9) والحكمة نوعان: علمية وعملية، فالعلمية الإطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، والعملية وضع الشيء في موضعه.
10) وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت العبودية، فإذا أقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد.
11) وأصل السكينة هو الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف. فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات، والطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه فالطمأنينة أثر السكينة.
12) المحبة لله هي روح العبودية والأسباب الجالبة لها عشرة:
1- قراءة القرآن بالتدبر.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
3- دوام ذكره على كل حال.
4- إيثاره على محاب النفس عند غلبات الهوى.
5- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومعرفتها.
6- مشاهدة بره ونعمه الظاهرة والباطنة.
7- انكسار القلب بين يديه.
8- الخلوة به وقت النزول الإلهي.
9- مجالسة المحبين الصادقين.(2/349)
10- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله ومراتبها عشر:
1- العلاقة. ... ... 2- الإرادة. ... ... 3- الصبابة.
4- الغرام. ... ... 5- الوداد. ... ... 6- الشغف.
7- العشق. ... ... 8- التتيم. ... ... 9- التعبد.
10- الخلة، ولها آثار وثمرات جليلة جميلة كثيرة: كالشوق والإنس واليقين والرغبة في الطاعة وكراهة المعصية ونحوها.
13) كل من التوحيد والذكر والصلاة وسائر القرب نوعان: خاصي، وهو ما بذل فيه العامل نصحه وقصده، بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك، فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقها ظاهرًا وباطنًا أمر لا يحصيه إلا الله.
14) قاعدة شريفة نافعة: اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه في دينه ودنياه وإلى دفع ما يضره فيهما، فلابد من أمرين أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه، فها هنا أربعة أمور: أمر محبوب مطلوب الوجود، وأمر مكروه مطلوب العدم ووسيلة إلى حصول المطلوب، ووسيلة إلى دفع المكروه. فالله هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، فإن العبادة تتضمن(2/350)
المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه.
15) وهذا مبني على أصلين:
أحدهما: إن نفس الإيمان بالله والتقرب إليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، لا كما يقوله المتكلفون إنه تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب.
الأصل الثاني: كمال النعيم في الدار الآخرة أيضًا برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه، فلذتهم ونعيمهم في حظهم من الخالق أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم عليهما العارفون وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها.
16) قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من أحد جهتين: إما أن تكون طبيعته قاسية غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها وإما أن تكون لينة منقادة سلسة الانقياد لكن غير ثابتة، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله.
17) قاعدة: إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلاء فإن رده إلى ربه وصار سببًا لصلاح دينه فهو علامة سعادته وإرادة الخير بهن ولا بد أن تقلع الشدة وقد عوض عنها أجل عوض، وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه فهو علامة الشقاء وإذا أقلع عنه البلاء رده إلى طبيعته(2/351)
وسلطان شهوته، فبلية هذا وبال، وبلية الأول رحمة وتكميل والله الموفق.
18) قاعدة في الإنابة التي تكرر ذكرها في القرآن أمرًا ومدحًا وترغيبًا وآثارًا جميلة، وهي الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وهي تتضمن المحبة والخشية، والناس في إنابتهم درجات متفاوتة، فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي والحامل عليها الخوف والعلم.
ومنهم المنيب إلى الله في أنواع العبادات، فهو ساع بجهده ومصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب، وهؤلاء أبسط نفوسًا من الأولين وكل منهما منيب بالأمرين، ولكن يغلب الخوف على الأولين والرجاء على الآخرين، ومنهم المنيب إليه بالتضرع والدعاء وكثرة الافتقار وسؤال الحاجات كلها مع قيامهم بالأمر والنهي، ومنهم المنيب إلى الله عند الشدائد فقط إنابة اضطرار لا إنابة اختيار.
وأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة المغنية لهما عما سوى محبوبهم، وحين أنابت إليه لم يتخلف منهم شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وأدت وظائفها كاملة، فساعة من إنابة هذا أعظم من إنابة سنين من غيره وذلك فضل الله.
19) تكليف ما لا يطاق على وجهين. الأول ما لا يطاق للعجز عنه، كتكليف الزمنى المشي، وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك، فهذا غير واقع في الشريعة، والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر، وهذا واقع ولا ينبغي أن يعبر عنه أنه لا يطاق.
20) أهل السنة يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعلن حقيقة الله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء، كما دل على هذين الأصلين نصوص الكتاب والسنة وهو الواقع.(2/352)
21) وفعل العبد حادث ممكن فيدخل في عموم خلق الله للحوادث واتفق أهل السنة أن الله أخص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان، ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنًا كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق، فهذا محمود معظم، وهذا فاسق يقتل في الحل والحرام، وهو سبحانه خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان، وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان.
22) الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة تتعلق بالأمر وإرادة تتعلق بالخلق فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره، وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو، فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، والإرادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية، فالكفر والفسوق والعصيان ليس مرادًا للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة لتلك الإرادة أو موافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة، فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعًا.
23) وكما على العبد أن يؤمن بقدر الله وقضائه فعليه أن يوافق الله في حبه وبغضه، فقضاء الشرور من جهة خلقة الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة، والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب، فنحن ننكرها ونكرهها وننأى عنها، وإذا أرسل الله الكافرين على المسلمين، فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم، وعلينا أن نجتهد في دفعهم(2/353)
وقتالهم، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر.
24) أهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين، وكل ما يبلغونه عن الله من الأمر والنهي فهم مطاعون فيه باتفاق المسلمين، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين، وما أمروهم به ونهوهم عنه فهم مطاعون فيه عند جميع فرق الأمة، والجمهور الذي يجوزون عليهم الصغائر ومن يجوز الكبائر يقولون إنهم لا يقرون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك.
25) القياس نوعان: مذموم إما لفوات شرطه وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه وهو النص الذي يجب تقديمه عليه. وصحيح محمود وهو الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم، ولم يعارضه ما هو أرجح منه.
26) الصديق قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يراد به الكامل في التصديق، وكمال ذلك علم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا وتصديق ذلك تصديقًا كاملاً في العلم والقصد والقول والعمل، وأكمل الناس في هذا الوصف أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
27) فمن تكلم في هذا الباب، أي مدح الصحابة أو القدح فيهم بجهل أو بخلاف ما يعلم كان مستوجبًا للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد الهوى لا لوجه الله أو ليعارض به حقًا آخر لكان أيضًا مستوجبًا للذم والعقاب ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضي الله عنهم واستحقاقهم الجنة، وإنهم خير هذه الأمة التي أُخرجت للناس لم يعارض هذا(2/354)
المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة، منها ما لا يعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه، ومنها ما لا يعلم كيف وقع، ومنها ما يعلم عذر القوم فيه، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال وإلا حصل في جهل ونقض وتناقض كحال هؤلاء الرافضة الضلال.
28) والرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو غير ذلك، فإن العبد إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب، ثلاثة منه وثلاثة من الناس وباقيها من الله: التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين وإهداؤهم له العمل الصالح وشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته.
29) الفرقان والسلطان يكون بالحجة والعلم ويكون بالنصر والتأييد كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] .
30) من أمره الشارع بعبادة وطاعة يفعلها فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها دينًا وإيمانًا وإن لم يكن الآخر عاصيًا ولا معاقبًا، وذلك أن أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الله ومن جهة فعل العبد الواقع منه.
31) فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره، فمن قول الله وقول رسوله يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر(2/355)
وبه يستدل فهذا أصل أهل السنة، وأهل البدع بخلاف ذلك، وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى فإن ما أخبر به الرسول حق ظاهرًا أو باطنًا فلا يناقضه إلا الباطل والضلال.
الوحي وحيان: وحي رحماني وهو إلهام الخير والواردات الموافقة للحق ووحي شيطاني وهي الواردات والأذواق المنافية لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
32) ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير وجماهير العلماء يقولون: إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء ولا هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب محمد متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن، فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية في الدماء والأموال، فكيف بالإعراض كاللعن والتكفير والتفسيق.
33) ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق وقصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده.
34) ويترتب على هذا الأصل أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء المتقين ويصير فتنة لطائفتين. طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره(2/356)
وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان، وكل هذين الطرفين فاسد، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع.
35) فالدين الذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد، فإن الله أمر بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء: 36] .
36) فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر. لا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين.
37) وبين الخالق والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على ذي بصيرة منها أن الرب غني بنفسه عما سواه ويمتنع أن يكون مفتقرًا إلى غيره بوجه من الوجوه، والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية، ومنها أن الرب وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره، فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره. ومنها أن الرب أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه عنه بخلاً عليه، ومنها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب،(2/357)
وهو المنعم بالقدرة والحواس، وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده فلا حول ولا قوة إلا به، ولهذا قال أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43] . وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك. ومنها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم تقم العبادة بشكر القليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضًا. ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته. فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله.
38) وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب السرور ويقوي القلب والبدن وينور القلب والوجه ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد وهو قوت القلب وروحه ويجلو صدأه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويحدث الأنس ويزيل الوحشة ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله. ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويسعد الذاكر ويسعد به جليسه ويؤمن الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب إظلال الله للذاكر وبه تحصل العطايا والثواب المتنوع من الله وهو أيسر العبادات وأفضلها وهو غراس الجنة ويؤمن العبد من نسيان ربه وانفراط أمور العبد ويسير بصاحبه في كل حال من أحواله وهو نور للعبد في دنياه وقبره ويوم حشره وبه تخرج أعمال العبد وأقواله ولها نور وهو رأس الولاية وطريقها ويزيل خلة القلب ويفرق غمومه وهمومه وينبه القلب من نومه ويثمر المعارف والأحوال الجليلة والذاكر قريب من مذكوره والله معه.(2/358)
وأكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطبًا من ذكر الله ويزيل قسوة القلب وما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكره ويوجب صلاة الله وملائكته على الذاكر ومجالس الذكر مجالس الملائكة ورياض الجنة وجميع الأعمال إنما شرعت لإقامة ذكر الله. وأفضل كل عامل أكثرهم لله ذكرًا وإدامة الذكر تنوب مناب كثير من الطاعات البدنية والمالية والمركبة منهما وهو يعين على طاعة الله ويسهل كل صعب وييسر الأمور ويعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه والذاكرون أسبق العمال وهو سد بين العبد وبين نار جهنم وتستغفر الملائكة للذاكر وتتباهى الجبال وبقاع الأرض بمن يذكر الله عليها وتشهد له، والذكر أمان من النفاق، ويدخل في ذكر الله ذكر أسمائه وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه عما لا يليق به، والخبر عن أحكام ذلك وذكر أمره ونهيه، ويكون الذكر بالقلب واللسان وهو الأكمل ثم القلب وحده ثم اللسان وحده.
39) وأفضل أنواع الذكر القرآن، ثم الذكر والثناء على الله، ثم أنواع الأدعية.
40) وأسماء الله تتضمن صفاته ليست أعلامًا محضة وهو مستحق للكمال المطلق لأنه واجب الوجود بنفسه يمتنع العدم عليه ويمتنع أن يكون مفتقرًا إلى غيره بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه لكان مفتقرًا إلى ذلك الغير، والحاجة إما إلى حصول كمال له وإما إلى دفع ما ينقص كماله، ومن أحتاج في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودًا بنفسه بل بذلك الغير، وهو بدون ذلك الكمال ناقص، والناقص لا يكون واجبًا بنفسه بل ممكنًا مفتقرًا إلى غيره.
41) فأي شيء اعتبرته من العالم وجدته مفتقرًا إلى شيء آخر من(2/359)
العالم، فيدلك ذلك مع كونه ممكنًا مفتقرًا ليس بواجب بنفسه إلى أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر حتى ينتهي الأمر إلى الرب الخالق لكل شيء، ويمتنع أن يكون للعالم فاعلان مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر كما قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] . ويمتنع أن يكونا مستقلين، لأنه جمع بين النقيضين، ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين كما يوجد ذلك في المخلوقين لاستلزام ذلك العجز والحاجة إلى الآخر.
45) وهو تعالى مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة، والقسمان الأخيران باطلان فوجب الأول، فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال، بل هذه المساواة هي من النقص أيضًا، وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فلو قدر أنه ماثل شيئًا في شيء من الأشياء للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع على ذلك الشيء وكل ما سواه ممكن قابل للعدم، بل معدوم مفتقر إلى فاعل، وهو مصنوع مربوب محدث، فلو ماثله لزم اشتراكهما في هذه الأمور، وقد تبين أن كماله من لوازم ذاته لا يمكن أن يكون مفتقرًا فيه إلى غيره، فضلاً عن أن يكون ممكنًا أو مصنوعًا أو محدثًا.
46) وأما المخالفون للرسل من المشركين والصابئة ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، فطريقتهم نفي مفصل وإثبات مجمل ينفون صفات الكمال ويثبتون مالا يوجد إلا في الخيال، فيقولون ليس بكذا ولا بكذا إلى آخر ما يقولون.(2/360)
47) والله سبحانه ضرب الأمثال في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراه في مرآة وتمثل له أعماله بأعمال غيره، ولهذا ضرب الملكان المثل لداود، وضرب الأمثال مما يظهر به الحال، وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده.
48) العبد كماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته، فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل، وصدور ما يحوجه إلى التوبة والاستغفار مما يزيده عبودية وفقرًا وتواضعًا.
49) ومن أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في الأسماء التي علق الله ورسوله عليها المدح والذم، فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين.
50) فعل الحسنات له آثار محمودة في النفس وفي الخارج، وكذلك السيئات، والله تعالى جعل الحسنات سببًا لهذا والسيئات سببًا لهذا، كما جعل أكل السم سببًا للمرض والموت، وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يمحى بها السيئات، والمصاب في الدنيا تكفر بها السيئات.
51) ومن العلوم علوم لو علمها كثير من الناس لضرهم ذلك، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليس إطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكمة الله في كل شيء نافعًا لهم، بل قد يكون ضارًا قال تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] .
52) والاحتجاج بالقدر حجة داحضة باطلة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العاملين، والمحتج به لا يقبل من غيره هذه الحجة إذا احتج به في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ما له عليه(2/361)
ويعاقبه على عدوانه عليه، وإنما هو من جنس شبه "السوفسطائية" التي تعرض في العلوم، ولا يحتج به أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورًا به لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متبعًا لهواه بغير علم احتج بالقدر.
فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبين للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح، فهم شر الناس.
53) تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، فهذا العمل الكامل يكفر تكفيرًا كاملا والناقص بحسبه.
54) المقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكرًا لله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.
الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله. فهذا عمله مقبول ومثاب عليه بحسبه.
55) وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضى الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب السرور ويقوي القلب والبدن وينور القلوب.
56) ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة(2/362)
النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولهذا قال الفقهاء الأسماء ثلاثة أنواع نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر. ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنه ثبت عندهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم.
57) فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فلهذا لم يكن فيهم من يعارض النصوص بمعقوله ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة، وهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة وأهل النفاق والبدعة فإنهم يخالفون هذا الأصل كل المخالفة.
58) فلما طال الزمان خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرًا لهم، ودق على كثير من الناس ما كان جليًا لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف، وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر الله لهم خطاياهم ويثيبهم على اجتهادهم، وقد يكون لهم من الحسنات(2/363)
ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلاً يعملون في ذلك الزمان لأنهم يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك، لكن تضعيف الأجر في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته، وتظهر كلمته، وتكثر أعوانه وأنصاره، وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقى يحصل مثله لأحد.
59) جمهور مسائل الفقه التي يحتاج الناس إليها ويفتون بها ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه، وهذا موجود في سائر العلوم.
60) العلم ما جاء به الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة، وأما الأمور الإلهية فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها وأرغبهم في تعريف الخلق بها وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، وغير الرسول لا يقاربه. في شيء من ذلك، وبيان الرسول على وجهين، تارة يبين الأدلة العقلية الدالة عليها والقرآن مملوء من ذلك وتارة يخبر بها خبرًا مجردًا.
61) دل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. والحبوط نوعان: عام وخاص فالعام(2/364)
حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة، والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي.
62) وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو حاجة للمسلمين والمقتصدين قد يستعملونها في المباحات، وأما من استعان بها على المعاصي فهو ظالم لنفسه متعدٍ حدَّ ربه وإن كان سببها الإيمان والتقوى.
63) فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو حابط باطل لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لأن ما لم يرد به وجهه، إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا دون الآخرة فالأول ظاهر والثاني قد يحصل للإنسان في الدنيا لذات وسرور، وقد يُجزى بأعماله في الدنيا لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها أو تفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضًا فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة ما.
64) والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وإرسال الرسل وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه.
65) ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان، وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص والإثبات لكل كمال وإنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله وإنه إذا كان كاملاً بذاته وصفاته(2/365)
وأفعاله، لم يكن كاملاً بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا يحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95] .
66) يجب أن يعلم أن الكمال ثابت لله بل الثابت له أقصى ما يمكن من الأكملية بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة وثبوث ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك.
67) ودلالة القرآن على الأمور نوعان:
أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها. وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل.
وثبوت معنى الكمال لله قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على(2/366)
معاني متضمنة لهذا المعنى فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك دال على هذا المعنى وقد ثبت لفظ الكامل في تفسير ابن عباس للصمد، أن الصمد المستحق للكمال وهو السيد الذي كمل في سؤدده والعليم الذي كمل في علمه والعظيم الذي قد كمل في عظمته، وهكذا سائر أسمائه الحسنى على هذا المنوال، وهذا المعنى هو المستقر في فطر الناس، فكما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأكمل من كل شيء.
68) ومن ثبوت الكمال لله بالعقل أنه قد ثبت وجوب وجوده وقيوميته وقدمه وسائر أوصافه وأن له المثل الأعلى، وبيان نقص ما عبد من دونه من المخلوقات وتفضيل حمده الذي يستحقه من صفات كماله وحمده الذي فيه الإحسان المتنوع على خلقه وعلى كمال حكمته وسعة علمه ورحمته وبيان كمال ألوهيته واستحقاقه الجلال والإكرام فله صفات الجلال والعظمة ويستحق من عباده أن يكون مألوهًا معظمًا أعظم من كل شيء وأحب إليهم من كل شيء تبارك وتعالى.
69) وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه ذلك ثم كلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .
70) والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء الدين فما دام هذا وصفهم فقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الخالصة هن العسكر الذي لا يغلب(2/367)
والجند الذي لا يخذل، فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا بذلك بما قاموا به من الدين، وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله وكبته.
71) جعل الدين قسمين: أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وكل مجتهد لا يأثم عند عامة الأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم، والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطًا يعتمد عليه.
72) والسلف لم يذموا جنس الكلام فإن كل آدمي يتكلم ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به ورسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل.
73) الطرق الباطلة توصل إلى الجهل والضلال لمن اعتقد صحتها، وإلى الحيرة والشك لمن تبين له تناقضها من حذاق أهلها، وإلى اليقين لمن عرف الحق وسلكه بالطرق الصحيحة فإنه بمعرفته الباطل يزداد بصيرة بالحق، وبضدها تتبين الأشياء.
74) من ضيع الأصول حرم الوصول، والأصول إتباع ما جاء به الرسول.
75) والدليل يدل ويقوم على أن كلام الله صفة ذات وصفة فعل، صفة ذات يقوم بذات الرب والله متصف به، وصفة فعل يتكلم بمشيئته(2/368)
وقدرته متى شاء وحيث شاء أزلا وأبدًا.
76) الفرق بين الرجاء وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، فالأول كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها، والثاني كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع، فمن عمل بطاعة الله ورجا ثوابه أو تاب من الذنوب ورجا مغفرته فهو الراجي، ومن رجا الرحمة والمغفرة بلا طاعة ولا توبة فهو متمني ورجاؤه كاذب، وللسالك إلى ربه نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف، ونظر إلى سعة رحمة الله وفضله العام والخاص به يفتح عليه باب الرجا، وقال شيخ الإسلام: الخوف المحمود ما حجز العبد عن محارم الله.
77) ومراتب العلم والعمل ثلاثة: رواية وهي مجرد النقل وحمل المروى، ودراية وهي فهمه وتعقل معناه، ورعاية وهي العمل بموجب ما علمه.
78) مراقبة الرب علم العبد وتيقنه بإطلاع الحق على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة ونفس وكل طرفة.
79) المعترضون على الله ثلاثة أقسام، معترضون على أسمائه وصفاته، ومعترضون على شرعه ودينه، ومعترضون على قضائه وقدره، ولا يتم للعبد دين وإيمان إلا بترك هذا الاعتراض والتسليم لحكمه الديني والقدري.
80) تعظيم حرمات الله ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن، فتعظيمها توفيتها حقها وحفظها عن الإضاعة.
81) حقيقة الإخلاص توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق توحيد الطلب(2/369)
والإرداء ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة، فهذه الأركان الثلاثة هي أصول الطريق التي من لم يبن عليها سيره، فهو مقطوع، ومن اجتمعت له فهو السابق الذي لا يجارى، وذلك فضل الله.
82) المطلوب من العبد الاستقامة على عبودية الله، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة.
83) ولا يتم التوكل الكامل إلا بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وإثبات الأسباب والاجتهاد فيها، وقوة الاعتماد على الله والاستناد إليه والسكون، بحيث لا يبقى القلب مضطربًا من تشويش الأسباب، ولا بد من حسن الظن والثقة بالله في نيل ما توكل العبد على الله فيه، والتفويض إلى الله واستسلام القلب له، ويتوكل على الله في كل مطلوب حصوله أو دفع مكروه، وأفضل التوكل ما كان في حصول خير ديني خاص أو عام.
84) الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر على معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأول صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه، وصبر الاختيار أكمل من صبر الاضطرار، وتمام الصبر أن يكون كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] . وأقواه أن يكون بالله معتمدًا فيه عليه لا على نفسه ولا على غيره من الخلق.
سمعت شيخ الإسلام يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
85) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً» ، وقال: «من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا غفرت له ذنوبه» . وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنها الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته،(2/370)
والرضا برسوله والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له فهو الصديق حقًا.
86) من أراد أن يحصل له الرضا عن الله الذي هو من أفضل الدرجات فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا.
87) والله تعالى أخبر أنه ينصر رسله في الحياة الدنيا وفي الآخرة والله سبحانه يجزي الإنسان من جنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه وأرى عباده ذلك عيانًا، وإذا ظهرت البدع التي تخالف الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لرسله.
88) والإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبب لخير الدنيا والآخرة وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة.
89) التوحيد وتصديق الرسل جماع الإيمان، والشرك وتكذيب الرسل جماع الكفر.
90) فمن دفع النصوص التي يحتج بها غيره لم يؤمن بها بل آمن بما يحتج هو به صار ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
91) وإذا ترك الناس بعض ما أنزل الله وقعت بينهم العداوة والبغضاء إذ لم يبق هنا جامع يشتركون فيه، بل تقطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.
92) ودين الأنبياء كلهم الإسلام وهو الاستسلام لله وحده، وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، وكل مبتدع خالف سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلا أو منسوخًا.
انتهى ما اخترناه مما جمعه شيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي من كُتب شيخ الإسلام رحمهما الله وصلى الله على محمد وآله وسلم(2/371)
فوائد ومواعظ وحكم وأحكام
قال بعض العلماء:-
(1) أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيراً لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه.
(2) لا تستغرب وقوع الأكدار، ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها.
(3) لا يكن تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريده، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .
(4) إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ من رعونات النفس.
(5) لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.
(6) من علامات موت القلب، عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات، وترك الندم على ما فعلته من المعاصي والزلات.
(7) لا تترك ذكر الله لعدم حضور قلبك لمعاني الذكر، لأن غفلتك عن وجود ذكر الله أشد من غفلتك مع وجود ذكره وأسأله أن يوقظ قلبك(2/372)
ويوفقك لحضوره، وفهم ما تلفظ من ذكره.
(8) لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله وتوقعك في القنوط من رحمته فإن من عرف ربه وكرمه وجوده استصغر في جنب كرمه وعفوه ذنبه. وقال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53] .
(9) لا صغيرة إذا قابلك عدله ولا كبيرة إذا واجهك جوده وكرمه وفضله. وبعبارة أخرى لا كبيرة مع التوبة والندم والاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وعدم التوبة والاستغفار.
(10) من لم يشكر الله على ما تفضل به من النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها ووعد بالمزيد.
(11) خَفْ من وجود إحسان الله إليك مع وجود إساءتك معه، أن يكون ذالك استدراجًا. قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] .
(12) الرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه.
(13) متى أعطاك فقد أشهدك بره وإحسانه، ومتى منعك أشهدك حكمته وقهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك.
(14) نعمتان ما خرج موجود عنهما، ولا بد بكل مكون منهما، نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد أنعم عليك أولاً بالإيجاد وثانيًا بتوالي الإمداد.
(15) خير أوقاتك وقت تعمل فيه بطاعة الله وتشهد فيه وجود فاقتك(2/373)
إلى رضا الله وعفوه وإحسانه.
(16) لا تطالب بتأخر مطلبك، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك، فهل أديت الواجبات وتركت المحرمات.
(17) لا يخاف عليك من التباس الطرق، وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى والنفس والشيطان والدنيا.
(18) الغافل إذا أصبح ينظر في أمور دنياه ماذا يفعل، والعاقل الموفق ينظر ماذا أوجب الله عليه فيعمله، ويحفظ وقته من الضياع فيما لا يعود إلى أمور الآخرة، وما يحتاج إليه في دنياه.
(19) الستر على قسمين ستر عن المعصية وستر فيها، فالعامة يطلبون من الله الستر فيها خشية سقوط مرتبتهم عند الخلق، والخاصة يطلبون من الله الستر عنها خشية سقوطهم من نظر الله.
(20) الناس الذي يمدحونك إما كذب وإما لما يظنونه فيك فكن ذامًا لنفسك لما تعلمه منها. قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] . وقال {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] .
(21) المؤمن العاقل الموفق إذا مدح استحيا من الله أن يثنى عليه بوصف لا يعلمه من نفسه.
(22) من أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس. إذا وقع منك ذنب فلا يكن سببًا ليأسك من حصول الاستقامة فقد يكون ذلك آخر ذنب قدر عليك.
(23) حظ النفس في المعصية ظاهر جلي وحظها في الطاعة باطن(2/374)
خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه.
(24) استشرافك أن يعلم الخلق بأعمالك دليل على عدم صدقك في عبوديتك وأنك عندك رياء فانتبه من عرف الله حقيقة ورأى نعمه عليه - وإن نعمه جل وعلا لا تحصى - ولا تعد أحبه ولم يؤثر عليه شيئًا.
(25) إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقًا.
(26) من علامات إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء المسارعة إلى النوافل والتكاسل عن القيام بالواجبات.
(27) من لم يعرف النعم بوجدانها عرفها بوجود فقدانها.
(28) لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرها فإن ذلك مما يحط من وجود قدرك.
(29) تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال.
(30) لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
(31) لا تستبطئ من النوال ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال.
(32) ما فات من عمرك لا عوض له وما حصل لك منه لا قيمة له.
(33) الرب جل وعلا لا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك وإنما أمرك بهذه ونهاك عن هذه لما يعود عليك.
(34) الرب جل وعلا لا يزيد في عزه إقبال من أقبل عليه ولا ينقص من عزه إذبار من أدبر عنه.(2/375)
(35) من تمام النعمة عليك أن يرزقك الله ما يكفيك ويمنعك ما يطغيك.
(36) إن أردت ألا تعزل فلا تتولى ولاية لا تدوم لك.
(37) خير العلم ما كانت خشية الله معه.
(38) إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] .
(39) من أثبت لنفسه تواضعًا فهو متكبر إذ ليس التواضع إلا عن رفعة.
(40) ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع ولكن المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع.
(41) المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرًا وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا.
(42) الآيات القرآنية التي يفهم منها بعض الناس التعارض يجب حمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام.
من ذلك الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون في يوم القيامة، وفي بعض الآيات أنهم ينطقون ويحاجون ويعتذرون، ثم إذا ختم على أفواههم، تكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ثم يخرسوا فلم ينطقوا قال الله جل وعلا: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] .
(43) ومن ذلك أن الله جل وعلا أخبر أنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم(2/376)
يوم القيامة، وأثبت الكلام لهم معه، فالنفي المراد به الكلام الذي يسرهم، وكذلك النظر والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع، فالنفي يدل على أن الله ساخط عليهم، والإثبات يوضح أحوالهم ويبين للعباد كمال عدل الله بهم إذ هو يضع العقوبة موضعها.
(44) ونظير ذلك أنه في بعض الآيات أخبر أنه لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وفي بعض الآيات أنه جل وعلا يسألهم، قال تعالى: {ماذا كنتم تعبدون} وقال تعالى: {ماذا أجبتم المرسلين} [فالسؤال المنفي سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة، فإنه لا حاجة إلى سؤالهم مع كمال علم الله وإطلاعه قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] . والسؤال المثبت واقع على تقريرهم بأعمالهم وتوبيخهم وبيان أن الله حكم فيهم بعدله وحكمته.
(45) ومن ذلك الإخبار أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة وفي آيات أخرى أثبت لهم ذلك فالمثبت هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس كقوله {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34 - 35] . والمنفي هو الانتفاع بها فإن الكفار يدعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة فأخبر تعالى أن لا ينفع مال ولا بنون {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] .
(46) ومن ذلك الشفاعة فإنه أثبتها في عدة مواضع ونفاها في مواضع من القرآن وقيدها في بعض المواضع بإذن ولمن ارتضى من خلقه فتعين حمل المطلق على المقيد وأنها حيث نفيت فهي الشفاعة التي بغير إذنه ولغير من رضي الله قوله وعمله وحيث أثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه لمن رضي الله عنه وأذن فيه.(2/377)
(47) ومن ذلك أن الله جل وعلا أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين والفاسقين والظالمين وفي آيات أخرى أنه يهديهم ويوفقهم فتعين حمل المنفيات على من حقت عليه كلمة الله. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97] . وحمل المثبتات على من لم تحق عليهم الكلمة وإنما حقت عليهم كلمة الله بالعذاب والطرد والإبعاد على من ارتكسوا في حمأة التقليد وغرقوا في بحر الغفلة وأبوا أن يستجيبوا لداعي آيات الله الكونية والعلمية. قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] . {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] . وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
(48) ومن ذلك الإخبار في بعض الآيات أنه العلي الأعلى. قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15] . وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:: 18] .
وفي آيات أخرى أخبر أنه مع العبد.
قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] . وقال: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . فعلوه سبحانه أمر ثابت له وهو من لوازم ذاته ودنوه ومعيته لعباده لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد فهو سبحانه على عرشه عليٌ على خلقه ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم ولا منافاة بين الأمرين لأن الله جل وعلا: ليس كمثله شيء في جميع نعوته وما يتوهم(2/378)
بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين قال ابن القيم رحمه الله:
وَلَهُ العُلو من الوُجُوه جَمِيعَهَا ... ذاتًا وَقَدرًا مَعْ عُلُو الشَّانِ
والمعية تنقسم قسمين: عامة تأتي في سياق التخويف والتحذير والتراغيب والترهيب وتقدمت الآيات للعامة والخاصة والمعية الخاصة بالمحسنين والمتقين والصابرين والصادقين ونحوهم وهذه تتضمن محبتهم وتوفيقهم وكلاءتهم وإعانتهم فحيث وقعت في سياق التحذير والتخويف والترهيب فهي من النوع الأول.
(49) ومن ذلك النهي في كثير من الآيات عن موالات الكفار وعن موادتهم وفي بعض الآيات الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم ومصاحبته بالمعروف كالوالدين والجار ونحوهم فالآيات العامة من الطرفين قد وضحها الله في قوله {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] . فالنهي واقع على التولي والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة والجيرة، ومن ذلك أنه أخبر أنه خلق الأرض ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وفي آية أخرى لما أخبر عن خلق السموات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها، فهذه الآية تفسر المراد وأن خلق الأرض متقدم على السموات ثم بعد خلق السموات دحا الأرض فأودع فيها جميع المصالح التي يحتاج إليها سكانها.
(50) ومن ذلك أنه تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم وأخبر تارة بتعلق(2/379)
علمه ببعض أعمال العباد وبعض أحوالهم وهذا الأخير فيه زيادة معنى وهو يدل على المجازات على ذلك العمل سواء كان خيرًا أو شرًا فيتضمن مع إحاطة علمه الترغيب والترهيب.
(51) مبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه. وأما الشكر فهو القيام بطاعته فذكره جل وعلا مستلزم لمعرفته وشكره متضمن لطاعته وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس.
قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم.
(52) لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقار إليه وإخلاص العمل له.
(53) أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك، والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك، وغاية القوة الغضبية القتل، وغاية القوة الشهوانية الزنا، ولهذا جمع الله الثلاثة في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .(2/380)
(54) هجر القرآن أنواع، هجر سماعه والإيمان به وهجر العمل به وهجر تحكيمة وهجر تدبره وهجر الاستشفاء به في أمراض القلوب والأبدان وكل هذا داخل في قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] .
(55) للقلب ستة مواطن يجول فيها ثلاثة سافلة دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له وثلاثة عالية، علم يبين له، وعقل يرشده ورب يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
(56) إنما يجد المشقة في ترك المألوفات من تركها لغير الله فأما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على ترك المشقة استحالت لذة، من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، والعوض أنواع مختلفة وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه.
(57) العبد يترقى من معرفة أفعال الله إلى الصفات ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات فإذا شاهد شيئًا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال ولهذا كان له الحمد كله من جميع الوجوه.
(58) أنفع الناس لك من نفعك في دينك وحذرك من قطع وقتك في غير طاعة الله.(2/381)
(59) للعبد موقفان بين يدي الله موقف بين يديه في الصلاة وموقف بين يديه يوم لقائه فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف.
(60) العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها ولكن يأمرهم بأن لا يصرفوا كل أوقاتهم في طلبها، ويجعلوا جل أوقاتهم للآخرة فيما يقربهم إلى الله ويأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على ما يحصل لهم به الكفاف من طلب المعاش، فإن صعب عليهم ترك الذنوب فليجتهد في أن يحبب إليهم ربهم الذي رباهم وربى جميع العالمين بنعمه، ويذكرهم بآلائه وصفات كماله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإقلال منها.
(61) الإيمان له ظاهر وباطن فظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.
(62) جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وجمع - صلى الله عليه وسلم - بين الاستعاذة من المأثم والمغرم، لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب(2/382)
خسارة الدنيا وجمع - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «فاتقوا الله وأجملوا الطلب» بين مصالح الدنيا والآخرة، فإن من اتقى الله أدرك نعيم الآخرة، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها.
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك في الاعتقادات والإرادات فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل اعتقادًا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع كما أن اللسان إذا اشتغل بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا أفرغ لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكنها شغلها بالطاعة إلا إذا أفرغها من ضدها. انتهى.(2/383)
"مواعظ وفوائد"
ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برك وعن ذكر من أمرك بذكره.
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وقال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وما كرهت أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم.
وقال بعضهم يوصي ابنه: إنه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر.
ومن دخل مداخل السوء اتُهم، يا بني قل الحق لك أو عليك، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار انتهى عن الشهوات ومن تيقن بالموت انهدمت عليه اللذات ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات.
وقال: بديل العقيلي من أراد بعمله وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله عز وجل صرف الله عز وجل عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه.
وقال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله عز وجل أقبل الله عز وجل إليه بقلوب المؤمنين.(2/384)
نصائح وفوائد وحكم وقواعد ومواعظ وأحكام
7- بادر بالعمل الصالح الذي يرضي الله مهما أمكنك فإن الأجل يأتي بغتة، فكن على أهبة الاستعداد له.
8- تلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتفهمهما، ومطالعة كتب السلف وسيرتهم منفعة في الدنيا والآخرة ومسلاة عن الهموم والأحزان والمنغصات والمكدرات.
9- العطف والتودد إلى عباد الله المستقيمين على اتباع الكتب والسنة من علامات رجاحة العقل.
10- أمسك لسانك عن ما يضرك يسلم بدنك وجنانك وأشغله بتلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
11- إن قدرت أن لا تسمع أذنك إلا ما ينفعك في الدنيا والآخرة من كلام الله وكلام رسوله أو ما هو مستمد منهما فلا تدخر واجتهد في ذلك.
اجعل جليسك قرآنًا تَفْهَمَهُ ... وَمَا أَتَى عن رسول الله من كَلِم
واتْرُكْ مَجَالِِسَ قَوْم لَيْسَ عِندهُم ... سِوَى المآثِمِ مِنْ قولٍ وَمِن كَلِمِ
قال بعض العلماء على سبيل النصح والإرشاد: يا هذا إنما خلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها ولتعبرها لا لتعمرها فاقتل هواك المائل إليها ولا تعول عليها واعلم أن الدنيا مزرعة النوائب ومشرعة المصائب ومفرقة المجامع ومجرية المدامع.
نَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشِرٍ ...(2/385)
جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَم يَتَفَرَّقُوا
أين الأَكَاسِرَةُ الجَبَابِرةُ الأَوْلى ... كَنَزوا الكنُوزَ فَمَا بَقينَ وَلا بَقُوا
مِنْ كُل مَن ضَاقََ الفضاءُ بِجَيشِهِ ... حَتَّى ثوى فَحواهُ لِحْدٌ ضَيِّقُ
خُرُسٌ إذَا نُودُوْا كَأَنْ لَم يَفْهَمُوا ... أَنَّ الكلامَ لَهُم حَلالٌ مُطْلَقُ
فَالموتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفََائِسٌ ... وَالمُسْتَغِر بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
وقال بعض العلماء من تفرد بالعلم لم توحشه الخلوة ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة وإن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.
والحكمة موقظة للقلوب من سنة الغفلة ومنقذة للبصائر من سنة الحيرة ومحيية لها بإذن الله من موت الجهالة ومستخرجة لها من ضيق الضلالة لمن وفقه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد.
12- روضة العلم النافع وهو ما جاء من الكتاب والسنة أحسن روضة وأنفع روضة وأرفع روضة.
13- الفكر في المعاد ينسي أمور العباد ويحث على الاستعداد والتأهب ليوم المعاد فعليك به.
14- حسن التدبير مع الكفاف خير من التبذير مع اليسار، قال الله جل وعلا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29] . وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] . وقال جل وعلا وتقدس: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] .
بَيْنَ تَبْذيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ ...(2/386)
وَكِلا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ
15- أشرف الأوقات التي يعمرها الإنسان ما تقضي بطاعة الله، ومن أراد حفظ أوقات عمره فليجعل كلامه ذكرًا وصمته تفكرًا ونظره عبرة وعمله برًا وذهابه وإيابه فيما يرضي الله.
16- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبا، من عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه وعرف الدنيا فرفضها وعرف الآخرة فطلبها، لما عرف القوم قدر الحياة أما توافيها الهوى فعاشوا فانتهبوا بأكف الجد ما نثر في زمن البطالة.
وَرَكبٌ سَرَوا وَالليل مُلقِ رُوَاقُه ... عَلََى كُلِّ مُغْبَرِ الطَّوالعِ قَاتِمُ
حَدَوا عَزَماتٍ ضَاقَت الأَرضُ بَيْنها ... فَصَارَ سُرَاهُم في ظُهُورَ العَزَائمِ
تُرِيْهم نُجُومُ اللَّيلِ مَا يَبْتَغُونَهُ ... عَلَى عَاتِقِ الشِّعْرى وَهَامِ النَّعَائِمِ
إِذَا طَردُوُا في مَعْرك الجَدِّ قَصَّفُوا ... رِمَاحَ العَطَايا في صُدُورِ المَكَارِمِ
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
17- قال بعضهم بعظ أخاه في الله ويخوفه في الله فقال: يا أخي إن(2/387)
الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة عمرانها إلى خراب صائر وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك في الدنيا فيء زائل وجدار مائل فأكثر من عملك واقلل من أملك. وأكثر من ذكر الله والاستغفار.
18- وقال آخر: العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه واستعد للموت قبل أن يصله. وأكثر من ذكر الله وحمده وشكره.
19- وقال لقمان لابنه يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعدت منها.
20- وقال آخر: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئًا فليصبر على معاشرة الكلاب ونحوها.
وقال الشافعي:
وَمَا هي إلا جيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَليها كِلابٌ هَمُّهنَّ إِجِتِذابُها
آخر:
أيها المُغْتَرُ بِالدُّنْيَا كَم خَدعَتْ ... مَا وَاصَل وَصْلِها مُحبٌّ إِلا قطَّّعت
يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الغَرُوْر اغْتِرارًا ... رَاكِبًا في طِلابِهَا الأَخْطَارَا
يَبْتغي وَصْلَهَا فَتَأبَى عَلِيهِ ... وَترى أُنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا
خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الوصَالَ لَدَيهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزَلْ تُسِيء الجِوَارَا
كَم مُحِب أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَّمَا ... حَاوَلَ الزَّوْر صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا
شِيْبَ حُلْوُ اللَّذَاتِ مِنْهَا بِمُرِّ ...(2/388)
إِنْ حَلَتْ مَرَّةٌ أَمَرَّتْ مِرَارًا
فِي اكْتِسَابِ الحَلالِ مِنْهَا حِسَابٌ ... وَاكْتِسَابِ الحرامِ يُصْلي النَّارَا
وَلِبَاغِي الأَوْطَارِ مِنْهَا عَناءٌ ... سَوْفَ يَقْضِي وَمَا قَضَى الأَوْطَارَا
كُلُّ لَذَّاتِهَا مُنَغَصَةُ العَيْشِ ... وَأَرْبَاحُهَا تَعُودُ خُسَارَا
وَلَيالي الهُمُومِ فِيْهَا طِوَالٌ ... وَلَيَالِي السُّرُورِ تمضي قِصَارَا
وَكَفَى أَنَّهَا تَظُنُ وإنْ جَادَتْ ... بِنَزْرٍ أَفْنَتْ بِهِ الأَعْمَارَا
وَإِذَا مَا سَقَتْ خُمُورَ الأَمَانِي ... صَيَّرَتْ بَعْدَها المَنَايَا خِمارَا
كَم مَلِيْكٍ مُسَلَّطٍ ذَلَّلتْهُ ... بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَطَاقَ انْتِصَارَا
وَنَعيمٍ قَدْ أَعْقَبَتْهُ بُؤوسٌ ... وَمَغَانٍ قَدْ غَادَرَتْهَا قِفَارَا
أَيُّهَا المُسْتَعِيرُ مِنْهَا مَتَاعًا ... عَنْ قَليلِ تَسْترجِّعُ المُستَعَارَا
عُدِّ عَنْ وَصْلَ مَنْ يُعْيرُكَ مَا ... يَفْْنَى وَيَبْقى إِثمًا وَيَكْسَبُ عَارَا
قَدْ أَرَتْكَ الأَمْثَالُ فِي سَالِفِِِ الدَّ ... هْرِ وَمَا قَدْ أَرَتْكَ فِيكَ اعْتِبَارًا
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
21- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنيت الفتنة على ثلاث، النساء وهن فخ إبليس المنصوب، والشراب وهو سيفه المرهف، والدينار والدرهم وهما سهماه المسمومان، فمن مال إلى النساء لم يصف له عيشه، ومن أحب الشراب لم يمتع بعقله، ومن أحب الدرهم والدينار كان عبدًا لهما.(2/389)
شعراً:
تَفَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا فَأَبْصَرتُ رُشدها ... وَذَلَّلتُ بِالتَّقَوى مِن اللهِ حَدَّها
أَسَأْتُ بِهَا ظَنًّا فَأَخْلَفْتُ وَعْدَهَا ... وَأَصْبَحْتُ مَوْلاهَا وَقَدْ كُنْتُ عَبْدَهَا
آخر:
سُرُورُ الوَقْتِ مَقْرُونٌ بِحُزنٍ ... فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرٍ شَدِيْدِ
فَفِي يُمْنَاهُ تَاجٌ مِنْ نِضَارٍ ... وَفِي يُسْراهُ قَيْدٌ مِنْ حَدِيْدِ
26- ألأم الخلق وأخسهم وأرذلهم وأكفرهم للإحسان والمعروف من نسي الله جل وعلا واستهان بأوامره واقتحم نواهيه ولم يبال بعلمه به وإطلاعه عليه وقدرته عليه نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
27- ثلاثة من أقل الأشياء ولا يزددن إلا قلة، درهم حلال تنفقه في طاعة الله وأخ مستقيم على إتباع الكتاب والسنة تأنس به وتسكن إليه وأمين مخلص تطمئن إليه وتستريح إلى الثقة به.
قُلْ لَمَنْ فَاخَرَ بِالدُّنْيَا وَحَامَى ... قَتَلََتْ قَبْلَكَ سَامَا وَحَامَا
نَدْفُنُ الخِلَّ وما في دَفْنِنَا ... بَعْدَهُ شَكٌّ وَلَكِنْ نَتَعَامَى
إِنَّ قُدَّامَكَ يَومًا لَوْ بِهِ ... هُدَّدَتْ شَمْسُ الضُّحَى عادَتْ ظَلامَا
فَانْتَبِهْ مِنْ رَقْدَةِ اللَّهْوِ وَقُمْ ... وَانْفِ عَنْ عَيْنِ تَمَادِيْكَ المَنَامَا
صَاحِ صَحْ بالقَبْرِ يُخْبركَ بِمَا ... قَدْ حَوَى وَاقْرأ عَلَى القَوْمِ السَلامَا
فَالعَظِيْمُ القَدْرِ لَوْ شَاهَدْتَهُ ... لَمْ تَجِدْ فِي قَبْرِه إِلا العِظَامَا
اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/390)
(فصل)
28- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يؤتي بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقا، أنيابها بادية مشوهة الخلقة لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه فيقال لهم هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار فتقول يا رب أين أتباعي وأصحابي وأحبابي فيلحقونها. ووجه إلقائها في النار لينظر إليها أهلها فيرون هوانها على الله جل وعلا.
29- وذكر في الخبر عن عيسى عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشيًا إذ نظر إلى امرأة عليها من كل زينة فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت اكشف عن وجهك فلست بامرأة أنا الدنيا، فقال لها ألك زوج فقالت لي أزواج كثير فقال أكل طلقك أم كلاً قتلت فقالت بل كلاً قتلت فقال حزنت على أحد منهم فقالت هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
يُسِيء امْرُؤ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسيء وَتُومَقُ
أَسَر هَواهَا الشَّيْخُ وَالكَهْلُ وَالفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ النَّواظِرِ تُرْمَقُ
وَمَا هِي أَهْلٌ أَنْ يُؤهَّلَ مِثْلها ... لِود وَلَكِنْ ابن آدم أَحْمَقُ
آخر: مثل الدنيا وانخداع الجهال والحمقى بها كمثل الصبي في المهد ترضعه أمه وتسدل عليه ذالك الغطاء وتهدهده وتغني له حتى ينام فكذلك الدنيا ترضعه حلاوتها ولذاتها وتغطي عليه الهوى وتتابع عليه الأماني وتطول له في الأمل حتى ينام عن الآخرة فكلما ازداد أمله طولاً كان أثقل نومًا ثم سقته(2/391)
شربه في نومه من ذلك السم النافع وهو حب الدنيا ففي ذلك هلاكه ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبك الشيء يعمي ويصم» . فما ظنك بمن أعماه وأصمه حب الدنيا عن الله تعالى وقال آخر: كم تنذر الدنيا وما تسمع وكم تؤنس محبها من وصلها ويطمع فالعجب من ذكي فطن غره سراب يلمع.
شعر:
خَسِسْتِ يَا دَارُ دُنْيَانَا وَرُبَّما ... يَرْضَى الخَسِيسَةَ أَوباشٌ أَخسَّاءُ
إِذَا تَعَطَّفْتِ يَوْمًا كُنْتِ قاسيةً ... وَإِن نَظَرْتِ بِعَيْنٍ فَهِي شَوْسَاءُ
وَقَدْ نَطَقْتِ بِأَصْنَافِ العِظَاتِ لَنَا ... وَأَنْتِ فِيْمَا يَرَاكِ النَّاسُ خَرْسَاءُ
أَيْن الملوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ وَمَنْ ... كَانَتْ لَهُم عِزَّةً في المُلْكِ قَعْسَاءُ
نَالُوا يَسِيْرًا مِنْ اللَّذَاتِ وَارْتَحَلُوا ... بِرغْمِهِم فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَاسَاءُ
30- التلفاز وأفلام السينماء والفيديو والمذياع والدخان والكورة وأوراق اللعب والمجلات الخليعة والجرائد وصور ذوات الأرواح قتالات للأوقات ومفسدات للأموال والأخلاق والجاه والأديان والعقول والأولاد والأهل والأقارب والأصدقاء والجيران ونحو ذلك.
شعرًا:
اجْعَلْ قَريْنَك قُرآنًا تَفَهْمَهُ ... وَمَا أَتَى عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ كَلم
وَاتْرُكْ مَجَالِسَ قَوْم لَيْسَ عِنْدهُمُ ... سِوَى المَآثِم مِنْ فعْلٍ وَمِن كَلِمِ
آخر:
لَوْ يَعْلَمُ العَبْدُ مَا في الذِّكْرِ من شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِِيْحٍ وَتَهْلِيْلِ
31- الزور يشمل كل منكر ويدخل في ذلك الشرك والكفر وأعياد(2/392)
المشركين والاجتماع على شرب الخمور، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وهذا هو الواقع من أهل الباطل فإنهم يحسنون المنكرات بوصفها بغير حقيقتها حتى يرغب فيها الناس وحتى لا ينفروا منها فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل وإثم الدعوة إليه وأعظم من ذلك الدعوة إلى المنكر بالقول فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» .
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
32- قال بعضهم يا هذا مثل لنفسك صرعة الموت وما قد عزمت أن تفعل حينئذ وقت الأسر فافعله وقت الإطلاق ومثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم وأنت تبكي أبدًا وأبوابها مغلقة، وسقوفها مطبقة وهي سوداء مظلمة لا رفيق تأنس به، ولا صديق تشكو إليه، ولا نوم يريح ولا نفس ولا طعام إلا الزقوم ولا شراب إلا الحميم والصديد قال كعب إن أهل النار ليأكلون(2/393)
أيديهم إلى المناكب من الندامة على تفريطهم وما يشعرون بذلك، فانتبه يا غافل لاغتنام عمرك وازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرض شخصك، وادخر من وقت قدراتك لزمن عجزك، واعتبر رحلك قبل رحيلك، فكأنك بحرب التلف قد قامت على ساق وانهزمت جيوش الأمل، وإذا ملك الموت قد بارز الروح.
قال أحد العلماء في موعظة له أحذرك يا أخي ونفسي يومًا آل الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدًا أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله كله دقيقه وجليله سره وعلانيته فانظر بأي بدن تقف بين يديه وبأي لسان تجيبه، فأعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا فتفكر الآن وانظر بأي قدم تقف في ذلك المقام، وبأي أذن تسمع ذلك الكلام، فكم من قلب ينخلع، وكم من كبد تتصدع وكم من لسان يتلجلج وكم من أحشاء تتموج، وكم من نفس تريد أن تخرج فلا تترك أن تخرج فانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي عاملت بها انظر كيف ذهبت مسرتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد أنفذتها كيف ذهب عنك الفرح بها وبقيت تبعتها وانظر الآن بكم تفتدي من ذلك الموقف وبكم تتخلص من ذلك السؤال هيهات أن يقبل منك شيء في ذلك الموقف حتى لو بذلت ملء الأرض ذهبًا.
أَلَيْسَ إلى الآجَالِ نَهْوَى وَخَلْفَنَا ... مِن المَوْتِ حَادٍ لا يَغِيْبُ عَجُوْلُ
دَعِ الفِكْرَ في حُبَّ البقاءِ وَطُوْلِهِ ... فَهَمُّكَ لا العُمْر القصيرُ يَطُوْلُ
وَمَنْ نَظَر الدُّنيا بِعَيْنِ حَقِيْقَةٍ ... تَيَقَنِ أَنَّّ العَيْشَ سَوْفَ يَزُوْلُ
وما هذه الأيام إلا فوارس ... تُطارِدُنا والنائِبَاتُ خُيُولُ(2/394)
33- قال بعض الوعاظ: أيا راحلين بالإقامة يا هالكين بالسلامة أين من أخذ صفو ما أنتم في كدره، أما وعظكم في سيره بسيره، بل قد حمل بريد الإنذار أخبارهم وأراكم تصفح الآثار آثارهم. وقال: العمر يسير وهو يسير فاقصر عن التقصير في القصير مر العمر والغمر مشغول عن ما ذهب بالذهب.
شعرًا:
تَفوز بِنَا المَنُون وَتَسْتَبِدُ ... وَنَهْلِكُ في الزَّمَانِ وَنُسْتَرَدُّ
وَنَنْظُرُ مَاضِيًا فِي إِثْرِ ماضِ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جَدُّ
رُوَيْدًا بِالغِرَار مِن المَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفُوتُها السِّارِي المُجِدُّ
فَأَيْنَ مُلُوكُنَا المَاضِيْنَ قِدْمَا ... أَعَدُّوْا لِلَّنَوائِبِ وَاسْتَعَدُّوا
أَصَابُوا في الزَّمَانِ نَعِيْمِ عَيْشٍ ... فيا سَرَعَانِ مَا اسْتَلِبُوا وَرَدُّوا
هُمُوا فَرَطٌ لنا في كُلِّ يَوْمٍ ... نَمُدُّهُم وَإِنْ لم يَسْتَمِدُّوا
34- وقال رحمه الله:
يا طالبًا ما لا يدرك تمنى البقاء وما تترك وهل غير الحصاد لزرع قد استوى وأفرك.
وَكَيْفَ أَشيْدُ في يَوْمِي بِنَاءً ... وَأَعْلَمِ أَنَّ في غَدٍ عنه ارْتَحالِي
فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ في مَحَلٍ ... فَإِنَّ القَاطِنِيْنَ عَلَى احْتِمَالِي
اسمع يا من أعماله رياء وسمعة يا من أعمى الهوى بصره وأصم سمعه. يا من إذا قام إلى الصلاة لم يخلص ركعة، يا نائمًا في انتباهه إلى متى هذه الهجعة، يا غافلاً عن الموت كم قلع الموت من قلعة، وكم دخل دارك فأخذ غيرك،(2/395)
وإن له لرجعة وكم طرق جبارًا فشتت شمله، وخرب ربعه.
شعرًا:
كَمْ لِمَنَايَا فِي بَني آدَمَ ... تَوسُّعٌ مِنْهُ تَضِيْقُ الصُّدُور
فَالوقْتُ لا يَحْدُثُ بِسَاعَاتِهِ ... إِلا الرَّدَى المَحْضُ بِوَشْكِ المُرُور
أَيَّامُنا السَّبعةُ أَيْسَارُنا ... وَكُلُنا فِيْهَا شَبيْهَ الجَزُور
طَهَّرْتَ ثَوْبًا وَاهِيًا ثُمَّ مَا ... قَلْبُكَ إِلا عَادِمًا لِلْطُّهُور
لَوْ فَطِنَ النَّاسُ لِدُنْيَا هُمُوا ... لاقْتَنَعُوا مِنْهَا اقْتِنَاعَ الطُّيُور
نصائح ومواعظ وفوائد وحكم
35- من بذل لك نصحه في الدين فاحتمل غضبه.
36- لن يذهب من مالك ما وعظك وحثك على طاعة الله وابتغاء مرضاته.
37- من اجترأ على معاصي الله تعرض للهوان والخزي عند الله وعند خلقه وابتعد الناس الصالحون عنه.
38- فقد الدين الإسلامي والصبر على فقده أعظم المصائب في الدنيا والآخرة.
39- أشد الأشياء تأييدًا للعقل سؤال الله التوفيق والسداد واستخارة الله ومشاورة العلماء المخلصين لله في أعمالهم المستقيمين على طاعته الناصحين لعباده المؤمنين.
40- من أضر الأشياء على الإنسان كثرة الاتصال بأعداء الله ورسوله والمؤمنين والتذلل لهم والسكنى حولهم أو معهم.(2/396)
41- موت الولد المنحرف عن الدين والعاق لوالديه والمرأة غير المستقيمة نعمة سابغة على الإنسان أن يشكر الله إذا حصل لهما موت أو فراق.
42- الدخان والخمر والفساد سوس المال والأبدان والجاه والأخلاق والأولاد والأهل والأصحاب والجيران.
43- شفاء الصدور في طاعة الله وتلاوة كتابه وتدبره، والعمل به وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
44- الكذب قبيح وعار في الدنيا والآخرة وربما نفع إذا قصد به إنقاذ مسلم أوماله أو أهله من ظالم أو في حرب الكفار أو في الإصلاح بين الناس.
45- فقد الدين الإسلامي والصبر على فقده أعظم المصائب.
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الله يَجْبُرهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدَّيْن جُبْرَانُ
46- أصدق الناس المخلص لله في أقواله وأفعاله الثابت على توبته من الذنوب.
47- الإصرار على الذنوب وعاء الذنوب فاحذره.
وَتَرْجِعُ لِلذُنُوبِ إِذَا بَرِيْتَا ... تَثُوبُ من الذُّنُوبِ إِذَا مَرِضْتَا
وَأَخْبَثُ ما تَكُونُ إِذَا قَويتَا ... إِذَا مَا الضُّرُّ مَسَّكَ أَنْتَ بَاكٍ
وَكَمْ كَشَفَ البَلاءَ إِذا بُلِيْتَا ... فَكَم مِنْ كُرْبَةٍ نَجَّاكَ مِنْهَا
مَدَى الأيامِ جَهْرًا قَدْ نُهِيتَا ... وَكَمْ غطَّاكَ فِي ذَنْبٍ وَعَنْهُ
وَأَنْتَ على الخَطَايَا قَدْ دُهِيْتَا ... أَمَا تَخْشَى بِأَنْ تَأَتِي المَنَايَا
وَأَنْتَ لِكُلِّ مَعْرُوفٍ نَسِيْتَا ... وَكَمْ عَاهَدْتَ ثُمَّ نَقَضْتَ عَهْدًا
إِلى قَبْرٍ تَصِيْرُ وَقَدْ نُعِيْتَا ... فَدَارِكَ قَبْلَ نَقْلِكَ مِنْ دِيَارِكَ(2/397)
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
48- قال أحد العلماء رحمه الله تعالى إخواني ذهبت الأيام وكتبت الآثام، وإنما ينفع الكلام متيقظًا والسلام اسمع يا من صحيفته بالذنوب قد خفت، وموازينه لكثرة العيوب قد حفت، والمزعجات عليه قد التفت لا تغتر بأغصان المنى وإن أورقت ورفت، فكأنك بها قد صوحت وذبلت وجفت أما رأيت أكفًا عن مطالبها قد كفت، أما شاهدت عرائس الأجساد إلى الألحاد زفت.
شعرًا:
رَأَيْتُكَ فِي النُّقصانِ مُذْ أَنْتَ في المَهْدِ ... تُقَرِّبُكَ السَّاعَاتُ مِنْ سَاعَةِ اللَّحْدِ
نظر شاب إلى شيخ كبير السن ضعيف الحركة فقال له يا شيخ من الذي قيدك فقال الذي خلفته يفتل قيدك.
مَنْ أَخْطَأتْهُ سِهَامُ المَوتِ قَيَّدَهُ ... طُولُ السِّنِيْنِ فَلا لَهْوٌ وَلا غَزَلُ
وَضَاقَ مِنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ مُتْسِعًا ... حَتَّى الرَّجَاءُ وَحَتَّى العَزْمُ وَالأَمَلُ
49- المرأة الصالحة العفيفة ذات الدين الموافقة جنة الدنيا فمن وفقه الله لها فليستمسك بها.
وَخَيْرُ النِّسَا مَنْ سَرَّتْ الزَّوجَ مَنْظَرًا ... وَمَنْ حَفِظَتْهُ في مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ
قَصِيرةُ أَلْفاظٍ قَصِيرةُ بَيْتِها ... قَصيرةُ طَرْفِ العَيْنِ عَن كُلِّ أَبْعَدِ
عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَظْفَر بِالمنى الـ ... وَدُوْدِ الوَلُودِ الأَصْلِ ذاتِ التَّعَبُدِ
50- الكتاب المستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفيد للإنسان في(2/398)
الدنيا ونافع للإنسان في الدنيا والآخرة وهو الذي يستمر نفعه في الدنيا والآخرة.
51- أمحض أخاك النصيحة وإن كانت عنده قبيحة.
52- لا شيء أحلى وأحسن وألذ من سماع كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولُهُ ... هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
آخر:
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
53- أحسن القول ما وافق العمل قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] .
54- من التواني ما يكون سببًا للحرمان وعرضة للآفات، والغالب فيه السلامة وهو ضد العجلة.
55- ما أحق من غدر ألا يوفى له.
56- من نظر أبصر ومن فكر اعتبر.
57- في الوجوه تظهر المودات غالبًا.
58- لا ترسل الكسلان في حاجتك فتندم.
59- الذي يكثر الكلام على المائدة يستنقل ويستكره ويدعو الناس إلى غيبته في الغالب.
60- من حفظ سره ملك أمره وصار الخيار له في كتمه أو نشره ولا يكتم السر إلا العاقل.
61- الكريم يواسي إخوانه المستقيمين بما يقدر عليه.
62- من لم تقدر على مكافأته فادع له وانصح له.
63- من لم يصبر على البلاء وتسخط لم يرض بالقضاء.(2/399)
64- الغريب والبعيد الناصحان خير من القريب والصديق الغاش فتأمل وتدبر.
65- من لم يرض برزقه عذب نفسه وضرها.
66- فقد الصبر عن المعاصي وفقده على الطاعات وفقده على أقدار الله من أعظم المصائب.
(فصل)
67- احذر عدوك في الدين وإن أحسنت إليه.
68- الخسران المبين تضييع ما فرضه رب العالمين.
69- ساعات السرور قد تكون جالبة للمحذور.
70- الهم ظلمة جلاؤها الفرج من الله جل وعلا.
71- من تسلط على الناس ظلمًا وعدوانًا لم يسلم من الهوان.
72- من لم ينلك البر في حياته لم تبك عيناك على وفاته في الغالب.
73- من جهل شيئًا عاداه في الغالب ومن أحب شيئًا استعبده في الغالب.
74- من مأمنه قد يؤتى الحذر.
75- رب بزة وهيئة ظاهرة تحتها حاجة باطنة.
الاجتهاد في طاعة الله ورسوله أربح بضاعة.
76- اجعل سرك لواحد تثق به ومشورتك لمن شئت ممن يوثق بدينهم وأمانتهم.
77- اجعل لدنياك نصيبًا ولدينك النصيب الأوفر من وقتك ومالك حتى تربح الدنيا والآخرة.
قال بعض العلماء تأملت أمر الدنيا والآخرة فوجدت حوادث الدنيا حسية(2/400)
طبيعية وحوادث الآخرة إيمانية يقينية والحسيات أقوى جذبًا لمن لم يقو علمه ويقينه والحوادث إنما تبقى بكثرت أسبابها، فمخالطة الناس ورؤية المستحسنات والتعرض بالملذوذات يقوي حوادث الحس، والعزلة والفكر والنظر في العلم يقوي حوادث الآخرة، ويبين هذا بأن الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق ويبصر زينة الدنيا ثم دخل إلى المقابر فتفكر ورق قلبه فإنه يحس بين الحالتين فرقًا بينًا وسبب ذلك التعرض بأسباب الحوادث فعليك بالعزلة والذكر والنظر في العلم فإن العزلة حمية والفكر والعلم أدوية والدواء مع التخليط لا ينفع اهـ.
مِنْ وَاجبِ النَّاسِ أَنْ يَتُوبُوا ... لَكِنْ تَركَ الذُّنوبِ أَوْجَبْ
وَالدَّهْرُ في صَرفِهِ عَجيبَ ... وَغَفْلَةُ الناسِ عَنْهُ أَعْجَبْ
وَالصَّبرُ في النَائِبَاتِ صَعْبٌ ... لَكِنْ فَوَاتَ الثَّوابِ أَصْعَبْ
وَكُلُّ مَا تَرتَجِي قَريبُ ... وَالوقتُ مِنْ دُوْنِ ذَاكَ أَقْرَبْ
وقال بعضهم:
إخواني السنون مراحل والشهور فراسخ والأيام أميال والأنفاس خطوات والطاعات رءوس الأموال والمعاصي قطاع الطريق والربح الجنة والخسران النار لهذا الخطب شمر المتقون عن سوق الجد في سوق المعاملة كلما رأوا مراكب الحياة تخطف في بحر العمر شغلهم هول ما هم فيه عن التنزه في عجائب البحر فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا الربح.
وَصِلُوا إِلى مَوْلاهُمُ وبَقِيْنَا ... وَتَنَعَّمُوا ِبِوصَالِهِ وَشَقِيْنَا
ذَهَبَتْ شَبِيْبَتُنَا وَضَاعَ زَمَانُنَا ... وَدَنَتْ مَنِيِّتُنَا فمن يُنْجِيْنَا
فَتَجمَّعُوا أَهْلَ القَطِيْعَةِ وَالجَفَا ... نَبْكِي شُهُورًا قَدْ مَضَتْ وَسِنينا(2/401)
آخر:
تَراُهْم وَأَمْلاكُ الرِّضَا يَقْدُمُونَهِم ... إلى جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيْمُهَا
يَسيرُونَ في أَمْنٍ إِذَا الخَلْقُ فُزَّعٌ ... وَقَدْ بَرَزَتْ نارٌ وَشَبَّ جَحِيْمُها
آخر:
فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ خَيْرةٍ قَدْ تَهَيَّئَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى الأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ
يُنَاجُونَ رَبَّ العالمينَ إِلَهَهُم ... فَتَسْري هُمُومُ القَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ
آخر:
وَلله أَلْطَافٌ بطيِّ قَضَائِهِ ... أَخُو الفَهْمِ في أَسْرَارِها يَتَفَهَّمُ
فَمُوسَى بِقَذْفِ اليمٍ تمَّ عُلُوُّهُ ... تَرَقَّى إلى أَعْلَى الذُّرى وَهو مُكَرَّمُ
وَبِالصَّبْرِ والتَّقْوى تُنالُ هِبَاتُهُ ... وَأَتْْقَى الوَرَى عِنْدَ المُهَيْمِنِ أَكْرَمُ
وقال رحمه الله:
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنضل وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعند ذلك يتبين حلو الثمار من مرها.
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب الأليم المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.(2/402)
وقال رحمه الله: اشتر نفسك فالسوق قائمة والثمن موجود ولا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون دنا الصباح، نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب يا بائعًا نفسه بهوى من حبه ضنا ووصله أذى وحسنه إلى فناء لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس كأنك لم تعرق قدر السلعة حتى إذا قدمت يوم التغابن تبين لك الغبن في عقد التبايع لا إله إلا الله سلعة الله مشتريها، وثمنها الجنة.
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة اللهم وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وسلم.
77- من أجهل الناس من يفعل الشر ويتوقع الخير.
78- احذر التلون في الدين لأنه صفة المنافقين.
79- احذر الكبر والغضب والحسد والطمع والبخل.
80- الذكر لله له شرطان حضور القلب في تحريره وبذل الجسد في تكثيره.
81- من أحسن الأشياء العفو عن مقدرة.
82- أحسن إلى إخوانك من المسلمين ما استطعت.
83- أحسن ما صان الرجل أمر دينه عما يضره أو ينقصه.(2/403)
84- احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك.
85- أحق الناس بالبر والديك وبعدهم قرابتك أهل الدين الأقرب ثم الأصدقاء في الله ثم الجيران الأقرب فالأقرب.
86- إخوان هذا الزمان جواسيس العيوب في الغالب.
87- أخوك من واساك في الشدة والرخاء.
