قبلتنا
بين أمة راكدة ورائدة
…إعداد
د. صلاح الدين سلطان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ مملكة البحرين
www.salahsoltan.com
…
1428هـ -2007م
مقدمة
الحمد لله الذي جعلنا من أهل قبلته وأتباع ملته، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد
فإن من أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية أن جعل لها جوامع للقلوب والعقول والأبدان مثل القرآن والسنة والكعبة، وستظل هذه الجوامع راسخةً في عقل ووجدان الأمة مهما قويت أو ضعفت، قادت أو انقادت، فستظل فيها هذه الرواسخ التي تجذب إليها العالِم والعامي، الرجل والمرأة، الصغير والكبير، لتُعيدها يوماً من أمةٍ راكدةٍ إلى أمةٍ رائدةٍ.
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران : 96-97).
القبلة في الإسلام إذن حقيقة مادية حيث الكعبة والبيت الحرام، وعقيدة قوية حيث إنها أول بيت وضع للناس، وبركة ثرية بقوله تعالى: {مُبَارَكًا} وهداية ربانية {َهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وأنوار روحية {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} وعراقة تاريخية {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، ونسمة أمنية {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} .
والحج إليها من أوجب الواجبات الشرعية{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران : من الآية 97)، ومن صد عنها لم يخلُ من عقيدة كفرية {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران : من الآية 97).(1/1)
وفيما يلي - إن شاء الله - أستعرض وأستنتج من خلال نصوص القرآن والسنة ما يجلّي مكانة القبلة في عقيدة وعقل ووجدان كل مسلم ومسلمة. وموقف المؤمنين واليهود والمنافقين والمشركين من تحويل القبلة ، والتهديد الذي تؤكده النصوص الذي يحوط بقبلتنا الأولى والثانية، ثم أستخلص من النصوص - دون تكلف- خصائص الأمة الرائدة والراكدة، والوسائل العملية لصناعة الأمة من الراكدة إلى الرائدة، وأخيرا أقدم ملحقاً عمليا عن واجب الأمة نحو شعب فلسطين حُماة المسجد الأقصى قبلتنا الأولى مشفوعة بالأدلة النقلية والعقلية والاجتهادات الفقهية، آملاً أن تتحول أنهار الفكر إلى مزارع للخير تنمو فيها الأشجار والثمار والأزهار؛ ليرى العالم أمة وسطاً شاهدة على الناس،رائدةً لكل خيرٍ لنفسها، وللعالم من حولها فمن القول إلى العمل، ومن التنظير إلى التنفيذ حتى يشهد الله أننا بذلنا قصارى جهدنا لبناء أنفسنا وحماية قبلتنا وصيانة عرضنا واستقلال أمتنا، آنئذٍ لن يبخل علينا ربنا بالنصر والعز والتمكين قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر : 51), {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء : من الآية 51).
صلاح سلطان
رجب 1428
المبحث الأول
تحويل القبلة بين تسليم المؤمنين، وشغب اليهود والمنافقين والمشركين.
أولاً: الحرب على القبلة وأهلها.
ثانياً: سياق الآيات وموقف اليهود والمنافقين والمشركين من تحويل القبلة.
المبحث الأول
تحويل القبلة بين تسليم المؤمنين، وشغب اليهود والمنافقين والمشركين.
قبلتنا الأولى والثانية ذات مكانة عالية وسامية في القرآن والسنة والوجدان الإسلامي في كل زمان ولذا تبقى دائما موضع تهديدٍ من الأعداء كما سيبدو جلياً من النصوص وتحليلها وموقف المجتمع المدني بكل فصائله من تحويل القبلة, وأترك للنصوص توضح لنا ذلك فيما يلي:(1/2)
أولاً: الحرب على القبلة وأهلها:
تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام الأصل فيه أنه شأنٌ داخليٌّ للمسلمين، وهذه قبلة المسلمين وليس غيرهم ، فلم يؤمروا باتباع قبلتنا في صلاتهم، ومع هذا تفاوتت ردة فعل المجتمع المدني، حول تحويل القبلة على النحو الذي تبينه آيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما يلي:
( ا ) قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة : 142-143).(1/3)
(2) ما رواه البخاري من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أَنَّ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأنْزَلَ اللهُ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) فتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْيَهُودُ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ منَ الأَنْصَارِ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ؛ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ ( صحيح البخاري ، كتاب الصلاة: ، باب التوجه نحو القبلة حيث كان ) .
والحق أنني جمعت كل الآيات التي تحدثت عن القبلة سواء جاءت بلفظ القبلة - وهي سبع مرات، ستة منها في البقرة في نفس سياق تحويل القبلة وواحدة في سورة يونس: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يونس : من الآية 87)- أو ورد بلفظ المسجد الحرام أو البيت الحرام، أو البيت مقصوداً به البيت الحرام مثل قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (قريش : 3).(1/4)
ولقد فاجأني هذا الكم الهائل من النصوص التي تبين أن موقف المشركين عامةً واليهود خاصةً، وعملائهم من المنافقين يعتبرون مسألة القبلة من أسس الحرب على الإسلام والمسلمين، سواء، القبلة الأولى المؤقتة (المسجد الأقصى) أو القبلة الثانية الدائمة (المسجد الحرام).
وإني أدع نماذج من هذه النصوص تتحدث عن الموقف وتعبر عنه:
( ا ) قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} (الإسراء : 1- 2).
(2 ) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج : 25).
(3 ) قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة : 217).(1/5)
(4 ) قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال : 34-40 ).
(5 ) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة : 28-29).(1/6)
(6 ) قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة : 19).
(7 ) ما رواه البخاري بسنده عن نافع بن جبير بن مطعم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ" قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ: "يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ" (صحيح البخاري،كتاب البيوع: باب ما ذكر في الأسواق).
وهناك نصوص أخرى كثيرة أتت تبين أن مقدسات المسلمين موضع تهديد دائم من المشركين ، وأن هناك واجباً حتمياً على المسلمين أن يكونوا دائما على استعداد لحماية مقدساتهم، كجزء من خصائص الأمة الرائدة، وإلا صارت أمةً راكدةً عندما يهان المسجد الأقصى، ويخطط لهدم المسجد الحرام كما قال اللورد كرومر البريطاني لما وصل إلى مصر محتلا وغازيا: (جئت لأهدم ثلاثة: القرآن والكعبة والأزهر)، ثم لا تدافع الأمة مقدساتها.
هذه النصوص، والواقع يؤيدها أن مقدساتنا بحاجة دائمة إلى حماية وحراسة من أصحاب الإيمان لأن أهل الكفر والفسوق والعصيان لا يحبون أن يروا للمسلمين قبلةً واحدةً، ولا شباباً يحجون ويعتمرون، ونساءً في حجاب يعبر عن الطهر والنقاء والعفة والارتقاء، ينتشرون في أرض الإسلام ، ولذلك نلاحظ في هذه النصوص ما يلي:
( ا ) بعد الحديث عن الإسراء والمعراج إشارةٌ قويةٌ إلى إفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين وهو الواقع المر الذي نعيشه الآن.(1/7)
(2 ) قبل الحديث عن مناسك الحج في سورة الحج جاءت الآيات تبين موقف المشركين من الصد عن سبيل الله، وأول آية بعد ذكر مناسك الحج جاءت في الإذن بالقتال، وهي أول آيةٍ في القرآن كله أباحت رد الاعتداء بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج : 38 – 39).
وختمت سورة الحج بالاستعداد للجهاد في سبيل الله في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } (الحج : من الآية 78).
ولعل الارتباط بين أداء مناسك الحج والاستعداد للجهاد من أوضح الأمور في كل سور القرآن خاصةً سورة البقرة في الآيات من (189-196) ومن يراجعها سيجد ربطاً بين الأهلة والحج والقتال في الآيتين (189-190)، والقتال عند المسجد الحرام إذ ا هاجمونا كإجراء استعداد ضروري كذلك في الآيتين (195-196) . بعد آية كتب عليكم القتال رقم (216 ) جاءت الآيات تتحدث عن الشهر والمسجد الحرام هل فيه قتال أم لا؟ وينص القرآن بشكل جليٍّ على أن هناك فتناً تُلقى على الأمة هي أكبر من القتل، وأن المعركة دائمةٌ لا تنقطع حتى نرتد عن ديننا وأخلاقنا وقيمنا في قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة : 217).
(4 ) لم تتحدث أغلب آيات القرآن بالفعل الماضي عن أفعال المشركين في الصد عن المسجد الحرام بل بالفعل المضارع وبهذا تشير إلى استمرار محاولات الصدِّ عنه وصرف المسلمين عنه بالفتن التي يستدرج لها الرجال والنساء والفتيان والفتيات، وهي أشد من القتل كما نصت الآيات، لكني أحب أن أورد بعضاً من هذه النصوص الواضحات:(1/8)
( أ ) {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال : من الآية 34).
(ب) قوله تعالى في سياق الحديث عن الشهر الحرام والمسجد الحرام: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (البقرة : من الآية 217).
(5 ) هناك اقترانٌ بين الأمر بمنع المشركين الاقتراب من المسجد الحرام، والأمر بقتال من يريدون أن يطفئوا نور بأفواههم.
