ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
البريد الإلكتروني
Emal:AlyabolEzz@yahoo.com
7545803
رقم الإيداع
الترقيم الدولي
حقوق الطبع محفوظة إلا لمن أراد طباعته وتوزيعه لوجه الله تعالى
ووجوب الاستعداد لها
إعداد
علي رمضان أبو العز
غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الصلاة والسلام إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن قرب الآخرة وقيام الساعة من الأهمية بمكان لا يقل في أهميته عن القيامة وأهوالها التي وصفها الله عز وجل بأنها شئ عظيم، ومن ذلك جاء تحذيره تبارك وتعالي من الغفلة عن الساعة وقربها وأهوالها جاء ذلك في قوله تعالى:
(يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيئ عظيم ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكار ى ولكن عذاب الله شديد( الحج 1-2
وإن أول ما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته هو التحذير من الآخرة وقربها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال "لما نزلت : وأنذر عشيرك الأقربين، صعد النبي صلي الله عليه وسلم على الصفا ونادي يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الخبر، فاجتمعت قريش وجاء عمه أبو لهب، فقالوا : ما وراءك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك كذباً قط، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" متفق عليه، وكلمة (بين يدي) كناية عن قرب الساعة والحساب يوم القيامة.(1/1)
وهناك حقيقتان غابتا عن أغلبية الناس في هذا العصر أولهما اقتراب الساعة مصداقاً لقول الله عز وجل:
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ( الأنبياء 1
والحقيقة الثانية إتيان الساعة بغتة مصداقاً لقوله جل وعلا:
(يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون( الأعراف 187
وقد ظن كثير من الناس أن هذين الأمرين ليسا إلا نوعاً من المبالغة، أو التخويف، أو التضخيم الذي ليس له أساس من الواقع خاصة وأنه لم تقع بعد علامات الساعة الكبرى، كما ظن البعض الأخر أن اقترابها هو اقتراب نسبي بالنسبة للخالق عز وجل، فيوم عنده كألف سنة مما يعد البشر، وفي حقيقة الأمر فإن الساعة قريبة وشيكة الوقوع عند الله عز وجل وعند المخلوقين أيضاً، تأكد ذلك في غير ما آية من كتاب الله عز وجل منها قوله تبارك وتعالى:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً(الإسراء 52
والواقع أن يوم البعث والحساب هو قريب بالنسبة لكل نفس خلقها الله عز وجل فإن الموت يأتي في أي لحظة دون علم من يأتيه بموعد إتيانه فكم من صحيح مات بغير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر وإن الإنسان ليولد ويتعرض للموت من أول لحظة من حياته مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل ابن أدم وإلى جنبه تسعة وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت"1.
وليس هذا البحث تحديداً لتاريخ معين ليوم البعث بل هو إثبات لقرب هذا اليوم بالنسبة لكل إنسان على حدة منذ خلق أدم عليه السلام إلى قيام الساعة.
الفصل الأول
الأمثلة التي ضربها الله تعالى لإثبات البعث وقرب الآخرة(1/2)
إن من رحمة الله عز وجل بعبادة، أن ضرب لهم أمثلة عملية في حياتهم الدنيوية لإثبات ما سيقع لهم من بعث ونشور وموت وحياة، حتى لا تكون لهم حجة في عدم تذكر ما سيحدث لهم مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى:
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولين جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن انتم إلا مبطلون( الروم 58
ومن الأمثلة التي ضربها الله عز وجل لإثبات البعث وقرب الآخرة في التاريخ ما جاء ذكره في قوله :
(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير (البقرة 259(1/3)
قال المفسرون عندما مر هذا الرجل - العزير - على قرية وقد سقطت جدرانها على سقوفها قال كيف يحيي الله هذه البلدة بعد خربها ودمارها؟ قال ذلك إستعظاماً لقدرة الله تعالى، وتعجباً من حال تلك القرية وما هي عليه من الخراب والدمار وكان راكباً على حماره حينما مر عليها (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) أي أمات الله ذلك السائل - موتاً حقيقاً - واستمر ميتاً مائة سنة ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته (قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم) أي قال له ربه بواسطة الملك كم لبثت ميتاً في هذا الحال؟ قال يوماً ثم نظر حوله فرأى الشمس باقية لم تغب حوله، فقال : أو بعض يوم أي أقل من يوم، فخاطبه ربه بقوله : (بل لبثت مائة عام) أي لبثت ميتاً مائة سنة كاملة (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) أي إن شككت فانظر إلى طعامك لم يتغير بمرور الزمان (وانظر إلى حمارك) أي كيف تفرقت عظاماً وسارت هيكلاً من البلى (ولنجعلك آية للناس) أي فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه ولنجعلك معجزة ظاهرة على كمال قدرتنا وكلمة للناس تدل على جمعهم إلى يوم القيامة، فهي لمن في عصره ولمن بعده. (وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً) أي تأمل في عظام حمارك النخرة كيف نركب بعضها فوق بعض وأنت تنظر ثم نكسوها لحماً بقدرتنا (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيئ قدير) أي فلم رأى الآيات المبهرات قال : ايقنت وعلمت علم مشاهدة أن الله على كل شيئ قدير.
والمثال الآخر : ما حدث لفتية الكهف، فبعد أن ضرب الله عز وجل على آذانهم في الكهف سنين عددا بعثهم كما جاء ذلك في قوله تعالى :
(وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً( الكهف 19(1/4)
وجاء في آية آخرى مدة لبثهم الحقيقية في الكهف وهم نيام وذلك في قوله تعالى :
(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا( الكهف 25
ويستفاد من قصة أصحاب الكهف: اليقين بقدرة الله عز وجل على إحياء من تقطعت بهم سبل الحياة لمدة طويلة، وقدرته تبارك وتعالى على إبقاءهم أحياء بالرغم من عدم توفر الزاد (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)، ثم بعثهم وذكر الفترة الحقيقية التي قضوها في الكهف، وعدم شعورهم بطولها تنبيها لمن سيأتي بعدهم بما سيحدث لهم مصداقاً لقوله تعالى :
(وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً( الكهف 21
ويقول البيضاوي في تفسير الآيات سالفة الذكر :في قوله تعالى (وكذلك أعثرنا عليهم) أي وكما أنمناهم بعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم (ليعلموا) أي ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم (أن وعد الله) بالبعث أو الموعود (حق) لأن نومهم وإنتباههم كحال من يموت ثم يبعث (وأن الساعة لا ريب فيها) أي وأن القيامة لا شك في حدوثها.