88- أدب نفسك بما كرهته من غيرك تكن حكيمًا.
89- اختلاف القوم يمكن عدوهم منهم في الغالب.
90- إذا استعنت فاستعن بالله وحده.
91- عند انتهاء الشدة يكون الفرج بإذن الله تعالى.
فمن نزلت به بلية فأراد تخفيفها وتمحيقها فليتصور أكثر مما هي تهن وليرجو ثوابها وليتصور أعظم منها يرى الربح في الاقتصار عليها وليتلمح سرعة زوالها، فإنه كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة وليعلم أن مقامها عنده كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل ساعة فيا سرعة انقضاء مقامه فكذالك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعى الساعات ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح مخافة أن يبد من اللسان كلمة تسخط أومن القلب تسخط فكأن قد لاح فجر الأجر فانجاب ليل البلا ومدح الساري بقطع الدجى فما طلعت شمس الجزاء إلا وقد وصل إلى منزل السلامة اهـ.
92- إذا قويت فاقوا على طاعة الله يعينك ربك.
93- إذا كرمت السجية حسنت الطوية في الغالب.
94- إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
95- إذا غلب الهوى بطل الرأي.
96- أرج من الله أن يقبل أحسن عملك، ويتجاوز عن سيئاتك،(2/404)
ويجعلك من أصحاب الجنة.
97- أخسر الناس صفقة من باع دينه بالدرهم والدينار أو نحوهما وأخسر منه من باع دينه بدنيا غيره.
98- أستر عيب أخيك المسلم لما تعلم من عيوبك.
99- استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
يحتوي على حكم ومواعظ وآداب
100- استشيروا ذوي العقول النيرة بطاعة الله.
101- الاستقامة عين الهداية بإذن الله.
102- أشقى الولاة من شقيت به رعيته.
103- أصدق الناس المخلص لله الثابت على توبته.
104- الإصرار على الذنوب وعاء الذنوب فاحذره.
105- اطلب الرحمة بالرحمة {إنما يرحم الله من عباده الرحماء} [.
106- إظهار النعم والتحدث بها من الشكر لله.
107- الاعتبار منذر ناصح. قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] .
108- أصل المحاسن طاعة الله ثم الكرم وفق الشرع.
109- أطع أخاك فيما يرضي الله وإن عصاك.
110- أطلب واستعن بالله تظفر بإذن الله.
111- الإعتراف بالذنوب سبيل إلى التوبة بإذن الله.
إِلَهٌ لا إِلَه لَنَا سِوَاهُ ...(2/405)
رَءوفٌ بِالبَرِيَّةِ ذُو امْتِنانِ
أَوَحِّدُهُ بِإِخْلاصٍ وَحَمدٍ ... وَشُكْرٍ بالضَّميرِ وَبِاللَّسَانِ
وَأَفْنَيْتُ الحَيَاةَ وَلَم أَصُنَهَا ... وَزُغْتُ إِلى البَطَالَةِ والتَّوانِي
وَأَسْألُهُ الرِّضا عَنِّي فَإِنِّي ... ظَلَمْتُ النَّفْسَ في طَلَبِ الأَمَانِي
إِلَيهِ أَتُوبُ مِنْ ذَنْبِي وَجَهْلِي ... وَإِسْرَافِي وَخَلْْْعِي لِلْعِنَانِ
112- الاعتبار يهديك إلى الرشاد بإذن الله.
113- الإعجاب ضد الصواب ويمنع الازدياد.
114- مخالفة الأمر توجب سخط الأمر والإصرار على المعصية أعظم.
115- اعص هواك وأطع مولاك تغنم الفلاح.
116- إذا تم عقل المرء قل كلامه إلا بذكر الله وما والاه.
117- إخزن لسانك عن الكلام إلا بذكر الله وتلاوة كتابه وما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -:
عَلَيكَ بِذِكرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعِةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولهُ ... هُمُا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
118- من صنع إليك معروفًا فكافئه فإن لم تجد فادع له للحديث.
119- إذا استشارك أحد المسلمين صديق أو عدو فجرد له النصيحة.
120- إذا اصطنعت المعروف فاستره.
121- إذا تناهت الشدة قرب الفرج بإذن الله.
122- أعقل الناس المعظم لله الممتثل لأوامره المجتنب لما نهى عنه.
123- اغتنم أيام صحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك.(2/406)
124- ألأم الناس وأخسهم وأرذلهم أفسقهم.
125- من نسي الله فاستهان بأوامره واقتحم نواهيه ولم يبال بقدرته عليه ونظره إليه وعلمه بسره وعلانيته.
126- الأصحاب المخلصون لله المحبون فيه الداعون إليه قليلون في هذا الزمان.
127- ارج من الله أن يقبل محاسن عملك.
128- الاستماع أسلم من القول لأن القول يخطئ ويصيب.
129- آفة الجود السرف والتبذير.
130- آفة السماحة المنة.
131- آفة الشجاعة البغي والتهور والعجب.
132- آفة العقل العجب والكبر.
133- آفة بعض العلماء الكبر وحب الرياسة والدنيا.
134- أفضل العمل الصالح أدومه وإن قل والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
135- أعف عن الناس عملاً بقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] .
136- الاقتصاد سبيل الرشاد.
137- الاقتصاد ينمي اليسير بإذن الله.
138- اغتنم الفرصة في طاعة الله فالوقت لا يعود.
139- أكثر محادثة من يخبرك عن عيوبك إن كان ناصحًا.(2/407)
140- أكرم الأخلاق التواضع لرب العالمين.
141- من اللؤم البغي عند المقدرة على من لم يبغ.
142- الإلحاح على المخلوق سبب الحرمان.
143- الآلف للدنيا المطمئن إليها مغرور.
144- الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
145- من أمارات الكذب والغش كثرة الإيمان.
146- الأمانة جالبة للرزق بإذن الله تعالى.
147- أملك الناس لنفسه أكتمهم لسره في الغالب.
148- إمساك المال خير من سؤال الناس.
149- إخلاص الأعمال لله من أكبر الأسباب لحصول كل خير واندفاع كل شر قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . في قراءة بكسر اللام.
150- الاعتماد على الله والتوكل عليه أفضل عدة. قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] .
قال أحد العلماء: من المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها وهذا جهل بالعلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الغار وشاور الطبيب ولبس الدرع وحفر الخندق ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافرًا وقال لسعد لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع اهـ.
قُنُوعِيْ بِدُونِ الدُوْنِ لا نَقْص هِمَّةٍ ... وَلَكنَّه شَيءٌ أَصُوْنُ بِهِ نَفْسِي
إِذَا كَانَ لِي في مَنْزلي قُوت ساعةٍ ...(2/408)
فَمَا دُوْنَمَا قَدَّرْتُ أَنِّي في عُرْسِ
151- الإنصاف راحة وعنوان على الذكاء والنبل.
152- الانفراد بكتب العلم للتعلم والتفهم والتأليف راحة ومنفعة ومسلاة عن الهموم والغموم.
153- الانتقام ممن ظلم عدل والتجاوز فضل.
154- الأناة في الأمور وحسن التودد للمسلمين يمن.
155- الأمين آمن والخائن قلق وخائف.
156- الآمال لا نهاية لها ما دام الإنسان في قيد الحياة.
157- من أفضل المعروف إغاثة الملهوف من المسلمين.
158- إفشاء السر ممن استأمنك خيانة.
159- أفضل الزهد إخفاء الزهد.
160- أنفع الكنوز العمل الصالح.
161- أنفق في حق ولا تكن خازيًا لغيرك.
162- إذا غلا عليك الشيء فاتركه يكون رخيصًا.(2/409)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وإن تدمر أعداء الدين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك علمًا نافعًا رزقًا طيبًا وعملاً متقبلاً يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.
اللهم اعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد(2/410)
والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماته الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/411)
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون.
رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا(2/412)
الجلال والإكرام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. آمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/413)
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا من الريالات.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه، ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/414)
تم هذا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين أن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي متبلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
عبد العزيز المحمد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً(2/415)
خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلاَق حِسَان
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الثالث(3/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
(وقف لله تعالى)
ومن أراد طباعته إبتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضاً من الدنيا، فقد أُذن له في ذلك وجزي الله خيراً من طبعه وقفاً لله، أو أعان على طبعه، أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين.
ملاحظة:
لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقا لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف، ولا يطبع إلا وقفا لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.(3/3)
(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها.
أشرف الأشياء قلبك، ووقتك فإذا أهملت قلبك، وضيعت وقتك، فما بقى معك، كل الفوائد ذهبت، فانتبه لنفسك.
فوائد عظيمة النفع جدا لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:
(1)
الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.
(2)
الملائكة يكتبان ما تلفظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه.
(3)
اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرور وفتور عن العمل للآخرة. فاحفظ هذه الفوائد وأعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.(3/4)
شعرا:
مُنَاي من الدنيا عُلُومٌ أَبُثُهَا ... وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دٌعَاءٌ إِلى القٌرآن وَالسٌنَّةِ التِي ... تَنَاسَى رِجَالٌٌ ذكرها في المحَاضِر
وَقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالجرائد تَارةً ... وَتِلْفَازِهم رَأْسُ الشُّرور المنَاكِرِ
وَمِذْيَاعِهم أَيْضَا فَلا تَنْسَ شَرهُ ... فَكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بها بِالخَسَائِرِ
163- وقال حبيب بن ثابت ما استقرضت من أحد شيئا أحب إلي من نفسي أقول لها أمهلي حتى يجيء من حيث أحب.
سَأَطْلُبُ بِالإِحمالِ ما أنا طَالِبُ ... وَإِني إِذَا مَا ضَاقَ رِزْقَ لِقَانِعُ
وَلَمْ تُدْنِنِي وَالحمدُ لله فَاقَةٌ ... إِلى طَمَعٍ تَدْعو إِلَيْهِ المَطَامِعُ
وَلا ضَرَعَتْ نفسي لشيءٍ أَنَالُه ... وَبَعْضُ الرِّجَالِ خَاشِعَ مُتَضَارِعُ
أَمُصُّ ثِمادِي والبِحَارُ غَزِيرةٌ ... لِئَلا يُرى عِنْدِي لِقَومٍ صَنَائِعُ
وَلَمْ يَتَعَبَّدنِي اللِّئَامُ بِمِنَّةٍ ... ولا أَنَا للشيءِ الذي فَاتَ تَابِعُ
وَإِنِّي لأَسْتَغْنِي فما أَبْطُرُ الغِنَي ... وَمَا المَالُ إلا عَارَةٌ وَوَدَائِعُ
164- إنكم لن تسعو الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.
165- إن من كنوز البر الصبر على الرزايا ابتغاء وجه الله تعالى.
166- صديقك درهمك إذا سرحته فرج الله به همك وقضى به حاجتك فلله الحمد والمنه.
167- إنما تنصرون بضعفائكم.
168- إنما المجالس بالأمانة.
169- إنما يرحم الله من عباده الرحماء.(3/5)
170- إياك والسامة والملل في أمور الدين.
171- إياك والطمع فإنه فقر عاجل.
172- إياك والطمع فإنه تعب طائل.
173- احذر لسانك واحترز من لفظه لا يهلكك.
174- إياك والقبول تحفة الخصوم فإنها رشوة والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/6)
(فصل)
175- إياك والكذب وإن نفعك في الدنيا.
176- إياك وما يعتذر منه.
177- إياك ومن مودته قدر حاجته إليك.
178- الإيمان أمان بإذن الله.
179- بئس الشعار الحسد والحقد والغضب.
180- بئس الطعام الحرام والمشتبهات.
181- بادر لعمل الخير مهما أمكنك فإن الأجل يأتي بغتة.
182- بحسن المعاشرة تدوم المحبة بإذن الله جل وعلا.
183- البخل والشح واللؤم جامعات للمساوئ والعيوب.
184- البخل فقر عاجل والبخيل ذليل في الغالب.
185- بالاستقامة على طاعة الله والعمل بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تصلح الرعية.
186- ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه.
187- بالرفق واللطف واللين تنقاد القلوب في الغالب بإذن الله.
تَلْقَي الكَريمَ فَتَسْتَدلُ بِبِشْرِهِ ... وَتَرَى العُبُوسَ على اللَّئِيم دَلِيلا
وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَرِيْبٍ صَائِرٌ ... خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوْقُ جَمِيلا
188- بالتأني تسهل المطالب وبالعجلة يكثر الزلل
189- إحالة الأعمال وتأخيرها إلى وقت آخر يؤمل فيه الفراغ غلط(3/7)
وإضاعة للوقت وهو غرور ومن أين أن يصل إلى ذلك الوقت والموت يأتي بغتة يهجم على الإنسان من حيث لا يشعر وعلى تقدير وصوله إلى ذلك الوقت لا يأمن من شغل آخر يعرض له والفراغ من الأشغال نادر فانتبه لا تنخدع.
شعر:
وَلا تُؤخِّرْ إذا ما حَاجَةٌ عَرَضَتْ ... فَهُمْ يَقُولُون لِلتَّأخير آفاتُ
فَكَمْ مِن صَحِيْحٍ بَاتَ للموتِ آمنًا ... أَتَتْهُ المَنَايَا بَغْتَةً بعدما هَجَعْ
آخر
فَلَم يَسْتَطِعْ إِِذْ جَاءَهُ الموتُ بَغْتَةً ... فِرَارًا وَلا مِنْهُ بِحِيلتِهِ امْتَنَعْ
فَاصبَحَ تبكيهِ النِّسَاءُ مُقَنَّعًا ... وَلا يَسْمَعُ الدَّاعي وَلَوْ صَوْتُهُ رَفَعْ
وَقُرِّبَ من لَحْدٍ فَصَارَ مَقِيْلُهُ ... وَفَارَقَ مَا قَدْ كَانَ باِلأَمْسِ قَدْ جَمَعْ
فَلا يَتْرُكُ الموتُ الغَنيَّ لِمَالِهِ ... وَلا مُعْدِمًا فِي المَالِ ذا حَاجِةٍ يَدَعْ
آخر
سهامُ الموتِ تَقْصُدُ كُلَّ حَي ... وَمَنْ ذَا لَيْسَ تَقْصُده السِّهَام
190- بركة المال في أداء الزكاة بطيب نفس.
191- بر الوالدين من أكرم الطباع فإياك أن تهمله.
192- البر شيء هين وجه طلق ولسان لين.
193- بالشكر لله تدوم النعم وتزيد قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
194- الخلف قبيح وربما احتيج إليه للإصلاح.
195- العذر أنواع وربما حسن إذا أريد به الإصلاح وإذا اعتذر إليك(3/8)
أخوك المسلم أقبل عذره إذا لم يكن عليك ضرر.
شعرا:
اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأتِيكَ مُعْتَذِرًا ... إِنْ بَرَّ عندكَ فِيْمَ قال أَوْ فَجَرَا
فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيْكَ ظَاهرُهُ ... وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
196- من تردى بثوب طاعة الله والسخاء غاب عن الناس عيبه في الغالب.
يُغَطَّي بالسَّمَاحَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
197- كان بعضهم يوبخ نفسه فيقول عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات أنت سكران بغير شراب.
198- العجب من ورثة الموتى كيف لا يزهدون في الدنيا وحطامها الفاني.
199- من التواني ما يكون سبب للحرمان وعرضةِ للآفات.
200- ويح ابن آدم كيف ينهر ولا يرعوي أم كيف يأمر ولا ينتهي.
201- حفظك ما في يدك خير من طلبك ما في يد غيرك.
هي النَّفْسُ والأخلاق للمرء مَلْبَسُ ... فَضَافٍ مُضِيءٌ أَوْ لَبِيْسٌ مُدَنَّسُ
فَخُذْ في جَلاءِ النَّفْسِ عَمَّا يشينها ... فَرُبَّ جَوَادٍ سَاءَ تَقْلاهُ أَنْفُسُ
إِذَا اسْتَمْسَكَ الإِنْسَانُ بِالدِّينِ واهْتَدَى ... نَجَا والحِجَي فَضْلٌ مِنَ اللهِ أَنْفَسُ
وَبُرْهَانُ عَقْلِ المرء حُسْنُ اتِّبَاعِهِ ... لِمَا جَاءَ فِي القُرآنِ يَتْلُو وَيَدْرُسُ
فَإِن شِئْتَ أَنْ تَحْيا سَعِيدًا مُنَعَّمًا ... فَوَالِ رَسُولَ اللهِ واتْبَعْهُ تَرْأَسُ(3/9)
.. اللهم أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولولدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/10)
(فصل)
202- تعفف عن أموال الناس يحبونك ويقربونك.
شعرا:
لا تَسْأَلَنْ إِلى صَدِيقٍ حَاجَةٌ ... فَيَحُوْلُ عَنْكَ كما الزَّمَانُ يَحُولُ
وَاسْتَغْنِ بالشيء القَليل فَإِنَّهُ ... مَا صَانَ وَجْهُكَ لا يُقال قليلُ
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيْقِ لِقَاؤُهُ ... وَأَخُو الحَوائجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ
203- إخواني اعتبروا بالذين قطنوا فحزنوا كيف ظعنوا وحزنوا وانظروا إلى آثارهم تعلموا أنهم قد غبنوا لاحت لهم لذات الدنيا واغتروا وفتوا فما انقشعت سحب المنى حتى باتوا ودفنوا.
جَمَعُوا فَمَا أَكَلُو الذي جَمَعُوا ... وَبَنَوا مَسَاكِنهُم فَمَا سَكِنُوا
فَكَأنَّهُم كَانُوا بِهَا ظَعََنًا ... لِمَا اسْتَراحُوا سَاعَةً ظَعَنُوا
(نصيحة)
اسمع يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان، معرضا عن الأرباح، ومتعرض للخسران، لقد سر بفعلك الشامت.
يا من يفرح بالعيد لتحسين لباسه، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجلاَّسه، وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه.
يا غافلا قد طلب، ويا مخاصما قد غلب، ويا واثقا قد سلب، إياك والدنيا فما الدنيا بدائمة، لقد أبانت للنواظر عيوبها، وكشفت للبصائر غيوبها، وعددت على المسامع ذنوبها، وما مرت حتى أمرت مشروبها.(3/11)
فلذاتها مثل لمعان البرق ومصيبتها واسعة الخرق، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق، فما نجا منها ذو عدد، ولا سلم فيها صاحب عدد، مزقت الكل بكف البدد ثم ولت فما ألوت على أحد.
قال - صلى الله عليه وسلم - "سبعة يظلهم الله في ظله منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله".
اسمع يا من أجاب عجوزا هتماء عمياء صماء جرباء سوداء شوهاء مقعدة على مزبلة ولكن غلبت عليك محبتها عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء مكة ذهبا فأبى أن يقبلها. - صلى الله عليه وسلم -
مَا هَذِه الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرةٍ ... فَتَخَوَّفي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فِيْهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ المَنيِّةِ شَرْبَةً ... وَحَمتْه فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا
فَغَدا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِيْنَةً ... لا يَسْتَطِيْعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لو كَانَ يَنْطِقُ قال مَنْ تَحْتَ الثَّرى ... فَلْيُحْسِن العَمَلَ الفَتَى ما اسْتَطَاعَا
مواعظ ونصائح وحكم
204- الجهل مطية من ركبها ذل والجهل داء قاتل وهو أشد من الفقر وجواب الجاهل السكوت.
205- الحرص رأس الفقر وهو محقرة ومن علامات الشقاوة والحريص فقير ولو كثر ملكه.
206- حسن العهد من الإيمان وحسن اللقاء والبشاشة يولدان الألفة(3/12)
والإخاء بين المؤمنين والمحبة.
207- الحزن يهدم الجسد وهو مرض الروح.
208- الجود بذل الموجود وهو حارس العرض من الذم في الغالب والجواد من بذل ما يضن به أي ما يبخل به.
209- خير سلاحك ما وقاك الله به وخير إخوانك من واساك وخير الأعمال ما دبر بالتقوى وخير الأمور الوسط، وخير الكلام ما صادف محله ومن خير ما أعطي المؤمن خلق حسن.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغن ذلك شيئا.
وإذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئا، وإذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفس طوعا وكرها وطاب العمل.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفس بادري بالأوقات قبل إنصرامها، واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها.
فكأنك بالقبور قد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرءوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] . يا نفس أما الورعون فقد جدوا، وأما الخائفون فقد استعدوا وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.(3/13)
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
دَبُّوا إلى المجدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلغُوا ... جُهْدَ النُفُوس وَشَدُّوا دُوْنَه الأَزُرَا
وَسَاوَروا المَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُم ... وَعَانَقَ المَجْد مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرا
لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكلهُ ... لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حتى تَلْعَق الصَّبَرا
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
211- ليس بالتحفظ في الأمور يسلم من المقدور.
212- من تردى بثوب السخاء غاب عيبه عن الناس في الغالب.
213- من أيقن بالآخرة استعد لها ورغب في الصبر.
214- الإفراط في العتاب والتوبيخ يدعو إلى المقاطعة والاجتناب والعداوة غالبا.
215- من نم عندك نم بك في الغالب وتدبر.
216- رب أخ لك لم تجمعك به ولادة ولا قرابة.
217- صلة الرحم وبر الوالدين وحسن العمل بركة في العمر.
218- ذم الإنسان نفسه في الملأ مدح لها في الغالب.
219- مدح الغائب تعريض بذم الحاضر في الغالب.(3/14)
220- شفاء الصدور في العمل بالكتاب والسنة والتسليم للمقدور.
221- إذا لم تقبل الحجة منك فالسكوت أولى بك.
222- إذا جرى القدر عمي البصر.
223- إن غلبت على القول فلا تغلب على الصمت.
224- حسبك من الدين مراقبة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وحسبك من المال ما نفعك.
225- لا ينطق لسانك إلا بذكر الله وما والاه إن كنت عاقلا.
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولُهُ ... هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
226- من حكم فليتق الله وليعدل ومن قضى فليتق الله وليفصل والله الموفق للصواب.
227- إذا صدق العيان لم يحتج إلى برهان.
228- السلام والطلاقة وحسن البشر ربما زرعا المودة في القلوب بإذن الله تعالى وتقدس.
229- العمر يسير وهو يسير فاقصروا عن التقصير في القصير مر العمر والغمر مشغول عن ما ذهب بالذهب.
شعرا:
تَفُوزُ بِنا المَنون وَتَسْتَبد ... وَنَهْلِكُ في الزَّمَانِ وَنُسْتَرَدُ
وَنَنْظُرُ مَاضِيا فِي إِثْرِ مَاضٍ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جِدُّ
رُوَيْدًا بِالفِرَار مِنْ المَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفوتُهَا السَّارِي المَجِدُ
فَأَيْن مُلوكنا الماضينَ قدمًا ... أَعَدُّوا النَّوائِبِ وَاسْتعدُّوا
أَصَابوا في الزَّمَانِ نَعِيْما عَيْشٍ ... فَيَا سَرعانَ مَا اسْتُلِبُو وَرَدُّوْا(3/15)
هُمُ فَرَطٌ لَنَا في كُلِّ يَومٍ ... نَمُدُّهُمُ وَإِنْ لَمْ يَستَمِدُّوا
230- العجلة تكنى أم الندامة وربما أعقبت ريثا إلا في أمور الدين المأمور بالمبادرة فيها.
231- التجارب تنفع غالبا بإذن الله والعاقل يستزيد منها ليقوي عقله بإذن الله.
232- كفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل والأحمق شؤم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
233- من خير المقال ما صدقه الفعال.
234- الأحمق لا يبالي بما قال، والعاقل يتعاهد المقال، ولا يتكلم إلا بما يرى فيه له نفع في الدنيا والآخرة.
235- من غلب عليه الكبر والعجب ترك مشورة الرجال غالبا واستبد برأيه وضاع.
236- احذر تودد الحسود وإن زعم أنه ودود.
237- إذا جهل عليك الأحمق والسفيه فعامله بالحلم.
شعرا:
إِذَا فَاهَ السَّفيهُ بِسب عَرْضِي ... كَرِهْتُ بَأَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيْبَا
يَزيدُ سَفَاهَةً وَأَزِيْدُ حِلما ... كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْراقُ طِيْبَا
آخر:
قَالَ سَكَتَ وَقَدْ خُوصمتَ قُلْتَ لَهُمْ ... إِنَّ الجَوابَ لبَاب الشَّر مفتاحُ(3/16)
الصَّمْتُ عن جاهل أو أَحْمَقٍ شرف ... أَيْضًا وَفِيْه لِصَونِ العِرْضِ إِصْلاحُ
أَمَا تَرَى الأَسْدَ تُخشَى وهي صامتةٌ ... وَالكَلْبُ يَخشي لَعَمْرِي وَهو نَبَّاحُ
238- لا حليم إلا ذو عثرة.
239- الزائر لمن يستثقله مذل نفسه ومهين لها، من جالس عدوه فليحترس من منطقه.
240- من اشتهر وعرف بالصدق عبر كذبه بناء على الغالب.
241- من اشتهر بالكذب لم يعبر صدقه بناء على ما اشتهر منه.
242- من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق.
243- مؤمل النفع من البخلاء واللئام كمبتغي الماء من السراب والحوت في البراري والصحاري.
244- من قل خير على أهله فلا ترج خيره أبدا.
245- الإكثار من الملامة يذهب المودة غالبا.
246- من ألح في المسألة على غير الله استحق الحرمان.
247- صحبة الفاسق شين وتدل على أن المصاحب له ضعيف العقل والدين.
248- العجز والكسل والتواني، مولدات الفقر والحسرة والندامة والذلة في الدنيا والآخرة.
249- من تفرغ للشر يطلبه، سلط عليه من يغلبه.
250- من أمل أحدا رجاه وهابه ومن لم يدرك لشيء عابه فعلق رجاءك وأملك بالله جل جلاله.
251- لا يضر العلماء قدح السفهاء والجهلة والفسقة والمغرضين(3/17)
والمنافقين كما لا يضر السحاب نباح الكلاب.
252- من سعى إليك سعى عليك غالبا ومن نم عندك نم بك في الغالب فتحفظ.
253- أخر الشر والعقوبة حتى يسكن غضبك فربما رجعت إلى الحق وتركت الشر لأهله.
254- بلاء الإنسان في الغالب من اللسان والفرج.
255- بطيب السريرة تحمد السيرة بإذن الله تعالى.
256- بالعدل قامت السموات والأرض.
257- بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا.
258- التثبت في الأمور حزم والتبذير يدمر الكثير.
259- التحية تزرع المودة في القلوب في الغالب.
260- التثبت طريق إلى الإصابة لمن وفقه الله.
261- ترك الذنب أيسر من طلب التوبة فتنبه.
262- التقوى ذخيرة المعاد فالزمها.
263- حصول السعادة بطاعة الله وتوفيقه لمكارم الأخلاق.
264- ثمرة العلم النافع بثه ونشره بين العباد.
264- تهادوا تحابوا وتواضعوا لله يرفعكم الله.
266- التواضع يورث المحبة بإذن الله تعالى.
267- من توكل على الله جل جلاله كفاه وحفظه.(3/18)
"فصل"
التودد إلى عباد الله المستقيمين على اتباع الكتاب والسنة من علامات رجاحة العقل.
268- التواضع من أخلاق الكرام.
تمام المعروف والإحسان تعجيلهما وسترهما.
269- أول من يزهد في الغادر من غدر له وأول من يمقت ويبغض شاهد الزور من شهد له وأول من تهون الزانية بعينه من زني بها لأنه كشف سترها والعياذ بالله.
270- الباخل بالعلم ألأم وأخس من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال يخاف من ذهابه والباخل بالعلم بخل بما يزيد وينمى ويثبت مع البذل له.
271- حد البخل الامتناع عن ما يجب عليه أو الامتناع عن بعضه مع القدرة عليه، وحد الجود بذل الفاضل في وجوه البر والإحسان إلى عباد الله المؤمنين.
إذ نِلْتَ مِنْ دُنياك خَيرًا فَجُدْ بِهِ ... فَإِنَّ لِجَمعِ الدَّهْرِ من صَرْفِهِ شَتَّى
فَكَمْ مِن مُشَتٍ لَمْ يُصيِّفُ بأهْلِهِ ... وَآخَرُ لَمْ يُدْرِكْهُ صَيْفٌ إِذا شَتَى
272- أجل العلوم وأنفعها وأحسنها ما قربك إلى الله، وما أعانك على طاعته ورضاه.
273- منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويسمع الثناء الحسن على الطاعات فيرغب فيها ويجد ويجتهد فيها ويسمع قبح الرذائل فينفر منها(3/19)
ويبتعد عنها.
274- انظر في المال والحال والصحة إلى من هو دونك وانظر في العلم والدين والأخلاق الفاضلة إلى من هو فوقك لتجمع بين التواضع وعلو الهمة.
275- من استخف بشيء من حرمات الله فلا تأمنه على شيء مما تخاف عليه وكن منه على حذر دائما لأن من لا يخاف الله لا يؤمن على شيء أبدا.
276- لا تغتر بكلام المنافقين والنمامين والمغتابين عمي البصائر الذين يصفون اليهود والنصارى وسائر الكفار بالوفاء والصدق والإخلاص، ويصفون المؤمنين بالتغفيل والغدر والخيانة والغش والعياذ بالله، ويختارون الكفار لأعمالهم فالكفار لم يفوا مع الله جل وعلا الذي خلقهم ورزقهم بل خانوا الله ورسوله والمؤمنين وحذرنا الله جل جلاله عنهم فإياك ثم إياك أن تغتر بكلام المنافقين فتمدح أعداء الله ورسوله والمؤمنين فتهلك مع من هلك.
277- النصحية مرتان فالأولى فرض وديانة لأخيك المسلم والثانية تنبيه وتذكير وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع مع القدرة إن أمكن ولم يحصل عليك أو على من حولك ممن يتصل بك ضرر.
278- النصح يكون سرا لا جهرا عند الناس وبتعريض لا تصريح إن خفت أن ينفر وإن لم يفهم التعريض فلا بد من التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت فأنت مخطئ.
279- قال بعض العلماء الزم الأدب وفارق الهوى والغضب واعمل في أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزبا والتأني صاحبًا والسلامة كهفا والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.(3/20)
موعظة
أيها العبد حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في سرعة انقراض مدتك واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك.
وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر هل نفسك معك على الشيطان والهوى والدنيا أو عليك في مجاهدتك.
لقد سعد من حاسبها وفاز من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما قصرت أو ونت عاتبها وكلما توقفت جذبها.
قال عليه الصلاة والسلام "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
وقال عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوها بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] .
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/21)
(فصل)
280- قال أحد العلماء: اعلم أن الذي يقضي منه العجب حالة الإنسان في غفلته عن الاهتمام بأمر الموت وفي عدم الروعة منه مع تيقنه أنه لا بد له منه وأنه في حال السعي إليه لا يفتر عن ذلك لحظة.
شعرا:
أَتْطَمعُ أَنْ تُخَلَّدَ لا أَبَالَكْ ... أَمِنْتَ يَدَ المَنيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ
أَمَا والله إِنَّ لَهَا رَسُولا ... بِهِ لَوْ قَدْ أَتَاكَ لِمَا أَقَالَكْ
كَأَنِّي بالتُّراب عَليك يُحْثَى ... وَبِالبَاكِين يَقْتَسِمُونَ مَالَكْ
ْ
أَلا فَاخْرُجْ مِن الدُّنْيَا سَلِيْمًا ... وَرَجّ من المَعَاشِ بِمَا رَجَالَكْ
فَلَسْتُ مُخَلِفًا في النَّاسِ شَيْئًا ... وَلَسْتُ مُزَودًا إِلا فِعَالَكْ
281- ما شيء أضيع وأضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وما شيء أضيع وأضعف من جاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته.
282- من علامات الاستدراج العمى عن العيوب وصرف نعم الله في معاصيه.
283- ثبات الملك يحصل لمن وفقه الله للعدل والاستقامة.
284- الثقة بالله أزكى أمل والعمل الصالح أحسن عمل.
285- الجاهل من يعصي الله في طاعة هواه والشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
286- الحازم من اتقى الله وعمل بما يرضيه.(3/22)
287- الحركة ولود والسكون عاقر.
288- الحسد يذيب الجسد ويطيل النكد والكمد.
289- الحسد آفة الدين وداعية النكد ومطية التعب.
290- الحق ينجي بإذن الله والباطل يردي.
291- خير المال ما أنفق في سبيل الله وما وقى به المؤمن عرضه.
292- خير المواهب العقل مع الدين والأدب.
293- الاعتماد على الله والتمسك بدينه والثبات عليه أقوى عصمة واعتماد.
294- رأس البر تقوى الله والورع عما حرم الله.
295- رأس الدين تقوى الله وصحة اليقين.
296- رأس العلم اتباع الكتاب والسنة وما استمد منهما.
297- أسس المآثم الكذب والكفر والنفاق والغش.
298- رب مبلغ أوعى من سامع ورب مشير بما يضر ورب ملوم لا ذنب له ورب هزل قد عاد جدا.
299- الرفق مفتاح القلوب والسعيد من وعظ بغيره وسرور الدنيا كأحلام النائم والسراب اللامع.
قال بعضهم:
حبال الدنيا تغر الغر، المتمسك بها
يلعب بلعاب الشمس الدنيا كالمرأة الفاجرة لا تلبث مع زوج.
مَيَّزْتُ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا المَلاحَةُ بِالقَبَاحَةِ لا تَفِي
حَلفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهودَهَا ... فَكَأنَّها حَلَفَتْ لَنَا أَنْ لا تَفِي(3/23)
وقال آخر:
نَجِّ نَفْسًا عَنْ القَبِيحِ وَصُنْها ... وَتَوَقَّ الدُّنْيَا وَلا تَأَمَنَنْهَا
لا تَثِقْ بِالدُنا فَمَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا ... لِحَي وَديعةً لَمْ تَخُنْهَا
إِنَّمَا جِئْتَهَا لِتَسْتَقبلَ المَوتَ ... وَأَسْكِنْتَهَا لتُخْرِجَ عَنَّهَا
سَتُخَلِّي الدُّنْيَا وَمَالَكَ إِلا ... مَا تَبَلَّغْتَ أَو تَزَوَّدْتَ مِنْهَا
وَسَيَبْقى الحَديثُ بَعْدَكَ فَانْظُر ... خَيْرَ أُحدُوثةٍ تَكُونُ فَكُنَّها
300- أعظم الظلم وأفحشه وأقبحه الشرك بالله.
301- الظالم لئيم وظلم الضعيف من أفحش الظلم وأخبثه.
302- الظلم ظلمات يوم القيامة، وعاقبته وخيمة وهو مسلبة للنعم ومجلبة للنقم.
303- العاقل من أطاع الله وعقل لسانه ووعظته التجارب، والجاهل من يعصي ربه في طاعة هواه.
304- عظ المسيء بحسن أفعالك، وعظ الناس بعملك وقولك فلا خير في قول يخالف الفعل.
305- العلم حياة القلوب، وهو خير من المال، وهو وراثة كريمة.
306- عمل البر خير صاحب، وهو عنوان على الطوية والعمل حياة والبطالة موت حاضر.
307- العمر أنفاس معدودة، وتفنيه اللحظات.
308- الغضب مفتاح الشرور، وربما أفسد الإيمان والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/24)
(فصل)
309- الفرصة تمر مر السحاب فاغتنمها في طاعة الله.
310- وقال آخر ذهبت الأيام وكتبت الآثام وإنما ينفع الملام متيقظًا والسلام.
وَعَظَتْنا بِمَرِهَا الأَيْام ... وَأرَتْنَا مَصَيْرَنَا الأَرْجَامْ
وَدَعَتْنا المنونُ في سنةِ الغَفلة ... هُبُّوا واسْتيقِظوا يَا نِيْام
لَيْتَ شِعْري ما يَتَّقي المرء والرَّامي ... لَهُ الموتُ وَالخطوبُ سِهَامْ
مَنْهَلٌ وَاحدٌ شَرائعُهُ شَتَّى ... وَعليه للوَارِدِين ازْدحامْ
نَتَحَامَاهُ مَا اسْتَطَعْنَا وَتَحْدُو ... نَا إليه الشُّهورُ والأعوامْ
وَإِذَا رَاعَنا فَقيدٌ نَسِيْناهُ ... تَنَاسِي مَا رَاعَهُنَّ السَّوامْ
أَوْقُوفًا عَلَى غُرُورٍ وَقَدْ زَلَّتْ ... بِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا الأَقْدامْ
وَوَرَاءَ المَصِير في هَذهِ الأَجْدا ... ثِ دَارٌ يَكونُ فِيْهَا المَقَامْ
311- قرب الصالحين داع للصلاح وقرب الأشرار والركون إليهم مضرة على العقول والأبدان والأديان والأخلاق.
312- الغفلة عن ذكر الله وما ولاه أشد الأعداء ضررا على الإنسان فإياك أن تغفل عن ذكر الله ولا لحظة.
شعر:
مَا دُمْتَ تَقْدِرْ فأكْثِرْ ذِكْرَ خَالِقَنا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
فَسَوْفَ تَنْدَمُ إَنْ فَرَّطْتَ في زَمَنٍ ... مَا فِيْهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَواتِ
313- لا تقل بغير تفكير، ولا تعمل بغير تدبير، ولا تستبد بتدبيرك(3/25)
واعتمد على الله في جميع أمورك.
314- جمال المرء في تقواه واستقامته على طاعة الله ومتابعته للكتاب والسنة.
315- مخالطة الكفار والمنافقين والفسقة مفسدة عظيمة، وهدم للدين، والشرف والأخلاق.
316- الجنود المتمسكين بالكتاب والسنة المعتمدين على الله، حصون البلد بإذن الله تعالى.
317- ثبات الملك بإذن الله بالعدل والاستقامة على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
عَليكَ بِالعَدْلِ إِنْ وُلِيْتَ مَمْلَكَةً ... وَاحْذَرْ من الجَوْرِ فِيْهَا غَايةَ الحَذَر
فَالمُلكُ يَبْقَى مَعْ الكُفر البَهِيْمِ وَلا ... يَبْقَى مَعَ الجَوْرِ فِي بَدْوٍ لا حَضَرِ
318- ينبغي للرئيس أن يبتدي بتقويم نفسه قبل أن يبتدي بتقويم رعاياه.
يَا أَيُّهَا الرَّجلُ المُعلمُ غَيْره ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَعليمُ
تَصف الدَّواءَ للسِقامِ مِنْ الضِنى ... كَما يَصِحُ به وأنت سقيمُ
319- التوكل على الله كفاية، والتوفيق رحمة وهو أول النعمة.
320- جنة الرجل المسلم في الدنيا المسجد وبيته إن كان فيه ما يحثه على طاعة، وليس فيه شيء من المحرمات كالصور، والتليفزيون، والفيديو، والمذياع، والخدامين، والخدامات، الذين لا يصلون أو جاءوا من بلادهم بدون محرم، والعياذ بالله فاحذر وحذر عن هذه الأشياء كلها بكل ما تقدر من التحذير عنها وابتعد عنها واسأل ربك الثبات وأن يبعدك عنها.(3/26)
شعرا:
ألا أيَّها اللاهي وقد شاب رأسُهُ ... أَلَمَّا يَزعْكَ الشَّيْبُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
أَتَصْبُوا وَقَدْ نَاهَزْتَ خَمْسينَ حِجَّةً ... كَأَنَّكَ غِرٌ أو كَأَنَّكَ يَافِعُ
حَذَارِ مِن الآفَاتِ لا تَأَمَنَّنها ... فَتَخْدَعُكَ الآفاتُ وَهِي خَوَادعُ
أَتَأَمَنُ خَيْلا لا تَزَالُ مُغيرةً ... لَهَا كُل يَوْمٍ في أُنَاسٍ وَقَائِعُ
وَتَأملُ طُولَ العُمْرِ عندَ نَفَادِهِ ... وَبِالرأسِ وَسْمٌ لِلْمَنيَّةِ لامِعُ
يُرجى الفَتَى وَالمَوتُ دُونَ رَجَائِهِ ... وَيَسْرِي لَهُ سَارِي الرَّدَي وَهو هَاجِعُ
هاجع
تَرَحَّلْْ من الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَإِنَّكَ مَجْزِيٌ بِمَا أَنْتَ صَانِعُ
321- احرص أن يكون دعاؤك في أوقات الإجابة وذلك عندم تسمع الأذان وعندما يدخل الإمام يوم الجمعة للخطبة وفي آخر الليل وفي آخر ساعة من يوم الجمعة وبين الأذان والإقامة.
322- من أفضل العبادات انتظار الفرج من الله والإلحاح على الله بالدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
قال بعض العلماء رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو الله فيكرر الدعاء وتطول المدة ولا يرى أثرا للإجابة فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب ولقد عرض لي من هذا الجنس فإنه نزلت بي نازلة فدعوت وبالغت فلم أر الإجابة فأخذ إبليس يجول في كيده فتارة يقول الكرم(3/27)
واسع والبخل معدوم فما فائدة تأخير الجواب فقلت اخسأ يا لعين ثم عدت إلى نفسي فقلت إياك ومساكنة وسوسته فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفى في الحكمة وقد ثبتت حكمته جل وعلا بالأدلة القاطعة فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه وقد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل يقول دعوت فلم يستجب لي".
وقد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة أو قلبك وقت دعائك غافل أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه وينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب فربما كان في حصوله زيادة إثم أو تأخير عن مرتبة خير فكان المنع أصلح وربما كان فقد ما فقد للاشتغال به عن المسئول وهذا هو الظاهر بدليل أنه لولا النازلة ما لجأ وتضرع إلى الله اهـ.
323- رب أخ لك لم تلده أمك، ورب بعيد أقرب من القريب، ورب أمنية جلبت منية، ورب حال أفصح من لسان، ورب سكوت أبلغ من كلام، ورب ساع فيما يضره، ورب عطب تحت طلب، ورب مبلغ أوعى من سامع، وملوم لا ذنب له.
324- رب كلام جوابه السكوت ورب عمل الكف عنه أفضل ورب خصومة الإعراض عنها أصوب.
325- العجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة ولا يترك الذنوب مخافة رب العالمين ويستحي من الخلق ولا يستحي من الله الذي لا تخفى عليه خافية.
326- التواني والعجز والتماهن، إضاعة ومن أسباب الإفلاس، والفقر، والتدهور.(3/28)
327- من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو يقدر على تعلم الأعلى كان كمن يغرس الإثل والسدر ونحوهما في الأرض التي يزكو وينمو فيها النخيل والرمان والتفاح والبرتقال والزيتون وأعلى العلوم التوحيد والتفسير والحديث والفقه.
328- نشر العلم على من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك التمر والحلوى ونحوهما لمن به مرض السكر وكإطعامك الحوار كالفلفل ونحوه مما هو شديد الحرارة لمن به قرحة معدة وبواسير.
329- من رأى نفسه تميل إلى علم من علوم الشريعة كالتفسير والتوحيد والحديث والفقه فليقبل عليه وليحمد الله على ذلك ولا يشتغل بغيره حتى يمهر فيه.
330- من شغله طلب الدنيا عن الآخرة، ذل إما في الدنيا وإما في الآخرة ومن نظر في سيرة السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الكمال.
331- كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم يعرفون قيمة الوقت يقول الحسن البصري أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم وقال يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
332- قال ابن مسعود ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي.
333- من جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه يوم يعرف فيه قيمة الوقت ولكن بعد فوات الأوان ويتمنى أنه شغل وقته الماضي الذي أهمله بالباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وقراءة قرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/29)
لله در العارفين بزمانهم إذا باعوا ما شانهم بإصلاح شأنهم ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا شمروا عن سوق الجد في سوق العزائم وجادوا مخلصين فربحوا إذا خسر النائم.
فَكَمْ هَذَا التَّصَامُمُ وَالتَّعَامِي ... وَكَمْ هَذَا التَّغَافُلِ وَالتَّوانِي
فَلَوْ أَنَا فَهِمنا عن خَرَاب الديا ... ر مَقَالَهَا لَم يَبْن بَانِ
وَيَجْني العَيْشُ كلَّ أَذى وَيُهْوى ... فَيَا للعَيْشِ يُعْشقُ وَهو جَانِ
فَلِلَّهِ الأولي دَرَجوا جميعًا ... وَزَادهم النَّجَاءُ مِنَ البَنانِ
وَلَمَّا أَنْ رَضوا شُعثَ النَّواصِي ... تُقي وَهَبُوا التَّصَنُعِ لِلْغَوَانِي
آخر:
تَبْنِي المَنَازِلَ أعمال مُهَدَّمةٌ ... من الزَّمانِ بِأَنفاسٍ وَسَاعاتِ
آخر:
وَنَبْنِي القُصُورَ المشمخِراتِ في الهَوا ... وَفِي عِلْمنا أنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ
334- وقال أحد الحكماء القلب مثل البيت الذي له ستة أبواب ثم قيل احذر أن لا يدخل عليك من أحد الأبواب شيء فيفسد عليك البيت والِأبواب هي العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت.
335- قيل لأحد الفقراء الأذكياء الزهاد في الدنيا وحطامها ما أفقرك فقال لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي فالفقر ملك ما عليه محاسبة.
336- قيل لمحمد بن واسع رحمه الله أترضى بالدون فقال إنما رضي بالدون من رضى بالدنيا بدلا من الآخرة.(3/30)
337- وقال زاهد لملك أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها.
338- قيل لأحد الزهاد أترضي من الدنيا بهذه الحالة فقال ألا أدلك على من رضي بدون هذا قال نعم قال من رضي بالدنيا بدلا من الآخرة.
339- العاقل حقيقة هو من آثر طاعة الله على المعصية وآثر العلم النافع وهو ما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الجهل وآثر الدين الإسلامي على الدنيا وكف أذاه عن الناس.
340- شر المقال ما أوجب الملام وشر الناس من يتقيه الناس إتقاء شره، والشقي من جمع لغيره والشرف التمسك بالدين الإسلامي بهمة عالية.
341- قيل من علامات التوفيق للإنسان دخول أعمال البر عليه من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنه مع سعيه إليها وفتح باب الالتجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبه وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره والاستغفار.
أَيا مَن لَيْسَ لي مِنْهُ مُجيْرٌ ... بِعَفْوكَ مِن عَذَابك أَسْتجِيْرُ
أَنَا العَبْدُ المُقِرُّ بِكُلِّ ذَنْبٍ ... وَأَنْتَ السَّيْدُ المَولَى الغَفُوْرُ
فَإِنْ عَذَّبْتَنِي فَبِسُوءِ فِعْلِي ... وَإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ بِهِ جَدِيْرُ
أَفِرُّ إِِليكَ مِنْكَ وَأَيْنَ إِلا ... إِليكَ يَفِرُّ مِنْكَ المُسْتَجِيْرُ
وصلى الله على محمد وآله أجمعين(3/31)
(فصل)
342- من علامات الخذلان وقلة التوفيق تعسر فعل الطاعات على الإنسان مع السعي فيها ودخول المعاصي عليه مع هربه منها وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع والدعاء واتباع الحسنة بالسيئات واحتقاره لذنوبه وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها ونسيانه لربه.
343- المراقبة في ثلاثة أشياء مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبته عند ورود المعصية بتركها ومراقبته في الهم والخواطر والسر والإعلان.
344- رأى رجل أحد الحكماء يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء، فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال الحكيم، وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.
345- قال رجل لآخر كيف حالكم مع السلطان قال كما قال الله جل جلاله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} .
346- الشقي من جمع لغيره وأهمل نفسه والشؤم سوء الخلق والشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية.
347- صدق الإخاء في الشدة والرخاء وصحبة الجاهل شؤم وصداقته تعب وعناء ومشقة فأحذره.
وَلَيْسَ خَلِيلي بَالملُولِ ولا الذي ... إِذَا بِنْتُ عَنْهُ بَاعنى بِخَلِيْلِ
وَلَكِنْ خَلِيلِي مَنْ يَدُومُ وَصَالُهُ ... وَيَحْفَظُ سِرِّي عِنْدَ كُلِّ دَخِيْلِ
348- صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصلة الرحم تزيد في العمر(3/32)
والصفح الجميل من أحسن الشيم والصدق منجاة وكرامة.
349- المصائب في الدنيا عند الاشتراك فيها تهون أما في الآخرة فلا، قال الله تعالى عن أهل النار: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
شعرا:
واخَجلَةِِ القَلْبِ مِن إِحْسَانِ سَيْدِهِ
وَاحَيْرةَ القَلْبِ مِنْ أَلْطَافِ نَعْمَاهُ
واح
وَاحَسْرةَ الطَّرْفِ كَمْ يَرنُوا لِخائِنةٍ ... مِن المآثِم لا يَرْضَى بِهَا الله
فَكَمْ أَسَاتُ وبِالإِحْسَانِ عامَلني ... واخَجْلتي واحيائي حِيْن ألقَاهُ
وَكَمْ لهُ مِنْ أَيادٍ غَيْرِ واحدةٍ ... وَافَتْ إِلى تُريْنِي أَنْهُ الله
بِلُطْفِهِ وبفضْلٍ مِنْهُ عَرَّفني ... في حُبِّهِ كَيْفَ أَرْجُوهُ وَأَخْشَاهُ
350- الشريعة المحمدية صلاح البرية، والشفيع جناح الطالب، والكشر لله زينة الغني، وهو من الإيمان.
351- السلامة في الاستقامة على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
352- الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر جنة من الفاقة بإذن الله، والصبر عدة البلاء والصبر مر لا يتجرعه إلا حر قال الشاعر:
شعرا:
وَالصَّبرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌ مَذاقَتُهُ ... لَكِنْ عَوَاقُبهُ أَحْلَى مِن العَسَلِ
آخر:
نَعَى لكَ ظِلُّ الشَّبَاب المشيب ... وَنَادَتْكَ بِاسْم سِوَاكَ الخُطُوبِ(3/33)
فكن مُسْتعد لِدَار الفنَاء ... فَإِنَّ الذِي هو آتٍ قَريب
أَلَسْنَا نَرى شَهواتِ النُفُوس تَفْنَى ... وَتَبْقَى عليها الذُّنُوب
وَقَبْلَكَ دَاوَي المرِيضَ الطَبيْبُ ... فَعَاشَ المَريْضُ وَمَاتَ الطَبيب
يَخَافُ على نَفْسِهِ مَنْ يَتُوب ... فكَيْفَ تَرى حال من لا يَتُوب
353- ضل من ركن إلى الأشرار، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، والطيور على أشكالها تقع، وطاعة النساء ندامة في الغالب في غير طاعة الله لأنهن ناقصات عقل ودين.
354- العاقل من وعظه الكتاب والسنة والتجارب والعدل يجمع القلوب في الغالب بإذن الله قال الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} والعدل حياة والجور موت.
355- احذر الغفلة ومخاتل العدو وطربات الهوى وأماني النفس وضراوة الشهوة، وقال آخر أطلب آثار من زاده العلم خشية والعمل بصيرة والعقل معرفة، واعلم أن في كل فكرة أدبا وفي كل إشارة علما وإنما يميز ذلك من فهم عن الله مراده وجني فوائد اليقين من خطابه، وعلامة ذلك في الصادق أنه إذا نظر اعتبر وإذا صمت تفكر وإذا تكلم ذكر وإذا منع صبر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي حمد الله واسترجع وإذا جهل عليه حلم وإذا علم تواضع وإذا علم رفق وإذا سئل بذل.
357- المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مدح وأثنى عليه وذكر طرفا مما وهبه الله من المحاسن استحيا تعظيمًا وإجلالاً أن يثنى عليه فيزداد بذلك مقتا لنفسه واستحقارا لها ونفورا عنها ويقوى عنده رؤية إحسان الله تعالى إليه(3/34)
وشهوده فضله عليه ومنته في إظهار المحاسن عليه ويشكر الله ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعدو ولا تحصى.
358- من علامات المعرفة بالله القيام بحقوقه والتخلص من حقوق العباد ومن علامات محبة العبد لله اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} .
359- ست خصال يرفع الله بها العبد العلم النافع والأدب المستفاد من الكتاب والسنة والأمانة والعفة والصدق والوفاء.
360- عمارة القلب في أربعة أشياء في العلم النافع والتقوى وطاعة الله وذكره وخرابه من أربعة أشياء من الجهل والمعصية والاغترار والغفلة والنسيان الله.
361- من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فرط منك من الزلات قال - صلى الله عليه وسلم - "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن".
362- من نتائج المعصية قلة التوفيق وفساد الرأي وخفاء الحق وفساد القلب وخمول الذكر وإضاعة الوقت ونفرة الخلق والوحشة مع الرب ومنع إجابة الدعاء وقسوة القلب ومحق بركة العمر ولباس الذل وضيق الصدر.
363- الشكر من أعلى المقامات وهو أعلى من الصبر والخوف والزهد وهو مقصود لنفسه ولذلك لا ينقطع في الجنة وليس فيها خوف ولا توبة ولا صبر ولا زهد والشكر دائم في الجنة قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
364- أما كيفية الشكر لله فيتم بأمور:
أولا: أن يحمد الله على نعمه بلسانه ويشكره.(3/35)
ثانيا: أن يعتقد أن هذه النعمة أو النعم آتيته من الله.
ثالثا: أن لا يستعين بها على معاصيه بل يطيع الله فيها.
رابعا: أن يعرف فضل الله عليه وكرمه فليستحي من الله فلا يعصيه.
365- العلم بلا عمل ضرر ووبال، والعلم حياة القلوب والعلم إذا عمل به خير من المال العلم وراثة كريمة.
366- آية العقل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والعقل فضيلة الإنسان والعقول مواهب من الله وعمل البر خير صاحب وخير الزاد تقوى الله جل وعلا.
مَنْ يَغْني بالله يجد رُوحَ الغِنَي ... وَالله يُوفِي مَن يشأ ما يشأ
وَخَيْرُ مَا يَدَّخِرُ المَرءُ التُّقَى ... وَخَيْرُ أثواب الفتى ثَوبُ الحِجا
مَا أَقْبَحَ الصَّبْوة مِن بَعْدِ النُّهى ... إِنَّ المشيْبَ قَدْ طَوَى ثَوْبَ الفَتَى
فَبَادِرِ المَوْتَ وَدَعْ عَنْكَ الهَوَى ... فَإِنَّه عَمَّا قَلِيْلٍ قَدْ أَتَى
قَدْ قِيْلَ فِيْمَا قَدْ مَضَى قَوْلٌ جَرَى ... عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى
وَتَلْفُظُ العَيْنُ عُلالاتِ الكَرَى ... أَيْنَ ذَوُو المَالِ وَأَرْبَابُ القُرى
من عَمَر الدُّنْيَا ومن شاد البِنَا ... أَضْحَوا جَمِيْعًا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرى
لا أَثَرَ مِنْهُمْ ولا عَيْنٌ تُرى ... إِنَّ أَخَا اللُّبِ تَنَاهَى وانْتَهَى
لَيْسَ سَوَاءً مَنْ أَطَاعَ وَاتَّقَى ... ومن على الله بِجَهْلٍ افْتَرَى
367- اغتنم الفرصة لطاعة الله فإنها تمر مر السحاب، الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما بما يحبه الله ويرضاه ومن طلب العز ناله بطاعة الله عز وجل.(3/36)
368- ما استهان قوم بالدين إلا حل بهم الهوان وما أكثر العبر وأقل الاعتبار، وما أوضح الحق لمن طلبه بالصدق والإنصاف.
369- ما أقرب العقوبة والنقمة من أهل البغي والعدوان، لا تعن قويا على مؤمن ضعيف.
370- لا تقل بغير تفكير ولا تقل ما لا تفعل ولا تكن حاطب ليل ولا تلم غيرك بما أنت فيه.
371- أخوك المخلص لك من عرفك العيوب وصديقك حقيقة من حذرك من المعاصي والذنوب.
372- على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلق بأمرك.
373- عجب ممن يحزن على نقصان ماله كيف لا يحزن على نقصان عمره ودينه.
مَالِي أَرَى النَّاس والدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ ... وَكُل جَمْعٍ عليها سوف يَنْدِثرُ
لا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُم نُقِصوا ... يَومًا وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَا هُمُوا شَعَرُوا
374- قال رجل لعامر بن قيس وهو يريد صلاة الجمعة قف حتى أكلمك فقال لولا أني أبادر لوقفت لك قال وما تبادر قال أبادر خروج روحي وجلس آخر إلى رجل ممن عرفوا قيمة الوقت يريد أن يتحدث معه فقال أنا في شغل اذهب إلى أمثالك ممن لا يعرفون قيمة الوقت فانصرف.
إِذَا كَانَ رَأَسُ المَالِ عُمْركَ فاحْترِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/37)
(فصل)
375- اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن عمر الإنسان ميدان للأعمال الصالحة المقربة إلى الله والموجبة الثواب له في الدار الآخرة وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} .
بَقيَّةَ العُمْرِ عِنْدِي ماله ثَمَن ... وَإِنْ غَدَا لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنَ الزَّمَنِ
يَسْتَدرك المَرءُ فِيْهَا كُلَّ فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوء بِالحسنِ
376- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "بقية عمر المرء ما لها ثمن يدرك فيها ما فات ويحيي ما أمات".
377- وقال آخر العمر أنفاس معدودة وتفنيه اللحظات.
وَمَا نَفْسٌ إِلا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... وَيُدْنى المنايا للنُفُوسِ فَتَقْرُبُ
آخر:
ذَهَبَ الفتى وَمضى بغير توقُفٍ ... كَهِلال أول ليْلة مِن شَهْرِهِ
آخر:
أَرَانا على السَّاعَاتِ فُرْسَانَ غَارةٍ ... وَهُنَّ بِنَا يَجْرِينَ جرْي السَّلاهِبِ
وعن ابن عباس أنه قرأ {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم84] فبكى وقال آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.(3/38)
وقال آخر: إخواني تفكروا في مصارع الذين سبقوا وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا:
وَالمَرءُ مِثلُ هِلالُ عِنْدَ طَلعتِهِ ... يَبْدُو ضئيْلاً لَطِيْفًا ثُمَّ يَتَّسِقُ
يَزْدَاد حتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبهُ ... كَر الجديدين نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بُهجْتُ بِهِ ... فَقَدْ تَطَايْرَ مِنْهُ لِلْبَلَى خِرَقُ
عَجِبْتُ والدهْر لا تَفْنَى عَجَائبُهُ ... للرَّاكنين إلى الدُّنْيَا وَقَدْ صَدَقُوا
وَطَالمَا نُغِّصُوا بِالفَجْعِ ضَاحِيةً ... وَطَالَ بِالفَجْعِ وَالتَّنْغِيْصِ مَا طَرقُوا
دَارٌ تغرُ بها الآمالُ مُهلكةً ... وَذُو التَّجَارُبِ فِيْهَا خَائِفٌ فَرِقُ
يا لِلْرِجَالِ لَمخْدُوْعٍ بِزُخرفها ... بَعْد البَيْان ومغْرُور بها يَثقُ
أَقُولُ وَالنَّفْسُ تَدعوني لِبَاطِلِها ... أَينَ المُلوكُ مُلُوك الناسِ وَالسَّوَقُ
أَيْنَ الذينَ إلى لذَاتِهَا رَكَنُوا ... قَدْ كَانَ فِيْهَا لَهُم عَيْشُ وَمُرْتَفَقُ
أَمْسَتْ مَسَاكِنُهُم قَفْرًا مُعَطَّلَةً ... كأنَّهُم لَمْ يَكنُوا قَبْلَهَا خُلقُوا
يَا أَهْل لَذَّاتِ دَارٍ لا بَقَاء لَهَا ... إِنَّ اغْتَرَارًا بِظلٍ زَائِلٍ حُمُقُ
378- وعن ابن السماك وقد قرأها إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع أن تنفد:
تَنَبَّهْ فإِنَّ الدَّهر ذُو فَجَعَاتِ ... وَشَمْلُ جَمِيْع صَائِرٌ لِشَتَاتِ
تَخَلَّفُ مأمُوْلاتُنا وَكَأَنَّنَا ... نَسِيْرُ إِلَيْهَا لا إِلى الغَمَراتِ
هَلْ المَرْءُ فِي الدُّنْيَا الدَّنيَّةِ نَاظِرٌ ... سِوَى فَقَدْ حِبٍّ أَوْ لِقَاءِ مَماتِ
سَيُسْقَى بَنُو الدنيا كؤوسَ حُتُوفِهِم ... إلى أَنْ يَنَامُوا لا مَنَامَ سُبَاتِ(3/39)
وَمَا فَرِحَتْ نَفْسٌ بِبَلْوَى وَقَدْ رَأَتْ ... عِظَاتٍ مِنَ الأَيْامِ بَعْدَ عِظَاتِ
إِذَا بَغتَتَ أَشْيَاءُ قَدْ كَانَ مِثْلُها ... قَدِيمًا فَلا تَعْتدها بغتاتِ
وَأَعْقِبْ مِن النَّومِ التَّيَقُظ رَاشِدًا ... فلا بُدَّ لِلنُّوامِ من يَقظاتِ
ومن عظة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء، فأحذر هذه الدنيا الخداعة الغدارة الختالة التي قد تزينت بخدعها وقتلت بغرورها وتحلت بآمالها وسوفت بخطابها.
فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة وهي لأزواجها كلهم قالية، فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغصته وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد.
فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء إلى فناء فسرورها مشوب بالأحزان أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وابن آدم فيها على خطر اهـ , وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(3/40)
(فصل)
379- اعلم أن عدم الاهتمام بأمر الموت وعدم الروعة منه وما بعده والله أعلم حب الدنيا والهوى وطول الأمل والشيطان والنفس الأمارة بالسوء وقيل والله أعلم إن السبب الحقيقي هو سلب الله للخواطر المنصرفة إلى ذكر الموت وتصور حقيقة أمره، وسلب الدواعي إلى الاشتغال به لما في ذلك من الاعتماد على الدنيا وانتظام أمرها الذي هو مقصود للحكيم.
380- ولما كان الموت أمرا حتما لا بد منه لكل نفس فلا بد من تذكره دائما وأبدا ففي تذكره محاسبة للنفس على ما قدمت من خير أو شر فإن قدمت خيرا فذكر الموت يريحها ويحثها على التزود من الأعمال الصالحة والابتعاد عن كل شر وإن فرطت وأهملت واستمرت على فعل المعاصي والشرور فذكر الموت يردعها عن غيها وطغيانها ويحول بينها وبين عبثها.
يَا وَيْحَ نَفْسِي من تتابع حَوْبتي ... لو قد دعاني للحساب حسيبي
فَاسْتَيْقِظِي يَا نَفْسُ وَيَحكِ وَاحْذَرِي ... حذرًا يَهيجُ عَبْرتي وَنَحِيْبي
وَاسْتَدرِكي ما فات مِنْكِ وسابِقي ... سَطواتِ موْتٍ لِلْنُفُوس طَلُوبِ
وَابْكِي بُكاء المُسْتَغِيْثِ وَأعْولِي ... إِعْوالَ عَانٍ في الوثاقِ غَرِيْبِ
هَذَا الشَّبَابُ قَدْ اعْتَلَلْتُ بِلَهْوِهِ ... أَفَلَيْسَ ذَا يَا نَفْسُ حِيْنَ مَشيْبِي
هَذَا النَّهَار يَكرُّ وَيْحَكِ دَائِبًا ... يَجْرِي بِصَرْف حَوادثٍ وخُطُوبِ
هَذَا رقيْبٌ لَيْسَ عَنِّي غافِلاً ... يُحْصِي عليَّ وَلَوْ غَفَلْتُ ذُنوبِي
أَوَ لَيْسَ مِنْ جَهْلٍ بِأَنِّي نَائِمٌ ... نَوْم السَّفِيْهِ وَمَا يَنامُ رَقِيْبِي(3/41)
وقال بعضهم:
لو عرفت منك نفسك التحقيق لسارت معك في أصعب مضيق، لكنها ألفت التفاتك، فلما طلبت قهرها فاتك هلا شددت الحيازم وقمت قيام حازم، وفعلت فعل عازم، وقطعت قطع جازم، تقصد الخير ولكن ما تلازم.
وَيَعْرِفَ أَخْلاق الجبان جوادُهُ ... فَيُجْهِدُهُ كَرًّا وَيُرْهِبُهُ ذُعْرًا
وَمَنْ يَحْلُ تَطْلابُ المَعَالِي بِصَدرِهِ ... يَجَدْ حُلْوَ مَا يُعْطَاهُ مِنْ غَيْرها مُرًّا
384- أحسن القول ما وافق العمل قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
385- انتبه يا من ضيع عمرا طويلا حمل فيه وزرا ثقيلا كم نصب الموت لك دليلا إذ ساق العزيز ذليلا ولقد حمل إلى القبور جيلا بعد جيلا ونادى في الباقين رحيلا رحيلا فيا إخواني البدار البدار فقد ذهبت الغفلات بالأعمار.
مَكْرُ الزَّمَانِ عَلينا غَيْرُ مَأْمُوْنِ ... فَلا تَظُنَّنَّ أَمْرًا غَيْرَ مَظْنُونِ
بَلْ المخوفُ عَلينا مَكْرة أنْفُسِنا ... ذات المني دُوْن مَكْرِ البِيْضِ والُجوِن
إِنَّ اللَّيالِي وَالأَيَّام قد كَشَفَتْ ... مِن مَكْرِها كُلَّ مَسْتَورِ وَمَكْنُونِ
وَحَدَّثتنا بأنا من فرائِسَهَا ... نَواطِقًا بِفَصِيْح غَيْر مَلْحُونِ
واسْتَشْهَدَتْ من مَضَى مِنَّا فَأَنْبَأنا ... عن ذاك كُلُّ لَقى مِنَّا وَمَدْفُونِ
وأُمُ سُوءٍ إِذَا مَا رَامَ مُرْتضِعٌ ... أَخْلافها صَدَّ عنها صدَّ مَزْبُونِ
وَنَحْن في ذَاكَ نُصْفيها مَودَّتَنَا ... تَبًّا لِكُل سَفِيهِ الرَّأي مَغْبُون
نَشْكُو إِلى اللهِ جَهْلاً قَدْْ أضرَّ بِنَا ... بَلْ لَيْسَ جَهْلاً وَلَكِنْ علم مَفْتُون(3/42)
أَغوى الهَوى كُلَّ ذِيْ عَقْلٍ فَلَسْتَ تَرَى ... إلا صَحِيْحًا لَهُ أَفْعَالُ مَجْنُونِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الأقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل
386- ينبغي لمن وصل إلى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث وستون سنة (63) أن يحرص كل الحرص على حفظ وقته والاعتناء به وتعبيته في الباقيات الصالحات ويجعل الغالب عليه المداومة على تلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتهيؤ للرحيل ويتفقد نفسه وما عليه من حقوق الله وحقوق خلقه ويوفر على نفسه إلا من تصنيف يفتقر إليه ولتكن همته في تهذيب أخلاقه وتنظيف نفسه وتنقيتها وتفقد زلاته وملازمة ذكر الله ليلا ونهارا سرا وجهارا في كل مكان إلا في محل قضاء الحاجة، والمحلات المستقذرة ويكرر ذكر الله والاستغفار خشية أن يفجأه الموت وهو غافل عنه.
أَعِدْ ذكر قال الله قال رَسولُهُ ... هُمَا المِسْكِ ما كَرَّرْتهُ يَتَضَوَّعُ
قال أحد العلماء أعجب ممن عرف الله فعصاه وعرف الشيطان فاتّبعه وعرف الدنيا فركن إليها
387- أعز الأشياء وأشرفها عند الإنسان قلبه ووقته فإذا أهمل قلبه وضيع وقته فماذا بقي معه كل الفوائد ذهبت.(3/43)
388- متى ما جرى أمر لا تعرفه ولا تفهمه ولا تعرف علته فانسب ذلك إلى قصور علمك قال الله جل وعلا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
389- ينمو الفكر بأربع إدامة التفكير، ومطالعة الكتب النافعة واليقظة لتجارب الحياة والإلحاح على الله بالدعاء.