(6 ) ينص القرآن على أنه لا يستوي من يشتغل بعمارة المسجد الحرام دون الاستعداد لحمايته، والعمل على منع الاعتداء عليه، ولعل هذه النصوص كانت وراء ما روي من شعرٍ رائعٍ لعبد الله بن المبارك يعاتب الذين أخذوا العبادة في جانبها السلمي فقط دون الجهادي فقال:
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَْنا
لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه
فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في باطلٍ
فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا
رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا
قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبارُ أهلِ الله في
أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا
ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ
(7 ) حديث يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، وأحاديث الدجال ومحاولاته دخول مكة والمدينة ومنعه منها، هذه كلها تفيد أن هناك حرباً طاحنةً يعدُّ لها ضدّ القبلة وأهلها، ضدّ كل شيء يجمع هذه الأمة، ويوحد صفوفها، وهو أمر عقدي يوجب التحرك العملي لحماية مقدساتنا.
هذه رؤيا عامة عن موقف غير المسلمين من القبلة وأهلها، وفيما يلي أعرض الموقف الخاص بتحويل القبلة.
ثانياً: سياق الآيات وموقف اليهود والمنافقين والمشركين من تحويل القبلة:
جاءت آيات تحويل القبلة في سورة البقرة التي تتميز بشكل خاص بما يلي:(1/9)
(ا) لأول مرة طُرح النفاق في آيات القرآن في سورة البقرة، وقد وصف الله في بداياتها صفات المؤمنين في خمس آيات، والكافرين في آيتين، لكن وصف المنافقين استغرق ثلاث عشرة آية، وتوالى القرآن يفضح النفاق في سُوَرٍ كثيرة أكثرها ظهوراً التوبة، وسورة كاملة عنهم ( المنافقون) تبين كذبهم والتواءهم، وهؤلاء في مجتمعاتنا يظهرون في شكل شخصيات عامة وخاصة يحملون اسم بلادنا الإسلامية وجنسيتها ويتكلمون بلغتنا لكن عقولهم وقلوبهم مع أعداء الله، يحادُّون الله ورسوله والمؤمنين، وهم أخطر من غيرهم لأنهم ثلمة ولبنة مريضة في بناء وجسد الأمة الإسلامية، هؤلاء رددوا كلام اليهود عن تحويل القبلة.
(2 ) سورة البقرة سميت بذلك بسبب قصة الجدال والمراوغة والقتل والبهتان من بني إسرائيل، ثم وردت فيها قصص وصفات وأوضحت أنهم أكثر أهل الأرض عنادا مع الله ورسله وكراهية لملائكته ونقضا للعهد، وقتلاً للأبرياء وحرصاً على المادة، وظلماً لأنفسهم، واعتداءً على غيرهم، وكفراً بربهم، وتمرداً على أنبيائهم، وقتلاً لمن استطاعوا منهم.
أما الموقف من تحويل القبلة فقد أورد صاحب عيون الأثر في المغازي والسير أن هناك مواقف عديدة هي:
(1) قال المنافقون: ماولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
(2 ) قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضي قومه، ولوثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي.
… (3) وقال المشركون في مكة: تحيَّر على محمد دينه، فاستقبل قبلتكم، وعلم أنكم أهدى منه، ويوشك أن يدخل في دينكم.
(4) وقال بعض المؤمنين: فكيف بصلاتنا التي صلينا نحو بيت المقدس، وكيف بمن مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ !.(1/10)
هذا يعني مع الروايات التي أوردتها من قبل أن هناك سمعاً وطاعةً وتسليماً من المؤمنين إلا ما كان من تساؤل بعضهم عن صلاتهم قبل تحويل القبلة وهو سؤال وارد، لكنهم جميعا رضوا وسمعوا وأطاعوا وضربوا مثلاً عالياً حتى تحولوا وهم ركوع سواء، ما كان من رواية البراء، أنه كان في صلاة العصر،في المسجد الذي يسمى الآن ذو القبلتين، أو رواية أنس أنه كان في صلاة الصبح في مسجد قباء، وفي روايات أخرى تُجمع على أن موقف المؤمنين كان صلباً وقوياً، ومرضياً.
أما موقف غير المسلمين فقد كان لهم جميعا شغبٌ شديدٌ على النحو التالي:
(1 ) أكبر فئة بدأ بها القرآن (السفهاء) هم اليهود حيث شنعوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما صلى إلى بيت القدس، فقالوا: اتبَاعَهُ قبلتنا دليل على أن ديننا هو الأصح ،وأن دينه الجديد خطأ، فلما تحولت القبلة قالوا عن الله سبحانه: "إنه يجوز عليه البداء"، (أي يقول كلاما ويرجع عنه) تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، وأن محمداً قد استبد به الشوق إلى دين آبائه وكعبتهم، وشنعوا عليه - صلى الله عليه وسلم - لأن فِريتهم الأولى قد انهارت أمام تحويل القبلة فلابد من زيف جديد، وهذا ليس غريبا عليهم، بل هذا ما مارسوه مع جميع الأنبياء، بل مع الله تعالى لما أمرهم أن يأكلوا المنِّ والسلوى، ويقولون يا ربنا حط عنا خطايانا فحرفوها إلى حِنطة فقال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (البقرة : 59).
وهذا التزييف الشديد ومن النوع الردئ، وبلا حرج من أنفسهم يظهره موقفهم من الرسالة الإسلامية أول وصولها إلى المدينة ويتضح ذلك من الحديثين التاليين:(1/11)
1. حديث صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أنها قالت : "كنت أحب ولد أبي إليه ، وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ونزل قباء ، في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي ، حيي بن أخطب ، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين . قالت : فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس .
قالت : فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما ، مع ما بهما من الغم . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر ، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ؛ قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم؛ قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت" . (السيرة النبوية, المجلد 3).(1/12)
2. مارواه البخاري بسنده عن أنس - رضي الله عنه - قال : (بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأتاه فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خبرني بهن آنفا جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب, وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت, وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها. قال أشهد أنك رسول الله ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه). (صحيح البخاري, كتاب الأنبياء : باب قول الله وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في.. , حديث رقم 3151).
( 2 ) المنافقون وهم في كل زمان أصدقاء اليهود والنصارى، وأعداء المؤمنين فقد خاضوا مع الخائضين، وتكلموا في تحويل القبلة مع اليهود المدلِسين، ولم يكن لهم جديد إلا ترديد كلام أسيادهم اليهود ، تماماً كما يفعل منافقو عالمنا الإسلامي الآن .(1/13)
(3 ) تعلق المشركون بخيط العنكبوت في زعمهم أن محمداً تراجع عن دينه وحنَّ إلى دين آبائه وأجداده، وأن تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام هو الخطوة الأولى في التراجع، الذي سينتهي إلى اتباع ما نحن عليه، وهو وهْمٌ طفوليٌ صغير، وتحليل ساذج لا يَنُمُّ عن وعي وفهم للرسول والرسالة والصحابة.
المبحث الثاني
قبلتنا وخصائص الأمة الرائدة والراكدة.
المطلب الأول : خصائص الأمة الرائدة في آيات تحويل القبلة.
أولاً: الأمة الرائدة موحدة واحدة.
ثانياً: الأمة الرائدة أمة صاحبة سبق علمي.
ثالثاً: الأمة الرائدة صاحبة منهج في التزكية.
رابعاً: الأمة الرائدة ذات استقلال.
المطلب الثاني : خصائص الأمة الراكدة.
أولاً : الأمة الراكدة عقيدتها فاسدة.
ثانياً: الأمة الراكدة عقولها جامدة.
ثالثاً : الأمة الراكدة قلوبها قاسية.
رابعاً: الأمة الراكدة أمة متفرقة.
المبحث الثاني
قبلتنا وخصائص الأمة الرائدة والراكدة.
شغل الكثير بالسنن والمبتدعات في النصف من شعبان - كأحد الآراء أنه موعد تحويل القبلة - وشغلني وأرَّق مضجعي النصوص القرآنية التي تتحدث عن الأمة الوسط الشاهدة على الناس ، ونظرتُ بإمعان إلى هذه الخصائص التي تقود الأمة إلى الريادة والشهادة ، ولكن سرعان ما ارتدَّ الطرف إلى الواقع المعاصر المرير ليجد أمَّةً راكدةً تزحف خلف عدوها، وتركض وراء عيش ذليل من نخالة صناعات ومنتجات غيرها ،فآثرت الحديث عن خصائص هذه الأمة الرائدة وفقاً للنصوص، والأمة الراكدة وفقاً للواقع المعاصر،إحساساً بالألم، وسعياً إلى الأمل والعمل.
المطلب الأول :خصائص الأمة الرائدة في آيات تحويل القبلة:
تحويل القبلة مهم في تحديد خصائص الأمة الرائدة التي جاء النص عليها في ثاني آيات تحويل القبلة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : من الآية 143).(1/14)
ويبدو لي - من خلال - النصوص في القرآن عامةً، وحول آيات تحويل القبلة خاصةً أن خصائص الأمة الرائدة كما يلي:
أولاً: الأمةُ الرائدةُ موحدةٌ واحدةٌ.
هي أمة تؤمن بأن ربها واحد، وأنها لذلك الانتماء الوثيق أمة واحدة تجمعها قبلة واحدة، ومصدر التلقي الأساسي الذي لا يُعارض هو الوحي قرآناً وسنةً، ولذا لما أمر الله تعالى بالتوجه إلى بيت المقدس امتثلوا، ولما طلب منهم العودة إلى القبلة الدائمة ( الكعبة) امتثلوا وهم ركوع في صلواتهم، في صورة نادرة من التسليم المطلق لأوامر الوحي ونواهيه، هذا التوحيد هو الموحد الأساسي للأمة فهي واحدة، لم يترك الأمر للاعتقاد القلبي الداخلي، بل شُفع بالعمل الخارجي اليومي حيث يتوجه المسلم خمس صلوات وعدد من الركعات من الفرائض والسنن والمندوبات إلى بيت الله الحرام في أي مكان من أرض الله تعالى، هذا الإلحاح الاعتقاديّ، والتكرار العمليّ، حتى يستقر في وجدان كل مسلم حيٍّ أنه موحد ينتمي لأُمةٍ واحدة، ولذا كثر الأمر بالتوجه إلى الكعبة في الآيات نفسها وقد أحسن الشيخ محمد المكي الناصر في كتابه التيسير في أحاديث التفسير (ا /94 ) عندما قسَّم أن تكرار الأمر بالتوجه شطر المسجد الحرام في مراحل ثلاث:
(1) قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة : من الآية 144) مُوَجهٌ لمن يشاهد الكعبة.