وفي حياة الإنسان نرى هذا المثال يتكرر يومياً فمن المعروف أن النائم لا يحصي عدد ساعات نومه والإنسان بعد يقظته من نومه يسأل عن الوقت ولا يدري أقضى وقتاً طويلاً أو قصيراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد يقظته من نومه : "الحمد الله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد إلي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره" رواه البخاري
إن الإنسان في حالة اليقظة يعيش وروحه متعلقة ببدنه، وفي حالة النوم تغادر روحه بدنه وهذه حقيقة غيبية أخبرنا بها الله عز وجل في قوله :(1/5)
(الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون( الزمر 42
و هذا مثال يومي على البعث والنشور بعد الموت وعجباً لأمر بعض الناس الذين لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وهم يمرون بمرحلتي الحياة والموت يومياً.
ومن دلائل البعث وقربه في بني آدم أن الله عز وجل خلقهم في الدنيا أطواراً مصداقاً لقوله تعالى :
( وقد خلقكم أطواراً( نوح 14
أي خلقنا من بعد خلق في بطن الأم ثم في الرضاع ثم في سن الطفولة ثم التمييز ثم الشباب ثم النضج ثم الكهولة، فإذا إنقضى طور ظهر أخر وكأنه موت لمرحلة وولادة مرحلة أخرى ولا يشعر البشر بهذا التغيير أثناء حياتهم لسرعة إلتصاق المراحل ببعضها البعض وكذلك يكون الموت والبعث، وصدق الله عز وجل إذ يقول:
(وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون( النمل93
الفصل الثاني
قرب قيام الساعة وبغتتها في القرآن الكريم
لقد تعددت الآيات الدالة على قرب قيام الساعة في القرآن الكريم إلى الدرجة التي لا تكاد معها تخلو سورة من السور من ذكر الآخرة، وما فيها من النعيم والعذاب، وذلك ليذكر المولى عز وجل عباده بهذا اليوم،وألا ينجروا إلى خدعة الشيطان لغواية بني آدم والتي تبدأ بمحاولة التشكيك في خالق الكون سبحانه وتعالى، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته2".
…فإذا فشل في إقناع بني آدم بأن الكون لا خالق له لجأ إلى الإيهام بأن الله عز وجل خلق الكون ثم تركه يدير نفسه بنفسه وأنه جل شأنه ترك العباد يفعلون ما يريدون، وليس عليهم حساب ولا عقاب جاء ذلك في قوله تعالى:(1/6)
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيئ حفيظ ( سبأ 20-21
فإذا فشل الشيطان في إقناع الإنسان بعدم حدوث الآخرة، لجأ إلى التسويف والإيهام بعدم حدوثها في القريب العاجل، وأغراه بالدنيا، وطول البقاء فيها كما جاء ذلك في قوله تبارك وتعالى :
( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا( النساء 119
قال المفسرون أي لأصرفنهم عن طريق الهدى وأعدهم الأماني الكاذبة وألقي في قلوبهم طول الحياة3.
وصدق الشاعر في التحذير من الغفلة وإتباع أوهام الشيطان حين قال :
كلنا يأمل مداً في الأجل
لا تغرنك أباطيل المني
إنما الدنيا كظل زائل
والمنايا هن آفات الأمل
وإلزم القصد ودع عنك العلل
حل فيه راكب تم ارتحل
وفيما يلي سنورد من الآيات ما يؤكد قرب الآخرة إلى البشر المعنيون بالحذر منها والاستعداد لها :
قال تعالى : ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (يونس 45
وقال تعالى : (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يوميذ زرقا ( يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا( نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما( طه 102-104
وقال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين( قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين ( قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون( المؤمنون 112-114
قال الماوردي في تفسيره : إنه سؤال لهم عن مدة لبثهم في القبور، وهي حالة لا يعلمون بها، فأجابوا بقصرها لهجوم العذاب عليهم، وليس بكذب منهم لأنه إخبار عما كان عندهم.(1/7)
وقال القرطبي عن قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض) قيل يعني في القبور، وقرأ حمزة والكسائى أيضاً (قال إن لبثتم إلا قليلاً) أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً، وذلك أن مكثهم في القبور وأن طال كان متناهيا.
وقال تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون(الروم 55-56
وقد ورد في تفسير الجلالين في قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم) أي يحلف المجرمون أو الكافرون ما لبثوا في القبور غير ساعة، وقوله: (كذلك كانوا يؤفكون) أي يصرفون عن الحق، (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) من الملائكة وغيرهم (لقد لبثتم في كتاب الله) أي فيما كتبه الله في سابق علمه (إلى يوم البعث فهذا يوم البعث) الذي أنكرتموه (ولكنكم كنتم لا تعلمون) وقوعه.
وقال تعالى : (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون( الاحقاف 35
ذكر الماوردي في تفسيره أن السؤال عن مدة اللبث في القبور منذ وفاتهم إلى بعثهم، قال بذلك من المفسرين يحيى بن سلام والنقاش.
وقال تعالى : (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون( الجاثية 26
وبتدبر الآية السالفة نجد أن الله عز وجل لم يذكر الإحياء في المرة الثانية عند البعث بالرغم من ذكرها في آيات أخرى، وقال سبحانه وتعالى مباشرة (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) وفي هذا دلالة قاطعة على قربه - يوم القيامة - بعد الموت مباشرة، وصدق من قال : من مات قامت قيامته.(1/8)
…ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر قول بعض المفسرين بتفسير آيات السؤال عن اللبث بعد الموت : بأن المقصود بها السؤال عن فترة بقائهم في الدنيا، وبفرض صحة ما قالوه لكان الشعور باللبث في القبور أقل من يوم أو بعض يوم بدليل قوله تعالي : (ألهاكم التكاثر ( حتى زرتم المقابر( كلا سوف تعلمون ( ثم كلا سوف تعلمون ( كلا لو تعلمون علم اليقين( لترون الجحيم ( ثم لترونها عين اليقين ( ثم لتسئلن يوميذ عن النعيم( التكاثر 1-8
ومن يتدبر لفظة (زرتم) ولم تأت بمعني دخلتهم أو دفنتم في المقابر يجد الدلالة القاطعة على الشعور بقصر الزمن بعد الوفاة لأن الزيارة حتماً تكون أقل في الفترة الزمنية مما قبلها ومما بعدها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: (حتى زرتم المقابر) تدل على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره فهي تنبيه على البعث بعد الموت4.
وأورد الحافظ ابن كثير في تفسيره: أنه عندما سمع أعرابي الآية الكريمة أدرك معناها بفطرته السليمة فقال : بُعث الناس ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم.
وترجيح القول بأن السؤال عن اللبث بعد الموت مباشرة مقصود به فترة اللبث في القبور هو الأولى وذلك لما يلي :
الأول : أن السؤال : (كم لبثتم) جاء عن الفترة السابقة اللاحقة للسؤال كما جاء في قصة العزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وكما جاء في قصة أصحاب الكهف، فلم يكن المقصود من السؤال عن الفترة التي لبثوها قبل موته أو نومهم وتفسير القرآن بالقرآن هو أول مراتب التفسير كما هو معلوم عند أهل العلم.