موعظة
لله در العارفين بزمانهم إذا باعوا ما شانهم بإصلاح شأنهم، ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا، وما زالوا حتى نالوا ما طلبوه، شمروا عن سوق الجد في سوق العزائم ورأوا مطلوبهم دون غيره ضربة لازم، وجادوا مخلصين فربحوا وصبحوا منزل النجاة وأنت في اللهو نائم، متى تسلك طريقهم يا ذا المآثم.
للهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالِقَهُم ... فآمنوا واسْتَقَامُوا مِثْل ما أُمِرُوا
وَالوَجْدُ والشوقُ وَالأَفْكَارُ قُوتهُمُوا ... وَلازَمُوا الجَدَّ والإدْلاجَ في البُكَرِ
وَبَادَرُوا لرِضَا مَوْلاهُمُوا وَسَعَوْا ... قَصْدَ السَّبِيْلِ إليه سَعْي مُؤْتَمِرِ
وَشَمَّرُوا وَاسْتَعَدُّوا وِفْقَ ما طُلِبُوا ... وَاسْتَغْرقوا وَقْتهُم في الصَّوم والسَّهرِ
وَجَاهَدُوا وانْتهوا عَمَّا يُبَاعِدُهم ... عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعرِ
جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُم مَا يَشتهون بها ... في مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوض والزَّهرِ
لَهُم مِنَ اللهِ مَا لا شَيءَ يَعْدِلُهُ ... سَمَاعُ تَسْليمِهِ وَالفَوزُ بِالنَّظرِ
390- نصيحة
تنعم بمالك قبل أن يتنعم به غيرك واحرص على بذله فيما يقربك إلى الله والدار الآخرة كبناء المساجد وبث كتب دينية تعين على فهم كتاب الله(3/44)
وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واحذر أن يكون مالك عونا على معاصي الله كالاتجار بالمحرمات كآلات اللهو من فيديوات أو مذياع أو كورات أو دخان أو سينمات أو تليفزيون، واحذر أن تؤجر من يتعاطى هذه المحرمات أو من يبيع المحرمات أو يحلق اللحا أو يصور أو يبيع الصور واحذر مقارنة من يتعاطى هذه المحرمات وخصوصا الذين يلعبون بالكورة أو يحضرونها. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فاحرص كل الحرص على حفظ وقتك وعبه بطاعة الله من تلاوة كتابه وحفظه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنك مسئول عن عمرك فيما أفنيته.
شعرا:
مَا دَارُ دُنْيًا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفوسُ فَريْسَةُ الأقْدارِ
مَا بَيْنَ لَيْلٍ عاكفٍ وَنَهارِهِ ... نَفَسَان مُرْتَشِفَانِ للأعْمَارِ
طُولُ الحَياة إِذَا مَضَى كَقَصِيْرهَا ... وَاليُسْرُ لِلإنْسَانِ كَالإِعْسَارِ
وَالعَيْشُ يَعقبُ بِالمَرارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيْهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ
وَكَأنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرَّدَي ... لِفَنَائِنَا وَطَرًا مِن الأَوْطَارِ
وَالمَرءُ كَالطيْفِ المُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنَّومِ بَيْنَ الفَجْر والأَسْحَارِ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ
ط
نُلْقِي الصَّوارِمَ والرمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلَوْذُ مِنْ حَرْبٍ إلى اسْتِشْعَارِ
إِنَّ الذينَ بَنَوا مَشِيْدًا وَانْثَنَوا ... يَسْعَونَ سَعْي الفَاتِكَ الجَبَّارِ
سُلبُوا النَّضَارَةَ والنَّعِيْمَ فَأصْبَحُوا ... مُتَوسِّدِيْنَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ
تَركُوا دِيَارَهُمُ على أَعْدَائِهِم ... وَتَوسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ(3/45)
خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهُم بِضَعِيْفِهم ... وَغَنِيَّهُم سَاوَي بِذِي الإِقْتَارِ
وَالخَوفُ يُعْجِلُنَا عَلَى آثَارِهِم ... لا بُدَّ مِن صُبْحٍ المُجِدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ المَلَويْن فِيْنَا نَاثِرٌ ... بِأكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأَعْمَارِ
شعرا:
اعْتِزَلْ أَهْلَ المَلاهِي وَالكرُةْ ... واحْذَرْ الفِديُو وَتِلْفَازَ الضَّرَرْ
كَمْ بِهَا قَدْ ضَاع عُمْر يَا فَتِى ... لَوْ صُرِفْ فِي طَاعَةٍ نِعْمَ الذُّخُرْ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/46)
(فصل)
يحتوي على أمثلة نافعة
390- من تعلم العلم النافع وهو ما جاء عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بما علم انتفع ونفع وساد، قال بعضهم مثل من تعلم العلم وعمل به، مثل رجل رزقه الله مالا حلالا طيبا فانتفع به وتنعم به وأنفق منه على جيرانه وأقاربه والمسلمين، ومثل من يتعلم العلم فيعمل به في نفسه ولا يعلم غيره مثل رجل رزقه مالا كثيرا فانتفع به وتنعم به آناء الليل والنهار.
ولا يعطف به على أقاربه ولا جيرانه من المسلمين ولا غيرهم ومثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ولا يعلمه الناس مثل رجل رزقه مالا كثيرا فكل من أخذ منه أو سرق منه لا يبالي بذلك ولا ينفق على نفسه منه ولا على عياله ويموت عياله عريا وجوعا وهو أيضا في بؤس وعري وفاقة من المطعم والمشرب والملبس لا تسمح0 نفسه أن يأكل منه شيئا فقد خسر هو في الدنيا والآخرة نسأل الله العفو والعافية، ومثل من يتعلم العلم للرياء والسمعة ويبذله للناس للمباهات والرفعة في الدنيا مثل السراج ينور للناس، ويحرق نفسه، ومثله أيضا كمثل رجل وضع السراج على طرف سطحه على الشارع فانتفع به المارون في الطريق وبيته مظلم ومثل من يطلب العلوم الكثيرة ويجمعها ولا يعمل بها ولا يرى أثر ذلك عليه فيجمع كتب العلم دائما ولا يمل من طلبها وجمعها مثل من يجمع كل يوم طعاما كثيرا من فنون الأطعمة والأشربة والفواكه وكثيرا مما يسرع إليه التلف ولا يأكل منها ولا يشرب منها وهو جائع وعريان أو يأكل شيئا بسيطا منه فلا يعتبر هذا عاقلا.(3/47)
وقال بعض العلماء: اعلم أن للعالم العامل بعلمه حقيقة علامات وأمارات تفرق بينه وبين علماء اللسان المخلطين المتبعين للهوى المؤثرين للدنيا على الآخرة.
فمن علامات العالم الحقيقي الممتاز أن يكون متواضعا خائفا وجلا مشفقا من خشية الله زاهدا في الدنيا قانعا باليسير منها بعيدا عن الحسد والعجب والغيبة والنميمة والمداهنة.
ملتمسا للفقراء المتمسكين بدينهم الخالية بيوتهم من الملاهي والمنكرات الذين ليس لهم موارد ولا مساكن ليسعفهم بما يقدر عليه من مال وجاه.
ناصحا لعباد الله شفيقا عليهم رحيما بهم، آمرا بالمعروف فاعلا له وناهيا عن المنكر، ومجتنبا له ومسارعا في الخيرات ملازما.
دالاً على الخير داعيًا إلى الهدى، ذا صمتِ وتوأدة ووقار وسكينة.
حسن الأخلاق، واسع الصدر، لين الجانب، مخفوض الجناح للمؤمنين لا متكبرا ولا متجبرا ولا طامعا في الناس، ولا حريصا على الدنيا ولا مؤثرا لها على الآخرة.
ولا منهمكا بجمع المال، ولا مانعا له عن حقه، ولا فظا ولا غليظا، ولا مماريا، ولا مخاصما بالباطل، ولا سيئ الأخلاق، ولا ضيق الصدر، ولا مداهنا، ولا مخادعا، ولا غشاشا، ولا مقدما للأغنياء على الفقراء، ولا مرائيا ولا محبا للولايات.
وبالجملة فيكون متصفا بجميع ما يحثه عليه الكتاب والسنة، مؤتمرا بما يأمرانه به من الأخلاق المحمودة والأعمال الصالحة.(3/48)
مجانبا لما ينهى عنه كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق والأعمال المذمومة.
وهذه صفات ينبغي أن يتصف ويتحلى بها كل مؤمن، إلا أن العالم وطالب العلم أولى أن يتصف بها ويحافظ عليها ويدعو إليها.
وينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته لهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة.
ويكون كلامه بعبارة يعرفونها ويفهمونها، ويبين لهم الأمور التي هم ملابسون لها.
ولا ينبغي له أن يسكت حتى يسأل وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، أو مضطرون له والله الموفق.
شعرا:
وَنَفسكَ فازْجُرْها عَن الغَي والخَنَا ... وَلا تَتَّبْعها فَهي أُسُّ المَفَاسِدِ
وَحَاذِرْ هَواهَا مَا اسْتطعَتَ فَإِنَّهُ ... يَصُدُّ عَن الطاعاتِ غَيْرَ المجاهِدِ
وَإِن جهادَ النَّفس حَتْمٌ على الفتى ... وإنَّ التُّقَى حَقًّا لِخَيْرُ المَقَاصِدِ
فَإِنْ رُمْتَ أن تُحْظى بنَيْل سعادةٍ ... وَتُعْطى مَقَامَ السالكينَ الأَمَاجِدِ
فَبَادِرْ بِتَقْوَى الله واسْلُكْ سبيلها ... ولا تَتَّبعْ غَيَّ الرَّجيم المُعَانِدِ
وَإِيَّاكَ دُنْيا لا يَدُومُ نَعِيْمُهَا ... وَإِنَّكَ صَاح لَسْتَ فِيْهَا بِخَالِدِ
تَمَسَّكَ بِشَرْعِ اللهِ وَالْزَمْ كِتَابهُ ... وَبِالعِلْمِ فاعْمَلْ تَحْوِ كُلَّ المَحَامِدِ
اللهم امنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/49)
فائدة عظيمة النفع ويليها موعظة
391- عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأس الشكر الحمد لله وما شكر الله عبد إلا بحمده" فالشكر أصله في القلب، ومعرفة العبد بربه أنه لا شريك له، وفرعه على اللسان وهو كلمة لا إله إلا الله وتحقيقه في الطاعات فمن أكثر قول (لا إله إلا الله) فإنه يحط خطاياه، ومن أكثر من قول (الحمد لله) فإنه يحط عن نفسه أثقال الشكر، وينبغي لمن متعه الله فوصل إلى ثلاث وستين سنة أن يستغرق أوقاته مهما أمكنه في تلاوة كلام الله والإلمام بكلام رسوله، والإكثار من ذكر الله إناء الليل والنهار قائما وقاعدا مضطجعا وماشيا، ويجعل معه شيئا يذكره إذا غفل، وإذا حضر مع أناس في مجلس أو في سيارة أو طائرة أو سفينة أن يشغلهم بذكر الله وحمده والثناء عليه وتعداد نعمه لئلا يقعوا في غيبة أو في أمور لا فائدة فيها ليحصل لهم أجر ويحصل له مثل أجرهم لحديث من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
عَليكَ بِذِكرِ الله في كُلِّ لَحْظةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ للمُهَيْمنِ يَذْكر
آخر:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ مَا في الذِّكْر مِن شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيْحٍ وَتَهْلِيْلٍ
موعظة
إخواني اعتبروا بالذين قطنوا وخزنوا كيف ظعنوا وحزنوا انظروا إلى آثارهم تعلموا أنهم قد غبنوا ضيعوا الأوقات النفيسة في الملاهي الخسيسة ولاحت لهم الدنيا فاغتروا بها وفتنوا فما انجلى سحاب المني حتى ماتوا ودفنوا وكأن الغافلين بهم قد لحقوا وتندموا على تفريطهم وحزنوا.(3/50)
شعرا:
جَمَعُوا فَمَا أَكَلُوا الذِي جَمَعُوا ... وَبَنَوْا مَسَاكِنَهُم فما سَكَنُوا
فَكَأنَّهُم كانُوا بِهَا ظَعَنًّا ... لِمَا اسْتَرَاحُوا سَاعَةً ظَعَنُوا
قال شداد بن أوس لو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم، وكان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة فيتذكرون الموت والقيامة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
شعرا:
أَلا يَا غَفَلاً تُحْصَى عليه ... مِنَ العَمَل الصَّغِيْرةُ وَالكَبِيْرة
يُصَاحُ بِهِ وَيُنْذَرُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَقَدْ أَنْسَتْهُ غَفْلَتُهُ مَصِيْرَه
تَأَهَّبْ لِلرَّحِيْل فَقَدْ تَدَانَي ... وَأَنْذَرَك الرَّحِيْلَ أَخٌ وَجِيْرَة
وَكَمْ ذَنْبٍ أَتَيْتَ عَلَى بَصِيْرة ... وَعَيْنُكَ بالذِي تَأَتِي قَرِيْرَة
تُحَاذِرُ أَنْ تَراكَ هُنَاكَ عَيْنٌ ... وإِنَّ عَلَيْكَ للعَيْنُ البّصِيْرَة
وَكَمْ مِن مَدْخَل لَوْ مُتَّ فِيْه ... لَكُنْتَ بِهِ نَكَالاً لِلْعَشِيْرَة
وُقِيْتَ السُوءَ وَالمكرُوُه مِنْهُ ... وَرُحْتَ بِنعْمَةٍ فِيْهِ سَتِيْرَة
اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لا نعلم ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين وترحمنا وإياهم برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(3/51)
موعظة
إخواني مر الزمان وعظ الألباب ويكفي في الإنذار موت الأقارب والجيران والأصحاب وكم ترون في التراب من أتراب أغمدت تلك السيوف كم فرح بشهر وإهلاله متهلل لرؤية هلاله اختطفه الموت في خلاله وكم مائل إلى جمع ماله تركه تركة ومر بأثقاله هل رحم الموت مريضا لضعف حاله وأوصاله أو هل ترك كاسبا لأجل أطفاله هل أمهل ذا عيال من أجل عياله، كم أيتم طفلا صغيرا ولم يباله، فلله در أقوام علموا قرب الرحيل، فهيئوا آلة السفر وهونوا بالدنيا فقنعوا منها مما حضر واستوثقوا بقفل التقوى من أذى النطق والنظر مالك خبر بحالهم ولا عندك منهم خبر قاموا بالجد وقعدت، وسهروا في الدجي ورقدت.
شعرا:
لَمَّا رَأَيْتُ مُنَادِيْهم أَلَمَّ بِنَا ... شَدَدتُ مِيْزَر إِحْرَامي وَلبَيْتُ
وقُلْتُ لِلنَّفْسِ جُدِّي الآن واجْتَهِدِي ... وَسَاعِدِيْنِي كَهَذَا مَا تَمَنَّيْتُ
آخر:
قَوْمٌ هُمُومُهم بِاللهِ قَدْ عَلِقَتْ ... فَمَا لَهُم هِمَمٌ تَسْمُو إِلى أَحَدِ
فَمَطْلبُ القَوم مَوْلاهُم وَسَيِّدهُم ... يَا حُسْنَ مَطْلَبِهم لِلواحِد الصَّمَدِ
مَا إِنْ تُنَازِعُهُم دُنْيَا وَلا شَرفٌ ... مِن المَطَامِعِ والذَّاتِ والوَلَدِ
ولا لِلْبسِ ثِيابٍ فَائِقٍ أَنِقٍ ... وَلا لِرَوْحِ سُرُوْرٍ حَلَّ فِي بَلَدِ
إِلا مُسَارَعَةً فِي إِثْرِ مَنْزِلَةٍ ... قَدْ قَارَبَ الخَطْو فيها بَاعِد الأبَدِ
اللهم سلمنا من شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك(3/52)
واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
إخواني مر الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مسرجة وسار القوم إلى القبور هملجة وباتت أرواح من الأشباح مستخرجة إلى كم هذا التسويف وبضائعكم كل غش وبهرجه وستعرفون الخبر وقت الحشرجة.
لَعَمْرُكَ مَا يَغْنَي الثراءُ عَن الفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَومًا وَضَاقَ بِهَا
الصدر
ثم اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك أنه يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب بالفرح والسرور في الدنيا ويزهد فيها ويهون المصائب.
ثانيًا: التأثر في مشاهدة سكراتهم عند نزع الروح وشخوص أبصارهم عند نزع الروح وتسللها من الجسد وعجزهم عن الكلام عند خروجها وتأمل صورهم بعد خروج الروح فإن في ذلك ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة فروي عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إليه وما حل به من الكرب وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به فعرضوا عليه الطعام فلم يأكل وقال فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.(3/53)
شعرا:
لا مِرْيَةَ في الرَّدَى ولا جَدَلْ ... العُمْرُ دَيْنٌ قَضَاؤُه الأَجَلْ
لِلْمَرء في حَتْفِ أَنْفِهِ شُغُل ... فَمَا تُرِيْدُ السُّيُوفُ وَالأَسَلْ
يَفْرِي الدُّجى والضُحى بِأسْلحةٍ ... سِيَّانِ فِيْهَا الدُّرُوْعُ وَالحُلَلْ
كَأْسٌ أُدِيْرَتْ عَلَى لذَاذاتِهَا ... عَدل فِيْهَا الزُّعَافُ وَالعَسَلْ
كُلٌّ إلى غَايةٍ يَصِيْرُ وَلا ... تَمْيِيْز إلا الإِسْرَاعِ وَالمَهَلْ
والناسُ رَكْبٌ يَهْوَوْنَ حَثَّهم ... وَلا يُسَرُّوْنَ أَنَّهُم نُزُلْ
كَيْفَ يَعُدُّ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا ... مَن هُو عَنْهَا يَنْأى وَيَنْتَقِلْ
نَسْخُوا بِأَعْمَارِنا وَنَبْخَلُ ... بِالمَالِ فَتَبَّ السَّخَاءُ وَالبُخلْ
وَلَوْ نَجَا الهَائِبُ الجَبَانُ مِن ... المَوْتِ نَجا في إِقْدَامِهِ البَطَلْ
مَا أَسْلَمُوا هذِه النُّفُوس إلى ... الأجدَاثُ إِلا إِذَا ضَاقَتِ الحِيَلْ
اللهم يسر لنا سبيل الأعمال الصالحات وهيئ لنا من أمرنا رشدا واجعل معونتك العظمى لنا سندا واحشرنا إذا توفيتنا مع عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال بعض العلماء:
إلى متى تبقى بدائك هذا الذي حل بك برائك لقد حل فناؤك بفنائك وأخبر أن انتقاض بنائك بنمائك وإن وراءك طالبا لا تفوته وقد نصب لك علم لا تجوزه فما أسرع ما يدركك الطالب، وما أعجل ما تبلغ العلم هذا الموت غدا يقول الرحيل غدا كيف بكم إذا صاح إسرافيل في الصور بالصور(3/54)
فاسمع العظام البالية تحت المدر فاجتمعت فقامت تبكي على فوات الخير وسار الخلائق كلهم حفاة عراة.
قال الله جل وعلا {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} وترى الخلائق كل مشغول بما عراه وقد رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} هنا تذهل العقول ويشيب الأطفال قال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} .
أَيا نَفْسُ حَقَكِ أَنْ تَجْزَعِي ... وَيَا عَيْنُ إِيَّاكِ أن تَهْجَعِي
وَيَا أُذُنِي إِنْ دَعَاكِ دَاعِ الهَوَى ... فَإِيَّاكِ إِيَّاكِ أَنْ تَسْمَعِي
وَبِاللهِ يَا جَفْنُ عَيْنِي القَرِيح ... خَرَّجْ بِفَيْضِ الدَّمَا أَدْمُعِي
وَيَاكُلُ جَارِحَةٍ لِي عَليكِ ... حَفيْظٌ فَابْكِ وَنُوحِي مَعِي
يُسَارُ بنا مِنَ مَوضع إِلى مَوضع ... نَرْحَلُ عنهُ إلى مَوْضِع
إلى حَيْثُ لا العَيْن فيه ترى ... وَلا الأذْنُ إن خاطبوها تَعِي
فَيَا وَيْلَنَا مِن طَرِيْقٍ هُناك ... طَوِيْلٌ بَعِيْدُ المَدَى مَسْبَعُ(3/55)
خطبة أيضا
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملك الحق المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسع كل شيء رحمة وعلما، أحمده سبحانه وبحمده يلهج أولو الأحلام والنهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى، اللهم صلى على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى، فقد طال إعراضكم عن النبأ العظيم تغافلا وجهلا، وكثر اشتغالكم بالعرض الخسيس الأدنى، وصار إقبالكم على ما يصد عن الصراط السوى والهدي.
أما أيقظكم ما رأيتموه من حوادث القدر والقضا، أما أنذركم ما سمعتموه من أخبار من كذب وعصى، ومن أعرض عما جاءت به الرسل وغلبه عليه الشقاء والهوى، كيف وجدوا عقوبات الذنوب، وكيف كان الحال بمن بغى وطغى، بلغتهم دعوة الرسل فلم يجيبوا، ورفعت إليهم المواعظ فلم يلتفتوا ولم ينيبوا. فجاءهم أمر الله بغتة وأصيبوا، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، سل عنهم تلك القصور الدامرة، والقبور الداثرة والعظام الناخرة، وكيف كان السؤال والجواب، وهل وجدوا لهم من دون الله ملجأ وإزرا، فاتقوا الله عباد الله وأعملوا ليوم العرض والجزاء، ولا تكونوا ممن(3/56)
أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
خطبة أيضا
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، فصل وبين وقرر صراطا مستقيما ومنهجا، ونصب ووضح من براهين معرفته وتوحيده سلطانا مبينا وحججا، أحمده سبحانه حمد عبد جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع الصادقين إلى منازل المقربين درجا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي وضع الله برسالته عن المكلفين آصارا وأغلالا وحرجا.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير الأنام طريقة وأهداهم منهجا، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه، فقد خلقكم لأمر عظيم، وهيأكم لشأن جسيم، خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، وجعل لكم(3/57)
ميعادا تجتمعون فيه للحكم فيكم وفصل القضاء بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض، وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، وشقوة بسعادة، عباد الله، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين تتقلبون. ويستخلفها بعدكم الباقون.
ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد انقضى أجله وانقطع عمله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، فاتقوا الله عباد الله وبادروا بالتوبة قبل أن يغلق الباب ويسبل الحجاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة أيضا
الحمد لله فاطر الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، وأحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنه بمقدار، أتقن كل ما صنعه وأحكمه وأحصى كل(3/58)
شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلّمه، أحمده سبحانه على ما ألهمه من معلوم وفهمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه.
الله صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه، وسلم تسليما كثيرا أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واعرفوا ما دلت عليه هذه الكلمة من الحقيقة والمعنى، وتفطنوا لتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء، وتدبروا كتاب الله واعرفوا ما فيه من العلم والهدى، وعالجوا به أمراض القلوب فهو الدواء النافع والشفا، وهو السبب الأعظم في حصول السعادة والسيادة في الآخرة الأولى، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن أعرض عنه استحوذ عليه الشيطان وتولاه. فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم.
قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: عليكم بالقرآن فإنه نور بالليل وهدي بالنهار، فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك، فإن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب دينه، إنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنى بعد النار.
إن النار لا يفك أسيرها ولا يستغنى فقيرها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {(3/59)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
189- موعظة
قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بآمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت.
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِن الإِنْسِ لَمْ تَكُن ... سِوَى مُوْمِسِ أَفْنَتْ بِمَا سَاءَ عُمْرُهَا
آخر:
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا عَرُوسًا و ... جَدتَهَا بِمَا قَتَلتْ أَوْلادَهَا لا تَزَوَّجُ
وكم مطمئن إليها خذلت فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت.
وقد تطابق على ما ذكر دلالات قواطع النقول وصحاح العقول والطغام وقضى به الحس والعيان حتى لم يقبل لوضوحه إلى زيادة في العرفان.
وَليْسَ يَصحُ فِي الأَذْهانِ شَيءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهارُ إلى دَلِيْلِ(3/60)
ولما كانت الدنيا بهذه الحال التي ذكرت والعظة التي تقدمت جاء في القرآن الكريم من التحذير عن الاغترار بها والركون إليها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر.
وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكيمة فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العلماء العقلاء الزهاد.,
العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم لم يركنوا إلى الدنيا بل اتخذوها مطية إلى الآخرة.
لا علماء الألسن الذين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب الذين يتخللون بألسنتهم كما تتخلل البقرة بلسانها، قال بعضهم وأجاد في وصف الدنيا.
أَلا إِنَّما الدُّنْيَا كَجِيْفَةِ مَيْتَةٍ ... وَطُلابُهَا مِثْلُ الكِلابِ الهَوَامِس
وَأَعْظََمُهُم ذَمًّا لَهَا وَأَشدُّهُم ... بِهَا شَغَفًا قَوْمٌ طِوَالُ القَلانُسِ
وختاما فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان مريض أو مدنف ثقيل فهل من دليل يدل على الدواء لهذا العليل أو هل إلى الطبيب من سبيل.
فتنقل إلى المستشفى وتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه وما يقدر على أن يكلم إخوانه.
وها هو في سكرات الموت لا يعرف من عنده من أولاده وإخوانه وجيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وارتفعت جفونك وصدقت ظنونك.(3/61)
وتلجلج وتحير لسانك وبكى أولادك وإخوانك وقيل لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان وهذه أمك وهذا أبوك وبصرك شاخص وعيونك غرقى من الدمع ولا تقدر على الكلام.
فتصور نفسك يا مسكين وأنت ملقي على الأرض حتى خلقت منها جثة تتصاعد روحك والناس من حولك يبكون ولكن دون جدوى لأن قضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بك.
ثم ختم على لسانك فلا ينطق ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك وأحضرت أكفانك وجيء بالنعش والمغسل.
فجردك من الثياب وغسلك وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنا بأعمالك فيا لها من رحلة ويا له من قدوم.
نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءان تُلْوَى فِيْهمَا وَحَنُوْطُ
آخر:
تَجَرَّد مِنْ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْت إلى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ
آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوى حَنوطٍ غَداة البَيْنِ فِي ِخَرِق
وَغَيْرَ نفحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقلَّ ذلكَ من زَادٍ لِمَنْطَلِقِ
اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/62)
"فصل في فوائد ذكر الله تعالى"
قال ابن القيم رحمه الله: وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام.
ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد هو قوت القلب وروحه ويجلي صداه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويحدث الأنس ويزيل الوحشة.
ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويسعد الذاكر ويسعد به جليسه ويؤمن من الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب لإظلال الله العبد يوم الحشر الأكبر في ظل عرشه.
وأنه سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، وأنه أيسر العبادات وهو من أجلها وأفضلها، وأنه غراس الجنة، وأن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره، وأن دوام الذكر للرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشة ومعاده.
شعرا:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ ما فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيْحٍ وَتَهْلِيْلِ
آخر:
مَا أَنْعَمَ العِيْشَةَ لَوْ أَنَّ الفَتَى ... يُلْهَمُ تَسْبِيْحًا لِخَلاقِ الوَرَى
وأن الذكر يسير العبد وهو في فراشه وفي سوقه، وأن الذكر نور الذاكر في الدنيا ونور له من قبره ونور له في معاده وأن في القلب خلة وفاقة لا(3/63)
يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل.
وأن الذكر يجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزمه والذكر يفرق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات على موت حظوظه ومطالبه، ويفرق ما اجتمع على حربه من جند الشيطان.
وأن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه، والقلب إذا كان نائما فاتته الأرباح والمتاجر، وأن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر.
وأن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه وهذه المعية معية خاصة، وأن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، وإن الذكر رأس الشكر، وأن أكرم الخلق على الله من المتقين من لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله.
وأن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى وإن الذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه، وأن الذكر أصل موالاة الله عز وجل وأنه ما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله.
شعرا:
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
فَجالِسْ رِجَالَ العِلْمَ وَاحْفَظْ
حديثهم ... وَلا تَكُ لِلْجُهَّالِ يَوْمًا مُوَاخِيَا
وَلازَمْ فَتَى فِي كُلِّ وَقْتٍ مُلازمٌ ... لِذِكْرِ الذِي فَوْقَ السَّمَواتِ عَالِيَا
لَعَلَّكَ أَنْ تَعْتَادَ لِلْذِكْرِ مِثْلَهُ ... فَتُحْرِزْ غُفْرانًا وَأَعْلَى الأَمَانِيَا
وأن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر وأن من(3/64)
شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة، وأن مجالس الذكر مجالس الملائكة.
وأن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته، وأن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك وأن جميع الأعمال، إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى، وأن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكر لله عز وجل.
وأن ذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير ويخفف المشاق، وأن ذكر الله يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، وأن في الاشتغال بالذكر اشتغالا عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو، وأن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق والذاكرون أسبقهم في ذلك المضمار ولكن القترة والغبار يمنعان من رؤية سبقهم.
فإذا انجلى. الغبار وانكشف، رآهم الناس، وقد حازوا قصب السبق، وأن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، فإنه أخبر عن الله بأوصاف كماله ونعوت جلاله فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه ومن صدقه الله لم يحشر مع الكاذبين ورجى له أن يحشر مع الصادقين.
شعرا:
وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بَابٍ مُؤمِّلاً ... فما خَيَّبَ المَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمِّل
وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْر صَابرٍ ... وَقُلْ وَاعِظًا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّملْمُلِ
مَعْ الصَّبْر إِحْدَى الحُسْنَينِ مُنَاكِ أَوْ ... مَنَايَا كِرَامِ فَاْصبِرِي وَتَحَمَّلِ
وَدَاو لِسُقْمِ القَلْبِ وَاعْمُرْ خَرَابَهُ ... بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمِلُ(3/65)
آخر:
لَوْ يَعْلم النَّاسُ مَا في الذِّكرِ مِنْ شَرَفٍ
شرف ... لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهُ تَجْمِيْعُ الدَّنَانِيْرِ
وَلَمْ يُبَالُوا بِأَوْرَاقٍ ولا ذَهَبٍ ... وَلَوْ تَحَصَّل آلافُ القَنَاطِيْرِ
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيبا للدعوات، هب لنا من ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائح السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل ومن فوائد الذكر أيضا
ما ذكره ابن القيم رحمه الله: أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وأن الذكر سد بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق عمل من الأعمال، كان الذكر سدا في تلك الطريق، وأن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، وأن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها، وأن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلوا الذكر لله عز وجل.
قال تبارك وتعالى في المنافقين: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} وأن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، وأنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورا في الآخرة، وأن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، وأن(3/66)
الذكر يعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، قال وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر.
مَا دُمْتَ تَقْدِرْ فَأَكْثَرْ ذِكْرِ خَالِقنَا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
د
فَسَوْفَ تَنْدمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ ... مَا فِيْهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَوَاتِ
وقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعليا رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين، ويحمدا ثلاثا وثلاثين، ويكبرا، أربعا وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: إنه خير لكما من خادم.
فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في عمله مغنية عن خادم، قال وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرا في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أُمروا بحمل العرش، قالوا يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما قالوا حملوه حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن أول ما خلق الله عز وجل حين كان عرشه على الماء حملة العرش قالوا: ربنا لم خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي، قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال: لذلك خلقتكم، فأعادوا عليه ذلك مرارا، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فحملوه.(3/67)
قال: وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق والدخول على الملوك ومن يخاف، وركوب الأهوال، ولها أيضا تأثير في دفع الفقر، قال: ومبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر
إِِذَا رُمْتَ أَنْ تُحْظَي بِعِزِّ وَرِفْعَةٍ ... بِدُنْيَاكَ وَالأَخْرَى لِنَيْل السَّعَادَةِ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ ... وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ
آخر:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلِ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِّ
وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللسان، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذكر نعمه وآلائه، وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام بطاعته، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته وهما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس.
(فائدة) قال الشيخ تقي الدين: من ابتلى ببلاء قلب أزعجه فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله ودوام التضرع والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة مثل آخر الليل، وأوقات الآذان والإقامة وفي السجود وأدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار.
وليتخذ وردا من الأذكار طرفي النهار وعند النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا بد أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه وليحرص على عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة(3/68)
إلا بالله العلي العظيم.
فإنه بها يحمل الأثقال ويكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، ولم ينل أحد شيئا من عميم الخير إلا بالصبر والله الموفق.
شعرا:
لا تَقْصُدِ النَّاسَ إِذَا أَدْبَرَتْ ... دُنْيَاكَ وَاقْصُدْ مِنْ جَوَادٍ كَرَيْم
كَيْفَ يُرَجَّى الرِّزْقُ منْ عِنْدِ مَنْ ... يَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ الرَّبِ الرَّحِيْم
آخر:
يَا أَيْهُا الطَّالِبُ مِنْ مِثْلِهِ ... رِزْقًا لَهُ جُرْتَ عن الحِكْمَةِ
لا تَطْلُبَنَّ الرِّزْقَ مِنْ طَالِبٍ ... مِثْلُكَ مُحْتَاجُ إِلى الرَّحْمَةِ
وَارْغَبْ إِلى اللهِ الذِي لَمْ يَزَلْ ... في يَدِهِ النَّعْمَةُ وَالنَّقْمَة
شعرا:
بِذِكْرِِكَ يَا مَوْلى الوَرَى نَتَنَعَّمُ ... وَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عن سَبِِيْلِكَ قَدْْ عَمُوا
شَهِشدْنَا يَقِيْنًا أَنَّ عِلْمَكُ واسِعٌ ... فَأَنْتَ تَرَى ما في القُلُوبِ وَتَعْلَمُ
إِلَهي تَحَمَّلْنَا ذُنُوبًا عَظِيْمَةً ... أَسَأْنَا وَقَصَّرْنَا وُجُودُكَ أَعْظَمُ
سَتَرْنَا مَعَاصِيْنَا عَن الخلقِ غَفْلَةٌ ... وَأَنْتَ تَرَانَا ثُمَّ تَعْفُو وَتَرْحَمُ
وَحَقِّكَ مَا فِيْنَا مُسِيءُ يَسُرُّهُ ... صُدُودُكََ عَنْهُ بَلْ يَخَافُ وَيَنْدَمُ
سَكَتْنَا عَنِ الشَّكَوى حَيَاءٌ وَهَيْبَةٌ ... وَحَاجَتُنَا بِالمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ
إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بِالحَالِ نَاطِقًا ...(3/69)
فَهَلْ يَسْْتَطِيْعُ الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ
إِلَهي فَجُدْ واصْفَحْ وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا ... فَأَنْتَ الذِي تُولِي الجَمَيلَ وَتُكْرِمُ
وَأَنْتَ الذِي قَرَّبْتَ قَومًا فَوَافَقُوا ... وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أَنَابُوا وَسَلَّمُوا
وَقُلْْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّمًا ... فَأَنْتَ الذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا
لَهُمْ في الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائِمًا ... فََهُمْ في اللَّيَالِي سَاجِدُونَ وَقُوَّمُ
نَظَرْتَ إِلَيْهِم نَظْرَةً بِتَعَطُفٍ ... فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سَكْرَى وَنُوَّمُ
لَكَ الحَمْدُ عَامِلْْنا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَسََامِحْ وَسَلِّمْنَا فَأَنْتَ المُسَلِّمُ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
قال في حادي الأرواح: ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما إيجادهم له رفعوا رءوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم شمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو أضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليل أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا آلامه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متالف.
فيا عجبًا من سفيه في صورة حكيم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس باع جنة عرضها الأرض والسموات(3/70)
بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة أخرها الخراب والبوار.
وأبكارًا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم.
وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والمرجان والزبرجد ويوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد.
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ويتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد.
فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة وما أعد لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفي لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر علم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع.
وأن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الرب الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات(3/71)
يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتمتعون وبأنواع الثمار يتفكهون {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام إلا أفراد من العباد وقال رحمه الله في النونية:
بِاللهِ مَا عُذْرُ امْرِءٍ هُو مُؤْمِنٌ ... حَقَّا بِهَذَا لَيْسَ بِاليَقْظَانِ
بَلْ قَلْبُهُ في رَقْدَة فإذا اسْتَفا ... قَ فَلُبْسُهُ هُو حُلَّةُ الكَسْلانِ
تَاللهِ لَوْ شَاقتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيْمِ ... طَلَبْتَهِا بِنَفائِسِ الأَثْمَانِ
وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ في وِصَالِ نَواعِمِ ... وَكَواعِبٍ بِيْضِ الوُجُوهِ حِسَانِ
جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ وَاللهِ لَوْ ... تُجْلَى على صَخْرٍ مِنَ الصُّوَّانِ
رَقَّتْ حَواشِِيْهِ وَعَادَ لِوقتِهِ ... يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَى مِن الكُثْبَانِ
لَكِنْ قَلْبَك في القَسَاوَةِ جَازَ حَدْدَ ... الصَّخْْرِ والحَصْبَاءِ في أَشْجَانِ
لَوْ هَزَّكَ الشَّوقُ المُقيمُ وَكُنْتَ ذَا ... حِسٍّ لما اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ
أَوْ صَادَفَتْ مِنْكَ الصَّفاتُ حَياةَ قَلْبٍ ... كُنْتَ ذَا طَلَبٍ بِهَذَا الشَّأنِ
حُورٌ تُزَفُّ إِلى ضَرِيْرٍ مُقَعَدٍ ... يَا مِحْنَةِ الحَسْنَاءِ بِالعُمْيَانِ
شَمْسٌ لِعِنينٍ تَزَفُّ إِليهِ مَا ... ذَا حِيْلَةُ العَنين في الغَشَيَانِ
يَا سِلُعَةَ الرحمن لَسْتِ رَخِيْصَةً ... بَلْ أَنْتِ غَالية عَلَى الكَسْلانِ(3/72)
يَا سِلْعَةَ الرَّحمن لَيْسَ يَنَالًُهَا ... بِالأَلْفِ إلا واحدٌ لا اثْنَانِ
يَا سِلْعَةْ الرَّحمن مَاذَا كَفُوْهَا ... إِلا أَوُلُوا التَّقْوى مَعَ الإِيْمَانِ
يَا سِلُعةَ الرَّحمن سُوقُكِ كاسِدٌ ... بين الأَرَاذَلِ سَفْلَةِ الحَيوانِِ
يَا سِلْْعَةَ الرحمن أَيْنَ المُشْتَرِي ... فَلَقَدْ عُرِضْْتِ بَأيْسرِ الأَثْمانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحمن هَلْ مِنْ خَاطِبٍ ... فَالمَهْرُ قَبْلَ الموتِ ذُو إِمْكَانِ
يَا سِلْعَةَ الرحمن كَيْفَ تَصْبُّر ال ... خُطَّابُ عَنْكَ وَهم ذَوُو إِيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحمنِ لَولا أَنَّهَا ... حُجِبَتْ بِكُل مَكَارِهِ الإِنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطْ مِنْ مُتَخِلفٍ ... وَتَعَطَّلتْ دَارُ الجَزاءِ الثَّانِي
لَكِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرِيْهَةٍ ... لِيَصُدُّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوانِي
وَتَنَالُهَا الهِمَمُ التِّي تَسْمُوا إِلى ... رَبّ العُلَى بِمَشِيْئَةِ الرَّحمنِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل
ثم اعلم رحمنا الله وإياك والمسلمين أن حب الدنيا في القلب راسخ وإخراجها منه صعب جدا إلا لمن عصمه الله جل وعز، والنفس إلى الدنيا أميل وهي بها أشغف، وفي طلبها أهلك وعن طريق الرشد أبعد وأصرف، واسمع إلى ما قيل في الدنيا:(3/73)
هِيَ المُشْتَهى وَالمُنْتَهَي وَمَع السُّهَى ... أَمَانيٌّ مِنْهَا دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ
وَلَمْ تُلْفِنَا إِلا وَفِيْنَا تَحَاسُدٌ ... عَلَيْهَا وَإِلا الصُّدُورِ سَخَائِمُ
وقال الآخر:
يُسِيءُ أمْرؤٌ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ
أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيخُ وَالكهلُ والفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمَنْ كُلَّ النَّواظِر تُرْمَقُ
وَمَا هِي أَهْلٌ يُؤَهَّلِ مِثْلُهَا ... لِوُدٍ وَلَكنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ
وقال الآخر:
لِسَانُك لِلدُّنْيَا عَدَوٌ مُشَاحِنٌ ... وَقَلْبُكَ فيها لِلسَانِ مُبَاينُ
وَمَا ضَرَّهَا مَا كَانَ مِنْكَ وقد صَفَا ... لَهَا مِنْكَ ودٌّ في فُؤادِكَ كَامِنُ
وإن حب الدنيا لهو الداء العضال، الذي أهلك النساء والرجال وأفسد كثيرا من الأعمال، إلا أن تأتي العناية الإلهية، فتصرف الإنسان إلى النظر الصحيح، وتحمله على الطريق المستقيم.
فيرى بعين الحقيقة وصحيح البصيرة أنه لا بد من الموت، وأنه يدفن تحت أطباق الثرى، ويرمى به في ظلمات الأرض، ويسلط الدود على جسده، والهوام على بدنه، فتأخذه من قرنه إلى قدمه.
وقد عدم الطبيب وأسلمه القريب، وتركه الصديق والحبيب والقريب، وأتاه منكر ونكير، ولم يجد هناك أنيسا إلا عمله.
أَسْلَمنِي الأَهْلُ بِبَطْنِ الثَّرَى ... وانْصَرَفُوا عَنِّي فَيَا وَحْشَتَا
وَغَادَرُونِي مُعْدِمًا يَائِسًا ... مَا بِيَدي اليَومَ إِلا البُّكَا
وَكُلُّ مَا كَانَ كَأن لَمْ يَكُنْ ... وَكَان مَا حَاذَرْتُهُ قَدْ أَتَى
وَذَاكُم المَجمُوعُ والمُقْتَنَى ...(3/74)
قَد صَارَ في كَفي مِثْلَ الهَبَا
وَلَمْ أَجِدْ لِي مُؤْنِسًا هَهُنَا ... غَيْْر فُجُورٍ كَانَ لِي أَوْ تُقَى
فَلَوْ تَرَانِي أَوْ تَرى حَالَتِي ... بَكَيْتَ لِي يَا صَاحَ مِمَّا تَرَى
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل
وأما الدنيا فينظر إليها فإن كان ملكا نظر إلى من تقدمه من الملوك وما فعل الموت بهم كيف فرق جموعهم وشتت شملهم وأقفرت منهم قصورهم وعمرت بهم حفرهم وقبورهم.
وكذلك إن لم يكن ملكا وكان من أصناف الناس وصفاتهم في تقلب الدنيا بهم معلومة وأنه ليس من إنسان إلا وله نصيب من الكدر والهم يقل عند إنسان ويكثر عند آخر.
فإذا أخذ الإنسان نفسه بهذه الأفكار وعرض عليها هذا الاعتبار أثر عليه هذا وأعرض عن الدنيا ولم يلتفت إليها إلا بمقدار ما يقيته، وتذكر الموت وخاف فجْأته، لم يأمن بغْتته وهجْمته وصدْمته وصرْعته.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بفضله وكرمه لا رب غيره ولا معبود سواه.(3/75)
وقال رحمه الله: واعلم أن من كان منتظرا لعقاب أن ينزل به من أمير بلدته فإنه لا يزال متألم القلب مشغول النفس.
فإن من توعد أن يضرب مائة سوط فإنه أشغل قلبا ممن توعد أن يضرب عشرة أسواط.
ومن توعد أن يقطع منه جارحة أكثر توجعا ممن توعد أن يضرب مائة سوط ومن توعد أن يضرب عنقه أشد خوفا ممن توعد أن يقطع أحد جوارحه يده أو رجله أو نحو ذلك.
وما منا من أحد إلا وقد توعد بالقتل لأن الموت قتل في الباطن كالخنق فقد بان لك أن كل واحد منا ينتظر القتل ينتظر ملك يثب عليه فيقبض روحه.
فلو كشف للناس عن أبصارهم فرأوا الموت حين يهجم عليك وشاهدوه في الباطن حين يأخذ روحك لما كان بينه وبين إنسان يقتلك في الظاهر فرق إلا أن الإنسان يحتاج إلى آلة يقتل بها من سيف أو سكين أو نحوهما وملك الموت لا يحتاج إلى شيء من ذلك.
واعلم أن شدة سكرات الموت لا يعرفها على الحقيقة إلا الله جل وعلا ومن ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس على الآلام التي أدركها وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه.
فألم النزع يهجم على نفس الروح فيستغرق جميع أجزائه، فإن المنزوع والمجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من رأسه إلى قدمه فلا(3/76)
تسأل عن كربه وألمه.
ولا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقا واحدا لكان ألمه عظيما فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، وليس هو من عرق واحد، بل من جميع العروق. ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجا فتبرد أولا قدماه لفراغها من الروح، ثم ساقاه كذلك ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها الحلقوم.
فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، وتحيط به الحسرة والندامة والهموم، والغموم، وسائر الأحزان.
نسأل الله العلي العظيم الحي القيوم ذا الجلال والإكرام أن يلطف بنا ويتداركنا بعفوه وغفرانه وجوده وإحسانه.
ويروى أن العبد يقول لملك الموت عند الموت يا ملك الموت أخرني يوما استعتب فيه وأتوب إلى ربي وأعمل صالحا فيقول له فنيت الأيام فلا يوم فيقول أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة.
فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة دونه، ويحجب عنها وتنقطع الأعمال وتطوى الصحف وتتم الأوقات ويبقى عدد الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومردا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.(3/77)
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرْت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رءوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلي الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
ثم أعلم أنه ينبغي لمن لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا له خشية أن يفجأه.
اغْتنِمْ في الفَراغِ فَضْلَ رُكوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوتُكَ بَغْتَةْ
كَم صَحِيْحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ العزيزةُ فَلْتَةْ
ولا تغتر بالشباب والصحة لا سيما في وقتنا الذي كثرت فيه الحوادث بأسباب الآلات الحديثة من سيارات وطائرات ودبابات ونحوها فأكثر من يموت الشباب، وأقل من يموت الأشياخ ولهذا يندر من يكبر وأنشدوا في ذلك.
يُعَمَّرُ واحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَي مَن يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ
آخر
لا تَغْتَرِرْ بِشَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّم قَبْلَ الشَّيب شُبَّانُ(3/78)
ومن الاغترار طول الأمل وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلا وإنما يقدم الإنسان على المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل ولا تمس حتى تنظر في يومك وتحاسب نفسك فإن رأيت زلة فامحها بالتوبة الصادقة النصوح والاستغفار والباقيات الصالحات وإذا أصبحت فعليك بتلاوة كلام الله والباقيات الصالحات وتأمل ما مضى في ليلك ونهارك واحذر التسويف فإنه أكبر جنود إبليس.
وَكُنْ صَارِمًا كَالوَقْتِ فَالمَقْتُ فِي عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فهي أَخْطَرُ عِلَّتِي
بِسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فاتَجُدْ ... تَجِدْ نَفَسًا فالنَّفْسُ إِنْ جُدْت جَدَّتِ
ثم صور لنفسك قصر العمر وكثرة الأشغال وقوة الندم على التفريط عند الموت وطول الحسرة على عدم البدار بعد الفوت وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص والمجتهدين وأنت متكاسل ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها وفكرة تحادثها بها.
وَالنَّفْسُ كالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ على ... حُبِّ الرَّضاعِ وَإِنْ تَفطِمْه يَنْفَطِمِ
وَرَاعِهَا وَهِي في الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المرعة فلا تَسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسِمِ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/79)
فصل
قال أحد العلماء إخواني مثل أهل الدنيا في غفلتهم وطول أملهم كمثل الحاج نزلوا منزلا فقام قوم يقطعون الصخور ويبنون البيوت والدكاكين ويعملون أعمال من لم يخطر الموت لهم على بال فقال المستيقظون منهم ويحكم ما هذا البله والتغفيل، الرحيل عن هذا المنزل بعد ساعة، فانتبهوا فلم يشعروا حتى نودي بالرحيل فتركوا المنزل وما فيه:
شعرا:
لا يُلْهِنَّكَ مَنزلٌ لَعِبَتْ بِهِ ... أَيْدِي البلى مِن سَالِف الأزْمَانِ
فَلَقد تَرحَّل عنه كُلُّ مَسَرَّةٍ ... وَتَبَدَّلََتْ بَالهِم وَالأَحْزانِ
وقال إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يحبكم وبقدر تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم ولقد رأيت من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته، ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد فيه من الخير اهـ.
وقال: متى تكامل العقل فقدت لذة الدنيا فتضاءل الجسم وقوي السقم واشتد الحزن لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا والتفت إلى ما تلمح ولا لذة عنده بشيء من العاجل وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الأخرة ولا غفلة لكامل العقل اهـ.
ذُو العَقْلِ يَشْقى بِالنَّعيم بِعَقلِهِ ... وَأَخُو الجَهَالِة بَالجَهَالِة يَنْعَمُ(3/80)
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرا:
أَكْدَحْ لِنَفْسكَ قَبْلَ الموتِ في مَهَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلاً في الحَقِّ مُرْتابًا
إِنْ المَنِيَّة مَورُودٌ مَنَاهِلُها ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَو عُمِّرتَ أَحْقابًا
وَفي اللَّيَالِي وفي الأَيَّامِ تَجْربةٌ ... يَزْدادُ فِيْهَا أَولُوا الأَلبَابِ أَلبابًا
بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِير الصّلْبُ مُنْحَنيًا ... وَالشَّعرُ بَعْدَ سَوادٍ كَانَ قَدْ شَابَا
يُفْنِي النُفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... لَيلٌ سَريعٌ وَشَمْسٌ كَرُّها دَابَا
لِمُسْتَقرٍ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرِةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهودُ النَّاسِ غِيابَا
وَمَن تعَاقِرهُ الأَيَّامُ تُبْدِلُهُ ... بالجارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا
خَلَّوا بُروَجًا وَأَوْطَانًا مُشَيَّدةً ... وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا
فَيَالَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَربَا ... كُسِيْتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْي أَثْوَابَا
بِمُوحِشٍ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلّتُهُ ... وَلََيْسَ مَن حَلَّهُ مِن غَيْبَةٍ آبَا
كَمْ مِن مَهِيْبٍ عَظِيْمِ المُلْكِ مُتَّخِذٍ ... دُونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابَا
وأَضْحَى ذَليلاً صَغِيرَ الشَّأنِ مُنْفَرِدا ... وَمَا يُرَى عِنْدَهُ في القَبْرِ بَوَّابَا
وَقَبْلكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكوا ... فَأَضْرَبَ الحيُّ عَن ذِيْ النَّأْي إِضرابَا
اللهم ارحمنا ذلنا يوم يقوم الأشهاد وأمن خوفنا من فزع المعاد ووفقا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الألحاد ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف(3/81)
الميعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل
قال رحمه الله واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو أتلف نفسه، لما قال إبراهيم لإسماعيل {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات102] ، هل العيش إلا مع رضى الله؟ وهل الدنيا والآخرة إلا له، أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب تالله لقد فاته أضعاف ما حصل، أقبل على ما أقل يا ذا الذوق هل وقع تعثير في عيش وتخبيط في حال إلا حال مخالفته، فبالله يا أرباب المعاملة لا تكدروا المشرب قفوا على باب المراقبة وقوف الحرس وادفعوا ما لا يصلح عن أن يلج فيفسد، واهجروا أغراضكم لتحصيل ما يحبه الله إخواني لنفسي أقول فمن له شرب معي فليرد، أيتها النفس لقد أعطاك ما لم تأملي وبلغك ما لم تطلبي وستر عليك من قبيحك ما لو فاح لضجت المشام فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض، قربت سفينة العمر من ساحل القبر وما لك في المركب بضاعة تربح بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا واعجبا كلما صعد العمر نزلت وكلما جد الموت هزلت.
بَكَتْ عَيْنِي وحق لها بُكَاهَا ... عَلَى نَفْسِي التي عَصت الإِلَه
ومن أوْلى بطُول الحُزْن مِنها ... وبالآثام قد قطعت مداها
فلا تَقْوى تَصُدُّ عن المعاصِي ... ولا تخشى الإله ولا تناهي
تَتُوبُ من الإِساة في صباحٍ ...(3/82)
وتنْقُض قَبل أن يأتِي مساها
وتنْكُثُ عَهْدها حِيْنًا فحِيْنًا ... كأنَّ الله فيه لا يراها
وَتَقْعُدُ عَنْ حُقُوق الله عَمْدًا ... وَتَبْغِي دَائِمًا مَالاً وَجاهَا
قال بعضهم يبوخ نفسه ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت وانفلت وتخلصت تتركين هيهات هيهات، أما تعلمين أن الموت موعدك والقبر بيتك والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك اعملي يا نفس بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار حزن ونكد وكبد ونصب ولغب وهموم لدار سرور وأفراح ونعيم وخلود وهناء اعملي قبل طي الصحيفة اخرجي من الدنيا خروج الأتقياء الأحرار قبل أن تخرجي خروج الأشقياء على الاضطرار ولا تفرحي بما يساعد من زهرة الدنيا فرب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر وويل لمن له الويل ثم لا يشعر، يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
شعرا:
أَجنِب جِيَادًا مِن التَّقْوى مُضَمَّرةٌ ... لِلسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ النَّاسُ بِالسَّبقِ
تَمُرُّ مَرَّ الرِّيَاحِ الهُوْجِ عَاصِفَةً ... أَوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إِذْ يَجْتَازُ بالأُفُقِ(3/83)
وارْكُضْ إلى الغَايَةِ القُصْوة وَخَلِّ لَهَا ... عِنَانَ صِدْق رَمَى في فِتْيَةٍ صُدُقِ
فَإِنَّ خَلْفَكَ أَعْمَالاً مُثْبَّطَةً ... وَلَسْتَ تَنْهَضُ إلا وَيْكَ بالعَنَقِ
كَمْ حَلَّ عَزْمَكَ مِن دُنْيا مُعَرِّجَة ... بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ
يَا غَافِلاً وَالمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ ... وَضَاحِك والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ
قَطعْتَ عُمْرَكَ في سَهْو وفي سِنَةٍ ... وَمِنْ أَمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ الأرَقِ
انتهى.
آخر:
أَرَى النَّاَس في الدُّنْيَا، مَعافِّى وَمُبتلى ... وَمَا زَالَ حُكمُ الله في الأَرْضِ مُرْسَلا
مَضَى في جَمِيْعِ النَّاسِ سَابقُ عِلمهِ ... وَفَصَّلَهُ، مِن حَيْثُ شَاءَ، وَوَصلا
وَلَسْنَا عَلَى حُلْوِ القَضَاءِ وَمُرُّهِ ... نَرَى حكَمًا فِيْنَا، مِنَ اللهِ، أَعْدَلا
بَلاَ خَلْقَهُ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، فِتْنَةً ... لِيَرغَبَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ وَيَسْألا
وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ يَبُوءَ بِفَضْلِهِ ... عَلينَا، وَإِلا أَنْْْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا
هُوَ الأحَدُ القَيومُ مِنْ بَعْدِ خَلقِه ... وَمَا زالَ في دَيمومَةِ المُلْْكِ أَولا
وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانَ إِلا لِغَايَةٍ ... وَلَمْ يُترَكِ الإِنْسَانَ في الأرْضِ مُهمَلا
كَفَى عبِرَةً أَنِّي وَأَنّكَ، يا أخي ... نُصَرَّفُ تَصرِيفًا لَطِيفًا، وَنُبتَلى
كَأَنَّا، وَقَدْ صِرْنَا حَدِيْثًا لِغَيْرِنَا ... نُخَاضُ كما خُضْنَا الحديثَ لِمن خَلا
تَوَهَمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلَوا، فَكَأنَّهم ... بِأَجْمَعِهِم كَانُوا خَيَالاً تَخَيّلا
وَلَسْتُ بِأَبْقَى منهُم في دِيَارِهِم ... وَلَكِن لِي فِيْهَا كتابًا مُؤجَّلاَ
وَمَا النَّاسُ إلاَّ مَيِّتٌ وابْنُ مَيِّتٍ ... تَأجّلَ حَيٌّ مِنْهُم، أَوْ تَعَجّلاَ(3/84)
وَلا تَحْْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ ... بِمَا كَانَ أَوْصَى المُرْسَلِيْنَ، وَأَرْسَلاَ
هو المَوْتُ يا ابنَ المَوْتِ وَالبَعْثُ بعدهُ ... فَمِنْ بَيْنِ مَبعوثٍ مُخفا، وَمُثقَلاَ
وَمِنْ بَيْنِ مَسْحوبٍ عَلَى حُرّ وَجْهِهِ ... وَمنْ بِيْنِ مَنْ يَأتِي أَغَرّ مُحَجَّلا
عَشِقْنَا مِنَ اللَّذاتِ كل مَحرَّمٍ ... فَأُفِّ عَلَيْنَا مَا أَغَرّ وَأَجْهَلا
رَكَنّا إلى الدُّنْيَا فَطَالََ رُكُونُنَا ... وَلَسْنَا نَرَى الدُّنْيَا، عَلَى ذَاكَ مُنْزِلا
لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنا ... يَعافُونَ مِنْهُنّ الحَلالَ المُحَلَّلا
فَلِلَّهِ دارٌ مَا أَحَثّ رَحِيلَها ... وَمَا أَعرَضَ الآمَالَ فِيْهَا وَأَطْوَلا
أَبَى المَرْءُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ اغْترارُهُ ... وَتَأبَى بِهِ الحالاتُ إِلا تَنَقّلا
إِذَا أمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا، فَنَالَهُ ... فَمَا يَبْتَغي فَوْقَ الذي كَانَ أَمّلا
وَكَمْ من ذَلِيلٍ عَزّ مِنْ بَعْد ذِلّةٍ ... وَكَمْ من رَفِيعٍ صَارَ في الأَرْض أَسْفَلا
وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلمًا في وَفَاتِهِ ... وَإِنْ أَكْثَر البَاكِي عَلَيْهِ، وَأعْوَلا
وَكَمْ مِنْ عَظِيْمِ الشَّأنِ في قَعرِ حُفرةٍ ... تَلَحّفَ فيها بالثَّرى، وَتَسَرْبَلا
أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ ... تَرَى المَوْتَ فِيْه، بالعِبَادِ مُوَكَّلا
تُنافِسُ في الدُّنْيَا لِتَبلُغَ عِزّها ... وَلَسْتَ تَنَالُ العِزّ حتى تُذَللا
إِذَا اصْطَحَب الأَقْوامُ كَانَ أَذَلُّهُم ... لأصحابِهِ نَفَسًا، أَبَرَّ وَأَفْضَلا
وَمَا الفَضْلُ في أَنْ يُؤْثِرَ المَرءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِن فَضْلَ المَرْءِ أَنْْ يَتَفَضَّلا
انتهى.
آخر:
يَا مَن يُريدُ طَريقةً تُدْنيه مِنْ ... ربَّ العبادِ بصالحِ الأَعْمَالِ
وَتُقيمُه للاستقَامةِ بَعْدُ في الأَ ... حْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ(3/85)
وكذاكِ تُوصِلُهُ إِلَيْهَا إِنْ يَكُنْ ... ذَا هِمَّةٍ لِمَوَاقِعِ الأَفضالِ
هِيَ أَنْ تُرِدْ تَحْصِيّلَهَا شَيئانِ أَمَّا ... الأَوَّلُّ المَقْصُودُ في الأَمْثَالِ
حِفظُ الخَواطِرِ بِالحِراسةِ ثُم كُنْ ... حَذِرًا مِنَ التَّفْرِيطِ وَالإِهْمَالِ
بَلْ لا تَكُونُ مَعَ الخَواطِرِ غَافِلاً ... مُسْترسلاً في مُدَّةِ الإِمْهَالِ
أَوْ مُؤْثِرًا كُلَّ الفَسَادِ بِأسْرِهِ ... ِمِنْهَا يَجِيءُ وَلَيْسَ ذَا إِشْكَالِ
وَلأَنَّهَا لِلْنَّفْسِ وَالشَّيطانِ بَذْ ... رٌ في القُلوبِ بِغَيرِ مَا إِقْلالِ
فَإِذَا تَمكَّنَ بَذْرُهَا مِنْ أَرْضِهَا ... بِالسَّقي من ذِي الفَاجِرِ المُجْتَالِ
إِذَا قَدْ يَصيرُ بِسَقيهَا مُتَعاهِدًا ... وَالعَبْدُ في الغَفَلاتِ عَنْ ذِي الحَالِ
حَتَّى تَصِيْرَ إِذَا أَرَادَتٌ كَذَا ... حَتَّى تَصِيْرَ عَزَائِمُ الأفعالِ
وَيَظَلُّ يَسْقِيهَا وَيُدْمِنُ سَقيها ... حَتَّى تُغِلَّ بَأَخْبَثِ الأَعْمَالِ
هَيْهَاتَ إِنَّ الدَّفعَ وهي خَوَاطِرٌ ... لَوْ كَانَ ذَاكَ بِأَيْسَرِ الأَحْوَالِ
فَهُنَاكَ يَصْعُب دَفْعُها مِن بَعْدِ أن ... صَارَتْ هُنَاكَ إِرَادَةَ الأَعْمَالِ
وَهُو المفرُّط حَيْثُ كَانَتْ خَاطِرًا ... شَيْئًا ضَعِيفًا غَيْرَ ذِي أَحْمَالِ
مِثلَ الشَّرَارة هَانَ مِنْهَا بدؤُها ... والشَّأنُ كلَّ الشَّأنِ في الإِهْمَالِ
حَتَّى إِذَا عَلقتْ هَشِيمًا يَابسًا ... وَتَمكَّنتْ مِن ذَاكَ بِالإِشْعَالِ
عَجَز المفرِّطُ بعدُ عَنْ إِطفائِها ... يَا خَيْبَةَ المتَكَاسِلِ البَطَّالِ
***
فَإِذَا أَردتَ طريقةً في حِفْظِها ... إِذْ كُنْتَ ذَا حِرْصٍ وَذَا إِقْبَالِ
فَاسْمَعْ إِذًا أَسْبَابَ موصلةً إلى ... تلكَ الطَّرِيْقِ بِأَوضَحِ الأَقْوَالِ
عِلْمٌ بِرَبكَ جَازمٌ مِنْ أَنَّهُ ... بِالاطلاعِ وَلَيْسَ ذَا إِهْمَالِ(3/86)
لِلْقَلْبِ بِالنَّظرِ الذِي هُو وَصْفُه ... وَالعِلْمِ بالخطراتِ في الأَحْوَالِ
وَكَذا الحَياءُ مِنَ الإِلَه فَإِنَّهُ ... سَبَبٌ لَهَا بِالحِفْظِ وَالإِكْمَالِ
وَكَذَاكَ إِجْلالُ لَهُ مِنْ أنْ يَرَى ... في بَيْتِهِ المَخلوقِ لِلإِجْلاَلِ
كَالحبِّ وَالتعظيمِ جَلَّ جلالُه ... تِلْكَ الخَواطِرُ تَحض بالأغلالِ
وَكَذَاكَ إِيْثَارٌ لَهُ سُبْحانَه ... وَهُو الغَنِيُّ فَجَلَّ عنْ أَمْثالِ
عَنْ أَنْ يُسَاكنَ قَلْبَكَ المَربُوبُ غَيْر ... الحُب للمعبودِ ذِي الإِفْضَالِ
فَتَظَلَّ تَسْتَعِرُ اسْتِعَارًا يَأكلُ الإ ... يمانَ مِنْ حُبٍّ وَمِنْ إِجْلالِ
مَعَ كُلِّ ما فِي القَلْبِ مِنْ خَيْرٍ فَيَذْ ... هَبُ جُمْلَةً وَالعَبْدُ في إِغْفالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسْبَابِ عِلْمُكَ إِنَّمَا ... تِلْكَ الخَوَاطِرُ غَيْرَ ذِي إِشْكَالِ
كَالحبِّ يُلْقَى لِلْطيُورِ لِصَيْدِهَا ... وَالعَبْدُ مَقْصُودًا لِذِي الأَحْبَالِ
يَصْطَادهُ الشَّيطَانُ في فَخِ الرَّدَى ... والطُّعْمُ فِيْهِ خَوَاطِرُ الإِضْلالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسباب عِلْمُك أَنَّهَا ... وَخَواطِرِ الأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ
كَالحبِّ والإِيمَانِ لَنْ يَتَلاقيَا ... في القَلْبِ إلا كَالتُّقَى الأَبْطَالِ
بَلْ إِنَّ دَاعِي الحُبِّ ثُمَّ إِنَابَة ... ضِدَّ الخَوَاطِرِ فاسْتَمِعْ لِمَقَالِ
مِنْ كلِّ وَجْهٍ وَالقِتَال فَقَائِمٌ ... حَتَّى يكونَ الضدُ ذَا إِذْلالِ
لَوْ كَانَ قَلْبُكَ ذَا حَيَاةٍ ضَرَّهُ ... أَلمُ المُصَابِ فَصَارَ ذَا إِقْبَالِ
لَكِنَّ قَلْبُكَ في البَطَالَةِ غَافِلٌ ... مَا كَانَ ذَا هَمٍّ وَذَا إِشْغَالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسْبَابِ تَعْلمُ أَنَّها ... بَحْرٌ عَمِيْقٌ مِن بُحُورِ خَيالِ
وَالقَلبُ يَفْرَقُ بَعْدَ مَا يَدْخُلْ بِهِ ... وَيَتَيِهُ ثُمَّ بِظُلْمةِ الأَهْوَالِ
فَيَظَلُّ يَطْلُبُ لِلْخَلاصِ فَلَمْ يَجِدْ ... مِنْ ذَاكَ نَهْجًا يُنْج مِنْ أَوْبَالِ(3/87)
أَوْ مَا تَرَى أَنَّ الخَوَاطِرَ كُلَّمَا ... غَلبَتْ لِقَلبِكَ صَارَ ذَا إِذْلالِ
قَدْ أَوْرَثَتُهُ وَسَاوِسًا ذَلَّ بِهَا ... حَتَّى اغْتَدى بالغَيرِ ذُو إِشْغَالِ
عَزلَتهُ عَنْ سُلْطَانِه وَمحِلِّهِ ... عَنْ ذِي المَحَلِ المُشمَعِلِ العَالِ
وَعَليه أَفْسدَتْ الرَّعَايَا كُلَّهَا ... فالملكُ وَالسلطانُ في اضْمِحْلالِ
وَرَمَتْهُ في الأَسْرِ الطويلِ مُكَبَّلاً ... بِيَدِ الهَلاكِ يُجَرُ بِالأَغْلالِ
وَإِذَا عَلِمْتَ بأَنَّ هَذا كُلَّهُ ... في الخَوَاطِرِ النَّفْسيِّ ذِي الإِضْلالِ
فَخَواطِرُ الإِيْمَانِ في قَلْبِ الفَتَى ... لِلْخَيْر أَصْلٌ لَيْسَ ذَا إِشْكَالِ
فَمَتَى بَذَرْتَ خَوَاطِرَ الإِيْمَانِ في ... أَرْضِ القُلوبِ بِغَيْرِ ما إِهْمَالِ
مِنْ خَشْيِةٍ وَمَحبَّةٍ وَإِنَابَةٍ ... وَكَذَا رَجَاءِ ثَوَابِ ذِي الإِفْضَالِ
وَكَذَلكَ التَّصديقُ بِالوَعْدِ الذِي ... تَرْجُوْهُ مِنْه بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَسَقَيْتَها مُتَكَرِّرًا مُتَعَاهِدًا ... وَحَفِظْتَهَا بِالحِفْظِ والإِكْمَالِ
فَهُناكَ تُثْمرُ كُلَّ فِعْلٍ طيِّبٍ ... مِنْ صَالِحَاتِ القَوْلِ وَالأَفْعَالِ
وَهُنَاكَ تَملأ قَلْبَه الخَيْراتُ وَا ... لطَّاعَاتُ لِلْمَعْبُودِ ذِي الإِجْلالِ
وَهُنَاكَ السُّلْطانُ في سُلْطَانِهِ ... قَدْ يَسْتَقرُّ بِأَكْمَلِ الأَحْوَالِ
وَكَذَا رَعِيَّتُهُ اسْتِقَامَةُ رَغْبَةٍ ... بَعْدَ اسْتَقَامَتِه مِنَ الإِضْلالِ
***
واعْلَمْ بِأَنْ لا بُدَّ مِنْ شَرْطَيْن لا ... تَغْتَرَّ بِالإِغْفَالِ وَالإِهْمَالِ
أَنْ لا تَكُونَ لِوَاجبٍ أَوْ سُنَّةٍ ... بِالتَّركِ ذُو عَجْزٍ وَذُو إِغْفَالِ
أَوْ تَجْعَلْ الأَضَّدادَ مَوْضِعَ خَشْيَةِ ... الرَّحمنِ مِنْ حُبٍّ وَمِنْ إِجْلالِ(3/88)
هَذَا وثَانِي ذَيْنِكَ الشَّيئَينِ إِنْ ... رُمْتَ المقالَ فَخُذْهُ بالإِجْمَالِ
صِدْقُ التَّأهُّبِ للقَاءِ فَإِنَّهُ ... مِنْ أَبْلَغِ الأَسْبَابِ وَالأَعْمَالِ
فَمَتى اسْتَعدَّ وَكَانَ هَذا شَأْنَه ... والشأْنُ كُل الشأنِ في الإِقْبالِ
انْحَلَّتْ الدُّنيا جَمِيْعًا وَانْجَلَتْ ... عَنْ قَلْبه فاشْتَاقَ لِلْتَّرْحَالِ
وَهُنَاكَ يُخْبِتُ قَلبُه للهِ جَلَّ ... اللهُ عن ندٍ وَعَنْ امْثَالِ
وَغَدَا بِهِمَّتِهِ مُنِيْبًا عَاكِفًا ... بِالقَولِ وَالأَعْمَالِ والأَحْوَالِ
وَهُنَاكَ يُحدثُ هِمَّةً أُخرى بِهَا ... يَرْجُو الفَلاحَ بِموقِفِ الأَهْوَالِ
فَتَكُونُ نِسْبَةُ قَلْبِه فِيْهَا إلى الأَ ... خرَى كَهَاذِي الدَّارِ بِالأَطفالِ
أَوْ لَيْسَ بَطْنُ الأُم كَانَ حجَابُهَا ... لِلْجِسْمِ في الدُّنْيا بِلا إِشْكَالِ
فَكَذَا حِجَابُ القَلْبِ كَانَ هُو الهَوى ... والنَّفْسُ مِنْ أَحِراه بالإِضْلالِ
وَالحَاصِلُ المقْصُودُ أَنَّ جَمِيْعَ أَعْمَا ... لِ القُلوبِ وَسَائِرِ الأَعْمَالِ
مُفْتَاحُها صِدْقُ التَّأهُبِ لِلُّقا ... وَالفَاتِحُ المَعْبُودُ ذُو الإِجْلالِ
انتهى.
