قبول النقد ، وصفات الناقد
استوقفتني كلمة للأستاذ الأديب المعروف أحمد أمين في كتابه الذي سماه : " حياتي " ( 1 ) وهو في سيرته الذاتية ، هذه الكلمة هي قوله : " فليس يُحزنني نقد كتبي ولا نقد آرائي ، بل أرتاح له وأغتبط به ، إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر ، ولم يتعده إلى حدود الخلق " اهـ
ووقع في نفسي – أول ما وقع – أن في هذا الكلام من المدح للنفس ما فيه ، وهو إلى التنظير والمثالية أقرب منه إلى التطبيق والعمل . وإلا فمن الذي يرتاح ويغتبط بنقد أفكاره وآرائه وبحوثه ؟! إلا رجل تجرد من حظ النفس ، وجعل همه تطلُّب الحق وتحري الصواب ، فقل لي : أين هذا الصنف من الناس ؟ فما أقل عديدهم !!
أقول : هكذا وقع في نفسي ، ولكن سرعان ما تبدد هذا الهاجس ، إذ صار التنظير عملاً ، والمثالية واقعًا ملموسًا . وبيان ذلك :
أن الأستاذين أحمد أمين والسيد أحمد صقر عملا على إخراج كتاب " الهوامل والشوامل " لأبي حيان التوحيدي ومِسْكَويه وطبع عن لجنة التأليف والترجمة والنشر عام ( 1371 ) – الذي كان أحمد أمين يترأس مجلسها - . فلما طبع الكتاب – مع ما بينهما من فارق السن – فأثنى على العمل في الكتاب وأبدى بعض الملحوظات .
فألح عليه باستكمال تلك الملحوظات ونشرها ، وكان ذلك ، ثم لك أن تعلم بعد أين نشرت تلك النقدات ؟ لقد نشرت في " مجلة الثقافة " العدد 645 عام 1371 ، وهي المجلة التي كان أحمد أمين نفسه رئيسًا لتحريرها !! ( 2 ) .
حقًا إنها روح عالية ، ومحبة للصواب على يد من كان !
وهذا هو الخلق الرفيع ، والتجرد للحق تخلق به علمائنا – رحمهم الله تعالى – وهذه قبسات من كلماتهم وصنيعهم في هذا الباب أرجو أن تكون سروجًا يستضاء بها لتصلح ما فسد من حياتنا العلمية والأدبية .(1/1)
1- فهذا الإمام الخطابي ت ( 388 ) يقول في مقدمة كتابة " غريب الحديث " ( 3 ) : " وكل من عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره ، فنحن نناشده الله في إصلاحه وأداء حق النصيحة فيه ، فإن الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله بتوفيقه " اهـ .
2- ولما كتب الإمام عبد لغني الأزدي ت ( 406 ) جزءًا في أوهام أبي عبد الله الحاكم في كتابه " المدخل إلى الصحيح " ( 4 ) بعث إليه الحاكم يشكره ويدعو له . فقال عبد الغني : فعلمت أنه رجل عاقل ( 5 ) .
3- والعلامة ابن قيم الجوزية ت ( 751 ) لما فسّر لفظة في كتابه " بدائع الفوائد " ( 6 ) قال عقب ذلك : " فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة ، فمن وجد شيئًا فليلحقه (((( با لها و ))) يشكر الله وعباده له سعيه ، فإن المقصود الوصول إلى الصواب ، فإذا ظهر وُضِعَ ما عداه تحت الأرجل " اهـ .
فهذه دعوة إلى أهل العلم وطلابه للتحلي بهذه الصفات العالية والأخلاق النبيلة ، ودعوة لهم إلى قبول الحق على يد من كان ، وعلى أي لسان وصل ، إذ الإعراض عن الحق من صفات المتكبر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الكبر من بطر الحق وغمط الناس " .
وبقي في كلام أحمد أمين قوله " : إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر ، ولم يتعده إلى حدود الخلق " .
فهذه إشارة إلى ما يجب أن يتحلى به الناقد من صفات ، ويمكن إجمالها فيما يأتي :
1- الإخلاص في النقد وتحري الحق .
2- الابتعاد عن التجريح والتشهير ، والأمور الشخصية ، فكثيرًا ما يتحول النقد إلى تصفية حسابات شخصية ، فتعدم فائدته .
3- مراعاة أقدار العلماء والباحثين وكرامتهم العلمية ، فليس من المقبول أن يتطاول الناقد على عالمٍ أخطأ في مسألة أو اثنتين ، فمن الذي عُصم ومن الذي ما وُصم ؟! .
4- الفهم الحقيقي لمعنى النقد ، وأنه صورة من صور التعاون والمشاركة للوصول إلى الصواب .(1/2)
5- لا معصوم إلا من عصمه الله – وليس ذلك لغير الأنبياء – وعليه ، فالخطأ يعرض للجميع ، لا يرتاب في ذلك إلا غِرٌّ ، قليل العقل ، ضعيف النفس .
6- ومما ينبغي مراعاته : البعد عن الأساليب الملتوية ، والعبارات ((( المقوَّس )))) التي غالبًا ما تُبْعِد البحث عن جوهره ، وتَحُول دون الإفادة من النقد .
7- النقد فنٌّ رفيع قوامه : تحري الصدق ، والخلق السمح ، والخطاب ((( الكـ )) هذه أهم الصفات التي يحسن التحلي بها . فإن أبى الناقد إلا التخلي عن التحلي بها ، فعزاؤنا ما قاله الإمام مالك ، قال : " ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف ( 8 ) ! وهذه في عصره ( ولد 93 – وتوفي 179 ) فكيف في عصرنا ؟!!!
وقد قال بعضهم :
ولم تزل قِلّةُ الإنصافِ قاطعة بين الرجالِ ولو كانوا ذوي رَحِم
وعليه ، فما للمنقود إلا الصبر وقبول الحق – كما أسلفنا – وليكن على ذُكْرٍ من قول الشاعر :
أقبل نصيحة واعظٍ ولو أنه فيها مُرائي
فلربما نفع الطبيب وكان أحوج للدواء
والحمد لله حقَّ حمده .
كتبه / علي بن محمد العمران
( ص . ب / 2928 ) ( تـ / 5505469 )
13/2/1421هـ ، مكة المكرمة – حرسها الله –
==== = ====
( 1 ) – ( ص/288-289 ) .
( 2 ) – انظر " قطوف أدبية " : ( ص/283-285 ) للأستاذ هارون – رحمه الله - .
( 3 ) – ( 1/49 ) .
( 4 ) – كتاب الحاكم طبع جزء منه ، وكتاب عبد الغني طبع بتحقيق مشهور حسن .
( 5 ) – انظر " سير النبلاء " : ( 17/270 ) .
( 6 ) – ( 1/417 – ط المؤيد ) .
( 7 ) – أخرجه مسلم وغيره .
( 8 ) – أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " : ( 1/531 ) .(1/3)