الثاني : أن الكفار اعترفوا بالآجال التي عاشوها في دنياهم حسب أعمارهم التي قدرها الله لهم كما جاء في قوله تعالى :
(ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ( الأنعام 128.(1/9)
لذا فإن السؤال عن مدة لبثهم وردهم بأنها يوم أو بعض يوم أو ساعة فهو عن شعورهم بمدة لبثهم في القبور بعد الموت إلى قيام الساعة خاصة وأن السؤال عام وأن أعمار الناس في الدنيا تتفاوت فلكل أمة أجلها فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
الثالث : قد يقول قائل مادام السؤال عن فترة اللبث في القبور فلماذا لم يأت بمعنى: كم لبثتم في القبور عدد سنين؟ والجواب بان قوله تعالى : (كم لبثتم في الأرض عدد سنين) لأن كلمة الأرض أدق وأشمل من القبور حيث أن أجساد العباد تتحلل بعد الموت وتصبح جزءاً من الأرض مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى :
(وقالوا أءذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون(.
السجدة 10-11
قال المفسرون : أي إذا بلينا وتمزقنا وصارت عظامنا ولحومنا ترابا مختلطا بتراب الأرض حتى غابت فيه ولم تتميز عنه، لذا كان السؤال مناسب لغالبية الحالة التي كان عليها الناس بعد موتهم إلى يوم البعث.
الرابع : هناك حقيقة لا ينكرها أحد وهي أن الخلق كانوا أمواتاً قبل أن يولدوا ثم أحياهم الله عز وجل ثم يميتهم ثم يحييهم مرة أخرى كما جاء ذلك في قوله تعالى :
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون(البقرة 28.
واعترف المخلوقين بذلك بقولهم :
(قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل( غافر 11
وكما قال الشاعر :
قد كنت ميتا فصرت حيا
فابن بدار البقاء بيتا
وعن قريب تعود ميتا
ودع بدار الفناء بيتا
فهل شعر بني آدم على مدار آلاف أو ملايين السنين التي مرت بهم قبل أن يولدوا؟
الخامس : أن الله سبحانه وتعالى سيخبر كل من يبعثه يوم القيامة بما عمل خلال حياته الدنيوية بكل دقائقها وتفاصيلها مصداقاً لقوله تبارك وتعالى:(1/10)
(يوم يبعثهم الله جميعاً فينبتئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيئ شهيد(. المجادلة 6
قال المفسرون أي فيخبرهم بما عملوا في الدنيا من خير أو شر (أحصاه الله ونسوه) أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الأعمال لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء (والله على كل شئ شهيد) أي وهو جل وعلا مطلع وناظر لا يغيب عنه ولا يخفي عليه شئ ومن هذا نستنتج بأنه ليس من المناسب أن يُسأل الناس بعد بعثهم عن مدة لبثهم في الدنيا وهي مسجلة في صحائف أعمالهم بكل دقائقها ولحظاتها.
الفصل الثالث
قرب قيام الساعة في السنة النبوية
كما أراد الحق تبارك وتعالى إظهار حقيقة قرب قيام الساعة في آيات متعددة من كتاب الله، فقد شاءت إرادته أن يكون هذا الأمر مؤكداً وموثقاً في السنة النبوية المطهرة وفي أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الوحي المنزل من السماء يخرج من مشكاة واحدة تنير للعالمين طريقهم إلى رضوان الله عز وجل.
وفيما يلي بعضاً من أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه التي تدل دلالة قاطعة على قرب قيام الساعة، ليكون الاستعداد لها على قدر قربها وفجأتها.
عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك واحسب نفسك مع الموتى واتق دعوة المظلوم فإنها مستجابة"5.
وعن ابن أبي الدنيا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً ولا يزدادون من الله إلا بعداً" 6.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك"7.(1/11)
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، من كان منكم مستحياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه وليحفظ البطن وما وعى والرأس وما حوى وليذكر الموت والبلى وليترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء"8.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى وإياك ودعوات المظلوم فإنهن مجابات وعليك بصلاة الغداة - الفجر - وصلاة العشاء واشهدهما فلو تعلمون ما فيهما لاتيتموهما ولو حبواً"9.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعبد الله ولا تشرك به شيئا واعمل لله كأنك تراه وأعد نفسك في الموتى واذكر الله تعالى عند كل حجر وكل شجر وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة السر بالسر والعلانية بالعلانية"10.
وفصل الخطاب في ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ فينظر عليه الصلاة والسلام إلى أحدث - أصغر - إنسان منهم فيقول : أن يعش هذا، إن يدركه الهرم حتى قامت عليكم الساعة"11 قال يعني موتهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أفراد شنوأة، فقال : إن عمّر هذا الغلام لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس وذلك الغلام من أترابي يومئذ أي في مثل عمره وهو صغير12.(1/12)
وفي معرض التعليق على هذين الحديثين قال د. عمر الأشقر أن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم : ساعة المخاطبين، كما فسر ذلك هشام أحد رواة الحديث الأول : يعني موتهم فإن ساعة كل إنسان موته، وهذا الجواب من الرسول صلي الله عليه وسلم يعرَف بجواب الحكيم، فإنه أرشدهم إلى الاستعداد للموت والتأهب له فإن الساعة قريبة13.
الفصل الرابع
قرب قيام الساعة عند الصحابة رضي الله عنهم
لا شك أن خير القرون هو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله عز وجل من خير خلقه الذين تحملوا عبأ قيام دولة الإسلام في خضم الجاهلية التي لم تعرف البشرية لها مثيل، ومن أهم أسباب نجاحهم أنهم قوم أحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم وأيدهم بنصره في الدنيا والآخرة وصدق قول الحق تبارك وتعالى فيهم : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم(. سورة التوبة 100
وفما يلي ما يثبت شعور وإحساس الصحابة الكرام بقرب قيام الساعة وما دل على ذلك من خلال أقوالهم وأفعالهم :
الأول : اعتبارهم أن الآخرة هي الغد القريب.
روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال "إرتحلت الدنيا مدبرة وإرتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"14.(1/13)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما حضره الموت قال : "انظروا أصبحنا؟ فقيل لم تصبح فقال : انظروا أصبحنا؟ - مرة أخرى - فقيل له : لم تصبح، حتى أتى في بعض ذلك فقيل : قد أصبحت، قال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت، مرحباً زائر مغب - أي غائب - حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم أنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر - أي حر منتصف النهار - ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر"15.
ورواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإن هن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"16.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً17.
الثاني : حرصهم على الشهادة في سبيل الله :
…لقد أيقن الصحابة بقرب دخولهم الجنة بعد استشهادهم في سبيل الله مصداقاً لقول الله عز وجل :
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين( آل عمران 169-171(1/14)
ومصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة يضحك إليهم ربك فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه"18.
وتأكيداً لما سبق نضرب بعض الأمثلة التي تبين حرص الصحابة على الشهادة طمعاً في ثواب الله ودخول الجنة، فعن أنس رضي الله عنه قال : إنطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقدمن أحد منكم إلى شيئ حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال : يقول عمير بن الحمام رضي الله عنه : يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض قال نعم قال بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال : فإنك من أهلها، قال فأخرج تمرات من قوته فجعل يأكل منهن، ثم قال لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، قال فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم فقتل"19.
وعن سليمان بن بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعاً الخروج معاً فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يخرج أحدهما فاستهما فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضى الله عنهما إنه لابد لأحدنا من أن يقيم فأقم مع نسائك فقال سعد : لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقتله عمرو بن عبد ود20.(1/15)
وحتى صغار الصحابة آمنوا بقرب الآخرة وتنافسوا على الاستشهاد في سبيل الله ومن أدلة ذلك ما رواه ابن سعد عن سعد رضي الله عنه قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت : ما لك يا أخي؟ قال إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال فعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده فبكى، فأجازه وكان سعد رضي الله عنه يقول : فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقه آتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ألا تخبرني عن حارثة، وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غرب - خطأ-، فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك إجتهدت عليه في البكاء قال : إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"21.
الفصل الخامس
الخلائق التي تشعر بقرب الآخرة
أولاً : المؤمنون الصادقون الموقنون بالبعث بعد الموت:
وفي مقدمتهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء الذين أحسوا بقرب الآخرة مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : (إنهم يرونه بعيداً (ونراه قريباً(
المعارج 6-7
وهذا الإحساس انتج لديهم الإشفاق والخوف من يوم الحساب مصداقاً لقول الله عز
وجل: ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين( الأنبياء 90.
والشعور بقرب الآخرة والخشية منها هو الفرق بين المؤمنين الصادقين وبين الكافرين والمنافقين الذين استبعدوا وقوعها واستعجلوها استهانة بها واستخفافاً من شأنها، مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى :
(الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد( الشورى 17-18(1/16)
ثانياً : السماء والأرض والملائكة والرياح والجبال والبحار :
عن أبي لبابة بن المنذر قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر في خمس خلال : خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه إياه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة"22.
ثالثاً : الدواب
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة ما على وجه الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة- مترقبة ومنتظرة - حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه"23.
فهل ير…ضى مسلم على وجه الأرض أن يكون في شعوره بقرب الآخرة وقيام الساعة أقل من الجماد والدواب؟ ورحم الله من قال.
تنبهوا يا رقود
فهذه الدار تبلى
الخير فيها قليل
والعمر ينقص فيها
فاستكثر الزاد فيها
إلى متى ذا الجمود
وما عليها يبيد
والشر فيها عتيد
وسيئات تزيد
فإن السفر بعيد
الفصل السادس
قرب قيام الساعة مكرمة للمؤمن ومذلة للكافر(1/17)
إن قرب قيام الساعة وبغتتها عقاب لكل منكر لها مستبعد لوقوعها، وهي في الوقت ذاته مكرمة لكل من آمن وأيقن بها واستعد للقاء الله، فأحب الله لقاءه وبناء على ذلك، فإن ردة فعل الطرفين تظهر بعد الموت وأثناءه مباشرة كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود عن أنس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، حتى أنه يسمع قرع نعالهم - أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل - لمحمد - فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً ويفسَح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون -وفي زيادة للحديث المروي عن البراء بن عازب- : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه يجيئ بالخير، فيقول : أنا عملك الصالح، فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، وأما الكافر أو المنافق فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له : لا دريت ولا تليت ثم يُضرب بمطراق من حديد ضرباً بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه -وفي زيادة للحديث المروي عن البراء بن عازب- : ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول : من أنت فوجهك الوجه يجيئ بالشر؟ فيقول : أنا عملك الخبيث، فيقول : رب لا تقم الساعة".(1/18)
لذا، فإن قرب قيام الساعة يعد مكرمة للمؤمن، وتحقيقاً لما رآه من منزلته في الجنة وما رآه من النعيم كما أنه مذلة للكافر والمنافق، لما رآه من منزلته في النار والعذاب الشديد، لأن الآتي أشر وأفظع، ومن هنا تأتي الحكمة من شعورهم بقيام الساعة على نحو لم يكونوا يتصوروا قربه إلى الدرجة التي لا يشعروا معها بأنه قد مر يوماً أو بعض يوم أو ساعة منذ لحظة وفاتهم إلى بعثهم
مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ( فيوميذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون( الروم 55-57
الفصل السابع
ثمرات الشعور بقرب الآخرة
الأول : إصلاح حال البشر في الدنيا :
قال تعالى : (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون( سورة النحل 97.
إن إصلاح الأخلاق، وإيقاظ الضمائر التي تشعر بمراقبة الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وماينتج عنه من تطبيق لشرع الله عز وجل في الارض هو أساس الإصلاح الذي تبحث عنه البشرية وخير مثال على ذلك سرعة استجابة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر تحريم الخمور عندما نزل في القرآن الكريم، فقد سارع الصحابة رضوان الله عليه بإراقة ما لديهم حتى امتلأت طرق المدينة بالخمور المسكوبة، وذلك قبل أن يعرفوا عقوبتها الدنيوية، ونفذوا ذلك بمجرد سماعهم بتحريمها.
ولقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه إصلاح الدنيا بإصلاح الآخرة، فقد روي عنه أنه قال "اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي ديناي التي فيها معاشي، وأصلح لي أخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر"24.(1/19)
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوماً الناس فقال وقد خنقته العبرة : أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح الله لكم علانيتكم، والله إن عبد ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمغرق له في الموت25.
وقال الأستاذ جمال سعد حاتم : "ونحن بحاجة إلى ذكر الجنة والنار ليلنا ونهارنا لتستقيم أحوالنا وتصلح أعمالنا، ولاسيما في هذا العصر الذي طغت فيه المادة وتظاهرت الفتن وانتشرت، وقل الناصح، وضعف الإيمان، وتزينت الدنيا بزخرفها وزهرتها، وأثقلت الكواهل بكثرة مطالبها، وأرهقت النفوس بتشعب حاجاتها، حتى صار التحاب من أجلها والتباغض من أجلها، والتواصل لها، والتقاطع منها إلا من شاء الله تعالى، فكانت أكبر ما يبعد عن الآخرة26، قال تعالى:
(إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون( أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (يونس 7-8
وصدق من قال : إعمل لآخرتك ولا تنس دنياك تربحهما معاً، مصداقاً لما نُصح به قارون : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)ً.