آخر:
وَكُلُّ مَنْ نَامَ بِلَيْلِ الشَّبَابِ ... يوقظه الدهر بصبح المشيبْ
يَا رَاكِبَ العَجْزِ أَلا نَهْضَةٌ ... قَدْ ضَيَّقَ الدَّهْرُ عَلَيْكَ المَجَالْْ
لا تَحْسِبَنَّ أَنَّ الصِّبَا رَوْضَةٌ ... تَنَامُ فِيْهَا تَحْتَ فيءِ الظِّلالْ
فَالعَيْشُ نَومٌ وَالرَّدَى يَقْظَةٌ ... وَالمَرءُ مَا بَيْنَهُمَا كَالخَيَالْ
وَالعُمْر قَدْ مَرَّ كَمرِّ السَّحَابِ ... وَالمُلْتَقَى بِاللهِ عَمَّا قَرِيبْ
وَأَنْتَ مَخْدُوعٌ بِلَمْعِ السَّرَابْ ... تَحْسِبُهُ مَاءً وَلا تَسْتَرِيبْ(3/89)
فَكُلُّ مَنْ يَرْجُو سِوَى الله خَابْ ... وَإِنَّمَا الفَوزُ لِعَبْدٍ مُنِيبْ
يَسْتَقْبِلُ الرُّجْعَى بِصِدقِ المَتَابْ ... وَيَرقُبُ الله الشَّهِيدَ القَرِيبْ
يَا حَسرَتَا مَرَّ الصِّبَا وَانْقَضَى ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ يَقُصُّ الأَثَرْ
وَاخَجْلَتا وَالرحْلُ قَدْ قُوِّضَا ... وَمَا بَقِي في الخُبْرِ غَيْرُ الخَبَرْ
وَلَيتَنِي لَوْ كُنْتُ فِيمَا مَضَى ... ادَّخِرُ الزَّادَ لِطُولِ السَّفَرْ
قَدْ حَانَ مِن رَكْبِ التَّصَابِي إِيابْ ... وَرَائِدُ الرُّشْدِ أَطَالَ المَغِيبْ
انتهى.
آخر:
أَسَأتُ فَمَا عُذْرِي إِذَا انْكَشفَ الغِطَا ... وَأَظْهَرَ رَبُّ العَرْشِ مَا أَنَا أسْتُرُ
إِذَا اللهُ نَادَانِي بِيَوْمِ قِيَامَةٍ ... تعَدَّيْتَ حَدَّ العِلْمِ هَلْ أَنْتَ تُوْجَرُ
أَسَأتَ إِلى خَلْقِي وَحَقِّي تَرَكْتَهُ ... فَأَيْنَ الحَيَا مِنِّي فَإِنِّي أَكْبَرُ
دَعَوْتَ إِلى عِلْمٍ وَأَظْهَرْتَ حِكْمَةً ... وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا عَكُوفٌ مُشَمِّرُ
وَخَالَفْتَ مَا قَدْ قُلْتَ وَازْدَدتَ غَفْلَةً ... وَقَلْبُكَ لِلَّذَاتِ وَالغِشِّ يُضْمِرُ
ظَنَنْتَ بِأَنِّي مُهْمِلٌ لامْرءٍ عَصَى ... كَأَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّكَ تُحْشَرُ
هُنَالِكَ يَمْتَازُ المُسِيْؤُنَ كُلُّهُمْ ... فَوَاحَسْرَتَا إِنْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحَسَّرُ
فَيَا حِيُّ يَا قَيُّومُ يَا خَيْرَ رَاحِمٍ ... وَمَنْ هُو لِلزلاتِ والذَّنْبِ يَغْفِرُ
عَصَيْتُكَ مِنْ لُؤْمِي وَنَفْسِي ظَلَّمْتُهَا ... وَذَنْبِي فِي عُمْرِي يَزِيْدُ وَيَكْثُرُ
وَلَكِنَّنِي إِنْ جِئْتُ ذَنْبًا وَزَلَّةُ ... أَرَجيْكَ يَا رَحْمَنُ لِلْوَهْنِ تَجْبُرُ
وَتَغْفِرُ لِي ذَنْبِي وَتُصْلِحُ عِيْشَتِيْ ... وَتَرْحَمُ آبَائِي فإِنَّكَ تَقْدِرُ
وَأَرْجُوكَ يَا رَحْمَنُ إِذْ مَا سَتَرتَنِي ... بِدُنْيَايَ في يَوْمِ القِيَامَةِ تَسْتُرُ(3/90)
آخر:
قَطَّعْتُ مِنْك حَبائِل الآمَالِ ... وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهَرِ المَطِي رِحالي
وَيَئسِتُ أنْ أَبْقَى لشيء نِلتُ مِمَّا ... فيكِ يَا دُنيا وَأَنْ يَبقَى لِي
فَوَجَدْتُ بَرْدَ اليّأسِ بَيْنَ جَوانحِي ... وَأَرَحْتُ مِنْ حَلَي وَمِنْ تَرْحَالِي
وَلَئِنْ بَئِسْتُ لَرُبّ بَرْقَةِ خُلّبِ ... بَرَقَتْ لذي طَمَعٍ وَبَرَقْةِ آل
مَا كانَ أَشأمَ، إِذْ رَجاؤكِ قَاتِلي ... وَبَناتُ وَعْدِكِ يَعْتَلِجْنَ بِبَالِي
فَالآن يا دُنيا عَرَفَتُكِ فاذهبِي ... يَا دَار كُل تَشَتَتٍ وَزَوَالِ
والآنَ صَارَ لِي الزَّمَانُ مُؤدِّبًا ... فَغَدَا عَليَّ وَرَاحَ بِالأَمْثَالِ
وَالآنَ أَبْصَرْتُ السَبيلَ إِلى الهُدَى ... وَتَفَرَّغَتْ هِمَمِيْ عَنْ الأَشْغَالِ
وَلَقَدْ أَقَامَ لِي المَشِيبُ نُعَاتَهُ ... يُفْضِي إِلي بِمَفْرقٍ وَقذَالِ
وَلَقَدْ رَأيتُ المَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ ... بِيَدِ المَنيَّةِ: حَيْثُ كُنْتُ، حِيالِي
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَرَى الحَياتِ تَخَرَّمَتْ ... وَلَقَدْ تَصَدّى الوَارِثُونَ لِمَالِي
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى الفَنَاءِ أَدلةً ... فِيمَا تَنَكّرَ مِنْ تَصَرفِ حَالِ
وَإِذَا اعْتَبْرتُ رَأَيْتُ خَطْبَ حَوادِثٍ ... يَجريْنَ بِالأَرْزَاقِ، وَالآجَالِ
وَإِذَا تَنَاسبِ الرِّجالُ، فَمَا أَرَى ... نَسَبًا يُقاسُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا بَحَثْتُ عَنِ التُّقَى وَجَدْتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفَعالِ
وَإِذَا اتْقَى الله امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ ... فَيَداهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَمعَالِ
وَعَلَى التَّقى إِذَا تَرَسخَ فِي التُّقَى ... تَاجَانِ تَاجُ سَكينَةٍ وَجَلالِ
وَاللَّيْلُ يَذْهَبُ وَالنَّهارُ تَعَاوُرا ... بِالخَلْقِ في الإِدْبارِ وَالإِقْبَالِ
وَبِحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إِلَيهِ نَفْسُهُ ... مِنْهُ بِأَيَّامٍ خَلَتْ، وَلَيَالِ(3/91)
اضْرَبْ بِطَرفِكَ حَيْثُ شِئْتَ فأَنْتَ فِي ... عِبَرٍ لَهُنَّ تَدَارُكٌ وَتَوَالِ
يَبْكِي الجَديدُ وَأَنْتَ فِي تَجْديدِه ... وَجَميعُ مَا جَدَّدْتَ مِنْهُ فَبَالِ
يَا أَيُّهَا البَطِرُ الذي هو في غَدٍ ... في قَبْرِهِ مُتَفَرَقُ الأَوْصالِ
حَذَفَ المُنَى عَنْهُ المُشَمِّرُ في الهُدَى ... وَأَرَى مُنَاكَ طَويلَةَ الأَذْيَالِ
وَلَقَلّ مَا تَلْقَى أَغَرَّ لِنَفْسِهِ ... مِنْ لاعِبٍ مَرحٍ بِهَا، مُخْتالِ
يا تاجِرَ الغَيَّ الُمضِرَّ بِرُشْدِهِ ... حَتَّى مَتَى بالغَيَّ أنْتَ تُغَالِي
الحَمْدُ لله الحَميدِ بِمَنَّه ... خَسِرَتْ وَلم يَرْبَحْ يَدُ البَطَّالِ
لله يَوْمٌ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ ... وَتَشِيبُ مِنْه ذَوَائِبُ الأطْفالِ
يَوْمُ النَّوازِلِ والزَّلازِلِ وَالَحوا ... مِلِ فيِه إذْ يَقِذفْنَ بالأحْمَالِ
يِوْمٌ التَّغاُبنِ، والتَّبايُنِ والتنَّا ... زُلِ وَالأمُورِ عَظيمَةِ الأهْوَالِ
يَوْمٌ يَنَادَي فيهِ كُلٌ مَضَلَّلٍ ... بِمُقَطعَاتِ النَّار، والأغْلالِ
لِلْمُتَّقِينَ هُناكَ نَزْلُ كَرامَةٍ ... عَلَتِ الوُجُوهَ بنَضرةٍ وَجَمالِ
زُمَرَّ أضَاءَتْ لِلْحِسَابِ وُجُوهُها ... فَلَهَا بَرِيقٌ عِندَهَا وَتَلالي
وَسَوَابِقٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ جَرتْ ... خُمْصَ البُطونِ خَفِيفَةَ الأثَقالِ
مِنْ كُلّ أَشْعَثَ كَاَنَ أَغْبَر ناحِلاً ... خَلَقَ الرّداءِ، مُرَقعَ السَّرْبالِ
حِيِلُ ابنِ آدَمَ في الأمُورِ كَثيرَةٌ ... وَالمَوْتُ يَقطعُ حِيلَةَ المُحْتَالِ
نَزَلُوا بأَكْرَمِ سَيَّدٍ فأظَلّهُمْ ... في دارِ مُلْكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ
وَمِنَ النَّعاةِ إلى ابنِ آدَمَ نَفْسَهُ ... حَرَكُ الخُطَى وطُلُوعُ كُل هِلالِ
ما لِيْ أرَاكَ لِحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقًا ... أَخْلقْتِ يا دنُيْا وُجُوهَ رِجالِ
قِسْتَ السؤّالَ فكانَ أعْظَمَ قيمةً ... مِنْ كُل عَارِفَةٍ جَرَتْ بسُؤُالِ(3/92)
كُنْ بالسؤالِ أشَدَّ عَقْدِ ضَنَانَةٍ ... مِمّنْ يَضِنّ عَليَكَ بالأمْوَالِ
وَصُنِ المَحامِدَ ما استَطَعتَ فإنّها ... في الوَزْنِ تَرْجُحُ بَذْلَ كلّ نَوَالِ
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ المُثَمَّرِ مالَهُ ... نَسيَ المُثَمَّرُ زِينَةَ الإقْلالِ
وَإذا امْرُؤٌ لَبِسَ الشٌّكُوكَ بِعَزْمِهِ ... سَلكَ الطّريقَ عَلى عُقودِ ضَلالِ
وَإذا ادَّعَتْ خُدَعُ الَحوادِث قَسْوَةٍ ... شَهِدَتْ لُهنّ مَصارِعُ الأبْطالِ
وِإذا ابتُليتَ ببَذْلِ وَجْهِكَ سائِلا ... فابْذُلْهُ لِلْمتَكَرّمِ المِفْضَالِ
وَإذا خَشِيْتَ تَعَذٌّرًا في بَلْدَةٍ ... فاشْدُدْ يَدَيْكَ بعاجِلِ التّرْحالِ
وَاصْبِرْ عَلَى غِيِرِ الزّمانِ فإنّما ... فَرَجُ الشّدائِدِ مِثلُ حَلَّ عِقالِ
انتهى
آخر:
غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوْتِ في أَثَرِيْ يَحْدُوْ ... فَإنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ
أُنَعَّمُ جِسْمِيْ بِاللَّبَاسِ وَليْنهِ ... وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ مِنْ لِبَاسِ البلَى بُدٌّ
كَأَنَّيْ بِهِ قَدْ مَرَّ في بَرْزخِ البلَى ... وَمِنْ فَوقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدٌ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنيْ المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ... وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلاَ جِلْدٌ
أَرىَ العُمْرَ قَدْ وَلى وَلَمْ أُدْرِك المُنَى ... وَلَيْسَ مَعِيْ زَادٌ وَفي سَفَريْ بُعْدُ
وَقَدْ كُنْتُ جَاهَرْتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا ... وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا ... وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرّىْ غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو
بَلَ خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ ... وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوْتِ وَالبِلَى ... عَن اللهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ(3/93)
عَسَى غَافِرُ الزلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِيْ ... فَقَدْ يَغْفِرُ اَلمَوْلَى إذَا أَذْنَبَ العَبْدُ
أَنَا عَبْدٌ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهَّدَهُ ... كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إذَا أَحْرَقْتَ بالنارِ جُثتِيْ ... وَنَارُكَ لا يَقْوَى لهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الفَرْدُ عِنْدَ المَوْتِ وَالفَرْدُ في البِلَى ... وَأَبْعَثُ فَرْدًا فارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ
انتهى.
آخر:
تَفِيْضُ عُيُوْنِيْ بالدُّمُوعِ السَّواكِبِ ... وَمَا لِيَ لا أَبكِي عَلى خَيْرِ ذَاهِبِ
عَلى العُمْرِ إذْ ولَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ ... بآمَالِ مَغْرُوْرٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ
عَلى غُرَرِ الأيامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ ... وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ المَكَاسِبِ
عَلى زَهَرَاتِ العَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ ... بِرِيْحِ الأمانيْ وَالظُّنوْنِ الكَوَاذِبِ
عَلى أَشْرَفِ الأوْقاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا ... بأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاَهٍ وَلاَعِبِ
عَلى أَنْفَسِ الساعَاتِ لَما أَضَعْتْهَا ... وَقَضيْتُهَا في غَفلٍَة وَمَعَاطِبِ
عَلى صَرْفِيَ الأيامَ في غَيْرِ طَائِلٍ ... وَلاَ نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ
عَلى مَا تَوَلى مِنْ زَمَاٍن قَضَيْتُهُ ... وَرَجَّيْتُهُ في غَيْرِ حَق وَصَائِبِ
عَلى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنَّيْ انْتَهَزْتُهَا ... لَقَدْ نِلْتُ فِيْهَا مِنْ شَرِيْفِ المَطَالِبِ
وَأَحْيَانَ آناءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ ... ضيَاعًا وَكَانَتْ مَوْسِمًا لِلرَّغَائِبِ
عَلى صُحٍف مَشْحُوْنَةً بِمَآثِمٍ ... وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وكَمْ مِنْ مَثَالِبِ
عَلى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوْب وَزَلَّةٍ ... وَسَيَّئٍة مَخْشِيَّةٍ فِيْ العَوَاقبِ
عَلى شَهَواٍت كَانَتِ النَّفسُ أَقْدَمَتْ ... عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ(3/94)
عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً ... مُنَغِّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِبِ
عَلَى عَمَلٍ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ ... وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ
عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ... وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍِ مُرَاقِبِ
أُصَلِّي الصَّلاَةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلُ ... بِأَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ ... تَعَالَى بِقَلْبٍ ذَاهِلٍ غَيْرِ رَاهِبِ
عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهْوَ أَقْرَبُ غَائِبِ
عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللَّهَ خَالِقِي ... بِغَيْرِ حُضُورٍِ لَازِمٍ وَمُصَاحِبِ
عَلَى أَنَّنِي لَا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبِلَى ... كَثِيرًا وَسَفَرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ
عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي ... وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ
مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا ... يَشِيبُ مِنَ الْوِلْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ
تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فَرْطِ غَفْلَتِي ... كَأَنِّي لَا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ
عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا ... وَلَا خِفْتُ مِنْ حَيَاتِهَا وَالْعَقَارِبِ
عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ ... ـكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ
مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا ... وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ
وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُم ... وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ
فَآهًا عَلَى عَيْشِ الْأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... هَنِيئًا مُصَفًّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... عَنِ الْمَلَاءِ الْأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْيِ سَادَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ(3/95)
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمِ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَمِنْ خُلْوَةٍ بِاللَّهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ جَلَالَهُ ... وَقُدْرَتَهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغْرِبِ
إِلَيْهِ مَآبِي وَهْوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي ... وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرِ خَائِبِ
وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِيَ لِمَا ... يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهْوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ
وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ ... وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ
وَأَنْ يَتَوَلَّانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ ... وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ
وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ ... عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ
مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا ... وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللَّهِ ثُمَّ سَلَامُهُ ... وَآلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ كَالْكَوَاكِبِ
وللأمير الصنعاني في الحث على تدبر كتاب الله والتفكر في آياته والثناء على الله قصيدة بليغة:
الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلُّهَا مِنَنٌ ... مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الْإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ
إِنَّا لَنَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ ... مَا لَا تُحِيطُ بِهِ عَيْنٌ وَلَا أُذُنُ
فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمِلَتْ ... عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلَّامَةُ اللَّسِنُ
يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لَا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ ... وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ
أَهْلُ الْبَسِيطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ ... وَكُلُّهُمْ بِالَّذِي يَأْتِيهِ مُرْتَهَنُ
بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا ... هَذَا الْوُجُودَ الَّذِي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ(3/96)
دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلْأَنَامِ وَقَدْ ... عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ
كَيْلَا تَمِيدَ بِأَهْلِيهَا وَأَوْدَعَهَا ... لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا
بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ ... عَجَائِبَ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطِنُوا
فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرُ ... لَوْ كَانَ يُطْلِقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ ... غَطَّى عَلَى الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ
إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا ... عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا
تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً ... فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ
مَنَّ الْإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ ... يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ
فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ ... فِيهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفِطَنُ
آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلًّا بَلَاغَتُهَا ... وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ
أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ ... لَفْظٌ بَلِيغُ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ
غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيهِ الدُّرَّ مُبْتَذِلًا ... وَفُلْكُ فِكْرٍ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ
كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا ... مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٌّ رَبُّهُ الْوَثَنُ
قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتَهَا عَجَبًا ... أَوْ بِاْلِمِئينَ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ
أَوِ الطِّوَالِ فَفِيهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ ... خَزَائِنٌ هِيَ لِلْأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ
وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ ... قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ
إِنَّ الذُّنُوبَ لِأَوْسَاخِ الْقُلُوبِ فَلَا ... يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ
وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا ... يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا
بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوحِ فَذَا ... هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا
وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعُ إِذَا ... أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلَاكَ وَالْحَزَنُ(3/97)
بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مَيْتَتَهِ ... فَمَا لِسَهْمِ الْقَضَا مِنْ دُونِهِ جُنَنُ
وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَّى قَبْلَهُ وَثَوى ... فِي صَدْرِهِ فَهْوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ
تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلًا جَدَثًا ... فَهَلْ بِأَعْجَبِ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ
فَأَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقًا يَكُونُ بِهِ ... حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيهِ الْفَوْزِ مُرْتَهَنُ
فَفِي الصَّلَاةِ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ... الْآلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيمِ يَقْتَرِنُ
وقال بعضهم يخاطب نفسه ويوبخها على تفريطها وإهمالها:
يَا نَفْسُ هَذَا الَّذِي تَأْتِينَهُ عَجَبُ ... عِلْمٌ وَعَقْلٌ وَلَا نُسْكٌ وَلَا أَدَبُ
وَصْفُ النِّفَاقِ كَمَا فِي النَّصِّ نَسْمَعُهُ ... عِلْمُ اللِّسَانِ وَجَهْلُ الْقَلْبُ وَالسَّبَبُ
حُبُّ الْمَتَاعِ وَحُبُّ الْجَاهِ فَانْتَبِهِي ... مِنْ قَبْلُ تُطْوَى عَلَيْكَ الصُّحُفُ وَالْكُتُبُ
وَتُصْبِحِينَ بِقَبْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ ... الْأَهْلُ وَالصَّحْبُ لَمَّا أَلْحَدُوا ذَهَبُوا
وَخَلَّفُوكَ وَمَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ ... الْمَالُ مُسْتَأْخَرُ وَالْكَسْبُ مُصْطَحَبُ
وَاسْتَيْقِنِي أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مُجْتَمَعًا ... لِلْعَالَمِينَ فَتَأْتِي الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ
وَالْخَلْقُ طُرًّا وَيَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا ... فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ الْأَمْوَالُ وَالْحَسَبُ
وَاخْشَيْ رُجُوعًا إِلَى عَدْلٍ تَوَعَّدَ مَنْ ... لَا يَتَّقِيهِ بِنَارٍ حَشْوُهَا الْغَضَبُ
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْأَحْجَارُ حَامِيَةٌ ... لَا تَنْطَفِي أَبَدَ الْآبَادِ تَلْتَهِبُ
وَالْبُعْدُ عَنْ جَنَّةِ الْخُلْدِ الَّتِي حُشِيَتْ ... بِالطِّيِّبَاتِ وَلَا مَوْتٌ وَلَا نَصَبُ
فِيهَا الْفَوَاكِهُ وَالْأَنْهَارُ جَارِيَةٌ ... وَالنُّورُ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ وَالْقُبَبُ
وَهَذِهِ الدَّارُ دَارٌ لَا بَقَاءَ لَهَا ... لَا يَفْتِنَّنَكَ مِنْهَا الْوَرِقُ وَالذَّهَبُ
وَالْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْمَرْكُوبُ تَرْكَبُهُ ... وَالثَّوْبُ تَلْبَسُهُ فَالْكُلُّ يَنْقَلِبُ
لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا سِوَى عِوَضٍ ... مِنْهَا يَعُدُّ إِذَا مَا عُدَّتْ الْقُرُبُ(3/98)
يُرِيدُ صَاحِبُهُ وَجْهَ الْإِلَهِ بِهِ ... دُونَ الرِّيَا إِنَّهُ التَّلْبِيسُ وَالْكَذِبُ
لَا يَقْبَلُ اللَّهَ أَعْمَالاً يُرِيدُ بِهَا ... عُمَّالُهَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ فَاجْتَنِبُوا
تَمَّتْ وَصَلُّوا عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ قَوْمٌ حُبُّهُمْ يَجِبُ
من منظومة الآداب لابن عبد القوي رحمه الله:
بِحَمْدِكَ ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي ... كَثِيرًا كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ
وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدِ
وَبَعْد فَإِنِّي سَوْفَ أَنَظِّمُ جَمْلَةً ... مِن الأَدَبِ الْمَأْثُورِ عَن خَيْرِ مُرْشِدِ
مِنْ السُّنَّةِ الغَرَّاءِ أَوْ مِنْ كِتَابٍ مَنْ ... تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الغُوَاةِ وَجَحْدِ
وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَائِنَا ... أَئِمَةَ أَهْلِ السلم من كل أمجد
لَعَلَ إلَهَ العَرْشِ يَنْفَعُنَا بِه ... وَيُنْزِلُنَا في الحَشْرِ في خَيرِ مَقْعَدِ
أَلَا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ ... لِيَصْغَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدٍ
وَيَقْبَلُ نُصْحًا مِنْ شَفِيقٍ عَلَى الْوَرَى ... حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ الْأَنَامِ عَنْ الرَّدَى
فَعِنْدِي مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَمَانَةٌ ... سَأَبْذُلُهَا جَهْدِي فَأَهْدِي وَأَهْتَدِي
أَلَا كُل مَنْ رَامَ السَّلَامَةَ فَلْيَصُنْ ... جَوَارِحَهُ عَمَّا نَهَى الله يَهْتَدِي
يَكُبُّ الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ ... وَإِرْسَالُ طَرَفِ الْمَرْءِ أَنْكَى فَقَيِّدِ
وَطَرْفُ الْفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ ... وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ مَا اسْطَعْتَ تَهْتَدِ
وَيَحْرُمُ بُهْتٍ وَاغْتِيَابُ نَمِيْمَةٍ ... وَإِفْشَاءُ سِرِّ ثُمَّ لَعْنِ مُقَيْدِ
وَفُحْشٌ وَمَكْرٌ وَالْبَذَاءُ خَدِيعَةٌ ... وَسُخْرِيَةٌ والهزو وَالْكَذِبُ قَيِّدْ
بِغَيْرِ خِدَاعٍ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِمْ ... وَلِلْعِرْسِ أَوْ إصْلَاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ
وَيَحْرُمُ مِزْمَارٌ وَشِبَّابَةٌ وَمَا ... يُضَاهِيهِمَا مِنْ آلَةِ اللَّهْوِ وَالرَّدِي
وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا غِنَاءٌ جَمِيعُهَا ...(3/99)
فَمِنْهَا ذَوُو الْأَوْتَارِ دُونَ تَقَيُّدٍ
وَلَا بَأْسَ بِالشِّعْرِ الْمُبَاحِ وَحِفْظِهِ ... وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي
فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ ... وَتَشْبِيبَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ
وَحَظْرَ الْهَجَا وَالْمَدْحِ بِالزُّورِ وَالْخَنَا ... وَتَشْبِيبِهِ بالأَجْنَبِيَّاتِ أكد
وَوَصْفُ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمُرْدِ والنسا ا ... لفتيات أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورِدِ
وَأَوْجِبْ عَنْ الْمَحْظُورِ كَفَّ جوارح ... وَنَدْبٌ عَنْ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ مُشَدِّدِ
وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ يَا فَتَى ... عَنْ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدِ
عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ ... سِوَاهُ مَعَ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِ
وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى ... الَّذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدَدِ
وَبِالعُلَمَا يَخْتَصُ مَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ ... بِهِمْ وَبِمَنْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ قَدِ
وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ ... وَأَقْوَاهُ إنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ
وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبْيَانِ كُلَّ مُحَرَّمٍ ... لِتَأْدِيبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ لَرَدِي
وَبِالْأَسْهَلِ ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ ... فَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الْأَمْرِ فَاصْدُدْ
إذَا لَمْ يَخْفَ فِي ذَلِكَ الأَمْرُ حَيْفَهُ ... إذَا كَانَ ذَا الإنْكَارِ حَتْمَ التَّأَكُّدِ
وَلَا غُرْمَ فِي دُفِّ الصُّنُوجِ كَسَرْته ... وَلَا صُوَرٍ أَيْضًا وَلَا آلَةِ الدَّدِ
وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ ... وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ اُقْدُدْ
وَقُلْتُ كَذَاكَ السِّيْنَمَاءُ وَمِثْلُهُ ... بِلاَ رَيْبَ مِذْيَاعٌ وَتِلْفَازٌ مُعْتَدِي
وَأَوْرَاقُ أَلْعَابٍ بِهَا ضَاعَ عُمْرُهُم ... وَكُوْرَاتِهم مَزِّق هُدِيْتَ وَقَدِّدِ
كَذَا بِكَمَاتٌ وَالصَّلِيبُ وَمِزْمَر ... وَآلةُ تَصْويْرٍ بِهَا الشَّرُّ مُرْتَدِي
كَذَلِكَ دُخَّانٌ وَشِيشَةُ شُرْبِهِ ... وَآلةُ تَطْفَاةٍ لَهُ اكْسِرْ وَبدِّدِ
وَمِنْ بَعْدِ ذَا فَاسْمَعْ كَلامًا لِنَاظِمٍ ...(3/100)
يَسُوقُ لَكَ الآدَابَ عَن خَيْرِ مُرْشِدِ
وَبِيْضٍ وَجَوْزِ لِلْقِمَارِ بِقَدْرِ مَا ... يُزِيْلُ عن الَمَنْكُورِ مَقْصَدَ مُفْسِدِ
وَلَا شَقِّ زِقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دَنِّهِ ... إذَا عَجَزَ الْإِنْكَارُ دُونَ التَّقَدُّدِ
وَإِنْ يَتَأَتَّى دُونَهُ دَفْعُ مُنْكَرٍ ... ضَمِنْت الَّذِي يُنْقَى بِتَغْسِيلِهِ قَدْ
وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةٌ ... وَقَدْ قِيلَ إنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَآكَدِ
وَقِيلَ عَلَى الإطْلَاقِ مَا دَامَا مُعْلِنًا ... وَلَاقِهْ بوَجْهٍ مُكْفَهِرٍ مُعَرْبَدِ
وَيَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى مُتَسَتِّرٍ ... بِفِسْقٍ وَمَاضِي الْفِسْقِ إنْ لَمْ يُجْدَدْ
وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لِأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ ... مُفَسِّقٍ احْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ ... وَيَدْفَعُ إضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ
وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي إتْيَانِهِ ... وَلَا هَجْرَ مَعَ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوَّدِ
وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثة ... على غير من قلنا بهجر فأكد
وَكُنْ عَالِمًا أَنَّ السَّلَامَ لِسُنَّةٍ ... وَرَدُّك فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبًا بِأَوْطَدِ
وَيُجْزِئُ تَسْلِيْمُ امْرِىءٍ مِن جَمَاعَةٍ ... وَرَدُّ فَتىً مِنُهم على الكُلِ يا عَدِي
وَتَسْلِيْمُ نَزْرٍ والصَّغِيْرِ وَعَابِرِ ... سَبيْلِ وَرُكْبَانٍ عَلى الضِدِّ أيِدِ
وإنْ سَلَّمَ المَأْمُوْرُ بالرَّدِ مِنهُمُ ... فَقَدْ حَصَلَ المَسْنُونُ إذْ هُوَ مُبْتَدِي
وَسَلَّمَ إذَا مَا قُمْتَ عَن حَضْرَةِ امْرئٍ ... وَسَلَّمْ إِذا مَا جِئْتَ بَيْتَكَ تَهْتَدِي
وإفْشاؤُكَ التَّسْلِيْمَ يُوْجِبْ مَحَبَّةً ... مِن الناسِ مجْهُولاً وَمَعْرُوْفاً أقْصُدِ
وَتَعْرِيفُهُ لَفْظَ السَّلَامِ مُجَوَّزٌ ... وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ
وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً ... كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعَ عَرِّفْ كَرَدِّدِ
وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ ... عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِينَ وَبُعَّدِ
ثَلَاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمِ ...(3/101)
وَلَا سِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ
وَوَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ بَابٍ وَكُوَّةٍ ... فَإِنْ لَمْ يُجَبْ يَمْضِي وَإِنْ يُخْفَ يزدد
وَتَحْرِيكُ نَعْلَيْهِ وَإِظْهَارُ حِسِّهِ ... لِدَخْلَتِهِ حَتَّى لِمَنْزِلِهِ اشهد
وكُلُ قِيَامٍ لاَ لِوَالٍ وَعالِمٍ ... وَوَالِدِهِ أَو سَيّدٍ كُرْهَهُ أمْهَدِ
وَصَافِحْ لِمَنْ تَلْقَاهُ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ... تَنَاثَرْ خَطَايَاكُمْ كَمَا في المُسَنَّدِ
وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ حَلَّ سُجُوْدُنَا ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيْلُ الثَّرَى بِتَشَدُّدِ
وَيُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا ... وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ
وحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلاَقِي تَدَيُنَاْ ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيْلُ الفَمْ أَفْهَمْ وَقَيِّدِ
وَنَزْعُ يَدٍ مِمَّنْ يُصَافحُ عَاجِلاً ... وَأَنْ يَتَنَاجَى الجَمْعُ مِن دُوْنِ مُفْرَدِ
وَأَنْ يَجْلِسَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُحَدِّثٍ ... بِسِرٍّ وَقِيلَ احظر وَإِنْ يَأْذَنْ اُقْعُدْ
وَمَرْأَى عَجُوزٍ لم تُرْدِ وَصِفَاحُهَا ... وَخُلْوَتُهَا أكْرَهْ لا تَحِيْتَهَا أَشْهَدِ
وَتَشْمِيْتَهَا واكْرهْ كِلاَ الخِصْلَتَيْنِ ... لِلشَبَاب مِن الصِّنفَيْنِ بُعْدَى وَأَبْعَدِي
وَيَحْرُمُ رَأْيُ الْمُرْدِ مَعَ شَهْوَةٍ فَقَطْ ... وَقِيلَ وَمَعْ خَوْفٍ وَلِلْكُرْهِ جَوِّدْ
وَكُنْ واصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لَكَاشِحٍ ... تُوَفَّرَ في عُمْرٍ وَرِزْقً وَتَسْعَدِ
وَيَحْسُنُ تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ ... وَلَا سِيَّمَا لِلْوَلَدِ الْمُتَأَكِّدِ
وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ ... سِوَى في حَرَامٍ أَوْ لأَمْرٍ مُؤَكَّدِ
كَتَطْلاَبِ عِلْمٍ لاَ يَضُرُّهُما بِهِ ... وَتَطْلِيْقِ زَوْجَاتٍ بِرْأٍي مُجَرَّدِ
وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ
وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ كُلُّ قِرَاءَةٍ ... وَذِكْرُ لِسَانٍ وَالسَّلَامُ لِمُبْتَدِي
وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ وابقه ... وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْلِيسَ نهد
وَيُشْرَعُ إِيكَاءِ السِقَا وَغِطَا الإِنَا ...(3/102)
وَإيجَافُ أَبْوَابٍ وَطَفْءُ لمُِوَقَّدِ
وَتَقْلِيْمُ أَظْفَارٍ وَنَتْفٌ لإِبْطِهِ ... وَحَلْقاً وَلِلتَّنْوِيْرِ لِلْعَانَةِ أُقْصدِ
وَيَحْسُنُ خَفْضُ الصَّوتِ مِن عَاطِسٍ وأَنْ ... يُغَطِّيَ وَجْهاً لاسْتِتَارٍ مِن الرَّدِي
وَيَحْمَدُ جَهْراً وَلْيُشَمِّتْهُ سَامِعٌ ... لِتَحْمِيْدِهِ والْيُبْدِ رَدَّ المُعَوَّدِ
وَقُلْ لِلْفَتَى عُوْفِيْتَ بَعْدَ ثَلاَثَةٍ ... وَلِلطّفْلِ بُوْرِكْ فِيْكَ وَأْمُرهُ يَحْمَدِ
وَغَطِّ فَمًا وَاكْظِمْ تُصِبْ فِي تَثَاؤُبٍ ... فَذَلِكَ مَسْنُونٌ لِأَمْرِ الْمُرَشَّدِ
وَلاَ بَأْسَ شَرْعاً أَنْ يَطِبَّكَ مُسْلِمٌ ... وشَكْوَى الذي تَلْقَى وبالحَمْدِ فابْتَدِي
وَتَرْكُ الدَّوا أَوْلَى وَفْعْلُكَ جَائِزُ ... ولم تَتَيَقَنْ فِيْهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ
وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِه ... هِ وَلَاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّك تسعد
وَتُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ ... تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ
فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلَائِكَةِ الرِّضَا ... تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ يَمْشِي إلَى الْغَدِ
وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ ... عَلَيْهِ إلَى اللَّيْلِ الصَّلَاةَ فَأَسْنِدْ
فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْهُ خَفِّفْ وَمِنْهُمْ ال ... ذِي يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَرِّدٍ
فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ ... تَعُودُ وَلَا تُكْثِرْ سُؤَالًا تنكد
وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا أَهْلَ ذِمَّةٍ ... لِإِحْرَازِ مَالٍ أَوْ لِقِسْمَتِهِ اشهد
وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ لَا ضَرُورَةً ... وَمَا رَكَّبُوهُ مِنْ دَوَاءٍ مُوَصَّدٍ
وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا ... طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ أَجِزْهُ ومهد
وَيُكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ إلَّا ضَرُورَةً ... وَيَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ قَدْ
كَقَابِلَةٍ حِلٌّ لَهَا نَظَرٌ إلَى ... مَكَانِ وِلَادَاتِ النِّسَا فِي التَّوَلُّدِ
وَيُكْرَهُ إنْ لَمْ يَسْرِ قَطْعُ بواسر ... وَبَطُّ الْأَذَى حِلٌّ كَقَطْعِ مُجَوَّدٍ
لِآكِلَةٍ تَسْرِي بِعُضْوٍ أَبِنْهُ إنْ ...(3/103)
تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ وَلَا تتردد
وَقَبْلَ الْأَذَى لَا بَعْدَهُ الْكَيَّ فاكرهن ... وَعَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدِ
وَفِيمَا سِوَى الْأَغْنَامِ قَدْ كَرِهُوا الْخِصَا ... لِتَعْذِيبِهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُسْنَدِ
وَقَطْعُ قُرُونٍ وَالْآذَانِ وَشَقُّهَا ... بِلَا ضَرَرٍ تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ
وَيَحْسُنُ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحِلِّ قَتْلُ مَا ... يَضُرُّ بِلَا نَفْعٍ كَنَمِرٍ وَمَرْثَدِ
وَغِرْبَانُ غَيْرِ الزَّرْعِ أَيْضًا وَشِبْهُهَا ... كَذَا حَشَرَاتُ الْأَرْضِ دُونَ تَقَيُّدِ
كَبَقٍ وَبُرْغُوثٍ وَفَأْرٍ وَعَقْرَبٍ ... وَدَبُّرًا وَحَيْاَّتٍ وَشِبْهِ المُعَدِّدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... بِهِ وَاكْرَهَنَّ بِالنَّارِ إحْرَاقَ مُفْسِدِ
وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ أُجِيزَ مَعْ ... أَذًى لَمْ يَزُلْ إلَّا بِهِ لَمْ أُبَعِّدْ
وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ ... وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًّا بِمَوْقِدِ
وَيُكْرَهْ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدَ ... عٍ وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنِ وَهُدْهُدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظُرْ إذَنْ غَيْرَ مُفْسِدِ
وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ ... ثَلَاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ
وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ اُقْتُلْ وَأَبْتَرَ حَيَّةٍ ... وَمَا بَعْدَ إيذَانٍ تُرَى , أَوْ بِفَدْفَدِ
وَمَا فِيهِ إضْرَارٌ وَنَفْعٌ كَبَاشِقٍ ... وَكَلْبٍ وَفَهْدٍ لِاقْتِصَادِ التَّصَيُّدِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْكاً فَأَنْتَ مُخَيَّرُ ... وإنْ مُلِكَتْ فاحْظِرْ وإنْ تُؤْذِ فاقْدُدِ
وَيُكْرَهُ نَفْخٌ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ ... وَجَوْلَانُ أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ
فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ فَاَلَّذِي ... نَهَى فِي اتِّحَادٍ قَدْ عَفَا فِي التَّعَدُّدِ
وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ ... بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا دَدْ
وَأَكْلَكَ بِالثِّنْتَيْنِ , وَالْأُصْبُعِ اكْرَهْنَ ... وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعَرْفِ إتْيَانَ مَسْجِدِ
وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى ...(3/104)
وَأَوْسَاخِهِ مَعَ نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ الرَّدِي
كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاؤُهُ ... عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ورا ظَهْرِهِ اشْهَدْ
وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ ... وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لَا فِي التَّفَرُّدِ
وَكُلْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبَ ... الْيَمِينِ وَبَسْمِلْ ثُمَّ فِي الْاِنْتِهَا احْمَدْ
وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهْمَةً ... وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ يَبْتَدِي
وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى ... وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ
وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغِذَا ... وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدْ
وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعً ... وَأَكْلُ فُتَاتٍ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ
وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ ... وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللَّهُ تَهْتَدِ
وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ... وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ
وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَالْبَسْ الَّذِي ... تُلَاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا تَتَقَيَّدْ
وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ ... وَلَا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعِ اقْتَدِ
وَلَا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْ ... إنَاءِ وَانْظُرَنْ فِيهِ وَمَصًّا تَزَرَّدِ
وَنَحِّ الأنا عَن فِيْكَ واشْرَبْ ثَلاَثةً ... هُوْ أهْنَا وَأَمْرَا ثم أَرْوَي لِمَنْ صُدِي
وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ وَلَا انْ ... تِعَالَ الْفَتَى فِي الْأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ
وَيُكْرَهُ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لَابِسٍ ... وَوَاصِفُ جِلْدٍ لَا لِزَوْجٍ وَسَيِّدٍ
وَإِنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةً لِسِوَاهُمَا ... فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
وَخَيْرَ خِلَالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُّطُ الْ ... أُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ
وَلُبْسَ مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْظُرْ بِأَجْوَدِ ... وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدْ
وَأَحْسَنُ مَلْبُوسٍ بَيَاضٌ لِمَيِّتٍ ... وَحَيٍّ فَبَيِّضْ مُطْلَقًا لَا تُسَوِّدْ
وَلَا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ ...(3/105)
مَعَ الْجَهْلِ فِي أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ
وَقِيلَ اكْرَهَنْهُ مِثْلَ مُسْتَعْمَلِ الْإِنَا ... وَإِنْ تَعْلَمْ التَّنْجِيسَ فَاغْسِلْهُ تَهْتَدِ
وَأَحْمَرَ قَانٍ والمُعَصْفَرَ فاكْرَهَنْ ... لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ في نَصِّ أَحْمَدِ
وَلاَ تَكْرَهَنْ في نَصِّ ما قَدْ صَبَغَتَهُ ... مِن الزَّعْفَرانِ البَحْتِ لَوْنَ المُوَرَّدِ
وَلَيْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ بَأْسٌ وَلَا الْقَبَا ... وَلَا لِلنِّسَا , وَالْبُرْنُسِ افْهَمْهُ وَاقْتَدِ
وَلُبْسَ الْحَرِيرِ اُحْظُرْ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ ... سِوَى لِضَنًى أَوْ قَمْلٍ أَوْ حَرْبِ جُحَّدِ
وَيَحْرُمُ بَيْعٌ لِلرِّجَال لِلِبْسِهِمْ ... وَتَخَيْيطْهُ والنَّسْجُ في نَصِّ أَحْمَدِ
وَيَحْرُمُ لُبْسٌ مِنْ لُجَيْنٍ وَعَسْجَدٍ ... سِوَى مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الَّذِي اُبْتُدِيَ
وَيَحْرُمُ سِتْرٌ أَوْ لِبَاسُ الْفَتَى الَّذِي ... حَوَى صُورَةً لِلْحَيِّ فِي نَصِّ أَحْمَدِ
وَفِي السِّتْرِ أَوْ مَا هُوَ مَظِنَّةُ بَذْلَةٍ ... لَيُكْرَهُ كَتْبٌ لِلْقُرْآنِ الْمُمَجَّدِ
وَلَيْسَ بِمَكْرُوْهٍ كِتَابَةُ غيْرِهِ ... مِنَ الذِكْرِ فيْما لَم يُدَسْ وَيُمَهَّدِ
وَحَلً لمَنْ يَسْتَأْجِرُ البَيْتَ حَكُهُ ال ... تَصَاوِيْرَ كَالحَماَّم لِلدَّاخِلِ اشْهَدِ
وَفِي نَصِّهِ أَكْرَهُ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَا الرَّ ... قِيقَ سِوَى لِلزَّوْجِ يَخْلُو وَسَيِّدِ
وَيُكْرَهُ تَقْصِيرُ اللِّبَاسِ وَطُولُهُ ... بِلَا حَاجَةٍ كِبْرًا وَتَرْكُ الْمُعَوَّدِ
وَأَطْوَلُ ذَيْلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا ... بِلَا الْأُزُرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لَتَزْدَدِ
وَلَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ... عَقِيقٍ وَبِلَّوْرٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ
وَيُكْرَهُ مِنْ صُفْرٍ رَصَاصِ حَدِيدِهِمْ ... وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ خَاتَمُ عَسْجَدِ
وَيَحْسُنُ فِي الْيُسْرَى كَأَحْمَدَ وَصَحْبِهِ ... وَيُكْرَهُ فِي الْوُسْطَى وَسَبَّابَةِ الْيَدِ
وَمَنْ لَمْ يَضَعْهُ فِي الدُّخُولِ إلَى الْخَلَا ... فَعَنْ كَتْبِ قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِهِ اصدد
وَيَحْسُنُ فِي الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ ... وَفِي الْخَلْعِ عَكْسٌ وَاكْرَهْ الْعَكْسَ ترشد
وَيُكْرَهُ مَشْيُ الْمَرْءِ فِي فَرْدِ نَعْلِهِ اخْ ...(3/106)
تِيَارًا أَصِخْ حَتَّى لِإِصْلَاحِ مُفْسِدِ
وَلَا بَأْسَ فِي نَعْلٍ يُصَلِّي بِهِ بِلَا ... أَذًى وَافْتَقِدْهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدِ
وَيَحْسُنُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ شِسْعِهِ ... وَتَخْصِيصِ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ
وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلَا ... مِنْ الشَّعْرِ مَعَ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِ
وَيُكْرَهُ سندي النِّعَالِ لِعُجْبِهِ ... بصرارها زِيُّ الْيَهُودِ فأبعد
وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارك ... بن تمعْدد وَاخْشَوْشَن وَلَا تَتَعَود
وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ ... وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدْ
وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى ... تَنَاهَى إلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قَدْ
وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سُتْرَةً ... أَتَمُّ مِنْ التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ
بِسُنَّةِ إبْرَاهِيمَ فِيهِ وَأَحْمَدَ ... وَأَصْحَابِهِ الْأُزُرَ أَشْهَرُ أكد
وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا ... وَيُكْرَه مَع طُولِ الغِنَا لُبْسُكَ الرَّدِي
وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ الفِرَاءِ واشْتِرَائِها ... جُلُودَ حَلَالٍ مَوْتُهُ لَمْ يوطد
وَكَاللَّحْمِ الْأَوْلَى احظرن جِلْدَ ثَعْلَبٍ ... وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلَاةَ بِهِ اصدد
وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا ... سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَدِ
وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... وَلَا سِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ
وَكُنْ شَاكِرًا لِلَّهِ وَارْضَ بِقَسْمِهِ ... تُثَبْ وَتُزَدْ رِزْقًا وَإِرْغَامَ حسد
وَقُلْ لِأَخٍ أَبْلِ وَأَخْلِقْ وَيُخْلِفُ الْ ... إِلَهُ كَذَا قُلْ عِشْ حَمِيدًا تُسَدِّدْ
وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا ... مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ
وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْأُزُرِ وَالْخُفِّ قَائِمًا ... كَذَاك الْتِصَاقُ اثْنَيْنِ عُرْيًا بِمَرْقَدٍ
وَثِنْتَيْنِ وَافْرُقْ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَهُمْ ... لَوْ إخْوَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ تُسَدَّدْ
وَيُكْرَهُ نَوْمُ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ ...(3/107)
مِنْ الدُّهْنِ وَالْأَلْبَانِ لِلْفَمِ وَالْيَدِ
وَنَوْمُك بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ عَلَى ... قَفَاك وَرَفْعُ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا اُمْدُدْ
وَيُكْرَهُ نَوْمٌ فَوْقَ سَطْحٍ , وَلَمْ يُحَطْ ... عَلَيْهِ بِتَحْجِيرٍ لِخَوْفٍ مِنْ الرَّدِي
وَيُكْرَهُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ جِلْسَةٌ ... وَنَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ
وَقُلْ فِي انْتِبَاهٍ وَالصَّبَاحِ وَفِي الْمِسَا ... وَنَوْمٍ مِنْ الْمَرْوِيِّ مَا شِئْت تُرْشَدْ
وَيَحْسُنُ عِنْدَ النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ ... وَنَوْمٌ عَلَى الْيُمْنَى وَكُحْلٌ بِإِثْمِدِ
فَخُذْ لَك مِنْ نُصْحِي أُخَيَّ وَصِيَّةً ... وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضُرْ بِقَلْبٍ مُؤَبَّدِ
وَلَا تَنْكِحَنْ إنْ كُنْت شَيْخًا فَتِيَّةً ... تَعِشْ فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي
وَلَا تَنْكِحَنْ مِنْ نَسْمِ فَوْقِكَ رُتْبَةً ... تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُّدِ
وَلا تَرْغَبَنَ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا ... إذَا كُنْتَ ذَا فَقْرٍ تُذَلُ وَتُضْهَد
وَلَا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ... تُسَمَّعْ إذَنْ أَنْوَاعَ مِنْ مُتَعَدِّدٍ
فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عِرْسِهِ ... يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إلَيْهَا وَيَغْتَدِي
وَلَا تُنْكِرَنْ بَذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُّدًا ... وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ
وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْت وَغُضَّ عَنْ ... عَوَارٍ إذَا لَمْ يَذْمُمْ الشَّرْعُ تَرْشُدْ
وَكُنْ حَافِظًا أَنَّ النِّسَاءَ وَدَائِعُ ... عَوَانٌ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ
وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ تُرْمَ بِتُهْمَةٍ ... وَلَا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ
وَلَا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجَهَا ... فَمَا هِيَ إلَّا مِثْلُ ضِلَعٍ مُرَدَّدِ
وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةِ ... تَؤُولُ إلَى تُهْمَى الْبَرِيِّ الْمُشَدِّدِ
وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ ... سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبٍ إلَى أَصْلِهَا الرَّدِي
وَلَا تَنْكِحْنَ فِي الْفَقْرِ إلَّا ضَرُورَةً ... وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تَهْدِي وَتَهْتَدِي
وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ النِّسَا لُعَبٌ لَنَا ...(3/108)
فَحَسِّن إذَن مَهْمَا استَطَعْتَ وُجُود
خَيْرُ النِّسَ مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا ... وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ
قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا ... قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ
عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرُ بِالْمُنَى الْ ... وَدُودِ الْوَلُودِ الْأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ
حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إذًا ... بِوُلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةَ فَاقْصِدْ
وَوَاحِدَةٌ أَدْنَى مِنْ الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ ... وَإِنْ شِئْت فَابْلُغْ أَرْبَعًا لَا تُزَيَّدْ
وَمَنْ عَفَّ تَقْوًى عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ ... يَعِفَّ أَهْلِهِ حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يُفْسَدْ
فَكَابِدْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلَّاعَ أَنْجُدِ
وَلَا تذهبن الْعُمْرَ مِنْك سَبَهْلَلًا ... وَلَا تُغْبَنَن فِي الْغُمَّتَيْنِ بَلْ اجْهَدْ
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ
فَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي
وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ
وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحَسَد
فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتُبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدٍ
وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ العُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاك عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وترشد
وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَالْ ... بَذِيَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي
وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ ... يَرُمْ صَلَاحًا لِأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يفسد
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ...(3/109)
تَحَلَّيْتهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ
وَكُفَّ عَنْ العورى لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي
وَحَصِّنْ عَنْ الفحشا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الجزا خَيْرَ شُهَّدِ
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدٍ
وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي
وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ
وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرِ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَد
وَلَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا ... فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصِدِ
وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته ... لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ ... تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ
وَكُنْ صَابِرًا بِالفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَا ... بمَا قَدَّرَ الرَّحمنُ وَاشْكُرْهُ تُحْمَد
فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ
فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ
فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللَّهُ وَالْغِنَى ... غِنَى النَّفْسِ لَا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ
وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّ ... عَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ
وَهَا قَدْ بَذَلْت النُّصْحَ جَهْدِي وَإِنَّنِي ... مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاَللَّهِ أَهْتَدِي
تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً ... وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ
يُحَيَّرُ لَهَا قَلْبُ اللَّبِيبِ وَعَارِفِ ... كَرِيمَانِ إنْ جَالَا بِفِكْرِ مُنَضَّدِ
فَمَا رَوْضَةٌ حُفَّتْ بِنَوْرِ رَبِيعِهَا ... بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبِ الزُّلَالِ الْمُبَرَّدِ
بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلُ ... أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ
فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكْنَ ...(3/110)
لِأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يَصْدُدْ
آخر:
مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ ... فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ
يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى ... أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ
فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ ... وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كَثْرِهِ
عَمَّ الْبَلَاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ ... يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِهِ
وَالْجِنُّ مِثْلُ الْإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا ... حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ
فَإِذَا الْمُرِيدُ أَتَى لِيَخْطَفَ خَطْفَةً ... جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ
وَنَبِيُّ صِدْقٍ لَا يَزَالُ مُكَذِّبًا ... يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ
وَمُحَقِّقُ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ... ضِدٍّ يُوَاجِهِهِ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ
وَالْعَالِمُ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازِعًا ... بِالْمُشْكِلَاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ
وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلَا يَرَى ... أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ
وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ ... يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ
أَوَمَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ ... رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ
فَيَسُرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ ... هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ
وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفَكِّرٌ ... مِمَّا يُلَاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ
وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَةُ ... الرَّجُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ
وَتَرَى الْقَرِينَ مُضْمِرًا لِقَرِينِهِ ... حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ
وَلَرُبَّ طَالِبِ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ ... جَاءَتْهُ أَحْلَامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ
وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجُ إِلَى ...(3/111)
غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغَرِهِ
وَلَقَدْ حَسَدْتُ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا ... فَوَجَدْتُ مِنَها مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ
وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ ... وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ
وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ ... فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارَةِ قَبْرِهِ
كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةِ بِعَيْشِهِ ... مَا زَالَ وَهْوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ
تَاللَّهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ... أَلْفًا مِنَ الْأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ... مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ
لَا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ... كَلَّا وَلَا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي ... بِنُزُولِ أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى ... صَبْرًا عَلَى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ
انتهى.
آخر:
تَأَلَّقَ بَرْقُ الْحَقِّ فِي الْعَارِضِ النَّجْدِي ... فَعَمَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ فِي الْغَوْرِ وَالنَّجْدِ
وَأَوْرَقَتِ الْأَشْجَارُ وَانْتَهَضَتْ بِهَا ... يَوَانِعُ أَنْوَاعٍ مِنَ الثَّمَرِ الرَّغْدِ
وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ مِنْ زَهْرِ وَرْدِهِ ... وَأَعْبَقَتِ الْأَقْطَارُ مِنْ طِيبِهِ النَّدِ
وَغَرَّدَتِ الْأَطْيَارُ بِالذِّكْرِ تُطْرِبُ الْ ... مَسَامِعَ جَهْرًا فَوْقَ أَغْصَانِهَا الْمُلْدِ
وَقَامَ خَطِيبُ الْكَائِنَاتِ لِرَبِّهَا ... عَلَى الْخِصْبِ بَعْدَ الْمَحَلِّ بِالشُّكْرِ وَالْحَمْدِ
فَذَاكَ الْحَيَا يُحْيِي الْقُلُوبَ رَبِيعُهَا ... وَمَطْعُومهَا مَشْرُوبُهَا طَيِّبُ الْوَرْدِ
فَهَا نَحْنُ نَجْنِي مِنْ ثِمَارِ غِرَاسِهَا ... وَنَرْجُو جَنَاهُ الْعَفْوَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ
فَإِنْ كُنْتَ مُشْتَاقًا إِلَى ذَلِكَ الْجَنَا ... فَذُقْهُ تَجِدْ طَعْمًا أَلَذَّ مِنَ الشُّهْدِ
هُوَ الْوَحْيُ دِينُ اللَّهِ عِصْمَةُ أَهْلِهِ ...(3/112)
وَحَظُّهُمُ الْأَوْفَى وَجَدُّهُمُ الْمَجْدِي
بِهِ يُنْتَجَى وَالنَّاسُ فِي هَلَكَاتِهِمْ ... ِبِهِ يُرْتَجَى نَيْلَ الرَّغَائِبِ وَالرِّفْدِ
بِهِ الْأَمْنُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْحَشْرِ وَاللِّقَا ... وَمِنْ قَبْلُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَفِي اللَّحْدِ
بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا بِهِ تُحْقَنُ الدِّمَا ... بِهِ يُحْتَمَى مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَذِي حِقْدِ
بِهِ زُعْزِعَتْ أَرْكَانُ كِسْرَى وَقَيْصَرٍ ... وَلَمْ يَجِدْ مَا حَازَا مِنَ الْمَالِ وَالْجُنْدِ
وَأَمْثَالُهَا فِي السَّالِكِينَ طَرِيقَهُمْ ... أَرَنَا كَمَا قَدْ قَالَهُ صَادِقُ الْوَعْدِ
فَلِلَّهِ حَمْدٌ يَرْتَضِيهُ لِنَفْسِهِ ... عَلَى نِعَمٍ زَادَتْ عَنِ الْحَصْرِ وَالْعَدِّ
فَأَعْظَهُمَا بَعْثُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ... أَمِينُ إِلَهِ الْحَقِّ وَاسِطَةَ الْعِقْدِ
دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ دِينِ الْهَنَا ... وَتَوْحِيدِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْقَصْدِ
هَدَانَا بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَالْعَمَى ... وَأَنْقَذَنَا بَعْدَ الْغِوَايَةِ بِالرُّشْدِ
حَبَانَا وَأَعْطَانَا الَّذِي فَوْقَ وَهْمِنَا ... وَأَمْكَنَنَا مِنْ كُلِّ طَاغٍ وَمُعْتَدِ
وَأَيَّدَنَا بِالنَّصْرِ وَاتَّسَعَتْ لَنَا ... مَمَالِكُ لَا تَدْعُو سِوَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ
فَنَسْأَلُهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ بِأَنْ ... يُثَبِّتَنَا عِنْدَ الْمَصَادِرِ كَالْوَرْدِ
فَيَا فَوْزَ عَبْدٍ قَامَ لِلَّه جَاهِدًا ... عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ يَهْدِي وَيَسْتَهْدِي
وَجَرَّدَ فِي نَصْرِ الشَّرِيعَةِ صَارِمًا ... بِعَزْمٍ يُرَى أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ الْهِنْدِي
وَتَابَعَ هَدْيَ الْمُصْطَفَى الطُّهْرَ مُخْلِصًا ... لِخَالِقِهِ فِيمَا يُسِرُّ وَمَا يُبْدِي
وَيَا حَسْرَةَ الْمَحْرُومِ رَحْمَةَ رَبِّهِ ... بِإِعْرَاضِهِ عَنْ دِينِ ذِي الْجُودِ وَالْمَجْدِ
لَقَدْ فَاتَهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَا دَرَى ... وَقَدْ خَابَ وَاخْتَارَ النُّحُوسَ عَلَى السَّعْدِ
وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللَّهِ أَزْكَى صَلَاتِهِ ... وَتَسْلِيمِهِ الْأَوْفَى الْكَثِيرِ بِلَا حَدِّ
عَلَى الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ السَّوَابِقِ وَالزُّهْدِ(3/113)
آخر:
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا ... وَصَدَّتْهُ الْأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضْحَى حَزِينًا ... عَلَى زَلَّاتِهِ قَلِقًا كَئِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ ... صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرًّا ... فَمَا لِي الْآنَ لَا أُبْدِي النَّحِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمُرِي ... فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ ... أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنْ الْخَطَايَا ... وَقَدْ أَقْبَلْتُ أَلْتَمِسُ الطَّبِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ ... حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي ... وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي ... إلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا
أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْدًا ... وَكُنْتُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا
أَنَا الْمَهْجُورُ هَلْ لِي مِنْ شَفِيعٍ ... يُكَلِّمُ فِي الْوِصَالِ لِي الْحَبِيبَا
أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي ... وَيَسِّرْ مِنْكَ لِي فَرَجًا قَرِيبَا
أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْوًا ... وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا
فَيَا أَسَفَى عَلَى عُمُرٍ تَقَضَّى ... وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إلَّا الذُّنُوبَا
وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلَنِي مَمَاتٌ ... يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا
وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ نَشْرِي وَحَشْرِي ... بِيَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبَا
تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ ... وَأَصْبَحَتْ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا
إذَا مَا قُمْتُ حَيْرَانًا ظَمِيئَا ... حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَانًا سَلِيبَا(3/114)
وَيَا خَجَلَاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي ... إذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا
وَذِلَّةِ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ ... أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا
وَيَا حَذَرَاهُ مِنْ نَارٍ تَلَظَّى ... إذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتْ الْقُلُوبَا
تَكَادُ إذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظًا ... عَلَى مَنْ كَانَ ظَلَّامًا مُرِيبَا
فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا ... خُطَاهُ أَمَا أَنَى لَكَ أَنْ تَتُوبَا
أَلَا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا ... رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا
وَأَقْبِلْ صَادِقًا فِي الْعَزْمِ وَاقْصِدْ ... جَنَابًا نَاضِرًا عَطِرًا رَحِيبَا
وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخًا وَخِلًّا ... وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا
وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَانًا ... وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَامًا نَجِيبَا
وَلَاحِظْ زِينَةَ الدُّنْيَا بِبُغْضٍ ... تَكُنْ عَبْدًا إلَى الْمَوْلَى حَبِيبَا
فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا ... مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا
وَغُضَّ عَنْ الْمَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا ... طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ الْأَرِيبَا
فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ ... إذَا مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا
وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا ... يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا
وَلَا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلَامٍ ... يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَادًا وَحُوبَا
وَلَا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ ... بِذِكْرِ اللَّهِ رَيَّانًا رَطِيبَا
وَصَلِّ إذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولًا ... وَلَا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا
تَجِدْ أُنْسًا إذَا أُوعِيتَ قَبْرًا ... وَفَارَقْتَ الْمُعَاشِرَ وَالنَّسِيبَا
وَصُمْ مَا اسْتَطَعْت تَجِدْهُ رِيًّا ... إذَا مَا قُمْتَ ظَمْآنًا سَغِيبَا
وَكُنْ مُتَصَدِّقًا سِرًّا وَجَهْرًا ... وَلَا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحًا وَهُوبَا(3/115)
تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلًّا ... إذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا
وَكُنْ حَسَنَ السَّجَايَا ذَا حَيَاءٍ ... طَلِيقَ الْوَجْهِ لَا شَكِسًا غَضُوبَا
انتهى
آخر:
أَيَا لِلمَنَايَا وَيْحَهَا مَا أَجَدَّهَا ... كَأَنَّك يَوْمًا قَدْ توردت وَردها
ويا لِلمَنَايَا مَالَهَا مِنْ إِقَالَةٍ ... إِذَا بَلَغَتْ مِنْ مُدَّةٍ الْحَيِّ حَدَّهَا
أَلاَ يَا أَخَانَا إِنْ لِلمَوتِ طَلْعَةً ... وَإِنَّكَ مُذْ صَوَّرْتَ تَقْصُدُ قَصْدَهَا
وَلِلمَرءْ عِنْدَ الْمَوْتِ كَرْبٌ وَغُصَّةٌ ... إِذَا مَرَّتِ السَّاعَاتُ قَرَبْنَ بُعْدَهَا
سَتُسَلِمُكَ السَّاعَاتُ فِي بَعْضِ مَرِّهَا ... إِلَى سَاعَةٍ لاَ سَاعَةٌ لَكْ بَعْدَهَا
وَتَحْتَ الثَّرَى مِنِّيْ وَمِنْكَ وَدَائِعٌ ... قَرِيْبَةُ عَهْدٍ إِنْ تَذَكَّرْتَ عَهْدَهَا
مَدَدْتَ الْمُنَى طُوْلا وَعَرْضًا وَأنَّهَا ... لتَدْعُوكَ أَنْ تَهْدَأ وَأنْ لاَ تَمدَّهَا
وَمَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهْوِ وَالصِّبَا ... وَمَنْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِهِ كَانَ عَبْدَهَا
إِذَا مَا صَدَقْتَ النَّفْسَ أَكْثَرْتَ ذَمَّهَا ... وَأَكْثَرْتَ شَكْوَاهَا وَأَقْلَلْتَ حَمدَهَا
بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ فَاَعِنْ فَإِنَّهَا ... تَمُوتُ إِذَا مَاتَتْ وَتَبْعَثُ وَحْدَهَا
وَمَا كُلُّ مَا خُوَّلْتَ إِلاَ وَدِيْعَةٌ ... وَلَنْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى تَرُدَّهَا
إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيَا دَنِيَةً ... فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا
أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغَيِص عَيْشِهَا ... وَإِتْعَابِهَا لِلمُكْثِرِين وَكَدَّهَا
وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الغَيِّ وَالعَمَى ... لِمَنْ يَبْتَغِيْ مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا
هَوَى النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُوْلُهَا ... كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا
انتهى(3/116)
آخر:
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعُ غُرُورِ ... وَدَارُ بَلاَءٍ مُؤذِنٍ بِثُبُورِ
وَدَارُ مُلِمَّاتٍ وَدَارُ فَجَائِعِ ... وَدَارُ فَنًا في ظُلْمَةٍ وَبُحُورِ
وَدَارُ خَيَالٍ مِن شُكُوكٍ وَحِيْرَةٍ ... وَدَارُ صُعُودٍ فِي الْهَوَى وَحُدُورِ
وَإِنْ امْرًأ لَمْ يَنْجُ فِيْهَا بِنَفْسِهِ ... عَلَى مَا يَرَى فِيْهَا لِغَيْرِ صَبُورِ
وَلاَ بُدَّ مِن يَوْمَيْنِ يَوْمِ بَليَّةٍ ... إِرَادةُ جَبَّارٍ وَيَوْمِ نُشُورِ
كَأَنِّي بِيَوْمِ مَا أَخَذْتُ تَأَهُّبًا ... لِرَبِّي رَوَاحِي مَرةٌ وَبُكُورِيِ
كَفَى حَسْرَةً أَنَّ الْحَوَادِثَ لَم تَزَلْ ... تُصَيِّرُ أَهْلَ الْمُلْكِ أَهْلَ قُبُورِ
أَلاَ رُبَّ أَبْنَاءِ اتِّسَاعٍ وَفَرْحَةٍ ... وَزَهْرَةِ عَيْشٍ مُوِنق وَحُبُورِ
وَأَبْنَاءِ لَذَّاتٍ وَظِلّ مَصَانِعٍ ... وَظِلَّ مَقَاصِيْر وَظِلٌّ قُصُورِ
نَظَرتُ إِلَيْهِمْ فِي بُيوتٍ مِن الثَّرَى ... مُسَتَّرةٍ مِن رَضرَضٍ بسُتُورِ
وَكَمْ صُوَرٍ تَحْتَ التُّرَابِ مُقِيْمَةٍ ... عَلَى غَيْرِ أَبْشَاٍر وَغَيْر شُعُورِ
ثَوَتْ فِي سَرَابِيْلٍ عَلَيْهَا مِنْ الْحَصَى ... وَمِنْ لَخَفٍ مِن جَنَدَلٍ وَصُخُورِ
إِذَا مَا مَرَرنَا بِالقُبُور لِحَاجَةٍ ... مَرَرْنَا بِدُوْرِ هُنَّ أَجْمَلُ دُوْرِ
أَلاَ رُبَّ جَبَّارِ بِهَا مُتَكَبِّر ... وَيَا ربُ َّمُخْتَالٍ بِهَا وَفَخُورِ
خَلِيْليَّ كَمْ مِن مَيِّتٍ قَدْ حَضرتهُ ... وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْتَفِعْ بِحُضُورِي ِ
وَكَمْ مِن خُطُوبٍ قَدْ طَوَتْنِي كَثَيْرَة ... وَكَمْ مِن أُمُورٍ قَدْ جَرَتْ وَأمُورِ
وَكَمْ مِنْ لَيَالٍ قَدْ أَرَتْنِي عَجَائِبًا ... لَهُنَّ وَأيَّامٍ خَلَتْ وَشُهُورِ
وَمَنْ لَمْ تَزدْهُ السِّنُ مَا عَاشَ عِبْرةً ... فَذَاكَ الَّذِي لاَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ
مَتَّى دَامَ فِي الدُّنْيَا سُرُوْرٌ لأِهْلِهَا ... فَأَصْبَحَ فِيْهَا وَاثِقًا بسُروْرِ؟(3/117)
آخر:
أَلَمْ تَر أَنَّ الْمَرْءَ يَحْبِسُ مَالَهُ ... وَوَارِثَهُ فِيْهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ
كَأَنَّ الْحَمَاةَ الْمُشْفِقِيْنَ عَلَيْكَ قَدْ ... غَدَوا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا
وَمَا هُوَ إِلاَّ النَّعْشُ لَوْ أَتُوا بِهِ ... تُقَلَّ فَتَلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تَرْفَعُ
وَمَا هُوَ إِلاَّ حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ ... عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزِعُ
وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ يَأْتِي لِوَقْتِهِ ... فَمَالَكَ فِي تَأْخِيْرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ
أَلاَ وَإِذَا وَدِّعْتَ تَوْدِيْعَ هَالِكٍ ... فَآَخِر يَومٍ مِنْكَ يَوْمٌ تُوَدَّعُ
أََلاَ وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزا ... فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهم سَتُشَيَّعُ
رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ... وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ
وَصَفتَ التُّقَىَ وَصْفًا كَأَنَّك ذُو تُقَى ... وَرِيْحُ الْخَطَايَا مِن ثِيَابِكَ تَسْطَعُ
وَلَمْ تَعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ ... وَكُلُّ امْرئٍ يَعْنَي بِمَا يَتَوَقَّعُ
وَإِنَّكَ لَلْمَنْقُوصِ في كُلِّ حَالةٍ ... وَكُلَّ بِنِيْ الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يَطْبَعُ
وَمَا زِلْتُ أَرُمِى كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَال تَصَدَّعُ
فَما بالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمائِهَا ... وما بالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ المُلْكَ غَيْرُهُ ... مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ
وأيُّ امْرِءٍ في غَايةٍ ليسَ نَفْسُهُ ... إِلَى غَايةٍ أُخْرَى سِواهَا تَطَلَّعُ
وبعضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيْعًةٌ ... وكلُّ بِكُلَّ قَلمَّا يَتَمَتَّعُ
يُحِبُّ السَّعيدُ العَدلَ عندَ احْتِجَاجِهِ ... وَيَبْغِي الشَّقِيُّ البَغِي وَالبَغُي يَصْرَعُ
انتهى(3/118)
آخر:
خَفِّضْ هُمُومَكَ فَالحَيَاةُ غَرُوْرُ ... وَرَحَي المَنُونِ عَلَى الأَنَامِ تَدُورُ
وَالمَرْءُ في دَارِ الفَنَاءِ مُكَلَّفٌ ... لا مُهْمَلٌ فيها وَلا مَعْذُورُ
والنَّاسُ في الدُّنْيَا كَظِلٍ زَائلٍ ... كُلٌّ إِلَى حُكمِ الفَنَاءِ يَصِيْرُ
فَالنَّكسُ وَالمَلِكُ المُتَوَّجُ وَاحدٌ ... لا آمرٌ يَبْقَى وَلا مَأمُورُ
عجبًا لمن تَركَ التَّذكُّرَ وَانْثَنَى ... في الأَمْرِ وَهو بِعَيْشِهِ مَغرُورُ
وإِذَا القَضَاءُ جَرَى بِأَمْرٍ نَافذٍ ... غَلِطَ الطَّبِيْبُ وَََأخْطَأَ التَّدبِيْرُ
إِنْ لُمْتُ صَرفَ الدَّهْرِ فِيهِ أَجَابَنِي ... أَبَتِ النُّهَى أن يُعْتَبَ المَقْدُورُ
أو قُلْتُ لهُ أينَ المُؤَيَّدُ قَالَ لِي ... أينَ المُظفَّرُ قَبْلُ وَالمنْصُورُ
أم أين كِسرَي أَزْدَ شِيْرُ وَقَيصَرٌ ... والهُرمُزَانُ وَقَبْلَهُم سَابُورُ
أَينَ ابن دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الذِي ... كَانَتْ بِجَحْفَلِهِ الجِبَالُ تَمُورُ
والرِّيحُ تَجْرِي حَيثُ شاءَ بِأمرِه ... مُنْقَادَةً وَبه البِسَاطُ يَسِيْرُ
فَتَكَتْ بهم أَيْدِي المَنُونِ وَلَمْ تَزَلْ ... خَيْلُ المنُونِ على الأَنامِ تُغِيْرُ
لو كَانَ يَخْلُدُ بِالفَضَائِل مَاجدٌ ... مَا ضَمَّتِ الرُّسُلَ الكِرَامِ قُبُورُ
كلٌّ يَصِيْرُ إِلَى البِلَى فَأَجَبْتُهُ ... إِنِّي لأَعْلَمُ وَاللَّبِيْبُ خَبِيْرُ
أَنَّ الحَيَاةَ وَإِنْ حَرِصْتَ غَرُورُ
وَرَأيْتُ كُلاً ما يُعَلِّلُ نَفْسَهُ ... بِتَعِلَّةٍ وَإِلَى الفَنَاءِ يَصِيْرُ
انتهى.
