة والسماع ومجالسة أهل العلم وأخذ العلم عنهم سماعًا وإمَّا أن يكون عن طريق الكتب بالمطالعة والنظر والاستفادة والأوَّل هو طريق الثاني والثاني صوابه مبني على الأوَّل كما قال بعض أهل العلم ((كان العلم في صدور الرجال ثم صار في بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)) يعني أنَّ طالب العلم الكتب له مهمة ولكن هذه الكتب إنَّما يُحْسٍنُ التعامل معها ويحسن فهمها من أسَّسَّ نفسه عن طريق طلب العلم على أهل العلم وخالطهم وفهم مراد أهل العلم بكلامهم فيما دونوه في الكتب.(7/1)
التدوين، تدوين العلم في الكتب قديمٌ في الناس فكانت الحضارات السالفة لحضارة الإسلام كانوا يعتنون بالكتابة، وكانت كتب الله جلَّ وعلا تكتب كما قال جلَّ وعلا: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يدرسونَها} وقال جلَّ وعلا: {فيها كُتُبٌ قيِّمة} وربنا جلَّ وعلا خَطَّ لموسى عليه السلام في الألواح وكتب له فيها وبقيت الكتب في الناس يتداولونها بالكتابة وكان من الأمور المهمة أن تحفظ من التغيير والتبديل وأن يًهْتَمَّ بها الناس وأن يحافظوا عليها وهذه المسألة عامة في الأمم وكتب الله جلَّ وعلا جعلها الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحانًا للأمم هل يحافظون عليها أم لا فحصل في الكُتُبِ قبل القرآن عدم المحافظة حيث دخلها التحريف في اللفظ ودخلها التحريف في المعنى بما هو معلوم وخصَّ الله جلَّ وعلا هذا القرآن وعلوم نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسَّلام خصها بالحفظ كما قال جلّ وعلا {إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون} والذكر هنا هو القرآن، والسنة المبينة له محفوظة أيضًا فالله جلَّ وعلا حفظ القرآن وحفظ السنة ومعنى ذلك أن هناك أشياء مما يكتب يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل فليس كل ما كُتب يعدٌّ صحيحًا وليس كل ما زُبِرَ في الورق عُدَّ نافعًا وصوابًا بل لا بدَّ أن يكونَ من العلم المحفوظ ويكون حفظه حفظ ألفاظه وحفظ معانيه أيضًا من التغيير والتبديل في أوائل هذه الأمة ما كتب من الصحابة السنة إلاَّ نفرٌ قليل وهكذا فيمن بعدهم كتبوا أشياء من التابعين كما هو معلوم في صحيفة همام بن مٌنَبِّه عن أبي هريرة وكغيرها كتبوا أشياء من السنة وحفظت أيضًا رسائل للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك الأطراف وإلى عماله والأمراء عليه الصلاة والسلام وكذلك حفظت رسائل للخلفاء الراشدين وللأمراء من بعدهم ومراسلات الصحابة فيما بينهم حتَّى جاء وقت تدوين العلم فصنِّفت المصنفات ودونت وتوسع الناس في ذلك حتَّى صار التصنيف في كل أنواع العلوم(7/2)
فصنف أول ما صنف في الحديث والسنة ثم صنف في التفسير ثم صنف في اللغة ومعاني القرآن ثم توسعت التصانيف والكتب لمَّا كان الأمر كذلك العلماء أوصوا الطلاب بحفظ الكتاب من التغيير والتبديل لأن الكتاب يكتب وينسخ والنسخ والكتابة إذا كانت صحيحة فإنَّ الكتاب يكون صحيحًا وإذا كانت الكتابة غير دقيقةٍ وكان النسخ غير دقيق دخل من الخلل في العلم من جهة عدم الدقة في الكتابة وعدم الدقة في النسخ ولهذا ذَكَرَ طائفة من الأدباء ومنهم الجاحظ في كتابه ((الحيوان)) وذكره غيرهُ أيضًا أن من أهل العلم من كان يقتني من الكتاب الواحد ثلاث نسخ برواية واحدة وربما إذا تعددت الروايات أيضًا حرصوا أكثر على إقتناء كل الروايات التي رٌوي بها الكتاب وهذا لأجل الحرص على دقة العلم ودقة تلقيه لأنَّه ربما اختلف لفظ عن لفظ أو سقطت جملة أو تحرف في موضع فبان في الموضع الآخر. أهل العلم أوصوا طلاب العلم أن يحرصوا جدًّا على كتبهم بأن يكون الكتاب محفوظًا من التغيير والتبديل وأن يكون التقييد عليه له آدابه وأن يكون طالب العلم فيما يكتبه على الكتاب بعد نسخه من تعليقات ومن حواشٍ ومن فوائد ومن مطالب وأشباه ذلك أن يكون دقيقًا فيما يكتب حتَّى يتسنى له أن يستفيد مما كتب وحتَّى لا يتغير الكتاب بكتابة في أثناء الأسطر وأشباه ذلك لهذا جعل أهل العلم في كتب الرواية وكتب طلب العلم جعلوا آدابًا لطالب العلم في تعامله مع الكتاب، فالكتاب لطالب العلم أشبه ما يكون بأحد أعضائه فكُتُب طالب العلم خلاياه التي يعيش بها وهي سمعه وبصره الذي لو فقده لضعف في العلم شيئًا فشيئًا وترى أن الذي يَضْعُفُ في المطالعة ويَضْعُفُ في النظر في العلم وفي القراءة تجد أنَّه يضعف قليلاً قليلاً يُنسى العلم شيئًا فشيئًا حتَّى يكون أٌمِّيًا بعد مرِّ سنين من الزمان وهذا لأن مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب وهذه الصلة لها(7/3)
آدابها ولها رونقها ولها شروطها التي بينها أهل العلم في كتبهم ككتاب مثلاً (الجامع) لابن عبد البر وكتاب ابن جماعة في أدب الطلب ((تذكرة السامع والمتكلم)) وكتب كثيرة في هذا ذكروا كيف يتعامل طالب العلم مع الكتب ونذكر من هذا أشياء وقبل أن ندخل في الآداب العامة فإنَّا نذكر أنّ اهتمام طالب العلم بكتبه يدل على اهتمامه بالعلم فمن الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها:
أوَّلاً: أن يرتب كتبه حتَّى يتسنى له أن يراجع إذا كانت مسألة يحتاج أن يراجع لها بعض الكتب فلا بدَّ له من أنْ يرتبها وترتيب الكتب بحسب حال هذا الطالب فإذا كان يحتاج إلى أن يرتب كتب التفسير جميعًا وكتب الحديث جميعًا ويصنف التفسير إلى علومه والحديث إلى علومه والفقه إلى مذاهبه وأشباه ذلك فلا بأس وإذا كان يرى ثمَّةَ ترتيب آخر له يرى أنه أنفع له فلا بأس، المقصود أن يكون الكتاب في مكانه الذي إذا احتاجه طلبه، والكتب على قسمين: كتب كبيرة وكتب رسائل صغيرة أمَّا الكتب الكبيرة فهذه سيراها في المكتبة لأنَّها كبيرة عشر مجلدات وخمسة عشر مجلد وثلاثة وأربعة فهذه ظاهرة ولكن الذي يحتاج إلى العناية به الرسائل الصغيرة التي هي مهمة وربما يكون فيها من العلم ما ليس في الكتب الكبار إذا احتاج أن يراجع كتابًا منها أو رسالة فبحث عنه لا يجده لِمَ؟ لأنه ما وضعه في مكانه المناسب وهذه الرسائل الصغيرة ينبغي أن يهتم بها في أن تكون في مكان مستقل يعني أن لا تكون ضمن البحوث أو ضمن الكتب الكبيرة فيضع كتابًا كبيرًا وبجنبه كتاب صغير عبارة عن أوراق وبجنبه رسالة أربعين صفحة أو خمسين صفحة إلخ وهذا النوع اعتنى به العلماء حيث وضعوا له ما أسموه بالمجاميع ترون في فهارس المخطوطات ما يسمَّى مجموع، المجموع عبارة عن مجلد أو أكثر فيه عشر رسائل أو فيه اثنا عشرة رسالة أو أكثر من ذلك. فإذا تهيأ لطالب العلم أن يجمع هذه الرسائل الصغيرة في مجموع ويجمع النظائر في مجلد(7/4)
يعني يجعل الرسائل التي في آداب طلب العلم في مجلد مستقل أو الرسائل التي في مصطح الحديث الصغيرة في مجلد مستقل أو الرسائل التي في علوم التفسير أو علوم القرآن يجعلها مجموعة أو ما أشبه ذلك، كذلك الكتب والرسائل الفقهية يجعلها مستقلة ومن المناسب في الكتب والرسائل الفقهية أن يبوبها على حسب أبواب الفقه مثلاً يجعل رسالة في الجنايات في موقعها في الفقه فيرتب الكتب يبتدئ بالرسائل التي في الطهارة ثم الرسائل التي في الصلاة ثم الصلاة أيضًالا يرتبها في داخلها شروط الصلاة أولاً ثم يجعلها بلأحكام التي فيها سجود السهو يجعلها في مكانها التي في الزكاة أيضًا يجعلها بعد الصلاة وهكذا في نظائرها يعني أن يرتب هذه الرسائل الصغيرة التي قد لا يصل إليها لو احتاج في خضم كتبه أن يرتبها بحسب موضوعات الفقه كذلك غيرها من العلوم في التاريخ أو في العقيدة أو ما أشبه ذلك يجعل العقيدة العامة مستقلة في الكتب أو الرسائل العامة في العقيدة أو التي تبحث في مسألة في العقيدة يرتبها عن مباحث العقيدة حتَّى يتسنَّى له مراجعة ذلك إذن أول أدب أن يحسن الترتيب والترتيب ترتيب المكتبة هو عنوان طالب العلم في عنايته بكتبه أمَّا إذا أتى وكان المكان متيسرًا ووجدت أن الكتب مبعثرة إلخ فهذه لها أحدٌ احتمالين إما أن يكون من كثرة بحثه وكثرة مطالعته للكتب جعلها تنتشر وهذا أمر محمود لكن لا بد أن يكون بعدها يرجعها إلى ترتيبها وإمَّا أن يكون هو أصلاً غَير مرتب وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه في قضاة مصر الذي سماه ((رَفْعٌ الإِصْر عن قُضَاةٍ مِصْر)) تَرْجَمَ لأحد القضاة قضاة مصر حيث تولى القضاء وكان يجلس في مكان فيه كٌتُبُه وكانت كتبه حَسَنَةَ التصفيف، مصففه بطريقة جملة فدخل عليه أحد الناس من طلاب العلم وقال له ما أحسن تصفيف هذه الكتب قال الحافظ ابن حجر يُعَرِّضُ به أن حسْنَ تصفيف الكتب يدل على عدم المطالعة فيها وعدم الاشتغال ففهم القاضي هذا(7/5)
وأسرها في نفسه قال حتَّى تولَّى هذا الرجل الذي انتقد القاضي بحسن تصفيف كتبه قال تولى الكتابة للناس في أنكحتهم يعني عقود النكاح وما يُسَمَّى مأذون الأنكحة، فَعَثر منه القاضي على غلطة منه في أحد صكوك النكاح قال فَعَزَّرَهُ تَعْزِيرًا بليغًا حافظ تلك الكلمة المقصود أنَّه استدل بحسن التصفيف على عدم الاشتغال وهذا ليس بمُطَرِّد بل طالب العلم إذا أراد أن يشتغل بفنٍ أو ببحث فيجلب عددًا من الكتب تكون أمامه ويبحث في هذا وهذا وإذا إنتهى منها أرجعها في أماكنها حتَّى يتسنَّى له أن يطالعها.(7/6)
الأدب الثاني: من آداب التعامل مع الكتب أن يهتم طالب العلم بالنُسَخ المصححة، في القديم كان الكتاب يشتري من الورّاقين يقال فلان ورَّاق يعني عنده مكان ينسخ فيه الكتب ويبيعها أو يبيع لمن أراد أن يبيع كتبه يسمَّى هؤلاء الوراقون الذين يعتنون بنسخ الكتب باليد أو بيع الكتب وهؤلاء الوراقون منهم المعتني ومنهم غير المعتني وأشبه ما يكون في هذا الزمن بالمطابع المطابع الموجودة الآن هي ورثت عمل الوراقين فيما مضى من الزمان لهذا نقول إن صنعة الورَّاقين فيما مضى تناولها أهل العلم بالتحليل وأن طالب العلم يحرص على أن يشتري كتابًا مصححًا مدققًا أو أن ينسخ بيده ويقابل ما نسخ بأصله أو أنْ يشتريَ كتابًا ويقابِلَه بنسخة معتمدة مقروءة على أهل العلم وأشباه ذلك يعني أن طالب العلم مع الكتب لا بدَّ له من أن يعتني بالنسخ الصحيحة في النسخ المخطوطة أو في المطبوعات وفي هذا الزمن عناية جلّ طلاب العلم بالمطبوعات ولهذا نقول المطبوعات كثيرة وقد ابتدأت الطباعة باللغة العربية منذ أكثر من خمسة قرون يعني منذ أكثر من خمسمائة سنة ابتدأت الطباعة بالعربي يعني من نحو سنة ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة بالميلاد لأنها هكذا أُرِّخت يعني من نحو خمسمائة سنة أو أربعمائة سنة وزيادة وأكثر ما طبع في اللغة العربية في البلاد العربية والإسلامية منذ نحو مائتين سنة من الزمان وما قبل ذلك تطبع في بلاد الغرب لاهتمامهم بالطباعة المقصود من هذا أنَّ الكتب طباعتها قديمة واليوم الذي يطرح في السوق أنواع من دور النشر وأنواع من الكتب وأنواع من أسماء المحققين أو أسماء المصححين إلخ ولهذا حصل مرات أنه تنقل عبارات وجمل عن كتب مطبوعة مؤخرًا وتكون طباعتها غير صحيحة وغير دقيقة فيقع الخلط كما حصل لي مثلاً عدة مرات في قاعات الجامعة من أني أقرر شيئًا مثلاً بناء على نسخة من المطبوعات الصحيحة ويأتي بعض الطلاب مجتهدًا ويبرز الكتاب الذي طبع مؤخرًا فإذا(7/7)
الكلام الذي فيه غَيْرُ صحيح لأنَّ الطَبَعَات المتأخرة ليست كلها معتنى بها وهكذا الطبعات المتقدمة، إذن فالمطبوعات سواء منها ما طبع قديمًا أو ما طبع حديثًا لا بدَّ لك من البحث هل هذه الطبعة صحيحة وإذا أردت أن تعتني بشراء كتاب أو أن تعتني بعلم ما فلا بد أن تحصل الكتب الصحيحة المطبوعة بدقة فيه فتسأل أهل العلم أو الذين يعتنون بهذا الجانب فتقول مثلاً الكتاب الفلاني ما النسخة المعتمدة منه مثلاً تقول تفسير القرطبي ما أصحُّ نُسَخِهِ. تفسير الطبري ما أصح نسخه. صحيح البخاري ما أصح نسخه التي تقتنيها وتكون عندك في المكتبة ما تحتاج معها إلى نسخة أخرى الملاحظ اليوم مع كثرة المطبوعات تجد أن دور النشر تطبع لغرض التجارة بطبعات لا تأمنها فلهذا ينبغي لك أن تسأل عن الطبعة التي تقتنيها أو الطبعة التي تريد شراءها فلا تشتري أي كتاب طرح أمامك بل تسأل عنه وتعرف دار النشر التي أصدرته وإذا كان اعتنى به أحد المحققين تسأل هل هذا المحقق دقيق أو غير دقيق هل هو تجاري أو غير تجاري إلخ يعني أن اهتمام طالب العلم بالنسخة الصحيحة التي يقتنيها لابد منه تشتري مثلاً كتاب بعد السؤال عنه تقول مثلاً تفسير القرطبي النسخة الصحيحة منه ماهي فإذا أجبت على هذا السؤال ذهبت وحرصت أن تقتني هذه النسخة سواء كانت مطبوعة أو مصورة أو مطبوعة طبعًا حديثًا بالكمبيوتر بعني أن تحرص على النسخ الصحيحة من الكتب الملاحظ أنَّ من جهة نظري فيما بأيدي الإخوان من الكتب أنَّ كثيرًا منها يكون نسخًا غير صحيحة تكون نسخة لكن غير دقيقة اعتنى بها أحد الناس عناية لا تسمَّى عناية أو يقال إنَّا صححت بمعرفة الناشر أو ما أشبه ذلك ويكون فيها من الأغلاط والسقط وأشباه ذلك ما يعيبها ولا يصلح أن تقتنى لطالب علم يرجع إليها ويبحث من خلالها إذن فالأدب الثاني أن يحرص طالب العلم على اقتناء النسخ الصحيحة سواءً كانت مطبوعة طبعات قديمة أو كانت مطبوعة حديثًا المهم أن(7/8)
تكون نسخة صحيحة فيعرف دور النشر المعتنية الدقيقة ودور النشر التي لا تعتني حتَّى يميز يعرف المحققين الذين يتاجرون والمحققين الذين يعتنون بتحقيقاتهم ويعرف أيضًا مزايا الطبعات وتعدد الطبعة للكتاب الواحد وميزة هذه على هذه، نتفرع من هذا إلى أن طالب العلم الي يعتني برؤية التحقيقات وما يعمله المتأخرون من حواشي وتعليقات لا بدَّ له أن يعرف أيضًا طبعات الكتاب لأنَّه حصل مثلاً أن المحقق يرجع إلى جزء وصفحة فهذا يظن أن الكتاب إنَّما طبع مرةً واحدة فيذهب ويرجع إلى الجزء والصفحة هذه فلا يجده فيقول إنَّ هذا وَهِمَ أو غَلِطَ أو نحو ذلك وقد يكون الكتاب طبع مائة مرة أو عشرين مرة أو ثلاثين مرة أو خمس أو أربع إلخ فإذن معرفة طالب العلم بطباعة الكتب وعدد مرات طباعتها وميزات هذه وهذه هذا أيضًا من مُكَمِّلات العلم ومن مُلَحِة التي هي من الآداب العامة التي ينبغي لطالب العلم العناية بها.
الأدب الثالث: مع الكتب الحرص على نظافة الكتاب وطريقة حفظه يعني أن يكون الكتاب نظيفًا ليس عليه غبار يعلق به أو يكون متسخًا أو أن يكون عليه كتابات سيئة أو أن يكون يضعه في موضع غير لآئق به يعني أن يضع الكتاب فيما يكون لآئقًا به.(7/9)
فمما لا يليق بالكتب خاصة كتب أهل العلم التي فيها بيان معاني الكتاب والسنة أن تكون عليها الأتربة أو أن تكون متسخة، تنظيف الكتب هذا دليل توقير ما اشتملت عليه وتعظيم شعائر الله وقد قال جلَّ وعلا {ومن يعظم شعائر الله فإنَّها من تقوى القلوب} فإذا كان الكتاب في التفسير أو كان في السنة أو كان في الفقه الحلال والحرام أو في العقيدة فإن النفس تنبعث في المحافظة عليه وفي تنظيفه من إجلال الله جلّ وعلا وإجلال العلم الشرعي الذي هو مأخوذ من الكتاب والسنة، كذلك أن يكون طالب العلم في تعامله مع الكتاب من جهة صيانته وحفظه بأن لا يتخذه صندوقًا لوراقه ورسائله الخاصة أو الفواتير فواتير الكتب ونحو ذلك فتأخذ وتنظر كتابًا من الكتب فتجد أن فيه فاتورة ورسالة، وفيه قلم، وفيه داخلة محاية وإلخ وقد قال بعض العلماء: ((لا تجعل كتابك بوقًا ولا صندوقًا هذا من الأدب المهم مع الكتاب أن لا تجعله صندوقًا يعني أن تجعل فيه الأحلام وتجعله مستودعًا للفلوس والريالات يعني تفتح الكتاب تجد فيه كل هذا ثم تلاحظ أن الجلدة تغيَّرت والكتاب تغير وإلى آخره من جراء عدم الصيانة كذلك لا تجعله بوقًا يعني لا تلف الكتاب لفًا لا يليق به فمثلاً تجد أن بعضهم يلف الكتاب ويأخذه ويجعله كأنَّه بوقًاله هذا لا يليق لأنَّ الكتاب فيه كلام الله جلَّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يليق أن يجعل بهذه المثابة كذلك لا يليق أن تضع عليه كأس ماء أو شاي أو ما أشبه ذلك كتب أهل العلم التي فيها نصوص الكتاب والسنة تجعل أعلى ما تجعل أسفل وتجعل فوقها دفاتر بيضاء وأشباه ذلك وهذا مما يجعل في القلب تعظيمًا لكلام الله جلَّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكل ما استفيد من العلوم من هذين الأصلين كذلك مما يتعلق بحفظ الكتاب أن ينتبه طالب العلم في طريقة الكتابة عن الكتب أحيانًا نرى بعض الكتب يعلق عليها حواشي بحيث أنَّه تضيع فائدتها وقد نهى العلماء،(7/10)
فيما سبق عن الخط الصغير على الكتب أن تكتب الكتب بخط دقيق أو أن يعلق عليها من الفوائد ما يكون بخط دقيق بحيث إذا أراده طالب العلم لم يتهيأ له أن يستفيد منه وندم فيما يُذكر الإمام أحمد مرة على أنَّه كتب أحاديث بخط دقيق لما احتاج لها في كِبَرِهِ لم يحسن أن يستخرج تلك الفوائد لأنَّها كانت بخط صغير وتقارب الحبر مع بعضه حتَّى فاتت الفائدة بعض العلماء لا يكون خطه حسنًا أو بعض طلاب العلم لا يكون خطه حسنًا هذا ليس بعيب لكن أن يرتب الكتابة بحيث تكون بخط واضح ولهذا كان بعض العلماء ممن خطه غير جيد هو نفسه لا يحسن قراءة خطه مثل شيخ الإسلام ابن تيمية كان هناك أحد طلابه هو الذي يستخرج كتابه وقد ذُكر هذا في التراجم ونبَّه عليه الحافظ ابن كثير في الجزء الرابع عشر من البداية والنهاية في سنة وفاة تلميذ شيخ الإسلام قال: ((وكان هو الذي يحسن استخراج الخطبة الثانية ابن تيمية وإذا أراد ابن تيمية أن يأخذ موضعًا لا يستخرجه إلاَّ هو لأن شيخ الإسلام يكتب بسرعة ويشتبه فربما التبس عليه)) لكن هذا من دقته يحسن ذلك لكن هذا قد لا يتهيأ دائمًا -لهذا طالب العلم يحتاج إلى معرفة كيف يكتب على الكتب نبه علماء الحديث في آداب الكتابة أن طالب العلم إذا أراد أن يكتب فيبتدئ في الكتابة من السطر الذي فيه أو عليه التعليق ثم يرتفع إلى أعلى ولا ينزل إلى أسفل يعني قرأت على شيخ أو تعلق على كتاب فأتيت على موضع فتبدأ بالكتابة من هذا السطر إلى أعلى لأنه ربما أتى في السطر الذي بعده فائدة تحتاج إلى الكتابة عليها فألتبس عليك فكيف تكتب؟ تبدأ تُعَرِّج عليه، وإذا كتبتَ إلى أعلى فحبذا أن تكون الكتابة واضحة وفيها نوع ميول متساوي الأسطر حتى أيضًا إذا احتجت إلى ضبط يمكن إدخاله في الفراغات فيما بين الميول، ربما بعضكم رأى بعض الكتب القديمة المحشاة فتجد أن الكتابة أتت على شكل مثلثات هذا ليس عبثًا لكن لأنه يكتب بهذه الطريقة على طريقة(7/11)
الأقدمين لأنَّه قد يحتاج إلى ضبط بعد ذلك فيدخله في هذا الفراغ أو أن يقابل هذا الكتاب بنسخة أخرى فيقول: في هذا الفراغ نسخة كذا وكذا وهكذا فإذن تهتم بوضوح الخط وبأن يكون مرتبًا في معرفة مكان البداية فإذا أتيت إلى ما كتبته أنت وعلقته أعرف أن هذه الجملة التعليق عليها سيكون بهذا الاتجاه وحبذا لو راجعتم كتب المصطلح فقد بَيَّنوا كيف تكتب وتحشي على الكتب في ضوابط لهم وتفصيلات سواء كانت في التضبيب أو بيان الكلمة والتصحيح عليها أو كانت حاشية أو بيان نسخة أو كيف تكتب صحة العبارة أو ما أشبه ذلك فنحيلكم على كتب المصطلح لأنهم كتبوا في هذا وأوفوا المقام...(7/12)
من آداب الكتب أيضًا التي ينبغي العنايةٌ بها أن يكون طالب العلم له فوائد ينتخبها من الكتاب يعني أنَّه إذا قرأ كتابًا لا يثق بحافظته وذاكرته ولو كان شبابًا بل فوائد هذا الكتاب ينتخبها في دفتر خاص عنده أو يشير إليها في ديباجة الكتاب في ورقة في أوله بأن يضع شبيهًا بالفهرس له لأنَّ هذه الفوائد التي تناسبه قد لا تناسب شخصًا آخر فتحتاج أنت إلى أن تراجع ما استفدته من هذا الكتاب، وقبل ليلتين أخذت كتاب ((الفضل المبين في شرح الأربعين)) لجمال الدين القاسمي، من مكانه في المكتبة وقد كنت قرأته منذ نحو عشر سنوات، فلما نظرت في أوَّله فإذا بي قد ذكرت الفوائد التي فيه، وهي فوائد كثيرة تسعين في المائة منها نسبته فبدل أن أقرأ الكتاب مرة أخرى فإذا هذه فائدة وهذه فائدة وهذه فائدة ومن الفوائد التي كانت فيه مثلاً الفرق مابين العالم والعارف ولِمَ عدل الصوفية عن العالم إلى العارف؟ لماذا يقولون العارف فلان ما يقولون العالم هذه من الفوائذ ومن الفوائد أيضًا نقلٌ كان جيدًا ومتينًا عن ابن حزم في ((الفِصَل)) في معنى قضى وقدَّر وقال في آخره جمال الدين القاسمي: ((وهذا ألطف ما قيل في معنى قضى وقدَّر)) أو ((القضاء والقدر)) وأحقه بالقبول؛ وهو كما قال وربما نذكره لكم في مكانه هذه الفوائد التي تكتبها في صدر الكتاب مهمة إذا راجعت بعد حين تجد أنَّ الفوائد أمامك يعني أن الكتاب إذا قرأته أو أن الكتب إذا قرأتها فتنتخب منها ما تراه مفيدًا لك وتجعله في صدر الكتاب في الورقة الأولى على شكل فهرس فيه عبارة مختصرة وهذا لا شك أنَّه مهم جدًا لطالب العلم إذا حصل أن تجعل له دفترًا خاصًا تنتخب فيه ما تحتاجه فهذا مهم وسترجع إليه ولا بد بعد زمن يعني لا يناسب أن تقرأ هكذا وتقول هذه القراءة كافية لأنَّك بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أو سنة تنسى لكن لو قيَّدت فإنَّك قد ترجع إليه بعد سنين فتجد أن الفوائد ما ثلة أما مك وكما قيل: ((الفهم(7/13)
عرض يطرأ ويزول، والكتابة قيد)) تقيد ما فهمته أو تقيد ما استفدته.
من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتاب أدب الإعارة والإعارة للكتب منهي عنها إلاَّ لمُؤْتَمَنٍ عليها لأنَّ كتابك أنت أولى الناس به إلاَّ إذا وجدت من هو حريص على الكتب وإذا استفاد منها أرجعها وذُكر في ترجمة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى أنَّ رجلاً طلب منه أن يعيره كتابًا فقال: ((لك ثلاثة أيَّام فقال قد لا تكفي قال قد عددتُ أوراقه فإن احتجت إلى نسخه فالثلاثة كافية وإن احتجت إلى قراءته فالثلاثة كافية وإن كنت تريد أن تستكثر به فأنا أولى بكتابي)) وهذا صحيح فالجزء الأول من كتاب كبير من ثمانية مجلدات عندي -ما أريد أن أذكره ربما يسمعه هذا فيظن أنَّه تعريض به- استعاره أحد الإخوة وإلى الآن من اثني عشرة سنة ما وصلني وهو يقول ما أدري أين ذهب وأيضًا الجزء الثامن من كتاب آخر قد لا آسف عليه كثيرًا له أكثر من عشرين سنة إلى الآن ما رجع ولذلك قال القائل:
لا تعيرنَّ كتابًا
من أعارنَّ كتابًا
واجعل العُذْر جوابًا
فلعمري ما أصابا(7/14)
وقال آخر: ((آفة الكتب إعارتها))، وقيل لرجل في الهند كوَّن مكتبة عظيمة: كيف كونت هذه المكتبة؟ قال: من استعارة الكتب قال كيف؟ قال استعير كتابًا فلا أرده فتكونت هذه المكتبة، فقيل له أليس هذا جناية على من استعرت منهم، قال من أعار الكتاب فهو مجنون ومن ردَّ من استعار فهو أكثر جنونًا منه؛ وهذا لأنَّ الكتاب النفوس متعلقة به وقد ذكر الحافظ ابن رجب في مسألة في كتاب القواعد ضمن قاعدة أنَّ الكُتُبَ لا قطعَ في سرقتها يعني إذا سَرَقَ كتابًا فعند بعض العلماء لا يقطع لأنَّ فيه شبهة أنَّ الحق في الكتاب للجميع فلهذا قد يأخذ بعض طلبة العلم مثلاً أو بعض الزملاء كتابًا ويرى أنَّ له حقًا فيه خاصة إذا كان وقفًا أو كان مهدى إليك أو ما أشبه ذلك فيتساهل فيه يتساهل فيه ثم تخسر أنت الكتاب فإذا لم تعلم أنَّ هذا الذي طلب الإعارة جادٌ وسيستفيد منه في أيَّام يسيرة وليالٍ وإلاّ فلا تعر الكتاب لأنَّ في إعارته حرمانك من الإستفادة وليس كل مستعير للكتاب مأمونًا على الكتاب فكم استعار أناسٌ وما ردُّوا الكتب.(7/15)
أيضًا من الآداب المتعلقة بالاهتمام بالكتاب والحديث ذو شجون ويطول أنْ يستعرض طالب العلم كُتُبَهُ بين حين وآخر يعني أن لا يجمع الكُتُبَ دون استعراض لها يأتي لما أخذ الكتاب ويضعه وأخذ الكتاب ووضعه أخذ الكتاب ووضعه ثم إنما يراجع طائفة قليلة منها لا بدَّ من استعراضها تأتي وتستعرض هذه الكتب حتَّى تتذكر الموضوعات لأنَّ من الناس من اشترى الكتاب مرتين وثلاث وأربع لأنَّه ينسى أن الكتاب عنده لقلة استعراضه لكتبه أمَّا لو أنَّه كثير الإتصال بكتبه خاصة في مثل بلادنا مكتبات بعض طلاب العلم كبيرة إذا ترك الاستعراض فربما طلب الكتاب من غيره وهو عنده أو نسي ما في الكتب أو احتاج إلى موضوعه ولم يراجع فيه الخ من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتب الإهتمام بكتب الوقف والكتب الموقوفة يعني التي عليها طبعٌ أنَّه وقف أو ختم بأنها موقوفة أو أشباه ذلك هذه الإحتفاظ بها في مكتبتك لا بدَّ أن يكون على شرط الواقف، والواقف حين وقفها جعل على طلبة العلم وإذا كنت لا تستفيد من الكتاب وغيرك بحاجة إليه فدفعك الكتاب إلى من يحتاجه أولى نعم قد يكون لك حاجة فيه ولو مرة في السنة تراجع فيه فهذا لا بأس لأنّ الكتاب موقوف على طلاب العلم لكن إذا كنت لا تراجعه تمر عليك سنين أربع خمس سنين وأنت لا تراجعه وتعرف أن نفسك ليست ذات همَّة في مراجعة هذا الكتاب أو الكتب بعامة أو قد لا تحتاجه في المستقبل فإنَّ الاحتفاظ به مع هذه الحال خلاف الأولى وبعض أهل العلم يقول لا يجوز الاحتفاظ به بل يدفع إلى مستحقه يدفع إلى من ينتفع به لأنَّ الواقف وقفه على من ينتفع به وإذا كنت لا تنتفع به فمن ينتفع به أولى ومن هنا كان كثيرٌ من طلاب العلم من يتنزَّه عن الاحتفاظ بالكتب الموقوفة إذا كان عنده فضل مال يمكن أن يحصِّل الكتاب ببذل ماله لأنَّه ربما يركن الكتاب ولا يستفيد منه فإذا كان موقوفًا ربما لحقه إثم بحبسه عمن ينتفع به وهذا ربما ظهر أكثر في البلاد التي(7/16)
يكون الكتاب فيها شحيحًا.