الثاني : الاستعداد للقاء الله عز وجل :(1/20)
إن من أهم ثمرات الشعور بقرب الآخرة هو الاستعداد المستمر والدائم للقاء الله عز وجل، إذ أن قرب الحدث وفجأته تجعل المسلم في حالة تأهب للموت، فيحرص كل الحرص على أن يكون في الأماكن التي يحب الله تعالى أن يراه فيها كالمساجد ومجالس العلم النافع، كما يحرص على عدم التواجد في الأماكن التي لا يحب الله عز وجل أن يراه فيها كأماكن اللهو المحرم والأماكن التي يُستهزأ فيها بآيات الله، وتنتهك فيها حرماته أو الأماكن التي يجهر فيها بمعصية الله، كما يحرص المسلم أن يكون نطقه ذكراً لله تعالى وصمته فكراً وتدبراً في قدرة الله و نعم الله، حتى إذا قبضه الله عز وجل كان في موضع طاعة تشفع له يوم العرض الأكبر مصداقاً لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يبعث كل عبد على مامات عليه"27. ومصداقاً لما روي عنه أيضاً "يُبعث الناس على نياتهم"28.
وليس الاستعداد للآخرة والعمل لها مدعاة لترك السعي في الدنيا، فإن العبد ينال أكبر الأجور وأفضلها عند الله عز وجل إذا كان عمله في الدنيا مقوياله ومعيناً على أداء ما افترضه الله عليه، وطاعته.
الثالث : النجاة من مرض الغفلة وطول الأمل :
إن مرض الغفلة وطول الأمل هو المرض العضال الذي اتخذه إبليس في إغواء بني آدم ولا ننسي عندما أغري أبينا آدم بمعصية الله وأوهمه بأنها ستكون سبباً في خلوده في الدنيا فقال :
(فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لايبلي(
طه 120.
إن نسيان قرب البعث والحساب يسبب خسارة الإنسان المسلم لدنياه وآخرته مصداقاً لقول الله تعالى :
(يأيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد وا تقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون( الحشر 18-19(1/21)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبيه الذي في الوسط فقال : "هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار : الأعراض، فإن اخطأه هذا نهشه هذا، وإن اخطأه هذا نهشه هذا"29.
وهذا صورته التقريبية
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غالب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر"30.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك أخرها بالبخل والأمل"31.
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يهرم ابن آدم ويبقي معه اثنتان : الحرص والأمل"32.
وما أصدق الشاعر حين قال :
اذكر الموت ولا أرهبه
أطلب الدنيا كأني خالد
إن قلبي غليظ كالحجر
وورائي الموت يقفو بالأثر
الرابع : تزكية النفوس وتهذيبها وتقليل التنافس على الدنيا :
إن دوام الشعور بقرب الآخرة والإنتقال إليها له أكبر الأثر في إصلاح النفوس وتهذيبها، ذلك لأن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة، وقد تهفوا إلى الذنوب والمعاصي، وقد تقصر في الطاعة، فإذا كانت الآخرة دائماً على بال العباد، فإن الدنيا تصغر في أعينهم، وتجعلهم دائموا السعي في إصلاح نفوسهم، وتقويم المعوج من أمورهم مصداقاً لما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم : "أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت، فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها"33.(1/22)
وروي عن بعض السلف قوله : إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد على قلبي، وقال آخرون من أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاث : تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاث : تسويف التوبة وترك الرضى بالكفاف والتكاسل في العبادة وقال القرطبي : أعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج من هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية وقال أبو الدرداء : من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده.
وعندما تزكو النفوس سيكون المجتمع أقرب ما يكون إلى مجتمع المدينة الفاضلة التي تتآلف قلوب ساكنيها على محبة الله، وتزول تنافساتهم على أعراض الدنيا الزائله، ويسيرون ركباً واحداً في طريق مرضاة الله تبارك وتعالى وكانوا أهلا لشهادة رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم بالكرم والكياسة الذين ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة.
الفصل الثامن
كيفية الاستعداد ليوم القيامة ولقاء الله عز وجل
أن قرب الآخرة والحديث عنها يقودنا بالضرورة إلى البحث عن طرق النجاة من أهوالها، ولضمان حسن الخاتمة التي ورد فيها قول الله عز وجل :
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الأخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ( نزلا من غفور رحيم(. فصلت 30-32.
ونورد بعض الأعمال التي تؤدى إلى حسن الخاتمة حسبما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية وما ثبت من أقوال وأفعال السلف الصالح.
الأول :(1/23)
التزام طاعة الله تعالى وتقواه ورأس ذلك وأساسه تحقيق التوحيد وإجتناب الشرك بأنواعه كشرك الدعاء وشرك المحبة وشرك الطاعة، وطاعة الله سبحانه وتعالى تشمل جميع الأعمال التي فرضها الله ورسوله على عباده والاحتكام إلى شريعة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخلاص العبادة وتنقيتها من الرياء والسمعة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في تأديتها، فإذا تحقق للعبد ما تقدم وقبل الله عمله فإنه سيكون ممن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم : "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"34.
الثاني :
الالتزام والإكثار من ذكر الله عز وجل (التهليل - لا إله إلا الله - والتسبيح - سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم - والتحميد والتكبير والحوقلة - لا حول ولا قوة إلا بالله - والصلاة والسلام على رسول الله) والإلحاح في الدعاء بأن يرزق الداعي حسن الخاتمة وسؤال الجنة والاستعاذة به من النار كما ورد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة : اللهم أدخله الجنة، ومن إستجار من النار ثلاث مرات قالت النار : اللهم أجره من النار"35. كما يروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق وأن البعث حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء"36. كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من كان أخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"37.
الثالث :(1/24)
المحافظة على الصلاة، وهي أول مايسأل ويحاسب به العبد يوم القيامة فإن صلحت صلح له سائر عمله،وإن فسدت، فسد سائر عمله ،وهي من أهم أسباب حسن الخاتمة، كما ورد في أحاديث عدة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله : "من صلى البردين - صلاة الفجر والعصر - دخل الجنة"38، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة"39
الرابع :
المحافظة على الصيام من أسباب حسن الخاتمة كما ورد في أحاديث عدة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"40، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم "من صام يوماً إبتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة"41.