آخر:
نَادَتْ بِوَشْكَ رَحيْلكَ الأيَّامُ ... أَفَلَسْتَ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ
وَمَضَى أَمَامَك مِنْ رَأْيتَ وَأنْتَ لِلْـ ...(3/119)
بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ
مَالِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى ... عَبرًا تَمُرُّ كَأنَّهنَّ سِهَامُ
تَأْتِي الخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا ... فَإِذَا مَضَتْ فَكَأنَّهَا أَحْلامُ
قَدْ وَدَّعَتْكَ مِنَ الصِّبَا نَزَوَاتُهُ ... فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعدَهُنَّ مَقَامُ
وَارْضَ المَشِيْبَ من الشَّبابِ خَلِيْفَةً ... فَكِلاهُمَا لكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ
وَكِلاهُما حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ ... وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ
وَلَقَدْ غَنَيْتَ مِن الشَّبابِ بِغِبْطَةٍ ... وَلَقَدْ كَسَاكَ وَقَارُهُ الإسْلامُ
أَهلاً وَسهلاً بِالمَشِيْبِ مُؤَدِبًا ... وَعَلَى الشَّبابِ تَحِيَّةٌ وَسلامُ
مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ... أَمْسَى عَلَيهِ مِن التُرابِ رُكَامُ
وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوت وَكَمْ ... جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ
والموتُ يَعْمَلُ وَالعُيونُ قَرِيْرَةٌ ... تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالمُنَى وَتَنَامُ
فَالحَمدُ لله الذي هُو دَائمٌ ... أَبدًا وَليسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
وَالحَمدُ لله الذِي لِجَلالِهِ ... وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَْحلامُ
والحَمدُ لله الذِي هوَ لَمْ يَزَلْ ... لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ
سُبحانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ ... وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإكرامُ
انتهى.
أضْحَى ذَلِيلاً صَغِيْرَ الشأنِ مُنْفَرِداً ... وما يُرَى عِنْدَهُ في القَبْرِ بَوَّابَا
وقَبْلَكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقدْ هَلَكُوا ... أصْبَحْتَ مما ستَلْقَي النفسُ هَرَّابَا
اكَدَحْ لنَفْسكَ من دارِ تُزَايِلُهَا ... ولا تَكُنْ لِلَّذِي يُؤْذِيك طلابَا(3/120)
آخر: ومما أشير فيه إِلَى بعض المعجزات التي وَردت في القرآن ما يلي:
هو الله مَن أَعْطَى هُدَاهُ وَصحُّ مِن ... هواه أراه الخَارقَاتِ بحِكْمةِ
بِذَاكَ على الطُوفَانِ نُوح وَقد نَجَا ... بِهِ مَنْ نَجَا في قومِهِ في السَّفِيْنَةِ
وغَاضَ لَهُ ما فَاضَ عنه اسْتِجَابةً ... وجد إِلَى الجودي بها وَاستقرت
وسار وَمتن الريح تَحْت بساطه ... سُلَيْمَانُ بالجَيْشَيْن فَوقَ البَسْطَة
وقَبْلَ ارتداد الطَّرفِ أُحْضِرَ مِنْ سبا ... له عَرْشُ بلقيسٍ بغير مَشَقَّةِ
وأَخْمَدْ لإبْرَاهِيْمَ نَارَ عَدُّوِهِ ... وَفي لُطْفِهِ عَادَتْ له روض جنةٍ
آخر:
اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الموتَ في مهلٍ ... ولا تكنْ جَاهلاً في الحقِ مُرْتَابً
إنّ المنيَّة مَورُود مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلو عُمِّرتَ أحْقَابَا
وفي اللَّيَالي وَفي الأيامِ تَجْربةٌّ ... يَزْدَادُ فيها أُولُو الألبَاب ألْبَابَا
بَعْدَ الشبابِ يَصِيْر الصُّلْبُ مُنْحَنيا ... َ ... والشَّعرُ بَعْدَ سَوادٍ كَانَ قَدْ شابا
يُفْنِي النفوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أحدٍ ... لَيل سَريع وَشمس كَرُّهَا دَابَا
لِمُستقِّر وَميقاتٍ مُقَدَّرةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهودُ النَّاسِ غُيَّابَا
ومَن تُعَاقِرهُ الأيامُ تُبْدِلُهُ ... بالجارِ جَاراً وَبالأصَحابَ أصحَابَا
خَلَّوا بُرُوجا وَأوطَانَاً مُشَيَّدَةً ... ومُؤْنِسِينَ وَأصْهَاراً وَأنْسَابَا
فَيَالَهُ سَفرًا بعدًا وَمغتربًا ... كَسيتَ منهُ لطولِ النَّأي أثوابَا
بِموحشٍ ضيقٍ ناءٍ محلتهُ ... وليس من حِلَّهُ من غيبةٍ آبَا
كم من مَهيبٍ عظيمِ الملكِ مُتخذٍ ... دونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحجابَا
ولما دَعا الأَطيارُ في رأسِ شاهقٍ ... وقد قُطعَّتْ جاءتهُ غيرَ عصيَّةِ
وفي يدهِ مُوسَى عصاهُ تَلقَّفتْ ...(3/121)
من السِّحرِ أهوالاً على النَّفسِ شقةِ
ومن حَجَرٍ أجرَى عُيونًا بضربةٍ ... بها دائمًا سقتْ وَللبحرِ شقتِ
ويُوسفَ إذ ألقى البشيرُ قميصَهُ ... على وَجهِ يعقوبٍ عليه بأوبةِ
رآهُ بِعينٍ قيل مقدمهِ بَكَى ... عليه بها شَوقًا إليه فَكفِّتِ
وفي آل إسرائيلَ مائدةُ السَّمَا ... لعيسَى بن مَريمْ أُنزلَتْ ثم مُدتِ
ومن ألم أَبْرَى وَمن وَضحٍ غَدًا ... شَفى وَأعادَ الطَّيرَ طيرًا بنفخَةِ
وصَحَّ بأخبارِ التَّواترِ أنَّهُ ... أماتَ وَأحيَا بالدُّعَا رب مَيِّتِ
وَأَبْعَد من هذا عن السِّحرِ أنَّهُ ... رَضِيْعٌ يُنادِي باللسانِ الفَصيحةِ
يُنزِّهُ عن ريبِ الظُّنونِ عَفيفةً ... مُبرَّأةً من كلِّ سوءٍ وَريبةٍ
وقالَ لأهلِ السَّبتِ كُونوا إلهنَا ... قُرُودًا فكَانَوا عِبرةً أي عِبْرَةِ
وَصَرعَ أَهْلَ الفِيْلِ مِنْ دُوْنِ بَيْتِه ... بِطَيرٍ أَبَابِيْلٍ صِغَارٍ ضَعِيْفَةِ
وَأَحْرَقَ رَوْضَ الْجَنتين عُقُوبَةً ... بِكَافٍ وَنُون عِبْرَةً لِلبَرِيَّةِ
انتهى.
آخر: وقال يوسف بن محمد الصرصري رحمه الله:
مَحَمَّدُ الْمَبْعُوثُ لِلخَلْقِ رَحْمَةً ... يَشَيِّدُ مَا أَوْهَى الضَّلاَلُ وَيُصْلِحُ
لَئِيْن سَبَّحَتَ صُمُّ الْجِبَالِ مُجِيْبَةً ... لِدَاودَ أَوْ لاَنَ الْحَدِيْدُ الْمُصَفْحُ
فَإِنَّ الصَّخُورَ الصُّمُّ لاَنَتْ بِكَفِّهِ ... وَإِنَّ الْحَصَى فِي كَفِّهِ لَيُسَبِّحُُ
وَإِنَّ كَانَ مُوْسَى أَنْبَع المَاء مِن الْحَصَى ... فَمِنْ كَفِّهِ قَدْ أَصْبَحَ الْمَاءُ يَطْفَحُ
وَإِنْ كَانَتْ الرِّيْحُ الرَّخَاءْ مُطِيْعَةً ... سُلَيْمَانَ لاَ تَأْلُوْ تَرُوْحُ وَتَسْرَحُ
فَإِنَّ الصِّبَا كَانَت لِنَصْرِ نَبِيِّنَا ... بِرُعْبٍ عَلَى شَهْرٍ بِهِ الْخَصْمُ يَكْلَحُ(3/122)
وَإِنْ أُوْتِيَ الْمُلْكَ العَظِيْمَ وَسَخِّرَتْ ... لَهُ الْجِنُّ تَشْفِي مَارِضيْهِ وَتَلْدَحُ
فَإِنَّ مَفَاتِيْحَ الكُنُوزِ بِأَسْرِهَا ... أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ الْمُتَرَجِّحُ
وَإِنْ كَان إِبْرَاهِيْمُ أُعْطِيَ خُلَّةً ... وَمُوْسَى بِتَكْلِيْم عَلَى الطُّورِ يَمْنَحُ
فَهَذَا حَبِيْبٌ بِل خَلِيْلٌ مُكَلَّمٌ ... وَخُصَّصَ بِالرُؤْيَا وََبِالْحَقِّ أَشْرَحُ
وَخُصّصَ بِالْحَوْضِ العَظِيْمِ وََباللِّوَا ... وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِيْنَ وََالنَّارُ تَلْفَحُ
وَبالْمَقْعَدِ الأَعْلَى الْمُقَرَّبِ عِنْدَهُ ... عَطَاءٌ بِبُشْرَاهُ أَقِرُّ وََأَفْرَحُ
وَبِالرُّتْبَةِ العُلْيَا الوَسِيْلةِ دُوْنَهَا ... مَرَاتِبُ أَرْبَابِ الْمَوَاهِبُ تَلْمَحُ
وَفِي جَنَّةِ الفِرِدَوْسِ أَوَّلُ دَاخِل ... لَهُ سَائِرُ الأَبْوَابِ بِالْخَيْرِ تُفْتَحُ
انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله:
فَيا ساهِيًا في غَمرةِ الجهلِ والهَوَى ... صَريعَ الأَمانِي عن قَريبٍ سَتَنْدَمُ
أَفِقْ قَد دَنَى الوقتُ الذي لَيسَ بعدَهُ ... سِوى جَنَّةٍ أو حَرِّ نَارٍ تَضرَّمُ
وَبالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كنْ مُتمسِّكًا ... هي العُروةُ الوُثقَى التي ليسَ تُقصدُ
تَمسَّكْ بها مَسْكَ البَخيلِ بِمَالِهِ ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّواجِزِ تَسْلَمِ
وَدِع عَنكَ ما قَد أَحدثَ النَّاسُ بعدَهَا ... فَمَرتعُ هَاتيكَ الحَوَادِثِ أَوْخَمُ
وَهيئْ جَوابًا عندما تَسمَعُ النِّدا ... من الله يَومَ العَرضِ ماذَا أَجبتُمُ
به رُسُلِي لمَّا أَتَوْكُم فَمَنْ يَكُن ... أجابَ سوَاهُم سَوفَ يُخْزَي وَيندمُ
وَخُذْ من تُقَي الرَّحمنِ أَعظمَ جُنَّةٍ ... لِيومٍ بهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجَسرُ من فوقِ مَتنِهَا ... فَهَاوٍ وَمَخْذُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ
وَيَأتِي إِلَهُ العَالمينَ لِوعْدِهِ ... فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبادِ وَيَحْكُمُ
وَيأخُذُ للمَظْلُومِ رَبُّكَ حقَّهُ ...(3/123)
فيا بُؤسَ عبدٍ للحلائقِ يَظلمُ
وَينشرُ دِيوَانُ الحِسابِ وتُوضَعُ الـ ... مَوازِينَ بِالقِسْطِ الذي لَيسَ يَظلمُ
فَلا مُجرمٌ يَخْشَي ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ولا مُحْسنٌ من أَجْرهِ ذَاكَ يُهضَمُ
وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ المُسِيء بِمَا جَنَي ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ المُهيمنُ يَختُمُ
فَيَا لَيْتَ شِعرِي كيف حَالكُ عِنْدَمَا ... تَطايَرُ كُتبُ العَالمِينَ وَتُقسَمُ
أَتَأخذُ بِاليُمنَى كِتابكَ أم تَكُن ... بالأخرى وَراءَ الظَّهرِ منكَ تَسلَّمُ
وَتَقْرَأ فِيْهَا كُلُّ شيءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشرقُ منكَ الوَجْهُ أو هو يُظلِمُ
تقُولُ كِتابِي فاقرؤهُ فإنَّهُ ... يُبشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعلِمُ
وإنْ تَكُن الأخرَى فإنَّكَ قَائِلٌ ... ألا لَيْتَنِي لم أُوتَهُ فهُو مَغرَمُ
فَبادِرْ إِذَا ما دَامَ في العُمرِ فُسْحَةٌ ... وَعَدْلُكَ مقبُولٌ وصَرفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ واغْتَنِم زَمنَ الصِّبَا ... ففي زَمْنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمُ
انتهى
وقال ابن القيم رحمه الله:
إذا طَلَعتْ شمسُ النَّهارِ فإنِّها ... أمارةُ تَسلِيمِي عليكُم فَسلِّمُوا
سلامٌ من الرَّحمنِ في كلِّ سَاعةٍ ... وروحٌ وريحانٌ، وفَضلٌ وأَنْعُمُ
عَلى الصَّحْبِ والإِخْوَانِ وَالوِلْدِ والأَولى ... رَعَاهُمُ بِإحسانٍ فَجَادُوا وأَنْعمُوا
وَسَائرِ مَنْ لِلسُّنَّةِ المَحضةِ اقْتَفَى ... وما زَاغَ عنها فهو حقٌّ مُقوَّمُ
أُولئكَ أَتباعُ النَّبيِّ وحِزْبهِ ... ولولاهُم ما كان في الأرْضِ مُسلِمُ
وَلولاهُم كَادت تَمِيْدُ بأهلِهَا ...(3/124)
ولكنْ رَوَاسيهَا وأَوتَادهَا هُمُ
وَلَولاهُم كانتْ ظَلامًا بأهْلِهَا ... ولكنهم فيها بُدورٌ وأَنجُمُ
أولئكَ أَصحَابِي فَحيَّ هَلاً بِهِ ... وحيَّ هلا بِالطَّيبينَ وأَنعُمُ
لكلِّ امرئٍ منْهُم سَلامٌ يخُصُّهُ ... يُبلِّغُه الأَدْنَى إليهِ ويَنعَمُ
فيا مُحسنًا، بَلِّغْ سَلامِي وقل لَهُم: ... مُحبُّكُم يَدعُو لكُمْ، وَيُسلِّمُ
ويا لائمِي في حُبِّهِم وَوَلائِهِم ... تَأمَّلْ هَدَاكَ الله من هو أَلوَمُ
بأي دَليلٍ أم بأيَّةِ حُجَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُم عارًا عليَّ، وَتَنقِمُ
وَمَا العارُ إلا بُغْضُهُم واجْتِنَابُهُم ... وحبُّ عِدَاهُم ذَاكَ عارٌ ومَأثَمُ
أَمَا والذِي شقَّ القُلوبَ، وأودَعَ ال ... محبَّةَ فِيهَا حَيثُ لا تَتَصَرَّمُ
وَحَمَّلها قَلْبَ المُحِبِّ، وإنَّهُ ... لَيضعُفُ عن حَملِ القَمِيصِ ويَألَمُ
وَذَلَّلهَا حتى اسْتَكَانَتْ لِصَولَةِ الـ ... مَحبِّةِ لاتَلْوِي ولا تَتَلَعْثَمُ
وذَلَّلَ فيهَا أنفسًا دونَ ذُلِّهَا ... حِيَاضُ المَنَايَا فوقَهَا، وهي حُوَّمُ
لأنتمْ عَلَى قُربِ الدِّيارِ وبُعْدِهَا ... أَحبَّتُنَا إنْ غِبْتُمُ أو حَضرتُمُ
سَلُوا نَسَماتِ الرِّيحِ كم قد تَحمَّلَتْ ... محبَّةَ صبِّ شَوقُهُ ليس يَكتَمُ
وَشَاهِدُ هذا أنَّهَا في هَبُوبِهَا ... تكادُ تَبثُّ الوِجدَ لو تَتكلَّمُ
وكنتُ إذا ما اشْتدَ بي الشَّوقُ والجَوَى ... وكادَتْ عَرَى الصَّبرِ الجميلِ تَفصَّمُ
أُعلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُربِهِ ... وَأوهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتوهَّمُ
وَأتبِعُ طَرفِي وِجهَةً أنتم بها ... فلِي بِجِمَاهَا مَربَعٌ وَمُخيَّمُ
وأَذْكُرُ بيْتًا قالهُ بعضُ من خَلا ... وقد ضَلَّ عنهُ صَبرُهُ فهو مُغرَمُ
"أَسَائِلُ عنكُم كلَّ غادٍ ورَائِحٍ ... وَأُومِي إلى أَوطَانِكُم وَأُسَلِّمُ"
وَكَمْ يَصْبِرِ المُشْتَاقُ عَمَّنْ يُحِبُّهُ ...(3/125)
وَفِي قَلْبِهِ نَارُ الأَسَى تَتَضَرَّمُ
أَمَا والذِي حَجَّ المُحِبُّونَ بَيْتَهُ ... وَلَبُّوا لَهُ عندَ المَهَلِّ، وَأَحْرَمُوا
وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعًا ... لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلِمُ
يُهلُّونَ بالبَيْدَاءِ: لَبَّيكَ رَبَّنَا ... لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ
دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً ... فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ
تَراهُم على الإِنْضَاءِ شعثًا رُءوسُهُم ... وغبرًا وهم فيها أَسَرُّ وأَنْعَمُ
وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَةٌ ... ولم يَثْنِهِم لِذَاتُهُم والتَّنعُّمُ
يَسِيرُونَ من أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا ... رِجالاً وَرُكبانًا، ولله أَسْلَمُوا
ولما رَأَتْ أَبصَارُهُم بَيْتَهُ الذِي ... قُلُوبُ الوَرَى شَوقًا إليه تَضَرَّمُ
كأنَّهُم لم يَنْصِبُوا قطُّ قَبْلَهُ ... لأن شَقاهُم قد تَرحَّلَ عنهُمُ
فللهِ كمْ من عِبرةٍ مُهَرَاقَةٍ ... وأخرَى على آثَارِهَا تَتقدَّمُ
وَقَدْ شَرِقَتْ عَينُ المُحِبِّ بِدَمْعِهَا ... فينظرُ من بَيْنِ الدُّمُوعِ، وَيُسْجِمُ
إذا عَايَنَتْهُ العَينُ زَالَ ظَلامُهَا ... وَزَالَ عن القَلبِ الكَئِيْبِ التَّألُمُ
ولا يَعرِفُ الطَّرفُ المُعاينُ حُسنَهُ ... إلى أن يَعُودَ الطَّرفُ والشَّوقُ أعظَمُ
ولا عَجبٌ من ذَا فَحِيْنَ أَضَافَةُ ... إلى نفسهِ الرَّحمنُ، فهو المُعظَّمُ
كَساهُ من الإِجلالِ أعظمَ حُلَّةٍ ... عليها طِرازٌ بالمَلاحَةِ مُعلَمُ
فَمِنْ أَجْلِ ذَا كلُّ القُلُوبِ تُحِبُّهُ ... وَتَخْضَعْ إِجْلالاً له وَتُعَظِّمُ
رَاحُوا إلى التَّعريفِ يَرجُونَ رَحْمَةً ... وَمَغفرةً ممنْ يَجُودُ ويُكْرِمُ
فَللهِ ذاكَ المَوقفُ الأعظمُ الذِي ... كَموقِفِ يومَ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدنُو بِهِ الجَبَّارُ جلَّ جَلالُهُ ... يُباهِي بهم أَمْلاكَهُ فهو أَكْرَمُ
يقولُ: عِبادِي قد أَتَونِي مَحَبَّةً ...(3/126)
وإنِّي بهم بَرٌّ أَجودُ، وَأَرحمُ
فَأُشهِدُكُم أنِّي غَفَرتُ ذُنُوبَهُم ... وَأَعْطَيْتُهُم مَا أَمْلُوهُ وأَنْعَمُ
فَبُشرَاكُم يا أَهلَ ذَا المَوقفِ الذِي ... بهِ يَغفرُ اللهَ الذُّنُوبَ، وَيرحمُ
ومَا رُؤي الشَّيطانُ أغْيَظَ في الوَرَى ... وأحقرَ منهُ عندهَا، وهو الأَمُ
وَذَاكَ لأمْرٍ قد رآهُ فَغَاظَهُ ... فأقبل يَحثُو التُّربَ غَيظًا، وَيلطِمُ
وَمَا عَاينَتْ عَينَاهُ من رَحْمَةٍ أَتَتْ ... وَمغفرةٍ من عند ذِي العَرشِ تُقسَمُ
بَنَى ما بَنَى، حتى إذَا ظَنَّ أنَّهُ ... تَمَكَّنَ مِن بُنْيَانِهِ، فهوَ مُحْكَمُ
أَتَى اللهُ بُنيَانًا له مِنْ أَسَاسِهِ ... فَخَرَّ عَلِيهِ سَاقطًا يَتَهَدَّمُ
وَكَمْ قَدْرَ مَا يَعْلُو البِنَاءُ وَيَنْتَهِي ... إذا كَانَ يَبْنِيْهِ وذُو العَرشِ يَهدِمُ
وَرَاحُوا إلى جَمعٍ فَبَاتُوا بِمَشْعَرِ الـ ... حرامِ وصلُّوا الفجرَ، ثم تَقدَّمُوا
إلى الجَمْرَةِ الكُبرى يُريدُونَ رَميهَا ... لوقتِ صلاةِ العِيدِ، ثم تَيمَّمُوا
منازلهُمْ للنَّحرِ يَبغُونَ فضلَهُ ... وَإحيَاءَ نُسكٍ من أَبِيْهِم يُعَظَّمُ
فلو كان يَرضَي اللهُ نحرُ نُفُوسِهِم ... لَدَانُوا به طَوعًا، وللأمرِ سلَّمُوا
كَمَا بَذَلُوا عِندَ الجِهَادِ نُحُورَهُم ... لأَعدَائِهِ حتى جَرَى مِنْهُمُ الدَّمُ
وَلكنَّهُم دَانُوا بوضعِ رُءوسهِم ... وذلك ذُلٌّ للعبيدِ ومِيْسَمُ
ولَمَّا تقضَّوا ذلكَ التَّفثَ الذي ... عليهم وأَوفُوا نَذْرَهُم ثُمَّ تَمَّمُوا
دَعاهُم إلى البيتِ العتيقِ زيارةً ... فَيَا مَرحبًا بالزَائرينَ وأكرِمُ
فللهِ ما أَبهَى زِيارتَهُم له ... وَقَدْ حُصِّلَت تلك الجَوائزُ تُقسمُ
ولله إفضالٌ هناكَ ونَعمةٌ ... وبِرٌّ وإحسانٌ، وجودٌ ومَرْحَمُ
وعادُوا إلى تلكَ المَنازِلِ من مِنَى ... وَنَالُوا مُناهُم عندها، وتَنعَّمُوا
أقامُوا بها يومًا ويومًا وثالثًا ...(3/127)
وأُذِّنَ فيهم بالرَّحيلِ وأعلِمُوا
ورَاحُوا إلى رَميِّ الجَمارِ عَشِيَّةً ... شِعارُهُم التَّكبيرُ واللهُ معهُمُ
فَلَو أَبْصَرَتْ عيناكَ موقِفَهُم بها ... وقد بَسطُوا تلكَ الأكفَّ لِيُرحَمُوا
يُنَادُونَهُ: يا ربُّ، يا رَبُّ، إِنَّنَا ... عبيدُكَ لا نَدعُو سواكَ وتَعلَمُ
وهَا نحن نرجُو منكَ ما أنت أَهْلُهُ ... فأنتَ الذِي تُعطِي الجَزيلَ وتُنعِمُ
ولما تَقضَّوا من مِنَى كلَّ حاجةٍ ... وَسَالتْ بهم تلكَ البِطاحُ تقدمُوا
إلى الكَعبَةِ البيتَ الحرامِ عَشيَّةً ... وَطافُوا بها سَبعًا، وصلُّوا وسلَّمُوا
ولما دَنَا التَّوديعُ منهم وأيقنُوا ... بأنَّ التَّدانِي حَبلُهُ مُتصرِّمُ
ولم يَبقَ إلاَّ وقْفَةٌ لِمودِّعٍ ... فلله أَجْفَانٌ هناكَ تَسْجُمُ
ولله أكبادٌ هنالك أُوْدِعَ الـ ... غَرامُ بها فالنَّارُ فيها تَضرَّمُ
ولله أنفاسٌ يكادُ بِحرِّهَا ... يَذُوبُ المُحِبُّ المُسْتَهَامُ المُتَيَّمُ
فَلَمْ تَرَ إلاَّ بَاهِتًا مُتحيِّرًا ... وآخرَ يُبدِي شَجوَهُ يَترنَّمُ
رَحلتُ، وأَشْواقِي إليكُم مُقِيمَةٌ ... ونارُ الأَسَى مِنِّي تُشَبُّ وتُضرمُ
أودِّعكُم والشَّوقُ يَثْنِي أَعِنَّتِي ... وَقَلْبِي أَمْسَى في حِمَاكَمْ مُخَيِّمُ
هُنالِكَ لا تَثْرِيْبَ يَومًا علَى امْرئ ... إذا مَا بدَا منه الذي كان يَكْتُمُ
فَيَا سائقينَ العِيسَ، بالله رَبِّكُم ... قِفُوا لي عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ وسَلِّمُوا
قُولُوا مُحِبٌّ قادَهُ الشَّوقُ نحوكُم ... قَضَى نحبهُ فيكم تَعيشُوا وتَسلَمُوا
قَضَى الله رَبُّ العَرشِ فيمَا قَضَى بِه ... بأنَّ الهَوَى يُعمِي القُلوبَ ويُبْكِمُ
وحُبُّكُم أَصلُ الهُدى، ومَدارُهُ ... عليه وفوزٌ للمحبِّ ومَغنَمُ
وَتَفْنَى عِظَامُ الصَّبِّ بَعدَ مَمَاتِهِ ... وَأَشوَاقُهُ وقفٌ عليه مُحرَّمُ
فَيَا أَيُّهَا القَلْبُ الذِي ملكَ الهَوَى ...(3/128)
أَزِمَّتَهُ حتى متى ذَا التَّلوُّمُ
وَحَتَّامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ المَدَى ... وَدُنَّت كُؤوسُ السَّيرِ والنَّاسُ نُوَّمُ
بَلَى سوفَ تَصْحُو حينَ يَنْكَشِفُ الغِطَا ... وَيَبْدُو لكَ الأَمْرُ الذي أَنْتَ تَكْتُمُ
وَيَا مُوقِدًا نارًا لغيركَ ضوؤُهَا ... وَحرُّ لَظَاهَا بَينَ جَنبَيكَ يُضرَمُ
أَهَذَا جَنَى العِلمِ الذي قد رَضِيْتَهُ ... لِنَفْسِكَ في الدَّارِين: جَاهٌ وَدِرْهَمُ
وَهذا هُوَ الرِّبحُ الذي قد كَسبتَهُ ... لَعمرُكَ لا ربحٌ ولا الأصلُ يسلمُ
بَخِلتَ بشيءٍ لا يَضُرُّكَ بِذْلُهِ ... وجُدتَ بشيءٍ مثلهُ لا يُقوَّمُ
بَخِلتَ بذَا الحظِّ الخَسيسِ دناءةً ... وجُدْتَ بدارِ الخلدِ لو كنت تَفهمُ
وَبِعتَ نعيمًا لا انْقضاءَ لهُ وَلا ... نَظيرَ بِبخسٍ عن قليلٍ سَيُعدمُ
فَهلاَّ عكستَ الأمرَ إن كنت حازمًا ... ولكن أَضعتَ الحزمَ لو كنت تَعلمُ
وَتهدِمُ ما تبْنِي بكفكَ جاهدًا ... فأنت مَدَى الأيامِ تبنِي وَتهدِمُ
وعند مُرادِ الله تَفنَى كميتٍ ... وعند مُرادِ النَّفس تُسدِي وتُلحِمُ
وعندَ خلافِ الأمرِ تحتجُّ بالقَضَا ... ظَهيرًا على الرَّحمنِ للجَبْرِ تَزْعُمُ
تنزَّهُ منكَ النَّفسُ عن سوءِ فِعْلِها ... وَتَعتِبُ أقدارَ الإلهِ وتظلمُ
تحلُّ أُمورًا أحكم الشَّرعُ عَقدَهَا ... وَتقصُدُ ما قَد حَلَّهُ الشَّرعُ تُبرِمُ
وَتفهمُ من قَولِ الرَّسُولِ خِلافَ مَا ... أرادَ لأنَّ القَلْبَ منكَ مُعَجَّمُ
مُطيعٌ لداعِي الغيِّ عاصٍ لرُشدِه ... إلى ربِّه يومًا يردُّ ويعلَمُ
مُضيعٌ لأمرِ الله قد غَشَّ نفسهُ ... مُهينٌ لها أنَّى يحبُّ ويُكرمُ
بَطيءٌ عن الطَّاعاتِ أسرعُ للخَنَا ... من السَّيلِ في مَجراهُ لا يَتقسَّمُ
وتَزعمُ مع هذا بأنَّك عارفٌ ... كذبتَ يقينًا بالذي أنت تَزعمُ
وما أنت إلا جاهلٌ ثُمَّ ظَالمٌ ...(3/129)
وأنك بين الجَاهلينَ مُقدَّمُ
إذَا كانَ هذا نُصحُ عَبدٍ لِنفسِهِ ... فَمن ذَا الذِي منهُ الهُدَى يُتعلَّمُ
وفي مثل هذا الحَالِ قد قالَ من مضَى ... وأحسنَ فيمَا قالهُ المتكلِّمُ
فإنْ كنتَ لا تدرِي فتلك مُصيبةٌ ... وإنْ كنت تدرِي فالمُصيبةُ أعظمُ
ولو تُبصرُ الدُّنيا وراءَ سُتورها ... رأيتَ خيالاً في منامٍ سيُصرمُ
كحلمٍ بطيفٍ زارَ في النَّومِ وانقضَى ... المنامُ وراحَ الطيفُ، والصَّبُّ مغرمُ
وظلٍّ أرتهُ الشَّمسُ عند طُلوعِهَا ... سَيقلُصُ في وقتِ الزوالِ، ويفصمُ
وَمُزنةِ صيفٍ طابَ منها مَقيلُهَا ... فَولتْ سريعًا، والحرورُ تَضرَّمُ
ومَطعمِ ضيفٍ لذَّ منهُ مَساغهُ ... وَبَعدَ قليلٍ حَالُهُ تِلكَ تُعْلَمُ
كَذَا هَذِهِ الدُّنيا كأَحلامِ نائمٍ ... وَمِنْ بعدها دارُ البَقاءِ ستقدمُ
فَجُزها مَمَرًا لا مَقَرًا وكنْ بها ... غريبًا تَعِش فيها حميدًا، وتسلمُ
أو ابن سبيلٍ قالَ في ظِلِّ دَوحةٍ ... وراحَ وخَلَّى ظِلَّهَا يَتقسَّمُ
أخَا سفرٍ لا يستقرُّ قَرارُهُ ... إلى أن يَرَى أوطانهُ ويسلِّمُ
فيا عجبًا كمْ مصرعٌ وعَظَتْ به ... بَنِيْهَا ولكن عن مَصارِعِهَا عَمُوا
سقتهُم كُؤوسَ الحبِّ حتى إذا نَشَوا ... سَقتهُم كُؤوسَ السُّمِّ والقَومُ نُوَّمُ
وأعجبُ ما في العَبدِ رُؤيةُ هذه الـ ... عَظائمِ والمَغرورُ فيها مُتيَّمُ
وما ذاكَ إلا أن خَمرةَ حُبَّهَا ... لَتَسلبُ عقلَ المرءِ منه وتصلِمُ
وأعجبُ من ذَا أنَّ أحبَابَهَا الأُلي ... تُهينُ وللأعدَا تُرَاعِي وتُكرمُ
وَذلكَ بُرهانٌ على أنَّ قَدرهَا ... جَناحُ بَعوضٍ أو أَدقُّ وألامُ
وحسبكَ ما قَالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلاً ... لَهَا وَلِدَارِ الخُلدِ والحَقُّ يُفهَمُ
كَمَا يُدْلِي الإِنْسَانُ في اليَمِّ أَصْبُعًا ...(3/130)
وينزعُهَا منه فما ذاك يَغنَمُ
ألا ليتَ شعرِي هل أَبِيْتَنَّ ليلةً ... على حذرٍ منها، وأَمرِي مُبرَمُ
وهل أردنَّ مَاءَ الحياةِ وأرتَوِي ... على ظمأٍ من حوضهِ، وهو مُفعَمُ
وهل تَبدُوَنْ أعلامُهَا بعد ما سَفَتْ ... على رَبْعِهَا تلكَ السَّوافِي فَتُعلَمُ
وهل أَفْرِشَنْ خَدِّي ثَرَى عَتَبَاتِهِم ... خُضُوعًا لهُم كيمَا يَرقُّوا ويَرحَمُوا
وهل أَرْمِيَنْ نفسِي طريحًا ببابِهِم ... وطيرُ مَنَايَا الحبِّ فوقِي تُحوِّمُ
فيا أسفِي، تفنَى الحياةُ وتنقضِي ... وذَا العُتبُ باقٍ ما بَقيتُم وعِشتُمُ
فما منكم بدٌّ ولا عنكم غِنَى ... وما لي من صَبرٍ فأسْلُوا عَنكُمُ
ومن شاءَ فليغضب سِواكُم فلا إذا ... إذا كنتم عن عَبْدِكُم قد رَضيتُمُ
وَعُقْبَى اصْطِبَارِي في هَواكُم حَمِيْدَةً ... وَلكنَّهَا عنكُم عِقابٌ ومَأثَمُ
وما أنا بالشَّاكِي لما تَرتضونَهُ ... ولكنَّني أرضَى به وأُسلِّمُ
وحسبي انْتسابِي من بَعيدٍ إليكم ... ألا إنه حظٌّ عَظيمٌ مَفخمُ
إذا قِيل: هَذَا عَبْدُهُم وَمُحبُّهُم ... تهلَّلَ بشرًا وجهُهُ يَتَبَسَّمُ
وها هو قد أَبْدَى الضَّراعةَ سائلاً ... لكم بلسانِ الحالِ، والقَالِ مُعْلِمُ
أحبَّتهُ عَطْفًا عليه فإنَّهُ ... لِمُظمى وإنَّ الموردَ العذبَ أنتمُ
فيا سَاهيًا في غَمْرَةِ الجهلِ والهَوَى ... صريعُ الأماني عن قريبٍ سَتندمُ
أفِقْ قد دَنَا الوقتُ الذي ليس بعدَهُ ... سِوَى جنَّةٍ، أو حَرِّ نَارٍ تَضرَّمُ
وبالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُن متَمَسِّكًا ... هي العُروةُ الوُثْقَى التي ليس تُفصَمُ
تَمسَّكْ بها مَسكَ البخِيلِ بِمَالِ ... وعضَّ عليها بالنَّواجذِ تَسلَمُ
ودعْ عنك ما قد أَحدثَ النَّاسُ بعدها ... فَمَرْتَعُ هاتيكَ الحوادثِ أَوخمُ
وهيئ جَوَابًا عندمَا تَسْمَعُ النَّدا ...(3/131)
من الله يومَ العَرضِ ماذَا أَجَبْتُمُ
به رُسُلِي لما أَتَوكُم فمنْ يَكُنْ ... أَجابَ سِوَاهُم سوفَ يُخْزَى ويَنْدمُ
وخُذْ من تُقَى الرَّحمنِ أعظَمَ جُنَّةٍ ... ليومٍ به تبدُو عيانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجِسرُ من فَوقِ مَتْنِهَا ... فهاوٍ، ومخدوشٍ، وناجٍ مُسلَّمُ
وَيأتِي إلهُ العَالمينَ لِوعدِه ... فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبَادِ ويَحْكُمُ
وَيَأخُذُ لِلمَظْلُومِ ربُّكَ حَقَّهُ ... فَيا بُؤْسَ عبدٍ للخلائقِ يَظْلِمُ
وَيُنشرُ دِيوانُ الحِسابِ وتوضعُ الـ ... موازينَ بالقسطِ الذي ليس يَظلمُ
فلا مُجرمٌ يَخشَى ظَلامَةَ ذَرةٍ ... ولا مُحسنٌ من أجرهِ ذاكَ يَهضمُ
وتشهدُ أعضاءَ المسيءِ بما جَنَى ... كذاكَ على فيهِ المُهيمنُ يَختمُ
فيا ليتَ شِعرِي كيفَ حالُكَ عندما ... تَطَايَرُ كُتبَ العَالمينَ وَتُقْسَمُ
أَتَأخذُ بِاليُمنَى كِتابكَ أم تَكُن ... بالأخرى وَراءَ الظَّهرِ منكَ تَسلَّمُ
وَتَقْرَأ فِيْهَا كُلُّ شيءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشرقُ منكَ الوَجْهُ أو هو يُظلِمُ
تقُولُ كِتابِي فاقرؤهُ فإنَّهُ ... يُبشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعلِمُ
وإنْ تَكُن الأخرَى فإنَّكَ قَائِلٌ ... ألا لَيْتَنِي لم أُوتَهُ فهُو مَغرَمُ
فَبادِرْ إِذَا ما دَامَ في العُمرِ فُسْحَةٌ ... وَعَدْلُكَ مقبُولٌ وصَرفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ واغْتَنِم زَمنَ الصِّبَا ... ففي زَمْنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمُ
فَهُنَّ المنايَا أيَّ وادٍ نَزلتهُ ... عَليهَا القُدومُ أو عَليكَ سَتقدَمُ
وَمَا ذَاكَ إلا غَيرةٌ أن يَنالَهَا ... سِوَى كُفؤهَا والربُّ بالخلقِ أعلمُ
وإنْ حجبتَ عنَّا بكلِّ كريهةٍ ... وَحُفَّت بِمَا يُؤذِي النُّفُوسَ ويؤلمُ
فلله ما في حَشوِهَا من مسرةٍ ...(3/132)
وأصنافِ لذَّاتِ بها يَتنعَّمُ
ولله بَردُ العيشِ بين خِيامِهَا ... وروضَاتِهَا والثَّغرُ في الرَّوضِ يبسمُ
فلله وادِيهَا الذي هو مَوعدُ الـ ... مزيدِ لوفدِ الحبِّ لو كُنتَ منهمُ
بِذَيَّالِكَ الوادي يَهيمُ صَبابةً ... محبٌّ يَرى أن الصَّبابةَ مغنمُ
ولله أفراحُ المحبينَ عندما ... يُخاطبُهُم من فوقهم ويُسلِّمُ
ولله أَبصارٌ تَرَى الله جَهرةً ... فلا الضَّيمُ يغشاهَا ولا هي تَسأمُ
فيا نَظرةً أهدَتْ إلى الوجهِ نضرةً ... أَمِنْ بعدها يَسلُو المحبُّ المتيمُ
ولله كم من خيرةٍ لو تبسَّمتْ ... أضاءَ لها نُورٌ من الفجرِ أعظمُ
فيا لذَّةَ الأبصارِ إن هي أَقبلَتْ ... ويا لذَّةَ الأسماعِ حينَ تكلمُ
ويا خَجلةَ الغُصنِ الرَّطيبِ إذا انثَنَـ ... ت ويا خَجْلَةَ البَحرَينِ حينَ تَبسَّمُ
فإن كنت ذا قلبٍ عليلٍ بحُبِّها ... فلم يبقَ إلا وصلُهَا لك مَرهَمُ
ولا سيما في لَثْمِهَا عند ضَمِّهَا ... وقد صَارَ منها تحتَ جِيدِكَ مِعصَمُ
يراها إذا أَبدتَ له حُسنَ وجهِهَا ... يَلذُّ بها قَبلَ الوصَالِ ويَنْعَمُ
تَفَكَّهُ منها العينُ عند اجتلائِهَا ... فَواكِهَ شتَّى طَلعُهَا ليسَ يُعْدِمُ
عَناقِدُ من كرمٍ وتفَّاحُ جَنَّةٍ ... وَرُمَانُ أغصانٍ بها القَلبُ مُغرَمُ
وللوردِ ما قد ألبسَتْهُ خُدودُهَا ... وللخَمرِ ما قد ضَمَّهُ الرِّيقُ والفمُ
تقسَّمَ منها الحُسنُ في جَمعِ واحدٍ ... فيا عَجبًا من واحدٍ يتقسَّمُ
تُذَكُِّر بالرَّحمنِ من هو ناظرٌ ... فينطقُ بالتَّسبيحِ لا يَتلعثمُ
لها فِرَقٌ شَتَّى من الحُسنِ أجمَعَتْ ... بجُملتِهَا إن السُلُوَّ محرَّمُ
إذا قَابَلَتْ جَيشَ الهُمومِ بوجهِهَا ... تَولَّى على أعقابهِ الجيشُ يهزمُ
فيا خاطبَ الحَسناءِ إن كنتَ راغبًا ...(3/133)
فهذا زَمانُ المَهرِ فهو المَقَدَّمُ
ولما جَرَى ماءُ الشَّبابِ بغُصنِهَا ... تيقَّنَ حقًّا أنَّهُ ليس يَهرَمُ
وكُنْ مُبغضًا للخَائناتِ لحبِّهَا ... لتُحظَى بها من دُونهنَّ وتنعمُ
وكُنْ أيَّمَا مما سِواهَا فإنَّهَا ... لمثلكَ في جنَّاتِ عدنٍ تأيمُ
وصُمْ يومكَ الأدنَى لعلكَ في غدٍ ... تَفُوزُ بِعيدِ الفِطرِ والنَّاسُ صوَّمُ
وأَقْدَم ولا تقْنَعْ بعيشٍ مُنَغَّصٍ ... فما فازَ بِاللَّذاتِ من ليس يُقْدِمُ
وإن ضَاقتْ الدُّنيا عليكَ بأسرِهَا ... ولم يَكُ فيها مَنزلٌ لك يُعلمُ
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فإنَّهَا ... مَنازلُكَ الأولى، وفيها المُخيَّمُ
ولكنَّنَا سَبْيُّ العَدُو فهل تَرَى ... نُردُّ إلى أَوطَانِنَا ونُسلِّمُ
وقدْ زَعمُوا أنَّ الغَريبَ إذا نَأَى ... وَشَطَّتْ به أَوطانُهُ فهو مُغرمُ
وأي اغْترابٍ فوقَ غُربتنَا التِي ... لها أَضحَتْ الأَعداءُ فينَا تَحكَّمُ
وحيِّ عَلَى رَوضاتِهَا وخِيَامِهَا ... وحيِّ على عَيشٍ بها ليس يُسأَمُ
وحيِّ على السُّوقِ الذِي يَلتَقي بهِ الـ ... مُحبُّونَ ذَاكَ السُّوقُ للقَومِ يُعلَمُ
فَمَا شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمنٍ لهُ ... فقد أَسْلَفَ الُّتجارُ فيه وأَسْلَمُوا
وحيِّ على يَومِ المزيدِ فإنَّهُ ... لِمَوعِدُ أهلِ الحبِّ حينَ يُكَرَّمُوا
وحيِّ على وادٍ هنالكَ أَفْيَحٍ ... وَتُرْبَتُهُ من أَذْفَرِ المِسكِ أَعظمُ
مَنابرُ من نورٍ هناكَ وفِضَّةٍ ... ومن خالصِ العقيانِ لا تَتفصمُ
وَمِنْ حولِهَا كُثبانُ مِسكٍ مَقَاعِدُ ... لمن دُونَهُم هذا العَطَاءُ المُفخمُ
يَرُونَ بهِ الرَّحمنَ جلَّ جلالُهُ ... كَرؤيةَ بَدر التِّم لا يُتَوَهَّمُ
كَذَا الشَّمسُ صَحْوًا ليس من دون ... أُفْقِهَا سِحابٌ ولا غيمٌ هناك يُغيِّمُ
فَبَيْنَا هُمُ في عَيشهِمْ وسُرُورِهِم ...(3/134)
وَأَرْزَاقِهِمْ تَجْرِي عليهم وَتُقْسَمُ
إِذَا هُمْ بِنُوْرٍ سَاطِعٍ قَدْ بَدَا لَهُم ... وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُم فإذَا هُمُ
بِرَبِّهِم مِنْ فَوْقِهِمْ قَائِلٌ لَهُم: ... سلامٌ عليكم طِبْتُمُ ونَعِمْتُمُ
سَلامٌ عليكمْ يَسْمَعُونَ جَمِيْعُهُمْ ... بِآذَانِهِم تَسْلِيْمَهُ إِذْ يُسَلِّمُ
يَقُولُ: سَلُوْنِي مَا اشْتَهَيْتُمْ فَكُلُّ ما ... تُرِيْدُوْنَ عِنْدِي، إِنِّنِي أَنَا أَرْحَمُ
فَقَالُوا جَمِيْعًا: نَحْنُ نَسْأَلُكَ الرِّضَى ... فَأَنْتَ الذِي تُوْلِي الجَمِيْلَ وَتَرْحَمُ
فَيُعطيهمُ هذَا، وَيُشْهِدُ جَمعَهُم ... عَلَيْهِ تَعَالَى الله فَاللهُ أَكرَمُ
فَبِالهِ مَا عُذْرُ امْرئٍ هو مُؤمنٌ ... بِهَذَا وَلا يَسعَى لهُ وَيُقَدِّمُ
وَلكنَّما التَّوفيقُ بالله إنَّهُ ... يخصُّ به مَن شَاءَ فَضْلاً وَيُنْعِمُ
فَيا بَائِعًا غالٍ ببخسٍ مُعجَّلٍ ... كَأنَّكَ لا تَدرِي، بَلَى سوفَ تَعلمُ
فَقَدِّم فَدَتْكَ النَّفسُ نَفسكَ إنَّها ... هي الثَّمنُ المَبذُولُ حين تُسلمُ
وَخُضْ غَمَراتِ الموتِ وارقَ مَعارجَ الـ ... مَحبَّةٍ في مَرضاتِهم تَتسنَّمُ
وَسَلِّمْ لهم ما عَاقدوكَ عليهِِ إِنْ ... تُرِدْ مِنْهُمُ أَنْ يَبْذِلُوا وَيُسَلِّمُوا
فَمَا ظَفِرَتْ بالوَصْلِ نَفْسٌ مَهِيْنَةٌ ... وَلا فَازَ عبدٌ بِالبطالةِ يَنعمُ
وَإِنْ تَكُ قد عَاقَتْكَ سُعْدَى فَقَلبُكَ ال ... مُعَنى رَهِيْنٌ في يَدَيْهَا مُسَلَّمُ
وَقد سَاعَدَتْ بالوَصلِ غَيركَ فالهَوى ... لَهَا مِنْكَ، والواشِي بِهَا يَتَنَعَّمُ
فَدَعْهَا، وَسَلِّ النَّفسَ عنها بجنَّةٍ ... من العِلمِ في رَوضاتِهَا الحقُّ يَبسمُ
وَقَدْ ذُلِّلَت منهَا القُطُوفُ فمن يُردْ ... جَنَاهَا ينلهُ كيف شاءَ ويَطعَمُ
وَقَدْ فُتحَتْ أبوابُهَا وَتزينَتْ ... لِخُطَّابِهَا فالحُسنُ فيها مُقسَّمُ
وَقَدْ طَابَ مِنْهَا نَزْلُهَا وَنَزِيْلُهَا ... فَطُوبِى لِمَن حلُّوْا بها وَتَنعَّمُوا
أَقَامَ عَلَى أَبوابِهَا دَاعِي الهُدى ...(3/135)
هَلمُّوا إلى دَارِ السَّعادةِ تَغنمُوا
وَقَدْ غَرَسَ الرَّحمنُ فيها غَرَاسَةً ... من النَّاسِ والرَّحمنُ بالخلقِ أَعلمُ
وَمَنْ يَغْرِسِ الرَّحمنُ فيها فِإِنَّهُ ... سَعِيْدٌ وَإلاَّ فالشَّقاءُ مُحَتَّمُ
انتهى.
آخر:
نَمضِي على سُبلٍ كانُوا لها سَلكُوا ... أَسلافُنا وهم للدِّينِ قد شَادُوا
لنَا بهم أُسوةٌ إذ هُم أئمتُنا ... ونحن بِالقومِ أبناءٌ وأحفادُ
والصَّبرُ يا نفسُ خيرٌ كلُّهُ ولهُ ... عَواقِبٌ كلها نُجْحٌ وإِمدادُ
فاصبرْ هديتَ فإنَّ الموتَ مُشتركٌ ... بين الأنامِ وإنْ طَاولنَ آمادُ
والنَّاسُ في غفلاتٍ عن مَصارعهِم ... كأنَّهُم وهموا الأيقاظُ رُقَّادُ
دُنيًا تغرُّ وعيشٌ كلُّهُ كدرٌ ... لولا النُّفُوسُ التِي للوَهمِ تَنقادُ
كُنَّا عَددنَا لهذا المَوتِ عُدَّتهُ ... قبلَ الوفاةِ وأنْ تُحفرنَ أَلْحَادُ
فَالدَّارُ من بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخرةٌ ... تَبْقَى دَوامًا بها حَشْرٌ ومِيعادُ
وَجنَّةٌ أُزلفتْ للمتَّقينَ وأَهـ ... لُ الحقِّ والصِّبرِ أبدالٌ وَأوتادُ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ من قبل المَمَاتِ ولا ... تَعْجَلْ وَتَكسلْ فإنَّ المرءَ جَهَّادُ
لا يَنفعُ العَبْدَ إلا مَا يُقَدِّمُهُ ... فَبَادِرِ الفَوتَ واصْطدْ قبلَ تَصطادُ
والموتُ للمُؤمِنِ الأَوْابِ تُحفتُهُ ... وَفيهِ كلُّ الذِي يَبْغِي وَيَرتَادُ
لِقَا الكَرِيمِ تَعالَى مَجْدُهُ وَسَمَا ... مَعَ النَّعِيمِ الذي مَا فيهِ أَنكادُ
فَضلٌ من اللهِ إِحسانٌ وَمَرْحَمَةٌ ... فَالفَضْلُ لله كَالآزالِ آبَادُ
فالظَّنُ بالله مَولانَا وَسيِّدنَا ...(3/136)
ظنٌ جميلٌ مَع الأَنفَاسِ يَزدادُ
نَرْجُوهُ يَرحمُنَا نَرجُوهُ يَسترُنَا ... فمنه للكلِّ إمدادٌ وإيجادُ
نَدعُوهُ نَسألُهُ عفوًا وَمغفرةً ... مع حُسنِ خَاتمةٍ فالعُمرُ نَفَّادُ
وقد رَضينَا قَضاءَ الله كَيْفَ قَضَا ... والطف نَرجُو وحُسنُ الصَّبرِ إِرشادُ
انتهى.