من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتاب أن تهتم في الكتاب بتجليده وبطانته وظهارته حتَّى يكون الكتاب بالوضع اللائق به للاسمراء لأن طالب العلم حين يقتني الكتاب لا بد أو نقول الأفضل له أن يستحضر نوعين من النية أما الأولى فأن ينوي الإنتفاع به في تخليص نفسه من الجهل والثاني أن ينوي أن يستفيد غيرُه من هذا الكتاب إمَّا أهله وولده وإمَّا من يكون عنده أو أن يوقف الكتب بعده أو أن يبذلها لغيره بإهداء أو أن يبيعها إلخ وهذا يعني أنَّه كلما اعتنى بالكتاب من جهة جلده والمحافظة عليه ربما يبقى أكثر في المستقبل كلما كان ذلك أكثر في الأجر والثواب ومن عجائب التفريط في الكتب ما ذكره القِفْطِي صاحب كتاب ((إنباء الرُّوَاة)) ربما ذكرته لك مرة في قصته مع كتاب ((الأنساب)) للسمعاني وكان حريصًا على الكتب جدًا فجمع مكتبة من أنفس ما جمع قال عُرض عليَّ كتاب الأنساب للسمعاني بخط مصنفه الأجزاء الثاني والثالث والرابع، والأول مفقود بخط مؤلفه السمعاني وبين القفطي والسمعاني نحو مائتين وخمسين عامًا أو قريبًا منها فاشترى هذه الثلاثة قال اشتريتها فلما مضى مدَّة من الزمن وهو يسأل عن الكتاب عن الجزء الأول ويسأل فَظَنَّ أنَّه فقد وانتهى وبخط مصنفه عُرْضَةٌ إلى أنّه أُعير ففقد أو أنَّه ضاع أو الخ قال فمرَّةً جاءني خادمي بصرة من بُقُول يعني الخضروات هذه وقد لفت بورق كتاب قال فأخذت الورقة قبل البقول -لأن مالها قيمة عنده بالنسبة لهذه الورقة- يقول فلما نظرت إليها فإذا هو خط السمعاني الذي أعرف فأتيته بنسخة الأنساب فإذا هذا الورق من الجزء الأول المفقود قال فذهبت سريعًا إلى الذي يبيع البقول فوجدت عنده بعض أوراق بقيت من هذا فقلت له أين بقية هذه الأوراق قال لففنا بها البقول فتفرقت في البيوت فقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مأساةٌ مصائب قوم عند قوم فوائد هذا يأسى على فقده وذاك فَرِح لأنه وجد هذه الأوراق(7/17)
التي لا قيمة لها بخط الحافظ السمعاني يلف بها البقول ويعطيها الناس قال فأقمت مناحة أو قيل فأقام مناحة شهرًا من الزمان على العلم وأهله وعلى كتاب ((كتاب الأنساب)) للسمعاني نريد من هذا نقول أن الكتب لا بد من العناية بها من جهة تجليدها ومن جهة حفظها هذا وجدها مفرقة فسهل أن تتفرق الأوارق وأن تضيع لكن لو كانت محفوظة مضموم بعضها إلى بعض لكان ذلك أدعا إلى إستمرارها في مكتبتك والمسائل المتعلقة بذلك كثيرة لعل فيما ذكرنا تنبيهًا على بعض ما يحتاج إليه اسأل الله جلَّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والصلاح والرشاد وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.(7/18)
المنهجية في طلب العلم
للشيخ صالح آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، اللهم إنّا نسألك صلاحا في قلوبنا وصلاحا في أعمالنا وصلاحا في أقوالنا اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا في مسيرنا متبعين لنبيك صلى الله عليه وسلم.
هذه الليلة نذكر مقدمة مهمة نافعة إن شاء الله تعالى في طريق طلب العلم، والداعي لها أنّنا نرى إقبالا من الشبيبة بارك الله فيهم ومحبة لطلب العلم لكنّ كثيرا منهم لا يعرفون طريق الطلب كيف يطلب العلم؟ بعضهم يمضي أوقاتا طوالا ربما سنوات، يمضيها ولا يحصل من العلم ما حصله غيره ممن أنفذ سنوات مثل السنوات التي أنفذها ذاك والسبب هو أنه لم ينهج في طلبه للعلم النهج الصحيح، النهج الذي يحصل معه مبتغيه -أعني طالب العلم- يحصل طرفا مما كتب الله له، طرفا ينفعه طرفا، ثابتا مؤصلا يمكنه أن ينقله إلى غيره نقلا واضحا لا شك معه ولا ارتياب.
كثير من الشباب يقرؤون قراءات متنوعة تارة في الحديث وتارة في التفسير وتارة في الفقه يسمعون ويحضرون مجالس أهل العلم ولكنّهم إذا رجعوا إلى أنفسهم فيمن حضر سنة أو حضر سنتين إذا رجع لنفسه لم يفهم المادة التي ألقيت عليه أو رأى أنه لم يحصل شيئا كثيرا لم يؤسس عنده حضورُه علما مؤصلا يمكن معه أن ينطلق ويقيس على منواله وينهج نهجه والسبب انعدام المنهجية الصحيحة في طلب العلم لأنّ طالب العلم لابد أن يسلك في طلبه منهجا واضحا محددا، إذا لم يسلكه تخلف عن الطريق ولذلك نرى أنّ كثيرين ملوا من طلب العلم، سنين أمضوها ثم ملّوا وتركوا، تمضي عليهم سنون أخر ويرجعون عواما أو قرّاءا لا يعدون ذلك ونريد من طالب العلم المقبل أن يتحلّى بخصلتين:(8/1)
الأولى: أن يكون سائرا على منهج الطلب الذي سار عليه من قبلنا من أهل العلم وصاروا علماء بعد مسيرهم ذلك السير.
والثاني: أن يوطن نفسه على أن يكون باذلا للعلم وقته وأن لا يمل مهما كان.
روى الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: أنّ أحد طلبة الحديث رام طلبه ورغب فيه وحضر عند الأشياخ وجلس مجالسهم ثم لما مرّ عليه الزمن رأى أنّه لم يستفد شيئا ولم يحصل كبير علم فقال: إنّني لا يناسبني هذا العلم وترك العلم لظنّه أنّ عنده في فهمه ركودة أو أنّه لا يصلح لطلب العلم؛ قال: فلما كان ذات يوم -أي بعد أن ترك بمدة- مرّ على صخرة يقطر عليها ماءٌ قطرة تلو قطرة وقد أثر ذلك الماء في تلك الصخرة فحفر فيها حفرة فتوقف متأملا ومعتبرا ومتدبرا فقال: هذا الماء على لطافته أثّر في هذه الصخرة على قساوتها فليس عقلي وقلبي بأقسى من الصخر وليس العلم بألطف منه من الماء، فعزم على الرجوع إلى طلب العلم فرجع ونبغ وصار ممن يشار إليهم فيه
هذا يفيدك أنّه يحتاج طالب العلم إلى العزيمة وأن لا يملّ، لا يقول أنا درست فما استفدت ليرجع إلى السبب، ليس السبب في طبعه في أكثر الشباب أو أكثر المقبلين على طلب العلم ليس السبب هو أنّهم لا يفهمون كثير منهم يفهم ولكن السبب في عدم تحصيله العلم أنّه لم يسلك طريقه ولم يأخذه على المنهاج الذي به تخرج من سبقنا من أهل العلم، هذا الطريق سهل ميسور وهو أسهل من الطريقة التي يسلكها الأكثرون اليوم.
إذا تبيّن هذا يحضر هنا السؤال المهم وهو يردد كثيرا يردده كثير من الشباب ويسألون عنه ألا وهو:(8/2)
ما هي المنهجية الصحيحة في طلب العلم؟ كيف يسير طالب العلم في هذا الطريق على وفق المنهجية التي إذا وفق الله جلّ وعلا العبد معها صار طالب علم ووفق إلى دراسته؟ وهو سؤال مهم للغاية وحضور مجالس العلم مفيد فوائد جمّة ومن أعظمها أن يتخرّج طالب العلم منها من تلك الحلق أن يتخرج فاهما لما ألقى عليه ويستطيع به -أي بمافهم- أن يفهم غيره.
أولا: يحتاج طالب العلم إلى أن يكون عنده أخلاق ضرورية وصفات ملازمة له في مسيره لطلب العلم:
أولها: وأعظمها أن يكون مخلصا لربّه جلّ وعلا في طلبه للعلم لأنّ طلب العلم عبادة والملائكة كما ثبت في الحديث الصحيح تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع؛ فهذه العبادة لابد لقبولها ولتوفيق الله جلّ وعلا لصاحبها أن يكون مخلصا فيها لله جلّ وعلا، يعني لا يطلب العلم لنيل مرتبة دنيوية، لا يطلب العلم الشرعي علم الكتاب والسنة لنيل جاه أو سمعة أو ليصبح معلما أو ليصبح محاضرا أو ليشار إليه بالبنان أو ليكون ملقيا لدروس ونحو ذلك، بل يكون قصده التعبد لله بهذا وأن يتخلص من الجهالة فيعبد الله جلّ وعلا على بصيرة.
إذن الإخلاص في طلب العلم أن يكون المراد وجه الله جلّ وعلا لا عرضا من الدنيا -بأنواع تلك الأعراض- ويكون ناويا أن يرفع الجهالة عن نفسه، سئل الإمام أحمد قيل له: كيف الإخلاص في العلم؟ قال: الإخلاص فيه أن ينوي رفع الجهالة عن نفسه لأنّه لا يستوي عالم وجهول قال جلّ وعلا: {أمن هو قانت لله ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال جلّ وعلا في آية المجادلة: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات}.(8/3)
فإذن الله جلّ وعلا فضل أهل العلم على غيرهم والذي يطلب العلم ليعبد الله على بصيرة ليخلص نفسه هو من الجهالة وليكون في حياته موافقا لما شرع الله جلّ وعلا هذا قد أخلص، قد أخلص لأنّه قصد وجه الله جلّ وعلا قصد أن ينجو من أن يكون متبعا لهواه جاهلا مقلدا.
الإخلاص أول تلك الشرائط وأول تلك الآداب والصفات، والصفات والآداب كثيرة صنّفت فيها كتب ومؤلفات بعضها صغير وبعضها كبير لكن نذكر منها ما يهم في هذا المقام.
ثانيها: أن يكون رفيقا مترفقا في طلب العلم لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بخبر عام فقال: ((إنّ الله يحب الرفق في الأمر كلّه)) وهذا ظهور في العموم وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الرفق ما كان في شيء إلا زانه)) ويدخل في ذلك العلم وطلب العلم.
كيف يكون الترفق؟ يكون بأن لا تروم العلم جملة كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام التابعي المعروف قال: ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة وإنّما العلم يطلب على مرّ الأيام واللّيالي)) وقد أفصح عن هذ ا المعنى الشاعر حيث قال:
اليوم علم وغدا مثله
من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة
وإنّما السيل اجتماع النقط(8/4)
الرفق مطلوب كيف يكون الرفق بأن لا تروم العلم جملة، بمعنى واحد يريد أن يروم علم التفسير يذهب يقرأ تفسير ابن جرير، تفسير ابن جرير فيه كلّ التفسير، هذا رام العلم جملة ما يحصل يبدأ وينتهي من تفسير ابن جرير وإذا سألته لم يعلق بذهنه من التفسير إلا القليل يتذكر أنه قرأ كذا وقرأ كذا ولكنه لا يفصح لك عن تفسير آية على الوجه المطلوب إذن كيف يكون لا بد من التدرج، والتدرج سنة لابد منها كذلك رجل يريد أن يطلب علم الحديث يذهب إلى نيل الأوطار يبدأ به أو فتح الباري يقول أنا خلاص انتهيت من مجلد من فتح الباري، هذا الرجل اعلم أنه لن يحصل العلم على ما كان عليه أهل العلم فيكون قارئا مثقفا عنده معلومات متناثرة لكن ليس هو العلم الذي قد أُصِّل والذي بعده سيكون عالما إن وفقه الله جلّ وعلا، كذلك في الفقه ماذا قرأت في الفقه؟ يقول أنا أقرأ في المغني أنا أقرأ في المجموع هذا يصدق عليه أنه لم يأخذ بالترفق رام العلم جملة المغني والمجموع والكتب الكبار هذه إنّما يعي مسائلها الكبار من أهل العلم لكن طالب العلم المبتدئ لا يقرأها قراءة من أولها إلى آخرها لا شك أنّه قد يحتاج إلى بحث مسألة بخصوصها يرجع فيها إلى المطولات لكن لا يقرأها سردا يمرّ عليها.
أيضا لا يهتم طالب العلم، وهذا من فروع الترفق لا يهتم بالتفصيلات فإنه إذا كان في طلبه للعلم اهتم بدقيق المسائل واهتم بالتفصيلات فإنه ينسى ولن يحصل علما لأنّه لم يؤصل ولم يبن القاعدة التي معها تفهم تلك التفصيلات بعضنا يذهب إلى دروس مفصلة جدا يمكث أصحابها سنين عددا طويلة ما انتهوا منه أو في الباب الواحد يجلسون أشهر ونحو ذلك ويظنّ أنّ هذا يحصل معه علما لا هذه الطريقة ليست بطريقة منهجية لأنّه لم يترفق صاحبها فيها ولقد قال جلّ وعلا: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(8/5)
كونوا ربانيين فسرّها أبو عبد الله البخاري رحمه الله رحمة واسعة في صحيحه قال: الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، هذا الرباني في العلم والتدريس هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
يشرف بالمدرس وطالب العلم إذا درس أن يذكر كل ما يعلم في المسألة، أن يذكر بعد تحضير واسع كل ما وصل إليه تحضيره وهذا شرف له ولكنّه ليس بنافع لمن يعلّم لأنه هو يستعرض ما علم والعالم إنما يعطى ما يحتاج إليه السامع لا يعطي ما هو فوق مقدار السامع.
إذن فلابد من الترفق كيف يكون الترفق؟ سيأتي جوابه في بيان المنهج الصحيح في التدرج في طلب العلم.
ثالثا: أن يكون مواصلا في طلب العلم يجعل للعلم أعزّ أوقاته وأحلاها، لا يجعل للعلم الأوقات الميتة، الأوقات التي كلّ فيها ذهنه وضعف فيها فهمه يجعلها للعلم يجعلها للدرس هذا قد خالف وما نصح نفسه.(8/6)
إذن العلم تعطيه من وقتك أعز الأوقات التي فيها صفاء الذهن وقوة الذهن والفراغ، وهذا إنما يكون بضميمة أمر آخر ألا وهو أن يكون طالب العلم شغفا بالعلم ليلا ونهارا يصبح مع العلم ذهنه مشغول بالعلم يمسي كذلك، همّه العلم إذا أراد أن ينام بجنبه كتاب ربما يحتاج فيه إلى مسألة ولهذا يقول بعضهم إذا رأيت كتب طالب العلم مرتبة فأعلم أنه هاجر لها إذا أتيت على غفلة ودخلت مكتبة فلان من الناس ورأيت كتبه مرتبة، كلّ واحد في مكانه، معنى ذلك: أنه ما يطالع، الأرض ما عليها كتاب ولا بجنبه كتاب وإذا كان عنده طاولة ليس عليها كتاب، هذا معناه أنّه يأخذ الوقت الذي يفعله بعض المثقفين أصحاب المشاغل وقت قراءة، طالب العلم ما عنده وقت يسمى وقت قراءة لأنّ وقته كله في طلب العلم يصبح يمسي ذهنه مشغول بمسائل العلم في فترة شبابه الفترة الرّئيسة في عمره التي بها يُحَصِّل يكون شغفا فيها هنا تتوزع الأوقات، الأوقات الجليلة التي يقوى فيها ذهنه يختار لها العلوم التي تحتاج إلى كدّ ذهن مثل الفقه والأصول ونحو ذلك، الأوقات المتوسطة يختار لها العلوم التي لا تحتاج إلى كدّ ذهن مثل التفسير الحديث المصطلح ونحو ذلك، الأوقات التي يضعف فيها فهمه يختار لها قراءة كتب الآداب كتب الرجال تراجم الرجال التاريخ ونحو ذلك الثقافة العامة، إذن هو منشغل دائما، أينما كان، منشغل بطلب العلم لا يسليه عن طلب العلم نزهة ولا صحبة ولهذا نرى أنه من أكبر ما يعاب على بعض من يظنّ أنّه طالب علم أنّه يمضي الساعات الطوال في مجالس في قيل وقال وأحاديث لا تمت إلى العلم بصلة هذا لا يكون طالب علم وإنما يكون شيئا آخر بحسب ما أشغل به نفسه، أما طالب العلم فمشغول سلواه وهواه ورغبته في طلب العلم، المجلس الذي فيه مسائل كلام عن طلب العلم وبيان ما أنزل الله جلّ وعلا في كتابه أو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مكان انشراح الصدر ومكان سعة الصدر أو مكان تعليم أو مكان(8/7)
بيان للعلم الذي أنزله الله جلّ وعلا هذا هو مكان سعة الصدر وراحته.
إذن يجب على طالب العلم أن يكون من خصاله الملازمة له أن يكون ملازما للعلم لا يعطي العلم بعض الوقت إنما يعطيه كل الوقت أو جله في فترة شبابه الفترة التي فيها تحصيل العلم ولهذا يقول بعض من تقدم: ((اعط العلم كلّك يعطيك بعضه)) لأنّ العلم غزير مسائله كثيرة شتى ولهذا كان بعض أئمة الحديث حدث بحديث وهو على فراش الموت فقال لكاتبه أكتبه علم حصّله في هذه اللّحظة.
هذا يدلك على إخلاصه ومتابعته وقلبه شغف بذلك الشيئ والإمام أحمد لما كان في مرضه الأخير كان ربما أنْ أصابه بعض الوجع فأن أنين فأتى بعض تلامذته فروى له بالإسناد أنّ محمد بن سيرين قول أنس بن مالك رضي الله عنه كان يكره الأنين قال: فما سمع أحمد آنّا حتى مات، هذه النفسية لطالب العلم وللعالم هي التي بها يجعل الله جلّ وعلا طالب العلم عالما في مستقبل أمره إن شاء الله تعالى نافعا يكون همه مع العلم ليلا ونهارا يستفيد ما يحتقر فائدة يأتي بها الصغير أو الكبير، بعضهم يأتيه من هو أصغر منه بفائدة فيستكبر عليه أو لا يصغي لها كل سمعه وهذا لأجل أنّه عظم نفسه على العلم فإذا عظم نفسه على العلم فإنّه لا يكون من المحصلين للعلم، بل إن العلم يكون مع الصغير ويفوت الكبير، بعض العلم يفهمه من هو أصغر ويفوت الأكبر فإذا وضحه له استفاد، وهذا يذكر له أهل العلم المثل الواضح ألا وهو قصة سليمان مع الهدهد فإنّ الهدد مع وضاعته قدرا وذاتا ومع رفعة سليمان قدرا وذاتا ومنزلة عند الله وعند الخلق قال له الهدهد {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} فعلمها الهدهد وجهلها سليمان عليه السلام فهذا استفاد منه أهل العلم ألا تتكبر على من أتاك بفائدة صغر أم كبر يأتيك بفائدة يستشكل استشكالا أرعه سمعك لأنه يفتح لك باب بذاته.(8/8)
هذه الخصال الثلاث مهمة جدا لطالب العلم وهناك غيرها كما ذكرت لك تطلبها من الكتب التي أُلفت في هذا الباب.
الآن نأتي للسّؤال المهم: كيف يكون الترفق؟ كيف يكون التدرج في طلب العلم؟ أو ما هو المنهج في طلب العلم؟
الجواب: أنّ العلوم الشرعية متنوعة مختلفة فمنها علوم أصلية ومنها علوم مساعدة يسميها بعضهم علوم الآلة ويسميها آخرون علوما صناعية.
فالعلوم الأصلية هي علم الكتاب والسنة يعني علم التفسير علم الحديث علم الفقه، ثم علم التوحيد نخرجه من علم الكتاب والسنة لأجل عظيم منزلته لأنّ كل هذه العلوم متفرعة ومفهومه من الكتاب والسنة.
إذن عندنا العلوم الأصلية لطالب العلم: التفسير والتوحيد والحديث والفقه.
والعلوم المساعدة هي: أصول التفسير أو ما يسمونه بعلوم القرآن، أصول الحديث أو ما يسمى بمصطلح الحديث، أصول الفقه والنحو وعلوم اللغة.
ثم هناك تقسيم آخر العلم منه أصول ومنه ملح، الأصول مثل هذه العلوم سابقة الذكر كلها الأصلية والمساعدة والملح كالأخبار والتراجم والغرائب والقصص والتاريخ ونحو ذلك.
أولا: علم التفسير:
علم التفسير تتدرج فيه بأن تبدأ بتفسير مختصر جدا، تتطلع فيه على معاني كلام الله جلّ وعلا خاصة إذا كنت حافظا للقرآن فإنه يكون من أنفع الأشياء لك أن تمر على تفسير مختصر كان العلماء يعتنون بتفسير الجلالين في الأعصر المتأخرة وهو نافع مفيد لكن تحترز في قراءته على ما فيه من التأويلات وقد صنفه الجلالان جلال الدين المحلي وجلال الدين السّيوطي، تمر فيه من أوله المفصل حيث إنّك تسمعه كثيرا في الصلاة تفهم المعاني باختصار وهو كله مجلدان صغار فإذا مررت على خمسين صفحة أخذت المفصل كاملا فهمت المعاني التي تسمعها في الصلاة فيكون معك علم واضح.
كيف تعرف أنك فهمت التفسير حتى تنتقل إلى غيره؟(8/9)
هنا الجواب: أن تستطيع أن تفسر السّورة على نفسك مثلا تقرأ سورة والشمس وضحاها فقرأت تفسيرها في الجلالين وفهمته كيف تعلم أنك فهمته؟ تغلق التفسير وتبدأ تفسر على نفسك فإذا استطعت أن تفسر بصواب وبدون تلكؤ بوضوح في فهم الآيات عند نفسك فإنك تكون قد درجت فهمت تفسيرها ويمكن أن تنتقل بعدها إلى غيرها وهذه طريقة يأتي تفصيلها في غير التفسير هذا أولا تبدأ بتفسير الجلالين، بعد ذلك تنتقل إلى ما هو أعلى منه مثل تفسير الشيخ ابن سعدي أو مثل تفسير البغوي أو ابن كثير أو مختصراته إذا كان هناك مختصرات سالمة من المعارضات فترجع إليها تمر عليها مرورا تعرف معه المعاني تكون المعلومات التي فيها التي هي أطول من الجلالين قد أتت ذهنك بعد فهمك لما أورده الجلالان، فإذا أتت المعلومات الأكثر تكون المعلومات الأقل واضحة لأنّك استطعت أن تفسر والشمس وضحاها من ذهنك، إذا قرأت ابن كثير إذا قرأت البغوي ونحو ذلك من الكتب التي هي أكبر قليلا ستحس من نفسك أنك أدركت أكثر وهكذا مع مرور الزمن تحس أنك قد نميت فهمك لكلام الله جلّ وعلا.
ثانيا: التوحيد.
التوحيد قسمان:
القسم الأول: العقيدة العامة.
القسم الثاني: توحيد العبادة.(8/10)
يعني علم التوحيد الذي ستدرسه إن شاء الله هذا تقسيم للتوحيد من حيث هو علم العقيدة العامة ألفت فيها كتب منها: لمعة الاعتقاد، ومنها الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها العقيدة الطحاوية وغير ذلك من ما ذكرت فيه مباحث الاعتقاد كاملة يعني يذكرون مباحث الاعتقاد كلها، مثل الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وما يتعلق بذلك الإيمان بالملائكة الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل الإيمان باليوم الآخر أحوال القيامة أحوال القبر البعث وما يحصل في عرصات القيامة الجنة والنار القدر وما يتعلق به ثم يذكرون تفاصيل الاعتقاد مباحث أخر مثل الكلام في الأولياء وكراماتهم مثل الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم مثل الكلام في الإمامة وحقوقها مثل الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل الكلام في الأخلاق ونحوها كما ذكر شيخ الإسلام في آخر الواسطية هذه تسمى عقيدة عامة.
عقيدة أهل السنة والجماعة هذه تأخذها بالترتيب تبدأ بكتاب مختصر تقرأه على شيخ التفسير ما يحتاج أن تقرأه على شيخ إذا أشكل عليك شيئ فسل فيه، أما التوحيد فلابد من قراءته، تأخذ مختصرا مثل لمعة الاعتقاد إن حفظتها فحسن وهو المراد وإن لم يتيسر فكررها حتى تفهم مباحثها.
من الأغلاط التي تواجه طلاب العلم أنهم يأخذون كتابا ما استعرضوا مسائله ولا مباحثه يعني يحضر يعرف الموضع الذي يحضر فيه عند المعلم هذا غلط بل الواجب أن تعرف المباحث التي تكلم عنها الكتاب.
لمعة الاعتقاد تمر عليها من أوله إلى آخره، تعرف ترتيبه والمسائل التي تعرض لها ونحو ذلك ثم بعد ذلك تقرأه على معلم أو شيخ.
كتاب في أوائل الكتب لمعة الاعتقاد مسائله واضحة مختصرة إذا شرحه لك قرر عليه تقريرات كتبتها بعد ذلك أضبطه فإذا ضبطت هذا الشرح وعرفت من نفسك وأنست أنك أحكمته أو أحكمت أكثره تنتقل بعده إلى الواسطية، تأخذ أيضا الواسطية على معلم.
ثم كيف تعلم من نفسك أنّك فهمت الباب؟(8/11)
بعض الناس يقرأ فإذا أتى يعبر عما قرأ إما أن يعبر بعبارة غير شرعية غير علمية وإما يعبر خطأ يكون فاهما أصلا خطأ من جراء قراءته لمَ لأنّه لم يختبر نفسه فأنت إذا قرأت الفصل من الواسطية مع شرحه تبدأ تدرسه مع نفسك تعبر عنه بقول مثلا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية في أولها مثلا هذا اعتقاد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، تبدأ تشرح الفرقة الناجية من هم؟ أهل السنة والجماعة من هم؟ حتى تعرف من نفسك أنك أدركت معاني هذا الكلام إذا أتى في أثنائه درست الكلام عن الصفات مثلا صفة العلو لله جلّ وعلا الاستواء على العرش تذكر ما تعرض له الشارح من المسائل ما تأخذها سماعا أو قراءة تقول أنا قرأت الواسطية هذا ما تحصل معه العلم لابد أن تدرس وهذا الذي يسميه أهل العلم معارضة العلم ومدارسة العلم، ومذاكرة العلم، له ثلاثة أسماء معارضة مذاكرة مدارسة، يستعمل أهل الحديث له لفظ المذاكرة يقول ذاكرته بكذا كما مرّ في بعض أخبار الإمام أحمد أنه صلى العشاء هو وأبو زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم الإمام المعروف صليا العشاء سويا ثم دخلا إلى المنزل فما فجئا إلاّ بآذان الفجر مكثا الليلة يتذاكران كيف يتذاكران؟(8/12)
هذا يذكر إسناد وذاك يذكر المتن هذا يذكر المتن ما تكلم عليه إذا كان عليه فقه أو نحو ذلك يتذاكران العلم هذا فيه تثبيت له أما أنْ تحضر عند الشيخ أو المعلم وتسمع وتذهب وعهدك به آخر ما سمعته هذا لا يحصل علما تسمع وتستفيد ومأجور إن شاء الله لكن لا تنمّي العلم ولا تؤسسه عند نفسك فإذن إذا سمعت قرأت الشرح، فهمت معنى الكلام علامة فهمك عند إغلاق الكتاب تبدأ تشرح وتوضح المسائل إذا كنت فاهما مائة في المائة فتوضح كل المسائل لن يكون في ذهنك اشتباه إذا كان فهمك ناقصا أو مضطربا أو مشوشا ستلاحظ أنك أثناء الشرح في هذه الكتب الأساسية التي هي أصول ستلاحظ أنك اضطربت، تتكلم ما تعرف كيف تعبر! اختلطت عليه المسألة مع أنّك كنت حين أمررته كنت فاهما له ولكن عند الاختبار يكرم المرء أو يهان فتنظر إلى نفسك فتعرف أنك فاهم أو لست بفاهم فإذا ما استطعت أن تشرح هذا المقطع أو تلك الجملة فمعنى ذلك أنّك تحتاج إلى إعادتها فلا تنتقل إلى ما بعدها إلا بعد إحكامها.
سابقا طلاب العلم يحضرون عند الشيخ مثلا يدرّسهم، في الليل مدارسه لما درسوه، كل واحد يغلق الكتاب ويشرح لصاحبه والآخر يشرح له ومن الحسن في طلب العلم أن تتخذ لك صاحبا واحد لا تكثر فهذا الصاحب تراجع أنت وإياه العلم تشرح له ويشرح لك تبين له خطأ فهمه ويبين خطأ فهمك وتتساعدان في هذا.(8/13)
إذا انتهيت من الواسطية تأتي الدرجة الثالثة وبعد فهم الواسطية تماما تنتقل إلى الحموية وإن شئت تنتقل إلى شرح الطحاوية ما في حرج وإذا فهمت الواسطية تماما تستطيع أن تأتي لكتب شيخ الإسلام تمر عليها تفهمها بإذن الله تعالى لكن من العجب أن يأتي بعض منّا ويفتح الفتاوى ويقرأ منها وهو ما أحكم أصول علم الاعتقاد يجيء به نوم تعبان كليل ما عنده إلا عشرة دقائق أو ربع ساعة قال: خلّنا نقرأ في الفتاوى يفتح ويقرأ ثم بعد ذلك يجادل في بعض المسائل وهو ما فهمها أصلا وهذا كثير وواجهناه كثير، يأتي يقول قال شيخ الإسلام كذا وإذا راجعت وجدت أنّ شيخ الإسلام ما قاله، لأجل أنه أعطاه وقتا مقتطعا ليس بجيد، الثاني لأجل أنّه ما عنده أصول تلك المسألة يعني أصول تلك المسألة ليست ثابتة عنده فيكون فهمه لكلام العلماء ليس بقوي، الأعظم من ذلك أن لا يكون أحكم الواسطية أو الحموية أو لمعة الاعتقاد فنذهب إلى كتب السلف كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد والإيمان لا بن منده أو كالتوحيد لا بن خزيمة أو كالتوحيد لا بن منده ومثل ذلك من الكتب الكبار التي ليس المسائل فيها مؤصلة كما أصلت في كتب المتأخرين لكن إذا أصلت المسائل ثم ذهبت إلى تلك الكتب فسوف يكون استدلالك بكلام السلف على أتم وجه فستفهمه على أتم فهم إن شاء الله تعالى لأنّ الكلمة من كلام السلف سوف تكون في بالك منوطة بالمسألة التي كانت عندك أصولها في تمام الوضوح، ترتبط الكلمة واضحة عندك معناها مرادهم بها محترزاتها ما تحوى من أمثلة ذلك مثلا الكلمة التي هي في أول لمعة الاعتقاد قال صاحب اللمعة في الإيمان بالأسماء والصفات قال: بلا كيف ولا معنى؛ هل هاذي يأتيها طالب العلم إذا ما فهمها على حقيقتها فإنه إذا أتى إلى كتب السلف... ثم يحيل على علمائنا الكبار لأنّ عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم فإن لم يكن عندك من الوقت ما يناسب أوقاتهم ونحو ذلك فلا بأس أن تلحق بغيرهم من طلبة العلم ممن(8/14)
هم من أساتذتنا لكن بشروطه المعتبرة.