الخامس :
جهاد النفس وجهاد الكفار والمنافقين والدعوة في سبيل الله وإن أدي ذلك إلى التضحية بالمال والنفس وتمني الاستشهاد في سبيله لمن لم تتح له فرصة جهاد أعداء الله ليكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"42.
السادس :
لزوم الاستغفار والتوبة مصداقاً لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالله إني لأتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة"43. ومن أسباب حسن الخاتمة دعاء سيد الاستغفار الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من قال حين يصبح أو حين يمسي : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة"44.
السابع :(1/25)
المداومة على الصدقات، والنشأة في عبادة الله والتعلق بمساجد الله والتعفف عن محارم الله وخشية الله والعدل بين الرعية من أسباب حسن الخاتمة والنجاة من شدة الموقف يوم القيامة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته إمراة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"45.
الفصل التاسع
مشاهد من يوم القيامة46
يبدأ يوم القيامة بنفخة الصور التي يصعق بسببها من في السموات والأرض وهي نفخة هائلة مدمرة يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيئ ولا يقدر على العودة إلى أهله مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالي :
(ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون( يس 49-50
وينجوا من هذه الصيحة من شاء الله أن ينجيهم منها، ثم يُبعث العباد ولكنهم يخلقون خلقاً مختلفاً عما كانوا عليه في الدنيا، ثم يحشر الخلائق جميعهم إلى الموقف العظيم بما في ذلك الدواب والبهائم كما دل على ذلك قوله تعالى:
(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيئ ثم إلى ربهم يحشرون( الأنعام 38
ويحشر الناس حفاة عراة غرلا - أي غير مختونين - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي القاعدة إلا ما استثني في بعض الأحاديث الأخرى كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها"47. ثم يكسي العباد كلا على حسب عمله فالصالحون يكسون الثياب الكريمة والطالحون يسربلون بسرابيل القطران ونحوها من الملابس المنكرة الفظيعة.(1/26)
وأرض المحشر كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيضاء عفراء ليس فيها معلم لأحد، وفي هذا اليوم يصاب العباد فيه بالرعب والفزع إلا من شاء الله وحالهم كحال السكارى كما قال ربنا عز وجل:
( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد( الحج 2
في هذا اليوم تدك الأرض، وتنسف الجبال، وتفجر البحار، وتنفطر السماء وتكور الشمس، ويخسف القمر، وتتناثر النجوم ،وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق والناس بين مستظل بظل العرش، وبين مكتو بحر الشمس قد صهرته بحرها واشتد كربه وقلقه من وهجها، واشتد الزحام، وانقطعت الأعناق من العطش وفاض العرق حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة أو الشقاء، فبعضهم بلغ العرق كعبيه، وبعضهم بلغ حقويه، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، ومن شدة كرب يوم القيامة يدعوا الكفار ربهم أن يريحهم ولو إلى النار.
ثم يفزع الناس إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم وموسى وعيسى، وكلهم يقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، ثم يقول نفسي نفسي، فيشغل بنفسه عن الشفاعة لهم حتى إذا أيس الخلائق أتوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم، فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه فأذن له ثم خر لربه ساجداً ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، حتى يجيبه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم.
وعند العرض والحساب يبلغ الأمر أشده عندما يخاصم أعداء الله أعضاءهم
مصداقاً لقوله تعالى :
(ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون( حتى إذا ما جاء وها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون( فصلت 19-20
وأما عن حال بعض العصاة في ذلك اليوم الرهيب فهو كما يلي :(1/27)
بعضهم كان من الذين كانوا لا يؤدوا زكاة أموالهم فإنهم يعذبون بهذه الأموال في الموقف العظيم مصداقاً لقول الله عز وجل :
(يأيها الذين آمنو إن كثيراُ من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون(
التوبة 34-35.
والمتكبرون يحشرون في صورة مهينة ذليلة في أحجام كصغار النمل لا يعبأ به الناس فيطؤونهم بأرجلهم وهم لا يشعرون، مصداقاً لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان"48.(1/28)
وهناك من أصحاب الذنوب التي بسببها يغضب الله عز وجل عليهم يوم القيامة فلا يكلمهم ولا يزكيهم مثل الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، والذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه ويشترون بأيمانهم ثمناً قليلا، والمسبل إزاره تخيلاً، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب والمنان، ومانع فضل الماء عن ابن السبيل، ومن بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له، ومن حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال أمرئ مسلم، والشيخ الزاني والملك الكذاب، والعائل - الفقير - المستكبر، والعاق لوالديه، والمرآة المترجلة - أي المتشبهة بالرجال - والديوث، ومن أتى امرأته في دبرها، والأثرياء الذين كانوا يركنون إلى الدنيا ويطمئنون إليها ويغرقون في التمتع بها، يضيق عليهم يوم القيامة مصداقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الذي يكثر شبعه في الدنيا يطول جوعه يوم القيامة، كما أخبر أن أصحاب المال الكثير والمتاع الدنيوى الواسع يكون أقل الناس أجراً يوم القيامة ما لم يكونوا قد بذلوا أموالهم في سبيل الله، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يده وورائه وعمل فيه خيرا"49.
كما يفضح الله الغادر برفع لواء - راية عظيمة - تسجل عليه غدرته عند مؤخرته وكذلك كل من يغل أي يأخذ من الغنيمة أو من المال العام سواء كان من الحكام أو الموظفين أو الولاة يأت يوم القيامة حاملاً ما غله - سرقه واختلسه - على ظهره وعلى رقبته معذباً بحمله وثقله، وكذلك غاصب الأرض يخسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
وممن يحتجب الله عنه يوم القيامة الحاكم الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : الحاكم الذي يحتجب عن رعيته احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة دون حاجته وفاقته وفقره.(1/29)
والذي يسأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه، والذي يبصق تجاه القبلة يأتي يوم القيامة وبصقته أو نخامته في وجهه، وكذلك ومن كذب في حلم يعاقب يوم القيامة بأن يكلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك - الرصاص - يوم القيامة.
وأما عن حال المؤمنين الطائعين لله ورسوله وهم صفوة الله من خلقه فأول ما يلقونه من تكريم أنهم لا يفزعون من يوم القيامة كبقية الناس، ويظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومن اصنافهم الأمام العادل والشاب الذي نشأ في عبادة الله، والمعلقة قلوبهم بالمساجد، والمتحابون في الله، والمتعففون عن فتنة النساء، والمنفقون المخلصون في إنفاقهم، والبكاءون من خشية الله وعند ذكره ومن انظروا المعسرين أو وضعوا عنهم ديونهم، والذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم، والذين يعدلون في حكمهم، أهليهم وما ولوا والشهداء والمرابطون في سبيل الله، والكاظمون الغيظ، ومن أعتق رقاب المسلمين، والمؤذنون، والذين يشيبون في الإسلام، والمواظبون على الوضوء حيث تبلغ حليتهم حيث يبلغ وضوئهم.