قصيدة فيها تضرع إلى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة:
يا ذَا الجَلالِ وَيَا ذَا الجُوَدِ وَالكَرمِ ... قَدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِن زَلَّةِ القَدَمِ
ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأَرْجُوْ مِنْكَ مَغْفِرةً ... يَا وَاسِعَ العَفْوِ والغُفْرانِ وَالكَرَمِ
دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى الخَيْرَاتِ فَامْتَنَعَتْ ... وَأَعْرَضَتْ عَن طَرِيْقِ الخَيْر والنِّعَمِ
خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ فِي زَمَنِي ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلاَيَ فَيَا نَدَمِي
حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنَ الأَوْزَارِ فِي صِغَريْ ... يَا خَجْلَي فِي غَدٍ مِن زَلَّةِ القَدَمِ
رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى العُمْرِ فِي لَعِبٍ ... وَمَا تَحَصَّلْتُ مِن خَيْرِ وَلَمْ أَقُمِ
زَمَانَ عَزْمي قَدْء ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً ... وَالعُمْرُ مِنِّيْ انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الحُلُمِ
قَدْ انْقَضَتْ عِيْشَتِي بِالذُّلِ وَاأسَفِي ... إِنْ لَمْ تَجدْ خَالِقي بِالعَفْوِ وَالكَرَمِ
ذِي حَالَتي وَانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي ... إِذَا وَقَعْتُ ذَلِيْلاً حَافِي القَدَمِ
أَتَيْتُ بِالذُّلِ والتَّقْصِيْر وَالنَّدمِ ... أَرْجُو الرَّضَا مِنْكَ بِالغُفْرانِ وَالكَرَمِ
سَارَ المجدُّونَ فِي الخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا ... يَا فَوْزَهُم غَنِمُوْا الجَنَاتِ وَالنِّعَمِ
شِفَاءُ قَلْبِي ذِكْرُ الله خَالِقِنَا ... يَا فَوْزَ عَبْدٍ إِلى الخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ
صَفَتْ لأهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوْا ... نَالُوا الهَنَا وَالمُنَى بالخَيْرِ والكَرَمِ
ضَيَّعْتُ عُمْرِي وَلا قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً ...(3/137)
أَنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الخَوْفِ والزَّحَم
طُوْبَى لِعَبْدٍ أَطَاعَ الله خَالِقَهُ ... وَقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ
ظَهْرِيْ ثَقِيْلٌ بِذَنبي آهِ واأسَفِي ... يَومَ اللقَا إِذْ الأَقْدَامُ في زِحَمِ
أَرْجُوكَ يَا ذَا العُلا كَرْبي تُفْرِّجُهُ ... وَاشْفِ بِفَضْلِكَ لِي بَلْوَايَ مَعْ سَقَمِ
غَفَلْتُ عَنْ ذِكْرِ مَعْبُوْدِي وَطَاعَتِهِ ... وَقَدْ مَشَيْت إِلى العِصْيَانِ في هَمِمِ
فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا ... مِن الشَّدَائِد وَالأَهْوَالِ وَالتُّهَمِ
قَدْ أَثْقَلَتْنِي ذُنُوبٌ مَا لهَا أَحَدٌ ... سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ واللِّمَمِ
كُنْ مُنْجِدِيْ يَا إِلهي واعْفُ عَنْ ذَلَل ... وَتُبْ عَليَّ مِن الآثَامِ وَاللِّمَمِ
لاحَ المَشِيْبُ وَوَلىَّ العُمْرُ فِي لَعِبٍ ... وَصِرْتُ مِن كَثْرةِ الأَوْزَارِ في نَدَمِ
مَضَى زَمَانِي وَمَا قَدَّمْتُ مِن عَمَلٍ ... يَا خَجْلَتِي مِن إِلهي بارِي النَّسَمِ
نَامَتْ عُيُوني وأهْلُ الخَيرِ قَدْْ سَهِرُوْا ... أَجْْفَانُهُمْ فِي ظَلامِ اللَّيلِ لَم تَنَمِ
قَامُوا إِلى ذِكْرِ مَوْلاهُم فَقَرِّبَهُمْ ... وَخَصَّهُم بالرِّضَا وَالفَضْلِ وَالكَرَمِ
وَلَيْسَ لِي غَيْرَ رَبِّ الخَلْقِ مِنْ سَنَدٍ ... أرْجُوْهُ يُوْلِيْني بالغُفْرانَ وَالكَرَمِ
لا أَرْتَجي أَحَد يَوْمَ الزِحَامِ سِوى ... رَبِّ البَرَّيةِ مَوْلى الفَضْلِ والكَرِمِ
ثُمَّ الصلاةُ عَلَى المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدٍ المُصْطَفى المَخْصُوص بِالكَرَمِ
آخر:
أُوْصِيْكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ ... عَلَيْكُمُ بِطَاعَةِ الدَّيَانِ
إِيَّاكُمُ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُم ... فَتَنْدَمُوا يَومًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَإِنَّمَا غَنِيْمَةُ الإِنْسَانِ ... شَبَابُهُ وَالخُسْرُ فِي التَّوَانِي
وَمَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ ... فَاسْعَوا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوانِي
وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بالطَّاعَةَ ...(3/138)
وَالذِّكْرِ كُلَّ لَحظَةٍ وسَاعَةْ
وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَة في عُمْرِهِ ... تَكُنْ عَلَيهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ
وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ ... حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِن تَبَابهِ
وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قََضاهُ ... فِي عَمَلٍ يَرضَى بِه مَوْلاهُ
أَحَبَّ رَبِي طَاعَةِ الشَّبَابِ ... يَا فَوزَهُمْ بجَنَّةِ الرِّضْوانِ
فَتُبْ إلى مَولاكَ يَا إِنْسَانُ ... مِن قَبْلِ أَنْ يَفُوتكَ الأَوَانُ
وَمَن يَقُلْ إِنِّي صَغِيْرٌ أَصْبِرُ ... ثُمَّ أُطِيْعُ الله حِيْنَ أَكْبُرَ
فِإِنَّ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيْسُ ... وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوْسُ
لا خَيْرَ فِيْمَنْ لَم يَتُبْ صَغِيْرَا ... وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيْرَا
مُجانِبًا لِلإثْمِ والعِصْيَانِ ... مُخَالفًا لِلنَّفْسِ والشَّيْطَانِ
مُلازِمَا تِلاوَةَ القُرْآنِ ... مُسْتَعْصِمًا بِالذِكْرِ مِن نِسْيَانِ
مُرَاقِبًا لله فِي الشُّئُونِ ... مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الفُتُونِ
مُجَانبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ ... مُجَافِيًا كُلاًّ عَدَا الخَلاقِ
مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ ... وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسوْءِ الحَالِ
فَإِنْ أَرَدْتَ الفَوزَ بِالنَّجَاةِ ... فَاسْلُكْ سَبيْلَ الحَقِ والهُدَاة
يَا مَنْ يَرُوْمُ الفَوزَ في الجَنْاتِ ... بِالمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَاتِ
انْهَضْ إِلى السَّجْدَاتِ فِي الأَسْحَارِ ... وَاحْرَصْ على الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ
وَاحْذَرْ رِياءَ النَّاسِ فِي الطَّاعاتِ ... فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ
وَاخْتَرْ مِن الأَصْحَابِ كلَّ مُرْشِدِ ... إِنَّ القَرِيْنَ بِالقَرِيْنَ يَقْتَدِي
وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى ... تَزِيْدُ في القَلْبِ السَّقِيْمَ السَّقَمَا
فَإِن تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي ...(3/139)
فَاحْذَرْ قَرِيْنَ السُوءِ الدَّنِي
وَاخْتَرْ مِن الزَّوْجَاتِ ذَاتَ الدِّيْنِ ... وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى العَرِيْنِ
وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بالآدابِ ... تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ
وَهَذِّبِ النُفُوسَ بالقُرْآنِ ... وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ
وَاحْرِصْ عَلَى مَا سَنَّه الرَّسُولُ ... فَهَو الهُدَى وَالحَقُّ إِذْ يَقُولُ
دَعْ عَنْكَ ما يَقُولُه الضَّلاَّلُ ... فَفِيْهِ كُلُّ الخُسْرِ وَالوَبَالُ
وَأَصْدَقُ الحَدِيْثِ قَولُ رَبِّنَا ... وَخَيْرُ هَدْي اللهِ عَن نَبِيِّنَا
يَا أَيُّهَا الغَفْلانُ عَن مَوْلاهُ ... انْظُرْ بِأَي سَيء تَلْقَاهُ
أَمَا عَلِمْتَ المَوتَ يَأْتِي مُسْرِعًا ... وَلَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى
وَلَيْسَ لِلإنْسَانِ مِن بَعْدِ الأَجَلْ ... إِلا الذِي قَدَّمَهُ مِن العَمَلْ
فَبَادِرِ التَّوبةَ فِي إِمْكَانِهَا ... مِن قَبْلِ أَنْ تُصَدَّ عن إِتْيَانِهَا
يَا أَيُّها المَغْرُورُ مَا هَذَا العَمَلْ ... إِلى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالكَسَلْ
لَوْ يَعْلمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ ... مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ
مَالِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ العِبَرْ ... وَيْحَكَ هذا القَلْبُ أَقْسَى مِن حَجَرْ
وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيْلُ الأمَلِ ... مُضَيِّعُ العُمْرِ كَثِيْرُ الخَطَلِ
نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي البَطَالَةْ ... وَلَيْلَهُ في النَّومِ بِئْسَ الحَالَةْ
ادْعُ لَنَا يَا سَامِعا وَصيِّتِي ... بَالعَفْوِ والصَّفْحِ مَعَ العَطِيَّةِ
وَالسِتْرِ فَضْلاً مِنْهُ لِلْعُيُوبِ ... وَالمَحْوِ في الكِتَابِ لِلْذُنُوبِ
يَا رَبَّ جُدْ بِالفَضْلِ والإِحْسَانِ ... وَالرّوْحِ والريْحَانِ والجِنانِ
وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلى النِّسيَانِ ... وَلا عَلَى الإِخْطَاءِ وَلا العِصْيَانِ
يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِن الفَتَّانِ ...(3/140)
وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيْرَانِ
يَا رَبّ وانْصُرنَا عَلَى الأَعْدَاءِ ... وَاحْمِ الحِمَى مِن هِيْشَةِ الغَوْغَائِي
وَدِيْنَكَ احْفَظْهُ مَع الأَمَانِ ... لِلأَهْلَ في الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ
وَالحَمْد لله على الخِتَامِ ... وَالشكرِ لله عَلَى الإِنْعَامِ
مَا أَعْظَم الإنعامَ مِن مَولانا ... وَأجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا
لِنِعْمَةِ الإِيْمَانِ وَالإِسْلامِ ... وَالاقتِدَاءِ بِسَيْدِ الأَنَامِ
ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ ... مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ والحَمَامِ
عَلى النبِي المُصطفى البشير ... الهَاشِمِي المجتبَي النَذِيرِ
وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ ... وَصَحْبَةِ ما هَبَّتِ الرَّيَاحُ
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
شعرا:
وَلكِنَّنَا وَالحمدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى قَولِ أَصْحَابِ الرَّسولِ نُعَوَّلُ
نُقرُّ بِأَنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ
وَكُلُّ مَكَانٍ فَهْوَ فِيْهِ بِعِلْمِهِ ... شَهِيْدٌ عَلَى كُلَّ الوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ
وَمَا أَثبتَ البَارِئ تَعَالى لِنَفْسِهِ ... مِنْ الوَصْفِ أَوْ أَبْدَاهُ مَن هَوَ مُرْسَلُ
فَنُثْبِتُهُ للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... كَمَا جَاءَ لا نَنْفِيْ وَلا نَتَأَوَّلُ
هُوَ الوَاحِدُ الحيُّ القَدِيْر لَه البقَا ... مَلِيْكٌ يُوَلي مَنْ يَشَاءُ وَيَعْزِلُ
سَمِيْعٌ بَصِيْرٌ قَادِرٌ مُتَكَلمٌ ...(3/141)
عَلِيْمٌ مُرَيْدٌ آخِرٌ هُوَ أَوْلُ
تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ ... وَصَاحِبَةٍ فاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ
وَلَيْسَ كَمِثْل اللهِ شَيءٌ وَمَا لَهُ ... شَبِيْهٌ وَلا نِدٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ مِنْ كَلِمَاتِهِ ... وَمِن وَصْفِهِ الأَعْلى حَكِيْمٌ مُنَزَّلُ
هُوَ الذِكْرُ مَتْلوٌ بِأَلْسِنَةِ الوَرَى ... وَفِي الصَّدْرِ مَحْفُوْظٌ وفي الصُّحِف مُسْجَلُ
فَأَلفَاظُهُ لَيْسَتْ بِمَخْلوقَةٍ وَلا ... مَعَانِيْهِ فَاتْرَكْ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُبْطِلُ
وَقَدْ أَسْمَعَ الرحمنُ مُوسَى كَلامَهُ ... عَلَى طُوْرِ سِيْنَا والإِلَهُ يُفَضِّلُ
وَلِلْطُور مَوْلانَا تَجَلَّي بِنُورِهِ ... فَصَارَ لِخَوْفِ اللهِ دَكًّا يُزَلْزَلُ
وَإِنَّ عَلَيْنَا حَافِظِيْنَ مَلائِكًا ... كِرَامًا بِسُكَّانِ البَسِيْطةِ وُكَّلُوا
فَيُحْصُونَ أَقْوالَ ابْنِ آدَمَ كُلَّهَا ... وَأَفْعَالَهُ طُرا فَلا شَيءَ يُهْمَلُ
وَلا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وَكُلُّ مَنْ ... سِوَاهُ لَهُ حَوضُ المَنيَّةِ مَنْهَلُ
وَإِنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بِقَبْضِهَا ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ العَظِيْمِ مُوَكَّلُ
وَلا نَفْسَ تَفْنَي قَبْلَ إِكْمَالِ رِزْقِهَا ... وَلَكِنْ إِذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ
وَسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه ... وَمَن بالظُبَا وَالسَّمْهَرِيَّةِ يُقْتَلُ
وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ ... لِكُلِ صَرِيْعٍ في الثَّرَى حِيْنَ يُجْعَلُ
يَقُولانِ: مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ مَا الذِي ... تَدِيْنُ؟ وَمَن هَذَا الذِي هُوَ مُرْسَلُ؟
فَيَا رَبَّ ثَبّتْنَا عَلَى الحَقِّ وَاهْدِنَا ... إِلَيْهِ وَانْطِقْنَا بِهِ حِيْنَ نُسْأَلُ
وَإِنَّ عَذَابَ القَبْرِ حَقٌّ وَرُوْحُ مَن ... وَدَى في نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتجْعَلُ
فَأَرْوَاحُ أَصْحَابِ السَّعَادَةِ نُعِّمَتْ ... بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ
وَتَسْرَحُ فِي الجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارَهَا ... وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيْاهِ وَتَأْكُلُ
وَلَكِنْ شَهِيْدُ الحَرْبِ حَيٌّ مُنَعَمٌ ...(3/142)
فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ والجِسْمِ يَحْصُلُ
وَأَرْواحُ أَصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانةٌ ... مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ وَاللهُ يَعْدِلُ
وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوْحِ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ ... فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًّا يُهَرْوِلُ
وَصِيْحَ بِكْلِّ العَالَمِيْنَ فَأَحْضِرُوا ... وَقِيْلَ: قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا
فَذَلِكَ يَومٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبُهُ ... بِوَصْفٍ فإِنَّ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ
يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ ... وَكُلٌّ يُجَازَى بِالذِي كَانَ يَعْمَلُ
وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيْعُهَا ... وَقَدْ فَازَ مَن مِيْزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ
وَفي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا ... وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتَعْدَلُ
وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَن مَاتَ مُشْرِكًا ... وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ
وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِرْكِ رَبِّي لِمَنْ يَشَا ... وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِّ باللهِ أَجْمَلُ
وَإِنَّ جِنَانَ الخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا ... مُقِيْمًا عَلَى طُوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ
أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهُ وَيَتِّقِي ... وَمَاتَ عَلَى التَّوحِيدِ فَهُوَ مُهَلَّلُ
وَيَنْظُر مَن فِيْهَا إِلى وَجْهِ رَبِّه ... بِذَا نَطَقَ الوَحْيُ المُبِيْنُ المُنَزَّلُ
وَإِنَّ عَذَابَ النَّارِ حَقٌّ وَإِنَّهَا ... أُعِدَّتْ لأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ
يُقِيْمُونَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى ... إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ
وَلَمْ يَبْقَ بِالإِجْمَاعِ فِيْهَا مُوَحَّدٌ ... وَلَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُوْلُ وَيَقْتُلُ
وَإِنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً ... لَدَى اللهِ في فَصْلِ القَضَاءِ فَيَفْصِلُ
وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِيْنَ مِنْ أَهْلِ دِيْنِهِ ... فَيُخْرِجُهَم مِن نَارِهِمْ وَهِيَ تَشْعَلُ
فَيُلْقَونَ في نَهْرِ الحَيَاةِ فَينْبتُوا ... كما في حَمِيْل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ
وإن لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ ... مِن الشَّهْدِ أَحْلَى فَهْوَ أَبْيضُ سَلْسَلُ
يُقَدَّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ ...(3/143)
كَأيلَةَ مِن صَنْعَا وَفِي الطُّوْلِ أَطْوَلُ
وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُجُومِ كَثِيْرَةٌ ... وَوَّرَادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ
مِن الأَمَّةِ المُسْتَمْسِكِيْنَ بِدِيْنِهِ ... وَعَنْهُ يُنَحَّى مُحْدِثٌ وَمُبَدَّلُ
فَيَا رَبِّ هَبْ لِي شَرْبةٌ مِن زُلالِهِ ... بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ بِتَفَضَّلُ
آخر:
وَلَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايةَ جَانِبًا ... تُصَانُ به تِلْكَ الجُسُوْمُ وتُكْرَمُ
وَجَدْتُ لها طِيْبًا وَرَوْحًا وَرَاحَةً ... كَأني لأنْفَاسِ الصِّبَا أَتَسَنَّمُ
فَقُلْتُ لِصَحْبِي ما الذي أَمْرَجَتْ له ... مَقَابِرُ منها لا طِيءٌ وَمُسَنَّمُ
فَأَوْهَمْتُهُم أَنِّي جَهِلْتُ وَإِنَّنِي ... لأَدْرَى بِذَاكَ الأَمْرِ مِنهم وأَفْهَمُ
فَقَالوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فلم نَجِدْ ... سوى رَمَمٍ ممن تُحِبُّ وتُعْظِمُ
تَضَوَّعَ بَطْنُ الأَرْضِ منها كأنما ... تَفَتَّقَ مِن دَارِيْنَ مِسْكٌ مُخَتَّمُ
فَقَاضَتْ دُمُوْعي عند ذاك وَرُبَّمَا ... تَشَهّرَ بالدَّمْعِ السرارُ المُكتَّمُ
خَلِيْلَيَّ مَا بَالِي وَبَالُ مَصَائِبٍ ... يُرَاعُ لِذِكْراها فُؤادِي وَيُكْلَمُ
ومما شَجَانِي وهو أَعْظَمُ أنني ... قَذَفْتُ بها مُسْوَدَّة الجَوَف تَلْطِمُ
ولم أَدْرِ ما كانت تَحِيَّةُ خِصْمِهِ ... لَهُ هل بِبُشْرَى أم بِشَنْعَاءَ تَقْصِمُ
وَأَعْظَمُ منه مَوْقِعًا وَأَشَدَّهُ ... وَمَا خَصَّنِي أَدْهَى عَليَّ وَأَعْظَمُ
بِأَني في تِلْكَ المَسَالكِ سَالِكٌ ... أُسَاقُ إِليها إِنْ أَبَيْتُ وَأَرْغَمُ
وَمَا أَنَا أَدْرِي ما أُلاقِي وما الذي ... عليه إذا ما كان ذلك أَقْدَمُ
فَهَلْ مِنْ دَمٍ أَبْكِيْهِ صِرْفًا فإنما ... يُبْكَّي عَلى هَذَا من المُقْلَةِ الدَّمُ(3/144)
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليا وكفى بك نصيرا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرا:
إلى كم تَمَادَى في غُرُوْرٍ وَغَفْلَةٍ ... وكم هكذا نَومٌ إلى غير يَقْظَةِ
لقد ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ منه تُشْترى ... بِمِلءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هَذا في هَوَى هَذِه التي ... أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوى جَنَاحَ بَعُوضَةِ
أَتَرْضَي من العَيْشِ الرَّغِيْدِ وَعِيْشَةٍ ... مَعْ المَلأ الأَعْلَى بِعَيْشِ البَهِيْمَةِ
فَيَادُرَّةٌ بَيْنَ المَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةٌ بِيْعَتْ بِأَبْخَسِ قِيْمَةِ
أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيْهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ
أَأَنْتَ صَدِيقٌ أم عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيْهَا بِكُلِّ مُصِيْبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُم لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لَقَد بِعْتَهَا هَوْنًا عليك رَخِيْصَةً ... وكانت بهذا منكَ غير حَقِيْقَةِ
كَلِفْتَ بها دُنْيَا كَثِيْرٍ غُرُوْرُهَا ... تُقَابِلُنَا في نُصْحِهَا في الخَدِيْعَةِ
عَليْكَ بما يُجْدِي عليك من التُّقَى ... فإنك في سَهْوٍ عَظِيْمٍ وَغَفْلَةِ
تُصَلِي بِلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا ... يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوْبَةِ
تُخَاطِبُهُ إِيَّاك نَعْبُدُ مُقْبِلاً ... عَلَى غَيْرِه فيها لغير ضَرُوْرَةِ
وَلَو رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلْغَيْرِ طَرْفَهُ ...(3/145)
تَمَيَّزْتَ مِن غَيْظٍ عليه وَغَيْرَةِ
فَوَيلَكَ تَدْرِي من تُنَاجِيْهِ مَعْرِضًا ... وَبين يَدَي مَن تَنْحَنِي غير مُخُبْتِ
أَيَّا عَامِلاً للنَّارِ جِسْمُكَ لَيْنٌ ... فَجَرَّبْهُ تَمْرِيْنًا بحَرِّ الظَّهِيرَةِ
وَدَرِّبْهُ في لَسْعِ الزَّنَابِيرِ تَجْتَرِي ... على نَهْشِ حَيَّاتٍ هناك عَظِيْمَةِ
فإن كنت لا تَقْوَى فَوَيْلَكَ ما الذي ... دَعَاكَ إلى إِسْخَاطِ رَبِّ البَرِيَّةِ
تُبَارِزُهُ بالمُنْكَراتِ عَشِيَّةً ... وَتُصْبِحُ في أَثْوَابِ نُسْكٍ وَعِفَةِ
تُسِيءُ بِهِ ظَنًّا وَتُحِسِنُ تَارةً ... عَلَى حَسْبِ مَا يَقْضِي الهَوى بِالقَضِيَّةِ
فأنت عليه أَجْرَي منك على الوَرَى ... بما فيك من جَهْلٍ وَخُبْثِ طَوِيَّةِ
تَقُولُ مَعَ العِصْيانِ رَبي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ وَلَكن غَافِرٌ بِالمَشِيْئَةِ
وَرَبُّكَ رَزَّاقٌ كَما هو غَافِرٌ ... فَلِمَ لا تُصَدِّقْ فِيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ
فَكَيْفَ تُرَجِّىْ العَفْوِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ... وَلَسْتَ تُرجِّى الرِّزْقَ إلاَّ بِحِيْلَةِ
على أَنَّه بالرِّزْقِ كفَّلَ نَفْسَهُ ... وَلَمْ يَتَكَفَّلْ لِلأنَامِ بِجَنَّتِي
وَمَا زِلْتَ تَسْعَى بِالذِي قد كُفِيتَهُ ... وَتُهْمِلَ مَا كُلِفتَهُ مِن وَظِيْفَةِ
إِلهي أَجِرْنَا من عَظِيْمِ ذُنُوبِنَا ... وَلا تُخْزِنَا وَانْظُرْ إلينَا بِرَحْمَةِ
وَخُذْ بِنَواصِيْنَا إِليْكَ وَهَبْ لَنَا ... يَقِيْنًا يَقِيْنَا كُلَّ شَكٍ وَرِيْبَةِ
إلهي اهْدِنَا فيمن هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا ... إِلى الحَقِّ نَهْجًا في سَواءِ الطَّريْقَةِ
وَكُنْ شُغْلَنا عَن كُلِ شُغْلٍ وَهَمَّنا ... وَبُغْيتَنَا عن كلِّ همٍّ وَيُغْيَةِ
وَصَلِّ صَلاةً لا تَنَاهى على الذي ... جَعَلْتَ بِهِ مِسْكًا خِتَامَ النُّبُوَّةِ
آخر:
صَرَفَّتَ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي
إلى المَلِكِ الأَعْلَى الذِي ليس فَوْقَهُ ...(3/146)
مَلِيْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي المَتَاعِبِ
إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فَاضَ جُوْدُهُ ... وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ المَوَاهِبِ
مُقِيْلي إذا زَلَّتْ بي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ
فما زَالَ يُوْلِيْني الجَمِيْلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ
وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِيْنًا وَيَحْمِيْنِي وَبِيَّ المَكَاسِبِ
إذا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُوْنِي قُصُورَهُم ... وَنَهَْهَ عن غِشْيانَهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إلى بَابِ المُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنادِي بِاسْمِهِ غير هَائِبِ
فَلَمْ أُلفِ حُجَّابًا وَلم أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ
كَرِيْمُ يُلَبِي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَا وَالغَيَاهِبِ
سَأَسْأَلَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِيْنَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبِّي في الهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إذا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوَائِبِ
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/147)
وقال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله:
دَعْ عَنْكَ ذِكْرَ الهَوَى وَالمُولَعِيْنَ بِهِ ... وانْهَضْ إلى مَنْزِلٍ عَالٍ به الدُّرَرُ
تَسْلُوْ بِمَرْبابِهِ عن كلِّ غَالِيَةٍ ... وَعَنْ نَعَيْمٍ لِدُنْيا صَفْوُهَا كَدرُ
وَعن نَدِيْمٍ به يَلْهُو مُجَالِسُهُ ... وعن رِيَاضٍ كَسَاهَا النُّورُ والزَّهَرُ
انْهَضْ إلى العِلْمِ في جِدٍ بِلا كَسَلِ ... نُهُوضَ عَبْدٍ إلى الخَيْرَاتِ يَبْتِدرُ
واصْبِرْ على نَيْلِهِ صَبْرَ المُجِدِّ لَهُ ... فَلَيْسَ يُدْرِكُهُ مَنْ لَيْسَ يَصْطَبَرُ
فَكَمْ نُصُوص أَتَتْ تُثْنِي وَتَمْدَحُهُ ... لِلْطَّالبينَ بها مَعْنَى وَمُعْتَبَرُ
أَمَا نَفَي الله بَيْنَ العَالَمِيْنَ بِهِ ... وَالجَاهِلِيْنَ مُسَاوَاةً إِذَا ذُكِرُوْا
وَقَالَ لِلْمُصْطَفَى مع ما حَبَاهُ به ... ازْدَدْ من العِلُمِ في عِلْمٍ به بَصَرُ
وَخَصَّصَ اللهُ أَهْلَ العِلْمِ يُشْدُهُم ... على العِبَادة والتَّوحِيْدِ فَاعْتَبِرُوْا
وَذَمُّ خَالِقنَا لِلْجَاهِلِيْنَ به ... في ضُمْنِهِ مَدْحُ أَهْلِ العِلْمِ مُنْحَصرُ
وفي الحَدِيْثِ إنْ يُرِدْ رَبُّ الوَرَى كَرمًا ... بِعَبْدِهِ الخَيْرَ وَالمَخْلُوقُ مُفْتَقِرُ
أَعْطَاهُ فِقْهًا بِدِيْنِ اللهِ يَحْمِلُهُ ... يَا حَبَّذَا نِعَمًا تَأْتِي وتُنْتَظَرُ
أَمَا سَمِعْتَ مِثَالاً يُسْتَضَاءُ به ... وَيِسْتَفِزُّ ذَوِي الأَلْبَابِ إِنْ نَظَرُوْا
بأنَّ عِلْمَ الهُدَى كَالغَيْثِ يُنْزِلُهُ ... على القُلُوبِ فمنها الصَّفْوُ والكَدَرُ
أَمَّا الرِياضُ التي طَابَتْ فَقَدْ حَسَنُتْ ... منها الرُبَى بِنَبَاتٍ كُلُّه نَضِرُ
فَأَصْبَحَ الخَلْقُ والأَنْعَامُ راتِعَةً ... بِكُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ ليس يَنْحَصِرُ
وَبَعْضُها سَبَخٌ لَيَسْتَ بِقَابِلَةٍ ... إِنْبَاتَ عُشَّبٍ به نَفْعٌ وَلا ضَرَرُ
يَكْفِيْكَ بِالعِلْمِ فَضْلاً أَنَّ صَاحَبَهُ ... بِالعِزِّ نَالَ العُلا وَالخَيْرُ يُنْتَظَرُ
يَكْفِيْكَ بالجَهْلِ قُبْحًا أنَّ صَاحَبَهُ ... يَنْفِيْهِ عَن نَفْسِهِ وَالعِلْمُ يُبْتَكَرُ
يَكْفِيْكَ بالجَهْلِ قُبْحًا أنَّ مُؤْثِرَهُ ...(3/148)
قد آثَرَ المَطْلَبَ الأَدْنَى وَيفْتَخِرُ
أيُّ المَفَاخِرِ تَرضَى أَنْ تُزَانَ بِهَا ... أَجَهْلُكَ النَّفْسَ جَهْلاً مَا له قَدَرُ
أَمْ بِالجَهَالَةِ منك في شَرِيْعَتِهِ ... كَيْفَ الصَّلاةُ وَكَيْفَ الصَّومُ وَالطُّهُرُ
أَمْ كَيْفَ تَعْقِدُ عَقْدًا نَافِذًا أَبَدًا ... كَيْفَ الطَّلاقُ وَكَيْفَ العِتْقُ يا غُدَرُ
أَمْ افْتِخَارُكَ بِالجَهَل البِسَيْطِ نَعَمْ ... وَبِالمُرَكَّبِ لا تُبْقِي ولا تَذَرُ
تَبًّا لِعَقْلٍ رَزين قَدْ أَحَاطَ بِهِ ... مَعْ الجَهَالَةِ رَيْنُ الذَّنْبِ والغَرَرِ
كَمْ بَيْنَ مَن هُوَ كَسْلانٌ أَخُو مَلَلٍ ... فَمَا لَهُ عَن ضَيَاعِ الوَقِتِ مُزْدَجَرُ
قَدْ اسْتَلانَ فِراشَ العَجْزِ مُرَتَفقًا ... حَتَّى أَتَى المُضْعِفانِ الشَّيبُ وَالكِبَرُ
وَبَيْنَ مَنْ هُو ذُو شَوْقٍ أَخُوْ كَلفٍ ... عَلَى العُلُومِ فَلا يَبْدُو لَهُ الضَّجَرُ
يَرْعَى التّقى وَيَرْعَى من تَحفُظِهِ ... أَوْقَاتَهُ مِن ضَياعِ كُلُّهُ ضَرَرُ
لا يَسْتَريحُ ولا يُلْوي أَعِنَّتَهُ ... عن الوُصُول إلى مَطْلُوبِهِ وَطَرُ
تُلِفْيهِ طَوْرًا على كُتب يُطَالِعُهَا ... يَحْلُو لَهُ مَن جَنَاهَا مَا حَوَى الفِكَرُ
تُلْهِيهِ عن رَوْضَةٍ غَنَاءَ مُزْهِرةً ... أَطْيَارُهَا غَرَّدت والماء مُنْهَمِرُ
وَبَاحِثًا تارةً مع كُلِّ مُنْتَسِبٍ ... يَبْغِي الرَّشَادَ فَلا يَطْغَى وَيَحْتَقِرُ
وَاهًا رَجُلاً فَرْدا مَحَاسِنُهُ ... بِالحَزْمِ والعَزْمِ هَانَ الصَّعْبُ والعُسُرُ(3/149)
وقال رحمه الله تعالى يمدح شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومؤلفاتهما:
يَا طَالِبًا لِعُلُوم الشَّرعِ مُجْتَهِدًا ... يَبْغِي انْكِشَافَ الحقِ وَالعِرْفَانِ
احْرِصْ عَلى كُتْبِ الإِمَامَيْنِ اللذين ... هما المَحَكُّ لِهِذه الأَزْمَانِ
العَالِمَيْنَ العَامِلِيْنِ الحَافِظَيْنِ ... المُعْرِضَيْنِ عن الحُطَامِ الفَانِي
عَاشَا زَمَانًا دَاعِيْن إلى الهُدَى ... مَن زَائِغٍ ومُقَلَّدٍ حَيْرَانِ
صَبرا النفُوْسَ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهَا ... لِلْقَلْبِ والأَقْوَالِ وَالأَرْكَانِ
كَمْ نَالَهُمْ من نَكْبَةً وَأذيَّةٍ ... هَانَتْ لِذَاتِ الخَالِقِ الدَّيَانِ
نَشَرَ الإلهُ لَهُم ثَنَاءً صَادِقًا ... إِذ أَحْسَنُوْا في العِلْمِ وَالإِيْمَانِ
فَقُلُوبُ أَهْلِ الخَيرِ من حُبِّ لَهُم ... قَدْ أُشْرِبَتْ وَثَنَاؤُهُمْ بِلِسَانِ
أَعْنِي به شَيْخَ الوَرَى وَإِمَامَهُمْ ... يُعْزَى إِلى تَيْمِيَّةِ الحَرانِ
وَالآخَرْ المَدْعُوُ بابْنِ القَيِّمِ ... بَحْرِ العُلُومِ العَالِمِ الرَّبَانِي
فَهُمَا اللذاننِ قَدْ أَوْدَعَا في كُتْبهِمْ ... غُرَرَ العُلُومِ كَثِيْرِةِ الأَلوانِ
فيها الفَوَائِدُ وَالمَسَائِلِ جُمِّعَتْ ... من كلِّ فَاكِهَةٍ بِهَا زَوْجَانِ
إن رُمْتَ مَعْرِفَةَ الإِلَهِ وَما لَه ... من وَصْفِهِ وَكَمَالِهِ الرَّبَانِي
أَوْ رُمْتَ تَفْسِيْرَ الكِتَابِ وَمَا حَوَى ... مِن كَثْرَةِ الأَسْرَارِ وَالتِّبْيَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ حَقِيْقَةً ... وَجَلالةَ المَبْعُوْثِ بِالفُرْقَانِ
أَوْ رُمْتَ فِقْهَ الدِيْنِ مُرْتَبِطًا به ... أَصْلُ الدَّلِيْلِ أَدْلَّةَ الإِتْقَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةِ القَصَائِدِ كُلّهَا ... لِلْمُبْطِلِيْنَ وَرَدَّهَا بِبيَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةِ الفُنُونِ جَمِيْعِهَا ... مِنْ نَحْوِهَا والطِّبِ لِلأَبْدَانِ
تَلْقَ الجَمِيْعَ مُقَرَّرًا وَمُوضَّحًا ...(3/150)
قَدْ بَيَّنَاهَا أَحْسَنَ التَّبْيَانِ
جَمَعَتْ عَلَى حُسْنِ العِبَارِةِ رَوْنَقًا ... وَبِهَاءَ مَعْنَى جَلَّ ذُوْ الأتْقَانِ
تَدْعُوْ القُلُوبَ إِلى مَحَبَّةِ رَبِّهَا ... وَالذِكْرِ لِلْرَحمنِ كُلَّ أَوانِ
يَدْرِي بِهَذَا من له نَوعُ اعْتَنَا ... في كُتْبِهم مَع صِحَّةِ العِرْفَانِ
فَاحْمَدِ إِلهَ الخَلْقِ إِنْ كُنْتَ امْرَءًا ... تَشْتَاقُهَا وَتُحِبُّهَا بِجَنَانِ
وَاحْمَدْ إِلَهَ الخَلْقِ أَيْضًا ثَانِيًا ... في نَشْرِهَا في هَذِهِ الأَزْمَانِ
حَتَّى غَدَتْ بَيْنَ العِبَادِ كَثِيْرةً ... مَشْهُوْرَةً في سَائِرِ البُلْدانِ
فَعَسَى الذِي بَعْث القروم لنشرها ... أَن يبعث العَزَمَاتِ بَعد تَوانِ
حَتَّى تَكون إلى العُلُومِ سَرِيعَة ... مُشْتَاقَة لِلْعِلْمِ وَالعِرْفَانِ
وَيَزيل عن هذه القلوب موانعًا ... عَاقت وُصُول العِلْم والإِيْقَانِ
وَيلم هذا الدين بعد تشعث ... قَد كَادَ أَنْ يَنْهَدَّ لِلأَرْكَانِ
وَيُفَتِّحُ الأَبوابَ بَعد مُضِيِّهَا ... دَهْرًا عَلَى التَّغْلِيْقِ وَالأَدْرَانِ
وَيُؤَلِّفُ الرَّحمنُ بَعْدَ تَفَرقٍ ... أَرْوَاحَ أَهْلِ العِلْمِ وَالإِيْمَانِ
بِجَلالِهِ وَجَمَالِهِ مُتَوَسِّلاً ... يا دَائِمَ المَعْرُوْفِ والإِحْسَانِ
وَعلى الرَّسُولِ مُصَلِّيًا وَمُسَلِّمًا ... وَالصَّحْبِ وَالاتْبَاعِ بالإِحْسَانِ
وقال آخر:
بما قَدَّمَتْ أَيْدِي الوَرَى سَتُعَذَّبُ ... فَنَاجٍ بِخَدْشٍ والكَثِيْرُ يُكَبْكَبُ
أَمَا يَسْتَحِيْ من كان يَلْهُو ويَلْعَبُ ... ذُنُوبُكَ يا مَغْرُورُ تُحَصْىَ وتُحْسَبُ
وَتُجمع في لَوحٍ حَفِيْظٍ وَتُكْتَبُ
وَأَنتَ بِمَا لا يُرْتَضَي كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ في كُلِّ فِعْلَةِ
تَبِيْتُ بِلَذَّاتٍ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ ...(3/151)
وَقَلْبُكَ في سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنيا حَرْيصٌ مُعَذَّبُ
فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ ... أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِهِ
وَأَنْتَ على كَنْزِ القَلِيْلِ وَجِلِّهِ ... تُبَاهِي بِجَمْعِ المَالِ من غَيْرِ حِلِّهِ
وَتَسْعَى حَثِيْثًا في المَعَاصِي وَتُذْبِبُ
وَتُعْرِضُ عَن فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي ... فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدَّيِّنِ الرَّضِي
أَمَا تَرْعَوي يا من على لَهْوهِ رَضِى ... أَمَا العُمْرُ يَفْنَى والشبيبةُ تَنْقَضِي
أَمَا العُمْرُ آتٍ وَالمَنِيَّةَ تُطلَبُ
فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْياكَ يا الغَدِي ... إِذَا أَضْحَكتكَ اليَومَ أَبْكَتْكَ في الغَدِي
أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُوْمُ لِمَرْغَدِي ... أَمَا تَذْكُر القَبْرَ الوَحِيْشَ وَلَحْدَةَ
بِه الجِسْمُ مِن بَعْدِ العَمَارِةِ يَخْرَبُ
وَتَقْتَتِلُ الدِيْدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ ... وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي ولا يَعِ عَوْلَهُ
أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى العَزِيْزَ وَطولَهُ ... أَمَا تَذْكُر اليومَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ
وَمِيْزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ
فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزي رِجَالُهُ ... وَكُلٌّ يُجَازَي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ
وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَليه مَجَالُهُ ... أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ
إِذَا هَتَكَ العَبْدُ المَحارمَ يَغْضَبُ
فَيَهِتكُ سَتْرَ الظالِمِيْنَ بِغِرَّةٍ ... وَكُلَّهُمُوْا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ
ولاتَ مَنَاصٍ حِيْنَ جَادُوْا بِعَبْرِةٍ ... أَمَا الواحدُ الدَّيانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ
يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُنُوبِ وَيَحْسِبُ
فَيُنصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى ...(3/152)
وَيَقْصِمُهُ قَصْمًا فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا
أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يا من تَبَخْتَرَي ... أَمَا تَذْكُرُ المِيْزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى
إِذَا كُنْتَ في قَعْرِ الجَحِيمِ مُكَبْكَبُ
أَمَا تَمْشِيْنَ بَيْنَ الوَرَى مُتَوَاضِعًا ... أَمَا تَتَّقِي رَبًّا أَلا تَكُ خَاضِعًا
أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا ... كَأَنَّكَ مَا تَلْقَي عَلى الأَرْضِ مَوْضِعًا
وَمِنْ بَعْدُ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ
رَأَيْتَ ولَمْ تَشْعُرْ نَذِيْرًا وَنَاهِيًا ... وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيًا
سَهِرْتَ وآثَرْتَ الغِنَى وَمَلاهِيًا ... تَرُوْحُ وَتَغْدُو في مُرَاحِكَ لاهِيًا
وسَوفَ بِاشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشبُ
أَتَحْسَبُ أنَّ الله أَنْشَى الوَرَى سُدَى ... سَيأتِيْكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدًا
وَتُنْزَعُ رَوْحٌ ثُمَّ تَبْقَى مُجَسَّدَا ... وَتَبْقَي صَرِيْعًا في التُرابِ مُوَسَّدَا
وَجِسْمُكَ مِن حَرٍ بِهِ يَتَلَهَّبُ
وَمَالَكَ عَن دَفْعِ الأَذِيَةِ صَوْلَةٌ ... وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ المُقَدَّرُ حِيْلةٌ
تَنُوحُ وَتَبْكِي بِالدُمُوعِ أَهيْلَة ... وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِغَارٌ وَعَوْلَةٌ
بِهِم بَعْدَ مَغْدَاكَ البَنُونُ تَشَعَّبُ
أَيادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَي وَيَسْرَةً ... وَكُنْتَ رَهِيْنًا لِلْمَنَايَا وَقسرَةً
وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى إليها وَمَسَرَّةً ... وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً
وَخَلَّفْتَ لِلْوُارثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ
وَتَسْعَى لَهُ مِن تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ ... وَتَسْهَرُ لَو فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوْصِلُ
وبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلِ ... تُعَالُجَ نَزْعَ الرُوْحِ من كُل مَفْصِلِ(3/153)
فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي ولا ثَم مَهْرَبُ
وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُوْحُ بَعْدَ مُرُوْجِهَا ... وَأَنْزِلْتَ عِنْدَ البَابِ بَعْدَ بُرُوْجِهَا
وَقُرَّبتِ الأَكْفانُ بَعْدَ عُرُوْجِهَا ... وَغُمِّضَتِ العَيْنَان بَعْدَ خُرُوْجِهَا
وَبُسِّطَتِ الرِجْلان والرَّأَسُ يُعْصَبُ
وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلْنَّعِشْ يُحْضِرُوْا ... وَحَفَّارُ قَبْرٍ في المَقَابِرِ يَحْفُرُ
وَجَدَّ الذِي في حَوْلٍ نَادِِيْكَ حُضَّرٌ ... وَقَامُوا سِرَاعًا في جَهَازِكَ أَحْضَرُوْا
حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا
وَصَبُّوا عَلَيْكَ المَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ ... وَحَنَّ قَرِيْبٌ بِالبُكَا وَرُبُوعُهُ
وَكُلُّ شَقِيْقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ ... وَغَاسِكُكَ المحزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ
بِدَمْعٍ غَزِيْرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدقُهُ مُتفرقٌ ... حَزِينٌ وَمِن مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ
وَكُلُّ رَحِيْمٍ قَلْبُهُ مَتَحَّرِقٌ ... وَكُلُّ حَبِيْبٍ لُبُّهُ مُتَحرِقٌ
يُحَرِكُ كَفيَّهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ
وَجَاءُوا بِأَثوابٍ وَطِيْب بِطَيِّهَا ... وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِن بَعْدَ طَيهَا
وَقَدْ بَخَّرُوْا مَنْشُوْرَهُنَّ وَطيَّبُوْا
وَخَاطُوا الذي يَحْتَاجُ مِنْهَا وَأَخْرَجُوا ... طَرَأَيدَ لِلْتحِزيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوْا
جَمِيْعًا بِتَجهازٍ وَجِسْمَكَ أَدْرَجُوْا ... وَألقوك فيها بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوْا
عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوْا
وَشَالُوكَ من بَيْنِ الأَخِلاّ مُجَرَّدًا ... وَمَالكَ خَلْفًا قَدْ تَركْتَ وَخُرَّدا
وَصَلَّوْا وُقُوْفًا ثُمَّ زَفَّوكَ وُرَّدًا ... وَفِي حُفْرةٍ أَلْقَوكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا(3/154)
تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ
بَعيْدٌ عَلَى قُرْبِ المَدَى يَعْلَمُونَهُ ... وَسَائِلُكَ المُجْهَادُ لا يَسْمعُوْنَهُ
وَقَبْرَكَ قَامُوْا بَعْدَ ذَا يَسِمُوْنَهُ ... وَرَاحُوا لِمَا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَليهِ وَتَتْعَبُ
وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرْ ... وَجِسْمُكَ مَهْزُوْلٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ
وَخَلَّفْتَهُ طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ ... فَيَا أَيُّهَا المَغْرُوْرُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ
وَخَفْ مِن جَحِيْمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ
وَلا تَمْشِ مِن بَيْنَ البَرَّيةِ مُسْبِلا ... وَكُنْ صَالِحًا بَرًا تَقِيًا مُحَسْبَلاَ
وَتُبْ عَن ذُنُوبٍ لا تَكُنْ متُكَرْبِلاَ ... وَجَانِبْ لِمَا يُرْديِكَ فِي حُفْرَةِ البِلاَ
فَكُلٌ يُجَازَي بِالذِي كَانَ يَكْسِبُ
مَآكِلُ مَا تَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوتِنَا ... شَبِيْهُ حَرَامِ وَالسَّمِيْعُ لِصَوْتِنَا
يُجَازِي بِعَدْلٍ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا ... إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا
فَكَيْفَ يَطِيْبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ
وَقُدَّامُنَا َقَبْرٌ بِهِ المَرْءُ أَلْكَنُ ... وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبانُ مَأَثمَّ أَلْسَنُ
وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وأَعْكُنُ ... وَكَيْفَ يَطِيْبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مُسْكَنُ
بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ
وَخَوْفٌ بِهِ حَزْنٌ طَوِيْلٌ وَرَعْشَةٌ ... وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيْبُكَ نَهْشَةٌ
وَمُنْكَرٌ إِذْ يَسْأَلْ يَهلْك وَدَهْشَةٌ ... وَهَولٌ وَدِيْدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ
وَكُلُّ جَدِيْدٍ سَوْفَ يَبْلَي وَيَذْهَبُ
وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَومٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ ... أَلِيْمٌ مَهُوْلٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ
عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ ...(3/155)
فَيَا نَفْسُ خَافِي الله وَارْجِيْ ثَوَابَهُ
فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ
فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً ... وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ
فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيْقِ وَعَسْمَةً ... وَقُوْلِي إِلهي أَوْلنِي مِنْكَ رَحْمَةً
وَعَفْوًا فَإِنَّ الله لِلْذَّنْبِ يُذْهِبُ
وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّريْقِ المُحَمَّدِي ... وَكُنْ بِي رَحِيْمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلى الهُدَي
وَلا تُخْزِنِي في الحَشْرِ واطْلِقْ مُقَيَّدِي ... وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي
فَجِسْمِي ضَعِيْفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ
وُجُوْدُكَ مَنَّانِي ولو كنت أَحْقَرَا ... وَعَفْوَكَ رَجَّا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا
وَإِنَّي وإنْ كنت البَعِيْدَ ومِنْ وَرَى ... فَمَالِي إِلاَّ أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى
عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ
وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوْعِهَا ... مُجِيْبٌ لمن يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا
فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيْمِ سَمِيْعِهَا ... وَنَدْعُوا بِغُفْرَانِ الذُنُوبِ جَمِيْعِهَا
وَخَاتِمَةِ العُمْرِ التِي هِي أَطْلُبُ
وَأَسألُ طُوْلَ الدَّهْرِ مَا نَاءَ طَارِقُ ... وَصَلِ إِلهي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ
وَما طَلَعَتْ شَمْسٌ ومَا لاحَ كَوْكَبُ
وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دَيَاجِي لَيَالِهِ ... وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ
وَمَا أمَّ بَيْتَ الله من كلِّ وَالِهِ ... على أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيْرِ وآلِهِ
فَهُوْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًا وَأَطْيَبُ
وَأَكْمُل مَن حَلَّ الصَّفَا وَالمُحَصَّبَا ... وَأَحْلاهُمُوا خَلْقًا وخُلْقًا وَمَنْصِبَا
وَأَصْحَابِهِ ما اخْضَرَّ عُوْدٌ وأَخْصَبَا ...(3/156)
كَذَاكَ سَلامُ الله مَا هَبَّتِ الصِّبَا
وَهَبَّتْ شَمالٌ مَع جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ
آخر:
إِلى كَمْ تَمَادَى فِي غُرُوْرٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكذا نومٌ إِلى غَيْرِ يَقظةِ
لَقَدْ ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْه تُشْترى ... بِمِلءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هذا في هَوَى هذه اللَّتِي ... أَبَى الله أنْ تُسْوَي جَنَاحَ بَعوضَةِ
أَتَرْضَي مِن العَيْشِ الرَّغِيْدِ وَعِيْشَةٍ ... مَعْ الملأَ الأَعْلَى بِعَيشِ البَهِيْمَةِ
فيادُرَّة بَيْنَ المَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بيْعَتْ بِأَبْخَسِ قِيْمَةِ
أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيْهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرضوَانٍ وَنَارًا بِجَنةِ
أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدوٌ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيْهَا بِكُلِّ مُصِيْبَةِ
وَلَو فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُم لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لقد بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخيْصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيْقَةِ
أَلا فاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ ... من الخَلْقِ إن كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيْمَةِ
فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيْحَةٌ ... يُعَدُّ عَلَيْهَا كلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ
فُتِنْتَ بها دُنْيَا كَثِيْرٍ غُرُوْرُهَا ... تُعَامِلُ في لَذَّتِهَا بِالخَدِيْعَةِ
إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِي أَحْسَنَتْ ... أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بالكُدوْرَةِ
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُوْنَ لَمْ تَنَلْ ... سِوَى لُقْمَةٍ في فِيْكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ
وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بالأماني وَلَمْ تَكُنْ ... لِتَنْزِعَهَا مِن فِيْكَ أَيْدِي المنيَّةِ
فَدَعْهَا وأَهْليْهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ ... لِنَفْسِكَ عنها فهو كُلُّ غَنِيْمَةِ
وَلا تغْبِطْ مِنْهَا بِفَرحَةِ سَاعَةٍ ... تَعُوْدُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيْلَةِ
فَعَيْشُكَ فِيْهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي ...(3/157)
كَعَيشِكَ فِيْهَا بَعْضُ يَوْم وَلَيْلَةِ
آخر:
أَبَادَ ذَا المَوْتُ أَمْلاكًا وَمَا مَلَكَوْا ... وَدَارَ مُسْتَعْقِبًا عَليهِمُ الفَلَكُ
رَمَي بِهِم حَيْثُ لا قِيْعَانَ تُمْسِكُهُمْ ... وَلا مِرَارًا بِهَا المَرْميُّ يَمْتَسِكُ
هَوَتْ هُوِىَّ ثَقِيْل الصَّخْرِ أمُّهُمُ ... فَلا حَسِيْسَ وَلا رِكزٌ وَلا حَرَكُ
غَدَتْ رُءُوِسُهُمْ من تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... وَزُلْزِلَتْ بِهِم الأَطْباقُ وَالدَّرَكُ
يَا بَطْشَةً مِن حَكِيْمٍ مَا بِهَا مَهَلٌ ... وَغَضْبَةً مِنْ عَزِيْز مَا بِهَا دَرَكُ
جُرُّوْا مِن اللَّهْوِ مَلاي مِنْ أَعِنَّتِهِمْ ... حَتَّى إِذَا ما رَأَوْا خَيْلَ الرَّدى بَرَكُوْا
حُطُّوْا بِدَارِ البِلَى في مَنْزِلٍ حَرِجٍ ... وَلَيْتَهُمْ وَيْحَهُمْ فِيْهِنَّ لَوْ تُرِكُوا
لَطَالَمَا نَقَضُوا مُلْكًا وَمَا هَدَمُوْا ... عِزًّا وَمَا هَتَكُوا سِتْرًا وما فَتَكُوْا
مَرَّوا وَما بَلَغُوْا كُلَّ الذي طَلَبُوْا ... وَلا قَضَوْا وَطَرًا مِن كُلَّ ما تَرَكُوْا
أَضْحَاهُمُ اليَومَ صَرْفُ الدَّهرِ إِذْ هَلَكُوا ... كَمَا أَضَلَّهُم بِالأَمْسِ إِذْ مَلَكُوا
اللهم أنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفي عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(3/158)
فصل
وفي بعض الخطب المروية: أيها الناس إن الأمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تحت التراب تبلى وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد.
وفي ذلك عباد الله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
وخطب آخر فقال: أيها الناس إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب الله عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب الله عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
وقال بعض العلماء: لا تبت على غير وصية، وإن كنت من جسمك في صحة، ومن عمرك في فسحة، فلا تأمن من هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة.
وقال أحد الحكماء: ليس الدين من عوض، ولا من الإيمان بدل، ولا من الجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن لم يسر.
وقال آخر: أيها الناس إن سهام الموت قد فوقت إليكم فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم فاحذروها وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها.(3/159)
ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال، ومقيمه إلى ارتحال وممتده إلى تقلص واضمحلال، أما تسمعون أيها الناس لما توعظون به، أما تعتبرون بما إليه تنظرون، أما تفكرون فيما عنه تزولون وفيما إليه ترجعون، وعليه تقدمون.
أين من تقدمكم وكان قبلكم ممن أمل أملكم وسعى سعيكم وعمل عملكم أين الذين بنوا المدائن وملئوا الخزائن واستعدوا لما هو عندهم كائن، أين الذين غرسوا في روضة الملك ونظموا الآمال في سلك، وهتكوا حجبها أيما هتك وكانوا في ظاهر أعمالهم في ريب من الزمان وفي شك.
اللهم إنا نسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وعملا متقبلا، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/160)
فصل
وقال رحمه الله واعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا ولها طرق وأبواب أعظمها الاقبال والإكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام بالمعصية على الله جل وعلا وتقدس.
وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض عن الله والدار الآخرة، ونصيب من الافتراء، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه.
فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاء الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين المراد ولا علم ما أراد، وإن أعاد عليه وأعاد.
ويروى أن أحد رجال الناصر بن علناس، نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال الناصر يا مولاي، فأعاد عليه، فأعاد ثم أصابته غشية فلما أفاق منها قال الناصر أمولاي، ثم قال لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك فالقتل ثم القتل ثم مات.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله عندما نزل به الموت فقال الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلانية افعلوا فيها كذا، وقيل لرجل نزل به الموت قل لا إله إلا الله فجعل يقول بالفارسية ده يا ازده دوازده تفسير عشرة أحد عشر إثنا عشر كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان فغلب عليه الحساب والميزان.
وقيل إن رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول:
يا رُبَّ قَائِلةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ...(3/161)
أَيْنَ الطَّرِيْقُ إِلى حَمام مَنْجَابِ
وهذا الكلام فيه قصة وذلك أن رجلا كان واقفا على باب داره وكان باب داره يشبه باب الحمام فمرت امرأة لها رونق ومنظر خلاب وهي تسأل عن طريق حمام منجاب.
فقال لها هذا حمام منجاب وأشار إلى داره فدخلت داره ودخل وراءها فلما رأت نفسها معه في داره، وليست بحمام علمت أنه خدعها فاحتالت عليه بأن أظهرت له الفرح والبشر باجتماعها معه على تلك الخلوة في تلك الدار.
وقالت ينبغي أن يكون عندنا ما يطيب به الاجتماع وتقر به عيوننا ففرح وقال الساعة آتيك بكل ما تريدين وما تشتهين. وخرج وتركها في الدار، وظن أنه أغلق عليها الباب، ومضى وأتى بما يصلح لهما ورجع ودخل الدار فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثر.
فهام الرجل بها وذهبت بلبه فأكثر الذكر لها والحزن والجزع عليها وجعل يمشي في الطرق ويقول:
يا رُبَّ قَائِلةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ... أَيْنَ الطَّرِيْقُ إِلى حَمام مَنْجَابِ
ومر من عند بيتها وهو ينشد هذا البيت وإذا بها تجاوبه من داخل دارها وتقول بصوت سمعه:
هَلاَّ جَعَلْتَ سَرِيْعًا إِذَا ظَفِرْتَ بِهَا ... حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلاً عَلَى البِاب
إِنْ يَنْفَذَ الرِّزْقُ فَالرَّزَاقُ يَخْلِفُهُ ... وَالعِرْضُ مِنْ أَيْنَ يَا مَغْرُوْرُ يُنْجَابُ
فلما سمع ذلك جعل يردد ذلك ومات
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء وقال: وما ينفعني ما(3/162)
تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم مات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: وما يغني عني وما أعلم أني صليت لله صلاة ثم مات ولم يقلها.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: هو كافر بما تقول ومات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.
وقال ابن القيم رحمه الله أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند الموت فجعل يقول لله فليس، لله فليس فمات.
وأخبرني أحد التجار عن قريب له احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي.
وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه بما هو فيه من ألم النزع.
وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه غرضه فإن ذلك آخر العمل.
فأقوى ما يكون عليه الشيطان ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة أي حالة نزع الروح
فمن ترى يسلم على ذلك فهنالك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ(3/163)
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا.
فبعيد من قلب بعيد من الله غافل عنه متعبد هواه مصيره لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته فبعيد أن يوفق لحسن الخاتمة، انتهى كلامه رحمه الله.
ونقل عن شارب الدخان أنه كلما قيل له قل لا إله إلا الله قل تتن حار تتن حار.
ونقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادتين فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولا بالحساب الذي طال له إلفه فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين والعياذ بالله.
ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي الآت اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكمات واسطوانات وكرة ومذياع وتلفزيون وفيديو وسينما وصور ذوات الأرواح أن يكون مشغولا بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفته والعياذ بالله ما نطق به لسانه من ما يأتي فيها من المنكرات من أغانِ وصور وتمثيليات ونحو ذلك نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها.
وقال رحمه الله واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله وإياك وجميع المسلمين منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر وإقدام على العظائم.(3/164)
فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ويثب عليه قبل الإنابة ويأخذه الموت قبل إصلاح الطوية فيختطفه الشيطان عند تلك الدهشة والعياذ بالله ثم العياذ بالله أن يكون لمن كان مستقيما لم يتغير عن حاله ولم يخرج عن سنته.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الآية وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء وما آتاه الله من آياته وأطلعه عليه من بيناته أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسلبه الله سبحانه جميع ما أعطاه وتركه مع من استماله وأغواه.
واعلم رحمك الله أن أمر الخاتمة وما يحذر من سوئه أمر إذا ذكر حقيقة ذكره انفطرت له القلوب وتصدعت له الأكباد وتقطعت.
ولولا أن الله جل وعلا حدد الآجال لزهقت الأنفس عند أول ذكره ولكنها مربوبة مدبرة مقهورة مصرفة تخرج إذا أذن لها في الخروج وتلج إذا أذن لها في الولوج.
وما يمنع القلوب من الانشقاق والانصداع والانفطار والانقطاع والذي يلقى المختوم له بسوء الخاتمة عذاب لا تقوم له السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته.
وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يختم له بسوء الخاتمة، وما الذي أمنه منه، والخاتمة مغيبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة والنفس كما ترى، والشيطان منها بحيث تدري.
وهي مصغية ومستمعة إليه قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ(3/165)
بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] فهي ملتفتة نحو الشيطان ومقبلة عليه.
هِي النَّفْسُ إِنْ تَنْظُر إلى الحقِ نَظْرَةً ... فَإِنَّ لَهَا فِي غَيْرِهِ نَظَرَاتِ
وَإِنْ نَهَضَتْ يَوْمًا إِلى الله نَهْضَةً ... فَإِنَّ لها عَنْهُ غَدًا نَهَضَاتٍ
إِلى الله أَشْكُوْهَا فَبِاللهِ حَوْلُهَا ... وَبِاللهِ تَمْضِي في الأُمُورِ وتَاتِي
ورد في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم".
وقال رحمه الله فيا لله كم من مجر ذيل إعجابه متطاول على أصحابه، متعاظم على أقرانه وأترابه، تجمع له الأماني وترتاح له الغواني إن بصر لا يستبصر وإن أمر لا يأتمر، وإن زجر لا ينزجر، ويفرح ويمرح، ويبيت من دنياه مثل ما أصبح، قد أبدأ في أمره وأعاد، وأحكم غيه وضلاله فأجاد وأشاد من أمله ما أشاد.
حتى إذا نال مراده أو كاد، صاحت به المنية صيحة الغضبان وصدمته صدمة اللهفان، فهدت أركانه وكسرت أغصانه، وفرقت أنصاره وأعوانه، فأصبح قد باع النفيس بالدون ومضى يعض بنانه المغبون ولم يرح بنائل ولا حصل على طائل.
فيالله كم هناكم من ملك جبار طويل النجاد رفيع العماد عظيم الأجناد كثير الأمداد، قد ملك البلاد، وقهر العباد، ووصل من دنياه إلى كثير مما أراد.
قعد ونهض وأبرم ونقض وجعل أمره المفترض، وطالما حرق وهدم وكسر، وحطم وزلزل ودمدم، واسترحم فلم يرحم ومضى على ما شاء من رأيه وصمم.(3/166)
بنى المدائن والحصون وأكثر من ماله المخزون واستعد في رأيه لما قد يكون أو لا يكون حتى إذا استحكمت له الأمور، وأطال الفرح والسرور، وزخرف الفلل والقصور، وظن أنه قد ساعده فيما بقي من أمله المقدور، قلبت له الدنيا ظهر المجن وكسته من خطبها ومصائبها ما أجن وأذهل الفطن، وسقته من كربها ما يسكر به ويجن.
نظرت بعينها الشوساء إليه، وقبضت ما كان في يديه، وأتت بنيانه من قواعده فألقته عليه، فأصبح وقد هدم ذلك البنيان، وسقط ذلك الإيوان، وتبددت تلك المقاتلة والفرسان، وتفرقوا شذر مذر بكل مكان، وأصبح كل ما كان كأنه ما كان.
وقيل ملك في سالف الزمان ملك يقال له فلان بن فلان، ولم يحصل على شيء مما ملك من البلاد ولا ما أدخر من المال وأعد من العتاد إلا على حنوط وكفن، وحفرة ضيقة العطن يحتبس فيها ويرتهن، بكل ما عمل من قبيح أو حسن.