الثالث: الحديث.
أول ما يبدأ طالب العلم بحفظ الأربعين النووية وربما لو سألت أكثر الحاضرين هل حفظوا الأربعين النووية يقول: لا، ما حفظوها وانتقلوا إلى دراسة الكتب الكبار مثل نيل الأوطار أو سبل السلام أو فتح الباري والأربعون النووية هي القاعدة.
إرجعوا إلى الكتب التي ترجم فيها مؤلفوها لأهل العلم كتب التراجم انظر واقرأ ما تجد أنّهم ذكروا في ترجمة عالم أنّه قرأ كتابا كبيرا مثلا ما تجد أنّه ترجم لعالم أنّه قرأ فتح الباري أو قرأ المجموع ونحو ذلك ما تجد لكن تجد في تراجمهم أنه يقول: حفظ مثلا الأربعين النووية حفظ الملحة في النحو حفظ العمدة في الفقه حفظ عمدة الأحكام يذكرون مثل المختصرات لمَ؟
لأمرين: الأول: ليدلك أنّ طريق العلم هو هذا لا غير.
الثاني: ليبين مكانة هذا العالم وأنّ علمه مرسخ مؤصل لأنه ابتدأ بتلك المتون فأحكمها ودرسها على الأشياخ، ما تجد أنّ فلانا قرأ فتح الباري قرأ نيل الأوطار ما تجد، ولا يثني على العالم بذلك لأنّ هذه الكتب تعرف مسائلها التفصيلية إذا أحكمت.
إذن في الحديث تبدأ بحفظ الأربعين النووية حفظا لا غير تحفظها وتمرُّها دائما لابد تحفظها مثل الفاتحة كل أسبوع تختمها، كل ختمة تكون واضحة عندك بعد ذلك تقرأ شرحا لها وحبذا لو يكون على شيخ أيضا وإن لم يكن فتقرأ شرحا وتضبطه وتسأل فيما أشكل عليك أحد العلماء.(8/15)
بعد حفظ الأربعين تبدأ في كلّ حديث تقرأ شرح النووي عليه، شرح النووي مختصر أكبر من النووي شرح ابن دقيق العيد، ثم يليه شروح كثيرة ولكن أكبرها شرح ابن رجب الحنبلي الحافظ المعروف، تقرأ شرح النووي فإذا قرأته على حديث إنما الأعمال بالنيات تغلق الكتاب وتبدأ تشرح الحديث وهذا ينفعك كثيرا إذا أردت أن تعظ في مسجد، لك أن تبتدأ من أيّ حديث من الأربعين النووية ثم تضبط الشرح كاف ونافع للغاية، احتيج إليك لخطبة جمعة تأتي مسجد فيه عدد من طلبة العلم كل واحد يقول للثاني: لا ما أخطب أنا يخطب الثاني، طالب العلم لابد عدته معه في كل مكان أقل العدة آيات مع إحكام تفسيرها سورة العصر وتفسيرها سورة الإخلاص وتفسيرها وغيره أو الأربعين النووية مع إحكام شرحها فلابدّ من قاعدة لك تنطلق منها وستكون بإذن الله رآيا ومشاهدا لعظم النفع بحفظ الأربعين النووية مع إحكام شرحها لأنها ضمت من السائل الشيء الكثير بعد ذلك تنتقل من الأربعين النووية إلى عمدة الأحكام في الحديث بعد ذلك إلى بلوغ المرام إذا الواحد حس من نفسه نشاط يقول أنا أبدأ بالبلوغ حفظا لا بأس وإن لم يكن فعمدة الأحكام وبعد البلوغ خلاص بركة ونعمة، لا مانع أن تقرأ في كتب السنة صحيح البخاري صحيح مسلم وفي غيرها لكن لا تقرأ فيها وأنت ما ضبطت تلك الأصول لأنّه تأتيك أحاديث ما تعرف معناها أحاديث ربما يكون المعنى فيه شيء من التعارض، المسائل الفقهية المستنبطة منها ربما تعز عليك ونحو ذلك.(8/16)
رابعا: الفقه تبتدئ بعمدة الفقه لا بن قدامة رحمه الله ومن لم يكن في هذه البلاد يبتدئ بأي متن من المتون الفقهية من أي مذهب لكن مذهب الحنابلة هو أقل المذاهب مخالفة أو أقل المذاهب مسائل مرجوحة فإنّ المسائل المرجوحة مثلا في زاد المستقنع قليلة وأكثره راجح المقصود تأخذ متن مثل عمدة الفقه تأخذه وتضبط مسائل كل باب مثلا تمر على باب المياه فتمر عليه مرة سريعة فتعرف تقسيمه في الباب، وش بدأ؟ وش انتهى؟ ما مسائله؟ ثم بعد ذلك تبدأ على معلم هذا لابد منه إذا لم يتيسر تقرأه على نفسك أو تقول والله إنّي رجل تقدمت بي الأمور يشار إليّ بالبنان مدرس صعب عليّ أن أحضر على شيخ أونحو ذلك، بل تقرأ وتسأل عما أشكل عليك.(8/17)
كيف يقرأ الفقه؟ هذا سؤال مهم كثيرون يقرؤون الفقه ولا يعرفون كيف يقرأون، الفقه ليس كالتوحيد فالتوحيد تصور مسائله سهل مسائل الصفات فيها إثبات فيها تأويل تأولوا العلو إلى كذا إلى علو القدر علو القهر تأولوا الاستواء إلى كذا تصورها واضح لكن الفقه تصوره ليس بالواضح فهم صور المسائل لئلا تشتبه بمسائل أخر سيحتاج منك درس الفقه إلى أناة، أولا تتعامل مع هذا المختصر بالسؤال والجواب كيف؟ تقول مثلا المياه ثلاثة أقسام تأتي تخاطب الشرح كم أقسام المياه تقول: أقسام المياه ثلاثة الأول: هو الطهور، ما تعريفه؟ يأتي تلاحظ أنك في هذه الأسئلة إذا مرنت يكون الجواب بعد سؤاله ما تعريفه هو الماء الباقي على أصل خلقته أو كما يقول غيره هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، إذًا سألت وهو أجاب تعاملت مع كتاب الفقه كأنه معلم تسأل أنت وهو يجيب إذا أتى احتراز أو شرط تسأل بالأسئلة المناسبة تقول مثلا إذا قال الماء الباقي على أصل خلقته تسأل تقول مطلقا وهو يجيبك يذكر لك الحالات هل خالطه ممازج أم غير ممازج ...الخ تبدأ أنت تسأل وتقسم والعلم في الفقه إنما هو بشيئين هما أولا: بالتصور ثانيا: بالتقاسيم أنفع شيء لك في الفقه التقسيم تقول هذه تنقسم إلى كذا وكذا الأشياء العارضة على الماء الباقية على أصل خلقتها قسمين ممازجة وغير ممازجة، طيب، مَثِّل للممازجة وغير الممازجة؟ كذا وكذا الشارح يمثل لك ابن قدامة في العمدة، لا تهتم في درس الفقه بالراجح بالدليل لا لأنه ما يراد منك أن تكون مفتيا أنت الآن متعلم يراد من درسك الفقه أن تتصور المسائل الفقهية وتفهم تعبير أهل العلم في الفقه مثلا: مختصر الزاد، الزاد تعرفونه صغير إنّه يحوي ثلاثين ألف مسألة كيف كل واحدة نعرفها بدليلها والراجح والمرجوح منها، نكون أمضينا وما فهمنا الزاد ولذلك الآن قليل من شرح الزاد من العلماء لأن الطريقة التي يستعملها العلماء سابقا في الشرح والتي نفعت الطلاب وأخرجتهم(8/18)
أهل علم ليست هي الموجودة الآن تفصيلات وتعليلات يطول الكلام في مسألة واحدة ولا يراد من طالب العلم أن يتصور في المسألة كل ما قيل عنها إنّما تتصور المسألة وحكمها بناء على هذا المذهب إذا انتهيت من القسم الأول من أقسام المياه تغلق الكتاب وبنفس الطريقة تأتي تعيد هذا القسم وتشرحه تلاحظ إذا كان فهمك مشرقا تلحظ من نفسك وإذا كان فهمك مغربا فتلحظ من نفسك وشتان بين مشرق ومغرب.
سارت مشرقة وسرت مغربا
شتان بين مشرق ومغرب
تعيد تسأل أهل العلم المعلم الذي يعلمك في المسائل التي يعلم أن الفتوى بخلاف ما ذكر في هذا المتن المعلم الرباني يذكرك بها يقول: هذا والفتوى على خلافه، القول الراجح هو كذا ليس القول الراجح في كلّ مسألة بما يترجح للمعلم، لا يكن القول الرّاجح بما عليه المفتون الذين يفتون من أهل العلم الكبار يربطك بين كتاب الفقه وبين الفتوى يجعل فيه الصّلة بينك وبين هذا وهذا كان أهل العلم عندنا يذكرون في تدريس الزاد الأشياء التالية يذكرون.
أولا: صورة المسألة حكمها، بناء على ما ذكره صاحب الكتاب.(8/19)
هل لشيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم أو أحد من أئمة الدعوة هل لهم اختيار مخالف لأنهم نخلوا المذهب فالمسائل المرجوحة بينوها نقول مثلا في المياه ثلاثة أقسام يقول لك المعلم واختار الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام أنّ المياه قسمان، لا تحتاج تفصيل في كل مسألة ولا تعليق المعلم يحتاج إلى معرفة ما عليه الفتوى فيقول لك يفتي الشيخ الفلاني مثلا يفتي سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله في المسألة بكذا يربطك هذا الذي تحتاجه أما نأتي عند مسألة نقول دليلها كذا واستدلوا لها بكذا وهذا الدليل أخرجه فلان وفلان وفيه الراوي الفلاني فيه علة ولا يصح الاستدلال والقول مرجوح والصواب قول الشعبي وإسحاق والشافعي، هذا في المسائل ما يحتاج لكن طالب العلم الذي يعرف هذه المسائل ويتحملها يقرأها في الكتب المطولة ليس كل كتاب قرأت منه أو حضرت آتي وأعطيك المعلومات فمعناه أنّي أستعرض ما قرأت هذه ليست طريقة أهل العلم إنما طريقة أهل العلم أن يعطيك ما ينفعك هكذا في سائر أبواب الفقه كل باب تمر عليه بهذه الطريقة إذا ضبطت المسائل بتصورات تأتي أنت مع مرور الزمن تكون القاعدة قد بنيت المسألة هذه مرجوحة راجحة دليلها القول المخالف تنبني معك مع الزمن يأتي كل ركن في مكانه الصحيح تنبني يبدأ البنيان معك يرتفع يرتفع وتتصور المسائل في البداية يكون عشرة في المائة فأهمها فأهم أدلتها تصورت المسائل بعد سنة تلاحظ أنها خمسة عشر في المائة بعد سنتين تكون عشرين وهكذا مع الزمن أما الطريقة الموجودة اليوم يأتي طالب العلم عنده في مسألة تفصيل ساعة تسأله في مسائل أخرى في الفقه ما عنده علم بها هذا خلل في طلب العلم شمولية ثم بعد ذلك تبدأ تنمي حتى يكبر.(8/20)
على نفس الطريقة تسير في العلوم المساعدة طبعا انتهينا من العلوم الأصلية تسير في العلوم المساعدة على نفس الطريقة تبدأ بالمختصرات ثم تترقى شيئا فشيئا وذكرت لك من العلوم التاريخ يدخل فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة ابن هشام فيها كفاية في ذلك كذلك يدخل فيه أنواع التاريخ هذه علوم التي هي الملح تقرأ ما شئت من ذلك العلوم لابد من العناية بها أصول التفسير أصول الفقه أصول الحديث الذي هو المصطلح والنحو ولا علم بدون النحو يقول الشاعر ابن الوردي:
جمّل المنطق بالنحو فمن
يحرم الإعراب بالنطق اختبل
طالب العلم تجد كلامه مكسر هذا لا يصلح كيف أئتمنه على فهم معاني الكتاب والسنة وهو لا يفهم النحو ما يؤتمن في الواقع بأنّه سيكون مقلد ينقل لكن يأتيني في مسائل يجتهد فيها وعبارته أصلا عربيته ليست بجيدة ما يفهم اللسان العربي هذا لا شك أنّه خلل لابد من العناية بالنحو والنحو عمدته الإعراب تقرأ على شيخ ثم تعرب ما شئت أي شيئ يقابلك أعرفه، تقرأ خبر في الجريدة أعربه سورة تقرأها من القرآن أعربها حديث أعربه هذا يبين النحو عندك وإلا بدأت تشارك فيه الآن من كبار العلماء كان يأتي يسأل في الإعراب لابد من مجالس أهل العلم الذي يدرس فيه النحو والعلوم الأخرى لابد يسأل ما إعراب قوله تعالى كذا؟ ما إعراب الجملة الفلانية ينشطون مع الإعراب، إذا ترقى وحفظ الألفية سيأتي بالإعراب والدليل مثلا يقول محمد قادم محمد ما إعرابها؟ قال مبتدأ يقول المعلم قلت مبتدأ ما الدليل يقول قال ابن مالك في الخلاصة:
مبتدأ زيد وعاذر خبر
إنْ قلت زيد عاذر من اعتذر
مثلا لو قلت الآية {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} هذا يقول الذين اسم موصول لابد له في صلته من عائد يعود له ما العائد؟ يقول الطالب العائد محذوف يسأل المعلم ما الدليل؟ يقول: قول ابن مالك:
.......................................
والحذف عندهم كثير منجل
في عائد متصل إن انتصب(8/21)
بفعل أو وصف كمن يرجو يهب
قال الدليل هذا يربطنا بالنحو تماما لكن هذه الطريقة ليست موجودة الآن المقصود من هذا نختم الدرس بالوصية بالجد في طلب العلم وأن تحرصوا على المنهجية والأمة اليوم بحاجة إلى علماء بحاجة إلى طلاب علم،لأنه أين الموجهون؟ يوجهون الناس بالآراء بالأفكار بالثقافات بالمفاهيم لا إنما يوجه بالعلم علم راسخ يستحضر دليله يفهم أصول المسألة وكلام أهل العلم عليها حتى يسير الناس على بينة ونحن بحاجة إلى طلاب علم اليوم والطلاب الراغبون في العلم كثيرون لكن طلاب العلم قليلون من هم طلاب العلم؟ هم الذين يسيرون على وفق الطريقة الصحيحة التي سار عليها من كان قبلنا من أهل العلم وهي هذه الطريقة التي ذكرت لك فإن أنت طبقتها فستكون منتفعا بإذن الله أكبر الانتفاع تحس في نفسك في سنة أنك تغيرت تغير واضح وأحسست أنك طالب العلم علم بدأت تفهم وإن أهملت وحضرت ورحت وجئت وما أصلت فإنك ستحرم بقدر ما أخللت بذاك أسأل الله أن ينور قلبي وقلوبكم بالهدى والاستقامة وأن يجعلنا من طلبة العلم الذين يخشونه وأن يجعلنا للناس أئمة هدى يرشدون من ضل إلى الهدى ويحيون بكتاب الله الموتى وأسأله لكل واحد حاضر معنا أن يكتب الله جلّ وعلا له خير خاتمة في حياته وأن ييسر لنا الخير أينما كنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يأخذ بأيدينا إلى كلّ قول أو عمل يحبه ويرضاه إنّه ولي ذلك والقادر عليه وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(8/22)
المنهجية في قراءة كتب أهل العلم
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كلّه، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما مزيدًا.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والقلب الخاشع، والدعاء المسموع، اللّهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين، ثم إني مسرورٌ بهذا اللِّقاء بالإخوة طلبة العلم، في هذا البلد المبارك، وبالشباب بعامة، لما بيننا من صلة ومحبة في الله وإنْ لم نلتق قبلُ، ولا شك أنّ العلمَ، من أقوى الروابط بين أهله، فطالب العلم لطالب العلم أخٌ وناصرٌ ووليٌّ ومحبٌ، فهم خاصة أهل الإيمان، وقد قال جلّ وعلا: {والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ومن مقتضى الولاية، أنْ يحبه وأنْ ينصرهُ وأنْ يكون معه كما يحب أنْ يكون مع نفسه.
طلب العلم طريقٌ طويل، لا يكون إلاّ بترك للهو والشهوات، وإقبال جادٍ عليه، لأنّ الله جلّ وعلا، وصف وهو أصدق الواصفين، وأصدق القائلين، وصف ما أنزل على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بأنّه قول ثقيل، فقال جلّ وعلا: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا}، والقول الثقيل هو ((الكتاب والسنة)) ولهذا لما قيل للإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، في مسألة، توقف عن الإجابة فيها، قال القائلُ له: ((هذه مسألة سهلة، أو مسألة يسيرة))، فقال: ((لا تقل هذا فما في العلم صغر أو كَبُر شيءٌ يسير أو شيء سهل، لأنّ الله جلّ وعلا وصفه بأنه ثقيل: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً})).(9/1)
وهذا الفهم العظيم، هو أول درجات الصعود في طلب العلم، أنْ تفهم أنّ العلم كلّه ثقيل، فكل مسألة من مسائل العلم، تحتاج منك إلى إقبال بقلبٍ، وفهمٍ مستقلٍ، فمن قال هذه مسألة سهلة نمرّ عليها وعنها مرور الكرام، فإنّه لن يحصِّل العلم حتى يكون العلمُ عنده سواء، بكلياته وجزئياته، بقواعده وفروعه، بأصوله وتفريعاته، سواء من جهة العناية به، سواء من جهة تحصيله، وترديده وحفظه، وتثبيته فالعلم، إذا تركته تركك، وإذا أقبلت عليه أعطاك بعضه، كما هو معلوم في المقالة المشهورة: ((العلم إنْ أعطيته كلّك أعطاك بعضه، وإنْ أعطيته بعضك لم تدرك منه شيئا)).
وهذا واقع مجرب. هذه المحاضرة، عنونت: ((بالمنهجية في قراءة كتب أهل العلم))، وموضوعها مهم، لأنّ كثيرين قرءوا كتبًا متنوعةً، لكن تجيء الشكوى منهم، متواترة بأننا لم نحصِّل علمًا راسخا مقعدًا، لم نضبط العلم بحيث نطمئن إلى هذا العمر الذي بذلناه في العلم، وهذا تجده عند كثيرين؛ لأنهم قرءوا مدة طويلة وربما حضروا بعض الدروس عند أهل العلم، وربما كتبوا الكتابات أو البحوث أو ألّفوا، ولكن في قرارة نفسه يدرك أنّه لم يحصل من العلم ما به تتميز مسائله، وما به يتضح المُشْكلُ منه، فلهذا جاءت هذه المحاضرة، وكانت مهمة لأنه لابدّ من منهج مضبوطٍ للقراءة في كتب أهل العلم، ومن لم يسر في حياته كلّها على منهج منضبط يرجعُ إليه، فإنّه سيترك الطريق الواضح، وسيأخذ بالطرق المختلفة.
كتب أهل العلم، إذا نظرت إليها في هذا الزمن وجدتها تصل إلى عشرات الآلاف في الفنون المختلفة، فهل العلم كثير، بكثرة هذه الكتب؟(9/2)
الجواب: ما وصفه وأجاب به الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: ((العلم نقطة كثرها الجاهلون))، يعني أنّ أصل العلم، الذي فقهه الصحابة رضوان الله عليهم قليل، هو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قليل بالنسبة إلى ما كَثُرَ في زمن علي رضي الله عنه من كثرة المسائل والتفريعات التي لا يحتاج إليها الناس، وكلّما ازداد الناس بعدًا عن الزمن الأول، احتاجوا إلى ازدياد العلم، أو ازدياد الكتب لأجل أنْ يفقهوا -كما قال العلم نقطة كثرها الجاهلون، فلأجل وجود الجهل وأهله كثر التأليف وكثر التصنيف، لأجل أنْ يبسط العلم لأهله، وبه أهله يهدون الجاهل ويرشدون الضال، كذلك إذا تقدمت في الزمن وجدت أنّ الكتب في أول زمان الإسلام قليلة، ثم تكثر شيئا فشيئا، وهذه الكتب تنوعت بتنوع العلوم والفنون، فأوّل ما دوِّن من الكتب، الحديث، هو أول ما دون بعد القرآن العظيم، دونت السنة، على اختلاف أنواع التدوين ما بين صحائف محدودة، إلى أشياء كثيرة، ثم تلاها تدوين التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه كما هو معلوم في الصحيفة الصادقة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، والتي قال فيها الإمام أحمد رحمه الله إنّ بمصر صحيفة في التفسير، يرويها علي بن أبي طلحة، لو رحَلَ رجل لها ما كان كثيرًا، وهذه الصحيفة صادقة صحيحة عن ابن عباس وإنْ لم يلق عليُّ بنُ أبي طلحةَ ابنَ عباس، كما هو معلوم، فهي مروية بالوجادة عن مجاهد عن ابن عباس، كما حرّره الحافظ ابن حجر أول التفسير من كتاب فتح الباري.
جاءت مصنفات في التوحيد -في العقيدة- لما ظهر أهل الفرق، لما ظهرت الفرق المختلفة من خوارج ومرجئة، جاءت الرسائل ومختصرات التصنيف إمّا في كتب أهل الحديث، وإما مفردة شيئا فشيئا، ثم توالى الزمان، حتى صار لك فنٍّ كتب كثيرة، وإذا أردنا أنْ نضبط المنهجية في قراءة كتب أهل العلم، فإننا نقسِمُ ذلك إلى قسمين:(9/3)
الأول: منهجية عامة تصلح للضبط في قراءة أي نوع من كتب أهل العلم، سواءٌ أكان في العقيدة أمْ كان التفسير أم الحديث أم الفقه إلى آخر الفنون الأصلية، والمساعدة، فالعلوم الأساسية والعلوم الصناعية كلها ثمَّ ضوابط عامة يمكن أنْ تسير عليها في منهج واضح تضبط به العلم المنتشر في تلك الكتب، وثمَّ ضوابط خاصة بكل علم، التفسير له قواعدُ تحصل علمه، وله قواعد ضبط التفسير من حيث هو، الحديث كذلك، العقيدة كذلك، إلى آخر الفنون...(9/4)
القسم الأول: الضوابط التي تصلح لجميع كتب أهل العلم نقدم لها بمقدمة، وهي أنّ العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين، علم مقصود لذاته، وعلم مقصود لغيره، أما العلم المقصود لذاته فهو علم الكتاب والسنة، فقه كلام الله جلّ وعلا، وفقه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذان العلمان هما المقصودان بالأصالة، وبهما يُمدَحُ أهل العلم، {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، يعني الذين فقهوا عن الله جل وعلا مراده وعن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مراده، علم الكتاب وعلم السنة فيه التوحيد، وفيه الحلال والحرامُ، فرجعَ الأمرُ إذًا إلى علمين، ألاَ وهما علم العقيدة، والتوحيد، وعلم الحلال والحرام، الذي هو الفقه، هذا العلمان التوحيد والفقه، مقصودان لذاتهما؛ لأنّه بالتوحيد يتحقق الإخلاص، وعبادة الله جلّ وعلا وحده دون ما سواه، والإيمان بأركان الإيمان حقّ الإيمان، وبالفقه يكون الامتثال في الأمر والنهي، لأنّ الله جل وعلا، جعل دينه أخبارا وأوامر ونواهي، فالتصديق بالأخبار، هو الاعتقاد، وامتثال الأوامر والنواهي، هو امتثال العمليات، كما قال جلّ وعلا: {وتمت كلة ربك صدقًا وعدلا}، صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأمر والنهي، فإذًا العلمان المقصودان لذاتها في طلب العلم هما التوحيد والفقه، والمقصود لغيره من الفنون ما كان من العلوم الصناعية المختلفة، علوم العربية بعامة ليست مقصودة لذاتها، علم النحو علم الصرف، وعلم المعاني والبيان، والبديع، وعلوم البلاغة المختلفة، وعلوم الاشتقاق وهي ضمن الصرف، ومفردات اللغة، وأشباه ذلك، وكذلك أصول الفقه، أصول الحديث، السيرة، هذه كلّها مقصودة لغيرها، ليس طلبها مقصودًا لذاته، يعني أنّ طالب العلم إذا قرأ هذه الفنون فإنما يقرأها للتوصل إلى العلمين المقصودين، ألا وهما علم التوحيد وعلم الفقه، فقه الكتاب والسنة، فإذا رامَ أنْ يجعل الوسيلة غاية، فإنه لا يكون فاقهًا الكتاب والسنة،(9/5)
وإنّما يكون قام ربما بفرضٍ كفائي في تعلم وسيلة مساعدة لفقه الكتاب والسنة، هذا النوع بعامة
-العلم المقصود لذاته والمقصود لغيره- كتُبُهُ كثيرةٌ متنوعة كما قلنا هذه منهجية تشمل الجميع، فأول الضوابط في ذلك، أنْ تعلم أنّ كتب أي علم من العلوم تنقسم إلى كتب مختصرة، (متون)، وإلى متوسطة، وإلى منتهية، إلى شروح كبار، فأي علم من العلوم، التفسير، شروح الحديث بل الحديث نفسه، والفقه، والعقيدة، إلى آخر ذلك، كتبه ما بين مختصر ومطوّل، من رامَ المطول قبل المختصر، فقدَ منهجيةً مهمة، في استقرار الأصول، والمختصرات لها فائدة، وفائدتها تثبيت أصول العلم، والبناء كما هو معلوم يحتاج إلى أساس قبل تشييد ارتفاعه، فالمختصرات طريق للكتب المتوسطة، طريق للكتب المطوَّلة، فإذًا من لم يحكم المختصرات فلا يديمنّ النظر في المطوّلات، وإنما المطولات في أي فنٍّ من الفنون يُحتاج إليها في معرفة ما أشكل من المختصرات، فالمطولات بالنسبة للمختصرات، كالعلوم الصناعية بالنسبة للعلوم الأساسية، يعني أنّ ابتداء طالب العلم والمتوسط أيضا لا يكون بالكتب المطولات، فإذا لا يحسنُ أنْ نسمع من بعض طلبة العلم المبتدئين أنْ يقول قرأت كتاب فتح الباري، وقرأت المغني، قرأت المجموع شرح المهذب، قرأت المحلى، قرأت نيل الأوطار، إلى آخر ذلك، هذا لا يحسن؛ لأنّه وإنْ قرأ فسيؤول به الأمر إلى عدم التحصيل، سيكون ثمَّ معلومات متناثرة، في قلبه لا يجمعها زمام، ولا يربط بينها رابط، هنا لابدَّ إذًا كمنهجية في القراءة أنْ تبدأ بالمختصر، ثم المتوسط، ثم المطوَّل، في تأسيسك، لكن إنْ أردتَ مراجعةَ مسألة، فتراجعها في أيّ كتاب شئتَ، في المطول أو المتوسط أو غيره، لكن كتأسيس في طلب العلم، لابدّ من رعاية الاختصار، قبل المتوسط، قبل المطوَّل، وما أحسن صنيع الموفق ابن قدامة رحمه الله، إذ ألف في الفقه ما يمثل هذا المنهج، فألَّفَ مثلاً كتاب العمدة في الفقه، المعروف وهو(9/6)
كتاب مختصر، أطول منه قليلا المقنع وله منهج، أطول منه الكافي وله منهج، والمنتهي يقرأ المغني، وسمعت الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى مرّة يقول: ((إنّ الموفق ابن قدامة رحمه الله سبق المدارس الحديثة، فجعل العمدة في الفقه للمستوى الابتدائي، والمقنع للمستوى المتوسط، والكافي للمستوى الثانوي، والمغني للمستوى الجامعي))، طبعًا بالنسبة إلى أهل العلم الذين يدركون هذه الكتب، وإلاّ فربّما قرأ بعض من في المستوى الجامعي الآن، العمدة ولم يدرك أكثره، فإذًا من المهم في المنهجية في القراءة، أنْ يكون ثمَّ تفريق ما بين التأسيس والاطلاع، وهذه مرة كلمة قلتها وسجلت وهي مهمة لو رُجِعَ إليها، وهي: ((الفرق ما بين العقد والملح في العلم))، العلم منه عُقَد يصار إليها ومنه ملح مساندة، فمن رام المُلح وترك عقد العلم، فإنّه لن يدرك بل سيكون عنده أخبار كثيرة ومعلومات أو ثقافة لكن لا يستطيع أنْ يتكلم بوضوحٍ في مسألة عقدية، أو في مسألة فقهية، فإذًا أول المنهج العام في قراءة كتب أهل العلم بعامة، أنْ يكون ثمَّ انتقال من المختصر إلى المطوّل وهذا يتفرّع بتفرع الفنون المختلفة.
الثاني: أنْ يكون القارئ منتبهًا إلى مذهب الإمام أو المؤلف، فالعلماء ألّفوا كتبًا ولكن ألفوها بحسب نزْعَةِ كلّ منهم، من جهة مذهبية، فمنهم من هو من الحنابلة، ومنهم من هو من الشافعية، ومنهم من هو من الحنفية، ومنهم من هو من المالكية، وكذلك منهم من صفى مشربه في السنة، ومنهم من صار عنده صواب كثير وغلط قليل في السنة، ومنهم من خلط سنة وبدعة إلى آخر ذلك، فمعرفة هذا المؤلِّف، والمُؤَلَّف، مهم قبل الإقبال عليه، وهذا لابدّ منه، لأنّه قد يتأثر القارئ، بمؤلف وهو لا يدري إلى أيِّ شيء نزع.(9/7)
فمثلاً بعض طلبة العلم، يرجح دائما ما في (شروح كتب الحديث) على ما في الشروح المطولة في كتب الفقه، لأنّ شارح الحديث عندهم أكثرا استقلالا وأميل للاجتهاد من الذي ألَّف في الفقه، فينظر إلى أنّ ترجيح صاحب كتاب الحديث أوثق من ترجيح صاحب كتاب الفقه، هذا ليس صوابًا على إطلاقه، بل نجد أنّ شرّاح الحديث نزعوا في ترجيحاتهم إلى مذاهبهم، فمثلا، تجد أنّ الحافظ النووي في شرح مسلم رجَّح ما يرجحه الشافعية، وإذا دخل أيضا في استدلالٍ، وتطبيقٍ لأصول الفقه، فهو يطبق أصول الفقه الشافعية، فينظر الناظر إلى أنّه إذا قال في مسألة ما هذا الحديث صحيح، وهذه المسألة الراجح فيها كذا، لمجيء الحديث الصحيح بها، فيرجح من جهة ترجيح النووي، المنبني على صحة الإسناد، وهذا صحيح في كثير من المسائل، وغيرُ صحيح في بعض لهذا نجد أنّه رجح أشياء في مسائل الصواب خلافُها، لم؟
لأنّ صحة الإسناد، أو صحة الحديث، ليست كافية في الفقه، بل الأهم منها، أنْ ننظر في وجه الاستدلال من الحديث على المسألة وجه الاستدلال، يعني الاستنباط، كيف استنبط الحكم من المسألة، استنباط الحكم من الدليل، هذا يُرجع فيه إلى أي علم؟!