(2 ) قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة : من الآيتين 149, 150) لمن خرج من المسجد الحرام ولا يزال في مكة، ولا يشاهد الكعبة.
(3) قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة : من الآية 144) مُوَجهٌ لمن هم في بقية الأقطار والبلدان.
هذا جامع عقدي تشريعي عملي متكرر في أي مكان من أرض الله الواسعة.
ثانياً: الأمةُ الرائدةُ أمةٌ صاحبةُ سبقٍ علمي.(1/15)
لقد ورد لفظ العِلمُ 865 مرة، ولفظ التذَكُرُ 184 والسؤال (وهو نصف العِلمُ) 129 مرة، والعقل 49 ، والتدبر 44 ، هذا الكم الهائل من التوصيات الربانية، والنصائح النبوية بالاهتمام بالجوانب العلمية حتى تؤسس أُمَةٌ فتيةٌ تقوم على العلم والإبداع والاختراع في كل نافع للبشرية، ومن الأمور العجيبة أن الربع الأول من الجزء الثاني وردت فيه مادة العِلمُ ثمان مرات، والمعرفة مرتين والتلاوة مرة، ولذا يجب إذا أردنا أن نصنع الأمة الشاهدة الرائدة أن يكون العِلمُ الشرعي والعملي والتكنولوجي، والطبي والهندسي وغيرها من العلوم النافعة أساساً للإصلاح،وأن نكون أصحاب سبقٍ كما كانت الحضارة الإسلامية مشعل نورٍ للبشرية كلها ، وكانت الآفاق تتحدث عن هذا التقدم في الجانبين الحضاري المادي والأخلاقي، وهذا من المسلَّمات التي لا يمكن أن تكون لنا أدنى ريادة إلا إذا استوعبنا ما يوجد لدى الغير من مخزونٍ علمي، وأضفنا عليه الرداء الإسلامي الذي ترتبط فيه المادة بالروح، والمال بالقيم، والقوانين بالتربية، والهدف بالوسيلة، وهكذا.
ثالثاً: الأمةُ الرائدةُ صاحبةُ منهجٍ في التزكية.
التزكية تعني النماء، وقد جاء في الربع الذي سبق تحويل القبلة الحديث عن سيدنا إبراهيم وعن دعائه النديِّ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة : 129)، وأجابه الله تعالى بكل ما دعا به مع جعل التزكية في ترتيب ما بين التلاوة والعلم، وأكدت نصوص القرآن منهج التزكية في عشرين آية ومن ذلك:
( أ) قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس : 9-10).
(ب) قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى : 14-15).(1/16)
(ج) قوله تعالى: {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (فاطر : 18).
وهي تعني تنمية ملكات وقدرات، ومهارات الأفراد والمؤسسات تنميةً متوازنة في الجوانب الروحية والأخلاقية والعقلية والاجتماعية والمادية، بحيث يتحرك المجتمع كله في منهج التزكية ليكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه، وهذا هو التطور الحقيقي، وليست هذه الصور الشائعة من التزكية العلمية دون الأخلاقية، أوكلاهما دون البدنية والماد ية ،أو كل ذلك د ون الجوانب الروحية.
رابعاً: الأُمةُ الرائدةُ ذاتُ استقلال.
في الآيات التي سبقت تحويل القبلة ورد مرتين بلفظ واحد قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة : 134, 141)، هذا الاستقلال العقدي تبعه استقلال تشريعي وهو تحويل القبلة حتى يكون لهذه الأمة ميراث المقدسات جميعا ، لكن المسجد الحرام هو أول بيت وضع للناس، وهو قبلة الأنبياء ، ومهبط الوحي الأوفر وتوالت الآيات تبين ضرورة التوجه داخل وخارج المسجد حتى لو كان الإنسان في أقصى الشمال أو الجنوب، الشرق أو الغرب فحيثما كنا فالقبلة كلها واحدة، مما يعطي صبغة وخصوصية للمسلمين على غيرهم، فهم جميعا متعلقون قلباً وقالباً بالقبلة، كعبةً ومسجداً وبلداً حوى المسجد الحرام. لا يتبعون اليهود أو النصارى، المجوس أو الهندوس، الشيوعيين أو العلمانيين في نقير أو قطمير مما يدخل خاصة في الشعائر التعبدية، والانحرافات الأخلاقية، أو الأوهام العقدية، هذه الأمة التي تستطيع أن تجعل لنفسها مكاناً في المنظومة العالمية، ليس في الذيل أو في غمار زحام الدول، بل الأصل أن تكون رائدة شاهدة على العالم كله ودينها أظهر الأديان في العالم، ويتضح ذلك من الآيات التالية:(1/17)
(1 ) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة : 33) و الآية نفسها في (الصف : 9 ) .
(2) قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران : 110).
هذا الاستقلال في الاعتقاد والتشريع والقيم والأخلاق هو الذي يدفع بكل مسلم في أمة الإسلام أن يسعى بقوة إلى إعزاز أمته، وقوة بنيانها ، ورسوخ أخلاقها ، واستقرار اقتصادها ، وعفة إعلامها ، واتساع مدارسها وجامعاتها ، وكثرة البِّر بين أبنائها ، تأكل من غرسها وتلبسُ من صنعها ، تعطي ولا تتسول، تبتكر وتخترع لا تزحف وتتبع، أمة منتجة وليست فقط مستهلكة لنخالة الحضارات المختلفة، بل لها براءات اختراع وكثير من الإبداع، وألوان من الفنون والإمتاع تخلو من العري والسفور، والزنا والخمور، بل لها حضور عالمي، وتأثير تاريخي في المسلم وغيره.
المطلب الثاني : خصائص الأمة الراكدة.
أولاً : الأُمةُ الراكدةُ عقيدتها فاسدة:
الأمة الراكدة هي التي تؤمن بإله عاجز عن نصرة أتباعه؛ قال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج : 15), أو رب له الحق في الخلق دون الأمر، أو ترى أن الموارد قليلة، فلا تكفي الأرزاق إطعام الأطفال فتخفض إنتاجها البشري بتحديد النسل، ويتراجع إنتاجها الاقتصادي اعتقاداً بندرة الموارد أو سيطرة الغربي المارد، وفي كلٍ يحسُن أن نقبل كل شاردٍ ووارد.(1/18)
أو هي أمة متواكلة تأخذ بعقيدة القضاء والقدر في الأسباب لا النتائج، فتقعد عن الإنتاج والاجتهاد وطلب العلم وتعليم الناس، فتصير أُمة إمّعَات أذناب وذيول ،وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الحالة الراكدة الذائبة في الغير فيما رواه عنه ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (اغد عالماً أو متعلماً ، ولا تكونن إمعة) (أعلام الموقعين: 160/2).
الأمة الراكدة يخشى أفرادها من الناس أكثر من رب الناس فلا ينكرون منكراً، ولا يأمرون بمعروفٍ، ولا يردون ظالماً ، ولا يؤون ضاحياً ، ولا ينصحون شارداً، ولا يكفُلون يتيماً، ولا ينصحون زعيماً ، ولا يرحمون ذليلاً، ولا يطعمون مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، السلبية هي شعارهم، والانعزالية هي ديدنهم، وهولاء مرض يتخلل في نخاع الأمة وقلبها وأطرافها.
الأمة الراكدة تشيع فيها عقائد الطِيَرَة، والتوجس والخوف والهلع لأنهم أبعد ما يكونون عن الإيمان الذي يورث الأمان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام : 82).
ثانياً : الأُمةُ الراكدةُ عقولها جامدة:
الأمة الراكدة عقولها جامدة عن النظر والتدبر، والعلم والتفكر، والإبداع والاختراع، تنتشر فيها نسب الأُميّة، وتعلو فيها نسب الفراغ، يحتشد الناس في المقاهي والملاعب والملاهي، وتخلو منهم المكتبات والمعامل، مليئةٌ بطونهم خاويةٌ عقولهم، وأفئدتهم هواء ، حظهم من العلم قشوره، ومن الجهل جذوره، تتضاعف ألوان الزينة وتضعف أصول البنيان.
ثالثاً: الأُمةُ الراكدةُ قلوبها قاسية:(1/19)
الأمة الراكدة ليست لها قلوب ترنو إلى المعالي، وتتطلع إلى رضا الله والجنة، وتشف القلوب بالقيام في الليل والصوم بالنهار والأذكار بالليل والنهار، بل قلوبها قاسية والله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر:22) وهي مغموسة في الماد يات، جافية للإيمانيات، مساجدها خالية، وأسواقها ملأى، وجرائدها فاضحة بالتحلل والكذب والفجور، وشاشاتها مفعمة بألوان من الفتن والشرور، وهي غارقة في تقليد عدوّها في أنماط حياتها تاركة صبغة ربها الودود الغفور.