الحساب والجزاء
يجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسألون عن الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها وهي إبلاغ وحي الله إلى من أرسلوا إليهم، ويشهدون على أقوامهم ما علموا منهم، ويشهد الملائكة الذين كانوا يسجلون على البشر أعمالهم كما يشهد العلماء كما تشهد الأرض ،والسماء، والليالي، والأيام، وأعضاء العباد بما فعلوه في حياتهم الدنيوية.(1/30)
ثم يؤتى بالعباد الذين عقد الحق تبارك وتعالى محكمته العظيمة لمحاسبتهم ويقادون للعرض على ربهم ويحاسب الكفار ويسألون وتوزن أعمالهم لإقامة الحجة عليهم وإظهار عدل الله فيهم، ويطلعهم على سجلاتهم التي دونت فيها أعمالهم لإظهار شقائهم وفضحهم على رؤوس الخلائق، وتتفاوت درجات أعمالهم لتحديد منازلهم في النار كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيميه، والبعض الأخر يري أن هناك من الكفار من يوافى حسناته في الدنيا فيأتي يوم القيامة وليس له حسنة.
إتيان العباد كتبهم
يعطي كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الدنيا، وتختلف طريقة إتيان العباد كتبهم بحسب أعمالهم، وما قضاه الله من مصائرهم، فأما المؤمنون فإنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم من أمامهم، وأما الكفار وأهل الضلال والمنافقون فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم ومن وراء ظهورهم.
القصاص بين العباد يوم القيامة :
يكون القصاص بين العباد يوم القيامة حسب المظالم التي وقعت بينهم، فالمظلوم يأخذ من حسنات ظالمه بقدر ما ظلمه، فإن لم يكن له حسنات، فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح على الظالم فيدخل بها النار، وكذلك يكون رد الحقوق المادية من أموال وخلافه يكون تقاضيها من الحسنات والسيئات، وأول ما يقضي فيه بين العباد هو الدماء أي القاتل والمقتول وفق ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : "يجيئ المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش"50.
الميزان :
يقول القرطبي : وإذا انقضي الحساب كان بعده وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقدير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، والميزان هو ميزان هائل لو وزنت فيه السموات والأرض لوسعتهم جميعاً والذي يوزن فيه : الأفعال والأقوال والأخلاق والإيمان واليقين والتصديق والعباد أنفسهم.(1/31)
الحوض - حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وهو حوض هائل مساحته كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من يشرب منه فلا يظمأ أبداً"51، ويُبعد عن الحوض ويمنع منه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله عز وجل، وما لم يأذن به الله. وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالفرق الضالة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستتفرق عليها.
حشر الكفار إلى النار
يحشر الكفار إلى النار كقطعان الماشية على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مع آلهتهم وأعوانهم واتباعهم مغلوبون مقهورون تصك أصوات جهنم مسامعهم وتمتلأ قلوبهم رعباً وهلعاً، وإذا وصلوا إليها وعاينوا أهوالها ندموا وتمنوا العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا كما قال الله عز وجل :
(ولو تري إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين( الأنعام 27
ولكنهم لا يجدون عنها مفراً، وحينئذ يؤمرون بالدخول فيها أذلاء خاسرين ويبدأ بالدخول فيها من كانوا أشد عتواً وتكبراً ليكونوا طليعة المقذوفين،وسيقول الشيطان لأتباعه ماورد في كتاب الله عز وجل:(وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ماأنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ) إبراهيم 22 ،فكانت كلماته طعنة أليمة نافذة إلى صدور أتباعه،حيث لايملكون أن يردوها عليه،وقد قضي أمرهم ،وسحبوا إلى النار.
حشر المؤمنين إلى الجنة :(1/32)
عندما يذهب أعداء الله والمشركين إلى جهنم أعاذنا الله تعالى منها يبقى في أرض الموقف أتباع الرسل، وفيهم أهل النفاق، وأهل الذنوب والمعاصي، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين يكون الناس يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فقال "هم في الظلمة دون الجسر"، وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلصون منهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، ويُعطى المؤمنون نورهم كل بحسب عمله فمنهم من يعطي نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، ويقال لهم إمضوا على قدر نوركم فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر تخر يد، وتعلق يد، وتصيب جوانبه النار، فيتخلصون، فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أريناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد، وكما أطال الله عز وجل يوم القيامة وشدد من أهواله على المعاندين لدينه والمتكبرين على عباده، والمشركين به، فقد يسره على المؤمنين وحشرهم إليه ركباناً معززين مكرمين كما يفد الوفود على الملوك مترقبين لكرامتهم وإنعامهم كما جاء في قول الله عز وجل،
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ً(
مريم 85
كما أظلهم بظله، وكافأهم بشربة من حوض نبيه صلى الله عليه وسلم، لن يظمأوا بعدها أبداً، ونجاهم من الشعور بطول الوقوف، وجعل هذا اليوم كالوقت الذي يمضي ما بين صلاتي الظهر والعصر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر"52.
الفصل العاشر
لمثل هذا فليعمل العاملون(1/33)
إن عقد مقارنة بين حياة مصيرها الزوال وبين حياة أخرى دائمة لا تنتهي هي مقارنة لا تستقم، لأن المقارنات غالباً ما تكون بين شيئين قائمين بذاتهما، فإن الدنيا في الآخرة لن تكون أكثر من أثر بعد عين وصور لا حياة فيها، ولأن المنقضي كالمعدوم فإن نسبة الدنيا إلى الآخرة كلا شئ إلى ما لا نهاية مصداقاً لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا"53، وكما قال أيضاً : "ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط وغُمس في البحر من مائه"54.
لذا فإن تفضيل الدنيا وإهمال العمل للآخرة هو الدليل العملي على عدم الإيمان أو الشك في يوم القيامة، وهو دأب الكفار والمنافقين الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه العزيز فقال عنهم :
(ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون( النحل 107-108.
وعلى العكس من ذلك، فإن المؤمنين الصادقين استشعروا الفرق بين نعيمي الدنيا والآخرة وعلموا أن نعيم الدنيا مهما كبر وعظم، فإنه سينسي تماماً يوم القيامة وفقاً لما رويُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة - غمسة - ثم يقال له : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يارب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟، فيقول : لا والله يارب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط"55.