إلى أصول الفقه، الحكم بصحة الإسناد يرجع فيه إلى مصطلح الحديث وإلى علم الرجال، في كلا الأمرين المصطلح والرجال، وعلم أصول الفقه، هذه كلّها لها تبعات ولها خلفيات سابقة، فتجد أنّه رجّح صحة الإسناد لمذهبٍ له في الإسناد.
فمثلاً، تجدُ أنّه يرجح صحة الترجمة المعروفة ((عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه))، أو يرجح صحة ((بهز بن حكيم عن أبيه عن جده))، أو ما أشبه ذلك، وغيره قد ينازعه في ذلك، كذلك من جهة رجل، هل هو ثقة أم ليس بثقة، هل هو صدوق أم هو يهم، هل هو مقبولُ الرّواية في هذا الباب أم ليس بمقبول الرواية، هل هو مقبول الرواية عن هذا الشيخ أم ليس بمقبول الرّواية وهذا مما يدخل في علم علل الحديث.(9/8)
المسألة الثانية: أصول الفقه إذا صح الإسناد، وصح الحديث، فكيف نستنبط الحكم من الدليل لابدّ من استخدام أصول الفقه فيأتي استخدام أصول الفقه في بعض الأحيان موافقا لمذهب المؤلف، فينظر الناظر ويقول هذه المسألة رجحها الحافظ ابن حجر، رجحها الحافظ ابن حجر بناءً على مذهبه في أصول الفقه، فيأتي الناظر، ويقول الدليل كذا وصحّح إسناده الحافظ أو صححه الحافظ في الفتح أو في البلوغ، ورَجَح كذا لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل لا بد من النظر في أصول الفقه التي بها استنبط الشارح الحكم في المسألة، ولهذا نقولُ إنّ بعض المسائل، جاء الخَلل فيها من جهة العقيدة، من جهة عدم إحسان تطبيق أصول الفقه، أو من جهة عدم معرفة هدي السلف، أو من جهة أنّ المؤلف لم يكمل الآثار في هذا الباب، وهذا متنوعٌ كثير، فتجد مثلاً الحافظ النووي، عنده أشياء حتى في كتاب رياض الصالحين، في كتاب رياض الصالحين عقد بابًا في كراهة الحلف بالأمانة وبتربة فلان وبقبر فلان، والحديث الذي استند إليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))، واستند أيضا إلى ما صح في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: (( من حلف بالأمانة فليس منّا))، فيأتي الناظر ويقول النووي قال: يكره، ما دليل النووي؟ أتى بالدليل الذي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، ويدخل في عموم قوله من حلف بغير الله الحلف بالقبر أو بالتربة أو بالأمانة، إلى آخر ذلك، فإذًا هناك بونٌ شاسعٌ ما بين قوله مكروه، وما بين قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، وقوله: ((من حلف بالأمانة فليس منا))، ومن المتقرر عند المحققين من أهل العلم أنّ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليس منّا من فعل كذا)) أنّه يدلّ على التحريم كما هو مقرر عند الجمهور في تحقيق أصول الفقه، إذًا الترجمة شيء والاستدلال شيءٌ آخر، لو ناقشنا النووي(9/9)
لمَ ذهبتَ إلى الكراهة؟ ما ندري بمَ يجيب؟ لكنْ أظنّ أنّه نزع إلى شيء عنده في أصول الفقه، به فهم قوله: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، أنّ المقصود به كفر النعمة أو الشرك الأصغر، وهذا يدخل في كراهة التحريم، ولم يطلق كراهة التحريم، وإنّما أطلق الكراهة دون التحريم، المقصود من هذا أنْ تنتبه إلى الفرق ما بين وجه الاستدلال وما بين حكم صاحب الكتاب، وهذه مسألة كبيرة تدخلك في أنواع من البحث في قراءة كتب أهل العلم.(9/10)
فإذًا ضابط عام، فيما تقرأ من كتب أهل العلم أنْ تتبين منهج المؤلف، فليس كلّ عالمٍ رجّح مسألة، تكون راجحة في نفس الأمر، بل لابدّ لرجحان مسألة، من صحة الدليل، ورجحان الاستدلال، من الفروق المهمة في قراءة كتب أهل العلم، وفي طلب العلم ألاّ يظنّ الظان أنّ الراجح في المسائل العلمية يكون راجحا لمجيء الدليل لقولٍ، وعدم مجيء الدليل لقول آخر، هذا قليل، وهذه هي المسائل التي تسمى مسائل الخلاف، هي ليس الكلام فيها، وإنّما أكثر الخلاف مجيء دليل، ينزع المجتهد الأول منه بوجه من الاستدلال، وينزع المجتهد الثاني منه بوجه استدلالٍ آخر، متى يكون الاستدلال راجحًا؟ ويكون القول في المسألة راجحًا؟ إذا كان الاعتراض على الاستدلال الأول أقل من الاعتراض على الاستدلال الثاني، تجد مثلا إذا نظرت مثلا في نيل الأوطار أو فتح الباري أو المجموع أو المغني، أو غير ذلك، ترى أنّ هذا الإمام ينزع من نفس الدليل إلى حكم، والآخر ينزع إلى حكم آخر من نفس الدليل، وهذا راجع إلى اختلاف المجتهدين، متى يكون القول راجحا؟ نرجح الأول أوالثاني؟! ليست المسألة مسألة أهواء ولا شهوات، يرجح ما كان الاعتراض عليه من القولين أقل، وإلاّ فلا تتصور أنّ ثمة مسائل كثيرة في العلم الراجح فيها راجح مطلق، بمعنى أنْ يكون الأول صوابًا تاما، والآخر غلطا تاما، هذا قليل في مسائل العلم، والأكثر أنْ يكون هذا عنده وجه استدلال، وهذا عنده وجه استدلال، لكن الاعتراض على أحد الاستدلالين أكثر من الاعتراض على استدلال الإمام الآخر، فيكون ما قلّ عليه الاعتراض راجحًا وما كثُر عليه الاعتراض مرجوحا.
الضابط الثالث: من الضوابط العامة في المنهجية، أنْ ينتبه طالب العلم، إلى المسألة التي يقرأها في فَهْم بلغةِ أهل العلم، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل:(9/11)
ذلك أنّ لغة أهل العلم، بها ألفت العلوم فمن نظر مثلا في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بما يفهمه من لغته الدارجة أو من لغة الجرائد أو من لغة الثقافة العصرية، فإنّه سيخطئ في كثير من المسائل، في فهمها، في فهم مراد شيخ الإسلام من كلامه، لأنّ أهل العلم على اختلاف العصور دونوا العلم بلغة العلم، لم يدونوا العلم بلغتهم في زمانهم حتى يتواصل العلم ويلحق الآخر بالأول في فهم العلم، فإذًا العلم له لغة، العلم له مصطلح، العلم له ألفاظ، يجب أنْ يفهم العلم بالوعاء الذي احتوته تلك الألفاظ، فالألفاظ وعاءٌ للمعاني فكل لفظ، في كتب أهل العلم لا يسوغُ أنْ يفهم بما عند القارئ من المقررات السابقة، لأنّه إذا فهمه على هذا الأساس فإنه سيفهم العلم على غير مراد أهله، وهذه مهمة جدًّا، وإنما تدرك بطلب العلم عند أهل العلم، كيف أو ما مراد العلماء في الفقه بهذه الكلمة؟ و هذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في العقيدة بهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في النحو؟ إلى آخره.
فألفاظ العلم ألفاظ رعاها العلماء، وهكذا ينبغي على كل طالب علمٍ درّس أو تلقى العلم أنْ يجتهد في التعبير عن العلم بلغة أهله، فإنْ عبر عن العلم بغير لغة أهله، فإنّه لن يكون متصلا مع من سبقه بسبب وثيق، وكذلك من فهم كلام أهل العلم على غير ما تقرره لغة أهل العلم، فإنه لن يدرك.
الضابط الرابع من الضوابط العامة: أنّ كتب أهل العلم المطولة والمتوسطة والمختصرة، تحتاج من القارئ ومن طالب العلم إلى تدوين للمهم منها، فالقراءة وحدها غير مجدية، فلابد مع القراءة من تدوينٍ وكتابة، وكم سمعنا في كتب أهل العلم، وفيما خلّفوه مختصرات للكتب، تجد مثلا العالم الفلاني اختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، لمَ؟(9/12)
هل هو رغبة في الاختصار من حيث هو؟ لا، الاختصار نوعٌ فهمٍ للمختصر، ولذلك انتخاب طالب العلم من كتب أهل العلم ما ينفعه في فهم العلم هذا مهم فتأخذ مثلا في قراءتك في المختصرات أو في المطولات تأخذ الفوائد لتجعلها في كُنَّاشَةٍ مستقلة، في دفتر مستقل، وهذه الفوائد تترقى معك، بترقي عمرك في طلب العلم، فستجد يومًا ما بعد سنين عددا، أنّ ما كتبته في أول الطلب مع أنه كان عندك أعَزّ من بيضِ الأنُوق في الفائدة، ستجد أنّه لا شيء، لأنّه صار عندك واضحا جدا، بحيث إنك تقول كيف كتبت أول عمري هذه الفائدة فمثلا واحد يكتب الفرق بين السنة والمستحب، بعد سنين يرجع كيف أنا أفرق بين السنة والمستحب!! يعني هذه المسألة واضحة ما تحتاج إلى أنْ تكتب فائدة، من كتب أهل العلم، مثلا يكتب هل المباح من الأحكام التكليفية أو خارج عن الأحكام التكليفية، فائدة ينقلها من كتاب أصول أو كتاب قواعد، وهذا يجد في يوم ما أنّ هذه المسألة لا تستحق أنْ تدون.
القواعد انقسامها إلى قواعد كلية وإلى قواعد جزئية، والجزئية انقسامها إلى كذا وكذا في قواعد الفقه، هذه سيكتبها يوما ما ثم بعد ذلك يقول هذه لم أحتج أنْ أكتبها، لظنه أنها صارت واضحة عنده، فمن سهولتها قال لا احتاج إلى كتابتها، وهذا غير صحيح فإنما تتضح بالانتخاب، يعني أنّك إذا قرأت كتابا، فاجعل دائما بجنبك الدفتر والقلم، واكتب الفوائد التي تمر بك، اكتبها تارة بالعنوان، ترجع إليها في وقت فراغك وتملي، وتارة تكتبها بالتفصيل حتى تراجعها مرّةً وثانيةً وثالثةً، فإذا اتضحت، صار ما بعدها من العلم أيسر، كما تعلّم الصغير ألف باء تاء ثاء، فإنّ العلم كذلك يحتاج إلى تعود، هذه بعض الضوابط العامة في قراءة كتب أهل العلم بعامة.(9/13)
وسبق أنْ ألقيت كلمة بعنوان: ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية))، مؤلفات شيخ الإسلام العقدية، ومؤلفات شيخ الإسلام الفقهية، سواء من الرسائل والقواعد والأصول في هذا العلم أو من هذا العلم، أومن الكتب الكبار، ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية)) هذه آمل أنْ يرجع إليها الأخ لأنها تفصيل وهي طويلة بعض الشيء، تفصيل لضوابط عامة في قراءة كتب شيخ الإسلام رحمه الله، وهي تنطبق أيضا في جمل منها على غالب كتب شيخ الإسلام.
إذا تبين ذلك، فالقسم الثاني ممّا يحتاج فيه إلى تبيين المنهجية، التفصيلات بالنسبة للفنون، يعني كيف نقرأ كتب التفسير، كيف نقرأ كتب العقيدة، كيف نقرأ كتب الفقه، كيف نقرأ كتب الحديث إلى آخره، تلك ضوابط عامة، ونأتي الآن إلى ضوابط خاصة لكل فن من الفنون.
نبتدئ بالتفسير لأنّه شرح كلام الله جلّ وعلا، وفَسْرُه، وبيان تأويله، التفسير لا شك أنّه من العلوم المهمة بل هو أصل العلوم، لأنه فقهُ القرآن والله جلّ وعلا قال لعباده: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، {كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} والآيات في الأمر بالتدبر متنوعة، التفسير كتبه منها المختصر ومنها المطول لكن كيف يترقى طالب العلم في فهم التفسير، كيف يقرأ كتبه منهم من يقرأ المطولات من كتب التفسير دائما وهذا ينطبق عليه ما ذكرناه قبل ذلك.
المنهجية العامة لتحقيق هذا العلم، أنْ ترتب القراءة فيه على هذه المراتب:(9/14)
أما المرتبة الأولى: فهي معرفة الوجوه والنظائر في التفسير، فالتفسير بيان لمعاني القرآن، القرآن ثمَّ فيه كلمات كثيرة تكررت في السور فقد تكون الكلمة لها معنى في سورة البقرة، والمعنى نفسه في سورة آل عمران وتمشي إلى آخر المصحف، وهذه ما تسمى بالكلمات ذات المعنى الواحد، وهناك كلمات لا، الكلمة واحدة ولها عدة معاني في القرآن، وهي التي تسمى الوجوه والنظائر أو الأسماء المتواطئة والمُشْتَرَكَة، معرفة المفردات هذه مهمة، ومعرفة المفردات تكون بقراءة كتب الوجوه والنظائر، وكتب مفردات القرآن، أما الوجوه والنظائر فمن أمثَلها كتاب ابن الجوزي رحمه الله: ((الوجوه والنظائر)) وهو من الكتب المفيدة في هذا الباب، يقول لك مثلا: كلمة ((السماء)) جاءت في القرآن على معنيين، ((الأرض))، جاءت في القرآن على ثلاثة معانٍ، ((الدابة)) جاءت في القرآن على كذا معنى، ويقدم قبل هذا بمقدمة يبين لك فيها الأصل العام لمعنى هذه الكلمة.
الخُطوة الأولى إذًا في قراءة التفسير أنْ تطلب معنى الكلمات التي يكثر ورودها في القرآن لأنّك إذا ضبطت هذه الكلمات فإنها تتكرر في التفسير فتريح قلبك وعقلك من دقة النظر والحفظ حين قراءة كتب التفسير، وتروح تهتم بشيء آخر، وكذلك مفردات القرآن، ومن أمثلها على غلطٍ عنده في الاعتقاد، وانتمائه إلى مذهب المتكلمين، كتاب ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني، وهو من أمثل الكتب في معرفة معاني المفردات.
المرتبة الثانية: في قراءة كتب التفسير أنْ ترجع في التفسير إلى اشتقاق الكلمات يعني أنْ تضبط الكلمة هذه من أين اشتُقَّت في اللغة، وتبحثها بحثًا لُغَويا لأنّ بحث الكلمات بحثا لغويا، يقوي الملكة وما يحفظ والمحفوظ في علم التفسير.
المرتبة الثالثة: أنْ تنظر إلى كتب التفسير، وكتب التفسير كما هو معلوم منقسمة إلى مدرستين:
- مدرسة التفسير بالأثر.(9/15)
- ومدرسة التفسير بالرأي، ومدرسة التفسير بالرأي أيضا لها عدة أقسام منها ما هو من ثوابت الرأي المحمود، يعني الاجتهاد والاستنباط، المقبول، الذي له أُسُسه، المقبولة شرعا، ومنها ما فسر القرآن برأي مجرد يعني بغير حجة، إما في الاعتقاد أو في غيره.
فكتب التفسير إذًا على قسمين كتب التفسير بالأثر وكتب التفسير بالرأي، كتب التفسير بالأثر، نعني بها الكتب التي تمحظت في نقل الآثار، فيأتي في التفسير هذه فسرها ابن عباس كذا وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير مثلا، وابن مسعود وعلقمة إلى آخر ذلك، به قال فلان وفلان وفلان يعني نقل أقوال السلف في التفسير تسمى التفسير بالمأثور، من المهم الطالب العلم، قبل أنْ يقرأ في كتب التفسير بالرأي المحمود، مثل تفسير القرطبي، أو تفسير الألوسي أو تفسير كذا وكذا من الكتب، سواء كانت من مدرسة التفاسير الفقهية أو الموسوعية، قبل أنْ يقرأها لابدّ أنْ يطالع قول السلف في التفسير لمَ؟
لأنّه من المتقرر عند أهل العلم بعامة أنّه لا يجوز أنْ يعتقد أنّ صوابا في مسألة من مسائل التفسير يحجب عن الصحابة والتابعين، ويُدْرِكُ هذا الصواب من بعدهم؛ لأنّهم هم الذين نزل عليهم التنزيل، أعني الصحابة، فنقوله إلى من بعدهم، فكل تفسير يضاد، -وألحظ أنني أقول يضاد، ولا أقول يخالف- تفسير السلف فإنه قطعًا غلط؛ لأنّه لا يجوز أنْ يُعتقدَ أو يظنّ أنّ ثمة صوابا في التفسير يُحجب عن سلف هذه الأمة لأنه لا يجوز أنْ نقول أو نظن أنّ كلمة من القرآن جهلها الصحابة وأدركها من بعدهم، فسرها الصحابة بتفسير ويأتي المتأخر فيفسرها بتفسير مضاد له ويكون الصواب مع المتأخر هذا قطعا ممتنع.(9/16)
ولهذا نقول في أساسيات قراءة كتب التفسير أنْ تبدأ بقرأءة التفسير بالمأثور، قبل التفسير بالرأي، أنْ تطالع آثار السلف في الآية، قبل أنْ تنظر في اجتهادات المتأخرين التي تكون مبنية على العلوم المختلفة، النحو ومفردات اللغة وأصول الفقه إلى غير ذلك... كتب التفسير بالأثر متدرجة، عندك صحيفة علي بن أبي طلحة التي ذكرنا مهمة انْ تقرأ تفسيرها أول ما تقرأ ثم تفسير عبد الرزاق وهو مطبوع في أجزاء قليلة، ثم تفسير ابن جرير، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير إلى آخره، هذه مدرسة التفسير بالأثر ثم مدرسة التفسير بالرّأي يعني بالاجتهاد والاستنباط، وأكثرهم استخدموا علوم الآلة يعني اللغة والمفردات في التفسير هذه وهذه فإذا ضبطت أقوال المفسرين ومشيت ومعها خَطوة فخطوة، ترجع إلى التفسير بالرأي -لا بأس-، يكون عندك منهجية صحيحة تدرك بها الصواب من غيره في التفسير.
العقيدة كيف تُقرأ كتب الاعتقاد؟ العقيدة في الأصل واضحة هي بيان أركان الإيمان، {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، فالإيمان بأركان الإيمان الستة سهل واضح تقبله الفطرة، لكن لما شاع الخلل في ذلك، ألّف أهل العلم كتبا في الاعتقاد، وهذه الكتب عند السلف على قسمين منها:
كتب أوردت الاعتقاد إيرادًا إجماليا، ومنها كتب فصلت كل مسألة من مسائل الاعتقاد، فألف في الإيمان وحده عدة مؤلفات، أُلِّفَ في القدر وحده عدة مؤلفات، ألّف في الكتاب -يعني في القرآن- عدة مؤلفات، وهكذا فإذًا كتب الاعتقاد، منها ما عرضت فيه العقيدة بعامة، ومنها ما عرض فيه موضوع من موضوعات العقيدة طبعا يمشي معك ما ذكرناه أولا من التدرج بقراءة المختصر ثم المتوسط ثم المطول من الكتب وهذا ذكرناه في محاضرة بعنوان: ((المنهجية في طلب العلم))، يمكن أنْ ترجع إليها بتفصيل إذا سرت في فهم مختصرات العقيدة، فهل هذه هي النهاية؟(9/17)
بعض طلبة العلم يرى أنّ الأكثر فائدة أنْ يقرأ في الكتب المطولة في العقيدة، يقرأ مباشرة في فتاوى شيخ الإسلام، يقرأ مباشرة في في (الإيمان) لابن منده، يقرأ مباشرة في كتاب (التوحيد) لابن منده، مثلا أو الكتب المتقدمة أو في (الشريعة) للآجري أو في كتاب اللالكائي، وهكذا، وهذه الكتب لا شك أنّها أصلت مذاهب السلف لكن مذاهب السلف وأقوالُهم تفرقت بحيث إنّ المؤلفين الأقدمين لم يجعلوها متواليةً في انضباطٍ تأليفي واضح في مؤلفاتهم القديمة، فأتى المتأخرون من أهل العلم والسنة، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة، وغيرهما، أتوا فلخصوا هذه العقائد في كتب مختصرة ومتوسطة لابدّ لفهم كلام السلف من فهم هذه الكتب، فإذًا الطريق إلى فهم المطولات، أنْ تفهم مختصرات الاعتقاد، مثل (الواسطية) لشيخ الإسلام و(الحموية) و(لمعة الاعتقاد) لابن قدامة وهكذا في كتبٍ كثيرة مختلفة إذا ضبطت الكتب هذه، يمكن أنْ ترجع إلى الكتب المتقدمة على ثلاث مراتب:(9/18)
المرتبة الأولى: أنْ يكون الاطلاع على المطول عند تقرير المسألة المختصرة، يعني مثلا، تأتي مسألة الإيمان في العقيدة، هل الإيمان قول وعمل واعتقاد أم أنّه قول واعتقاد دون عمل؟ المسألة المعروفة بالخلاف ما بين أهل الحديث والسنة ومرجئة الفقهاء، الفرق بين هذا وهذا يكون في الكتب المختصرة لَمْحَة عنه، لكن تفصيله يكون في المطولة، إذا احتجت إلى تفصيله تذهب إلى الكتب المطولة بخصوصها، هذه المرتبة الأولى، ويتبع هذه أنْ تنتقل من مرتبة المختصر بعد إحكامه إلى المطول بعامة، يعني إذا قرأت مثلا العقيدة وضبطتها -على المنهجية فيها- بقراءة المختصر ثم المتوسط إلى آخره على نحو ما سبق إيضاحه، فإنك تنتقل إلى كتب المتقدمين لقراءتها من أولها إذا ضبطت شروح الكتب المتأخرة فإنْ كتب المتقدمين ستَنْزِلُ كل مسألة منها منزِلها، أما إذا أخذت كتب المتقدمين دون النظر في قواعد المتأخرين التي ضبطوا بها الاعتقاد، فإنه سيكون ثم خلل كبير في فهم منهج أهل السنة وعقيدة أهل السنة، -مثال ذلك-: ما ورد في بعض كتب أهل السنة من الكلام على أبي حنيفة الإمام، رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة، هذا. لو أقبل مقبلٌ على كتب العقيدة الأولى مثل بعض كتب السنة ونحو ذلك لوجد فيها كلامًا على هذا الإمام، لم يقله أئمة أهل السنة المتأخرون، وإنّما هجروا هذا الكلام وتركوه، فلا ترى مثلا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقالةً سيئة في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنّ كتب السنة المتقدمة فيها من هذا الكلام وفيها الكلام عمّا فعله وعما فعله... إلى آخره، أما الكتب المتأخرة فلا تجد فيها ذمّا للإمام أبي حنيفة رحمه الله بما في كتب الأولين، بل هُجِر ما في كتب الأولين، وقُرِر ما يجب أنْ يقرر تباعًا لمنهج أهل السنة بعامة، لأنّ المسألة تلك كانت لها فتوى بظروفها وزمانها إلى آخره، فألف شيخ الإسلام رحمه الله ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام))، ومنهم أبو حنيفة، مع(9/19)
أنّ قوله في الإيمان معروف وقوله في كذا معروف لكن كما قيل في حقه إنّه لا يُنْظر فيه إلى هذه الأمور، لو قرأ قارئ في الكتب المتقدمة قبل المتأخرة فإنه سيحصل عنده خلل في الفهم، من أين يأتي الخلل؟
يأتي الخلل من جهة أنّ كلام السلف له بساط حال قام عليه إذا لم يَرْعَ المتأخرُ بساط الحال الذي قام عليه كلام السلف فإنه لن يفهم كلام السلف، يعني أنْ تعرف حال ذلك الزمان، وما كان فيه من أقوال، ومن مذاهب، ومن فتن إلى آخر ذلك، فينبني كلامهم على ما كان في ذلك الزمان، لكن المتأخر لما ترك، علمنا أنه تركه لعلة، ولهذا مثلا لما طبع الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله، ومعه بعض المشايخ في مكة لما طبعوا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله لم يروا بأسا من أنْ ينتزعوا منه بابًا كاملا، وهذا لأجل المصلحة الشرعية التي توافق منهج أهل السنة والجماعة فانتزعوا فصلا كاملا متعلق بأبي حنيفة رحمه الله وبأصحابه، وبالأقوال التي فيهم وذمهم أو تكفيرهم، إلى آخر ذلك، انتزعوه لمَ؟
هل انتزاعه كما قال بعضهم إنّه ليس من أداء الأمانة؟ لا بل هي أمانة، لأنّ الأمانة التي أُنيطت بنا ليست هي أمانة قبول المؤلفات على ما هي عليه، وإنما هي أمانة بقاء الأمة على وحدتها في العقيدة وعلى وحدتها في المحبة، فإذ ذهب ذاك الكلام مع زمانه فإنْ تكراره مع عدم المصلحة الشرعية منه لا حاجة إليه، وهذا لا شك أنه من الفقه المهم.(9/20)
بعض كلمات السلف في المبتدعة، بعض كلمات السلف في أهل الأهواء لها بِساطُ حال في الزمن الأول، وليس ذلك منطبقا على بساط الحال في الزمن هذا، ولذلك ترى أنّ بعضهم أخذ من تلك الكلمات كلمات عامة فطبقها على غير الزمان الذي كان ذلك القول فيه، ولو رأى كلام الأئمة الحفاظ والمحققين من أهل السنة، لوجد أنّه يخالف ذلك الكلام في التطبيق، أما في التأصيل فهو واقع، هذا استطراد لبيان أهمية قراءة كتب المتأخرين من أهل السنة في الاعتقاد وإِحْكامها قبل إدمان النظر في كتب السلف؛ لأنّ إدمان النظر في كتب السلف دون معرفةٍ بقواعد أهل السنة التي قعّدها أهل السنة والجماعة المتأخرون فإنّ هذا يعطي خللاً في فهم منهج السلف بعامة، وهذا له أمثلة كثيرة ربما تحتاج إلى وقت طويل.(9/21)
المرتبة الثانية: معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم، هذا الآن منهجية للمنتهين ليس للمبتدئين في طلب العلم، يعني بعد أنْ يحكم الأصول والمختصرات، ويضبط كلام السلف، ينتقل بعدها إلى معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم؛ لأنّه لا يسوغ أنْ تقبَل ردًّا على مردودٍ عليه بعامة، دون أنْ تسمع أو تقرأ كلام المردود عليه إلاّ إذا كان الناقل له ثقة وهذا لا شك أنّه يكفي لكن قراءة الكتب التي منها أخذت الأقوال توضح لك المراد. فتجد مثلا أنّه يقال قال فلان كذا، ومذهب مثلا الأشاعرة في المسألة كذا، وإذا نظرت كتب القوم وجدت أنّ لهم تفصيلا، لم يحتج المؤلف إلى ذكره في هذا الموطن لكن القارئ فهمه على الإطلاق، فيحصل هناك لبس في فهم مذهب القوم، نعم نحن لا ندافع عن أهل البدع لكن الله جلّ وعلا أوجب علينا أنْ لا يجرمنّا شنئان قوم على ألا نعدل، كما قال سبحانه: {ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أنْ لا تعدلوا}، والمتخلص من هواه يكون متخلصا منه في العلم أولى منه في الحُكْمِ وفي الرأي؛ لأنّ العلم يحتاج إلى تجرد ومن تجَرَّدَ في العلم أقبل على الله بقلبٍ سليم، فينظر مثلا في أقوالهم، في القول من حيث هو حتى إذا أتى من يردّ على من ردّ عليهم، فيقول لا هذا ليس في كتبنا، فتكون أنت عنده بالحجة الدامغة يعني من كان منتهيًا في طلب على العقيدة يقول لا مذكور في الكتاب الفلاني كذا وكذا، مثل المسألة التي كثيرا ما نمثل بها، مثلا، نقول: المتكلمون والأشاعرة والماتريدية إلى آخره يرون أنّ التوحيد الذي هو الغاية هو توحيد الربوبية، لا توحيد الإلهية، يعني من آمن بوجود الله جلّ وعلا وأنّه هو القادر على الاختراع وأنّه هو الخالق هذا يكفي في تحقيق (لا إله إلاّ الله)، فيأتي قائل، فيقول هذا ليس بصحيح، ليس عند علمائنا من الأشاعرة أو الماتريدية إلى آخره ليس عندنا هذا الكلام، وإنما أنتم ترددون كلامًا، تبعًا لعلمائكم لا تدرون معناه، فتقول له إنّ كتبكم(9/22)
المختصرة مثل ما في السنوسية المعروفة بأصول مذهب الأشاعرة أو عقيدة الأشاعرة، قال فيها ما نصه: ((فالإله هو المستغني عن ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فمعنى (لا إله إلا الله) لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرًا إليه كل ما عداه، إلاّ الله))، فهنا تقوم أنت بالحجة الواضحة البينة، ثم الحظ أيضا أنك قد تنقل كلاما عن متقدم ردّ به على من تقدمه، ولكن يكون في المذهب عند المتأخرين غير ما ذكره الإمام الأول عمن تقدمه، فتكون أنت تقول كلاما يأتي صاحب المذهب المنحرف يقول: ليس عندنا كذا، وقد يشكك الناس ويرد، مثل ما حصل فعلا في عدد من المؤلفات الموجودة، فإذًا طلاب العلم المحققون الذين يزاولون التأليف بخاصة هذا لابدّ لهم أنْ يرجعوا إذا أرادوا أنْ يألفوا، وخاصة في الردود أنْ يرجعوا إلى أصول كتب الناس حتى يرووا الكلام فيها نصا حيث يكون مع ذلك القيام بالأمانة، ونقل الأقوال كما فيها، لكن أعود فأنبه أنّ هذا ليس إلاّ بعد الإحكام في الاعتقاد، لا يصلح الرجوع إلى كتبهم للمبتدئين ولا أوصيكم جيمعا بالرجوع إلى كتبهم لكن من أراد أنْ يردّ ردا صحيحًا أو أنْ يكون ذا منهجية كاملة في ذلك، فلابدّ أنْ يسير على هذا النحو.