فَمَا تَزَوَّدَ ممَّا كَانَ يجمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ البَيْنِ في خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِن زَادٍ لِمنْطَلِقِ(3/167)
(فصل في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من السماء عن تقليد الرجال والآراء)
يَا طَالبَ الحَقِّ المُبِيْنِ وَمُؤْثِرًا ... عِلْمَ اليَقِيْنِ وَصِحَّةَ الإِيْمَانِ
اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ خَبْرَ الذي ... عِنْدَ الوَرَى مُذْ شَبَّ حَتَّى الآنِ
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ ... قَدْ شَدَّ مِيْزَرَهُ إِلى الرَّحمنِ
وَتَخلُلُ الفَتَراتِ لِلْعَزمَاتِ ... أَمْر لازِم لِطَبِيْعَةِ الإِنْسَانِ
وَتَولُدُ النُّقْصَانِ مِن فَتَراتِهِ ... أَوْ لَيْسَ سَائِرُنَا بَنِي النُّقْصَانِ
طَافَ المذاهبَ يَبْتَغِي نُوْرًا ... لِيَهْدِيْهِ وَيُنْجِيْهِ مِن النِّيرَانِ
وَكَأنهُ قَدْ طَافَ يَبْغِي ظُلْمَةَ ... اللَّيْلِ البَهِيْمِ وَمَذْهَبَ الجيْرَانِ
وَاللَّيْلُ لا يَزْدَادُ إِلا قُوَّةً ... وَالصُّبْحُ مَقْهُورَ بِذِي السُّلْطانِ
حَتَّى بَدَتْ فِي سِيْرهِ نَارٌ عَلَى ... طُوْرِ المدِيْنَةِ مَطْلَعِ الإِيْمَانِ
فَأَتى لِيَقْبِسَهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْ ... تِلْكَ القُيُودِ مَنَالُهَا بِأَمَانِ
لَوْلا تَدَارَكَهُ الإِلَهُ بِلُطْفِهِ ... وَلَّى على العَقِبَيْنِ ذَا نُكْصَانِ
لكن تَوقفَ خَاضِعًا مُتَذِلِّلاً ... مُسْتَشْعِرَ الإِفْلاسِ مِن أَثْمَانِ
فَأَتاهُ جُنْدٌ حَلَّ عَنْهُ قُيُوْدُهُ ... فَامْتَدَّ حِيْنَئِذٍ لَهُ البَاعَانِ
وَاللهِ لَوْلا أَنْ تُحَلَّ قُيُودُهُ ... وَتَزُوْلَ عَنْهُ رِبْقَةُ الشَّيْطَانِ
كان الرُقيُّ إلى الثُريَا مُصْعِدًا ... من دُونِ تِلْكَ النَّارِ في الإِمْكَانِ
فَرَأَى بِتْلَكَ النَّارِ آطَامَ المَديْنَةِ ... كالخَيامِ تَشُوْفُهَا العَيْنَانِ
وَرَأَى عَلَى طُرُقَاتِهَا الأَعْلامَ قَدْ ... نُصِبَتْ لأَجْلِ السَّالِكِ الحَيْرَانِ(3/168)
وَرَأَى هُنَالِكَ كُلَّ هَادٍ مُهْتَدٍ ... يَدْعُو إلى الإِيمانِ وَالإِيْقَانِ
فَهُنَاكَ هَنَّأ نَفْسَهُ مُتَذَكِرًا ... مَا قَالَهُ المُشْتَاقُ مُنْذُ زَمَانِ
وَالمُسْتَهامُ عَلَى المَحَبةِ لَمْ يَزَلْ ... حَاشَا لِذِكْرَاكُمْ مِن النِّسْيَانِ
لَو قِيْلَ مَا تَهَوَى لَقَالَ مُبَادِرًا ... أَهَوَى زِيَارَتَكُم عَلَى الأَجْفَانِ
تَاللهِ إِنْ سَمَحَ الزَّمَانُ بِقُرْبِكُم ... وَحَلَلْتُ مِنْكُم بِالمحَلِ الدَّانِي
لأُعَفِّرَنَّ الخَدَّ شُكْرًا في الثَّرَى ... وَلأكْحُلَنَّ بِتُرْبِكُم أَجْفَانِي
إنْ رُمْتَ تُبْصِرُ مَا ذَكَرْتُ فَغُضَّ طَرْ ... فَا عَن سِوَى الآثَارِ والقُرْآنِ
وَاتْرُكْ رُسُومَ الخَلْقِ لا تَعْبَأْ بِهَا ... في السَّعْدِ مَا يُغْنِيْكَ عَن دَبَرانِ
حَدّقْ بِقَلْبِكَ في النُصُوصِ كَمِثْلِ مَا ... قَدْ حَدَّقُوا في الرَّأي طُوْلَ زَمَانِ
وَاكْحُلْ جُفُونَ القَلْبِ بالوَحْيَيْنِ ... وَاحْذَرْ كُحْلَهُمْ يَا كَثْرةَ العُمْيَانِ
فَاللهِ بَيَّنَ فِيْهَا طُرْقَ الهُدَى ... لِعِبَادِهِ في أَحْسَنِ التَّبْيَانِ
لَمْ يُخْرِجْ اللهُ الخَلائِقَ مَعْهُمَا ... لِخَيَالِ فَلْتَانٍ وَرَأَي فُلانِ
فَالوَحْيُّ كَافٍ لِلَّذِي يَعْنِي بِه ... شَافٍ لِدَاءِ جَهَالِةِ الإِنْسَانِ
وَتَفَاوُتُ العُلُمَاءِ في أَفْهَامِهِم ... لِلوَحْي فَوْقَ تَفَاوُتُ الأَبْدَانِ
وَالجَهْلُ دَاء قَاتِل وَشِفَاؤُه ... أَمْرَانِ في التَّركِيْبِ مُتَّفِقَانِ
نَصٌ مِنَ القُرآنِ أَوْ مِنْ سُنَّةٍ ... وَطَبِيْبُ ذَاكَ العَالِمُ الرَّبَانِي
وَالعِلْمُ أَقْسَامٌ ثَلاث مَالَهَا ... مِن رَابِعٍ وَالحَقُ ذُوْ تِبْيَانِ
عِلْمٌ بِأَوْصَافِ الإِلهِ وفِعْلِهِ ... وَكَذَلِكَ الأَسْمَاءُ لِلَّرحمنِ
وَالأَمْرُ والنَّهْيُ الذِي هُو دِيْنُهُ ... وَجَزَاؤُهُ يَوْمَ المَعَادِ الثَّانِي
وَالكُلُّ في القُرآنِ وَالسُّنَنِ التي ... جَاءَتْ عَنْ المبْعُوثِ بِالفُرْقَانِ(3/169)
والله مَا قَالَ امْرُؤ مُتَحَذْلِقٌ ... بِسِوَاهُمَا إِلا مِن الهَذَيانِ
إِنْ قُلْتُم تَقْرِيْرُهُ فَمُقَرَّرٌ ... بِأَتَّم تَقْرِيرِ مِن الرَّحمنِ
أَوْ قُلْتُمُ إِيْضَاحُهُ فَمُبَيَّن ... بِأَتمَّ إِيْضَاحٍ وَخَيْرِ بَيَانِ
أَوْ قُلتُم إِيْجازُهُ فَهْوَ الذِي ... فِي غَايَةِ الإِيْجَازِ وَالتِّبْيَانِ
أَوْ قُلتُم مَعْنَاهُ هَذَا فاقْصُدُوْا ... مَعْنَى الخِطابِ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِ
أَوْ قُلتُم نَحْنُ التَّراجُمُ فَاقْصُدُوْا ... المَعَنْىَ بِلا شَططٍ وَلا نُقْصَانِ
أَوْ قُلتُم بِخِلافِهِ فَكَلامَكَمْ ... في غَايِةِ الإِنْكارِ وَالبُطْلانِ
أَوْ قُلتُم قِسْنَا عَلَيْهِ نَظِيْرَهُ ... فَقِيَاسُكُم نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ
نَوعٌ يُخَالِفُ نَصَّهُ فَهْوَ المُحَا ... لُ وَذَاكَ عِنْدَ اللهِ ذُو بُطْلانِ
وَكَلامُنا فِيه وَلَيْسَ كَلامُنَا ... في غَيْرِهِ أَعْنِيْ القِيَاسَ الثَّانِي
ما لا يُخَالِفُ نَصَّهُ فَالناسُ قَد ... عَمِلُوا بِه في سَائِرِ الأَزْمَانِ
لَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُوْرَةِ لا يُصَا ... رُ إِليهِ بَعْدَ ذا الفُقْدَانِ
هذا جَوابُ الشَّافِعي لأَحْمَدٍ ... للهِ دَرُكَ مِن إِمَامِ زَمَانِ
وَالله مَا اضْطَرَ العِبَادُ إِليْهِ ... فِيْمَا بَيْنَهُم مِنْ حَادِثِ بِزَمَانِ
فَإِذَا رَأَيْتَ النَّصَ عَنْهُ سَاكِتًا ... فَسُكُوتُه عَفْوٌ مِن الرَّحمنِ
وَهوَ المُبَاحُ إِبَاحَةَ العَفْوِ الذِي ... مَا فيه من حَرِجٍ ولا نُكْرَانِ
فَأَضِفْ إِلى هَذَا عُمُوْمَ اللَّفْظِ ... وَالمَعْنَى وَحُسْنَ الفَهْمِ في القُرْآنِ
فَهُنَاكَ تُصْبِحُ في غِنى وَكَفايَةٍ ... عَن كُلِّ ذِي رَأَي وذِي حُسْبَانِ
وَمُقَدَّرَاتُ الذُهْنِ لم يُضْمَنْ لَنَا ... تِبْيَانُهَا بِالنَّصِ وَالقُرْآنِ
وَهي التِي فِيْهَا اعْتِرَاكُ الرَّأي مِن ... تَحْتِ العَجَاجِ وَجَوْلَةِ الأَذْهَانِ(3/170)
لَكِنْ هُنَا أَمْرَانِ لَوتمَّا لما ... احْتَجْنَا إِليه فَحَبَّذَا الأَمْرَانِ
جَمْعُ النُصُوصِ وَفَهْمُ مَعْنَاهَا المُرا ... دَ بِلَفْظِهَا وَالفَهْمُ مَرْتَبَتَانِ
إِحْدَاهُمَا مَدْلُولُ ذَاكَ اللَّفْظ ... وَضْعًا أو لُزُومًا ثُمَّ هَذَا الثَّانِي
فِيهِ تَفَاوتَتِ الفُهُومُ تَفَاوُتًا ... لم يَنْضَبِطْ أَبدًا لَهُ طَرَفَانِ
فَالشيءُ يَلْزَمُهُ لَوَازِمُ جَمَّةٌ ... عِنْدَ الخَبِيْرِ بِهِ وَذِيْ العِرْفَانِ
فَبِقَدْرِ ذَاكَ الخُبْرُ يُحْصَى مِن لَوا ... زِمِهِ وهذا وَاضِحُ التِّبْيَانِ
وَلِذَاكَ مَن عَرَفَ الكِتَابَ حَقِيْقَةً ... عَرَفَ الوُجُودَ جَمِيْعَهُ بِبَيَانِ
وَكَذَاكَ يَعْرِفُ جُمْلَةَ الشَّرْعِ الذِي ... يَحْتَاجُهُ الإِنْسَانِ كُلَّ زَمَانِ
عِلْمًا بِتَفْصِيْلٍ وَعِلْمًا مُجْمَلاً ... تَفْصِيْلُهُ أَيْضًا بِوَحِي ثَانِ
وَكِلاهُمَا وَحْيَانِ قَدْ ضَمِنَا لَنَا ... أَعْلَى العُلُومِ بِغَايَةِ التِّبْيَانِ
وَلِذَاكَ يُعْرَفُ مِن صِفَاتِ الله ... وَالأَفْعَالِ وَالأَسْمَاءِ ذِي الأحْسَانِ
مَا لَيْسَ يُعْرفُ مِن كِتَابٍ غَيْرِهِ ... أَبَدًا وَلا مَا قَالَتِ الثَّقَلانِ
وَكَذَاكَ يُعْرَفُ مِن صِفَاتِ البَعْثِ ... بالتَّفْصِيْلِ وَالإِجْمَالِ في القُرْآنِ
مَا يَجْعَلُ اليَوْمَ العظيمَ مُشَاهَدًا ... بِالقَلْبِ كالمَشْهُودِ رَأْي عَيَانِ
وَكَذَاكَ يُعْرفُ مِن حَقِيْقَةِ نَفْسِهِ ... وَصِفَاتِهَا بِحَقِيْقَةِ العِرْفانِ
يَعْرِفْ لَوازِمَهَا وَيَعْرفُ كَوْنَهَا ... مَخْلُوقَةً مَرْبوبَةً بِبَيَانِ
وَكَذاكَ يَعْرفُ مَا الذِي فِيْهَا من ... الحَاجَاتِ وَالاعْدَامِ وَالنُّقْصَانِ
وكذاك يَعْرفُ رَبَّهُ وَصِفَاتِهِ ... أَيْضًا بِلا مِثْلٍ وَلا نُقْصَانِ
وَهُنَا ثَلاثَةُ أَوْجُه فافْطَنْ لَهَا ... إِنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ وذَا عِرْفَانِ
بِالضِّدِ والأَوْلَى كَذَا بالامْتِنَا ... عِ لِعْلِمِنَا بِالنَّفْسِ وَالرَّحمنِ(3/171)
فَالضِّدُ مَعْرِفَةُ الإِلهِ بِضِدِ مَا ... في النَّفْسِ مِن عَيْبٍ ومِن نُقْصَانِ
وَحَقِيْقَةُ الأولى ثُبُوتُ كَمَالِهِ ... إِذْ كَان مُعْطِيْهِ عَلَى الإِحْسَانِ
(فصل في بيان شروط كفاية النصين والاستغناء بالوحيين)
وَكِفَايَةُ النَّصَيْن مَشْرُوْطٌ ... بِتَجْرِيدِ التَّلِقي عَنْهُمَا لِمَعانِ
وَكَذاكَ مَشْرُوطٌ بِخَلْع قُيُودِهِمْ ... فَقُيودُهَمْ غِل إلى الأَذْقَانِ
وَكَذَاكَ مَشْرُوْطٌ بِهَدْمِ قَوَاعِدٍ ... ما أنْزلَتْ بِبَيَانِهَا الوَحْيَانِ
وَكَذَاكَ مَشْرُوْطٌ بِإِقْدَامِ عَلَى الآرَاءِ ... إِن عَرِيَتْ عَنِ البُرْهَانِ
بِالرَّدِ وَالإِبْطَالِ لا تَعْبَأ بِهَا ... شَيْئًا إِذَا مَا فَاتَهَا النَّصَانِ
لَولا القَوَاعِدُ وَالقُيُودُ وهَذِهِ ... الآرَاءِ لاتَّسَعَتْ عَرَى الإِيْمَانِ
لَكِنَّها وَالله ضَيْقة العُرَى ... فاحْتَاجَتِ الأيْدِي لِذاكَ تَوانِ
وَتَعَطَّلَتْ من أَجْلِهَا وَالله أَعْدَادَ ... من النَّصَّيْنِ ذَاتِ بَيَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَقْيِيْدَ مُطْلَقِهَا وَإِطْلاقَ ... المُقَيَّدِ وَهو ذُو مِيْزَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَخْصِيْصَ مَا عَمَّتْهُ ... وَالتَّعْمِيْمَ لِلْمَخْصُوصِ بِالأَعْيَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَفْرِيْقَ ما جَمَعَتْ وَجَمْعًا ... لِلَّذِي وَسَمَتْهَ بالفُرْقُانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَضْيِيْقَ مَا قَدْ وَسَّعَتْهُ ... وَعَكْسُهُ فَلْتَنْظُرِ الأَمْرانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَحْلِيْلَ مَا قَدْ حَرَّمتْهُ ... وَعَكْسُهُ فَلْتَنْظُرِ النَّوعَانِ
سَكَتَتْ وكَانَ سُكُوتُها عَفْوًا فَلَمْ ... تَعف القَواعِدْ بِاتْسَاعِ بِطَانِ
وَتَضَمَّنَتْ إِهْدَارِ مَا اعْتِبُرَت كَذَا ... بِالعَكْسِ والأَمْرَانِ مَحْذُوْرَانِ(3/172)
وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا شُرُوطًا لَمْ تَكُنْ ... مَشْرُوطَةً شَرْعًا بِلا بُرْهَانِ
وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا مَوانِعَ لم تَكُنْ ... مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِلا تِبْيَانِ
إِلا بِأقِيْسَةٍ وَآرَاءٍ وَتَقْلِيْدِ ... بِلا عِلْمٍ أَو اسْتِحْسَانِ
عَمَّنْ أَتَتْ هَذِي القَوَاعِدُ ... مِن جَمِيْعِ الصَّحْبِ والاتْبَاعِ بِالإِحْسَانِ
مَا أَسَّسُوا إِلا اتْبَاعَ نَبِيْهِم ... لا عَقْلَ فَلْتَانٍ وَرَأْيَ فُلانِ
بِلا أَنْكَرُوا الآرَاءَ نُصْحًا مِنْهُم ... لله وَالدَّاعِي وَلِلْقُرْآنِ
أَوْ لَيْسَ فِي خُلْفٍ بِهَا وَتَنَاقُضٍ ... مَا دَلَّ ذَا لُبّ وَذَا عِرْفَانِ
وَالله لَوْ كَانَتْ مِن الرَّحمنِ ما اخْتَ ... لَفَتْ وَلا انْتَقَضَتْ مَدَى الأَزْمَانِ
شُبَه تَهَافَتْ كَالزُجَاجِ تَخَالُهَا ... حَقًّا وَقَدْ سَقَطَتْ عَلَى صِفْوَانِ
وَاللهِ لا يَرْضَى بِهَا ذُو هِمَّةِ ... عَلْيَاءَ طَالبةً لِهَذَا الشَّأنِ
فَمَنَالهَا والله فِي قَلْبِ الفَتَى ... وَثَبَاتُهَا في مَنْبَتِ الإِيْمَانِ
كالزَّرْعِ يَنْبُتُ حَوْلَهُ دَغَلٌ فَيَمْنَعُهُ ... النَّما فَتَرَاهُ ذا نُقْصَانِ
وَكَذِلكَ الإِيْمَانُ في قَلْبِ الفَتَى ... غَرْسٌ من الرَّحمنِ في الإِنْسَانِ
وَالنَّفْسُ تُنْبِتُ حَوْلَهُ الشَّهَواتِ ... والشُّبُهات وهي كَثِيْرةُ الأَفْنَانِ
فَيَعُودُ ذَاكَ الغَرْسُ يَبْسًا ذاوِيًا ... أو نَاقِصَ الثَّمَراتِ كُلَّ أَوَانِ
فَتَرَاهُ يَحْرِثُ دَائِبًا وَمَغَلُّهُ ... نَزْرٌ وَذَا مِن أَعْظَمِ الخُسْرَانِ
وَالله لَو نَكَشَ النَّبَاتُ وكان ذا ... بَصَرٍ لِذَاكَ الشَّوْكِ وَالسَّعْدَانِ
لأتَى كَأَمْثالِ الجِبَالِ مَغَلُّهُ ... وَلَكَانَ أَضْعَافًا بِلا حُسْبَانِ(3/173)
وقال رحمه الله تعالى:
يَا مَن يُريد وِلايةَ الرَّحمنِ دُوْنَ ... وِلايةَ الشَّيْطَان وَالأَوْثَانِ
فَارِقْ جَمِيْعَ النَّاسِ في إِشْرَاكِهِم ... حَتَّى تَنَالَ وِلايةَ الرحمنِ
يَكْفِيْكَ مَنْ وَسعَ الخَلائِقَ رَحْمَةً ... وَكِفَايَةً ذُو الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ
يَكْفِيْكَ مَنْ لَمْ تَخْلُ مِن إِحْسَانِهِ ... في طَرْفَةٍ كَتَلَقُّبِ الأَجْفَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلِ أَلْطَافُهُ ... تَأْتِي إِلِيْكَ بِرَحْمَةٍ وَحَنَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ فِي سَتْرِهِ ... وَيَرَاكَ حِيْنَ تَجِيءُ بِالعِصْيَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في حِفْظِهِ ... وَوِقَايةٍ مِنْهُ مَدَى الأَزْمَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في فَضْلِهِ ... مُتَقَلِبًا في السِّرِ والإِعْلانِ
يَدْعُوْهُ أَهْلُ الأَرْضِ مَع أَهْلِ السَّمَا ... ءِ فَكُلُّ يَوْمٍ رَبْنُا في شَانِ
وَهُوَ الكَفِيْلُ بِكُلِّ مَا يَدْعُونَهُ ... لا يَعْتَرِي جَدْوَاهُ مِن نُقْصَانِ
فَتَوَسُّطُ الشُفَعاءِ والشُّركَاءِ ... والظُهرَاءِ أَمْرٌ بَيَّنُ البُطْلانِ
آخر:
فَلا تَرْجُ إِلاَّ الله في كلِّ حَادِثٍ ... فَأَلْقِ إِليهِ بَثَّ شَكْوَاكَ تُحْمَدِ
لَهُ المُلْكُ بِالأَكْوَانِ لا بُمُؤَازِرِ ... وَلا بِنَصِيْرٍ في الدِّفَاعِ لِمُعْتَدٍ
قَرِيْبُ وَلَكِنْ بِالذُّنُوبِ تَبَاعَدَتْ ... مَسَائِلُنَا عن رَوْضِ إِحْسَانِهِ النَّدِي
فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا ... عَلَى مَا جَرَى وَارْفَعْ دُعَاءكَ يَصْعَدِ
وَقُمْ سَائِلاً وَالدَّمْعُ في الخَدِّ سَائِلٌ ... تَجِدْ مَا تَشَأ مِن لُطْفِهِ وَكَأنْ قَدْ
وَقُمْ زُلَفًا في اللَّيْلِ إِنْ نَشَرَ الدُّجَى ... جَنَاحَ غُدافٍ يُلْبِسُ الكَوْنَ عَن يَدِ(3/174)
وَرُدَّ ظَلامَ اللَّيْلِ بالذِّكْرِ مُشْرِقًا ... فَقَدْ فَازَ مَن بالذِّكْرِ يَهْدِي وَيَهْتَدِي
وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَرَ تَرْجُ نَفْعَهُمْ ... فَلا مُنْجِدٌ فِيْهِم يُرَجَّي لِمُجْتَدِ
فَإِنِّي تَتَبَعْتُ الأَنَامَ فلم أَجِدْ ... سِوَى شَامِتٍ أو حَاسِدٍ أو مُفَنِّدِ
وَقَدْ رَضَعُوا ثَدْي المَهَابَةِ كُلُّهُم ... وَكُلٌّ بِذَيْلِ الذُّلِ أَصْبَحَ مُرْتَدِ
فَلَمْ أَرَ أَرْمَى بالسِّهَامِ مِن الدُّعَا ... إلى مَقْتَل الأَعْدَاءِ مِن قَوْسِ مِذْوَدِ
وَعَن مَا قَلِيْلٍ يُدْرِكُ السَّهْمُ صَيْدَهُ ... فَكَمْ صَادَ سَهْمُ اللَّيْلِ مُهْجَةَ أَصْيَدِ
وَأُوْصِيْكَ بِالتَّقْوَى لِرَبِّكَ إِنَّهُ ... سَيَحْمِدُ تَقْوَاهُ المُوَّفُق في غَدِ
وَخُذْ لَكَ من دُنْيَاكَ زَادًا فَإِنَّمَا ... أَقَامَكَ في الدُّنْيَا لأَخْذِ التَّزَوُدِ
وَعَنْ مَا قَلِيْلٍ قَد أَنَاخَ رِكَابُنَا ... بِقَصْرِ خَلِيٍّ مُظْلِمِ الجَوِّ فَدْفَدِ
فَإِنَّ اللَّيَالِي كَالمَرَاكِبِ تَحْتَنَا ... تَرُوْحُ بِنَا في كُلَّ حِيْنٍ وَتَغْتَدِي
فَيَا حَبَّذَا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... تَحُطُّ رِحَالَ القَادِمِ المُتَزَوُّدِ
وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ ... يُبْلِغُنَا مِن فَضْلِهِ خَيْرَ مَقْعَدِ
شعرا:
غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوْتِ في أَثَرِي يَحْدُوْ ... فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ
أَنَعِّمُ جِسْمِيْ بِاللِّبَاسِ وَلِيْنِهِ ... وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ من لِبَاسِ البِلَى بُدُّ
كَأَنِّيْ بِهِ قَدْ مرَّ في بَرْزخِ البِلَى ... وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ... وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ
أَرى العُمْر قَدْ وَلَّى وَلَمْ أُدْرِك المُنَى ... وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وفي سَفَرِي بُعْدُ
وَقَدْ كُنْتُ جَاهرتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا ... وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِن الحَيَا ... وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرَي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُ(3/175)
بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِه ... وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحَمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوتِ وال ... بِلَى عَن اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ
عَسَى غَافِرُ الزَّلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِي ... فَقَدْ يَغْفِرُ المَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ
أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلاي عَهْدَهُ ... كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقْتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي ... وَنَارُكَ لا يَقْوَى لَهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الفَرْدُ عِنْدَ المَوْتِ والفَرْدُ في البِلَى ... وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ
آخر:
يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ ... كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيْمَانِ
وَاعْلَمْ بأنَّ الله خَالِقُكَ الذِي ... سَوَّاكَ لم يَحْتَجْ إلى إِنْسَانِ
خَلَقَ البَرِيَّةَ كُلَّهَا مِن أَجْلِ أَنْ ... تَدَعْوُهُ بِالإخْلاصِ وَالأَذْعَانِ
قَدْ أَرْسَلَ الآياتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا ... لِعَبَادِه كَي يُخْلِصَ الثَّقَلانِ
وَأَبَانَ لِلإنْسَانِ كُلَّ طَرِيْقَةٍ ... كَي لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي
ثُم اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا ... تَتَمَيَزُ التَّقْوَى عَن العِصْيَانِ
وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرتَكِ التِي ... لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيْقِ والإِيْمَانِ
وَبُلِيْتَ بالتَّكْلِيْفَ أَنْتَ مُخَيَّر ... وَأَمَامَك النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ
فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ ... مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَن الدَّيَانِ
ثُم انْقَضَى العُمْرُ الذِي تَهْنَا بِهِ ... وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفي نُقْصَانِ
وَدَنَا الفِرَاقُ ولاتَ حِيْنَ تَهْرَّب ... أَيْنَ المَفَرُ من القَضَاءِ الدَّانِي
وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُوْنَ بِحَسْرةٍ ... مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الحَدَثَانِ
واسْتَلِّ رُوْحَكَ وَالقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ ... حُزَنًا وَألْقَتْ دَمْعَهَا العَيْنَانِ(3/176)
فَاحْتَاجَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ ... وَاجْتَاحَ مِن حَضَرُوا مِن الجِيْرَانِ
فالبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيْبَةً ... وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ
والزَّوْجُ ثُكْلَى والصِّغَارُ تَجَمَعُوا ... يَتَطَّلَعُوْنَ تَطَلُعَ الحَيْرَانِ
والابنُ يَدْأبُ في جَهَازِكَ كَاتِمًا ... شَيْئًا مِن الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ
وَسَرَى الحَدِيْثُ وَقَدْ تَسَاءَلْ بَعْضُهُم ... أَوْ مَا سَمِعْتُم عَنْ وَفَاةِ فُلانِ
قَالُوا سَمِعْنَا والوَفَاةُ سَبِيْلُنَا ... غَيْرُ المُهَيْمِنِ كُلُّ شَيءٍ فَانِي
وَأَتَى الحَدِيْثُ لِوَارِثِيْكَ فَأَسْرَعُوا ... مِن كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الفَانِي
وَأَتَى المُغَسِّلُ والمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى ... لِيُجَلِلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ
وَيُجَرِّدُوْكَ مِن الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوْا ... عَنْكَ الحَرِيْرَ وَحُلَّةَ الكَتَّانِ
وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ ... مِن هَذِه الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ
وَأَتى الحَدِيْثُ لِوَارِثِيْكَ فَأَسْرَعُوا ... فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ العِيْدَانِ
صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ ... فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُ بِالأَحْزَانِ
حَتَّى إِلى القَبْرِ الذِي لَكَ جَهَّزُوا ... وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيْرِهِ بِحَنَانِ
وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُم ... لِلَّحْدِ كَي تُمْسِي مَع الدِّيْدَانِ
وَسَكَنَتْ لَحْدًا قَدْ يَضِيْقُ لِضِيْقِهِ ... صَدْرُ الحَلِيمِ وَصَابِرُ الحَيَّوانِ
وَسَمِعَتْ قَرْعَ نِعَالِهِم من بَعْدِ مَا ... وَضَعُوكَ في البَيْتِ الصَّغِيْرِ الثَّانِي
فِيهِ الظَّلامُ كَذا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ ... وَالرَّوْحُ رَدَّ وَجَاءَكَ المَلَكَانِ
وَهُنَا الحَقِيْقَةُ وَالمُحَقِقُ قَدْ أَتَى ... هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالخُذْلانِ
إِنْ كُنْتَ في الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا ... تَدْعُوْهُ بِالتَّوحِيْدِ والإِيْمَانِ
فَتَظَلُ تَرْفُلُ في النَّعِيْمِ مُرَفَهًا ... بِفَسِيْحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ(3/177)
وَلَكَ الرَّفِيْقُ عَن الفِرَاقَ مُسَلِيًّا ... يُغْنِي عن الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ
فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِن الجِنَانِ نَوَافِذٌ ... تَأْتِيْكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ
وَتَظَلُ مُنْشَرِحَ الفُؤادِ مُنَعَمًا ... حَتَّى يَقُومَ إلى القَضَا الثَّقَلانِ
تَأْتِي الحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتْ صَحِيْفَةً ... بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ
وَتَرَى الخَلائِقَ خَائِفِيْنَ لِذَنْبِهِم ... وَتَسِيْرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَانِ
وَيُظِلُكَ اللهُ الكريمُ بِظِلِّهِ ... وَالنَّاسُ في عَرَقٍ إِلى الآذَانِ
وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِيهِ صُعُوبَةٌ ... كَالبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ
فَتَرى الجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا ... وَتَرَى القُصُورَ رَفِيْعَةَ البُنْيَانِ
طِبْ في رَغِيْدِ العَيْشِ دُوْنَ مَشَقَّةٍ ... تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ
وَالبَسْ ثِيَابَ الخُلْدِ واشْرَبْ وَاغْتَسِلْ ... وَابْعِدْ عَنْ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ
سِرْ وانْظُرِ الأَنْهَارَ واشْرَبْ مَاءَهَا ... مِن فَوْقِهَا الأَثْمَارِ في الأَفْنَانِ
وَالشَّهْدُ جَارٍ في العُيُونِ مُطَهَرٌ ... مَع خُمْرَةِ الفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ
وَالزَّوْجُ حُورٌ في البُيُوتِ كَوَاعِبٌ ... بِيْضُ الوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَانِ
أَبكار شِبْهِ الدَّرِ في أَصْدَافِهِ ... وَاللؤُلُؤ المَكْنُونِ وَالمَرْجَانِ
وَهُنَا مَقَرٌ لا تَحُولَ بَعْدَهُ ... فِيْهِ السُّرُورِ برؤيَةِ الرَّحمنِ
أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيْهَا مُجْرِمًا ... مُتَتَبِعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ
ثَكِلَتْكَ أمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى ... أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ في لَظَى النِّيْرَانِ
فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وانْثَنَى ... حُمَّالُ نَعْشكَ جَاءَكَ المَلَكَانِ
جَاءَاك مَرْهُوْبَيْنِ مِن عَيْنَيْهِمَا ... تَرمى بِأَشواظٍ مِنَ النِّيْرَانِ
سَألاكَ عَن رَبٍّ قَدِيْرٍ خَالِقٍ ... وَعَن الذي قَد جَاءَ بِالقُرْآنِ(3/178)
فَتَقولُ لا أَدْرِي وَكُنْتَ مُصَدقًا ... أَقْوَالُ شِبْهِ مَقَالَةِ الثَّقَلانِ
فَيُوبُخِانِكَ بِالكَلام بِشِدَّةِ ... وَسَيْضَرِبَانِكَ ضَرْبِةَ السَّجَانِ
فَتَصِيْح صَيْحَةَ آسِفٍ مُتَوَجِعٍ ... وَيَجِي الشُّجَاعُ وَذَاكَ هَوْلٌ ثَانِي
وَيَجِي الرَّفِيْقُ فَيَا قَبَاحَة وَجْهِهِ ... فَكَأَنَّهُ مُتَمَردٌ مِن جَانَ
وَتَقُوْلُ يَا وَيْلا أَمَا لي رَجْعَةٌ ... حَتَّى أَحْلَّ بِسَاحَةِ الإِيْمَانِ
لَو عُدْتَ للدُنْيَا لَعُدْتَ لِمَا مَضَى ... في جَانِبِ التَّكْذِيْب والعِصْيَانِ
وأنشد بعضهم:
مُرَادُكَ أنْ يَتِمَّ لَكَ المُرَادُ ... وَتَرْكُضْ في مَطَالِبِكَ الجِيَادُ
وَتَمْضِي فِي أَوَامِرِكَ اللَّيَالِي ... فَلا يُعْصَى هَوَاكَ وَلا يَكَادُ
لَقَدْ مَلَكَتْ مُضْلاتُ الأَمَاني ... قِيَادَكَ فأغْتَدَيْتَ بِهَا تُقَادُ
أَلَمْ تَسْمَعْ بِذِي أَمَلٍ بَعِيْدٍ ... وَآمَالُ الفَتَى منها بِعَادُ
رَمَاهُ المَوتُ فَانْقَبَضَتْ إِلِيهِ ... أَمَانِيْهِ بِشَيءٍ لا يُرَادُ
وَيَلْقَاهُ بإِثر المَوتِ يَوْمٌ ... تَمِيْدُ لِهَولِهِ السَّبْعُ الشِّدَادُ
تُصَمُّ لِوَقْعِهِ الآذَانُ صَمًّا ... وَيَنْطِقُ مِنْ زَلازِلِهِ الجَمَادُ
فَكَمْ سَالَتْ هُنَالِكَ مِنْ دُمُوعٍ ... يُغَيَّرهُنَّ مِن دَمِهِ الفُؤادُ
آخر:
هُوَ الموتُ فَاصْنَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ صَانِعُ ... وَأَنْتَ لِكَأْسِ المَوتِ لابُدَّ جَارِعُ
ألا أَيُّهَا المَرْءُ المُخَادِعُ نَفْسَه ... رُوَيْدًا أَتَدْرِي مَن أَرَاكَ تُخَادِعُ
وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... سَتَتْرُكُها فانْظُرْ لِمَنْ أَنْتَ جَامِعُ(3/179)
فَكَمْ قَد رَأَيْتُ الجَامِعِيْنَ قَد أَصْبَحَ ... تْ لَهُم بَينَ أَطْبَاقِ التُّرَابِ مَضَاجِعُ
لَو أَنَّ ذَوِي الأَبْصَارِ يَرْعَونَ كُلمَّا ... يَرَوْنَ لَمَا جَفَّتْ لِعَيْنٍ مَدَامِعُ
طَغَى الناسُ مِن بَعْدِ النَّبِي مُحَمَّدٍ ... فَقَدْ دَرَسَتْ بَعْدَ النَّبي الشَّرَائِعُ
وَصَارَتْ بُطونُ المُرْملاتِ خَمِيْصَةً ... وَأَيْتَامُها منهم طَرِيدٌ وَجَائِعُ
وَإِنَّ بُطُونَ المُكْثِرينَ كَأَنَّمَا ... يُنَقْنِقُ في أَجْوافِهِنَّ الضَّفادِعِ
فَمَا يَعْرفُ العَطْشَانَ مِن طَالَ رَيُّهُ ... ولا يَعِرْفُ الشَّبْعَانُ مَن هُوَ جَائِعُ
وَتَصْرِيْفُ هَذَا الخلقِ للهِ وَحْدَهُ ... وَكُلٌّ إليه لا مَحَالَةَ رَاجِعُ
وَللهِ فِي الدُّنْيَا أَعَاجِيْبُ جَمَّةٌ ... تَدلُ عَلى تَدْبِيرِهُ وَبَدَائِعُ
ولله أَسرارُ الأُمُورِ وَإِنْ جَرَتْ ... بِهَا ظَاهِرًا بَيْنَ العِبَادِ المَنَافِعُ
ولله أَحكَامُ القضاءِ بِعِلْمِهِ ... أَلا فَهْوَ مُعْطٍ مَا يَشَاءُ وَمَانِعُ
إِذَا ضَنَّ مَن تَرْجُو عَلَيْكَ بِنَفْعِهِ ... فَدَعْهُ فإنَّ الرزقَ في الأَرْضِِ وَاسِعُ
وَمَن كانَتِ الدُّنيا مُنَاهُ وَهَمُّهُ ... سَبَتْهُ المُنَى واسْتَعْبَدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَن عَقَل اسْتَحْيَى وأكْرَمَ نَفْسَهُ ... وَمَن قَنِعَ اسْتَغْنَى فَهَلْ أَنْتَ قَانِعُ
لِكُلِّ امْرِئ رَأيان رَأيُ يَكُفُّهُ ... عَن الشَّرِ أَحْيانًا وَرَأيٌّ يُنَازِعُ
انتهى
آخر:
لَكَ الحَمْدُ وَالنَّعْمَاءُ وَالمُلْكُ رَبَّنَا ... وَلا شَيْءَ أَعْلا مِنْكَ مَجْدًا وَأَمْجَدُ
مَلِيْكٌ عَلَى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَقْدُرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ ... وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ
وَمَنْ لَمْ تُنَازِعْهُ الخَلائِقُ مُلْكَهُ ...(3/180)
وَإِنْ لَمْ تُفَرِّدْهُ العِبَادُ فَمُفْرَدُ
مَلِيْكُ السَّمَوَاتِ الشِّدَادِ وَأَرْضِهَا ... وَلَيْسَ بِشَيءٍ عَنْ قَضَاهُ تَأْوُّدُ
هُوَ الله بَارِى الخَلْقِ وَالخَلْقُ كُلُّهُمْ ... إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جَمِيْعًا وَأَعْبُدُ
وَأَنَّى يَكُوْنُ الخَلْقُ كَالخَالِقِ الذِي ... يُمِيْتُ وَيُحْيِي دَائِبًا لَيْسَ يَهْمَدُ
تَسْبِّحُهُ الطَّيْرُ الجَوَانِحُ فِي الخَفَا ... وَإِذْ هِيَ في جَوِّ السَّمَاءِ تُصَعِّدُ
وَمِنْ خَوْفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعْدُ فَوْقَنَا ... وَسَبَّحَهُ الأَشْجَارُ وَالوَحْشُ أَبَّدُ
وَسَبَّحَهُ النِّيْنَانُ والبَحْرُ زَاخِرًا ... وَمَا طَمَّ مِنْ شَيءٍ وَمَا هُوَ مُقْلَدُ
أَلا أَيُّهَا القَلْبُ المُقِيْمُ عَلَى الهَوَى ... إِلى أَيِّ حِيْنٍ مِنْكَ هَذَا التَّصَدُّدُ
عَنْ الحَقِّ كَالأَعْمَى المُمِيْطِ عَنْ الهُدَى ... وَلَيْسَ يَرُدُّ الحَقَّ إِلا مُفَنِّدُ
وَحاَلاتُ دُنْيًا لا تَدُوْمُ لأهْلِهَا ... فَبَيْنَ الفَتَى فِيْهَا مَهِيْبٌ مُسَوَّدُ
إِذَا انْقَلَبَتْ عَنْهُ وَزَالَ نَعِيْمُهُا ... وَأَصْبَحَ مِن تُرْبِ القُبُوْرِ يُوَسَّدُ
وَفَارَقَ رَوْحًا كَانَ بَيْنَ جِنَانِهِ ... وَجَاوَرَ مَوْتَى مَا لَهُمْ مُتُرَدَّدُ
فَأَيُّ فَتى قَبْلِي رَأَيْتَ مُخَلَّدًا ... لَهُ في قَدِيمِ الدَّهْر مَا يَتَوَدَّدُ
فَلَمْ تَسْلَمْ الدُّنْيَا وإن ظَنَّ أَهْلُهَا ... بِصِحَّتِهَا والدَّهْر قَدْ يَتَجَرَّدُ
أَلَسْتَ تَرَى فِيْمَا مَضَى لَكَ عِبْرَةً ... فَمَهْ لا تَكُن يَا قَلْبُ أَعْمَى يُلَدَّدُ
فَكُنْ خَائِفًا لِلْمَوتِ والبَعْثِ بَعْدَهُ ... وَلا تَكُ مِمَّنْ غَرَّه اليَوْمُ أَوْ غَدُ
فَإِنَّكَ في دُنْيَا غَرُوْرٍ لأَهْلِهَا ... وَفِيْهَا عَدُوٌّ كَاشِحُ الصَّدْرِ يُوْقِدُ
انتهى.(3/181)
شعرا:
لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالوَادِي المَرِيْعِ ... تَشُبُّ بِهِ تَبِارِيْحَ الضُلُوعِ
عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُوْ ... عَلَى أَعْطَافِهَا وَشيءُ الرَّبِيْعِ
تُرَدِدُ صَوْتَ بَاكِيَةٍ عَلَيها ... رَمَاهَا المَوتُ بِالأَهْلِ الجَمِيْعِ
فَشَتَّتَ شَملَهَا وَأَدَالَ منه ... غَرَامًا عَاثَ في قَلْبٍ صَرِيْعِ
عَجِبْتُ لَهَا تَكَلَّمُ وهي خَرِسَا ... وَتَبْكِي وَهْيَ جَامِدَةُ الدُّمُوْعِ
فَهِمْتُ حَدِيْثَهَا وَفَهِْتُ أَنِّي ... مِن الخُسْران في أَمْرٍ شَنِيْعِ
أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيْسًا ... وَتَشْربُ منه بِالكَأْسِ الفَظِيْعِ
وَها أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي ... وَتَضْيِيْعِ الحَياة مَعَ المُضِيْعِ
وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ اليَوْمَ أَمْرِي ... لأَرْسَلْتُ المَدامِعَ بِالنَّجِيْعِ
أَلا يَا صَاحِ والشَّكْوَى ضُرُوْبٌ ... وَذِكْرُ المَوتِ يَذْهَبُ بِالهُجُوْعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيْرَ أَخَاكَ دَمْعًا ... فَمَا في مُقْلَتَيْهِ مِن الدُمُوعِ
آخر:
مثل وُقُوفَكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا ذَلِيْلاً وَالحِسَابُ عَسِيْرُ
وَتَعَلَّقَتْ فِيْكَ الخُصُومُ وَأَنْتَ في ... يَوْمِ الحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الجُنُودُ وَأَنْتَ في ... ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسّدٌ مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيْتَ وِلايَةً ... يَوْمًا ولا قَالَ الأَنَامُ أَمِيْرُ
وَبَقِيْتَ بَعْدَ العِزِ رَهْنَ حَفِيْرَةٍ ...(3/182)
في عَالَمِ المَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيْرُ
وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا ... قَلِقًا وَمَا لَكَ في الأنَامِ مُجَيْرُ
أَرَضِيْتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ ... عَافِي الخَرَابَ وَجِسْمُكَ المَعْمُوْرُ
أَرَضِيْتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ ... أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ المَعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو العُوْرُ
انتهى
آخر:
تَبَيَّنَ ثَغْرُ الفَجْرِ لِمَا تَبَسَّمًا ... فَسُبَحانَ مَنْ في الذِّكْرِ بِالفَجْرِ أَقْسَمَا
فَصَلِ عَلَى المَبْعُوْثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... عَسَى شَمُلتنا أَو لَعَلَّ وَرُبَّمَا
كَما شَمَلَتْ آلَ الرسُولِ وَصَحْبِهِ ... فَاكرمْ بِهِمْ آلا وَصَحْبًا وَأَعظِمَا
أَتَى بالهُدَى نُورًا إِلينا وَنِعْمَةً ... وَقَدْ كَانَ وَجهُ الكَوْنِ بِالشِّرْكِ مُظْلِمَا
فَجَلَّى بِأَنْوارِ الهُدَى كُلَّ ظُلْمَةٍ ... وَأَطْلَعَ في الآفَاقِ لِلْدِيْن أَنْجُمَا
أَتَى بِكِتَابٍ أَعْجَزَ الخلقَ لَفْظُهُ ... فَكلُّ بَلِيْغ عُذْرُهُ صَارَ أَبْكَمَا
تَحَدَّى بِهِ أَهْلَ البلاغَةِ كُلَّهم ... فلم يَفْتَحوا فِيْمَا يُعَارِضُهُ فَمَا
حَوَى كُلَّ بُرهَانٍ عَلى كُل مَطْلَب ... وَيَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ أَفْهَمَا
وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ عَوَاقِبَ مَن عَصَى ... بِأَنْ لَهُ بَعْدَ المَمَاتِ جَهَنَّمَا
وَعَمَّنْ أَطَاعَ الله أَنَّا لَه غَدًا ... نَعِيْمًا بِه مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ كُلَّمَا
مُحَمَّدٌ المَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَليهِ مَا حَييْتَ مُسَلِّمَا
وَأَسَرى به نَحْوَ السَّمَواتِ رَبُّه ... وَأَرْكَبَهُ ظَهْرَ البُرَاقِ وَأَكْرَمَا
وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُها لِصُعُودِه ...(3/183)
فَمَا زَالَ يَرْقَي مِن سَمَاءٍ إلى سَمَا
وَلاقَى بِهَا قَوْمًا مِنَ الرُّسل كُلِّهم ... يَقُولُ لَه يَا مَرْحَبًا حِيْنَ سَلَّمَا
وَكانَ بِه فَرْضُ الصَّلاةِ وَحَبَّذَا ... تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الكَلِيْمِ مُكَلِّمَا
وَصَيَّرَهَا مِن بعَدْ ِخَمْسِيْنَ خَمْسَةً ... فُرُوْضًا وَأَمْر الله قَدْ كَانَ مُبْرَمًا
وَعَادَ إلى بَيْتِ أُمِّ هَانِئ مُخْبرًا ... لَهَا بِالذِي قَدْ كَانَ مِنْهُ وَمُعْلِمَا
فَخَافَتْ عَلِيْهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ المَلا ... وَيَزْدَادُ مَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ عَمَى
فَجَاءَ إِلى البَيْتِ العَتِيْقِ فَأَخْبَر الـ ... عِبَادَ فَمِنْهُم مَنْ بِتَكْذِيْبِهِ رَمَى
وَكَانَ بِه الصِّدِّيقُ خَيرَ مُصدِّقٍ ... فَصَدَّقَ خَيرَ الرُّسْلِ فِي خَبَرِ السَّمَا
مُحَمَّدًا المَبْعُوثَ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَلِيهِ مَا حَييتَ مُسَلِّمَا
وَقُمْ حَامِدًا لله فِي كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ حَمْدَهُ في يَومِ حَشْرِكَ مَغْنَمَا
وَصَل عَلى المَبْعوثِ لِلْخَلقِ رَحْمَةً ... مُحَمَّدٍ المُخْتَارِ وَالآلِ كُلَّمَا
سَرَى البَرْقُ مِنْ أَرْجَاءِ مَكْةَ أَوْ سَرَى ... نَسِيْمٌ عَلَى زَهْرِ الرُّبَى مُتَبَسِّمَا
ورَضَّى عَلَى الأَصْحَابِ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ ... وَكُن لَهُمُ في كُلِّ حِيْنٍ مُعَظِّمًا
انتهى.
ومما قيل في الحث على التمسك بالقرآن الكريم ما قاله الصنعاني:
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إِلا كَمَا تَرَى ... فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الاغْتِرَابُ إِيَابُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّاجِي سَلامَةَ دَيْنِهِ ... سِوَى عُزْلةٍ فِيْهَا الجَليسُ كِتَابُ
كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العلومِ وَكُلَّمَا ... حَوَاهُ مِن العلمِ الشَّريفِ صَوابُ
فَإِنْ رُمْتَ تَارِيْخًا رَأَيْتَ عَجَائِبًا ... تَرَى آدَمًا إِذْ كَانَ وَهْوَ تُرَابُ
وَلاقَيْتَ هَابِيلاً قَتِيْلَ شَقِيْقِهِ ...(3/184)
يُوارِيْهِ لَمَّا أَنْ أَرَاهُ غُرابُ
وَتَنْظُرُ نَوحًا وَهْوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى ... عَلَى الأرضِ مِن مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ
وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ ... وَمَا قَالَ كُُلُّ مِنْهُمُو وَأَجَابُوا
وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيْمَها ... وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِيْنَ عَذَابُ
فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِه ... لِكُلِّ شَقِي قَد حَوَاهُ عِقَابُ
وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقِلْتَهُ ... فإنَّ دُموعَ العَيْنِ عَنْهُ جَوَابُ
تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِن كُلِّ مَشْرَبٍ ... وَلِلروحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ
وَإِنْ رُمْتَ إِبْرَازَ الأَدْلَّةِ في الذِي ... تُرِيْدُ فَمَا تَدْعُو إِليهِ تُجَابُ
تَدُلُّ عَلَى التَّوحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ ... بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ
وما مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيْلُهُ ... وَلَيْسَ عَلِيْهِ لِلْذَّكِي حِجَابُ
وَفِيهِ الدَّواء من كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِه ... فوالله ما عنه يَنُوبُ كِتَابُ
يُرِيْكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيْمًا وَغَيْرُه ... مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلُّها وَشِعَابُ
يَزِيْدُ عَلَى مَرِّ الجَدِيْدِيْنِ جَدَّةً ... فَأَلْفَاظُه مَهْمَا تَلَوْتَ عِذَابُ
وآياتُهُ في كُلِّ حِيْنٍ طريَّةٌ ... وَتَبْلغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهْيَ كِعَابُ
وفيه هُديً لِلْعَامِلينَ وَرَحْمَةٌ ... وَفِيهِ عُلومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ.(3/185)
فصل
ثم اعلم وفقنا الله وإياك للاستعداد لما أمامنا من الأهوال والشدائد والكروب والأمور المزعجات.
إنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولاتعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولاتربص إلا له.
وحقيق بالعاقل أن يعد نفسه من الموتى ويراها من أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب قال الله جل وعلا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} وقال تبارك وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقال - صلى الله عليه وسلم - "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" الحديث.
واعلم أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام ونسيانك أخرى الليالي والأيام، لكان والله لأهل اللذات مكدرا، ولأصحاب النعيم منغصا ومغيرا، ولأرباب العقول الراجحة عن الرغبة في هذه الدار زاجرا ومنفرا، وللمنهمك في الدنيا وزخارفها منذرا ومزعجا ومحذرا.
قال مطرف بن الشخير: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فأطلبوا نعيما لا موت فيه، فكيف ووراءه يوم يعد فيه الجواب وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب.
وَلَمْ يَمْرُرْ بِهِ يَوْمٌ فَظِيْعٌ ...(3/186)
أَشَدَّ عَلَيهِ مِن يَوْمِ الحِمَامِ
وَيَوْمُ الحَشْرِ أَفْظَعُ مِنْهُ هَولاً ... إِذَا وَقَفَ الخَلائِقِ بِالمَقَامِ
فَكَمْ مِنْ ظَالِمِ يَبْقَى ذَليلاً ... وَمَظْلُومٍ تَشَمَّرَ لِلْخِصَامِ
وَشَخْصٍ كَانَ في الدُّنْيَا فَقِيْرًا ... تَبَوَّأ مَنْزِلَ النُّجْبِ الكِرَامِ
وَعَفْوُ اللهِ أَوْسَعُ كُلِّ شَيءٍ ... تَعَالَى الله خَلاقُ الأَنَامِ
ومن كلام بعضهم: يا ابن آدم لو رأيت ما حل بك وما أحاط بأرجائك لبقيت مصروعا لما بك، مذهولا عن أهليك وأصحابك.
يا ابن آدم أما علمت أن بين يديك يوما يصم سماعه الآذان، ويشيب لروعه الولدان، ويترك فيه ما عز وما هان، ويهجر له الأهلون والأوطان.
يا ابن آدم أما ترى مسير الأيام بجسمك، وذهابها بعمرك، وإخراجها لك من سعة قصرك إلى مضيق قبرك، وبعد ذلك ما لذكر بعضه تتصدع القلوب، وتنضج له الجوانح وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يئوب ويود الرجعة وأنى له المطلوب.
قال جلا وعلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] وقال تبارك وتعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقال تبارك وتعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} ، وقال عز من قائل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} وقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ(3/187)
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} وقال: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، وقال جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
شعرا:
لأَمْرِ مَا تَصَدَّعَتِ القُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيْبُ
وَبَاتَتْ في الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِن خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيْبُ
وَمَا خَفَّ اللَّبِيْبُ لِغَيْر شَيءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأَرِيْبُ
ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُوْمَا ... فَرُبَّتَ لائِمٍ فيه يَحُوبُ
رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيهِ ... مُرُوْرَ الرِّيْحِ يَدْفَعُهَا الهَبُوبُ
وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيهِ إِلا ... وَمِن جُثْمانِهِ فِيهِ نَصِيْبُ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الوِلْدَانُ مِن رَوْعِ تَشِيْبُ
وَهَذَا المَوتُ يِدُنِيْهِ إِليهِ ... كَمَا يُدْني إِلى الهَرَمِ المَشَيْبُ
مَقَامٌ تُسْتَلذُ بِهِ المَنَايَا ...(3/188)
وَتُدْعَي فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيْبُ
وَمَاذَا الوصْفُ بَالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِي الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيْبُ
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
واعلم أن الموت لن يمنعه منك مانع ولا يدفعه عنك دافع وإن فيه لزاجر للبيب، وشغلا للأريب، ومنبهة للنائم وتنشيطا للمستيقظ
وأنه للطَّالب المدرك، والمتبع اللاحق، والمغير الذي يبعث الطليعة، ويعجل الرجعة، ويسبق النذير العريان، لا يرده باب الحديد الشديد، ولا يمنع عنه البرج العالي المشيد، ولا الجيش اللجب العرمرم، ولا البلد البعيد.
وذكر أحد العلماء أن جبارا من الجبابرة من بني إسرائيل جالس في منزله قد خلا ببعض أهله إذ نظر إلى شخص قد دخل من باب بيته فثار إليه فزعا مغضبا فقال له من أنت ومن أدخلك على داري فقال أما الذي أدخلني عليك الدار فربها وأما أنا فأنا الذي لا يمنع مني الحجاب ولا استأذن على الملوك ولا أخاف صولة السلاطين ولا يمتنع مني كل جبار عنيد ولا شيطان مريد.
قال فسقط في يد الجبار وارتعد حتى سقط على الأرض منكبا على وجه ثم رفع رأسه إليه متحيرا متذللا فقال له: أنت إذًا ملك الموت قال أنا: هو قال فهل أنت ممهلي حتى آخذ عهدا.(3/189)
قال هيهات انقطعت مدتك وانقضت أنفاسك ونفدت ساعاتك فليس إلي تأخيرك سبيل قال فإلى أين تذهب بي قال إلى عملك الذي قدمته وإلى بيتك الذي مهدته.
قال فإني لم أقدم عملا صالحا ولم أمهد حسنا. قال فإلى {لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} فسقط مغشيا عليه. فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال اهـ.
ومات أحد الشجعان فجأة بسكتة قلبية فأنشدت الأبيات التي تلي فيه، فيها عبرة فتدبرها وخذ منها درسا للاستعداد لما أمامك.
وَمُجَرِّرٍ خَطِّيَّةً يَوْمَ الوَغَي ... مُنْسَابَة مِن خَلْفِهِ كَالأَرْقَمِ
تَتَضَاءَلُ الأَبْطَالُ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَبِيْتُ مِنهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ
شَرِسُ المَقَادَةِ لا يَزَالُ رَبِيْئَةٌ ... وَمَتَى يُحَسُّ بنارِ حَرْبٍ يُقْدِمِ
تَقَعُ الفَرِيْسَةُ مِنْهُ في فَوْهَاءَ إِنْ ... يُطْرَحْ بِهَا صُمُّ الحِجَارَةِ يُحْطَمِ
ظَمَآنَ لِدَّمِ لا يَقُومُ بِريِّهِ ... إِلا المُرَّوقُ في الجُسُومِ مِن الدَّمِ
جَاءَتْهُ مِن قَبْلِ المَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيْعًا لِلْيَديْنِ وَلِلْفَمِ
وَرَمَى بِمُحْكَمِ دِرْعَهِ وَبُرمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مُلْقى كَالبَعِيْرِ الأَعْظَمِ
لا يَسْتَجِيْبُ لِصَارِخٍ إِنْ يَدْعُهُ ... أَبَدًا وَلا يُرْجَى لِخَطْبٍ مُعْظَمِ
ذَهَبَتْ بِسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَأَى خَيْلَ المَنِيَّةِ تَرْتَمِي
يَا وَيْحَهُ مِن فَارِسٍ مَا بَالُهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوْسَتُهُ وَلَمَّا يُكْلَمِ
هَذِي يَدَاهُ وَهَذِه أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ
هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَي مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمَشْرَفِيِّ وَلا السِّنَانِ اللَّهذَمِ
هِي وَيْحَكُمْ أَمْرُ الإِلهِ وَحُكْمُهُ ...(3/190)
وَاللهُ يَقْضِيْ بِالقَضَاءِ المُحْكَمِ
يَا حَسْرةً لَو كَانَ يُقدَرُ قَدْرُهَا ... وَمُصيْبَة عَظَمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمِ
خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا في حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ
ومن ما ينسب للإمام علي رضي الله عنه:
أَحُسَيْنُ إِنِّي وَاعِظٌ وَمَؤَدِّبُ ... فَافْهَمْ فَإِنَّ العَاقِلَ المُتَأَدِّبُ
وَاحْفَظْ وَصِيَّةَ وَالدِ مُتَحَنِّنِ ... يَغْذُوْكَ بِالآدَابِ كَلا تَعْطَبُ
أَبُنَيَّ إِنَّ الرَّزِقَ مَكْفُوْلٌ بِهِ ... فَعَلَيْكَ بِالإجْمَالِ فِيمَا تَطْلُبُ
لا تَجْعَلَنَّ المَالَ كَسْبَكَ مُفْردَا ... وَتُقَى إِلهكَ فَاجْعَلَنْ مَا تَكْسِبُ
كَفَلَ الإِلَهُ بِرِزْقِ كُلِّ بَرِيَّةٍ ... وَالمَالُ عَارِيَةٌ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ
وَالرِّزْقُ أَسْرَعُ مِن تَلَفُتِ نَاظِرٍ ... سَبَبًا إِلى الإِنْسَانِ حِيْنَ يُسبَّبُ
وَمِنْ السُيُولِ إِلى مَقَرِّ قَرَارِهَا ... وَالطَّيْرِ لِلأَوْكَارِ حِيْنَ تَصَوَّبُ
أَبُنَّيَ إِنَّ الذِّكْرَ فِيهِ مَوَاعِظٌ ... فَمَنْ الذِي بِعِظَاتِهِ يَتَأَدَّبُ
اقْرأ كِتَابَ الله جَهْدَكَ وَاتْلُهُ ... فِيْمَنْ يَقُوْمُ به هُنَاكَ وَيَنْصِبُ
بِتَكَرُرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِنْدَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاعْبُدْ إِلهكَ ذَا المَعَارِج مُخْلِصًا ... وَأَنْصِتْ إِلى الأَمْثَالِ فِيْمَا تُضْرَبُ
وَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ مُخْشِيَةٍ ... تَصِفُ العَذَابِ فَقِفْ وَدَمْعُكَ يَسْكُبُ
يَا مَن يُعَذِبُ مَن يَشَاءُ بِعَدْلِهِ ... لا تَجْعَلِّنِي في الذِينَ تُعَذِّبُ
إِنِّي أَبُوْءُ بِعَثْرَتِي وَخَطِيْتِي ... هَرَبًا وَهَلْ إِلاَّ إِليْكَ المَهَربُ
وَإِذَا مَرَرْتَ بآيَةٍ في ذِكْرِهَا ... وُصِفَ الوَسِيْلةُ وَالنَّعِيْمُ المُعْجِبُ
فَاسْأَلْ إِلهكَ بِالإِنَابَةِ مُخْلِصًا ... دَارَ الخُلُودِ سُؤال مَن يَتَقَرَّبُ
وَاجْهَدْ لَعَلَّكَ أَنْ تَحِلَّ بِأَرْضِهَا ...(3/191)
وَتَنَالَ رَوْحَ مَسَاكِنٍ لا تَخْرَبُ
وَتَنَالَ عَيْشًا لا انْقِطَاعَ لِوَقْتِهِ ... وَتَنَالَ مُلْكَ كَرَامةِ لا تُسْلَبُ
بَادِرْ زَمَانَكَ إِنْ هَمَمْتَ بِصَالِحٍ ... خَوْفَ الغَوَالِب إِذْ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ
وَإِذَا هَمَمْتَ بِسَيئٍ فَاغْمِضْ لَهُ ... وَتَجنَّبِ الأَمْرِ الذِي يُتَجَنَّبُ
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْصَّدِيْقِ وَكُنْ لَهُ ... كَأَبٍ عَلَى أَوْلادِهِ يَتَحَدَّبُ
وَالضَّيْفَ أَكْرِمْ مَا اسْتَطَعْتَ جِوَارَهُ ... حَتَّى يَعُدُّكَ وَارِثًا يُتَنَسَّبُ
وَاجْعَلْ صَدِيْقَكَ مَن إِذَا آخَيْتَهُ ... حَفِظ الإِخَاءَ وَكَانَ دُوْنَكَ يَضْرِبُ
وَاطْلُبْهُمُوْا طَلَبَ المَرِيْضِ شِفَاءَهُ ... وَدَعِ الكَذوْبَ فَلَيْسَ مِمَّنْ يُصْحَبُ
وَاحْفَظْ صَدِيْقَكَ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا ... وَعَلَيْكَ بِالمَرْءِ الذِي لا يَكْذبُ
وَاقْلِ الكَذُوْبَ وقُرْبَهُ وَجِوَارَهُ ... إِنَّ الكَذُوْبَ مُلَطِّخٌ مَن يَصْحَبُ
يُعْطِيْكَ مِن فَوْقِ المُنَى بِلِسَانِهِ ... وَيَرُوْغ عَنْكَ كَمَا يَروغُ الثَّعْلَبُ
وَاحْذَرْ ذَوِي المَلْقِ اللِّئَامِ فَإِنَّهُم ... في النَّائِبَاتِ عَلَيْكَ مِمَّنْ يَحْطِبُ
يَسْعَوْنَ حَوْلَ المَرْءِ مَا طَمِعُوا بِهِ ... وَإِذَا نَبَا دَهْرٌ جَفَوْا وَتَغَلَّبُوا
وَلَقَدْ نَصَحْتُكَ إِنْ قَبِلْتَ نَصِيْحَتِي ... وَالنُّصْحُ أَرْخَصُ مَا يُبَاعُ وَيُوْهَبُ
آخر:
حيلُ البِلَى تَأْتِي عَلَى المُحْتَالِ ... وَمَسَاكِنُ الدُّنْيَا فَهُنَّ بَوَالِ
شُغِلَ الأُلي كنَزُوا الكُنوزَ عَن التُّقى ... وَسَهَو بِبَاطِلِهِم عَنِ الآجَالِ
سَلِّم عَلَى الدُّنْيَا سَلامَ مُودِّعٍ ... وَارْحَلْ فَقَدْ نُودِيتَ بالتِّرْحالِ
مَا أَنْت يَا دُنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... مَا زِلْتِ يَا دُنْيا كَفَيءِ ظِلالِ
وَخَفَفْتِ يَا دُنْيا بِكُلّ بَلِيِّةٍ ... وَمُزِجْتِ يَا دُنْيَا بِكُلِّ وَبَالِ
قَدْ كُنْتِ يَا دُنْيا مَلَكْتِ مَقادَتِي ...(3/192)
فَقَرَيْتِيني بوَساوِس وَخَبَالِ
حَوَّلْتِ يَا دُنْيَا جَمَالَ شَبِيْبَتِي ... قُبْحًا فَماتَ لِذَاكَ نُورُ جَمَالِي
غَرَسَ التَّخَلُّصُ مِنكِ بَيْنَ جَوانِحِي ... شَجَرَ القَنَاعَةِ والقَنَاعةُ مَالِي
الآنَ أَبْصَرْتُ الضَلالَةَ وَالهُدَي ... والآنَ فِيْكَ قَبِلْتُ مِن عُذَّالِي
وَطويْتُ عَنْكِ ذُيُولَ بُرْدَيْ صَبْوَتِي ... وَقَطَعْتُ حَبْلَكِ مِن وِصَالِ حِبَالِي
وَفَهِمْتُ مِن نُوَبِ الزَّمانِ عِظَاتِهَا ... وَفَطِنْتُ لِلأَيَامِ وَالأَحْوَالِ
وَمَلَكْتُ قَوْدَ عِنانِ نَفْسِي بالهُدى ... وَطَوَيْتُ عَن تَبْعِ الهَوَى أَذْيَالِي
وَتَنَاوَلْت فِكْري عَجَائِبُ جَمَّةٌ ... بِتَصَرُّفٍ فِي الحالِ بَعْدَ الحالِ
لَمَّا حَصلتْ عَلى القَنَاعةِ لَم أَزَلْ ... مَلِكًا يَرَى الإِكْثَار كالإِقْلالِ
إِنَّ القَنَاعةَ بِالكِفَافِ هِيَ الغِنَى ... والفَقْرُ عَينُ الفَقْرِ في الأَمْوَالِ
مَن لَم يَكُنْ فِي اللهِ يَمَنَحُكَ الهَوَى ... مَزَجَ الهَوَى بِمَلالَةٍ وَثِقالٍ
وَإِذَا ابْنُ آدَمَ نَالَ رِفْعَةَ مَنْزِلٍ ... قُرِنَ ابْنُ آدَمَ عِنْدَها بسِفَالِ
وإذا الفَتَى حَجَبَ الهَوَى عَن عَقْلِه ... رَشَدَ الفَتَى وَصَفَا مِن الأَوْحَالِ
وإذا الفَتَى لَزِمَ التَّلَوُّنِ لَمْ يَجِدْ ... أَبَدًا لَهُ، في الوَصْلِ طعمَ وِصَالِ
وَإِذَا تَوَازَنَتِ الأُمُورِ لِفَضْلِهَا ... فَالدِّينُ مِنْهَا أَرْجَحُ المِثْقَالِ
أَمْسَتْ رِيَاضُ هُداكَ مِنْكَ خَوَالِيًا ... وَرِيَاضُ غَيِّكَ مِنْكَ غَيرُ خَوَالِ
قَيِّدْ عَنِ الدُّنْيَا هَوَاكَ بِسَلْوَةٍ ... وَاقْمَعْ نَشَاطَكَ فِي الهَوَى بِنَكالِ
وَبِحَسْبِ عَقْلِكَ بالزَّمانِ مُؤدِّبًا ... وَبِحْسِبِه بِتَقَلُّبِ الأَحْوالِ
بَرِّدْ بيأسِكَ عَنْكَ حُرَّ مَطَامِعٍ ... قَدَحَتْ بِعَقْلِكَ أَثْقَبَ الأَشْعَالِ
قَاتِلْ هَوَاكَ إِذَا دَعَاكَ لِفِتنَةٍ ... قَاتِلْ هَوَاكَ هُنَاكَ كُلَّ قِتالِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ بَطَلاً إِذَا حميّ الوَغَي ...(3/193)
فَاحْذَرْ عَلَيْكَ مَوَاقِفَ الأَبْطَالِ
اخْزَنْ لِسَانَكَ بالسُّكوتِ عَنِ الخَنَى ... وَاحْذَرْ عَلَيْكَ عَوَاقِبَ الأَقْوَالِ
وَإِذَا عَقَلْتَ هَوَاكَ عَن هَفَوَاتِهِ ... أَطْلَقْتَهُ مِن شِيْنِ كُلِّ عِقَالِ
وَإِذَا سَكَنْتَ إِلى الهُدَى وَأَطَعْتَهُ ... أُلْبِسْتَ حِلَّةَ صَالحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا طَمِعْتَ لَبِسْتَ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ ... إِنَّ المَطَامِعَ مَعْدِنُ الإِذْلالِ
وَإِذَا سَحَبْتَ إِلى الهَوَى أَذْيَالَهُ ... كَسَبَتْ يَداكَ مَوَدَّةَ الجُهَالِ
وَإِذَا حَلَلْتَ عَنْ اللِّسانِ عِقَالَهُ ... أَلقَاك مِن قِيْلٍ عَلَيْكَ وَقَالِ
وَإِذَا ظَمِئْتَ إِلى التُّقَى أَسْقَيْتَهُ ... مِنْ مَشْرَبٍ عَذْبِ المَذاقِ زُلالِ
وَإِذَا ابْتُليتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلاً ... فَابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرّمِ المِفْضَالِ
إِن الشَّرِيفَ إِذَا حَباكَ بِوَعْدِهِ ... أَعْطَاكَهُ سَلِسًا، بِغَيرِ مِطالِ
مَا اعْتَاضَ باذِلُ وَجْهِهِ بِسُؤالِهِ ... عِوضًا وَلَوْ نَالَ الغِنَى بِسُؤالِ
عَجَبًا عَجِبْتُ لِمُوْقِنِ بِوَفَاتِهِ ... يَمْشِيِ التَّبَخْتُرَ مِشْيَةَ المُخْتَالِ
رَجَّ العُقُولَ الصَّافِياتِ فإنها ... كَنْزُ الكُنُوزِ وَمَعْدِنُ الإِفْضَالِ
صَافِ الكِرَامَ فإنها أَهْلُ النُّهَى ... وَاحْذَرْ عَلَيْكَ مَوْدَةَ الأَنْذَالِ
صِلْ قاطِعيكَ وَحَارِمِيكَ وَأَعْطِهِم ... وَإِذَا فَعَلْتَ فَدُم بِذَاكَ وَوَالِ
وَالمَرءُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي قَوْلِهِ ... حَتَّى يُزَيِّنَ قَوْلَهُ بِفَعالِ
وَلَرُبَّما ارْتَفَعَ الوَضِيعُ بِفِعِلهِ ... وَلَرُبَّما سَفَلَ الرَّفيعُ العَالِي
كَمْ عِبْرَةٍ لِذَوي التَّفَكُّرِ والنُّهَى ... في ذا الزَّمانِ وَذَا الزَّمَانِ الخَالِي
كَمْ مِن ضَعِيْفِ العَقْلِ زَيَّنَ عَقْلَهُ ... مَا قَدْ رَعَى وَوَعَي مِنَ الأَمْثَالِ
كَمْ مِنْ رِجَالٍ فِي العُيونِ وَمَا هُمُ ... في العَقْلِ إِنْ كَشَفَّتَهُم بِرِجَالِ(3/194)
آخر:
إِنِّي أرِقتُ وَذِكْرُ المَوتِ أَرَّقَني ... وَقُلتُ لِلْدَّمْعِ: أَسْعِدْنِي فَأَسْعَدَنِي
يَا مَنْ يَمُوتُ فَلَمْ يَحزَنْ لِمِيْتَتِهِ ... وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَوْلاهُ بِالحزَنِ
تَبْغِي النَّجاةَ مِنَ الأَحْدَاثِ مُحْتَرسًا ... وَإِنَّما أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ
يَا صَاحبَ الرُّوحِ ذِي الأَنْفَاسِ في البدن ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ مُرْتَهَنِ
لَقَلَّمَا يَتَخَطَّاكَ اخْتَلافُهُمَا ... حَتى يُفَرِّقَ بَيْن الرُّوحِ وَالبَدَنِ