الأمة الراكدة يقسو فيها الحاكم على المحكوم والمحكوم على الحاكم، والكبير على الصغير والصغير على الكبير، والزوج على زوجته والزوجة على زوجها، والوالد على بنيه، والولد على أبيه، والجار على جاره، ويبغي الشريك على شريكه، ويطارد الدائن غريمه، ويهرب المدين من التزامه، تُخان الأمانات، وتنتشر السفاهات، وتقل المكرمات وتكثر المكروهات، وتستشري المحرمات، وتخرج من أزمة إلى أزمات، ليس لها من الله هدى، ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة، حيارى بين شرق وغرب وشمال وجنوب، {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} (النساء : من الآية 143).
رابعاً: الأُمةُ الراكدةُ أمةٌ متفرقة:
الأمة الراكدة تعلو فيها قيم العصبية الذميمة على الأخوة الحميمة، وتحتدم فيها الفرقة والاختلاف على الوحدة والائتلاف، وتعلو فيها المذهبية على الروابط العقدية، وتتمسك بتاريخها في الجاهلية على الاعتزاز بحضارتها الإسلامية، تحنّ إلى الأَثَرَة ولا ترقى إلى الإيثار، تركن إلى الأغرار من الكفار، وتطارد أولي الأيدي والأبصار، بأسهم لإخوانهم، وخيراتهم لغيرهم، أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين يتبعون كل ناعق، ويتركون هدي الخالق سبحانه وتعالى.
المبحث الثالث
قبلتنا وصناعة الأمة من الراكدة إلى الرائدة.
أولاً: أن تكون القبلة رمز التوحيد الصافي.(1/20)
ثانياً: أن تكون القبلة رمز الوحدة القوية.
ثالثاً: أن تكون القبلة رمز الأمن والأمان.
رابعاً: أن تكون القبلة رمز الوسطية:
الوسطية في العقيدة الإسلامية.
2- الأخلاق.
3- التشريع.
خامساً: أن تكون القبلة رمزاً لتحمل المسئولية نحو مقدساتنا الإسلامية.
المبحث الثالث
قبلتنا وصناعة الأمة من الراكدة إلى الرائدة.
مع مرارة الواقع لكن المسلم الحق يغمره الأمل ويشغله العمل ، ويدع النتائج لرب الأرض والسماء أن يدبر الأمر ويفصل الآيات ، ويهيئ الأسباب وينزل الملائكة والمعجزات على الذين نفضوا اليأس وتشبثوا بالأمل ، وألحقوه بالعمل ، وأحسنوا التوكل على الله الذي وعد فقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور : من الآية 55).
وفيما يلي الخطوات التي تجعل من قبلتنا رمزاً وأملاً وعملاً نحو الأمة الرائدة.
أولاً: أن تكون القبلة رمز التوحيد الصافي:
لقد صارت الكعبة رمزاً على التوحيد الصافي من كل دواعي الشرك الجليّ والخفيّ ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
1- قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج : 26).(1/21)
2- ا بتدأ الله تعالى سورة الحج بالحديث عن العقيدة الصافية قبل الدخول إلى مناسكه فبدأت بالحديث عن الساعة والبعث ، وأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه ليس بظلام للعبيد، وعرّجت باللوم على من {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (الحج : 12)، وأكدت أن الله ينصر عباده المؤمنين، وأن الله تعالى سيفصل بين أصحاب المِلل والنِحل من اليهود والنصارى والصابئين ، وأن الكون كله مُسبح لله تعالى ساجد لله من سموات وأراضين وشمس وقمر ونجوم وجبال وشجر ودواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، وأنه وحده بيده أن يدخل العصاة النار والطائعين الجنة، هذا كله قبل أن يبدأ سبحانه في أول حديث عن الحج ونداء الناس للحج.(1/22)
3- في أول حديث عن المناسك تأتي الآيات قاطعة في الجمع بين التوحيد الصافي وإقامة المناسك؛ ويبدو ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج : 29-31), وعندما تحدث عن الأضاحي والهدي كان النص عن التوحيد ظاهراً أيضا في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج : 34). وقوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج : 37).
هذه مجرد نماذج على هذا الاقتران بين التوحيد الصافي ومناسك الحج إلى بيت الله الحرام.(1/23)
3- كان من أكبر الفتوحات الربانية في السيرة النبوية إنهاء الشرك ونصب الأصنام والاستقسام بالأزلام حول الكعبة وداخل وخارج البيت الحرام حيث جاءت البراءة قوية شامخة في سورة وحيدة خلت من البسملة وهي سورة التوبة حيث تبدأ بإعلان الحرب على الشرك حول الكعبة حيث يقول تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (التوبة : 1-3).
وقد قاد الإمام المغوار علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هذا الإعلان باختيار النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - كما أورد الدارمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَادَى بِأَرْبَعٍ حَتَّى صَهَلَ صَوْتُهُ أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ فَإِنَّ أَجَلَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). (سنن الدارمي - كتاب الصلاة - باب: النهي عن دخول المشرك المسجد الحرام، حديث رقم: 1402).(1/24)
وصار من شعائر هذه الأمة التي تعتز بها ولا تتجاوزها ألا يقرب المسجد الحرام أحد من المشركين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة : 28).
والحق أن الشرك اليوم ليس له أصنامٌ منصوبة محسوسة يسجد لها الناس، بل هي الشهوات الجامحة، من الأهواء المنفلتة والأموال الطائلة، والمناصب البراقة التي يرنو إليها البعض بسخط الله تعالى، والهرولة وراء المشركين طلباً لمغنم أو خوفاً من مغرم، وهذا كلام الله تعالى يفضح هذا الشرك القلبي فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (العنكبوت : من الآية 17).
هذه تحتاج منا إلى صدق مع النفس هل نحن بحق نحمل العقيدة الصافية من كدر التعلق بغير الله تعالى دولاً،ومجتمعاتٍ وأُسَراً وأفراداً، مما حمل بعضنا على ترك المكارم، واتباع أعداء الله تعالى فيما يخالف الأصول العقدية والأخلاقية والتشريعية.
ثانياً: أن تكون القبلة رمز الوحدة القوية:
كل وحدة لا تقوم على توحيد الله وتقواه وحسن عبادته فهي مهددة بالانهيار؛ فقد ربط الله هذه الوحدة بهذا التوحيد والتجرد لله بالعبودية قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون : 52)، وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء : 92).(1/25)
وإذا كنا قد تحدثنا عن الكعبة رمز التوحيد الصافي فهذا يقود الأمة من وحدانية عقيدتها إلى وحدة صفوفها التي تجعل أي مسلم على وجه الأرض يتوجه خمس مرات في ركعات لا تقل عن سبعة عشرة، ونوافل في حدود ثلاثة عشرة وقد تزيد في رمضان إلى ما فوق العشرين، هذا يعني أن هذه الأمة كلها مربوطة برباط القبلة ولذا صار هذا المصطلح رمزاً بالحديث الذي رواه البخاري بسنده من حديث أنس - رضي الله عنه -: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ ـ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَة"ِ). (صحيح البخاري - أبواب المساجد - باب حك البزاق باليد من المسجد، حديث رقم: 397).
والحق أن مصطلح أهل القبلة أخذاً من هذا الحديث وغيره - صار رمزاً على وحدة الأمة، وأملاً دائماً أن تجتمع في سياستها واقتصادها وإعلامها، وإعزاز بلادها، وتنمية خيراتها، أو تزكية نفوسها، وعدم جواز إخراج أحد من الإسلام ماد ام يصلي إلى قبلتنا.
ويدلُّ على رمزية القبلة إلى الوحدة القوية ما يلي:
1- ما ذكره الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ماداموا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
2- قال ابن تيمية في الفتاوى: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذ ا كان فعلاً منهياً عنه: مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان: مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت: فإنه يكفر به) .(1/26)
وإذا كانت المذهبية والطائفية قد فرّقت كثيراً بين أبناء الأمة، مما أدى بها إلى التنافر والتقاتل والتنابذ، حتى صار الدم الأول الذي يراق في العالم هو دم المسلم بيد أخيه المسلم، وتدعمه قوة عالمية ظاهرة وخفية، فإن الإنسان يظل عنده أمل أن الأمة عبر اختلافها الطويل لم تختلف حول القبلة، فلم نر أحداً يدعو إلى الصلاة إلى أي مكان في العالم سوى الكعبة، وظلت وستظل عنواناً على هذه الوحدة لمن تفرقت بهم السبل وتفرقوا في دياجير العصبية العرقية أو المذهبية، واستجابوا لشياطين الإنس والجنّ في الفرقة والاختلاف تاركين نداء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحق أن وراء كل فرقة فهمٌ خاطئ، ووراء كل دم يراق عقل مظلم بالتكفير، حيث لا يستحل المسلم دم أيِّ مؤمن لأن ذلك يخلِّد صاحبه في النار؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء : 93)، لكنه يقتل أخاه متعمِّدا متعبِّدا أنه يقتل كافرا، وهو أمر شنيع تفرَّع عن تغذية فكرية تُكفِّرُ بالشبهة، وتخرج المسلم بالمعصية من الملَّة، وتُلحق كل شئ بأمور العقيدة، حتى لو زلّة لسان أو عمل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا مع أصحابه في حوادث شتى توجب منا التو قف عندها إذعاناً وتسليماً، ومنها ما يلي:
ما رواه مسلم بسنده عن ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنه -قَالُ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَيُّمَا امرئ قَالَ لأَخِيهِ : يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ». (صحيح مسلم ، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر،(2/42) حديث رقم:178).(1/27)
ما رواه مسلم بسنده عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه -قَالَ: (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ" . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ . قَالَ: "أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ " . فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ . (صحيح مسلم, كتاب الإيمان, باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله, حديث رقم 96).(1/28)
3. ما رواه البخاري بسنده عن عَلِي - رضي الله عنه - يَقُولُ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا " . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا " . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ " . قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا(1/29)
شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ). (صحيح البخاري, كتاب الجهاد والسير, باب الجاسوس وقول الله لا تتخذوا عدوي وعدوكم ـ ـ, حديث رقم: 2845).