وصدق الشاعر إذ يقول :
هب الدنيا تساق إليك عفواً
وما الدنيا إلا كظل أتاك حيناً
أليس مصير ذاك إلى انتقال
ثم سار إلى زوال
وأما نعيم الآخرة فهو دائم متجدد مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى :(1/34)
(قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءاً ومصيراً( لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعداً مسئولا(. الفرقان 15-16
فسعة ملك أهل الجنة عظيم جداً ويكفي لتقريب ذلك إلى الأذهان، فإن أدنى أهل الجنة منزلة يعطى فيها أكثر من عشر أضعاف الدنيا وما فيها منذ خلق الله عز وجل آدم إلى قيام الساعة.
ويتمتع أهل الجنة بالصحة والقوة والشباب الدائم ولا يتعرضوا للمرض أو الوهن الناتج عن كبر السن كما في الدنيا، ورزقهم فيها بكرة وعشياً خالصاً من الشوائب، وأجسامهم لا يخرج منها إلا رشح كرشح المسك مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينادي مناد لأهل الجنة أن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً"56.
ويطهر الله تعالى نفوس أهل الجنة من الغل والحسد الذي سبق أن عاصروه في حياتهم الدنيا، وحل مكان ذلك الفرحة والغبطة والسرور، بما أسبغ الله عليهم من نعيم مصداقاً لقوله تعالى :
(ونزعنا ما في صدروهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون(. الأعراف 43
ومصداقاً لقوله تعالى :
(وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب( فاطر 34-35
وجو الجنة يتميز بالصفاء الذي ليس فيه شمس حارقة، ولا رياح عاتية، فهي نور يتلألأ وريحانة تهتز ونهر مطرد، مصداقاً لقوله تعالى :
(وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ( متكئين فيها على الأرايك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً(الإنسان 12-13(1/35)
وإن الله تبارك وتعالى يحقق لأهل الجنة كل ما تشتهيه أنفسهم بمجرد إرادتهم فيما يشتهونه، وبذلك فإنهم لن يندموا على شيئ مادي فاتهم في حياتهم الدنيوية، فإن الله عز وجل تكفل بتحقيق أفضل مما كانوا يتمنونه في الدنيا بأضعاف كثيرة مصداقاً لقوله تعالى :
(لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون(الأنبياء 102-103.
ومصداقا لمارواه الإمام أحمد عن العرباض رضي الله عنه قال،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ماأدخر لكم،ماحزنتم على مازوي عنكم"
والأهم مما سبق وفوق كل ما تقدم، فإن الله تبارك وتعالى يكافئ أهل الجنة أكبر مكافأة فيحل عليهم رضوانه، ويتفضل عليهم بتحيته ورحمته، ويتوج ذلك بتجليه عليهم بين حين وآخر، فينظرون إليه ويكون ذلك أكبر وأعظم نعمة يُعطونها، ويخلدون في هذا إلى أبد الآبدين، فهل من مشمر لطاعة الله لنيل هذا الفضل العظيم الذي هو أقرب إلينا من شراك نعالنا وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع :
صحيح البخاري
للإمام البخاري
صحيح مسلم
للإمام مسلم
صحيح الجامع الصغير
للشيخ محمد ناصر الألباني
تفسير القرآن العظيم
للحافظ ابن كثير
فتح القدير الجامع (مختصر نفسير الشوكاني)
للشيخ محمد سليمان الأشقر
تفسير القرطبي
للإمام القرطبي
تفسير البيضاوي
للإمام البيضاوي
تفسير الماوردي
للإمام الماوردي
تفسير الجلالين
للإمام السيوطي
الفتاوى الكبرى
للشيخ الإسلام ابن تيمية
القيامة الكبرى
للدكتور عمر سليمان الأشقر
البداية والنهاية
للحافظ ابن كثير
مختصر حياة الصحابة
محمد طعمة حلبي
صفوة التفاسير
للشيخ محمد على الصابوني
التذكرة
للإمام القرطبي
رياض الصالحين
للإمام النووي
الفهرس
الفصل الأول
الأمثلة التي ضربها الله تعالى لإثبات البعث وقرب الآخرة
1
الفصل الثاني
قرب قيام الساعة وبغتتها في القرآن الكريم
4
الفصل الثالث(1/36)
قرب قيام الساعة في السنة النبوية
9
الفصل الرابع
قرب قيام الساعة عند الصحابة رضي الله عنهم
11
الفصل الخامس
الخلائق التي تشعر بقرب الآخرة
14
الفصل السادس
قرب قيام الساعة مكرمة للمؤمن ومذلة للكافر
16
الفصل السابع
ثمرات الشعور بقرب الآخرة
17
الفصل الثامن
كيفية الاستعداد ليوم القيامة ولقاء الله عز وجل
21
الفصل التاسع
مشاهد من يوم القيامة
24
الفصل العاشر
لمثل هذا فليعمل العاملون
30
المراجع
33
الفهرس
34
1- رواه الترمذي وصححه الألباني
2 متفق عليه
3 صفوة التفاسير
4-مجموع فتاوى ابن تيمية
5- رواه أبو النعيم في الحلية
6- رواه الحاكم
7- رواه البخاري
8- رواه الترمذي
9- السلسلة الصحيحة للألباني
10- رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان
3- متفق عليه
12- رواه مسلم
13- كتاب القيامة الصغرى
14- رواه البخاري
15- رواه أبو نعيم في الحلية
16- رواه مسلم
17- رواه البخاري
18- رواه أحمد الطبراني
19- رواه مسلم وأحمد
20- رواه الحاكم
21- رواه البخاري.
22- رواه أحمد وحسنه الألباني
23- رواه مالك وأحمد وصححه الألباني
24- رواه مسلم وصححه الألباني.
25- البداية والنهاية لابن كثير.
26- مجلة التوحيد العدد 8/33.
27- رواه مسلم وصححه الألباني.
28- رواه أحمد وصححه الألباني.
29- رواه البخاري.
30- رواه الترمذي وقال حديث حسن.
31- رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني.
32- متفق عليه.
33- صحيح الجمع الصغير 1222.
34- متفق عليه.
35- رواه الترمذي والحاكم.
36- متفق عليه.
37- رواه أحمد أبو داود
38- رواه مسلم وصححه الألباني.
39- رواه مالك وصححه الألباني.
40- متفق عليه.
41- رواه أحمد.
42- رواه مسلم وصححه الألباني.
43- رواه مسلم.
44- رواه أحمد أبو داود.
45- متفق عليه.
46- من كتاب القيامة الكبري بتصرف واختصار.
47- رواه أبو داود والحاكم.
48- مشكاة المصابيح 5112.
49- صحيح الجامع الصغير 195
50- رواه الترمذي وأبو داود.
51- متفق عليه.(1/37)
52- رواه الحكم وصححه الألباني.
53- رواه الحاكم وصححه الألباني.
54- رواه أحمد وصححه الألباني.
55- رواه أحمد ومسلم والنسائي.
56- رواه مسلم وأحمد وصححه الألباني.
??
??
??
??
1
-17-(1/38)