المرتبة الثالثة والأخيرة: الاطلاع على فتاوى العلماء في العقيدة، كثير من المسائل تنظيرية في كتب الاعتقاد سواء أكانت كتب الاعتقاد المتأخرة أو كتب الاعتقاد المتقدمة، تنظيرية من الذي يطبقها على الواقع؟ المحققون من أهل العلم والراسخون من أهل العلم، فالاطلاع على فتاوى العلماء، ينقل تلك المسائل من كونها نظرية إلى كونها على بساط الحال، وبساط الواقع، فإذا المرتبة الثالثة في منهجية قراءة كتب العقيدة، أنْ ترجع إلى الفتاوى في المسائل، لتربط ما بين ما هو موجود في كتب التوحيد وما هو موجود على الواقع.(9/23)
العلم الثالث، علم الحديث وعلم الحديث التدرج فيه معلوم بأنْ تُحفظ الكتب المختصرة كالأربعين النووية ثم العمدة عمدة الحديث، ثم البلوغ، بلوغ المرام، أو أنْ ينتقل من الأربعين النووية إلى البلوغ مباشرة، وينتقل بعدها إلى المنتقى إلى آخر ذلك، وهذا واضح في التدرج العام في طلب علم الحديث، لكن كتب الحديث، تحتاج منك إلى منهج واضح في قراءتها، وأعني بكتب الحديث هنا شروح الأحاديث، أما كتب الحديث التي هي المتون فهذه موجودة في الشروح، شروح الأحاديث مختلفة بحسب اختلاف المؤلفين، وبحسب اختلاف الكتب، فشروح البخاري كما هو معلوم متنوعة، شروح مسلم متنوعة، شروح أبي داود متنوعة، ولكن هناك صبغة عامة على هذه الشروح، يمكن أنْ تنضبط إذا سرتَ عليها بضابط ومنهجية مقبولة في قراءة كتب الحديث ، الأول من هذه الضوابط في قراءة كتب الحديث بخاصة أنّ المسألة الفقهية التي ذكرت في كتب الحديث يكون تفسيرها في شرح الحديث بحسب مذهب الشارح، فإذا أراد الشارح -مثلا- أنْ يعرِّف المرابحة، فسيُعَرِّفُها بما عند أهل مذهبه إذا أراد أنْ يعرِّف مثلا العروض في زكاة العروض، فسيعرفها بما عنده في مذهبه، إذا أراد أنْ يبيّن معنى الفقير والمسكين، سيبينها بما عنده في مذهبه إلاّ أنْ يكون محققا، يتوسع في كل مسألة وهذا نادر أنْ تجد من يتوسع في كل مسألة من جهة التفسير، فإذًا تفسير الكلمات تفسير المسألة، صورة المسألة، هذه ينبغي أنْ تؤخذ من كتب الفقه لا من كتب الحديث، وهذا ضابط منهجي مهم، لأنّك ترد على هذه المسألة في شروح الأحاديث، وضبط المسألة بتصويرها وبيان ما يتعلق بها ليس من واجبات الشارح، وإنّما هي راجعة إلى الفقه ففي كتب الفقه ترى تفصيل الكلام على صورة المسألة وبيان ما عليها من الضوابط أو الشروط إلى آخره، تجدها هناك، فإذًا قبل قراءة مسألةٍ ما في كتب الحديث تنظر هل فسرها هذا الشارح بتفسير يستوعب الاستدلال أو يستوعب المذاهب جميعا، ويرجح(9/24)
فيها، أم هو ذكر تعريفا ومرّ عليه، بل ينبغي لك أنْ لا تقبل على كتاب حديث من حيث الشرح في مسألة من المسائل إلاّ وقد تصورتها فقهيًا، تصورت المسألة من حيث هي... ليس المقصود الحكم، تصورت المسألة من حيث هي في كتب الفقه، يعني مثلا أوقات النهي عن الصلاة، هذه إيضاحها يكون في كتب الفقه من حيث التعريف والضابط وتفصيل الكلام عليها يكون في كتب الفقه وكتب الحديث، هذه المرتبة الأولى، أي أنْ تأخذ صورة المسألة من كتب الفقه قبل قراءة شرح الحديث إذا كان شارح الحديث لم يستوعب الكلام على صورة هذه المسألة، وفي الغالب كما جربت وربما جرب الكثيرون منكم، أنّ شارح الحديث يعتمد على أنّ المسألة واضحة والصورة واضحة فيبدأ يتكلم عن حكمها اختلف العلماء فيها، استدل هذا بكذا وهذا بكذا، أما صورة المسألة فلا يأتي عليها ببيان.(9/25)
المرتبة الثانية: أنّ تلحظ أنّ كتب الحديث بعامة، أعني شروح الأحاديث منها ما هو تأصيلي، ومنها ما هو للمجتهد، فمثلا كتاب ((فتح الباري)) هذا للمجتهدين وإنْ كان يرجح فيه، لكن إيراده للخلاف وللترجيح وللمسائل بعبارة عالية جدًّا، من حيث صياغتها الأدبية، وصياغتها الفقهية أيضا، وغلط من قال، إنّ الحافظ ابن حجر، ليس من بابة الفقه، بل هو محدث فقيه وعبارته في ذكر الخلاف من أرفع عبارات أهل العلم لكنه يصلح للمجتهد الذي تصور الخلاف في المسائل، قبل ((فتح الباري)) فلهذا ترى مثلاً أنّ كتاب ((جامع العلوم والحكم)) هذا ينفع في تصوير المسائل وفي ذكر تأصيلاتها فيما ذُكر في الأربعين النووية للنووي رحمه الله، بعده يأتي شرح ((بلوغ المرام)) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المعروف، وشرحه يسمى ((سبل السلام))، لكن فيه مسألة ربما خفيت على كثيرين، وهو أنّ ((سبل السلام))، لم يؤلفه الصنعاني قصدا وإنما اختصر به كتابًا آخر لأحد علماء الزيدية وذلك الكتاب اسمه ((البدر التمام))، وهو موجود بكامله، فاختصر ((البدر التمام)) في ((سبل السلام))، وأضاف عليه بعض الأقوال، و لذلك تجد أنّ هذا الكتاب فيه عدم تحقيق في المسائل المنسوبة إلى الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله، أما الحنفية والشافعية فالغالب عليه الصواب، أما ما ينسب للإمام أحمد أو ينسب للإمام مالك، يعني من مذاهبهم فهذا تجد فيه هفوات كثيرة بسبب أنّ الأصل على هذا الأساس الأصل هو الذي نقل النقول الكثيرة، فإذًا في قراءة الكتب هنا من جهة العزو لا تأخذ العزو عن كتاب حديث، يعني قال الحافظ ابن حجر، ومذهب الإمام أحمد كذا، أو مذهب الحنابلة كذا، لا تأخذه منه لا تأخذه من الصنعاني، لا تأخذه من ((نيل الأوطار))، لا تأخذ قوله مذهب الشافعية كذا، ومذهب الحنفية من هذه الكتب، بل لابدّ من الرجوع إلى الكتب كتب المذاهب نفسها، لِمَ؟(9/26)
لأنّا وجدنا أنّ عزوهم للمذاهب يختل كثيرا وخاصة في ((سبل السلام)) و((نيل الأوطار)).
المرتبة الثالثة: أنْ تنتبه في قراءتك لكتب أهل العلم في الحديث وشروح الأحاديث إلى أنّ مؤلفي الشروح لا يشترطُ فيهم أنْ يكونوا محققين في كل فنّ من الفنون، فلا تظنّن أنّ شارح ((بلوغ المرام)) أو شارح ((نيل الأوطار))، أو شارح ((البخاري)) أو شارح ((مسلم)) أو شارح ((أبي داود)) أو ((الترمذي)) لأنه شرح كتاب حديث فهو محقق في كل المسائل التي شرحها، والواقع يخالف ذلك، فمثلا لو نظرت -هذا تمثيل لأجل كثرة الورود عليه- إلى كتاب ((نيل الأوطار)) للشوكاني لوجدت أنه في الأصول إذا أورد مسائل الأصول فهو يحققها لأنّه قويٌ في الأصول، أما إذا أتى لمسائل التخريج تخريج الحديث والرجال والحكم على الإسناد، فتجد فرقا كبيرا بين مستواه فيه ومستواه في علم أصول الفقه، فإذًا تعرف الميدان الذي يحقق فيه المؤلف ((الشارح)) فمثلاً عندك الصنعاني يميل إلى الظاهرية، ويتابع ابن حزم كثيرا في ترجيحاته وفي استدلالاته، ((نيل الأوطار)) من جهة استنباطه وإيراد الأدلة، واستعمال أصول الفقه، تجد أنّه يحقق في ذلك، ولأجل قوة تحقيقه وقع في مشكلات في بعض المسائل، لكن في التخريج في الرجال في الأسانيد إذا حكم هو ليس محققا في علم الحديث، وإنما هو ناقل ينقل في الغالب عن غيره، أو يذكر ما بدا له، فإذًا في منهجيتك في قراءة كتب الحديث يعني شروح كتب الأحاديث ينبغي بل يجب أنْ تعرف فنّ المؤلف ما هو؟ هل هذا المؤلف شرَحَ وفنه الرجال والأسانيد، شرح وفنه الفقه، شرح وفنه الأصول، شرح وفنه الاعتقاد، شرح وفنه اللغة، فإذا عرفت منهجه وعرفت فنه الذي يحققه، عرفت ميزة هذا الكتاب، وكيف تجعله في مرحليات القراءة، أما أنْ يُظَن أنّ كل شرح للأحاديث ففيه كلّ الصواب، فهذا ليس كذلك كما هو معلوم لهذا تجد أنّ بعض الخلاف يكون في كتب الفقه أقوى منه في بعض شروح الأحاديث، لم؟؛ لأنّه يكون(9/27)
المؤلف في شرح الحديث لم يحقق المسألة ويعتني بها كما اعتنى بها شارح الفقه كالنووي في ((المجموع)) أو الحافظ ابن قدامة في ((المغني)) أو ابن حزم إلى آخره.
أيضا من المنهجية المتقررة في كتب الحديث -ولا نطيل عليكم بهذا-، أنّ كتب الأحاديث يعني شروح الأحاديث الكبيرة، قل أنْ تسلم من غلط في العقيدة وسبب ذلك، ليس راجعًا إلى قصورٍ أو إلى بدعة في مؤلفيها بل كلهم حريصون على السنة لكنه راجع إلى عدم الاطلاع على ما في الباب من الآثار والسنن تارة، وراجع تارة أخرى إلى عدم الاطلاع على كلام المحققين في هذه المسألة، بل ربما وقع من بعضهم كلامات قبيحة في حق بعض الصحابة، وهذا لا شك أنّه لا يسوغ أنْ يقبله طالب العلم على إطلاقه، بل تعرف أنّ شروح الأحاديث فيها سمين كثير وصواب كثير، وفيها أيضًا بعض الغلط -يعني مثلاً- هل يجوز أنْ يُقرّ في شرح من شروح الأحاديث، لعن معاوية؟ لا يجوز، هل يجوز أنْ يقرَّ في شرح من شروح الأحاديث وصف عمر رضي الله عنه بالمسكين؟، أين يقع هذا المسكين من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل ما قال بعض الشرّاح، هل يتهم عمر رضي الله عنه بإحداث بدعة التراويح، كما في بعض الشروح، هل نجعل بعض الشروح مقبولة لأنّها شرح حديث لأجل مؤلفها وجلالته وإمامته إلى آخر ذلك، ونقبل كل ما فيها؟ الصواب: لا، الصواب الكامل ليس إلاّ عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان صوابه أكثر من أهل العلم، فهو الحري بالثناء، هو الحري بالإجلال؛ لأنّه اجتهد في أنْ يكون صوابه أكثر، وهذه مسائل راجعة عند كثيرين إلى مسألة الاستنباط والاجتهاد.(9/28)
ومن القواعد المقررة عند الفقهاء أنّ العالم لا يُتْبَعُ بزلته وكذلك لا يُتَّبَعُ على زلته، قال بعض العلماء: ((جعل الله جلّ وعلا لكل عالم غلطا إمّا في قول أو في فعل ويعلم الناس أنّه غلط في هذا حتى لا يرتفع عالم إلى مرتبة النبوة))، لا يمكن أنْ يعتقد في أحدٍ أنّه على الصواب التام لا يخطئ البتة، هذا ليس إلاّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذا شروح الأحاديث ينبغي من جهة التوحيد والعقيدة، أنْ تنظر على احترام مؤلفيها والترحم عليهم، وعذرهم فيما أخطأوا فيه، لكن لا يتابعون على ذلك، نقول: أخطأ أو يقول العالم الراسخ أخطأ العالم، أولا يذكر أصلا أنّ فلان أخطأ؛ لأنّه ما من عالم إلاّ وله سهو، قد يكون غُلِبَ عليه ما حقق المسألة، تبع ما كان شائعا عندهم إلى آخر ذلك كما هو موجود عند كثيرين، فلابدّ أنْ تُلاحَظ مثل هذه المسائل في قراءة كتب شروح الأحاديث يعني أنْ تجعل العقيدة معك، فلا تتساهل في من يتكلم على الصحابة ولو كان من شراح الحديث، أو ينتمي إلى البدعة والخرافة، ولو كان من شراح الحديث، أو من يحسن البدع العملية ولو كان من شراح الحديث، فإنّ هذا لا يقبل منه ، وهو على نيته ونترحم على الجميع، لكن طالب العلم لا يقبل كل ما في الكتب المختلفة؛ لأنّ مؤلفها فلان وفلان بل يُنْظَر إلى دليلها وإلى موافقتها لقواعد السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-.
لو أردنا أنْ نطيل لأخذنا الفقه وأخذنا الأصول والنحو والصرف إلى آخره، ولكن ذكرنا العلوم الثلاثة هذه، ((التفسير والعقيدة والحديث))، لتكون دليلا على غيرها والقواعد العامة، والضوابط العامة في أول الكلام ربما تمشي معك في قراءتك لأكثير الفنون.(9/29)
وفي الختام أسأل الله جلّ وعلا أنْ يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأنْ يقينا الزلل والعثار، وأنْ يجعل صوابنا أكثر من خطئنا اللّهم إنّا نستغفرك من سيّئاتنا وخطلنا وغلطنا ونسألك اللّهمّ أنْ تعفوَ عنا جميعا، اللّهم ارحمنا وارحم آبائنا وارحم أمهاتنا، اللّهم واغفر لنا جميعا، ونسألك اللّهم أنْ تصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأنْ تصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأنْ تصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللّهمّ وأصلح ولاة أمرنا ووفقهم اللّهم لما فيه الرشد والسداد، وباعد بينهم وبين سبل أهل البغي والفساد يا أرحم الراحمين، وفي الختام أيضًا أشكر الإخوة القائمين على فرع الوزارة في منطقة مكة المكرمة وعلى رأسهم مدير الفرع الأخ الدكتور حسن الحجاجي، على اعتنائهم بهذه الدروس والمحاضرات والدعوة، ولا شكّ أنّ هذا من الواجبات الشرعية المهمة التي أُنيطت بالمسؤول الأول ويؤديها واجبا شرعيا من جهة أخرى، فيؤديها على أنّها واجب ويؤديها على أنها مطلوبة شرعا، فإثراء البلاد بالدروس العلمية وبالدعوة والمحاضرات النافعة هذا لا شك أنّه أمر مطلوب شرعا، وأيضا مم تُيسر له السبل ولله الحمد في هذه البلاد المباركة فلهم منا الشكر الجزيل ودعائنا لهم ولنا جميعا بالتوفيق والسداد.
وصلّ اللّهم وسلم وبارك على نبينا محمد.(9/30)
الفرق بين العُقد و المُلح
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلني وإياك ممّن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإنّ هذه كما قال إمام الدعوة عنوان السعادة، وأسأله جلّ وعلا لي ولك الثبات على الحق والهدى وأنْ لا يزيغ قلوبنا بعد إذْ هدانا وأنْ يلهمنا ويوفقنا إلى الحق ويمنّ علينا باتباعه والالتزام به وأنْ يوفقنا إلى هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأحوال في حالتي الفقر والغنى وفي حالتي الرضا والغضب، وأسأله سبحانه أنْ يصلنا بحبله، وأنْ لا يقطع ذلك بذنوبنا، ثم إنّ هذه الدروس لأجل عدم حضور من كان العادة يحضر في درس كشف الشبهات، نقدم لهذه الدروس بمقدمة في العلم وطلبه كالعادة، لعلها أنْ تكون نافعة إنْ شاء الله.(10/1)
من المعلوم أنّ العلم قسمان كما يقول طائفة من أهل العلم منهم الشاطبي في أول الموافقات: ((العلم قسمان عُقَدٌ وملَح))، والعقد تعقد القلب مع العلم والملح لابد منها للمسير في طلب العلم واستمرار المرء بِعُقَد العلم يعني بقوي العلم وأصوله ومنهجيته دون مُلَحِهِ قد يجعل المرء يكسل أو يمل لأنّ النفس حُمظة تحتاج إلى أنْ تصقل وتزال بشيء من الملح ولهذا روى ابن عبد البر وروى غيره ابن شهاب الزهري الإمام المعروف كان إذا اعطى الدرس في الحديث وانتهى قال هاتوا من ملحكم هاتوا من أشعاركم هاتوا من أخباركم فيأخذوا: هذا يقص وهذا يقص ويروي هذا ويروي ذاك، فتأنس النفس بما ذكر ويكون لها نشاطًا فيما تستقبل. العلم عقدة هي الأصل هي الغاية ومُلَحُهُ وسيلة لهذه الغاية وسيلة لتقوية الذهن ولتوسيع المعارف؛ فعقد العلم أيضًا قسمان: علوم أصلية وعلوم صناعية أما العلوم الأصلية فهي التفسير والحديث والفقه والتوحيد (العقيدة) ونحو ذلك والعلوم الصناعية هي علوم الآلة، سميت صناعية لأنها كانت اصطلاحية جاءت بعد الأصول مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه وأصول التفسير والنحو وعلوم العربية بعامة وأشباه ذلك.
هذه عقد العلم يعني أنّ هذه العلوم الأصلية والصناعية لابد منها لطالب العلم لاستكمال تفقهه في العلم وهناك علوم أُخر يحتاجها لتكميل بناء العلم وهي التي سماها طائفة ملح العلم من مثل قراءة التاريخ والأخبار والأدب والأشعار وتراجم أهل العلم والمناظرات وما أشبه ذلك، فهذه مُلح الاطلاع عليها مفيد لكن من جهلها فلا يضره الجهل بها في العلم، لهذا تجد من العلماء الكبار من قد لا يعرف بعض التراجم المفصلة أو تواريخ الوفيات لأهل العلم أو نحو ذلك، ولا يضيره هذا لأن هذا ليس من العلم الأصلي الذي به يكون المرء طالب علم أو عالمًا ولكن هذا من الملح.(10/2)
الفرق بين العقد والملح أن العقد لابد لها من رجال يُعَلّمون كيف تُفتح أو كيف تحل هذه العقد؛ لأنها عقدة تحتاج إلى حل، والعقدة مجتمع الشيء لتقويته وتحتاج إلى فكها حتى تعرف مسار الشيء إلى من يساعدك في هذا، والمساعد هم الرجال، هم أهل العلم، وهذا عن طريقين: طريق المشافهة يعني الدروس، أو عن طريق قراءة الكتب، وفتح المغلق منها عن طريق العلماء، ولهذا قال من قال من السلف: ((كان العلم في صدور الرجال))، يعني قبل أنْ يدون الحديث، قبل أن يدون التفسير، قبل أنْ يدون الفقه، كان العلم في صدور الرجال، ((ثم صار في بطون الكتب، وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال))، العلم انتقل من الصدور إلى الكتب، هذا صحيح ولكن المفاتيح بقيت بأيدي الرجال يعني بأيدي أهل العلم، الكتب قوة قريبة لك تراجع، تفتح، تنظر، تبحث، لكن مفتاح فهم كلام أهل العلم لابد أنْ يكون معك عن طريق أهل العلم؛ لأنّ كلام أهل العلم له اصطلاحه، له أصوله... الخ، فلابدّ من أخذه عن مُعَلّم.
اذن. فصارت العقد هذه أصول العلم التي ذكرنا بنوعيها لابد فيها من معلم، وإنْ كان المرء أخذ عن طريق الكتب فلابد أنْ يأخذها عن طريق معلم أو يسأل فيما يشكل منها ولكن لابدّ من معلم يفتح لك وتستفيد منه في ذلك مثل ما ذكرت لك المقولة: ((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
أمّا العلوم الأُخر أو المُلح ملح العلم فهذه لا تحتاج فيها إلى عالم، تقرؤها ما شئت؛ لأنها علوم غير مقصودة لذاتها إلاّ فيما إذا كان المرء يريد التخصص، يريد أنْ يكون متخصصا في الأدب، في الشعر، في الأخبار، في التاريخ، فهنا يحتاج إلى أنْ يكون أخذه عن معلم؛ لأنّه يصبح في حقه من العلم المقصود لذاته لا المقصود قصد الوسائل.
تكامل شخصية طالب العلم في العلم لابد أنْ يكون فيها هذا وهذا، ولكن أيهما يغلب الآخر؟(10/3)
هل يغلب عليه اهتمامه بالمُلح بالتراجم بالأخبار بالقصص بالحكايات، بنتف العلم بالكتيبات التي تنشر بالفتاوى إلى آخره؟ أم أنّه يهتم بالعُقَد بأصول العلوم بالعلوم الأصلية والعلوم المساعدة (الصناعية)، ويكون ذاك مكملاً؟ يظهر مما ذكرنا أنّ الصواب في هذا أنّ الوسائل هذه يعني الملح لابد أنْ تؤخذ بِقَدرِها، وبقَدْرِها الملائم لما يكون معه تنشيط النفس في العلم فإنْ كان طالب العلم يعيش بالعلم القوي (العقد) بلا ملح، نفسه ستضعفُ بعد فترة ولا يستأنس بالعلم؛ لأن المُلح هذه كالملح في الطعام، تجعل المرء يقبل على الشيء ويزيد منه؛ لأنّ فيه أنسا وفيها ومعها انشراح النفس فيما يقرأ لأنها توافق الرغبة مثل قراءة التواريخ والتراجم والأشعار والأخبار وما شاكل ذلك.
الذي يحصل ونراه في طائفة من الإخوان الشباب أنّهم يُغَلِّبون المُلح على العلم التأصيلي، ولهذا تجد أنذ بعضهم عنده معلومات واسعة مختلفة لكن ليست مؤصلة، فهذه تكون بسبب غلبة الملح عليه، يعرف تراجم العلماء وأخبارهم وهذا كذا وهذا كذا وحصل منه كذا وفلان وفلان تناظرا وصار بينهما نُفرة، وهذا حكم... في أخبار طويلة... وأشعار وقصص وحكايات لكن أين هو من العلم في نفسه إذا كان قد أصّل نفسه في العلم وصارت هذه مساعدة له فيكون قد سار سيرًا صحيحا ولكن إذا غلبت عليه الملح وترك العقد ترك الأصول ترك العلم، فهذا يكون مهزوزًا يكون عنده الملح مقصودة لذاتها هذا خلاف سنة أهل العلم، سنة أهل العلم أنْ يكون هذا القسم ترويحيا يُنَشِّط المرء بدل أنْ يقضي وقته الذي يرتاح فيه في كيت وكيت، يُقضِّيه مع العلم لكن بشيء تنشط معه النفس وتأنس فيه الروح.(10/4)
كذلك السعي في أخذ العلم وحفظ المتون والقراءة الجادة بدون ملح هذه تسبب شيئًا من الهز والاهتزاز في نفسية طالب العلم؛ لأنّه لابد أنْ يكون عنده هذا وهذا، وإذا أخذ نفسه بالقوة دون الملح فإنه يكسل بعد فترة، وهذا مجرَّب، وكل طالب للعلم لنفسه مع العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا لابد منه، فإقبالها أنْ يكون نشيطا يجتهد في الحفظ يجتهد في المراجعة يجتهد في البحث بقوة وإقبال ثم يرى من نفسه أنه في فترة أخرى يريد يتنزه، يتنزه بمعنى يخرج يريد أنّه يتصل ما يريد يطلب العلم ما يريد يقرأ... الخ، هذا بسبب عدم توازنه في ما سار فيه، والذي ينبغي لمن أراد العلم وأراد طلبه أنْ يكون متوازنا فيه وأنْ يرعى حقوق النفس والنفس لها حقوق، ((وإنّ لنفسك عليك حقا وإنّ لأهلك عليك حقا وإنّ لربك عليك حقّا فأعطي كلّ ذي حقٍ حقه)).
المهم لطالب العلم أنْ لا ينقطع عن العلم ومن أسباب عدم الانقطاع أنْ يكون متوازنا فيما يطلب، يعني يكون عنده عناية بالملح التي تُنشِّط نفسه يأنس بأخبار وحكايات وطُرَف وهذه تطربه وهذه يستغرب منها وهذا موقف وهذه تقوِّيه أيضا في الكلام وفي سعة الإدراك والاطلاع على ما عند الناس وعند أهل العلم.
لذلك مثلا تجد ابن عبد البر مع مصنفاته العظيمة وهو إمام من الأئمة المشهورين مع مصنفاته العظيمة في شروح الحديث كالتمهيد الذي قال فيه لنفسه:
سمير فؤادي مُذ ثلاثين حِجةً
وصيقل ذهني والمفرِّج عن همي
يقتصد التمهيد هو المفرِّج من همه إذا نظر فيه تفرجت همومه لما يجد فيه من الأنس والإنشراح، تجد أنه صنف (التمهيد) وصنف (الاستذكار) وصنف (الكافي) في الفقه المالكي، وصنف الجامع المعروف، وصنف من جهة أخرى كتاب (بهجة المجالس)، في الأخبار والأشعار... الخ، شبيه (بعيون الأخبار) و(والبيان والتبيين)، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه وأشباه هذه الكتب (بهجة المجالس)، كتاب يُكمل هذا، لماذا؟(10/5)
هل معنى هذا أنّ العالم الكبير يذهب إلى مثل هذا النوع من العلوم لأجل أنّ الوقت عنده لا قيمة له؟
لا، ولكن لأجل توازن نفسه مع العلم ولا يريد أنْ يخرج من العلم إلا إلى العلم، أما أنْ يخرج منه إلى لهوٍ كما يلهو الناس أو إلى فرجةٍ أو إلى حديثٍ أو إلى ما شاكل ذلك أو إلى علمٍ فيه أنس نفسه ويحصل معه المقصود ولا يخرج به عن الكتب وعن العلم فتجدُ أنّ طائفة من العلماء اعتنوا بهذا وعندهم عناية بالملح.
فإذن، عقد العلم وأصوله مهمة وهي الأصل وهي التي تقضى معها الأوقات ولابد لك أيضا من رعاية للملح وحفظ الأخبار والأشعار والأمثال وقصص ذلك وقراءة في شيء من كتب الأدب وقراءة في كتب التاريخ والتراجم... الخ، فهذه تقوي منك الملكة في العلم ويكون معك أيضا نشاط في العلم بسبب ما ذكر.(10/6)
فإذن نخلص من هذا إلى ضرورة التوازن، والتوازن ليس معناه التساوي لا، يُغَلَّب، يعطي كل ذي حقٍّ حقه، فتعطي أصول العلم حقها تعطي وسائل العلم حقها وتعطي الملح أيضا حقها، وهذا أنت تحكم به على نفسك، إذن طالب العلم يكون له في العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ لكل شيء شِرَّة وإنّ لكلّ شرّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى بدعة فقد خاب وخسر))، يعني أنّه ما من شيء إلا له قوة إقبال شرة وقوةً وعنفوان وشدة، وله فترة ضعف بعد ذلك فمن كان ضعفه بعد ذلك إلى سنة يعني اقتصاد في المرء وسنة ومتابعة فهذا أفلح وأنجح، يعني ما كانت فترة إلى غير الهدى إلى معصية ومن كانت فترته إلى معصية فهذا خاب وخسر، وهذا يجعل طالب العلم ينتبه لنفسيته لا يخسر نفسه لأجل أنه ما أعطاها حقها، وهذا وجدناه من بعض الإخوان وطلبة العلم فإنّهم طلبوا العلم قليلا ثم بعد ذلك كَسُلوا السبب عدم التوازن، الرغبة كانت في الأول قوية لكن أتعب نفسه أتعب نفسه بغير توازن وظن أنه يمكن أنْ يأتيه كلّ شيء جملة مع قوة نفسه لا، النفس تحتاج إلى تدرج، {ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، الرباني: هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وهذا يحتاج إلى تدرج حتى المرء مع نفسه يحتاج إلى أنْ لا يأتيها جميعا ففي طلب العلم لا تأتي العلم مع كراهيته أو مع التوسط في قبوله، إذا كان لك إقبال فيه فكما قال الشاعر:
إذا هبتْ رياحُك فاغتنمها
فإنّ لكلّ عاصفة سكونُ
إذا وجدت في نفسك نشاطا في العلم أقبل واحفظ، وأكثر من الاطلاع والبحث ثم إذا خفت نفسك مع العلم فدعك في أمور لا تخرجك عن العلم ولكن تظل معه.(10/7)
هذه الجملة أيضا لها تفصيلات من جهة أنواع ما يسلكه المرء من المُلح وما ينبغي وما لا ينبغي وطلب العلم الجاد وأنه هو الأصل وهو الذي ينبغي للمرء أنْ يحمل نفسه عليه وأنْ يَجدَّ فيه وأنْ يتخلص من الشواغل التي تصرفه عنه.
المسألة الثانية في طلب العلم:
الاهتمام بالبحث وطالب العلم من أسباب حبِّه للعلم وإقباله عليه أنْ يكون متلقيا تارة وباحثا تارة أخرى إذا عاش دائما على التلقي دون أنْ يبحث دون أنْ يطالع يفتش يحرر المسائل يحقق في حديث في مسألة فقهية في تفسير آية يذهب ينظر الصحيح إذا لم يكن مدققا أو باحثا فإنّ نفسه ربما أسنت وربما ضعفت، البحث من أسباب قوة النفس والرغبة في العلم ولهذا نقول لابد لكل طالب علم أنْ يكون معه هذا وهذا يكون معه الاقبال الحفظ وحضور الدروس والمطالعة ومعه أيضا قسم آخر، البحث، والبحث ليس معناه أنه إذا بحث شيئا نشره بحث شيء يعني لأجل أنْ يطبعه ويظهر اسمه على ديباجة الكتب ليس هذا المقصود، بحثه ليقوي نفسه وما من أحدٍ من أهل العلم إلاّ وله بحوث في فترة طلب العلم والشباب لابد له فيها نظر.
وقد نبه على هذا النووي رحمه الله في أوائل كتابه ((المجموع شرح المهذب))، فإنّ في أوائله جملة جيدة من آداب العلم وحملة العلم وما ينبغي في ذلك البحث هذا الذي تكلم عنه ليس معناه تخطئة الناس أو تخطئة أهل العلم؛ لأن الباحث ولو جمع لك كلاما طويلاً من الكتب فإنه يظل باحثا ونظر العالم المحقق يختلف لأنّ هذا يكون إيراده بحسب ما اطلع لكن الذي لم يطلع عليه كيف يعرفه، القواعد العامة كيف يعرفها، الأصول التي تحكم مثل هذه المسائل فتجد أنّ منهم من يبحث بحوثا وربما بعض تلك البحوث طُبع ولكنه خرج بصورة لا يرضى عنها المحققون من أهل العلم لمَ؟(10/8)
لأنه اقتصر فيه على الجمع جمع كلام أهل العلم في المسائل وليس العلم بالنقل فقط ولكنه نقل واستنباط وفهم وتحليل فهذا مع هذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((رب ناقل فقه غير فقيه، ورب ناقل إلى من هو أفقه منه))، فالناقل قد يكون غير فقيه أصلا، وقد يكون عنده شيء من الفقه ولكن ثم من هو أفقه منه لا يوافقه على ما فقِهَ من هذا العلم.