4 . خالف أربعون صحابياً أمراً صريحاً قطعي الدلالة والثبوت في غزوة أحد عندما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبرحن أحدكم مكانه وإن رأيتمونا تتخطفنا الطير ، ومع مخالفتهم الجسيمة لم يكفرهم القرآن بل كانت الآيات درساً عملياً في عدم جواز التكفير بالذنب، وعلمنا الله من خلال آياته درساً في التعامل الحكيم، مع هذه المواقف بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (آل عمران : 155).
5. ينص القرآن أن المسلم حتى لو وقف في حرب مع أخيه المؤمن لا يجوز نزع الإسلام عنه لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الحجرات : 9), وقد أورد البخاري الآية في عنوان باب من أبواب كتاب الإيمان وقال بعدها: "فسمَّاهم المؤمنين " ،أي مع قتال بعضهم لبعض لم ينفِ عنهم القرآن صفة الإيمان كما نكفر نحن بالشبهة.(1/30)
إننا ندعو كل من كانت لديه بقية من دين أو عقل أن يتوقف عن داء التكفير لأهل القبلة وهدر كرامة وحياة الإنسان الذي كرمه الله تعالى فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء : 70), نحن بحاجة إلى مراجعات كثيرة تجعل من قبلتنا عنصراً وركيزةً أساسية تتجه إليها القلوب والأبصار نحو وحدة أولي الأيدي والأبصار، والقرى والأمصار، ليكونوا يداً واحدةً في مواجهة الأخطار التي تحدق بنا بالليل والنهار، من الأعداء الفجار الأشرار، عسى أن ننجو بهذه الوحدة بين يدي العزيز الغفار!!.
ثالثاً: أن تكون القبلة رمز الأمن والأمان:
لقد جعل الله للكعبة تقديراً في قلوب الناس جميعا حتى عندما أشركوا وعبدوا الأصنام لما أرادوا بناء الكعبة حرَّموا أن يدخل فيها مهر بغيٍّ أو مال ربا، أو من مظلمة، واجتمعوا على حرمة البيت الحرام وتحريم القتال عند المسجد الحرام أو حوله، وأقر الإسلام هذا العرف الطيب، وصار كل كائن حيّ آمنا في هذا المكان، ويأنس له كل إنسان أو طير أو حيوان ، وفي هذا يقول الله تعالى:
1- {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} سورة قريش.
2- {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} (البقرة : من الآية 125) والمثابة هي الملاذ الآمن.
3- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (المائدة : من الآية 95) فحتى الصيد يكون آمنا في الأرض الحرام.(1/31)
4- {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح : 27).
هذا الأمن لا يقدر بأموال الدنيا، فالإنسان الخائف لو خُيٍّرَ بين أن يدفع كل ماله أو يأمن على نفسه وأهله وماله وعياله، فستجود نفسه بكل ما يملك حتى يحصل على هذا الأمان، فإذا كانت القبلة مكاناً وأرضاً وتاريخاً هي رمز هذا الأمان، وهي باعثة هذا الأمان كي يشع نوره كل مكان، لكن الإنسان هو الذي يضاعف الآلام، وينتقص من هذا الأمان عندما يظلم غيره، فيرتد ذلك عليه، حتى القوي الغني إذا ظلم غيره وأنقص من أمنه ،هو في الوقت ذاته ينتقص من أمنه هو لأنه يتوقع الثأر، والانتصار لنفسه، فيبيت ويصحو خائفاً وجِلاً، أما لو سار بين القريب والبعيد بالعدل والقسطاس المستقيم فإن رب الناس يحفظه، وحب الناس يحميه ويضاعف أمنه وأمانه.
وصناعة الأمن في الأسرة والمجتمع والوطن مسئولية كل إنسان أن يؤدي واجبه ، وأن يرعى حقوق وخصوصيات الآخرين، وسيكون هذا الإنسان أول مستفيد من هذا الأمان الذي منحه للغير يعود إليه مضاعفاً من الرحمن.
رابعاً: أن تكون القبلة رمز الوسطية:(1/32)
يتضح بجلاء ارتباط القبلة بالوسطية حيث جاء وصف الأمة بالوسطية مرةً واحدةً في القرآن الكريم في سياق تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وفي هذا يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 142, ومن الآية 143).
هذا العطف في كلمة {وَكَذَلِكَ}، فيه دلالة على أن هذا العداء المستحكم من اليهود والمنافقين يواجه ليس بالغلو بل بالوسطية، لأن هذه خصائص أمة شاهدة على الناس، وذات ريادة للعالم كله.
ويمكن تجلية صور من الوسطية في الإسلام في جوانبه الأساسية، العقيدة، والأخلاق، والتشريع على النحو التالي:
1- الوسطية في العقيدة الإسلامية:(1/33)
(أ) الوحدانية وسط بين نفي الألوهية عند الشيوعيين والدهريين الذين يقولون ما ذكره الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية : من الآية 24), وبين الذين يؤمنون بتعدد الآلهة عند النصارى واليهود، حيث يقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة : 30)، وهاهم الهنود لديهم380 مليون إله الآن يُعبدون من دون الله تعالى، لكن الإسلام بعقيدته الوسطية يقف شامخا بالوحدانية لله تعالى وهي رسالة الإسلام لكل الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء : 25).
ومن الوسطية الإسلامية في العقيدة أنها تقف بين تيارين من الغلو في واقعنا المعاصر هما:
1- الشيوعية التي أعلنت منذ ولادتها في 23/10/1917م حتى الآن (من بقى منها) يعلنون ويؤمنون أنه (لا إله والحياة مادة) والكون لا صانع له، ولا حاجة لنا إلى الله تعالى، وكل ما يؤمنون به هو ما تراه العين أو تلمسه اليد أو يشمه الأنف في طفولية عقلية عجيبة.
2- العلمانية وهي لا تنفي وجود الخالق، بل تؤمن أنه لا حق له في التشريع والأمر والنهي، وهو إله عندهم عاجز مثلما قال أرسطو: (إنه خلق الكون ثم تركه يدار بقوانين الطبيعة)، وهم لذلك يُشرٍّعون من الأحكام ما يخالف جميع الأديان في إباحة الزنا، وإفقار الفقراء، وإنهاك الضعفاء.(1/34)
أما الإسلام فتكتمل فيه عقيدة الإيمان بالله خالقاً وآمراً لقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف : من الآية 54) فالذي خلق له وحده حق الأمر والنهي، وهذا فارق جوهري بين العقيدة الصحيحة والفاسدة حيث روى البيهقي بسنده عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -قال : ( أَتَيْتُ النبِيَ - صلى الله عليه وسلم - و في عُنِقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالْ : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ "اتخَذَوا أحَبَارَهُم و رُهبَانَهُم أَرْبَابَا مِنْ دُون الله" قَال: قُلتُ: يا رَسولَ الله إنهُم لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، قَال: "أَجَل، و لكِن يُحِلُونَ لَهُمْ مَا حَرم الله فَيَسْتَحِلُونَهُ، ويُحَرِمُونَ عَلَيْهِم ما أَحَل الله فَيُحَرِمُونَهُ ، فتِلْكَ عِبَادَتِهِم لَهُمْ"). (سنن البيهقي الكبرى, كتاب آداب القاضي, باب ما يقضي به القاضي و يفتي به المفتي فإنه غير جائز له أن ي.., حديث رقم: 20931).
وهذا الحديث يفسر الآية: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة : 31).(1/35)
هذه قضية جوهرية الآن قبل أي وقت مضى أن يكتمل الإيمان بحق الله تعالى في التشريع والأمر والنهي، وأن يرضخ العبد لربه رضوخ المحب الوجل،الذي يجمع بين الخوف والرجاء، الرغبة والرهبة ، لا ينزل مع الشرع فيما وافق الهوى مثل حق الزوجة في النفقة دون أن تؤمن بحقه في القوامة، أو العكس حق الزوج في الطاعة دون أن يلتزم بالنفقة، والحقوق المقررة على الحاكم والمحكوم والشركاء في التجارة وغيرها، وفي هذا يقول سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء : 65).
نحن إذن نحمل الوسطية في العقيدة بأجلّ وأرقى وأنقى صورة.
لذلك لم يكن غريبا مع المؤمنين - الذين تتعلق قلوبهم بالكعبة - أن يُوجهوا إلى بيت المقدس فيمتثلون، ثم إلى بيت الله الحرام فيطيعون ويستديرون وهم ركوع، هذا بالضبط ما نحتاجه اليوم أن نسمع ونطيع للأمر الرباني والتوجيه النبوي خاصة فيما خالف أمرين:
أ- الهوى المخالف للشرع.
ب- العرف الخاطئ.
وهذا ما يسميه العالم الرباني الشيخ عبد ا لكافي (الطبع والشرع) فإذ ا أطاع الإنسان الشرع مخالفاً الطبع كان مؤمناً حقاً ، وإن أطاع الطبع مخالفاً الشرع كان منافقاً مخادعاً .
2-الأخلاق:
والإسلام يقدم أروع صور الوسطية في الأخلاق ويبدو ذلك فيما يلي:(1/36)
أ- الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فلا يصح أن يكون المؤمن جباناً وجِلاً خائفاً مرتعشاً، ولا أن يكون متهوراً مندفعاً، بل شجاعة قلب في حكمة عقل، ولذا كان يردد أصحاب الحكمة: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول"، وهي حكمة تحتاج إلى وقفة مع النفس المندفعة حتى ولو إلى الخير، وقد التزم سعد بن أبي وقاص والصحابة الأمر بكف الأيدي وإقامة الصلاة حتى أذِن الله بالجهاد في وقته المناسب لكن البلاء الأكبر اليوم هو الضعف والخور والجبن والهلع الذي أصاب الكثير من أبناء المسلمين خوفاً على المال والمنصب، خوفاً على الأهل والولد، و يحمل المسلم على كتمان الحق، وموالاة الباطل، وتقليد الآخرين، واسترضاء أعداء الله والمنافقين، وهذا كله يجافي المكارم الأخلاقية السامية الوسطية وكذا الاقتصاد في الإنفاق وسط التغيير و التبذير، لكن التدبير هو سبيل المؤمنين وعباد الرحمن لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67).
3- التشريع:
توجد وسطية راقية سامية في الأحكام الشرعية حيث لا نجد المادية ولا الرهبانية، ولا نجد القسوة أو التساهل، ومن الأحكام الشرعية الدالة على ذلك ما يلي:
أ: قاعدة الغنم بالغرم، فعلى قدر ما يغنم الإنسان يغرم، فلا يعقل أن يتحمل الأب الإنفاق على ولده صغيراً، ثم يتركه ولده كبيراً يعاني الفقر والمرض والوحشة. ولا يعقل أن تجلس الزوجة في البيت لرعاية الزوج والأولاد ولا تتم لها الكفالة الكاملة، والحماية الكافية ، ولا يعقل أن يفيد الإنسان من وطنه هواءً وغذاءً وماءً، وعلماً ومالاً، وحمايةً وأمناً، ولا يقوم عند شبابه وقوته بحماية وطنه والدفاع عنه والذود عن حياضه أو السعي لمجده ورفعته.(1/37)
ب- الأحكام الشرعية بخصوص المرأة وسط بين التحلل والتحجر، حيث يجيز الإسلام للمرأة أن تخرج وتتعلم وتعمل وتتاجر، وتشارك بالرأي في بناء مجتمعها لكنه ألزمها الحجاب وعدم الخلوة، أو الخضوع بالقول،أو الضرب بالأرجل، وأن تكون الأولوية دائما لرعاية الزوج والأبناء.
ج- الإسلام وسط في التعامل مع غير المسلمين في عدم جواز الاعتداء، أو الاعتزال بل تعامل واعتدال ما دام هؤلاء لم يعتدوا علينا أو يناصروا من يعتدون علينا، وعليه فلا يوجد عندنا ذوبان في التقليد والاتباع، ولا اعتزال وابتعاد عن الناس، بل تعامُل صاحب الرسالة وحامل الأمانة، تعامُل العزيز الأبِيّ، تعامُل الباحث عن الحكمة أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، تعامُل من يحرص على بذل الخير ونفع الغير، تعامُل من سمت روحه عن سفاسف الأمور ودنايا الأخلاق، فيؤثِّر في الناس صمتُه وكلامه، حلمه وغضبه، صبره وكرمه, حلمه وحكمته.
خامساً: أن تكون القبلة رمزاً لتحمل المسئولية نحو مقدساتنا الإسلامية:(1/38)
كانت القبلة إلى بيت المقدس الذي صار في حس ووجدان كل مسلم ( أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى سيد الثقلين) ، وستظل آيات القرآن تحرك في كل مسلم صحيح الإيمان مسئوليته عن المسجد الأقصى أسير الصهاينة المعتدين، وشعب فلسطين المبتلى بهم منذ عشرات السنين، وهم يخططون للاستيلاء، على بقية المقدسات من الحرم النبوي والمسجد الحرام، والنصوص التي أوردتها واضحة البيان، ساطعة البرهان أنهم يسعَون في كل زمان للصد عن المسجد الحرام، سواء كان بالحرب العسكرية أم بالفتن الإعلامية والمادية، وتتنوع طرائق الصد عن المقدسات، واحتلال الأرض وإهانة العرض، وهذا يحتاج إلى حس دائم يتردد في أعماقه ووجدانه آيات القرآن في قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة : 44-45).
وليس الجهاد كله ضرباً بالسنان، بل في الأصل دعوةً باللسان فهو أول ما نزل من القرآن في (سورة الفرقان: 52) حيث قال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}, فليبدأ كلٌ بهذا الجهاد الدعوي في بيان حقائق القرآن وهدي سيد الأنام، وإعداد الأمة لمواجهة الأعداء إذا اعتدوا على الحرمات والمقدسات ، ولا نتركهم حتى يتمكن الأعداء من أرضنا، ويطردوا أصحاب الديار من بلادهم وفي هذا يقول إمام الحرمين الجويني (إذا أقبل أعداء الإسلام إلى أرض الإسلام فقد وجب على أبناء الأمة جميعا جهادهم، و كلٌّ بما يستطيع قبل أن يتمكنوا من أرض الإسلام؛ فإن الدفع أهون من الرفع )، أي دفع المعتدي أول وصوله أهون من رفعه من الأرض بعد تمركزه، وتمكنه، وبناء قواعده، وتدبير خططه.(1/39)
ومن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحساس بالأمانة أقدم ملحقاً في نهاية هذه الدراسة يحدد جانباً من الجوانب العملية لمساندة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض منذ عشرات السنين إلى ظلم وقتل وتشريد وحصار، حتى يَخلُص اليهود الصهاينة إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكل داوود ثم السعي إلى غزو أرض الحرمين بعدها حسب الخطط المستترة والمعلنة.
الخلاصة
1- قبلتنا الأولى (المؤقتة) والثانية (الدائمة) ذات قداسة كبيرة في قلب وعقل ووجدان كل مسلم صادق.
2- باستقراء علميّ وتحليل منهجيّ لآيات القبلة في القرآن والسنة يظهر بوضوح أن القبلتين مهددتين من الأعداء بشكل دائم ؛ مما يوجب حمايتهما عند الاعتداء ، والاستعداد الدائم لحمايتهما.
3- مع أن تحويل القبلة شأن داخليٌّ للمسلمين ، حيث لم يطالب اليهود ولا النصارى ولا المشركون بالتوجه إلى بيت الله الحرام ، لكنه قوبل بشغب وإثارة بالغة على المسلمين . وصلت حد الاعتداء على قدسية الله تعالى.
4- على الطرف الآخر كان موقف المؤمنين رائعاً حيث تحوّلوا إلى القبلة الجديدة وهم ركوع في قدوة نادرة لسرعة امتثال الأمر الرباني.
5- رسمت آيات القبلة خصائص الأمة الرائدة بأنها الموحدة الواحدة، ذات السبق العلمي في كل علم نافع للبشرية كلها، كما أنها صاحبة منهج تربوي تَزكَوي للارتقاء بالأفراد والأسر والمجتمعات والمؤسسات ارتقاءً متوازناً سواء في الجوانب الروحية أو الأخلاقية أو الفكرية أو الجسدية أو الحضارية. والأمة الرائدة أيضا صاحبة صبغة مستقلة ، وسيادة قوية .
6- الأمة الراكدة عقيدتها فاسدة ، وعقولها جامدة ، وقلوبها قاسية، طعامها ليس من فأسها وقرارها ليس من رأسها.(1/40)
7- يجب أن نستصحب الأمل قبل العمل ، في التحول من الأمة الراكدة إلى الأمة الرائدة في أن تكون القبلة فعلاً وليس قولاً رمزاً للتوحيد الصافي، ومهاداً للوحدة والائتلاف بين أهل القبلة جميعا، وأن ننأى عن فكر التكفير، وأن تكون القبلة رمزاً لإشاعة الأمن والأمان لكل أهل القبلة، ورمزاً للوسطية في العقيدة والأخلاق والتشريع، وأن نتحمل مسئوليتنا أفرداً وشعوباً وحكومات عن تحرير وحماية قبلتنا الأولى والثانية.
ملحق البحث
واجب آحاد الأمة نحو إغاثة شعب فلسطين
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، و هدانا للإيمان، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و قائد الغر المحجلين، و على التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
و بعد:
فحديثي عن هذه القضية الضرورية يدور حول محاور ثلاثة:
(1) الواقع المؤلم للشعب الفلسطيني في مواجهة الصلف العالمي.
(2) واجب آحاد الأمة في إغاثتهم.
(3) استراتيجية الاعتماد على النفس.
أولاً: الواقع المؤلم للشعب الفلسطيني في مواجهة الصلف العالمي:(1/41)
لقد قُتل و شُرد في القرن الماضي الملايين من المسلمين دون أن يدري بهم أحد حيث لم تكن توجد فضائيات و لا إنترنت أو إذاعات عالمية، لكن عالم اليوم في إطار ثورة المعلومات لم يعد بالإمكان أن يجرى إذلال و قهر و قتل و تشريد شعب بأكمله دون أن يدري العالم به في جميع الأرجاء و الأنحاء، و من هنا تتضاعف المسئولية عن هذه المعلومات الرهيبة التي صارت بين يديّ كل حر أبيّ، عزيز كريم، و إذا أردنا أن نضع أيدينا على الحقائق فإن الشعب الفلسطيني لم يعتدِ على جيرانه، و لم يطرد أحدا من أرضه، و إنما زُرعت لهم إسرائيل و ساندتها كل القوى العالمية المعادية للإسلام والمسلمين كي تتخلص من شرورهم، و تَبتَلي بهم الشرق الإسلامي عامة و الشعب الفلسطيني خاصة، و صار ثالث الحرمين و أولى القبلتين أسيراً يشكو إلى الله ظلم الصهاينة المعتدين، و ها هي بعض الإحصاءات من مراكز البحوث الأمريكية وليس العربية حول ما جرى منذ الانتفاضة في 29/سبتمبر 2000 حتى الآن (راجع ifamericaknew.com):
قتل 722 طفل فلسطيني في مقابل 121 طفل إسرائيلي.