فإذن إذا بحثت وصار عندك رغبة في البحث والتحرير وتدقيق المسائل في التفسير أو في التوحيد أو في الحديث أو في الفقه، فلا تظننّ أنّ هذا هو نهاية المطاف وأنّ ما وصلت إليه في بحثك هو الراجح وهذه هي المشكلة عند كثير من أساتذة الجامعات أنهم إذا حرروا المسألة ببحثهم فيها ظنوا أنّ هذا هو النهاية فرجحوا والراجح في نفس الأمر أو الصحيح عند المحققين من أهل العلم خلافه.
فلهذا تجد أنّ في أقوال بعضهم شيئا من الغرابة لخروجهم عن أقوال المحققين من أهل العلم، لأنه بحث والكتب موجود فيها كلّ شيء لو أردت أنْ أجمع ما شئت من الأقوال في أي قول ذُهب إليه لوجدت أنّ البحث يمكن معه أنْ تجمع ما شئت.(10/9)
وهناك قصة طريفة وإنْ كانت غريبة لكن تدلك على ما في طيّ هذا الكلام، كان هناك أحد الباحثين في رسالة للدكتوارة في الأزهر وأورد مذهب المعتزلة في مسألة خلق القرآن وسفهه ونقل نقولا يسيرة في الموضوع فالمناقش للرسالة، وكان أشعريا قال له: إنك أوردت هذين النقلين أو الثلاثة عن شيخ الإسلام وغيره في ردّ هذا القول لكن ما تقول في حجج القوم هم احتجوا بكذا وأورد الدليل الأول واحتجوا بكذا وأورد الدليل الثاني، واحتجوا بكذا ثالث رابع خامس عشرة عشرين إلى نحو الثلاثين من الأدلة التي يستدل بها أهل الاعتزال على خلق القرآن قال: فما ترد عليها، الطالب ما عنده ملكة في هذا الأمر فسكت فكان هناك حضور وأساتذة والطالب طبعا يمثل أنه من أصحاب العقيدة السلفية جاء من هذه البلاد فأحرجَ، قال: رُدَّ على هذا كيف تقول أنّ خلق القرآن قول ضعيف وأنّ هذا قول كذا رد على هذه الأدلة فلما لم يحرِّ جوابا، قال له المناقش: إذن إذا لم تستطع الإجابة عن هذه الإيرادات وهذه الاستدلالات فاسمع جواب أئمة الأشاعرة عليها، فأجابوا عن الأول بكذا، ردُّ في محله، والثاني كذا والثالث كذا... الخ.
نعلم أنّ الأشاعرة نفع الله جلّ وعلا بهم في رد حجج أهل الاعتزال فكانوا من أعظم الرماح في عنق المعتزلة فندوا شبههم وفندوا استدلالاتهم واحدة تلو واحدة.
المقصود من هذا أنّ هذا المناقش أورد هذه الأدلة جميعًا، كلها موجودة فأنت ممكن تورد ما شئت من الأقوال موجودة في الكتب لكن الكلام في فقهها وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ.(10/10)
فإذن من ليس عنده ملكة قوية في العلم فالبحث عنده لا يؤهله أنْ ينشر بحثه ولا أنْ يجيزه عند نفسه، ولو كان مكث فيه كذا وكذا وجمع من النقول في المسألة إلى آخره؛ لأنّه ثمَّ أشياء تفوته مثل هذا الطالب أورد عليه طيب هذه نقول كثيرة ردَّ عليها؟ ما استطاع أنْ يرد؛ فهكذا الذي يقرأ في الكتب قد يجد أقوالا هي ضد المذهب الصحيح أو ضد القول الصحيح ما يستطيع أنْ يحللها ولا أن يرد عليها لضعفه، فإذن البحث وسيلة لتقوية ملكة طالب العلم في العلم وليس البحث غاية في أنْ ينشر طالب العلم بحثه وأنْ يطبعه للناس وأنْ يُنشر إلاّ إذا أجازه عدد من أهل العلم ولا غرابة فالإمام مسلم صاحب الصحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم رحمه الله لما صنف كتاب الصحيح، عرضه على مشايخ بلده فوافقوه واعترضوا عليه في بعض الأحاديث وما مكنه العمر أنْ يتم كتابه على نحو ما أراد بل وافته المنية كما هو معلوم قبل أنْ يحرر الكتاب كما يريد هو محرر في نفسه لكن كما يريد.
ولهذا وقع بالإجازة في مواضع بدون قراءة وهو الكتاب الوحيد من كتب أهل الحديث الذي فيه مواضع لم ينقلها أحد من أهل العلم ألبتة بالسماع عن مصنفه قطع رواها الراوي عن مسلم وهو ابن سفيان المعروف رواها بالإجازة قطع كبيرة منه ثلاث قطع متفرقة إنما رواها بالإجازة بلا سماع ما قرأها على مسلم ولا هو أيضا عرضها عليه وإنما أجازها له لأنه ما اكتمل.(10/11)
المقصود من هذا أنّ الإمام مسلم عرضه على مشايخ عصره فأقروا له وسلموا فنشر فلابد من العرض والعرض ليس معناه أنْ تعرض للبركة أو أنْ تعرض لتأخذ القبول لا، تعرض فإذا قيل لك: لا يصلح، فقل: هذا ما أردتُ، إذا قيل لك: هذا وهذا وهذا غيّره والغه، فتقول: هذا ما أردتُ، يعني أن تستفيد وهذا الذي ينبغي في مسألة البحوث لكن الأصل أنّ طالب العلم يبحث لا للنشر يبحث لنفسه فنفسية البحث هذه مهمة لأنّها تقوي طالب العلم ولابد أنْ يكون عندك دفتر تحقق فيه مسألة في التفسير، تجمع أقوال المفسرين والصحيح فيها تشوف كلام السلف وما يدور حول ذلك، مسألة فقهية، فتوى سمعت فتوى غريبة من أهل العلم تريد أنْ تنظر إلى اختلاف أهل العلم فيها فتبحث في ذلك حتى يستقيم العود في طلب العلم.
المسألة الثالثة والأخيرة نختم بها هذه الكلمات:(10/12)
أنّ طلب العلم يحتاج إلى نفسية خاصة يعني أنْ يكون طالب العلم دائما يتجدد مع نفسه في حبه للعلم وهذا لا يكون إلاّ بشيء وهو كثرة الاتصال بأهل العلم وسماع كلامهم والحرص على لقائهم وعدم تهجين أقوالهم لأنّ الذي يعترض على أهل العلم يُحرم وهذا كثير، وشاهدنا منه أشياء، فطالب العلم ينبغي له لاستكمال جوانب نفسه، أنْ يكون كثير الاتصال بأهل العلم لأنّ رؤية طالب العلم ونظره في الأشياء وتحليله للعلوم وتعامله مع العلم وتعامله مع الكتب وتعامله مع أهل العلم وأقوال أهل العلم ويعرضُ عليه مسائل ويسمع أراءه ويرى تصرفاته هذه تقيد طالب العلم في كثرة إدمانه عليه وإقباله عليه وفي ملازمة الصلة بأهل العلم، البعيد عن أهل العلم إذا انقطع عن نفسه، لكن الذي له صلة بأهل العلم إذا انقطع سألوا عنه وين راح؟! وش تغير في الأمر؟! ولماذا تركتَ؟! والذي حصل؟ فتكون صلته بهم مدعاة للمواصلة في طلب العلم، لكن لا يكون في اتصاله بهم ينظر نظر المعترض لأنه إذا كان ينظر نظر المعترض معناه أنه لن يستفيد منهم ولن يقبل، بل لابد أنْ ينظر ويصحب على الاستفادة لا المجادلة وكن حريصًا عن أنْ تسمع في مجالس أهل العلم أكثر بل أكثر وأكثر من أنْ تتكلم تسمع وتسمع وتُجمّع، تجمع في ذهنك تجمع أخبار وتجمع الفتاوى وتجمع الأراء وتجمع التحليلات والأقوال وما شابه ذلك حتى يكون لك بذلك إنْ شاء الله فرصة لأخذ العلم كما ينبغي، نكتفي بهذا القدر ونجيب على بعض الأسئلة في هذا.
أسئلة والجواب عليها
س1/ يقول بعض العلماء: ((لا تأخذ القرآن من مُصحفي ولا العلم من صَحَفي)) فما هو ضابط العلم هذا؟ وهل القراءة في كتب الفقه والتفسير والتوحيد الميسرة من ذلك ((حاشية كتاب التوحيد)) ((والقول المفيد))، و((الشرح الممتع)) و((تفسير ابن سعدي))، ((وابن كثير)) و((زاد المعاد))، ونحوها من الكتب الميسرة وما هي التي لا بد لها من شيخ ومعلم؟(10/13)
الجواب: لا تأخذ القرآن من مُصحَفي يعني ممن حفظ القرآن وقرأه من المصحف ما قرأه على شيخ لا تأخذ منه القرآن لأنّه يكون ولابد يفوته بعض الأشياء إما في الضبط أو في آداب التلاوة، أو في التجويد أو في الوقف أو نحو ذلك مما يتميز به القارئ عن غيره، سابقا قبل أنْ يكون هناك شكل للمصحف يعني شكل تام بالحركات في وقت مقولة هذه الكلمة كانت المصاحف بلا شكل بنقطٍ ولكن لم تكن مشكولة فكان يحصل فيها خلل وتصحيف حتى نسب لبعض الكبار من المشهورين تصحيفات في ذلك مثل ما يروى عن ابن أبي شيبة عثمان ومثل ما يروى عن غيره من تصحيفات في التلاوة بل قد ذكرَ لي بعض الثقات أنّ أحد الأساتذة في جامعة من الجامعات غير الشرعية كان يدرس مادة ثقافةأو شيء من هذا فأتى وهو يقرأ بسرعة، يملي عليهم أو عنده أوراقه التي يطالع فيها، قال: وقال تعالى: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) نقل لي الثقة هذا وكان حاضرا، يقول: فقلنا له: يا شيخ الآية في سورة الآعراف: {وإذْ نتقنا الجبلَ فوقهم كأنه ظلة} مااستسلم هو للحق، قال: لا. لا. فيها قراءات: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) فيها قراءات!! هذا من الاستهانة بالعلم... طيب تعلم هذا أو تخلصا؟ إنْ كان تخلصا هذا والعياذ بالله تتخلص أنت من التبعة، وتنسب شيء لـ... يعني عدم احترام للعلم... الخ المقصود هذا من جهة الصَحَفي من جهة أنه يقرأ وهو ما يعرف، مرة أيضا واحد في مكتبة أنا سمعته لا بل سمعه غيري وهو الذي حدثني بها يقول يسأل وهو جاء من غير هذه البلاد وهو ما يعرف القرآن وعنده ولد عليه سورة الظاهر يحفظها قال السورة... السورة... هو عنده منهجه يبدأ من سورة الهَمْزة... الخ، وهي سورة الهُمزَة... يبدأ من سورة الهَمْزَة... الخ!!
فمثل هذا هو الذي قيل في هذه الكلمة لا تأخذ القرآن من مُصحفي لأنه يدرس بالباطل وبالغلط.(10/14)
((ولا العلم من صحَفي)) وهي اصح من صُحُفي لأنّ النسبة للجمع لابد من إعادتها للمفرد، القاعدة في النسبة في النحو عند البصريين أنّ النسبة تكون للمفرد مثلا ستنسب للدول لا تقول دُوَلي وإنما تنسب إليه بالمفرد دَوْلَة، ترجع الجمع إلى مفرده ثم تنسب إليه فتكون النسبة دَوْلي ستنسب للصُحف لابد أنْ ترجعها إلى مفردها صحيفة فتنسب إليها صَحَفي.
في المدينة مدني وهذه هي القاعدة إلاّ في ما شذّ لأجل وقوع الالتباس مثل النسبة للمدائن -المدائن المعروفة- بالمدائني، وأشباه ذلك لأجل أنه لو أرجعت إلى أصلها مدينة ونسب إليها مدني لوقع الالتباس بين المدني نسبة إلى المدائن والمدني الذي هو نسبة إلى المدينة في بحث معروف في النحو.
المقصود أنّ صحتها صَحَفي بفتحتين وليس صُحُفي مثل ما هو شائع في الأخبار وفي بعض الجرائد إلى آخره.
((لا تأخذ العلم من صَحَفي))، يعني ممن قرأ في الكتب دون أشياخ لأنه سيرجح من عند نفسه سيرجح بناءً على ما قرأه والعلم لا يؤخذ هكذا العلم منه شيء للترجيح ومنه شيء للبحث الأقوال كثيرة وتنوع الأقوال وما أورده أهل العلم في شروحهم هذا طويل لكن منه شيء للإطلاع منه شيء لمعرفة ما قيل في المسألة للنظر لعله يكون له شواهد له قوة... الخ.(10/15)
فمن كان علمه من الصُحُف فإنه لا يكون على الجادة السوية بل لابد أنْ تجد عنده شواذ وعنده أغلاط يخالف بها أهل العلم، ولهذا عابوا على ابن حزم مثلا أشياء في مسائل الحجد، وهِم فيها وانتقدها ابن القيم في زاد المعاد وعقد لها فصلا طويلا، أغاليط ابن حزم في الحج لأنه ما حج أصلا، ولا تلقى كتاب الحج عن أحد من أهل العلم، وكذلك ابن القطان الفاسي العالم المشهور صاحب كتاب ((بيان الوهم والإيهام)) انتقده الذهبي وغيره بأنه لم يأخذ علم الرجال ولا علم الحديث عن المشايخ عن العلماء، لهذا وقع في أوهام وفي أشياء تفرد بها كثيرة ولهذا سلسلة العلم إذا اتصلت يكون الاجتهاد واقع في أصوله ما يكون بعيد، والذين خرجوا بأقوال شاذة في الأمة أو أقوال غريبة خالفوا بها قول المحققين من أهل العلم أو الجمهور لابد أنْ يكون فيهم هذا المَنْزَع أنهم فاتهم الأخذ عن الأشياخ في ذلك وهناك أمثلة في التاريخ كثيرة المرء يحرص على أنْ يستفيد من أهل العلم لأجل أنْ يكون طلبه للعلم على أصوله أما من أخذ من الصحف دون الأشياخ فإنّ هذا يكون عنده نقص إذا حصل أنه أخذ عن الأشياخ في أصول العلوم ثم توسع بالقراءة في الكتب فلا عيب، هذا سنة كثير من أهل العلم بل الأكثر من أهل العلم أنهم لا يظَلون أعمارهم يقرأون على المشايخ بل جملة من عمره يقرأ فإذا حصل الأصول وشهد له بذلك واستشار شيخه ممكن أنه بعد ذلك يترك القراءة للمشايخ ويأخذ يقرأ لوجود الأصول عنده الأصول في التوحيد والأصول في التفسير الأصول في الحديث وفي الفقه... الخ، يعني الأشياء التي يربط بها العلم وكما ذكرتُ لك في أول الكلام:
((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب ولكن بقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
س2/ لو تكلمت أحسن الله إليك عن المراجعة والمذاكرة بين طلبة العلم؟(10/16)
الجواب: هذا مهمة لا شك أنْ يكون لطالب العلم صديق في مثل همته يكون بينه وبينه مراجعة في العلم يحفظ ويُسمِّع عليه ويتراجعان وإذا ضبط مسألة أو شرح حديث تناقشا فيه أو ضبطا باب فقه تناقشا فيه هذا يورد إشكال وهذا يورد وهذا يشرح شيء منه وهذا يشرح شيء منه كما كان العلماء السالفون بتذاكرون العلم المحفوظ والمفهوم.
ولما قدم أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي المعروف الإمام قرين أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، لما قدم بغداد في مدة مُكْثه في بغداد لم يصلي الإمام أحمد نافلة كان يقتصر على الفرائض فقيل له في ذلك، فقال: ((استعضنا عن النوافل بمذاكرة أبي زرعة))، فمذاكرة العلم تقوي العلم وتثبته، ويكون معها قوة في الإدراك والفهم والحفظ... الخ.
لكن بشرط أنْ يكون الذي تذاكر معه في نفس مستواك كي يفهم مثل ما تفهم وتشترك أنت وإياه في حفظ ما تحفظون متدرجًا، كذلك في الحضور على العلماء،
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد؛ وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمد.(10/17)
الفكر و العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين أوضح المحجة وأبان السبيل للمؤمنين فندت بعد نزول القرآن وبيان سيد ولد عدنان واضحة المعالم بينة الأركان فالحمد لله الذي هدى وبيَّن والحمد لله الذي أرشد
وعلَّم وهو جلّ وعلا للحمد أهل ولا يعلم حقيقة ذلك إلاّ من رأى الشبهات في هذه الدنيا وما تؤول إليه ورأى كيف تكون منازل السعداء في الآخرة فإنما هي لمن أتى الله بقلب سليم سَلِمَ من الشبهات وسلم من كلاب الشهوات وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أمَّا بعد: فموضوع هذه المحاضرة بعنوان ((الفكر والعلم)) وإذا ذُكر الفكر فإنه يتبادر على الدهن ما شاع في هذا العصر مما يسمّى ((الفكر الإسلامي)) و((المفكر الإسلامي)) وهذا الاصطلاح (الفكر الإسلامي أو المفكر الإسلامي) .. هذا اصطلاح جديد في تاريخ هذه الأمة، فإن الأمة في تاريخها عرفت أنواعًا من الذين يتكلمون ويكتبون منهم أهل الاختصاص بالعلم إما المفسر وإما المحدث وإما اللغوي وإما الفقيه وإما المؤرخ أو الأديب أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع إلى آخر أنواع العلماء والكتبة في تاريخ الأمة.(11/1)
أمَّا هذا المصطلح ((فكر إسلامي)) أو ((المفكر الإسلامي)) فإنه اصطلاح جديد ومعلوم عند أهل الشرع والمحبين للعلم وللديانة إنْ الأمور إنما توزن بالعلم لأن العلم نزل من عند الله جلَّ وعلا ليكون حاكمًا على الناس غير محكوم فإذا ظهرت اصطلاحات أو استجدت أحوال فإن المرجع في فهمها إنما هو إلى العلم فما هذه الصلة التي بين الفكر والعلم وهل هذا الفكر الذي يسمى ((فكرًا إسلاميًا)) هل هو ممدوح كله أو هو مذموم كله وكيف هي الصلة بين الفكر والعلم وبحوث متصلة بذلك من المهمات أن يتعرض لها لأنك ترى في هذا الزمن كثر الذين يتكلمون عن الإسلام باسم الفكر ومنهم من عنده أخطأ بسيرة، ومنهم من يسمى ((مفكرًا إسلاميًا)) وإنما هو مفكر ليس بالإسلام وإنما يفكر برأيه وبطريقته وبما يهوى فظهرت مدارس مختلفة في الفكر والتفكير وظهر مفكرون متنوعون وهذا الذي ظهر من الفكر والمفكرين وما يسمى ((بالفكر الإسلامي)) في العصر الحديث ظهر ونشأ ولظهوره ونشأته أسباب ومن أعظم أسباب ذلك كثرت الهجوم على الإسلام في العصر الحديث فإن ابتعاد قلب الأمة عن عقيدتها وتاريخها وعن حضارتها وعن ماضيها وعن مؤهلاتها نشأ في العصر الحديث مع المدِّ الاستعماري والمد الاستعماري كانت له وجهتان وجهة عسكرية وهذه ظهر منها الاستعمار والكُلُ يعلم عن حقيقة ذلك الاستعمار العسكري وله وجهة أخرى وهي الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية حتَّى صار في المسلمين من يكون تابعًا في فهم الإسلام لأعداء الإسلام وأولئك الأعداء تمثلوا في المستشرقين والمستشرقون لهم كتابات متنوعة في تحليل أهداف الإسلام وتحليل أحكامه وتحليل آرائه وتحليل تاريخه وتحليل قضاياه …إلخ ذلك فقام طائفة في البداية يتكلمون عن تلك المسائل التي طرقها المستشرقون أعداء الملة وأعداء الدين وأعداء هذه الأمة تكلموا عنها بنفس منطقهم لأجل أن يقنعوا الناس وأن تكون اللغة بينهم مَتَعارَفَة فلم يردوا عليهم بالعلم وإنما(11/2)
ردوا على أفكار المستشرقين غير الإسلامية بأفكار مماثلة في الصيغة وفي الاستنتاج والاستدلال والأخذ والعطاء والمراجع والمصادر ووسيلة الإقناع حتَّى صار ذلك فكرًا مقابلاً لفكر فظهر الفكر الإستشراقي وفي المقابل ظهر فكر آخر سُمِّيَ فيما بعد (الفكر الإسلامي) لأنه يقابل ذلك الفكر الاستعماري الاستشراقي ولهذا صار أول ما نشأ هذا الفكر ونشأ المفكرون راجعٌ ذلك إلى الدفاع عن الإسلام وإلى رد هجمات المستشرقين وهجمات أعداء الإسلام فكل من أراد أن يرد وكل من أراد أن يدافع من المثقفين أو من العلماء أو ممن عنده بدايات علم أو ممن عنده اطلاع وقراءة عامة كتب في الدفاع عن الإسلام حمية له وبيان لمحاسنه وردًا على المفتريات باسم الفكر ليسوا بعلماء ولكنهم كتبوا هذه الكتابات فظهر أنّ هؤلاء مفكرون إسلاميون منهم من تخصص في ذلك حتَّى غدا ما يكتبه وما يؤلفه في هذا المضمار وخُصوا بهذا الاسم ، باسم ( المفكرين الإسلاميين ) ومايكتبونه باسم (الفكر الإسلامي) لا شك أنه في هذا الجيل أيضًا يعني في القرن هذا ، القرن العشرين أو القرن الرابع عشر الهجري الذي سلف لا شك أنه ظهرت مشاكل متعددة في المسلمين ، مشاكل إعلامية مشاكل من جهة الالتزام بالدين والقناعة به مشاكل اقتصادية، شبهات تتعلق بالسياسة ، شبهات تتعلق بالاقتصاد شبهات تتعلق بتاريخ الإسلام ، شبهات تتعلق بموقف علماء الإسلام شبهات تتعلق بالنصوص وما مدى العمل بالنص؟ القواعد وما مدى العمل بالقواعد؟ وأصول الفقه .. إلى آخر تلك المسائل فظهرت مشاكل وشبهات في هذه الأمور فظهر أولئك المفكرون ليدلوا بدلوهم في بيان حقيقة ما عليه الأمة في هذه العلوم وذلك المضمار فظهرت كتابات متنوعة لا شك أن تلك الكتابات التي ظهرت تتطلب علمًا تتطلب معرفة، تتطلب ثقافة والجميع لو اجتمع لحصلت نتائج سليمة لكن خاض غَمْرَةَ ذلك لقصد نصرة الإسلام ولبيان حقائقه خاض غمرة ذلك من ليس عنده إلاَّ الثقافة أو(11/3)
عنده بعض المعلومات التاريخية أو عنده بعض الاطلاع العام ولكن ليس عنده علم فظهر في كلامهم صواب وظهر في كلامهم خطأ كثير فمزجوا الصواب بالخطأ وسبب ذلك الفكر كما سيأتي إيضاح ذلك أيضًا لما ظهرت تلك المدارس المختلفة الفكرية يعني من وجهات النظر المختلفة في علاج مشاكل المسلمين وفي الرد على الأعداء لا شك أنه سيحصل نوع من التحزب نوع من الرجوع إلى أولئك المفكرين، فكل من أُعجب بفكرة عالم، كل من أعجب بفكرة مثقف فإنه ستكون التبعية لذلك، فظهر بعد ذلك مفكرون تبعوا المفكرين الأصليين، أو ظهر فكر يتبع أساسيات تلك الأفكار حتَّى توسعت الشقة وحتَّى ابتعدا طرفا الطريق فتوسع جدًا وكثرت الطرق من أجل كثرة أفكار الذين ابتدءوا بذلك الفكر فننظر مثلاً إلى أن أول من دخل في هذا المضمار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن بعده محمد رشيد رضا ثم ظهرت الأفكار في الجانب الآخر من مثلاً أفكار عباس العقاد أفكار وطه حسين أو أفكار ... الخ وهؤلاء كل بحسب ما عنده الخط الأول عنده علم كثير ولكن لأجل الضعف عن مواجهة الغرب بكل شئ صاغوا أساليبهم بأساليب فكرية فظهر عندهم من الأخطاء حتَّى تجاهلوا أصولاً عظيمة في الإسلام من أصول الغيبيات ونحو ذلك والطرف الآخر من المدرسة الجديدة أرادت أن ترد ولكن باستخدام لغة المستشرقين حتَّى غدا ذلك التأثير بيِّنًا ظهرت بعد ذلك الجماعات العاملة الجماعات الإسلامية فظهر لكل مدرسة من تلك الجماعات من يمثل فكرها بكتابات ففي الباكستان ظهرت هناك الجماعة الإسلامية وظهر لها من يمثل فكرها كأبي الأعلى المودودي وفي مصر ظهر من يمثل فكر جماعة الإخوان المسلمين وفي الشام ظهر وفي المغرب أو الجزائر ظهر من يمثل الفكر الذي يراد أو الذي تبنى نقل الناس إلى الإسلام بفكرٍ كفكر مالك بن نبي ونحو ذلك المقصود من هذا أنها تنوعت المدارس حتَّى تنوعت الجماعات وتنوعت الأفكار بسبب تنوع تلك المدارس.(11/4)
إذًا فلنشأة الفكر أسباب وهذه بعض أسبابه ولا شك أن المتأمل لذلك ينظر إلى أن نشأة الفكر إذًا لم تكن نشأة على علم وإنما كانت نشأة عاطفية اندفاعية ليست مؤصلة ولا منظمة وإنما كانت بحسب الحال دفاعٌ عن التاريخ دفاع عن العقيدة دفاع عن الإسلام لكن بطريقة غير مقننة غير منظمة غير مؤصلة غير منضبطة بالتالي ظهر كثير من الكتابات التي تراها اليوم ممن يسمون بمفكرين إسلاميين وفي الحقيقة إنما هم مفكرون ليسوا بإسلاميين لأنهم إنما يفكرون تارة بالنظرة الاشتراكية وتارة بالنظرة الاعتزالية وتارة بنظرات مختلفة فنشأ ما يسمى بالتنوير والاجتهاد والتطور والتقدم حتَّى أتى من المفكرين من يزعم أنه لا بد من إقامة صرح جديد لطريقة العقل والتفكير والتعامل مع النصوص لأن تلك إنما تناسب زمنًا مضى وهذا الزمن لا بدَّ له من شئ جديد إنه ولا شك انحراف خطير عن أصل هذا الدين وعن العلم الصحيح الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند رب العالمين في كتاب الله جلّ وعلا وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا الموضوع الذي هو الفكر والعلم مهم وسبب الاختيار له أنَّ كثيرين من طلبة العلم أو من الناس من المثقفين من الشباب لا يعون حقيقة المصطلح ولا يعون أبعاده ولا يعون ما ينبغي أن يؤخذ به وما ينبغي بل يجب أن يحذر منه من الفكر فكان لا بدَّ من طرق هذا الموضوع حتَّى تتضح حقيقة الفكر ومن أسباب طرح هذا الموضوع كثرة الذين يكتبون عن الإسلام فكريًا وانتشار كتاباتهم فترى في الصحف كثيرًا ما يكتب أناس هؤلاء يقال عنهم مفكرون إسلاميون وهناك كتابات قديمة من أناس ليسوا بحاضرين من أمثال مالك بن نبي، المودودي، سيد قطب، محمد قطب .. إلخ لهم كتابات وهذه الكتابات تتسم بأنها كتابات فكرية فما حجم هذه الكتابات كيف توزن؟ هل ترد؟ هل تقبل؟ هل يعتمد عليها أم لا يعتمد عليها أم لا يعتمد عليها ما حدودها؟ هؤلاء المفكرون الذين ذكرت أسماؤهم ومن لم نذكر أسماؤهم ما(11/5)
موقعهم الصحيح في الأمة؟ وما الذي ينبغي أن يوضعوا فيه في أي إطار؟ لا شك أنَّ هذه الأسئلة مهمة والجواب عنها مهم ولعله أن يكون في هذه الكلمة أو هذه المحاضرة بعض إجابات عن ذلك . ومن الأسباب أيضًا أن طائفة من المثقفين علت درجاتهم في الثقافة أو توسطت خلطوا بين الفكر والعلم حتى صار الفكر دليلاً حتَّى صار ما يكتبه المفكرون أعظم في القناعة وأعظم في الإتباع مما يكتبه العلماء بل زاد الأمر على ذلك حتَّى سمِّي العلماء بأنهم متأخرون وأن المفكرين هم المتقدمون وهذا لاشك يتطلب بحثًا لهذا الموضوع وتعريفًا للناس بالفكر ماهو؟ وهل يقبل أم لا يقبل؟ إلى آخر ذلك ، والسبب الرابع لطرح هذا الموضوع أن كثيرًا من قيادات الدعوة وقيادات الجماعات الإسلامية في هذا العصر وهي الجماعات التي سواءً كانت منظمة أو غير منظمة هي التي يراد منها أن تصلح أوضاع المسلمين وأن تعيد الناس إلى جادة الصواب كثير بل الأكثر من تلك القيادات إنما هي قيادات فكرية وينتج عن تلك القيادات آراء وأنواع من التعامل وينتج عن قياداتهم الفكرية توجيه للشباب في أن يتخذوا الموقف الفلاني وأن لا يتخذوا الموقف الفلاني ودلائل ذلك إنما هو فكر دون علم ومن المسلّم به بل من المجمع عليه أن الدليل إنما هو العلم أما الفكر فليس بدليل وإنما هو تلمسٌ كما سيأتي ، السبب الخامس لطرح هذا الموضوع أن هذا العصر تنوعت فيه أفهام الناس، وتنوعت فيه طرائقهم في التفكير فنتج من ذلك أن خطاب الناس بالفكر مهم وطرح بعض المسائل طرحًا فكريًا في الصُحُف أو في بعض الكتيبات هذا مهم لأن الناس لا يعون لغة العلم ولا يتحمسون للعمل فإذا طرح لهم بأسلوب فكري ثقافي فإن كثيرين من المسلمين يقبلون على ذلك ويرعونه ويهتمون به وتصلهم أفكار وتصلهم أصول بالفكر ربما لا تصلهم بالعلم لعدم محبتهم للعلم أو لعدم إقبالهم عليه وهذا يتطلب أن توضع ضوابط للمفكر وضوابط للفكر حتَّى يكون إرشاداً للأمة وحتّى(11/6)
تكون الكتابات الفكرية منضبطة غير مخالفة لمقتضى العلم ومقتضى الكتاب والسنة وقواعد الإسلام.