قتل 3,870 رجل و امرأة فلسطينيون في مقابل 1,084 إسرائيلي.
جرح 29,768 فلسطيني في مقابل 7,633 إسرائيلي.
كانت أمريكا تعطي يوميا للفلسطينيين 233,290 دولارا بينما كانت و لا تزال تعطي للإسرائيليين 15,139,178 دولارا كإعانات اجتماعية غير العسكرية و الاقتصادية.
لا يوجد منذ الانتفاضة الثانية 29/9/2000 حتى الآن سجين إسرائيلي واحد بينما يوجد 9,492 سجين فلسطيني.
لم يُهدم بيت إسرائيلي واحد بينما هُدم 4,170 منزل للفلسطينيين.
البطالة الإسرائيلية 8.9%، أما الفلسطينيون فالبطالة من 24-31% بسبب الإجراءات التعسفية الإسرائيلية.
لم تُبنَ وحدة سكنية جديدة للفلسطينيين حتى 2003 بينما بنيت 65 مستوطنة إسرائيلية من مارس 2001 حتى يوليو 2003.(1/42)
هذه بعض الإحصاءات الأمريكية عن وضع إسرائيل- و هي دولة احتلال – كما هذه أوضاع أصحاب الأرض الأصليين، والواقع على الأرض أمرُّ من أي عرض أو إحصاءات، و صدق الله تعالى إذ يقول: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
و الآن بعد أن أتيحت فرصة لحرية الانتخابات و اختار الفلسطينيون حكومتهم بثقة كاملة تقوم ضغوط هائلة لإفساد العلاقات بين أبناء الشعب الفلسطيني، وإثارة الشقاق والحروب التي لايفيد منها إلا محركوها من الصهاينة ومن وراءهم لإجبار الشعب الفلسطيني و حكوماته على الركوع أو الجوع، أقول إن هذا موقف يوجب على الأمة الإسلامية حكومات و مجتمعات و أفراد أن يقفوا فيه موقف رجل واحد مساندةً و معاضدةً، و تعاوناً على البر و التقوى، و وقوفاً أمام الإثم و العدوان، وزرع الشقاق بين أبناء الشعب الواحد.
ثانياً: واجب آحاد الأمة نحو إغاثة إخوانهم في فلسطين:
من خلال فهم النصوص الشرعية و متابعة الأحداث اليومية على أرض الواقع الفلسطيني و العربي و الإسلامي و العالمي أستطيع أن أقول إن من الواجب الشرعي على المسلمين جميعا أفراداً و منظمات و جماعات و حكومات أن يغيثوا الشعب الفلسطيني، و من الأدلة على ذلك ما يلي:
ورد الأمر بالإنفاق و الحث عليه و ذم الشح و البخل في القرآن الكريم في (133) موضعاً، منها (33) موضعاً من الزكاة في القرآن المكي و المدني، و مائة مرة عن الإنفاق بشكل عام بما يوجب بذل المال (من الزكاة أو غيرها) لكفاية الحاجات العامة و الخاصة، و هو وزن ثقيل في الحث على الإنفاق.(1/43)
أن أكبر مجال للإنفاق في القرآن الكريم هو كفاية المحتاجين حيث ورد الحث على ذلك في (21) موضعا في مصارف الإنفاق، بينما ورد الحث على الإنفاق للجهاد في سبيل الله في (14) موضعا، و أهل فلسطين ينطبق عليهم الأمران معا.
في دراستي عن سلطة ولي الأمر في فرض الوظائف المالية (الضرائب)، (ص 180-221) قدمت أكثر من ثلاثين دليلاً من القرآن و السنة على أن الواجب في المال يتجاوز الزكاة إلى حقوق أخرى تكفي لكفاية جميع الحاجات للمسلمين و لغيرهم ممن يعيشون في ظل دولة الإسلام.
القواعد الشرعية توجب إغاثة إخواننا الفلسطينيين على كل مسلم و من هذه القواعد "الضرر يُزال" و "يُتحمل الضرر الخاص لأجل الضرر العام" و " الضرر الأشد يزال بالأخف" و "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" و "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" و "الحاجي و التحسيني خادم للضروري" و "اختلال الضروري يخل بالحاجي و التحسيني" و "الشريكان في عين مال أو منفعة إذا كانا محتاجين إلى دفع مضرة أو إبقاء منفعة أُجبر أحدهما على موافقة الآخر" ، هذه القواعد الشرعية التي ذكرها السيوطي أو ابن نجيم في الأشباه و النظائر ، أو الشاطبي في الموافقات أو ابن رجب في القواعد الفقهية ، توجب سرعة الإغاثة لإخواننا لأن هناك ضرراً محققا من إخفاق المشروع الإسلامي مما يشيع روح اليأس في الأمة ، إضافة إلى وجوب تتويج جهاد إخواننا في فلسطين بوقفة مالية و معنوية قوية تُعذر الأمة أمام ربها عز وجل .(1/44)
يتفق علماء الأمة في جميع المذاهب الفقهية قاطبة قديما و حديثا على وجوب بذل الفضل لكل مضطر و محتاج و قد حكى القرطبي في تفسيره ( 1/225) اتفاق علماء الأمة على ذلك ، و يستطيع أي مسلم مراجعة ذلك في المذهب الحنفي لدى السرخسي في المبسوط (24-29) أو لدى الكاساني في بدائع الصنائع ( 6/188)، و في المذهب المالكي في الموطأ لمالك ( 171)، ولدى الباجي في المنتقى (6/39)، وفي القواعد لابن مكي ( 2/34)، ولدى الشاطبي في الموافقات ( 1/97) ، و في المذهب الشافعي لدي الجويني في الغياثي فصل المشرفين على الضياع فقرات ( 337-342) ، و الماوردي في الأحكام السلطانية ( 183) ، و النووي في المجموع (9/32) و الشيرازي في مغني المحتاج ( 4/308)، وفي المذهب الحنبلي في الأحكام السلطانية للفراء (220)، و المغني لابن قدامة (8/602) (11/343)، و لدى مذهب الزيدية في شرح الأزهار لابن المرتضى (2/554)، و العجيب أن هناك عبارات صريحة لكثير من هؤلاء الفقهاء أن من حق الجوعى و المرضى و ذوي الحاجات أن يقاتلوا من حرمهم من حقهم في بذل الفضل و إقامة العدل في البذل و قد أشار إلى هذا شيخنا القرضاوي في برنامج "الشريعة والحياة" الذي تبثه قناة الجزيرة في حلقة خاصة أول أبريل 2006 عن حقوق الجياع.…
6- وردت عبارات صريحة لكثير من فقهاء الأمة توجب على آحاد الأمة أن يقوموا بواجبهم نحو ذوي الحاجات من إخوانهم ولو زاد ذلك عن الزكاة ومن ذلك:
أ- ذكر ابن حزم تعليقاً على الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لا يَرحم لا يُرحم, قال : ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعا عريانا فلم يغثه فما رحمه بلا شك). ( المحلى 6 /157 ).(1/45)
ب- ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 3 /316 ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -أنه قال: "لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أُدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بالحيا فعلت، لأن الناس لن يهلكوا على أنصاف بطونهم".
ج- ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية ( 183 ) أن عمر بن الخطاب أغرم قوما دية رجل مات عطشاً لأنه طلب منهم فضل الماء فلم يعطوه حتى هلك.
د- أورد الهندي في كنز العمال رقم ( 15823 )، وابن حزم في المحلى ( 6/158 ) عن علي بن أبي طالب قوله: "إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء قدر ما يسعهم فإن منعوهم حتى يجوعوا أو يجهدوا حاسبهم الله حسابا شديدا وعذبهم عذابا نكرا".
هـ- يقول الجويني في كتابة الغيّاثي ( ف:339 ) : إذا هلك فقير واحد والأغنياء يعلمون به أثموا جميعا، ويقول في موضع آخر: إذا هلك فقير واحد بين ظهراني أغنياء علموا بحاجته أثموا جميعا من عند آخرهم، وكان الله طليبهم وحسيبهم يوم القيامة.
و- أورد ابن تغري في النجوم الزاهرة ( 7/72 )، وابن كثير في البداية والنهاية ( 13/215 ) ما أعلنه العز بن عبد السلام أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على المسلمين قتالهم وجاز أخذ كل ما يعين على جهادهم وأشار إلى وجوب بيع الحوائص الذهبية والآلات الفاخرة لدى الأمراء حتى يقوموا بحاجة المسلمين في الجهاد.(1/46)
ز- هناك اتفاق أيضا بين العلماء المعاصرين على وجوب بذل المال للمحتاجين سواء من الزكاة أو ما فوق الزكاة منهم الشيخ البهي الخولي في كتاب الثروة في ظل الإسلام ( 193 )، ود. عبد السلام العبادي في كتاب الملكية في الشريعة الإسلامية (2/278 )، وأستاذي الدكتور محمد البلتاجي رحمه الله تعالى في كتابه الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي ( 259 )، ود. يوسف إبراهيم يوسف في كتاب النفقات العامة في الإسلام (112 )، وأستاذنا الشيخ القرضاوي في فقه الزكاة ( 2/961 – 992 ).
من هذه الأدلة الكثيرة تتقرر الأحكام التالية :
1- يجب على كل مسلم قادر على بذل الزكاة أن يدفع جزءا منها أو من أصل ماله لإخوانه في فلسطين؛ لما يوجد من أبعاد سياسية و إنسانية في إذلال شعب احتلت أرضه و أرضنا المقدسة، و ديست كرامة الأمة من خلال هذا العدوان و الحصار و التشريد لشعب بأكمله .
لو قام أغنياء الأمة بأداء الزكاة أو بعضها لإنقاذ الوضع الموجود حتى من زكوات السنوات القادمة لكان ذلك إسعافاً جيدا و مستحبا ، و قد أجاز تقديم الزكاة الحسن و سعيد ابن جبير و الزهري و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو عبيد و ذلك لما رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد استلف من العباس صدقة عامين ، و قد ناقش هذه القضية باستفاضة أستاذنا الشيخ القرضاوي في كتاب فقه الزكاة (2/821 -837 ) .
لو استصحبنا فقه زكاة الفطر التي تجب على كل مسلم غنياً أو فقيراً ،كبيراً أو صغيراً ، رجلاً أو امرأة ، فقلنا في هذه الظروف يجب أن يبذل كل مسلم على وجه الأرض شيئا يقيم به حاجة إخوانه الذين حاصرهم أعداء الإسلام بكل سبيل لما كان ذلك بعيداً .(1/47)
إذا كان خمسة من مشركي قريش قد سعوا في نقض صحيفة مقاطعة النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد ( 2/46)، و ابن هشام في السيرة ( 1/35)، ألا يوجد في الأمة المسلمة مثل هؤلاء الخمسة ( هشام بن عمرو ، و المطعم ابن عدي، و أبو البختري بن هشام ، و زمعة بن الأسود ، و زهير بن أمية البختري)؟! ألا يوجد مثلهم من ذوي المروءات من كبار الأغنياء و الوجهاء السياسيين من يسعى لتقطيع و تمزيق هذا الحصار على الشعب الفلسطيني؟!
إذا كانت مروءة العروبة قد دفعت مشركي بني هاشم و بني المطلب أن يقفوا في خندق واحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه في مساندتهم و الدخول معهم في هذه المقاطعة كما أورد البخاري – راجع فتح الباري ( 3/529 ). حتى كان يسمع أصوات النساء و الأطفال و الصبيان يتضاغون من الجوع . ألا يجتمع الصف الفلسطيني المسلم و المسيحي في منظمة فتح و غيرها من المنظمات والجماعات ليكونوا جميعا صفا واحدا أمام تركيع شعب بأسره ؟! و يظهر الشارع الفلسطيني بأسره صفا واحداً تحت شعار واحد (( الجوع لا الركوع )) و سيأتي الله بالفرج إن شاء الله كما حدث في إنهاء المقاطعة الاقتصادية للرسول - صلى الله عليه وسلم - و صحبه ، و جاء بعده مباشرة الفرج و التمكين .
ثالثا: استراتيجية الاعتماد على النفس:
إن الحصار الذي يفرضه النظام العالمي الجديد في وجهه الكالح يوجب على أهل فلسطين خاصة وحكومات الدول العربية والإسلامية عامة أن يكون هناك خطان متوازيان:-
خط إسعافي للواقع الآن في حل مشكلة اليوم في دفع رواتب العاملين والكادحين في الدولة من جميع فصائلهم، وكفاية هذا الشعب.(1/48)
خط وقائي وهو الاستغناء والاعتماد على النفس في اقتصاد طويل المدى، إنتاجي لا استهلاكي فقط، في ضوء النصوص الكثيرة ، ومنها مارواه البخاري بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) (البخاري-1930)، وأن سيادة أية حكومة في العالم تتوقف على الحكمة التي ذكرها الشيخ محمد الشعراوي رحمه الله: "من لم يكن طعامه من فأسه، فلن يكون قراره من رأسه" وأن نرفع الشعار الحر: نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، ونقدم لكل جائع شبكة لا سمكة، وبهذا يكون التحدي قويا، والأمل كبيرا أن ترفع الأمة رأسها أمام صلف المارد الغربي الذي يستذل الكبار والصغار بفتات منتجاته، بل بالفاسد منها التي صارت عبئا عليه في إخفائها، فتُصدّر إلينا لتهلك الحرث والنسل.
والحق أن هذا التحدي صعب لكنه ليس مستحيلا، يحتاج إلى همم الرجال وصبر الأبطال، وكرامة الأبرار، ولنا أن ندرس التجربة الماليزية في النقلة النوعية في الاقتصاد والإنتاج، وأن نسعى إلى سوق إسلامية مشتركة، وأن ندرس المشروع الذي كان يطمح إليه نجم الدين أربكان عندما كان رئيسا لوزراء تركيا في تجميع الطاقات الإنتاجية الإسلامية لصناعة اقتصاد إسلامي حر.
الخلاصة(1/49)
أولاً: احتلت اسرائيل أرض الإسراء والمعراج وقتلت وشردت ملايين الفلسطينيين، وهدمت آلاف البيوت بمساندة قوية من القوى العالمية الغربية بغرض إذلال الأمة وإرهاق دولها حكومات وشعوب، وجميع الإحصاءات العالمية تُقرّ بأن هناك ظلما لاحد له وقع على عاتق هذا الشعب الفلسطيني من هؤلاء المعتدين من الصهاينة الغادرين. وعندما أُتيحت أول فرصة لحرية حقيقية اختار الفلسطينيون حكومة ذات توجه إسلامي أوقف العالم الغربي جميع المعونات وحذّر جميع الأنظمة والمؤسسات المالية والاقتصادية من التعامل معهم، وفجر الصراع البغيض بينهم ، واستجاب له ضعفاؤهم؛ بما يؤكد هذا الانحياز الدائم نحو الصهاينة.
ثانياً: إذا عجزت أكثر الأنظمة العربية والإسلامية عن نصرة إخواننا في فلسطين، وفك الحصار الاقتصادي الذي فرضه أعداء الأمة كما حدث مع حصار المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، فإن آحاد الأمة يجب عليهم وجوبا قطعيا يؤجرون أعظم الأجر بالقيام به، ويؤزرون أعظم الوزر بالتخلي عنه أن يقوموا بكفالة كافية لإخوانهم في فلسطين، وعلى هذا دلت آيات تزيد عن (133) آية ونصوص نبوية صحيحة صريحة في وجوب معاونة كل محتاج، وأقوال مأثورة لعديد من كبار فقهاء الأمة القدامى والمعاصرين، وأنه يجوز تعجيل دفع الزكاة، أو استصحاب فقه زكاة الفطر التي يبذل فيها الفقير والغني، الكبير والصغير، أن يقدم كل مسلم في الأرض شيئا لأهل فلسطين، وأن يسعى الأحرار من المسلمين أو غيرهم في السعي لتمزيق هذا الحصار كما فعل بعض الأحرار من مشركي قريش حين أنهوا المقاطعة الاقتصادية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأن يتوحد الشارع الفلسطيني بجميع أطيافه لمواجهة هذا الإذلال العالمي.(1/50)
ثالثاً: إذا كان من الواجب "المضيق" الإسعاف السريع للمرضى وذوي الحاجات ودفع رواتب الموظفين الكادحين، فإن هناك واجبا "موسعا" طويل المدى وهو السعي إلى اقتصاد إنتاجي حر مع الأخذ بعين الاعتبار دراسة التجربة الماليزية والمشاريع الإسلامية الرامية إلى تحرير الأمة من الاعتماد على غيرها في الأساسيات.
رابعاً: هذا جزء من واجب الأمة العام وهو أن يحلم كل مسلم ويسعى لتحقيق هذا الحلم أن يشارك في تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى سيد الثقلين من الصهاينة المغتصبين فهي مسئولية جميع المسلمين حكاماً ومحكومين.
هذا والله أعلى وأعلم.
صلاح الدين سلطان
الفهرس
مقدمة.
المبحث الأول: تحويل القبلة بين تسليم المؤمنين، وشغب اليهود والمنافقين والمشركين.
أولاً: الحرب على القبلة وأهلها.
ثانياً: سياق الآيات وموقف اليهود والمنافقين والمشركين من تحويل القبلة.
المبحث الثاني: قبلتنا وخصائص الأمة الرائدة والراكدة.
المطلب الأول : خصائص الأمة الرائدة في آيات تحويل القبلة.
أولاً: الأمة الرائدة موحدة واحدة.
ثانياً: الأمة الرائدة أمة صاحبة سبق علمي.
ثالثاً: الأمة الرائدة صاحبة منهج في التزكية.
رابعاً: الأمة الرائدة ذات استقلال.
المطلب الثاني : خصائص الأمة الراكدة.
أولاً : الأمة الراكدة عقيدتها فاسدة.
ثانياً: الأمة الراكدة عقولها جامدة
ثالثاً :الأمة الراكدة قلوبها قاسية.
رابعاً: الأمة الراكدة أمة متفرقة.
المبحث الثالث: قبلتنا وصناعة الأمة من الراكدة إلى الرائدة.
أولاً: أن تكون القبلة رمز التوحيد الصافي.
ثانياً: أن تكون القبلة رمز الوحدة القوية.
ثالثاً: أن تكون القبلة رمز الأمن والأمان.
رابعاً: أن تكون القبلة رمز الوسطية.
1- الوسطية في العقيدة الإسلامية.
2- الأخلاق.
3- التشريع.
خامساً: أن تكون القبلة رمزاً لتحمل المسئولية نحو مقدساتنا الإسلامية.
الخلاصة.
ملحق البحث: واجب آحاد الأمة نحو إغاثة شعب فلسطين.
الفهرس.(1/51)