نبدأ أولاً بإيضاح معنى الفكر الإسلامي ما المراد به ذكرنا أنه مصطلح جديد وإذا كان مصطلحًا جديدًا فلا بد له أذن من تعريف عرَّفه بعضهم بقوله: ((إن الفكر الإسلامي هو عمل المسلمين العقلي ونتاجهم الفكري في سبيل خدمة الإسلام بيانًا ودفاعًا)) وهذا المعرِّف لهذا التعريف جعل البيان من الفكر وجعل الدفاع من الفكر ويعني بالبيان العلم فجعل العلم من الفكر لأن بيان الإسلام هو العلم والدفاع عن الإسلام هذا بعض مهمات الفكر وفسَّر قوله بيانًا بأنه المراد به بيان الإسلام بيان الأصول بيان التفسير بيان الحديث إلى آخره فجعل العلم من الفكر فهل يصح أن يجعل العلم من الفكر ؟! آخر عرَّف الفكر بأنه جمع الشواهد والأدلة ثم تحليلها لخدمة الإسلام يعني إذا أراد أن يبحث قضية من القضايا فيجمع لها الشواهد والأدلة ونعني بالشواهد والأدلة ما يشهد للغاية فالغاية عنده معلومة فيريد أن يجمع لها من الشواهد والأدلة ما يصحح هذه الغاية حتَّى يدافع عن الإسلام أو يبين محاسن الإسلام أو ينصر الإسلام في قضية من قضاياه وهذا يعني أيضًا أنه أدخل العلم في الفكر جمع الشواهد والأدلة ماحده؟ ماهي هذه الأدلة؟ وما هي هذه الشواهد التي توصل إلى تلك النتيجة؟! إذًا دلنا ذلك على أن تعريف الفكر بما ذكر ليس منضبطًا ولا ثابتًا بل قد يدخل فيه أشياء وقد يخرج منه أشياء ماحدّد ذلك مهمة المفكر ما يتعرض له ولا مالا يتعرض له كيف يصل بفكره إلى النتائج؟ هل النتيجة هي الأولى أم النتيجة مراده؟ في الواقع أن ذلك لم يضبط ولهذا تجد أن المفكرين كل يورد ماعنده بحسب طريقته فيختلفون في البداية ويختلفون في النهاية ويختلفون أيضًا في وسائل ذلك كل بحسب مدرسته ، هل يصح أن يقال على هذا إن العلم من الفكر ؟ لا شك أن العلم لا يجوز أن يقال إنه فكر إسلامي وقد سُئل الشيخ العلامة محمد(11/7)
بن عثيمين عن هذه الكلمة كلمة (فكر إسلامي) هل يجوز أن تقال ؟ فقال الشيخ حفظه الله ورحمنا وإيا: كلمة فكر إسلامي من الألفاظ التي يحذر عنها إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد) لأن الفكر رأي فإذا قلنا فكر إسلامي معناه أن الإسلام صار مجموعة أفكار قابلة للأخذ والرد قابلة للنقاش قال الشيخ (وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر) –وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله عند هذه الكلمة في كتابه ((معجم المناهي اللفظية)): (كيف يصح أن يكون الإسلام ومصدره الوحي ((فكرًا))، والفكر هو ما يغرزه العقل، فلا يجوز بحال أن يكون الإسلام مظهرًا من مظاهر لفكر الإنساني! فالإسلام بوحي معصوم والفكر مصدره العقل و ليس معصومًا، وإذا كان بعض الكاتبين- يعني به الأستاذ سيد قطب- أدرك الخطأ في هذا الإصطلاح فأبدله باصطلاح آخر هو ((التصور الإسلامي)) – وهذا في كتاب ((خصائص التصور الإسلامي)) و((مقامات التصور الإسلامي)) - فإنه من باب رفع آفة بأخرى؛ لأن التصور مصدره الفكر المحتمل للصدق والكذب)) وهذا الذي قاله الشيخ بكر سديد لأن من رأى بحث خصائص التصور الإسلامي ((مقومات التصور الإسلامي)) وجد أنها تبحث في تحليلات للعقيدة، التوازن، الشمول إلى آخره .. فيجعل أصولاً عقدية جديدة ويجعل ذلك مزايا التصور كما قال (الإسلامي) يعني مزايا العقيدة الإسلامية وتلك إنما هي بأفكار لم يسبق إليها كتابها والتصور هو الفكر فرجع الأمر إذًا إلى الحديث عن أصول الإسلام وعن العقيدة وعن مزايا ذلك والحكم والأسرار في أصول فكرية وقوالب تصورية ثقافية ولا شك أن هذا كما قال الشيخ ((رفع آفة بأخرى)) يعني محاولة علاج آفة بإحلال آفةٍ أخرى جديدة والكل راجع إلى أنه فكر، فكر إسلامي كما يعبرون وهو في الحقيقة فكر غير منضبط وليس عندنا ما يسمى فكرًا إسلاميًا يعني ليس عند العلماء ما يجوز أن يقال له فكر إسلامي هل يجوز أن يقال(11/8)
مفكر إسلامي؟ قال الشيخ ابن عثيمين : مفكر إسلامي يعني من يفكر ويكون مصدره في التفكير الإسلام وهذا إذا انضبط بالعلم صحَّ لأن من فكر بطريقة علمية صحيحة فهو مفكر إسلامي فيصح أن يقال عن من انضبط بالعلم في التفكير إنه مفكر إسلامي يعني مسلم ذو فكر وهذا الاستعمال صحيح ، بعضهم اعترض وقال إنَّ هذا الكلام غير منضبط لأن القرآن والسنة فيها الحث على التفكر والحث على النظر وقد جاءت آيات كثيرة في ذلك منها قوله جلّ وعلا : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك} فمدح الله جل وعلا خاصة المؤمنين بأنهم يتفكرون وكذلك قال جلّ وعلا { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق وأجل مسمى } وقال جلَّ وعلا: { قل إنما أعظم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا } ، وجاء في الحديث أو في الأثر ((اللهم اجعل كلامي ذكرًا وصمتي فكرًا)) ولا شك أن التفكر أمر مطلوبٌ ومستحب أو واجب في بعض الأحيان لأن التفكر ينتج نتيجة عظيمة وهي تعظيم الله جلًّ جلاله وتعظيم ما أنزل على رسوله واتباع الرسل والخوف من الآخرة والرغب في الجنة والحذر من النار فهل هذا التفكر الذي جاء في الآيات وفي بعض الأحاديث ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا)) هل هذا التفكر هو المقصود بالفكر ننظر إلى ما قاله العلماء في كلمة التفكر لأن من استدل على صحة الفكر بالتفكر نقول هذا استدلال غير صحيح لأنَّ الفكر أو التفكر الذي جاء في هذه الآيات ليس هو الفكر في الشرع وإنما هو تفكر في آلاء الله ففرق بين الفكر في الشرع التفكر في آلاء الله ، التفكر في آلاء الله في مخلوقات الله هذا هو المقصود بما أمر الله جل وعلا به في تلك الآيات .(11/9)
أمَّا التفكر في الشرع التفكر في أحكامه فإنَّ هذا هو الذي ينتج الفكر، وهذا الفكر قد يكون صحيحًا وقد يكون سقيمًا فإن الفكر إذًا الذي يقصد به حين يقال ( فكر اسلامي ) لا يقصد به التفكر في ملكوت الله ولا يقصد به النظر في الآفاق وفي الأنفس وإنما يقصد به النظر في الشرع، والنظر في أدلته والنظر في التاريخ للوصول إلى نتائج معينة وهذا غير الفكر، ولهذا قال بعض الأدباء وكلامه كلام حسن قال : الفكر مقلوب فرك ، فَرك الشيء يفركه فركًا لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها وهذا في الحقيقة تعبير صحيح وتعبير جيد.(11/10)
يخرج بالتفكر والفكر عن المدلول العصري الاصطلاحي في قولهم( فكرإسلامي) إذا كان التفكر إنما هو في الملكوت التفكر في آلاء الله التفكر في الأنفس للوصول إلى نتيجة تُقَوي الإيمان وتعظم في العبد تعظيمه لله جلَّ وعلا وخوفه منه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه والقرب من جنته والحذر والبعد من عذابه وناره فإن هذا يخالف ما يسمى بالفكر والفكر في الحقيقة في الإصطلاح الجديد هذا إنما هو (الرأي) لأننا عندنا في الشرع أدلة دلت على النهي عن الرأي، فما هذا الرأي الذي حذرت منه الأدلة ؟ هو في الحقيقة هو الفكر لأنَّ الرأي مصدره العقل يرى رأيًا ومعلوم أن الرأي يكون بعد ترو فيرى بعد التروي وهذا في الحقيقة هو الفكر لأنه أي بعد التروي و أصدر فكرًا أو قال فكرًا بعد أن فكَّر، فالرأي والفكر متقاربان ولهذا جاء في النصوص النهي عن الرأي وجاء في كلام الصحابة والتابعين كما سيأتي . الفكر إذن رأي وهذا أمر واضح لأنه ناتجٌ عن تصرف العقل وتفكير العقل وهكذا الرأي ناتج عن تصرف العقل وتفكير العقل، الرأي في تاريخ الإسلام انتج لنا أشياء كثيرة انتج لنا الرأي أراء جديدة في العقيدة انتج لنا الرأي أراء جديدة في أصول الفقه انتج لنا الرأي أراء جديدة في الحديث وما يقبل منه وما يرد والأحاد وغير الآحاد والمتواتر وغير المتواتر والقطعي والظني إلى آخر ذلك انتج لنا آراء جديدة في المصالح والمفاسد حتَّى قال بعضهم حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله وقلب الحقيقة برأيه والحقيقة أنه حيث وجد الشرع فثم المصلحة لأن المصلحة مفرزة من الشرع وليس الشرع مفرزًا من المصلحة، فالشرع هو الأساس وعن الشرع تنتج المصالح وتدرأ المفاسد. بالرأي ظهرت أراء سياسية متنوعة غير السياسة الشرعية سياسات يتبع فيها أصحابها ما يرون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ظهرت السياسات المَلِكِيَّة والسياسات الأماراتية وظهرت السياسات العقلية وظهرت السياسات الفلسفية... إلى آخره فكل يسوس(11/11)
برأيه، فجعلوا أن هذه المفرزات جميعًا صحيحة وإسلامية ومرجعها إلى الشرع أصحابها في الواقع أهل رأي تمسكوا بقواعد تمسكوا بأشياء من المتشابه ونتجوا عنها بتصرفاتهم وأفكارهم وهذا هو في الحقيقة هو الذي انتج لنا الرأي وهو الذي انتج بعد ذلك الفكر إذ أنَّ الفكر فيما ترون في الوقت الحاضر انتج لنا فكرًا عقائديًا تُكلِّم في العقائد من منطلق فكري فمن منطلق نظر، فقيمت بعض الإتجاهات العقدية تقييمًا فكريًا فبعضهم قال إن المعتزلة هم القوم وأن أهل الحديث ليسوا بشيئ لِمَ؟ بموازنات فكرية فرجحوا عقيدة على عقيدة بمعطيات فكرية فأين الدلائل؟ أين النصوص؟ أين ما يدل على ذلك إنما هو الرأي المجرد . وكذلك رُجِّحَت أنواع من السياسة في الدول وسوَّغ بعض الناس من المفكرين لبعض الدول أنواعًا من التعامل وأنواعًا من التصرفات بالفكر والرأي وهذا لا شك أنه خطر عظيم وانحراف جسيم جاء في الأمة نتيجة لمفكرين نتيجة لأقوال فكرية وتضخم ذلك وتضخم حتّى غدت الأقوال والفرق والإختلافات كثيرة لهذا يجب علينا أن نصيخ لدلائل الشرع العظيمة التي تنهى عن الرأي ، إن الرأي في دين الله مذموم إلاَّ إذا كان عن مسائل الإجتهاد في مسائل الإجتهاد ممن كانت عنده آلات الاستنباط والاجتهاد يعني أن من رأي رأيًا أو قاس قياسًا أو ظهر بأفكار وهذا عنده لأجل تمكنه من آلات الاستنباط والاجتهاد فهذا مقبول منه أما أن يرى الرأي ويصدر الفكر والأحكام من ليس عنده شيئ إلاَّ أنه قرأ وتثقف وقال عندي ملكة للمطالعة وعندي ملكة الاطلاع فهذا لا شك أنه لا يقبل بل هو ما جاء في النصوص النهي عنه ومن تلك النصوص أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً فأفتوا بغير(11/12)
علم)) وفي رواية مسلم: ((فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا)) أفتوا برأيهم يعني : حكموا على الأمور وعلى الأحوال وعلى ما عندهم مما يحتاج إلى حكم بالرأي يعني بالفكر والرأي والفكر هما شيءٌ واحد فضلوا وأضلوا ومن ذلك حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والنسائي وحسنه الحافظ ابن حجر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (( من قال في القرآن برايه فليتبوا مقعده من النار)) فظهر من المفكرين من يتكلم في القرآن برأيه ويجعل بعض المعطيات الفكرية أو النتائج هي من دلالات القرآن حتى جعل من دلالات القرآن والعياذ بالله أمر مجمع على بطلانه ولم يقل به أحد من أهل العلم، بل جعل من دلالات القرآن ما يدل على عقائد فاسدة أو ما يدل على آراء الأدلة والقواعد تقضي عليها من أُسِّها والأدلة في ذلك في السنة كثيرة ومما جاء عن الصحابة في ذلك قول عمر وهو قول عظيم قال رضي الله عنه: ((إنّ أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها والسنن أنْ يتفهموها فعارضوا السنن برأيهم فإياك وإياهم)) وفي طريق أخرى قال رضي الله عنه: ((فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا)) وهذا الذي قاله عمر منطبق تماما على بعض أنواع الفكر يعني الفكر الذي لا دليل عليه أو الفكر الذي يهدم أصولاً فيكون استدلال أصحابه بالمشتبهات لا بالأصول العلمية فتنتج عن ذلك أنهم قالوا بالفكر قالوا بالرأي فضلوا فعلا وأضلوا وهذا ظاهرفي مدارس كثيرة تراها اليوم في كثير من بلاد المسلمين، فإذا نظرت مثلا إلى فكر بعض الكُتّاب الذين تكلموا في أشياء من طريق الرأي وجدت أنه تفرع ونشأ عنهم مدرسة مثل مثلا مالك بن نبي في الجزائر نتجت عنه مدرسة مالك بن نبي نتائج فكره قامت عليها دعوة بعد ذلك تأثر به راشد الغنوشي المعروف زعيم الحركة الإسلامية في تونس -كما يقال- وهذا حال حركة لا تعي السنن ولا تعي العلم وإنما هي معطيات فكرية حتى إنه قال في يوم من الأيام حينما سئل عن مطالبكم في تونس قال: مطالبنا(11/13)
أنْ يُحكّم الشعب، قالوا: فإذا اختار الشعب الديمقراطية، قال: ليس عندنا مانع، فإذا اختار الشعب الديمقراطية فإننا نختار ذلك لكن لا يجبر الشعب على اختيار لا يريده.
هذا فهم للإسلام وإن كان ذلك عليه من قبله وهو أيضا عنده شبه في ذلك لكنه عطاء فكري مارد ليس له من الإسلام نصيب وتبني هذا دعوة تبنته دعوة تبنت هذه الدعوة مواقف وتحليلات سواء في داخل بلادها أو في خارجها كل ذلك نتاج مفكر أو نتاج فكر سابق كذلك في مصر ترى أنّ كثيرا من المواقف والمقررات مثل في انتشار الجماعات المختلفة بعد دعوة الإخوان المسلمين والجيوب التي حصلت في الجماعة واختلاف الآراء فيها كانت نتاج كلام فكري قاله بعض المفكرين وتبنى هذا الكلام أناس فنشأت جماعات ثم تبنى أفكار أخرى جماعات أخر فكثرت الجماعات حتى إنه يقال إنّ اليوم بمصر نحو مائة جماعة أو اسم أو قريب من ذلك ربما للمبالغة والتكثير وهذا نتاج الفكر ويأتينا أنّ الفكر مفرق، الفكر لا يجمع، الفكر يفرق الناس لأنه إذا كان عندي أفكار فلابد أنْ يكون ثمّ من يقتنع بهذه الأفكار فيكون هناك تفرق في الأمة هؤلاء يقتنعون بهذا الفكر والفكر ليس مصدرا عقليا وليست نتاجا عقليا والغاية عقلية بل يتبعه عمل ولهذا في كتابات مثلا سيد قطب المتأخرة بل وفي كتابه ((في ظلال القرآن)) نتجت هناك جماعات تتبنى أفكاره التي قاله في نحو كتاب ((معالم في الطريق)) أو في نحو كتاب ((خصائص التصور الإسلامي)) ونحو ذلك مما فيه انحراف عن قواعد الإسلام وعن أصول هذا الدين، نشأت جماعات الخ تبنت هذه الجماعات مواقف الخ ذلك وكل له تبريراته وكل له فكره لكن العلم ليس متصلا بذلك، بل العلم من ذلك براء.(11/14)
ننتقل إلى نقطة أخرى، الفكر ما مصدره؟ يعني إذا نظرت في كتابات المفكر ماذا يعتمد عليه حتى يكتب؟ ما دلائله؟ ما مصادر الفكر عنده؟ متنوعة ومتعددة، لكن يمكن أنْ نذكر منها أولا: الثقافة العامة المجموعة مما علق بذهن ذلك المفكر أو مرّ عليه من أدلة الشرع وكلام يعض السابقين، وثقافته التاريخية والواقع السياسي ونفسية الكاتب إلخ ، يعني أشياء مجموعة ثقافية دليل من الكتاب ، دليل من السنة ، دليل من قاعدة ، واقع تاريخي، قصة تاريخية هذا مصدر من مصادر الفكر فإذا نظرت في كتابات المفكر أي مفكر تشاء لا تجد أنه يستدل بأمر خارج عن الكلام الإسلامي ولذلك قيل عنه إنه (مفكر إسلامي) ، لكن هذا الكلام الذي يستدل به ويجعله من مصادره هل هو مستقيم في نفسه؟ يعني صحيح في نفسه غير معارض أم أنه أدلة لكنها تدخل في المتشابه كثيرا من الأحيان ! في الواقع أنك تجد أدلة بعضهم يكتب ويبدأ كلامه التفكير الإسلامي كما يقولون بقاعدة من القواعد هذه القاعدة صحيحة ويفرع عنها ويبدأ ويتخذ الوسائل ويصل إلى الغاية والأحكام والعلاج إلخ ، منطلقاً من ذلك وكأنه ليس في تقييم ذلك الوضع أو في علاج هذه النقطة أو في علاج تلك المشكلة إلاّ هذه القاعدة يذكر مسألة أصولية يتعامل في المسألة بنص واحدٍ أو يذكر ثقافة أو يكون عنده عاطفة من العواطف فيتكلم من منطلق هذه العاطفة يرى مثلا ما حلّ بالمسلمين من نكبات وما يمارسه عدو الإسلام من ضغطٍ على الإسلام والمسلمين وإهانة وويلات إلى آخر ذلك مما هو مشاهد في ميادين مختلفة فتتعاظم نفسه ذلك فينتج ذلك إفرازا هذا الإفراز يسمى إفراز فكري وهذا الإفراز يصبغه بالصِبغة الإسلامية فيستدل بآية ويستدل بحديث ينقل كلام يذكر واقعة تاريخية وهذا يعدّ أكبر المصادر عند المفكرين فيرى كثيرا من الناس وينظرون إلى هذا المقال أو ذلك الكتاب فيجد أنّ فيه استدلالاً بآية وفيه استدلال بحديث وفيه استدلال بقاعدة فيه ذكر لخبر تاريخي، لقصة(11/15)
تاريخية فيرى أنّ ذلك الفكر صحيح وأنّ ما نتج إليه كان صحيحا ويفعِم ذلك بعاطفة قوية وعبارة جيّاشة وأسلوب أدبي قوي فيقتنع كثير من الناس بذلك وهذا من المصادر المهمة عندهم وهي التي يجب أن يكون طالب العلم منها على حذر لأنه كما سيأتي هناك فرق بين المحكم والمتشابه فأما الأدلة من حيث هي والاستدلال فهذا يمكن أنْ تستدل على المسائل المخالفة للدين ببعض ما جاء في القرآن مثلا استدل النصارى على نصوص بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم للعرب بقوله جلّ وعلا: { وأنذر عشيرتك الأقربين } وفرعوا على ذلك منهم من أباح الخمر واستدل على ذلك بالقرآن قال جلّ وعلا: { ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات } وهذا أمر ولم يحرم لأنه قال: { لعلكم تفلحون } في إفرازات كثيرة كما ذكر ذلك الشاطبي في ((الموافقات)) حيث قال: (( ليس ثمَّ صاحب رأي إلاّ ويجد في الشرع من المتشابه ما يدل على رأيه )) وهذه عمدة أهل الفكر في الوقت الحاضر يجدون من المتشابه من كلام الله جلّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم وربما بعض كلام أهل العلم أو الوقائع التاريخية إلى آخر ذلك ما يستدلون به فيجعلون أحكاما وأحوالا بل ربما أنواع من التعامل والنتائج مبنية على تلك المصادر التي هي مجموع الثقافة العامة لدى المفكر.(11/16)
الثاني من المصادر عند المفكرين الإسلاميّين: نظرة الكاتب إلى الواقع وكيفية علاج ذلك الواقع وهذا يتنوع بحسب نشأة ذلك الكاتب ومدرسته فمثلا ترى أنّ أبا الأعلى المودودي في الباكستان طرحُهُ الفكري يختلف تماما عن طرح مالك بن نبي في الغرب لمَ ؟ لأنّ ذاك نشأ نشأة معينة والآخر نشا نشأة أخرى فذاك متأثر بكلام المستشرقين وبالدراسات الاستشراقية وبفرنسا إلخ، فنظر بمنظور آخر وأبو الأعلى المودودي ناتج من رأيه في كيفية الإصلاح الواقع وكيف ننهض بالمسلمين… مصدر من مصادر الأفكار المدرسة إذا نظرت في جانب آخر في جانب المنحرفين جدا بعضهم عاش في الاشتراكية زمنا طويلا مثلا الدكتور محمد عمارة وعاش في ذلك وعاش فلما رجع وكتب كتابات إسلامية ويسمى اليوم –نسأل الله العافية والسلامة- مفكرا إسلاميًا وله آراء وآراء وبعض الناس يتبناها وتكتب حتى في صحفنا تجد أنه ينبثق من ذلك الماضي الذي عاشه فله أفكار متعلقة في ذلك فإذا كتب عن التنوير أو التقدم أو التطور وكيفية صياغة العقلية فإنما يرجع إلى معاناة سابقة وينتج ما عنده من الأفكار بحسب ما عنده، دون الرجوع إلى الأصل الأصيل لأنه لم يدرس ذلك أو لأنّ حياته تقلبت في أدوار مختلفة إذا نظرت إلى الذين اعتنوا بالاستشراق وذهبوا ودرسوا في الغرب وواجهوا المستشرقين في مؤتمرات إلخ ، وتكلموا عن الإسلام بنظرة فكرية لكن بإحساس هجوم الغرب على الإسلام مثل الشيخ محمد الغزالي في كتاباته، ضعف نفسي أمام أطروحات المستشرقين وعيبهم في الإسلام وهذا الضعف النفسي أراد أنْ يبرر أنّ الإسلام صحيح وأن ما عندنا هو الصحيح حتى لو أخذ قولا شاذا من أقوال العلماء أو استدل بواقعة أو هدم إجماعا من الإجماعات المقصود أنْ يظهر الإسلام قويا أمام الاستشراق هذا وضع نفسي خاص يُنتج أنواعا من التفكيرات وأنواعا من الأطروحات التي يقدمها المفكرون كذلك في الفن كذلك في المباحث اللغوية والأدب .. إلخ ، هناك أنماط من(11/17)
التفكير ومصادر الفكر تكون واقع ذلك الشخص وحياته التي عاشها والشيء الذي اهتم به، إذن فيكون الفكر أبتر لأنّ ذلك المفكر ينظر من واقعه ينظر فيما عاناه فيريد أنْ يخرج بنتائج هي في الواقع لا تحل شيئا وإنما هي تقنع وتحل المشكلة التي عنده، لكن لا تحل مشكلة المسلمين إلاّ إذا تصور أولئك أنّ كل مسلم عنده نفس المشكلة التي عند ذلك الكاتب وهذا لا شك أنه لا يقوله أحد.
من المصادر ايضا تتابع المدارس، الكتّاب الذين قرأ لهم المفكر فتجد أنّ من الناس اليوم من يكتب كتابات فكرية متأثرا مثلا بمدرسة سيد قطب الفكرية أومنهم يكتب كتابات فكرية متأثرا بمدرسة المودودي الفكرية ومنهم من يكتب كتابات فكرية متأثرا بمدرسة مالك بن نبي، متأثرا بمدرسة محمد قطب متأثرا بمدرسة محمد البهي، أنور الجندي .. إلخ الذي يكتبون في تلك المجالات تتنوع المدارس وتبدأ يكون من المصادر الدراسات القديمة من المصادر الأفكار القديمة ولا شك أن هذا يُحدِث انحرافا بعد انحراف لأنّ فكر الثاني يكون توسعة لفكر الأول فإذا كان فكر الأول غير منضبط بضابط الشرع فإنه يكون هناك خللٌ في النتائج وانحراف عن اصل الإسلام نصل إلى سؤال مهم وهو هل الفكر كله مذموم؟ متى تذم الكتابات الفكرية؟ ومتى لا تذم؟ ومتى تقبل ومتى لا تقبل؟ نرى كما ذكرت في المقدمة أنّ الفكر والكتابات الفكرية في هذا الزمان مهمة ولا شك ولها فوائد لكن متى ما انضبطت بضوابط الشرع متى ما قام أصحابها عليها بنظر صحيح متأمل رعوا فيه حق العلم وصاغوا ذلك بقوالب فكرية ونقاشات يقتنع بها الناس نعم لغة العلم عزيزة لغة العلم لا يفهما كل أحد اعتاد الناس في هذا الزمن على المقالات في الجرائد والمجلات اعتادوا على الكتب الصغيرة كتب الجيب التي يأخذ منها فكرة مدللة بقناعات سطحية متنوعة بأسلوب جذاب فيحدث قناعات كثيرة عند الناس هل نلغي الفكر؟ نلغي الكتابات الفكرية؟ الجواب ليس الأمر كذلك لابدّ أنْ يكون هناك من(11/18)
يقوم بهذه الكتابات الفكرية لكن على الضابط الشرعي الذي سنذكره أو نعرض له فيما يأتي إنْ شاء الله تعالى.
من فوائد الكتابات الفكرية في هذا الزمن:
أولا: أنْ يخاطب الناس باللغة التي يفهمونها لو نظر أحدكم إلى طالب علم يدخل إلى البيت ويكلم بعض المثقفين مثلا عنده أخ دارس دراسة مثلا مدنية أو عنده أخ يسافر كثيرا أو تاجر أو قريب له... الخ فإنه قد لا يستجيب للغة العلم قد لا يفهم مدلولات لغة العلم فهؤلاء لابدّ أنْ يوضح لهم الإسلام وأصول الإسلام وقواعد الإسلام وما عليه أهل الإسلام وعقيدة أهل السنةوتوضح لهم الأصول في عبارات سهلة هذه العبارات هي الي نسميها طرح فكري من الناس مثلا من يكون عنده الاستشهاد بواقعة تاريخية أعظم في التأثر من أنْ تستشهد له بحديث إذا أظهرت له تناقضا بين موقفين تناقضًا في حالتين يكون عنده أكثر إقناع مما لو أتيته بكلام عالم من أهل العلم، العقول مختلفة فإذًا لابدّ أنْ تخاطب الناس بما يفهمون وبما يعقلون ومخاطبة الناس بما يفهمون وتحديث الناس بما يعقلون هذا لا شك انه من المطالب التي يدخل فيها التحدث مع الناس بالفكر لكن أي فكر هو الفكر الذي كان العلم عليه حَكَمًا ولم يكن حاكمًا على العلم، الفكر الذي صدقه أهل العلم وصدقه النص والقواعد الشرعية.
ثانيا: أننا نحتاج في هذا الزمن لا شك إلى الرد على الأعداء، الرد على أهل الخصومات في الإسلام وللإسلام الشبّه كثرت والآراء كثرت فلابدّ من أطروحات مقابلة وهذه الأطروحات إنْ كانت بصيغة علمية لا تناسب كل الطوائف وكل الفئات فإنْ كانت فكرية قُبلت ولهذا نرى أنه من الحاجة أنْ يكون ثمَّ كتابات فكرية لكن كتابات فكرية صحيحة وهذه الكتابات بشرطها الذي سياتي وأعظمه أنْ يكون العلم حكما عليها وليست منفصلة ولا بعيدة عن العلم هذا في جانب الفوائد.
في جانب المضار، هل الكتابات الفكرية التي قرأنا منها ورأينا منها القديمة والحديثة هل هذه سلمت من المضار؟(11/19)
الجواب بل إنها حوت مضارا عظيمة وأخطارا متنوعة فمن ذلك وهو أعظمه أنها أحدثت أجيالاً تفكر دون اعتماد على العلم والأمة لا تعرف إلاّ أنْ يكون العلم هو الأصل، فالأمة مرتبطة بالعلماء منذ عهد الصحابة بل حتى في حياة النبي عليه الصلاة والسلام قال الله جلّ وعلا: { وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } قال المفسرون : أولوا الأمر هنا هم الذي يستنبطون وهم أهل العلم فالأمة مرتبطة بعلمائها أجيال الناس مرتبطة بأهل العلم، يأتي في هذا الزمان إحداث لمصطلح فكر إسلامي ويقوم عليه أناس يسمون مفكرين إسلاميين هذا أحدث أجيالاً من الناس قناعتهم فكرية لا يعون العلم ولا يرضخون للعلم ولا يحكمهم العلم إنما يحكمهم الفكر إذا فكروا فإنما هو بمعطيات فكرية، وإذا تناقش أحدٌ معهم فإنما يقتنعون بالفكر دون غيره فإذا تكلم مفكر بألفاظ جذابة بألفاظ فضفاضة بثياب واسعة فإنه يقتنع وإذا أتاهم بمصطلحات جديدة اقتنعوا فأتت المصطلحات الجديدة، الخروج من الذل الرجوع إلى الإسلام إنما هو بتحديث فهم النصوص الرجوع إلى الإسلام إنما هو بالتطويل بفتح باب الاجتهاد، إنما هو بالتنوير إنما هو بالتقدم في النظرة إلى النصوص إنما هو بالنظرة الفلسفية العامة بتقديم العقل بالعقلانية... إلخ ذلك وهذه كلها إفرازات لكتابات المفكرين لأنه في القرن الأخير يعني في القرن الثالث عشر ما كان يعرف أنّ ثمة مشكلة لا يرجع فيها إلى أهل العلم إنما كان الرجوع إلى أهل العلم، الخلاص ينظر إلى كلام أهل العلم، فبدأت هذه المعطيات واحدة تلو الأخرى حتى نشأت أجيال تفكر بتفكيرات فكرية حتى قيل عن نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام قيل عنه إنه ((عبقري)) فكتب كاتب ((عبقرية محمد)) وهل النبي عليه الصلاة والسلام كان مفكرا كان من عند نفسه حتى يقال إنه عبقري؟! إنما هو وحي يوحى كما قال جلّ وعلا: { إنْ هو(11/20)
إلاّ وحي يوحى } فظهر استقلال في الفكر وأجيال تتعامل مع الألفاظ مع النصوص بمجرد رأيها لا ترجع إلى شيء فحدث هناك مصطلحات مخالفة تُعدِّي على الرسل تُعدِّي على الأنبياء، تُكُلِّم بكلام إنما هو نتاج الفكر حتى تكلم في الصحابة فحللت تصرفات بعض الصحابة، حللت الخلافة حتى قال بعضهم إنّ الخلافة الإسلامية لم تعرف الاجتماع إلاّ في عهد أبي بكر وعمر ومنذ عهد عثمان إلى يومنا هذا حدث الخلاف في الأمة والتفرق والدماء والتطاحن فإلى شيء يُدعى في النصوص فلابدّ أنْ يكون هناك أشياء فكرية تجمع الناس على معطيات جديدة ليس هي المعطيات السابقة لأنّ النظر في النصوص فرق الأمة والعياذ بالله وهذا لا شكّ انه يعني في الجانب الآخر الغالب خروج الديانة وابتغاء لغير سبيل المؤمنين.(11/21)
من المضار العظيمة أيضا أنّ الأمة تفرقت وإذا نظرت إلى هذه الأشياء التي ذكرنا وبداية نشأة الجماعات الإسلامية في القرن الماضي وكيف أنّ نتاج هذه الجماعات كان فكريا؟ وكيف بنيت جماعات وفئات على الفكر نظرت أنّ التفرق يكون بحسب زيادة الفكر فكلما ازداد المفكرون ازداد التفرق وكلما ازدادت الأطروحات الفكرية كثرت الآراء الجديدة وكثر التفرق وهذه لا شك مضرة عظيمة لأنّ الفرقة عذاب كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب)) والأمة إنما يجمعها العلم والفكر مفرق الثقافة تفرق إذا لم تكن منطوية تحت لواء العلم، والعلم هو الذي يجمع العلم هو الذي يقل معه التفرق والاختلاف وسيوجد الاختلاف لأنّ الاختلاف في فهم النصوص هذا موجود ولكنه يكون قليلا، أما هذا الذي تراه أفكار مختلفة كل واحد عنده طرح غريب حتى إنه غدا من آثار الفكر أنْ يقال لا فرق بين السنة والرافضة إلاّ فغي مسائل قليلة لابدّ من الالتقاء حتى إنه يمدح رؤوس الضلال بحجج فكرية لماذا تمدح رؤوس الضلال من مثل الخميني وغيره – مدحه بعض المفكرين الإسلاميين – لماذا ؟ قال بكلام فكري لا حاصل وراءه حاصله أنه لابد أنْ تجتمع الأمة للهجوم على المستعمر للهجوم على الدول الكافرة إلى آخره وهل هذه مصلحة شرعية أنْ تجتمع مع كل أحد حتى ولو كان هو الذي يطعن في عقيدة الأمة ويطعن في أصول أهل السنة لا شكّ هذا كلام فكري تبنته جماعات وتبنته فئات حتى في زماننا هذا وحتى في بلادنا هذه هناك من يقول بمثل ذلك الكلام.(11/22)
في الكلمات الفكرية العامة قيل بتصحيح بعض الأوضاع كلما جدّ أمر وظهر حال أو ظهرت نازلة بالمسلمين أو وُجد شيء تعالم معها الكُتّاب هؤلاء من نظر فكري مجرد هذا ينظر إليها من الجهة الفلانية والآخر ينظر من الجهة الأخرى، وتحدث آراء في الأمة جديدة وتتفرق الصفوف لأجل تلك الآراء فالفكر سواء كان قريبا من العلم أو كان بعيدا هو يفرق ما لم يكن العلم حكَما عليه لا شكّ أنّ هذا ضار جدًّا وضرره بين لكم فيما حصل من أنواع التفرقات في الأمة وتنوع الأقوال والمدارس ، من مضاره أيضا لأنه نتج في المفكرين أنْ يصدروا أحكامًا على العقيدة الصحيحة وعلى الفقه الصحيح وعلى أصول الحديث وعلى السنة فأهَّل المفكر نفسه وجعل نفسه أنه مفكر إسلامي أنْ يخوض في كل مسألة حتى في الموازنة بين العقائد فيدخل فيوازن بين العقيدة الفلانية والعقيدة الفلانية بطرح فكري ، السنة ما يقبل منها وما يرد بعطاء فكري ، مخالفة بعض الأحاديث للعقل وللفكر يعرض لها وتبث بعطاء فكري إلخ تحليل الدول والوقائع التاريخية كل ذلك بعطاء فكري ، ولا شك أنّ هذا لا يقبل من أصحابه وسبَّبَ إظهار ووجود جماعات وفئات جديدة وطوائف من الناس تفكر في الحكم على كل شيء أصبحوا أعني أولئك المفكرين أصبحوا حكّاما ومجتهدين فلا يتورعون عن الحكم على أي شيء وعلى أي واقعة ويحللون أي شيء ويعللون ويدللون وتجد أنّ لهم من يساعدهم ومن يأخذ بافكارهم ويتبنى أقوالهم وهذا لا شك أنشأ أنواعا من المضار والانحرافات في الأمة.
والسؤال الآن ما هو واجب المفكرين؟ خطاب لمن يكتب كتابات فكرية ويريد منها نفع الأمة سلمت نيته وطويته وخشي لقاء الله جلّ وعلا وخاف عذابه ورغب في جنته وخطاب أيضا لأولئك الذين تجرأوا على كل كتابة فكرية وكل طرح بمجرد وجود مجموعة من الأفكار والثقافة والاطلاع عند أولئك يجب أولا على الجميع في ذلك(11/23)
تقوى الله جلّ وعلا وأنّ الكتابة إذا كانت فكرية فإنه لابدّ أنْ يستحضر صاحبها الذي كتبها أنّ هناك من سيقتنع به ومن سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وفي الصحيح صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء)) وهذا أمرٌ عظيم أنْ ينظر الكاتب فيما يكتب والمرء مسئول عما كتب ومسئول عما قال، فإذا اعد يوم القيامة وللسؤال جوابا وراى منزله أين يحب أنْ يكون فإنه إذا سيتحرى إنْ كان من مريدي الخير ومحبي ربهم جلّ وعلا.
الثاني: الواجب أنْ يخضع الجميع للعلم وأنْ يرفعوا الفكر على العلم، العلم هو قول الله جلّ وعلا وقول رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقول الصحابة قول أئمة الإسلام، قواعد الشرع المرعية وهذا هو الذي ينجي وهو الذي أذن الله جلّ وعلا باتباعه.(11/24)
أما الفكر فإنْ كان تابعا للعلم فهو مقبول ومنجي وأصحابه ناجون وإنْ كان مخالفا للعلم فأصحابه على هلكة فلابدّ بل يجب على كل من يكتب كتابة فكرية أنْ يكون رجاعاً إلى العلم وأنْ يكون العلم حكما عليه وهذا يكون بمراجعة أهل العلم لما يكتبه من يريد الكتابة الفكرية العامة فإنه قد يستنتج استنتاجات غير صحيحة وقد يستدل بأدلة غير محكمة أو معارضة أو فهمها على غير فهمها أو نظر فيها على غير الصحيح قد يُستدل بواقعة تاريخية والتاريخ ليس حجة وقد يستدل بفعل بعض العلماء في الزمن الماضي وفعل بعض العلماء ليس بحجة إلخ ذلك ، من الذي يزن هذه الأمور ؟ من الذي يزن الصحيح من ذلك بما ليس بصحيح ؟ إنما هم أهل العلم فمن أراد كتابة فكرية يريد بها نفع الناس ومخاطبة الناس بما يفهمون ((حدثوا الناس بما يعقلون)) من أراد ذلك فعليه أنْ يجعل العلم حكمًا ويجعل أهل العلم مراجعين لكلامه ولكتاباته حتى تكون نافعة غير ضارة ولا مخالفة لقواعد الشرع كل ذلك بعرضها على أهل العلم وأهل الشأن.(11/25)
الثالث: أنْ لا يدخل المفكر في كل شيء أنْ لا يكون مجتهدًا يظن نفسه أنه بما عنده من المعلومات والثقافة وحسن الأسلوب يخوض في كل أمر فيعرف حده فما حدّ الفكر الذي يخوض فيه؟ ما هو الذي يجوز له من ذلك؟ لا يجوز له أنْ يكون مجتهدا حكما على العقيدة، حكما على الفقه حكما على الحديث حكما على الأحاديث من حيث ثبوتها وعدم ثبوتها من حيث ما يقبل وما لا يقبل حكم في المسائل الفقهية حكم في قواعد الشرع، حكم في التاريخ، حكم على العلماء حكم على الفئات، حكم على الجماعات حكم على وجهات النظر، لأنّ المفكر إنما يعرض رأيه، والرأي إذا لم لم يكن مستندا إلى أدلة صحيحة في العلم والشرع فإنه رأي والراي كما قلنا مذموم إلاّ ما وافق فيه أصحابه الشرع فإذا لابدّ أنْ يعلم المفكر حدوده في أي شيء يتكلم ما حدود الكلام، وإذا عرف حدوده وأنّ الفكر يخدم الأمة إذا كان في بيان محاسن دينها إذا كان في وسيلة يقظتها إذا كان في تصحيح عقولها من الخرافات، إذا كان في تثقيفها، إذا كان في أخذها بوسائل الحضارة وتفهيمها أصولا ، ألفاظ ، معطيات جديدة ، فيريد أنْ يعرضها للأمة بصيغة فكرية هذا لا شك أنه يخدم .. يحلل .. يكتب عن تحليلات لخبر أو لحادثة تاريخية أو لحوادث من السيرة فتكون بعد ذلك معروضة على أهل العلم، هذه الحدود لا شك أنّه يحتاجها الناس ويحتاجها طوائف من الشباب والكبار ومن المثقفين وغير المثقفين لأجل أنْ يُبان للناس حقيقة هذا الدين بما يناسب أهل العصر.(11/26)
الرابع مما يجب على المفكرين أنْ يحرصوا أنْ لا يفرقوا الأمة وأنْ لا يحدثوا حدَثا فيها فكل ما حدثت معطيات فكرية جديدة وألفاظ اصطلاحية جديدة تنوير.. تقدم إلخ يتبعها أناس وهذا يفرق الأمة لو استعمل المستعمل ألفاظ فكرية يستعملها غير الإسلاميين من أصحاب تلك الألفاظ فإنه يوقع الناس في شك ويوقع الناس في تبعية ومراجعة لتلك الأفكار فتلك الأفكار يجب أنْ لا يدعى إليها وتلك الأفكار يجب أنْ لا يؤخذ بها لأنّ الأخذ بها تفريق للأمة، فإنما يؤخذ بالفكر كما ذكرنا الذي يجمع الأمة وهو ما وافق العلم أما الفكر الذي يفرق الأمة فإنه مذموم إذ الواجب أنْ تجمع الأمة على ما اجتمع عليه سلفها الصالح وعلى ما اجتمع عليه الرعيل الأول من وحدة العقيدة ووحدة التلقي للنصوص ووحدة التفكير وهذا إنما يكون بالرجوع إلى العلم وبالتربية وبالعرض العلمي.
أيضا وهو الأخير أنْ لا يغتر المفكرون بأنفسهم فربما رأى المفكر أنه ربى وفاق وارتفع عن أنْ يكون منقودًا فيظنّ في نفسه أنه مؤهل بأن تكون كلمته هي الصواب وهذا باطل لأنّ المفكر يحسب الواقع الأصل في كلامهم الخطأ وقليلٌ منهم من يصيب يعني يصيب ويوافق الشرع فهؤلاء المفكرون يجب عليهم أنْ لا يغتروا وإذا رُدَّ عليهم أنْ يقبلوا إذا كان ديدن الجميع الحق، وإذا كتب إليهم أوعنهم أو انتقدوا فإن المفكر يخطئ ويصيب وخطؤه كما ذكرنا في الغالب يعني من حيث الواقع أكثر من صوابه وربما بعضهم يكون صوابه أكثر من خطئه لكن في الغالب من لجأ إلى الفكر فإنّ أخطاءه كثيرة ولهذا يجب عليه أنْ لا يرتفع عن النقد وهذا النقد له درجتان نقد قبل النشر ونقد بعد النشر ، فقبل النشر لابدّ أنْ يعرضه فينقد ما كتب يعرضه على أهل العلم حتى يقيموا كتابه ثم بعد النشر قد يكون فات الأول أشياء فينقد مرة أخرى حتى تكون الكتابة سليمة غير مردودة فإذًا لابدّ عليه أنْ يرحب بالنقد.(11/27)
أخيرًا العلم وما هو العلم، لا شك أنّ العلم هو الأصل والعلم ليس بحاجة إلى أنْ يفصل عنه فصلنا عن الفكر والعلم معلوم والعلماء معلومون فالعلم كما قال ابن القيم:
قال الصحابة هم أولوا العرفان
بين الرسول وبين رأي فلان
العلم قال الله قال رسوله
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
العلم هو فقه النصوص، العلم هو الرجوع بالأمة إلى أصل الرسالة ألا وهو تلقي الكتاب والسنة والعمل بذلك وهذا العلم هو الذي تحتاجه الأمة وهو الذي يحجب أنْ يسيّر به الناس أفرادًا وجماعات عاملين للإسلام أو غير عاملين خاصة أم عامة فإن الجميع إذا رضخوا للعلم فإن العلم هو المرجع وهو الذي به تؤهل الأمة إلى أنْ تكون قوية على أعدائها صابية وراغبة وواصلة إلى ما يراد لها ومنها ، العلم ممدوح أهله مدحهم الله جلّ وعلا في كتابه ومدحهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في سنته وهذا الحديث عنه يطول لكن من ذلك قوله جلّ وعلا: { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أتوا العلم درجات } معنى هذه الآية يرفع الله المؤمنين يعني من هم على مرتبة الإيمان من أهل الإسلام هم مرفوعون وأهل العلم من المؤمنين مرفوعون على غيرهم درجات { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أتوا العلم درجات } فالذين أتوا العلم مرفوعون بنص القرآن على غيرهم درجات فمن فضل مفكرا على عالم أو اتبع مفكرا على عالم وجعل درجة المفكر فوق درجة العالم فإنّ هذا ناقضَ هذه الآية وخالف هذا الذي جعله الله جلّ وعلا منّ’ منه وتكرما فضلا لأهل العلم رفعا لدرجاتهم.(11/28)
لابدّ أنْ نعلم أنّ العلم منه محكم ومنه متشابه وقد قال جلّ وعلا: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم )) العلم منه محكم ومنه متشابه ، النصوص منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه فالمحكم منها الواضح البين الدلالة المتشابه هو الذي لا يفهمه إلاّ الراسخون في العلم ، يحمل المتشابه على المحكم ، يرد المتشابه إلى المحكم فمن استدل بالمتشابه وترك المحكم أو لم يجعل المتشابه راجعًا إلى المحكم فإنه ممن سمى الله فاحذروهم ممن قال الله جلّ وعلا فيهم: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فإذن العلم المحكم منه بين والمتشابه منه لا يدركه إلاّ أهل العلم، صنيع العلماء صنيع الراسخين في العلم التمييز بين المحكم والمتشابه يستدل بالمحكمات ويصرف المتشابهات إلى المحكمات ، أما صنيع المفكرين ..صنيع الجهلة أو صنيع القراء أو صنيع أهل الهوى فإنهم يستدلون بالمتشابهات ويتركون المحكمات، يستدل بالمتشابه من السنن يستدل بالمتشابه من الآيات فلا غرابة إذن أن استدل الخوارج على بدعهم بالقرآن والسنة لا غرابة أن استدل المعتزلة على بدعتهم وضلالهم بالكتاب والسنة لا غرابة أن استدل الجهمية والصوفية على ضلالاتهم بالكتاب والسنة لأنهم لم يستدلوا بالمحكمات وإنما استدلوا بالمتشابهات والعلم لو لم يكن فيه المتشابه لتعاطاه كل أحد ولم يفن فيه أهل العلم أعمارهم حتى يفقهوا مراد الله جلّ وعلا من كلامه والمتشابه والمحكم لناله كل واحد وهذا لا يكون فإنما العلم للراسخين في العلم(11/29)
الذي استوعبوا حياتهم فيه وعرفوا مدلولات النصوص، المفكرون في العصر الحاضر ما صنيعهم؟ في الواقع أنّ الكثرة الكاثرة منهم إنما يستدلون بالمتشابهات صحيح عندهم أدلة وشواهد وأقوال وحكايات ولكنها إذا نظرت إلى ما جاءوا به من القرآن والسنة فقليل منه ما هو صحيح الاستدلال ومنه وهو الأكثر ما هو من المتشابه مما يشتبه هذا منه بذاك وهذا يضل الأمة ويجعلها في انحرافات فكرية وسلوكية وعقدية وأجيال تتبع أجيال في انحرافات وأفهام ومفاهيم إنما كان نتاجها اتباع المتشابه وترك المحكم ، والعلم هوالتفريق بين المحكم والمتشابه والعلماء هم الذين يعلمون المتشابه ويعلمون المحكم وليس كذلك المفكرون ولهذا فإنه ينبغي أنْ تعلم يقينا أنه ليس كل من استدل على شيء بكلام الله جلّ وعلا أو بكلام رسوله أنْ يكون صحيحا في نفس الأمر والبعد من ذلك أنْ يستدل المفكر على ما يريد بحدث تاريخي أو يستدل بواقع أو يستدل بتحليلات أو يستدل برأي أو يستدل بقول عالم مضى أو بفعله فإنّ هذا إيغال في البعد لأنه في أفعال أولئك وفي أقوالهم ما هو متشابه من باب أولى فإذا كان في كلام الله وكلام رسوله ما هو متشابه فمن باب أولى أنْ يكون في كلام بعض أهل العلم وفي أفعالهم وتصرفاتهم وتقييماتهم ما هو من المتشابه فلهذا تجد أنّ من المفكرين من يحيل على بعض المتقدمين ويحلل أو ينقل واقعة أو ينقل كلام بعض أهل العلم وينقل من الكتب إلخ وإنما هو كلام فكري لأنه استدلال بالمتشابه وهو سمة أهل الرأي وأهل الفكر.
ثمرة العلم :(11/30)
العلم له ثمرة عظيمة وأول ثمراته سلامة التدين فالمفكر الإسلامية كما يقولون إنما يريد أنْ يحمل الناس على التدين أو أنْ يجعلهم كما يقولون في تصور إسلامي صحيح وهذا ليس نتيجةً حتمية بل إنه في النتيجة الغالبة أنْ لا يكون كذلك لكن العلم يحمل على سلامة التدين لأنّ العلم إذا اخذ بقواعده وأدلته وأصوله على منهج السلف الصالح فإنه يحمل على سلامة التدين وسلامة الاعتقاد وسلامة التصرف وسلامة النظر وسلامة التعاملات المختلفة مع الواقع مع النفس مع الأهل مع جميع الأحوال والمستجدات.
أما الفكر والرأي فهو متقلب ولذلك تجد أنّ الناس لما لم يكن العلم حكما عليهم فإنهم كلما جدت لهم حادثة انتظروا الأفكار، انتظروا الأقوال فتظهر أفكار عشرة، عشرين في الواقعة الواحدة وكلّ يحلل بنفسه فتجد التفرقات وفي المجلس الواحد يتنوع الأربعة إلى أربعة أقوال وهذا رُوي وسيرى ما دام أنّ الفكر هو المرجع وأما إذا جعلنا العلم هو المرجع فإنه يسضيق الخلاف سيضيق حتى يكون الناس على تدين صحيح ونظر صحيح.(11/31)
أخيرا من ثمرات العلم أنّ العلم يجمع والفكر يفرِّق وهذه من كلمات مفتي الديار السعودية في زمنه الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله فإنه في وقته لما رأى انسياق الناس إلى الثقافات في آخر زمنه وترك الناس للعلم قبل أنْ تعرف الجماعات وقبل أنْ تعرف الطوائف والفئات في هذه البلاد قال تلك الكلمة لبعض خاصته ولبعض طلبة العلم فقال: ((أوصوا الناس بالعلم فإنّ العلم يجمع وإنّ الفكر والثقافة تفرق)) وهذا صحيح وقد رؤي ذلك فالعلم هو الذي يجمع والثقافة تفرق إذا نظرت إذا اختلفت مع آخر في مسألة وكان المرجع فيها هو العلم يرضخ الجميع خذ مسألة فقهية قلت: والله الظاهر أنّ الحكم فيها كذا، والآخر يقول لا الظاهر أنّ الحكم فيها كذا، فرجعتهم إلى عالم فقال قولا اتفقتم على صحة قوله فاجتمعتم بعد اختلاف في الراي في تلك المسألة، الاختلاف في الفقهيات أمره سهل لكن كيف إذا كان الاختلاف في مسائل أعظم من ذلك، في مسائل تتعلق بمصير الأمة، بمصير دعوة، بالإصلاح بالأمر والنهي إلخ ذلك بالجهاد ونحو هذه الأمور، فإنّ الاختلاف إذا وقع دون الرجوع إلى أهل العلم بشر بالتفرق والأمة أخذ عليها الميثاق أنْ تتبع الرسول عليه الصلاة والسلام كما أُخذ على من قبلنا أنْ يتبعوا رسولهم أو أنْ يتبعوا رسلهم عليهم السلام وقد قال جلّ وعلا في النصارى: { ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرين بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } أخذ عليهم الميثاق أنْ يتبعوا العلم وأنْ يتركوا الرأي فما الذي صنعوا كما قال ابن شهاب الزهري: ((إنّ اليهود والنصارى ما ضلت إلاّ بالرأي)) أخذ على النصارى الميثاق أنْ يتبعوا العلم، أن يتبعوا ما ذُكِّروا به وأخذوا بالرأي فما الذي حصل تفرّقوا والتفرق عقوبة من العقوبات قال جلّ وعلا: { ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا -يعني تركوا- حظا مما ذُكِّروا به } -من العلم- فأخذوا(11/32)
بالآراء والأهواء فتفرقوا قال جلّ وعلا: { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } التفرق ليس مجرد فرقة لكن التفرق سيتبعه بغضا وسيتبعه شحناء وسيتبعه بغض حتى يكون بغضا في الله من أجل التفرق وسبب التفرق هو عدم أخذ العلم في الأصل واتباع الآراء، فالعلم جامع والثقافة والفكر تفرق، وهذا واضح في تاريخ الأمة وتاريخ ما حصل في العصر الحديث من أنواع التفرقات في الأفكار والمفاهيم وفي الفئات والجماعات حتى في العداوات بين المفكرين والكتاب واتخاذ نشأة المدارس المختلفة.(11/33)
نلخص فنقول الفروق بين العلم والفكر ؟ العلم أدلته منضبطة أدلته معلومة هي ثلاثة عشر دليلا وبالتفصيل عشرون دليلا كما ذكر ذلك القرافي في كتبه الأصولية، أما الفكر فأدلته غير منضبطة الفكر سيَّاح ترى مرة من أدلة المفكر حدث تاريخي ويستدل به على الحكم على نازلة وواقعة من الواقعات التي تحصل في هذا الزمن متى كان التاريخ دليلا؟ يأتي مفكر فيقول أهل بلد من البلاد كما ذكر المؤرخون أهل بلد من البلاد انصرفوا لما قلّ الخبز وكثر الجوع أو نحو ذلك بأن قاموا بمظاهرات عارمة فهذا أصل من أصول جواز المظاهرات في الإسلام حتى كان الاستدلال بمثل هذه الأشياء دليلا هذا فكر رأي وهذا الفكر غير صائب وهذا الرأي غير صائب لأنه استدلال بتاريخ والفكر غير منضبط الفكر سيّاح ممكن أنْ أقول أي كلمة وأستدل عليها بأي شيء ولكن الكلام ليس في أنْ تقول تعليلا وتفسيرا لرأيك لكن الكلام أنْ يكون هذا التفسير وهذا التعليل مقبولاً صحيحًا، يأتي آخر فيستدل بأنّ أهل الحديث تنكبوا عن الصناعات وتنكبوا عن الدخول في الإنتاج العلمي وقال إنه في تاريخ المسلمين ما أنتج التقدم ولا الحضارة ولا الاكتشافات ولا أثرى المكتبة إلاّ أصحاب العقل أي العقلانيون، فهم الذين شجعوا الصناعة وشجعوا الأفكار الحضارية وتقدموا وانتجوا الطب والرياضيات .. إلخ فلا يعرف في المحدثين من كان كذلك فهذا دليل على أنّ مدرسة أهل الحديث مدرسة قاصرة عن أنْ تقود الأمة والمدرسة السلفية قاصرة عن أنْ تقود الأمة ، نعم هم في الأحكام في آراء لكن فيما نفع به الناس الأمة فإنما هم المعتزلة فالمعتزلة هم الحقيقون بقيادة الأمة في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر فالأفكار العقلانية هي التي تتقدم بالأمة وأما المحدثون أو الفقهاء فإنما هم مجرد وعاظ هذا حدث تاريخي أو تحليل تاريخي يستدل به ذاك على إبطال أصل من الأصول ودليل من الأدلة الذي فيه أنّ الفرقة الناجية إنما هم أهل السنة والجماعة وهم أهل(11/34)
العلم، وجود أولئك يحكم عليه أهل العلم هل هو جائز أم غير جائز، الصناعات لا يحرمها أهل العلم، والمعطيات الحضارية لا يحرمها أهل العلم ومن حرمها فلقصور نظره أو لبعده عن فهم مقاصد الشرع فأولئك يحكمون هم أطباء للقلوب، سائرون بالناس إلى الدار الآخرة فمن وجد ليقوِّم الحياة الدنيا ويعطي معطيات حضارية وصناعية واكتشافات طب وهندسة، وضوابط كيمائية وفيزيائية وفلكية في الأمة إلى آخره هذا إنما يحكم على فعله هل فعله صحيح أم غير صحيح ولا يعني أنّ ما ذكر من أنهم هم القادة بل القيادة معروفة إنما هي في الدين لأهل العلم لهذا ذلك الاستدلال الفكري هذا سيّاح غير منضبط، استدل بشيء من التاريخ في إبطال أصل من الأصول الشرعية وهناك من يقتنع بذلك ويردده في هذه المسألة.
الثاني من الفروق: أنّ العلم له أصول يوزن بها والفكر ليس له أصل يوزن بها إذا تكلم أحد في مسألة علمية فتستطيع أنْ تزن هل كلامه مقبول أم غير مقبول؟ هل كلامه قوي أم غير قوي؟ أما الفكر فما ضوابطه؟ ما أصوله؟ أريد أنْ أزن كلاما فكريا يعني من عامة الناس فيزن بأي شيء؟ لا يستطيع أن يصل إلى موازين معروفة، فالعلم له موازين هو أما الفكر فإنه غير منضبط وليس له موازين وأصول يُقيِّم بها إلاّ الرجوع إلى العلم فإنه هو الحكم عليه.
الثالث : العلم الأصل فيه المدح والأصل في أهله المدح وأما الفكر فهو الرأي والرأي الأصل فيه الذم وهذا فرقٌ عظيمٌ بين الأمرين.
الرابع: العلم حاكم على الفكر حاكم على الأفكار والرأي والفكر محكوم عليه وهذا فرق مهم بين هذا وذاك.
الخامس: وهذا تلخيص لما سبق العلم جامع ويجمع الأمة وينبذ الفرقة، ويقلل الاختلاف ويقلل المدارس المختلفة، أما الفكر والرأي فإنه يفرق ويزيد من المدارس ويزيد من الاختلاف وهذا الاختلاف وكثرة المدارس تنتج تحزبات تنتج آراءًا يتبعها مواقف شتى.(11/35)
آخر كلمة في هذا البيان أنّ ما ذكر نريد منه الوصول إلى نتيجة مهمة ألا وهي أنّ العلماء في دين الأمة وفي مواقفها هم القادة هم الذين يُبَيِّنون للناس ما يحل ويحرم؟ ما ينبغي اتخاذه وما لا ينبغي اتخاذه، ما يجوز وما لا يجوز كيف تتخذ المواقف كيف يحكم على الأوضاع، على الأفكار إلخ العلماء هم المؤهلون لذلك هم المرجع في أمور الدعوة هم المرجع عند الاختلاف، هم القادة، وهم الدعاة يعني في أمر الدين، فإذا كان المفكرون هم قادة الدعوات، وإذا كان المفكرون هم رؤساء الجماعات فإنه لا شك سينتج….
الجماعات والمدارس في بعض البلاد كيف آل بهم الأمر أن يعادي بعضهم بعضًا وأن يقتل بعضهم بعضا –نسأل الله جلّ وعلا السلامة والعافية- إذًا المفكرون لا يصلحوا أنْ يكونوا قادة في أمر الدين لا يصلحون أنْ يكونوا حكامًا على الأوضاع حكامًا على الآراء حكاما على أهل العلم، المفكرون لا يجوز أنْ يتحكموا في مصير دعوة الله ودعوة الله مرجعها الكتاب والسنة والذين يفقهون الكتاب والسنة هم الذين يتأهلون لئن يقودوا الدعوة، فالمفكر ينبغي أنْ يقف عند ما حدّ له فإذا جاوز ذلك فإنّ مجاوزته عليه لا له، المفكر لا يصلح له أنْ يقيِّم المصالح والمفاسد لا يصلح أنْ يعرض بفكره المصالح والمفاسد، فيقول هذه هي المصلحة وهذه هي المفسدة، يقيم وضعًا اجتماعيًا يقيِّم دولة يقيم موقفا من المواقف، ويقول المصلحة في كذا والمفسدة في كذا ما دليلك على ذلك؟ والله هكذا نرى هكذا أدى إليه الرّأي والفكر، لا يجوز للمفكر أنْ يكون كذلك وإنما من يقيِّم المصلحة والمفسدة هم أهل الشرع لأنّ الشريعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، إذًا متى يصح من المفكر أنْ يفكر وأنْ يكتب؟ إذا كان محكوما بالعلم.(11/36)
وفي النهاية نصيحة موجهة إلى شباب الأمة وإلى المفكرين وإلى أهل العلم أنْ يقوموا بواجب العلم وأنْ يقيموا الأمة على العلم وأنْ يوسعوا قاعدة العلم لأنّ الأمة أشد ما تكون حاجة إلى العلم والعلم هو القاعدة وقد قرّر ذلك جمع من العقلاء والمفكرين بعد أهل العلم فالجميع متفق على أنّ القاعدة التي تنطلق منها الأمة هي العلم ولكن من الذي يأخذ بذلك ؟ الناس بحاجة إلى العلم بحاجدة إلى العلم بحاجة إلى من يرجعهم إليه من يبينه لهم إلخ ذلك ، الفكر والكتابات الفكرية لابدّ أنْ تقيمها لا تعتمد على أفكار الكتّاب، لا تكن قراءتك في الكتب الفكرية هي الغالبة عليك في يومك وليلتك، إنما ليكن الغالب العلم، لأنّ العلم هو الذي ينور الصدور، أما الفكر فإنما هو رأي، وإذا جعلت العلم هو الأصل كان الفكر في مكانه الصحيح وكنت سائرا بتثقيف وبفكر يمكن أنْ تخوض به فيما يخاض به في المجتمع من الأفكار والأقوال لكن إنْ كان علمك قليلاً فإنك تكون ريشة في مهب رياح الأفكار وهذا لا شك يقود إلى خللٍ في الفكر وخلل في التفكير.
كتابات المفكرين الذين يكتبون الكتابات المختلفة من الموجودين المعاصرين أو ممن توفاهم الله جلّ وعلا يجب أنْ تضعهم في مكانهم الصحيح وأن لا تكون تلك الكتابات حَكما ولا مدرسة ولا قيادة وإنما هي شواهد وإنما هي أفكار يقبل منها ويرد.
هذا وأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلنا وإياكم من الدعاة إلى سبيله وأنْ يختم لنا بالحسنى، وأنْ يجعلنا ممن رضي عنهم وأرضاهم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(11/37)