طِيبُ الحَيَاةِ لمن خَفَّت مَؤونَتُهُ ... وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثْقَالِ وَالمُؤنِ
لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ ... كَأنَّ من قد قَضَى بِالأَمْسِ لم يَكُنِ
وَإِنَّمَا المَرْءُ في الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ ... سَائِلْ بِذَلِكَ أَهْلَ العِلْمِ وَالزَّمنِ
مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ للمُلْقي بِعبرتِهِ ... بَينَ التَّفَكر وَالتَّجريبِ وَالفطَنِ
أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِيَّةً ... فَمَا يَغُرَّكُ فِيْهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ
لأَعْجَبَنَّ وَأَنَّى يَنْقَضِي عَجَبِي ... النَّاس في غَفلَةٍ وَالمَوْتُ في سَننِ
وَظَاعِنٍ من بَياضِ الرَّبْطِ كُسْوَتُهِ ... مُطَيَّبٍ لِلْمَنَايَا غَيْرَ مُدَّهَنِ
غَادَرْتُهُ بَعْدَ تَشَييعهِ مُنْجَدلاً ... في قرب دَارٍ وفي بُعْدٍ عن الوَطَنِ
لا يَسْتَطِيْعُ انْتِقَاصًا في مَحَلَّتِهِ ... من القَبِيْح وَلا يَزْدادُ في الحسنِ
الحمدُ لله شُكْرًا، مَا أَرَى سَكَنًا ... يَلْوي بِبُحْبُوحَة الموتَى على سَكَنِ
مَا بَالُ قَوْمٍ وَقَدْ صَحّتْ عُقولُهم ... فِيْمَا ادْعَوْا يَشْتَرَوْنَ الغَيَّ بِالثَّمَنِ
لَتَجْذبنِي يَدُ الدُّنْيا، بِقُوتِهَا ... إلى المَنَايَا وَإِنْ نَازَعْتُهُا رَسَني
وأي يومٍ لِمَنْ وَافَي مَنِيَّتَهُ ... يومٌ تَبَيَّنُ فيه صُورَةُ الغَبَنِ
لله دُنْيَا أُنَاسٍ دَائِبِيْنَ لَهَا ... قَد أرْتِعُوا في رِياضِ الغَيِّ وَالفتَنِ
كَسَائِمَاتٍ رَوَاع تَبْتَغي سَمَنًا ...(3/195)
وَحَتفُها لَو دَرَتْ في ذَلِكَ السِّمَنِ
آخر:
تَبَارَك مَنْ عَمَّ الوَرَى بِنَوَالِهِ ... وَأَوسَعَهُم فَضْلاً بِإِسْبَاغِ نِعْمَةِ
وَقَدَّرَ أَرْزَاقًا لَهُمْ وَمَعَايِشًا ... وَدَبَّرَهُم في كُلِّ طَوْرٍ وَنَشْأَةِ
أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَأَحْصَى عَدِيْدَهُم ... وَصَرَّفَهُم عَن حِكْمَةٍ وَمَشِيْئَةِ
ولله بين المُؤْمِنِيْنَ وَمِنْهُم ... بِكُلِّ زَمَانٍ كَمْ مُنِيْبٍ وَمُخْبِتِ
وَكَمْ سَالِكٍ كَمْ نَاسِكٍ مُتَعَبِّدٍ ... وَكَمْ مُخْلِصٍ في غَيْبِهِ والشَّهَادَةِ
وَكَمْ صَابِرٍ كَمْ صَادِقٍ مُتَبَتِلٍ ... إلى الله عَنْ قَصْدٍ صَحِيْحٍ وَنِيَّةِ
وَكَمْ قَانِتٍ أَوَّابَ في غَسَقِ الدُّجَى ... مِنَ الَخْوفِ مَحْشُوُ الفُؤَادِ وَمُهْجَةِِ
يُنَاجِي بِآيَاتِ القُرْآنِ إِلَهَهُ ... بِصَوْتٍ حَزِيْنٍ مَعْ بُكَاءٍ وَخَشْيَةِ
وَكَمْ ضَامِرِ الأَحْشَاءِ يَطْوِي نَهَارَهُ ... بِحَرِ هُجَيْرٍ مَا تَهَنَّا بِشَرْبَةِ
وَكَمْ مُقْبِلٍ في لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ ... عَلَى طَاعَةِ المَوْلَى بِجِدٍّ وَهِمَّةِ
وَكَمْ زَاهِدٍ في هَذِهِ الدَّارِ مُعْرِضٍ ... وَمُقْتَصِرٍ منها عَلَى حَدِ بُلْغَةِ
تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لَهُ وَتَزَخْرَفَتْ ... فَغَضَّ وَلَمْ يَغْتَرَّ مِنْهَا بِزِيْنَةِ
وَكَمْ عَالِمٍ بِالشَّرْعِ لله عَامِلٌ ... بِمُوجَبِهِ في حَالِ عُسْرٍ وَيُسْرَةِ
وَكَمْ آمرٍ بِالرُّشْدِ نَاهٍ عَنْ الرَّدَى ... سَرِيْعٍ إلى الخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةِ
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيْدًا مُوَفَّقًا ... وَتُحْظَى بِفَوزٍ عِنْدَ نَشْرِ الصَّحِيْفَةِ
فَحَافِظْ عَلَى المَفْرُوْضِ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ ... وَأَكْثِرْ مِنَ النَّفْلِ المُفِيْدِ لِقُرْبَةِ
بِكُنْتُ لَه سَمْعًا إِلى آخِرِ النَّبَا ... عَنِ الله في نَصِّ الرَّسُولِ المُثَبتِ
وَكُنْ في طَعَام ٍوالمَنَامِ وَخِلْطَةٍ ... وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ
وَجَالِسْ كِتَابَ اللهِ وَاحْلُلْ بِسَوْحِهِ ...(3/196)
وَدُمْ ذَاكٍرًا فَالذِّكْرُ نُوْرُ السَّرِيْرَةِ
عَلَيْكَ بِهِ في كُلِّ حِيْنٍ وَحَالَةٍ ... وَبِالفِكْرِ إِنَّ الفِكْر كُحْلُ البَصِيْرَةِ
وَكُنْ أَبَدًا في رَغْبَةٍ وَتَضَرُعٍ ... إِلى اللهِ عَن صِدْقِ افْتِقَارٍ وَفَاقَةِ
وَوَصْفِ اضْطِرَارٍ وَانْكِسَارٍ وَذِلَةٍ ... وَقَلْبٍ طَفُوْحٍ بالظُنُوْنِ الجَمِيْلَةِ
وَبَعْدُ فَإِنَّ الحَقَّ أَفْضَلُ مَسْلَكٍ ... سَلَكْتَ وَتَقْوَى الله خَيْرُ بِضَاعَةِ
وَمَن ضَيَّعَ التَّقْوى وَأَهْمَلَ أَمْرِهَا ... تَغَشَتْهُ في العُقْبَى فُنُونُ النَّدَامَةِ
وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا قُصَارَى مُرَادِهِ ... فَقَدْ بَاءَ بِالخُسْرَانِ يَومَ القِيَامَةِ
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ في طَاعَةِ الله شُغْلُهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ لا يَفُوزُ بِبُغْيَةِ
وَمَنْ أَكْثَر العِصْيَانِ مِن غَيْرِ تَوبةٍ ... فَذَاكَ طَرِيْحٌ في فَيَافِي الغِوَايَةِ
بَعِيْدٌ مِنَ الخَيْرَاتِ حَلَّ بِه البَلا ... وَوَاجَهَهُ الخُذْلانُ من كُلِّ وِجْهَةِ
تَنَكَّبَ عَجْزًا عَنْ طَرِيْقِ عَزِيْمَةٍ ... وَمَالَ لِتَأوِيْلٍ ضَعِيْفٍ وَرُخْصَةِ
يَهِمُّ بِلا جِدِّ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ ... عَلى قَدَم التَشْمِيْرِ مِنْ فَرْطِ غَفْلَةِ
وَقَدْ سَارَ أَهْلُ العَزْمِ وَهُوَ مُخَلَّفٌ ... وَقَدْ ظَفِرُوا بِالقُربِ مِنْ خَيْرِ حَضْرَةِ
وَقَدْ أَدْرَكُوا المَطْلُوبَ وَهْو مُقَيَّدٌ ... بِقَيْدِ الأَمَانِي وَالحُظُوظِ الخَسِيْسَةِ
وَلَمْ يَنْتَهِزْ مِن فَائِتِ العُمْرِ فُرْصَةً ... وَلَم يَغْتَنِمْ حَالَي فَرَاغٍ وَصِحَّةِ
عَجِبْتُ لِمَنْ يُوْصِي سِوَاهُ وَإِنَّهُ ... لأَجَدْرُ مِنْهُ بِاتْبَاعِ الوَصِيَّةِ
يَقُولُ بِلا فِعْلٍ وَيَعْلَمُ عَامِلاً ... عَلَى ضِدِّ عِلْمٍ يَا لَهَا مِن خُسَارَةِ
عُلُومٌ كَأَمْثَالِ الجِبَالِ تَلاطَمَتْ ... وَأَعْمَالُهُ في جَنْبِهَا مِثلُ قَطْرَةِ
وَقَدْ أَنْفَقَ الأَيَّامَ في غَيْرِ طَائِلٍ ... كَمِثْلِ اللَّيَالِي إِذَا تَقَضَّتْ وَوَلَّتِ
عَلَى السَّوْفِ والتَّسْوِيْفِ شَرُّ مُصَاحِبٍ ... وَقَوْلِ عَسَى عَنْ فَتْرَةِ وَبَطَالَةِ
وَلَمْ يَخْشَى أَنْ يَفْجَاهُ مَوتٌ مُجَهِّزٌ ...(3/197)
فَإِنَّ مَجِيءَ المَوْتِ غَيْرُ مُؤَقِّتِ
وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلرُّجُوْعِ لِرَبِّهِ ... وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلْطَّرِيْقِ البَعِيْدَةِ
وَبَينَ يَدَيْهِ المَوْتُ وَالقَبْرُ وَالبَلَى ... وَبَعْثٌ ومِيْزَانٌ وَأَخْذُ الصَّحِيْفَةِ
وَجَسْرٌ عَلَى مَتْن الجَحِيْمِ وَمَوْقِفٌ ... طَوِيْلٌ وَأَحْوَالُ الحِسَابِ المَهُوْلَةِ
وَلَكِنَّهُ يَرْجُو الذِي عَمَّ جُوْدُهُ ... وَإِحْسَانُهُ وَالفَضْلُ كُلَّ الخَلِيْقَةِ
إله رَحِيمٌ مُحْسِنٌ مُتَجَاوِزٌ ... إِليْهِ رُجُوعِي في رَخَائِي وَشِدَّتِي
غِيَاثِي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي ... وَمِنْهُ أرَجِّى كَشْفَ ضَرِّي وَمِحْنَتِي
فَيَا ربُّ ثَبِتْنَا عَلَى الحَقِ وَالهُدَى ... وَيَا رَبَّنَا اقْبِضْنَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةِ
وَعُمَّ أُصُولاً وَالفُرُوعَ بِرَحْمَةٍ ... وَأَهْلاً وَأَصْحَابًا وَكُلَّ قَرَابَةِ
وَسَائِرَ أَهْلَ الدِّيْنِ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ... أَقَامَ لَكَ التَّوْحِيْدَ مِن غَيْرِ رِيْبَةِ
وَصَلِّ وَسَلِّم دَائمَ الدَّهْرِ سَرْمَدَا ... عَلَى خَيْرِ مَبْعُوْثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةِ
شعرا:
أَسِيْرُ الخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ يَقْرَعُ ... يَخَافُ وَيَرْجُو الفَضْلَ فَالفَضْلُ أَوْسَعُ
مُقِرُّ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ وَمُكْثِرٌ ... وَيَرْجُوكَ فِي غُفْرانِهَا فَهْوَ يَطْمَعُ
فَإِنَّكَ ذُوْ الإِحْسَانِ وَالجُوْدِ وَالعَطَا ... لَكَ المَجْدُ وَالإِفْضَالُ وَالمَنُّ أَجْمَعُ
فَكُمْ مِن قَبِيْحٍ قَدْ سَتَرْتَ عَنَ الوَرَى ... وَكَمْ نِعَمٌ تَتْرَى عَلَيْنَا وَتَتْبَعُ
وَمَنْ ذَا الذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ... وَأَنْتَ إِلهُ الخَلْقِ مَا شِئْتَ تَصْنَعُ
فَيَا مَنْ هُوَ القُدُّوْسُ لا رَبَّ غَيْرَهُ ... تَبَارَكْتَ أَنْتَ الله لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ
وَيَا مَنْ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى فَوْقَ خَلْقِهِ ... تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وَأَوْصَافِكَ العُلَى ... تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ
أَعِني على المَوْتِ المَرِيْرَةِ كأْسُهُ ...(3/198)
إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تُنْزَعُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي في ظُلْمَةِ القَبْرِ عِنْدَمَا ... يُرَكَّمُ مَنْ فَوْقِي التُّرَابُ وَأَوْدَعُ
وَثَبِّتْ جَنَانِي لِلسُّؤَالِ وَحُجَّتِي ... إِذَا قِيْلَ مَنْ رَبٌّ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ
وَمِنْ هَوْلِ يَوْمٍ الحَشْرِ وَالكَرْبِ نَجَّنِي ... إِذَا الرُّسْلُ وَالأَمْلاكُ وَالنَّاسُ خُشَّعُ
وَيَا سَيِّدِي لا تُخزنِي في صَحِيْفَتِي ... إِذَا الصَّحْفُ بَيْنَ العَالَمِيْن تُوَزَّعُ
وَهَبْ لِي كِتَابِي بِاليَمِيْنِ وَثَقّلنْ ... لِمِيْزَانِ عَبْدٍ فِي رَجَائِكَ يَطْمَعُ
وَيَا رَبِّ خَلِّصْنِي مِن النَّارِ إِنَّهَا ... لَبِئْسَ مَقَرُّ لِلْغُوَاةِ وَمَرْجِعُ
أَجِرْنِي أَجِرْنِي يَا إِلَهِي فَلَيْسَ لِي ... سِوَاكَ مَفَرُّ أَوْ مَلاذٌ وَمَفْزَعُ
وَهَبْ لِي شِفَاءً مِنْكَ رَبِّي وَسَيِّدِي ... فَمَنْ ذَا الذِي لِلْضُّرِّ غَيْرُكَ يَدْفَعُ
فَأَنْتَ الذِي تُرْجَي لِكَشْفِ مُلَمَّةٍ ... وَتَسْمَعُ مُضْطَّرًا لِبَابِكَ يَقْرَعُ
فَقَدْ أَعْيَتِ الأَسْبَابُ وَانْقَطَعَ الرَّجَا ... سِوَى مِنْكَ يَا مَنْ لِلْخَلائِقِ مَفْزَعُ
إِلَيْكَ إِلهي قَد رَفَعْتُ شِكَايَتِي ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَاهُ تَدْرِي وَتَسْمَعُ
فَفَرِّجْ لَنَا خَطْبًا عَظِيْمًا وَمُعْضِلاً ... وَكَرْبًا يَكَادُ القَلْبُ مِنْهُ يُصَدَّعُ
وَمَاذَا عَلَى رَبِّي عَزِيْزٌ وَفَضْلُهُ ... عَلَيْنَا مَدَى الأَنْفَاسِ يَهْمِي وَيَهمَعُ
فَكَمْ مِنْحٍ أَعْطَى وَكَمْ مِحَنٍ كَفَى ... لَهُ الحَمْدُ وَالشُّكْرانُ وَالمَنُّ أَجْمَعُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى المُصْطَفَى مَنْ في القِيْامَةِ يَشْفَعُ
انتهى.(3/199)
آخر:
وَإِيَاكَ والدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ... هِيَ السِّحْرُ في تَخْيِيْلِهِ وَافْتِرَائِهِ
مَتَاعُ غُرُوْرٍ لا يَدُوْمُ سُرورُها ... وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِهَبَائِهِ
فَمَن أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا ... وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذنَتْ بِبُكَائِهِ
وَمَن تُسْقِهِ كَأْسًا مِن الشَّهْدِ غُدْوَةً ... تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى في مَسَائِهِ
وَمَن تَكْسُ تَاجَ المُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً ... بِأَيْدِي المَنَايَا أَوْ بِأَيْدِ عِدَائِهِ
أَلا أنَّها لِلْمَرْءِ مِن أَكْبَرِ العِدَا ... وَيَحْسَبُهَا المَغْرُوْرُ مِن أَصْدِقَائِهِ
فَلَذَّاتُها مَسْمُومَةٌ وَوُعُودُها ... سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِن عَنَائِهِ
وَكَمْ في كِتَابِ الله مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا ... وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِن أَصْفِيَائِهِ
فَدُوْنَكَ آياتِ الكِتَابِ تَجِدْ بِهَا ... مِنْ العِلْمِ مَا يَجْلُو الصَّدَا بِجَلائِهِ
وَمَنْ يَكُ جَمْعُ المَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ ... فَمَا قَلْبُهُ إِلا مَرِيْضًا بِدَائِهِ
فَدَعْهَا فإِنَّ الزُّهْدَ فِيْهَا مُحَتَّمٌ ... وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الوَرَى بِأدَائِهِ
وَمَن لَم يَذَرْهَا زَاهِدًا في حَيَاتِهِ ... سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ
فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيْعًا بِقَبْرِهِ ... رَهِيْنًا أَسِيْرًا آيِسًا مِنْ وَرَائِهِ
وَيَنْسَاهُ أَهْلُوْهُ المُفَدِّي لَدَيْهِمُ ... وَتَكْسُوهُ ثَوبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ
وَيَنْتَهِبُ الوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ التي ... على جَمْعِهَا قاسَى عَظِيْمَ شَقَائِهِ
وَتُسْكِنهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرةٌ ... تَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ
يُقِيمُ بِهَا طُولَ الزَّمانِ وَمَالَهُ ... أَنيسٌ سوى دُودٍ سَعي في حَشائِهِ
فَواهًا لها من غُربةٍ ثم كُربةٍ ... ومن تُربةٍ تَحوي الفَتى لبلائهِ
ومن بعد ذا يومُ الحِسَابِ وَهولُه ... فَيُجزى به الإِنسانُ أَوفَى جزائهِ
ولا تَنسَ ذِكر الموتِ فالموتُ غائبٌ ...(3/200)
وَلا بدَّ يومًا للفتى من لِقائهِ
قَضى الله مَولانَا على الخَلقِ بالفنَا ... ولا بدَّ فِيهم من نُفوذِ قَضائهِ
فَخذْ أهبةً للموتِ من عَملِ التُّقى ... لِتغنمَ وقتَ العُمرِ قبل انْقضائِهِ
وإِيَّاكَ والآمالَ فالعمرُ يَنقَضِي ... وأسْبابُها مَمدودةٌ من وَرائهِ
وَحافظْ على دُينِ الهُدَي فَلَعلَّهُ ... يَكونُ خِتامَ العُمرِ عِندَ انْتهائهِ
فَدُونَك مني فاسْتَمعها نَصيحةً ... تُضارعُ لونَ التِّبر حَالَ صَفَائِهِ
وَصَلي عَلى طُولِ الزَّمانِ مُسلمًا ... سَلامًا يَفوقُ المِسْكَ عَرفُ شَذائهِ
عَلى خَاتمِ الرّسلِ الكِرامِ محمَّدٍ ... وَأصْحابهِ والآلِ أَهل كِسَائهِ
وَاتْبَاعِهم في الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبا ... رِياضٌ سَقاهَا طلَّها بِندائهِ
انتهى.(3/201)
غربة الإسلام
عَلى الدِّين فَلْيبْكِي ذَوُو العِلْم والهُدى ... فَقدْ طَمَسَتْ أَعلامهُ في العَوالِمِ
وَقَد صَارَ إقبالُ الوَرَى وَاحْتيالِهم ... عَلى هذه الدُّنيا وجمعِ الدَّراهمِ
وَإصلاحِ دُنياهُم بإفسادِ دِينِهم ... وَتحصيلِ مَلذُوذَاتِها والمطَاعمِ
يُعادون فيهَا بل يُوالُون أَهلهَا ... سَواءً لَديهم ذُو التُّقى والجَرائمِ
إِذَا انْتَقَصَ الإنسانُ منها بما عَسَى ... يكونُ لهُ ذُخرًا أتى بِالعَظائمِ
وَأبْدى أَعاجِيْبًا من الحُزنِ والأسَى ... عَلى قلَّةِ الأنصارِ من كلِّ حَازمِ
وَناحَ عَليها آسفًا مُتظلمًا ... وَباحَ بما في صَدرهِ غَير كاتمِ
فأما على الدِّينِ الحنيفِي والهُدى ... وملَّةِ إبراهيمَ ذاتِ الدِّعائمِ
فليس عليها والذِي فَلقَ النَّوى ... من النَّاسِ من بَاكٍ وآسٍ ونادمِ
وَقد دُرسَتْ منها المعالمِ بل عَفَتْ ... ولم يَبقَ إلا الاسمُ بين العَوالمِ
فلا آمرٌ بالعُرفِ يُعرفُ بيننَا ... ولا زَاجرٌ عن مُعضلاتِ الجرائمِ
وَملةُ إبراهيمَ غُودرِ نَهجُها ... عَفاءً فأضْحتْ طامِساتِ المعَالمِ
وَقد عَدمتِ فِينا وكيف وقدْ سَفتْ ... عليها السَّوافِي في جميعِ الأقالمِ
وَما الدِّينُ إلا الحبُّ والبُغضُ والوَلا ... كذاك البَرء من كلِّ غاوٍ وآثمِ
وليس لها من سالِكِ مُتمسِّكِ ... بِدين النَّبي الأبْطُحيِّ ابنِ هَاشمِ
فَلسنا نَرى ما حلَّ بالدينِ وانْمحتْ ... به المِلَّةُ السَّمحاءُ إِحدَى القَواصمِ
فَنأسَي على التَّقصيرِ منَّا ونَلْتجِي ... إلى اللهِ في مَحْوِ الذنوبِ العَظائمِ
فَنشكُوا إلى اللهِ القُلُوبَ التي قَستْ ... وَرانَ عليها كَسْبُ تلك المَآثمِ
أَلسنَا إذا ما جَاءنَا مُتضمِّخٌ ...(3/202)
بَأوضَارِ أَهْلِ الشركِ من كلِّ ظالمِ
نَهشُّ إليهم بالتَّحيةِ والثنَا ... وَنَهرعُ في إِكرَامِهم بالوَلائِمِ
وَقد بَرئَ المعصُومُ من كل مُسلمٍ ... يُقيمُ بدارِ الكُفرِ غير مُصارمِ
وَلكنَّما العَقلُ المَعيشُي عِنْدنَا ... مَسالمَةَ العَاصينَ مِن كلِّ آثمِ
فيا مِحْنةَ الإسْلامِ من كلِّ جاهلٍ ... وَيا قِلَّةَ الأَنْصارِ من كلِّ عَالمِ
وَهذا أَوانُ الصَّبرِ إنْ كُنتَ حَازمًا ... عَلى الدِّين فاصبِر صَبرَ أهْلِ العَزَائمِ
فَمَن يَتمسَّكْ بالحنيفيَّةِ التي ... أَتتنَا عن المَعصومِ صَفوةَ آدمِ
لَه أجرٌ خَمسينَ امرءً من ذَوي الهُدي ... من الصَّحب أصْحابِ النَّبي الأَكارمِ
فَنُحْ وَابْكِ واسْتَنْصِرْ بِربِّكَ رَاغبًا ... إليه فإن الله أَرحمُ راحمِ
لِينصُرَ هذا الدِّين من بَعدِ ما عَفتْ ... مَعالمهُ في الأرضِ بين العَوالمِ
وَصلِّ على المَعصومِ والآلِ كلُّهُم ... وَأصحابهِ أهلِ التُّقى والمَكارمِ
بَعد وَمِيْضِ البرقِ والرَّملِ والحصَى ... وما انْهلَّ وَدقٌ من خِلالِ الغَمائمِ
آخر:
والله حرَّم مُكثَ من هُو مُسلم ... في كلِّ أرضِ حلَّهَا الكُفَّارُ
ولهم بها حُكمُ الوِلايةِ قَاهرٌ ... فَارْبَأ بِنفسكَ فالمقامِ شنَارُ
وانْظرْ حديثًا في البَرءةِ قد أَتَى ... نَقلُ الثُّقاتِ رُواتُه الأَخْيارُ
فيه البَراءَةُ بالصَّراحةِ قد أَتَتْ ... مِن مُسلمٍ وكَذلكَ الآثارُ
قد صَرَّحت فِيمَن أقامَ ببلدةٍ ... مُستوطنًا وولاتُها الكُفارِ
والمرءُ ليس بِمظهرٍ للدِّين بَلْ ... للمُكثِ في أَوطَانهِ يَختارُ
إلا الذي هو عَاجزٌ مُستضعفٌ ... فالنصُّ جاءَ بِعذرهِ لا العَارُ
والحبُّ والبُغضُ الذي هو دينُنا ...(3/203)
وَعداوةٌ في الله وهِيَ عِيارُ
وَكذا المُوالاةُ التي لِجَلالِه ... إِن أَمْعنَت في ذلك الأَنْظارُ
أَمرٌ محالٌ في وُلايةِ من طَغَى ... لو كَانَ حَقًّا ما دَهاكَ قَرارُ
أو ما سَمعتَ بِقيلهِم لِنَبيهِم ... والمؤمنينَ أُولئكَ الفجَّارُ
فانظُرْ إلى الأعرَافِ إذا قالُوا لهُ ... أَعني شُعيبًا قومُهُ الأَشْرارُ
وانظُر إلى ما قَالَ في الكَهفِ الذِي ... فيه البَيانُ لمن لَه إِبْصارُ
أو ما تَرى أن القُلُوبَ إذا امْتَلَتْ ... حبًّا وإِيمانًا لها أَنوارُ
ولها بذلك غَيرةٌ فَتغَارُ من ... رُؤيَا المَعَاصِي والسَّعِيدُ يَغَارُ
واحذَر مَقالة جاهِلٍ إذ غَرَّه ... مِن جَهْلِهِ الإعْرَاضُ والغَرارُ
إذ قالَ نُظهرُ دِيننَا جَهلاً ولم ... يَدرِ الفَتَى المُسكينُ ما الإِظْهارُ
فاسْمَع إذَا إظهَارَه عن ظَاهرِ القُر ... آنِ بل جَاءت بِه الآثَارُ
إظهَارُ هذا الدِّين تَصريحٌ لهم ... بالكُفرِ إذ هُم مَعشرٌ كفارُ
وَعَداوةٌ تبدُو وَبُغضٌ ظاهرٌ ... يالَ العُقولِ أما لَكم أَشعَارُ
هذا وليس القلّبُ كافٍ بُغضُه ... والحبُّ منه ومَا هُو المِعيارُ
لكنَّما المعيارُ أن تَأتِي به ... جهرًا وَتصريحًا لهم إذ جَارُ
فاسْئَل إِلهكَ راغبًا مُتضرعًا ... أن لا يُضلَّكَ بالهَوَى الغَرَّارُ
واسأَلهُ في غَسقِ اللَّيالِي والدُّجَى ... أَنْ لا يَصُدكَ عن هُداكَ شرارُ
وَعلى النَّبي وصحبهِ والآلِ مَا ... هَبَّ النسيمُ ومَاضَتِ الأَنْوارُ
أَزكى الصَّلاةِ مع السَّلامِ هَديةً ... ما انْهلَّ من مُغْدَودِقِ أَمْطَارُ
آخر:
لَيتَ شِعري سَاكَن القَبرِ المشِيد ... هلْ وَجَدْتَ اليومَ فيهِ مِن مَزيدْ
وَهَل البَاطنُ فيهِ مثلَ مَا ...(3/204)
هُو في الظَاهرِ تَزويقًا وَشِيدْ
وَهل المضجَعُ فيهِ ليِّنٌ ... أَو سَعِيرٌ مالها فيه خُمودْ
وَهَل الأَركانُ فيه بالتُّقى ... نيَّراتٌ أو بأَعمَالكَ السُودْ
لَيتَ شعرِي سَاكِن القبرِ المُشَيدْ ... أَشقىٌ أَنْتَ فيه أَمْ سَعِيدْ
أقريبٌ أنت من رَحْمَةِ من ... وَسِعَ العَالمَ إِحسَانًا وُجُودْ
أم بَعيدٌ أنْتَ مِنهَا فَلَقَدْ ... طُرِقَتْ دَارُكَ بَالويل البَعِيدْ
ولقد حلَّ بِأرجَائِكَ ما ... ضَاقَ عنه كلُّ ما في ذَا الوُجُودْ
أيُّها الغَافلُ مِثلِي وإلى ... كَمْ تَعَامَي وتَلَوي وَتَحِيدْ
أُدنُ فَاقرَأ فوقَ رأسِي أَحرُفًا ... خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِن قَلْبٍ عَمِيدْ
صَرَعَتْهُ فِكرةٌ صَادقةٌ ... وهُمُومٌ كلَّما تَمضِي تَعُودْ
وَنَدَاماتٌ لأيامٍ مَضَتْ ... هو منها في قِيامٍ وَقُعُودْ
وغدًا تَرجعُ مِثلِي فاتُّعِظْ ... بي وإِلا فامْضِ وأعمَل ما تُرِيدْ
قد نَصَحْنَاكَ فإن لم تَرهُ ... سَيَراهُ بَصرُ منكَ حَدِيدْ
شعرا:
إِذَا شِئْتَ أَن تَحيا سَعيدًا مَدى العُمرِ ... وتسكُنَ بعدَ الموتِ في رَوضةِ القَبرِ
وَتُبعثَ عند النَّفخِ في الصُّورِ آمنًا ... من الخَوفِ والتَهديدِ والطُّردِ والخُسرِ
وَتُعرضَ مَرفوعًا كريمًا مُبجلاً ... تُبشركَ الأملاكُ بالفوزِ والأجرِ
وَترجَحَ عِندَ الوَزنِ أَعمالُكَ التي ... تُسرُّ بها في مَوقفِ الحَشرِ والنَّشرِ
وَتَمضِي على متنِ الصِّراطِ كَبارقٍ ... وَتَشربَ من حَوضِ النَّبي المُصطفَى الطُّهرِ
وَتَخلُدَ في أَعَلى الجِنَانِ مُنعمًا ... حَظيًّا بقُرب الوَاحدِ الأحدِ الوِتْرِ
عَلَيْكَ بِتَوْحِيْدِ الإله فإنَّهُ ... إذا تمَّ فازَ العَبدُ بالقُربِ والأجرِ
وخُذْ من عُلومِ الدِّين حظًا مُوفرًا ...(3/205)
فبالعِلْمِ تسمُوا في الحَياةِ وفي الحَشرِ
وَواظِبْ على دَرسِ القُرآنِ فإنَّ في ... تِلاوتهِ الأَرباحُ والشَّرحُ للصَّدرِ
ألا إنَّه البَحرُ المُحيطُ وَغيرهُ ... من الكُتبِ أَنهارٌ تُمدُّ من البَحرِ
تَدَبَّر مَعانِيهِ وَرَتِّلْهُ خَاشعًا ... تَفوزُ من الأسرَارِ بالكَنزِ والذُّخرِ
وَكُن رَاهبًا عند الوعِيدِ وَرَاغبًا ... إذا ما تَلوتَ الوَعدَ في غَايةِ البِشرِ
بعيدًا عن المَنهِي مُجتنبًا لهُ ... حريصًا على المَأمُورِ في العُسرِ واليُسرِ
وإن رُمتَ أن تَحظَي بقلبِ مُنوَّرٍ ... نَقِى من الأَغْيَارِ فاعْكُف على الذِّكْرِ
وَواظبْ عليه في الظَلامِ وفي الضِّيَا ... وفي كل حَالٍ بِاللَّسانِ وفي السِّرِّ
وصفِّ من الأَكْدارِ سِرَّكَ إنَّهُ ... إذا ما صَفَا أَولاكَ مَعنى من الفِكرِ
وَبِالجدِّ والصَّبرِ الجَمِيلِ تَحِلُّ في ... فَسِيحِ العُلى فاستوصِ بالجَدِّ والصَّبرِ
وكُن شاكرًا لله قلبًا وقالبًا ... على فَضلهِ إن المَزيدَ مع الشُّكرِ
تَوكَّلْ على مَولاكَ وارضَ بِحكمهِ ... وكُن مُخلصًا لله في السِّرِ والجَهرِ
قنوعًا بما أَعطاكَ مُستغنيًّا بهِ ... له حَامدًا في حالي العُسر واليُسرِ
وكُن باذلاً للفضْلِ سَمحًا ولا تَخَف ... من الله إِقتارًا ولا تَخْشَ من فَقْرِ
وإياك والدُّنيا فإنَّ حلالهَا ... حِسابٌ وفي مَحظورهَا الهَتكُ للسرِّ
ولا تكُ عيابًا ولا تكُ حاسدًا ... ولا تكُ ذا غِشٍّ ولا تكُ في غَدرِ
ولا تطلُبنَّ الجَاهَ يا صَاحَ إنَّهُ ... شهي وفيه السُّم من حيثُ لا تَدرِي
وإياكَ والأطماعُ إن قرينَها ... ذليلٌ خسيسُ القَصدِ مُتَّضعُ القَدرِ
وإن رُمت أمرًا فاسْألِ الله إنَّهُ ... هو المُفضلُ الوهَابُ للخَيرِ والوَفْرِ
وَأُوصِيْكَ بِالخَمْسِ التي هُنَّ يا أخِي ... عِمادٌ لدينِ الله وَاسطةُ الأمرِ
وحافظْ عليها بِالجماعَةِ دَائمًا ...(3/206)
وواظبْ عليها في العِشاءِ وفي الفَجرِ
وقمْ في ظَلامِ اللَّيلِ لله قانتًا ... وصلِّ له واخْتِم صلاتكَ بالوِترِ
وكُن تائبًا من كلِّ ذنبِ أَتيتَهُ ... ومُستغفرًا في كلِّ حين من الوِزرِ
عَسى المُفضلُ المَولى الكَريمُ بِمنِّهِ ... يَجودُ على ذَنبِ المُسيئينَ بِالغَفرِ
فإحسانهُ عمَّ الأنَامَ وُجودُه ... على كلِّ مَخلوقٍ وإِفْضالهِ يَجرِي
وصلِّى على خَير البَريةِ كلِّهَا ... محمدٍ المَبعوثِ بالبِشرِ والنُّذرِ
انتهى.
آخر:
وَإنْ تَتحلَّى بالسماحةِ والسَّخاءِ ... يقالُ سفيهٌ أَخرقٌ ليسَ واعيَا
وَإِن أَمْسكتَ كفَّاكَ حالَ ضَرورةٍ ... يقالُ شَحيحٌ مُمسكٌ لا مُساويَا
وإن ظَهرَتْ من فيك يَنبُوعُ حِكمةٍ ... يُقولُونَ مِهْذارًا بذيًّا مُباهيَا
وَعن كُلِّ ما لا يَعنِ إن كنتَ تَاركًا ... يَقولُونَ عن عَي من العَجزِ صَاغيَا
وإِن كنتَ مِقدامًا لكلِّ مُلمةٍ ... يُقالُ عَجولٌ طائشُ العَقلِ وَاهيَا
وإن تَتغَاضَى عن جَهالةِ نَاقصٍ ... يَعدُّوكَ خَوارًا جَبانًا وَلاهيَا
وإن تَتقَاصَى باعْتزالكَ عنهُمُوا ... يخالوكَ من كِبرٍ وَتيهٍ مُجافيَا
وإن تَتدانَي منهم لِتآلفٍ ... يَظنوكَ خَداعًا كَذوبًا مُرائيَا
تَرى الظُّلم منهُم كَامنًا في نُفوسهِم ... كذا غَدرُهُم في طَبعهِم مُتواريَا
ففي قُوة الإنسانِ يَظهر ظُلمهُ ... وفي عَجزِهِ يَبقَى كما كانَ خَافيَا
وهيهاتَ تَنجُو من غَوائلِ فِعلِهم ... وأقوالهِم مَهمَا تكنْ مُتحَاشيَا
فَمن رَامَ إِرضاءَ الأنامِ بقولِهِ ...(3/207)
وَفِعلٍ غدَا للمستحِيلِ مُعانيَا
ومن ذَا الذِي أرضَى الخَلائقِ كلَّهم ... رَسولاً نبيًّا أم وليًّا وقَاضِيَا
وأَعظمُ من ذَا خالقُ الخلقِ هل تَرَى ... جميعَ الوَرَى في قِسمَةٍ منهُ راضيَا
إذا كَان ربُّ الخلقِ لم يُرضِ خَلقَهُ ... فَكيفَ بِمخلوقٍ رِضاهُم مُراجِيَا
فَلازِمْ رِضَى ربِّ العِبَادِ إذًا وَلا ... تُبالِ بِمخلوقٍ إذا كُنتَ زَاكيَا
وَسَدِّد وقَارب ما اسْتطعتَ فإنَّمَا ... يُكلَّفُ عبدٌ فِعلَ ما كانَ قَاويَا
انتهى
يَا نَفْسُ توبى فإنَّ الموتَ قد حانَا ... واعصِي الهَوى فالهَوى ما زالَ فَتانَا
أَما تَرينَ المَنايَا كيف تَلقُطنَا ... لقطًا فَتلحقُ أُخْرَانَا بأُولانَا
في كلِّ يومٍ لنَا مَيتٌ نُشيعُه ... نَرَى بِمَصرَعهِ آثَارَ مَوتَانَا
يَا نفسُ مَالي ولِلأموَالِ أَترُكُهَا ... خَلفِي وأَخرجُ من دُنياي عُريانَا
أَبَعْدَ خَمسينَ قد قَضيتُهَا لَعبًا ... قد آنَ أنْ تَقصُري قَدْ آنَ قَدْ آنَا
ما بَالُنَا نَتعامَى عن مَصَائِرنَا ... نَنْسَى بِغفلتِنَا من لَيسَ يَنْسَانَا
نَزْدَادُ حِرصًا وهذَا الدَّهرُ يَزجرَنَا ... كانَ زَاجرنَا بِالحرصِ أَغرانَا
أينَ المُلوكُ وأَبناءُ المُلوكِ وَمَن ... كَانت تَخر له الأَذقانُ إِذغانَا
صَاحتْ بهم حَادِثَاتُ الدهرِ فانْقلبُوا ... مُسْتبدلينَ من الأَوْطانِ أَوطانَا
خَلَّو مَدائنَ كانَ العِز مَفرشُهَا ... واسْتفرشُوا حُفُرًا غُبرًا وَقِيعانَا
يَا رَاكضًا في مَيادِينِ الهَوى مرحًا ... وَرَافلاً في ثِيَابِ الغَيِّ نَشوَانَا
مَضى الزمانُ وولَّى العُمرُ في لعبٍ ... يَكفيكَ مَا قَدْ مَضى قَد كانَ ما كانَ
انتهى.(3/208)
القول الأسنى
في نظم الأسماء الحسنى
تأليف
الشيخ حسين بن علي بن حسين بن شيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى
جَميعُ الثنَا والحَمدُ بالشُكرِ أكملُ ... ولله مَجموعُ الثلاثةِ أجعلُ
له الحَمدُ أَغلى الحَمد والشُكرِ والثنَا ... أعزُ وأزكَى ما يَكونُ وأَفضلُ
له الحَمدُ حَمدًا طيبًا ومُباركًا ... كثيرٌ فضيلٌ حَاصلٌ مُتحصلُ
مَلا العَرشِ والكُرسِي مع الأَرْضِ والسَّمَا ... وَمِلءَ الذِي بين الطَرائِقِ يَفصِلُ
وَإني بِحمدِ الله والشكرِ والثنَا ... لِنَيلِي من الله الرَّضَى أَتوسلُ
إلى الله أُهدِي الحَمدُ والشُكرَ والثنَا ... له الحَمدُ مَولانَا عليه المُعَّولُ
وَأَشهدُ أن الله لا ربَّ غَيرهُ ... كَريمٌ رحيمٌ يُرتجَى ويُؤمَّلُ
وَأشهدُ أنَّ ماربَّ بل لا مُدبرٌ ... سِواهُ وَلولاهُ الوُجودُ مُعطلُ
قَديرٌ كَريمٌ مُحسنٌ ولهُ البقَا ... جوادٌ وللخيراتِ فهو المُنولُ
ومن دُونَه عبدٌ ذليلٌ مُدبَّرٌ ... مُقِلٌ من الأَوزارِ أو مُتحمِلُ
هوَ الله ذُو العِزِ القَديمِ إلهنَا ... عَزِيزٌ مُعزٌ من له يَتَذلَّلُ
هو الوَاحدُ الفردُ المُهيمنُ ربَّنا ... هو الواحدُ الموجودُ والمُتفضِلُ
جوادٌ كَريمٌ مُحسنٌ دَائمُ النَّدَى ... وَجودَاهُ لا تَبْلَى ولا تَتَبَدلُ
عفوٌ يحبُ العفوَ من كلِّ خَلقِهِ ... عن الجُودِ والإِحسانِ لا يَتحولُ
إذا سُئلَ الخَيراتِ أَعطَى جَزِيْلَها ... وَيَرفَعُ مكروهَ البَلا وَيُزوَّلُ
تباركَ فهوَ الله جلَّ جَلالهُ ...(3/209)
جوادٌ كريمٌ كَاملٌ لا يُمثَّلُ
يَسِحُ من الخَيراتِ سَحًا علَى الوَرَى ... فَيُغْنَي وَيُقْنِي دَائِمًا وَيحوَّلُ
تَجِلُ عن الأَوصَافِ عِزَّةُ ذَاتِهِ ... أَعزَّ من الأَوصافِ أَعَلى وأَكْمَلُ
إذا أَكثَر المُثنِي عليه من الثَنَا ... فَذُو العَرْشِ أعْلَى في الجَلالِ وأَجملُ
بِأسمائِهِ الحُسنَى ما يُؤذِنَ الوَرَى ... عَلَى بَعضِ مَدلُولاتِهَا لَو تَأمَّلُوا
فَفِي اسمه "ربُّ" مُدبِّرُ خَلْقَهُ ... وفي "الله" مَعنىً للعِبادَةِ يَشمَلُ
وفي اسْمهِ الله الإلهُ إشارةٌ ... إلى أنهُ المَعبودُ والنِّدُ يَبْطُلُ
وفي اسمه الغَفَارُ يَغْفِرُ للوَرَى ... إذا انْتقلُوا عن غَيهِم وتَنقلُوا
وفي اسمهِ "القاضِي" فَيَقْضِي بما يَشَاءُ
...... ... وفي "قَادِر ما شَاءَ رَبُّكَ يَفعَلُ
وفي اسمهِ "الأَعلى" عُلوُّ جَلالهِ ... وفي اسمهِ "الصَّبارُ" يُملِي وَيُمْهِلُ
وفي اسمهِ "الفعَالُ" يَفعلُ مَا يشاءُ ... حَكيمٌ فلا عمَّا يدبرُ يُسألُ
وفي اسمهِ "الجبَارُ" يجبُر كَسرَنَا ... وَلِلعُسْرِ باليُسرينِ فينَا يُبدِّلُ
وفي اسمه "الجبارُ" رِفعةُ ذاتهِ ... وَأخذٌ على العَاصِي شديدٌ ومُعضِلُ
وفي اسمه "المعطِي" الكَريمُ دِلالةٌ ... على أنه يُعطِي دَوامًا ويَبذِلُ
وفي اسمه "الستارُ" أستارُهُ التي ... عَلى أَكْثَر العَاصِيْنَ تُرخَي وتُسدَلُ
وفي اسمه "الباقِي" دَليلُ بَقائهِ ... جديدًا وأن الخَلقَ يَبْلى ويُسمَلُ
وفي اسمه "القيُوم" أَهدى دَلالةً ... على أنه عن خَلقهِ ليسَ يَغفُلُ
وفي اسم "عزيزٍ" عِزةٌ مُستَمِرَّةٌ ... بها يُهلِكُ العَاصِي لهُ ويُنَكلُ
وفي "ناصرٍ" نَصرُ لِمَن شَاء إذ يَشَا ... وَمَن لا يَشَأ يَبْقَى حَسِيْرًا وَيُخْذَلُ
وفي اسمه "الهَادِي" فيَهدِي إلى الهُدَي ... وَيَهْدِي إلى النَّهْدَينِ في المَهْدِ أَطفُلُ
وفي اسمه "الكَافِي" "الوَكِيل" وفي اسمه ...(3/210)
"حَسيبٌ "وَكيلٌ" أنهُ ليسَ يُهمِلُ
وفي اسمه "الرحمنُ" رَحمَتهُ الوَرَى ... وفي اسمه "ربِّ" عَلَيهِ التَّوكُلُ
وفي اسمهِ "القَاضِي" فَيَقضِي بِمَا يَشَا ... وَيَقْضِي غَدًا بَينَ البَرايَا فَيَعدلُ
وفي اسمهِ "الخَلاقِ" لم يَخْلُقِ الوَرَى ... سِواهُ "جوادٍ" دَائمٍ ليسَ يَغفُلُ
وفي اسمهِ "البَارِئ" بَرَى كلَّ خَلْقِهِ ... وَألطافُه تَتْرى دَوامًا وَتَنزِلُ
"عليمٌ" فَلا يَخْفَي عَليه مِن الوَرَى ... وَلو غَابَ في شَقِّ من الأَرضِ خَردَلُ
"حسيبٌ" فَيُحْصِي كُلَّ شيءٍ وفي الذِي ... جَرَى بَينَنَا يومَ القِيامةِ يَفصِلُ
"خبيرٌ" فَيَقْضِي مَا يَشَاءُ وكُلَّ مَا ... قَضَاه مَضَى حَتْمًا ولا يَتَفتَّلُ
"لَطيفٌ" بِألطَافٍ كثرٍ وبَعْضُها ... يُرَى ظَاهرًا بَينَ الوَرَى يَتَخَلَّلُ
"سَميعٌ" فلا صَوتٌ خَفيٌ يَفُوتُهُ ... وَإِن دَقَّ جِدًا واخْتَفَى لَيْسَ يُشْكِلُ
"وبرٌ" يُحبُّ البِرَّ يَرفَعُ أَهْلَهُ ... عَلَى النَّاسِ في يَومِ الجَزَاءِ يُفَضِّلُ
"حكيمٌ" فَيَقضِي ما يَشاءُ بِحكمةٍ ... "حليمٌ فلا يَخْشَي فَواتًا فَيُعْجِلُ
"كبيرٌ جَليلٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ" لهُ ... مِن الجُودِ والإِحسانِ ما ليس يُجهلُ
ودودٌ رحيمٌ" بالمطيعِ من الوَرَى ... فَمَنْ جَاءَهُ يَمْشِي أَتَاهُ يُهروِلُ
وفي اسمهِ "التوابِ" يَقْضِي بتوبةٍ ... لمنْ تَابَ صِدقًا يَستَجِيبُ وَيَقبَلُ
وفي "أَحدٍ" سُبحانَهُ لم يَكُنْ لَهُ ... نَظِيرٌ ولا مِثلٌ به يَتَمثَّلُ
وفي "صمدٍ" سُبْحَانَه يَصمُدُ الوَرَى ... إِليهِ جَميعًا أَصمدٌ ليسَ يَأكُلُ
وفي اسمهِ "الأعلى" كَمالُ عُلُوه ... أَعَزَّ وَأَعَلى مَا يَكُونُ وَأكمَلُ
وفي اسمهِ "المعطِي" يُغْيِثُ إِغاثَةً ... بِهَا كَربُ من يَدْعُو بهِ يَتَحَلَّلُ
وفي اسمِ "مُجيبٍ" يَسْتَجِيْبُ لمن دَعَا ... وَيُعْطِي لمن شَا مَا يشَأ حينَ يُسألُ
وفي كُلِّ اسْمٍ للإلهِ دِلالةٌ ...(3/211)
وَفِيهَا مَعَانِي جُودِهِ لو تَأْمَّلُوا
وفي كُلِّ فردٍ لو أُحيطَ بِعلْمهِ ... مَعانٍ وَلَكَن مَنْ لَهَا يَتَوَصَّلُ
يَبْينُ وَيبدُو بالتَّأملِ بعضُهَا ... تَأمُّلُ مَن في عِلْمِهَا مُتَوَغِّلُ
يَبِيْنُ لِمَنْ يَتْلُو الكِتَابَ مُرَتلاً ... وَمُدَّبِرًا آيَاتِهِ يَتَعَقَّلُ
هُوَ اللهُ فَوقَ العرشِ عَالٍ عَلَى الوَرَى ... عَليه اسْتَوى كيفَ اسْتَوى ليسَ يُعْقَلُ
أبانَ لَنَا في الذِكرِ عِلمَ اسْتوائِهِ ... عَلَى عَرشِهِ والكَيْفُ يَخْفَى وَيُجْهَلُ
وَمنْ قالَ في كيفَ اسْتَوى فهوَ كَاذبٌ ... عَلى الله فِيمَا قَالَه مُتَقَوِّلُ
وَمذْهبُنَا: أنْ لا نُشَّبهَ رَبَّنا ... وَأَنْ لا نَقلْ: كَيفَ اسْتَوَى أَو نُعِطِّلُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ ليسَ كمثلهِ ... لهُ العزُّ والتَّدبيرُ والحُكمُ والعُلُو
وَأَشهَدُ أَنَّ "الأوَّلُ" الله وَحْدَه ... "وآخرُ" يَبْقَى سرمدًا يتبتلُ
هو الله مَبسُوطُ اليدينِ كِلاهُما ... تَسِحُ من الإِحسَانِ سحَّاءَ تَهطُّلُ
إذا وَعدَ المَوعُودَ أنجَزَ وعدهُ ... سَريعًا بِلا رَيبٍ ولا شكَّ يحصُلُ
"قَريبٌ مُجيبٌ" يَستجيبُ لمن دَعا ... "جوادٌ" إذا أعطَى العَطا يَتَجَزَّلُ
يَسِحُ من الإحسانِ سَحًّا على الوَرَى ... وَهُوبٌ "جَوادٌ" "مُحسنٌ" مُتَفَضِّلُ
تَبَارَكَ لا يُحصَي على ذَاتِهِ الثَنَا ... وَلو بِالثَّنَا كلُّ الخلائقِ أَجملُوا
إذا كانَ شُكرُ العبدِ نَعماهُ نِعمةً ... فأينَ يُطاقُ الشُكرُ من أَينَ يَحصُلُ
فَسُبحَانَ مَن كُل الوَرَى سَجدُوا لَهُ ... إذا سَبَّحُوا أَو كَبَّرُوهُ وَهَلَّلُوا
قَضَى الله أَنْ لا يَعبُدُ الخَلقُ غَيرهُ ... وَأَنْ لا بِهِ شيءٌ وإنْ جَلَّ يَعدِلُ
"عليمٌ" بأحْوَالِ الوَرَى وبما جَرَى ... وَمَا لَيسَ يَجْرِي لَو جَرَى كَيْفَ يَحْصُلُ
"لطيفٌ" فَلا يَخْفَى عَلِيْهِ مِن الوَرَى ... خَفِيٌّ وَلا يَنْسَى ولا الربُّ يَذهَلُ
لَه تُرفعُ الأَعمالُ في كلِّ لحظةٍ ...(3/212)
بِأيدِي كِرامٍ كَاتِبينَ وتُحمَلُ
عليه اعْتَمادِي واتْكَالِي وَرَغْبَتِي ... وَإِصلاحُ شأنِي مُجملٌ وَمُفصَّلُ
تعالى فَأخَلاقُ البَرايَا بما قَضَي ... وَقدّره من أي شَكلٍ تَشكَّلُوا
فَمِنْهُم مُنِيْبٌ مُسْتَجِيْبٌ لِرَبِهِ ... صَبُورٌ عَلَى الضَّرا لَهَا يَتَحَمَّلُ
يُحِبُّ اكْتِسَابَ الصَّالِحَاتِ مِن التُّقى ... ومن زِينةِ الدُّنيا مُقلٌ مقلِّلُ
مُطيعٌ سريعٌ في أَوامرِ ربِّهِ ... مُنيبٌ إلى مَعبُودهِ مُتذلِّلُ
كَثيرُ البُكا مِن خَشيةِ الله ربَّهِ ... مَفاصِلُه يُخشَي عليها تَفصَّلُ
لهُ في النَّدى روضُ وفي الجودِ مَنهلٌ ... ومن ذا إلى ذَا دَائمًا يَتنقَّلُ
إِذَا جِئتهُ تَبغِي النَّدى وجدتهُ ... رَحيبًا خَصيبًا بِالنَّدى يَتهلَّلُ
يُبادرُ في المَعْرُوفِ مَهمَا أَتيتهُ ... كَأنَّكَ تُعْطِيْهِ الذِي أَنتَ تَسْألُ
يُجِبُ اكْتَسَابَ المَالِ وَالجُودُ عِنْدَهُ ... أَعزُّ من الدُّنيا جَميعًا وَأفضلُ
تَقِيُ نَقيُ العرضِ مَصحوبُهُ النَّدى ... زهيٌّ بهيٌّ إن تَكلمَ مِقولُ
جريءٌ على الأَعداءِ قَريبٌ من النَّدى ... سريعٌ إلى الهَيْجَا يَقُولُ وَيَفعَلُ
قريبٌ النَّدى والجُودِ ما حَلَّ حَلَّهُ ... وأن يَرتحلْ يَتبعهُ حَالا ويَرحلُ
جميعُ صِفاتِ الجُودِ مُستَوجبٌ لَها ... من الأصلِ في أصلِ النَّدى مُتأصِّلُ
وفي النَّاسِ من يبذُل لِدنياهُ دِينهُ ... ويرضَى بِذا عن ذَا بَديلاً يُبدَّلُ
يَنالُ به مَالاً وَجاهًا ورِفعةً ... وَيَشقَى وَيَردَى في المَعَادِ وَيَسْفُلُ
وَفِي النَّاسِ من ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ ... وَيَنْشُرُ أَعَذارًا بها يَتَأوَّلُ
جَرِيءٌ على أَكِل الحرامِ ويدَّعِي ... بأنَّ لهُ في حِلَّ ذلك مَحمَلُ
فَيَا أكِلَ المَالِ الحرامَ أَبِنْ لَنَا ... بأي كتابٍ حِلُّ ما أَنتَ تَأكلُ
ألمْ تَدْرِ أن اللهَ يَدْرِي بما جَرَى ...(3/213)
وبين البَرايَا في القِيامةِ يَفصلُ
حَنَانِيْكَ لا تَظلِمْ فإنَّكَ ميتٌ ... وبالموتِ عَمَّا قدْ تَوليتَ تُسألُ
وَتَوقَفُ لِلْمظلُومِ يَأخذٌ حقَّهُ ... فَيَأخُذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعملُ
وَيأخذُ من وزرِ لمنْ قَد ظَلمتهُ ... فيأخذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعمَلُ
فَيأخذُ منك اللهَ مَظْلمةَ الذِي ... ظَلمتَ سريعًا عاجلاً لا يُؤجَّلُ
تَفرُّ من الخَصمِ الذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ ... فَيأخُذُ يَومَ العَرْضِ ما كُنتَ تَعْمَلُ
تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الفِرَارُ من القَضَا ... وَأن تَتوجَّلْ لا يُفيدُ التَّوجلُ
فَيقتصُ مِنكَ الحقَّ من قَد ظَلمتَهُ ... بلا رأفةٍ كلاَّ ولا منك يَخجلُ
وفي الناسِ أَهلُ البِرِ والصِّدق والوَفَا ... وَللعدْلِ أَهْلٌ يَعْدِلُونَ إِذَا وَلُوا
وفي الناسِ من بِالكِبرِ يَسْتَحْقِرُ الوَرَى ... وَيَطغَى إِن اسْتَغْنَى إِذَا يَتَموَّلُ
فَخُورٌ إِذَا وَلاهُ مَولاهُ نِعمةً ... مَرُوحٌ وَمختالٌ بها يَتَبَهْكَلُ
شَحِيحٌ ولو عَمَّن يَعُولُ بِنَفسِهِ ... بأَدنى قَليلٍ نَاقصِ القَدرِ يَبخلُ
حَسودٌ عَدُو الجودِ والبَذلِ والنَّدى ... يصدُّ عن الخَيراتِ عنها يُخذِّلُ
جبانٌ عن الأعْدَا بَعيدٌ من النَّدى ... جَموعٌ مَنوعٌ في الخنا مُتوغلُ
جَميعُ خِصالِ الشَّرِ مُستصحبٌ لها ... وعن كلِّ أسبابِ المعزّةِ أَعزلُ
وفي النَّاسِ من لا يَملأُ البحرُ بطنهُ ... فَقيرُ فُؤادٍ دَائمًا يَتسوَّلُ
وفي النَّاس من يُغرِي الوَرَى بِلسانِهِ ... وبَينَ البَرايَا للنَّمِيمةِ يَحملُ
يَرَى أنَّ في حملِ النَّمِيمَةِ مَكسبًا ... تَراهُ بها بَينَ الوَرَى يَتأكَّلُ
وَفي النَّاس أفاكٌ حيولٌ مخادعٌ ... غشومٌ ظَلومٌ ماكرٌ مُتحيلُ
وكل سيأتي فرعهُ مثلَ أصلهِ ... وعن مثل شكلِ الأصلِ لا يَتحولُ
فَأهلُ النَّدى والجُود لا يَبرحُ النَّدى ...(3/214)
مع الجودِ فيما أنْسلُوا يَتسلسَلُ
ونسلُ شرارِ النَّاس في الشَّر والرَّدى ... على سننِ الآباءِ أردَى وأرذلُ
على سننِ الآبا وأخلاقِ من مَضى ... وإنْ مُتَّعتْ تِلك النُسُولُ وأطولُ
فَنسلُ جبانٍ أو بخيلٍ كمثلهِ ... ونسلُ الزَّكي الفحلِ أزكَى وأَفْحلُ
جَني الكَرم يأتي طيبًا مثل أصلهِ ... ويأتي جَناءُ الحنظليَّةِ حَنظلُ
وأوصِي بتقوَى اللهِ كلَّ مكلَّفٍ ... إليها أفِيئُوا أيُّها النَّاس أقبلُوا
وعُضوا عليها بالنَّواجذِ إنها ... هُدى الله يَهدِي للخلائقِ فاقبلُوا
خُذوا بالهُدي أخذًا قويًا فإنه ... نجاةٌ ومَنْ يَأخذُ به لا يُضلَّلُ
وأدُوا فُروضَ الدين بعد أدائِهَا ... كَوامِلَ في أوقاتِهَا وتَنفلُوا
عليكم بِتقوَى الله لا تَتركُونَها ... فإنَّ التُّقى أقوَى وأَولَى وأَعدلُ
لِباسُ التُّقى خيرُ الملابسِ كلِّهَا ... وأَبهَى لِباسِ في الوُجُود وأَجملُ
فَما أَحسنَ التَّقوى وأَهدَى سبيلهَا ... بِها يَنفعُ الإنسَانَ ما كان يَعملُ
فَيا أيُّها الإنسانُ بادِر إلى التُّقى ... وَسَارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُهملُ
وَأكثر من التَّقوى لِتحمِدَ غِبَّهَا ... بِدارِ الجَزَا دارٌ بها سَوف تَنزلُ
وقدِّمْ لما تَقْدَم عليه فإنَّما غَدَا ... سوف تُجزَى بالذي أنت تَفعلُ
وأحسِنْ ولا تُهملْ إذا كنتَ قادرًا ... فدارُ الفنَا الدُّنيا مكانَ التَّرحلُ
وسارعْ إلى الخيراتِ لا تُهملنَّهَا ... فإنكَ إن أَهملتَ ما أنت مُهملُ
ولكن سَتُجزي بالذِي أنت عاملٌ ... وعما مَضى من كل ما نِلت تُسألُ
فلا تُلهكَ الدُّنيا فربُّك ضَامنٌ ... لرزقِ البَرايَا ضامنٌ مُتكفلُ
فَمن آثر الدُّنيا جهولٌ ومن يَبعْ ... لآخراهُ بالدُّنيا أضلُ وأَجهلُ
فَلذاتِهَا والعزُّ والجاهُ والغنَى ...(3/215)
بأضدادهَا عما قليلِ تُبدلُ
فَمن عاشَ في الدُّنيا وإن طَال عُمرهُ ... فلا بدَّ عنها راغمًا سوف ينقلُ
وينزلُ دارًا لا أنيسَ له بهَا ... لكلِّ الوَرَى رجعًا معادُ ومُوئلُ
ويبقَى رهينًا في التُّراب بما جنَى ... إلى بعثهِ من أرضهِ حينَ ينسلُ
يُهالُ بأهوالِ يَشيبُ بِبعضهَا ... ولا هولاً إلا بَعدهُ الهولُ أهولُ
وفي البعْثِ بعد الموتِ نشرُ صحائفٍ ... وميزانُ قسطٍ طائشٍ أو مُثقلُ
وحشرٌ يَشيبُ الطِّفلُ من عُظْمِ هولهِ ... ومنه الجبالُ الراسياتُ تُزلزلُ
ونارٌ تلظَى في لظاهَا سَلاسلٌ ... يُغلُّ بها الفُجَّارُ ثم يُسلسلُوا
شرابُ ذَوي الإِجرامِ فيها حميمُهَا ... وَزقُّومُها مَطعومهُم حينَ يَأكلُوا
حميمٌ وغساقٌ وآخرُ مثلهِ ... من المهلِ يَغلِي في البُطُونِ ويُشغلُ
يزيدُ هوانًا من هواهَا فلا يَزَلْ ... إلى قَعرهَا يهوَي دوامًا ويَنزلُ
وفي نارهِ يبقَى دوامًا مُعذبًا ... يَصِيحُ ثُبورًا ويلهُ يَتولولُ
عليها صِراطٌ مدحضٌ ومزلَّةٌ ... عَليه البَرايَا في القِيامةِ تُحملُ
وفيها كَلاليبٌ تعلَّقُ بالوَرَى ... فهذَا نَجا منها وهذَا مُخردلُ
فلا مُجرمٌ يفديهِ ما يَفتدِي بهِ ... وإنْ يَعتذرُ يومًا فلا العُذر يُقبلُ
فهذَا جزاءُ المجرمينَ على الرَّدى ... وهذا الذي يومَ القيامةِ يَحصلُ
أعوذُ بربي من لَظَى وعَذابِها ... ومِن حَالِ من يَهوَي بها يَتَجلجلُ
ومن حالِ من في زَمْهَرِيرٍ مُعذبٍ ... ومن كان بالأغلالِ فيها مُكبَّلُ
وجَناتُ عدنٍ زُخرفتْ ثم أُزلفتْ ... لقومٍ على التَّقوى دوامًا تَبتلُوا
بها كل ما تَهوى النُفُوسُ وتَشتهِي ... وقرةَ عينٍ ليسَ عنها تَرحلُ
ملابسهم فيها حَريرٌ وسُندسٍ ...(3/216)
واستبرقْ لا يَعتريهِ التَّنحلُ
ومأكُولهم من كل ما يَشتهونَه ... ومن سَلسبيلٍ شُربهمُ بَتسلسلُ
وأزواجَهم حُورٌ حِسانٌ كَواعِب ... على مثل شَكلِ الشَّمس بل هُنَّ أَشكلُ
يُطافُ عليهم بالذي يَشتهُونَه ... إذا أَكَلوا نوعًا بآخر بَدلُوا
بها كل أَنْواعِ الفواكهِ كلِّهَا ... وَسُكانِها مهمَا تمنوهُ يحصلُ
فَواكِهها تَدنوا إلى من يُريُدهَا ... تناولها عند الإرادةِ يسهلُ
وأنهارُهَا الألبانُ تجرِي وأعسل ... وخمر وماء سَلسبيل مُعسِّلُ
يقال لهم: طِبتُم سَلمتُم من الأَذَى ... سلامٌ عليكم بالسلامةِ فادخلُوا
بِأسبابِ تَقوى الله والعملِ الذِي ... يحب إلى جناتِ عدنٍ تَوصلُوا
إذا كان هذا والذي قبلَهُ الجزاءُ ... فحقٌّ على العَينينِ بالدمعِ تهملُ
وحقٌّ على من كان باللهِ مُؤمنًا ... يقدمْ لهُ خيرًا ولا يَتعللُ
وإن يأخذ الإنسانُ زادًا من التُّقى ... ولا يسأم التَّقوى ولا يَتململُ
وإنَّ أمامَ النَّاس حشرًا وموقفًا ... ويومًا طويلاً ألف عامٍ وأَطولُ
فيا لك من يومٍ على كلِّ مُبطلٍ ... فظيع وأَهوالُ القيامةِ تُعضلُ
تكون به الأطوَادُ كالعِهنِ أو تكنْ ... كثيبًا مهيلاً أهيلاً يتهلهلُ
به مِلة الإسلامِ تقبلُ وحدهَا ... ومن أي دِين غيرهَا فهو يبطلُ
به يسألونَ النَّاس ماذا عَبدتمُوا ... وماذا أَجبتم من دعَا وهو مُرسلُ
حِساب الذي يَنقاد عَرضٌ مخفَّفٌ ... ومن ليس مُنقادًا حِسابٌ مُثقَّلُ
ومن قبل ذَا فالموتُ يأتيكَ بغتةً ... وهيهاتَ لا تدري متى الموتُ يَنزلُ
كُئوسُ المنَايَا سوف يَشربُها الوَرَى ... على الرغمِ شبَّانٌ وشِيبٌ وَأَكهلُ
حَنانِيْكَ بادرهَا بخيرٍ فإنَّما ...(3/217)
على الآلةِ الحدْبَا سريعًا سَتحملُ
إذا كنت قد أيقَنْتَ بالموتِ والفَنَا ... وبالبعثِ عمَّا بعده كيفَ تَغفلُ
أيصلحُ إِهمالُ المعادِ لمنصْفٍ ... ويَنْسَى مقامَ الحشرِ من كان يَعقلُ
إذا أنت لم تَرْحل بِزادٍ من التُّقى ... أَبِنْ لي ابن يومَ الجَزَا كيفَ تَغفلُ
أتَرضَي بأن تأتِي القيامةِ مُفلسًا ... على ظَهْرِكَ الأَوْزارُ في الحَشْرِ تُحْمِلُ
إلهي لك الفضلُ الذي عمَّم الوَرَى ... وجودًا على كل الخَليقَةِ مُسبلُ
وغيرُكَ لو يَملِكْ خَزائنكَ التِي ... تَزيدُ مع الإنفاقِ لا بدَّ يَبخلُ
وإنِّي بك اللهم ربِّي لواثقٌ ... وما لي ببابٍ غير بابكَ مَدخلُ
أعوذُ بكَ اللهم من سوءِ صُنعنَا ... ومن أن تكن نَعماكَ عنَّا تَحولُ
وأنِّي لك اللهم في الدينِ مخلصٌ ... وهمِّي وحاجَاتِي بجُودكَ أُنْزِلُ
إلهي فثبِّتني على دِينكَ الذي ... رضيتَ به دِيْنًا وإياهُ تَقبلُ
وَهَبْ لي من الفِردوسِ قصرًا مُشيدًا ... ومُنَّ بِخيراتٍ بها أَتعجلُ
ولله حمدٌ دائمٌ بدوامِهِ ... مَدَى الدَّهر لا يفنَى ولا الحمدُ يَكمُلُ
مِدادُ كلام الله عدَّةُ خَلقِهِ ... رَضِى نَفْسِه يَنْمُو ويَسْمُو ويَفضُلُ
يزيدُ على وزنِ الخلائقِ كلِّهَا ... وأرجحُ من وزنِ الجميعِ وأَثقلُ
وإني بحمدِ الله بالحمدِ أَبتدِي ... وأُنهي بحمدِ الله قولِي وأُكملُ
صلاةً وتسليمًا وأزكَى تحيةً ... تعمُّ جميعَ المرسلينَ وتَشملُ
وأزكَى صلاةَ الله ثمَّ سلامهِ ... على المُصطفَى أزكَى البَريةَ تَنزلُ
نبيٍّ زكيِّ الأصلِ والفرعِ أصلُهُ ... مع الفرعِ في أصلِ النَّدى مُتأصِّلُ
جميعُ خصالِ الخيرِ مُستوعبٌ لَهَا ... إلى سَوحةٍ تهوي وتأوي وتَكْمُلُ(3/218)
وقال آخر:
كأني بِنفسِي وهي في السَّكراتِ ... تُعالجُ أن ترقَي إلى اللَّهواتِ
وَقد زُمَّ رَحْلي واسْتقلَّتْ رَكائبِي ... وقد آذَنَتْني بالرحيلِ حُداتِي
إلى مَنْزل فيه عذابٌ ورحمُةٌ ... وكمْ فيه من زجرٍ لنَا وعظاتِ
ومن أَعينٍ سالتْ على وَجناتِهَا ... ومن أوجهٍ في التُّربِ مُنعفراتِ
ومن واردٍ فيه على ما يَسرُّهُ ... ومن واردٍ فيه على الحَسراتِ
ومن عاثرٍ ما أن يقالَ له لَعَا ... على مَا عهدنا قبل في العَثراتِ
ومن ملكٍ كان السُّرورُ مِهادُهُ ... مع الآنَسِاتِ الخرَّدِ الخَفراتِ
غدَا لا يَذودُ الدُّودُ عن حُرِ وجهِهِ ... وكانَ يَذُوْدُ الأسدَ في الاجَماتِ
وعُوَّضَ أُنسًا من ظِباءِ كِناسِهِ ... وَأرامهِ بالرُّقشِ والحَشراتِ
وصار بِبطنِ الأرضِ يَلتحفُ الثَّرى ... وكان يَجرُّ الوشي والحَبراتِ
ولم تُغنهِ أنصارهُ وجنودهُ ... ولم تَحمهِ بِالبيضِ والأسَلاتِ
ومما شَجانِي والشُجونُ كثيرة ... ذُنوبٌ عِظامٌ أسبلتْ عَبراتِي
وأقَلقَنِي أنِّي أموتُ مُفرطًا ... على أَنِّني خَلَّفتُ بعد لَذاتِ
وأَغْفَلتُ أمرِي بعدهم مُتثبطًا ... فيا عجبًا مني ومِن غَفلاتِي
إلى الله أشكُو جهلَ نفسِي فإنَّها ... تميلُ إلى الرَّاحاتِ والشَّهواتِ
وَيا رُبَّ خِلٍّ كنتَ ذَا صلةٍ لهُ ... يَرى أن دَفنِي من أَجلِّ صَلاتِي
وكنتُ لهُ أُنسًا وشمسًا مُنيرةً ... فأفردنِي في وَحشةِ الظُّلماتِ
سأضربُ فُسطادِي على عَسكرِ البِلَى ... وأُركزُ فيه للنُّزلِ قَناتِي
واركبُ ظهرًا لا يئوبُ بركبٍ ... ولا يُمتطَى إلا إلى الهَلكاتِ
وليس يَرى إلا بِساحة ظاعنٍ ...(3/219)
إلى مَصرعِ الفَرحاتِ والنَّزحاتِ
يسيرُ أدنَى النَّاسِ سيًرا كسيرهِ ... بأرفعِ مَنْعِي من السَّرواتِ
فطورًا تراهُ يَحْمِلُ الشُمَّ والرُّبَا ... وطورًا تراهُ يَحملُ الحَصياتِ
ورُبَّ حَصاةٍ قدرُهَا فوقَ يذبلٍ ... كمقبُولِ ما يُرمَي من الجَمراتِ
وكلُّ صغير كانَ لله خَالصًا ... يُربِّى عَلَى ما جَاءَ في الصَّدقاتِ
وكلُّ كبيرٍ لا يكونُ لِوجهِهِ ... فَمثلُ رمادٍ طارَ في الهَبَواتِ
ولكنَّهُ يُرْجَى لِمَنْ مَاتَ محسنًا ... ويُخْشَى على من مَاتَ في غَمراتِ
وما اليومُ يَمتازُ التَّفاضُل بينهُم ... ولكن غَدًا يَمتازُ في الدَّرجاتِ
إِذَا رُوِّعَ الخاطِي وَطَارَ فُؤادُهُ ... وَافرخَ رَوْعُ البِّر في الغُرُفاتِ
وما يعرفُ الإنسانُ أين وَفاتهُ ... أفي البرِّ أم في البحرِ أم بِفلاةِ
فَيا إخوَتي مهما شَهِدتُم جَنَازَتي ... فقومُوا لربِّي وأسألُوه نَجاتِي
وجُدُّوا ابتهالاً في الدُّعاءِ واخْلِصُوا ... لعل إلهي يَقْبَلُ الدَّعواتِ
وقولاً جميلاً إن عَلِمتُم خِلافهُ ... وأَغْضُوا على ما كان من هَفواتِ
ولا تَصفُوني بالذي أنا أهلُهُ ... فَأَشْقَى وحَلُّوني بِخيرِ صِفاتِي
ولا تَتَناسَوني فَقدْمًا ذَكَرتكمُ ... وَوَاصَلْتكُم بالبرِّ طولَ حَيَاتِي
وبالرَّغمِ فارقتُ الأحبَّةَ منكم ... ولما تُفارقني بكم زَفراتِي
وإن كنت ميتًا بين أيديكُم لَقًا ... فروحِي حيٌّ سامعٌ لِنُعاتِي
أناجيكم حيًّا وإن كنتَ صامتًا ... ألا كلكم يومًا إلىّ سَياتِي
وليس يقومُ الجسمُ إلا بِرُوحِه ... هو القُطْبُ والأعضاءُ كالأدواتِ
ولا بدَّ يومًا أن يَحُورَ بعينه ... ليُجزَى على الطَّاعاتِ والتَّبعاتِ
وإلاَّ أكُن أهلاً لفضل ورحمةٍ ...(3/220)
فربي أهلُ الفَضلِ والرَّحماتِ
فما زِلتُ أرجُو عفوهُ وجِنانَهُ ... وَأَحمَدُه في اليُسرِ والأَزماتِ
وأسجدُ تعظيمًا لهُ وتذللاً ... وأَعبُدُه في الجَهرِ والخَلواتِ
وَلستُ بِمُمْتَنٍ عليه بِطَاعتِي ... لهُ المنُّ في التَّيسيرِ للحَسناتِ
آخر:
مَا دَارُ دُنيًا للمقيمِ بدارِ ... وَبها النُفوسُ فَريسةُ الأقدارِ
مَا بين ليلٍ عَاكفٍ ونهارِهِ ... نَفَسَانِ مُرتشفَانِ للأعمارِ
طولُ الحياةِ إذا مَضَى َكَقصِيرهَا ... واليُسرُ للإنسانِ كالإِعسارِ
والعَيشُ يَعْقِبُ بالمرارَةِ حُلوهُ ... والصَّفوُ فيه مُخلَّفُ الأكدارِ
وكأنما تَقْضِي بِنيَّاتُ الرَّدَى ... لِفنائِنَا وطرًا من الأوطارِ
والمرء كالطَّيفِ المُطيفِ وعُمرهُ ... كالنَّوم بين الفَجرِ والأَسْحَارِ
خَطبٌ تَضاءلتَ الخُطوبُ لهولهِ ... أَخطارُهُ تعلو على الأخطارِ
تُلقي الصَّوارمَ والرماحَ لهولهِ ... وتلوذُ من حربٍ إلى اسْتشعارِ
إنَّ الذين بنوا مَشيدًا وانْثنُوا ... يَسعونَ سَعي الفَاتكِ الجبارِ
سلُبوا النَّضارةَ والنَّعيمَ فأصبحُوا ... مُتوسدينَ وسائدَ الأحجارِ
تَركُوا دِيارهُم على أَعداهِم ... وتوسدُوا مَدرًا بغير دِثارِ
خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهُم بِضَعيفِهم ... وَغَنيَّهمُ سَاوَى بذِي الإِقتارِ
والخوفُ يُعجلُنا على آثارِهِم ... لا بدَّ من صبحٍ المجدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ الملوين فِينَا نَاثرٌ ... بَاكرِّ ما نَظَمَا من الأَعمارِ
انتهى.(3/221)
فصل في التحذير من النار وما أعد لأهلها
قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} فيا أيها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال دع الاشتغال والتفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف فكرك واجتهادك إلى موردك الذي سترده، فإنك أخبرت أن النار مورد للجميع.
قال الله جل وعلا وتقدس: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك.
فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة وأهوالها وشدائدها ما قاسوا.
فبينما هم في كربها وأهوالها ودواهيها وقوفا ينتظرون حقيقة أخبارها وتشفيع شفعائها إذا أحاطت بالمجرمين ظلمت ذات شعب وأظلت عليهم نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرا وجرجرة تفصح عن شدة الغيض والغضب.
قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، قال الله عز من قائل: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} .
وجئت الأمم على الركب حتى أشفق البراءاء من سوء المنقلب، قال الله جل وعلا وتقدس: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ(3/222)
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وخرج المنادي قائلا أين فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل.
فيبادرونه بمقامع من حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إلى العذاب الشديد وينكسونه في جهنم ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .
فأسكنوا دار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك قال الله جل وعلا: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} دار يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير شرابهم الحميم ومستقرهم الجحيم.
قال الله تبارك وتعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ} وقال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} الهاوية تجمعهم والزبانية تقمعهم.
قال تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
وقال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} قد شدت أقدامهم إلى النواصي، وأسودت وجوههم من ظلمة المعاصي.
ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها يا مالك قد حق(3/223)
علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فتقول الزبانية هيهات لات حين مناص، ولا خروج لكم من دار الهون قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
ولو خرجتم لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . فعند ذلك يقنطون وعلى تفريطهم في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف بل يكبون على وجوههم مغلولين قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .
النار من فوقهم والنار من تحتهم والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم قال الله جل وعلا: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فهم غرقى في النار طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار قال الله جل وعلا: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} .
فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وثقل السلاسل فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون في دركاتها ويضطربون في غواشيها تغلي بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والثبور.
قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ(3/224)
رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
قيل إن مقامع الحديد تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد في أفواههم وتنقطع من العطش أكبادهم وتسيل على الخلود أحداقهم وتسقط من الوجنات لحومها وتتمزق الجلود.
قال الله جل وعلا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قد عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون.
قال الله جل وعلا وتقدس: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سودت وجوههم وأعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم ومزقت جلودهم وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين النواصي والأقدام.
قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} .
فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم. ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار(3/225)
عنيد وبالمصورين".
ذكر الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ويقول: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
وأنشدوا:
أَمَا سَمِعْتَ بِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ ... وَعَنْ مُقَاسَاةِ مَا يَلْقَوْنَ فِي النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بَأَكْبَادٍ لَهُمْ صَدَعَتْ ... خَوْفًا مِنَ النَّارِ قَدْ ذَابَتْ عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِأَغْلَالٍ تُنَاطُ بِهِمْ ... فَيُسْحَبُونَ بِهَا سَحْبًا عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِضِيقٍ فِي مَجَالِسِهِمْ ... وَفِي الْفِرَارِ وَلَا فِرَارَ فِي النَّارِِ
أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلَيْهِمْ خُلِقَتْ مِنْ خَالِصِ النَّارِِ
أَمَا سَمِعْتَ بِأَجْسَادٍ لَهُمْ نَضَجَتْ ... مِنَ الْعَذَابِ وَمِنْ غَلْيٍ عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِمَا يُكَلَّفُونَ بِهِ ... مِنِ ارْتِقَاءِ جِبَالِ النَّارِ فِي النَّارِ
حَتَّى إِذَا مَا عَلَوْا عَلَى شَوَاهِقِهَا ... صُبُّوا بِعُنْفٍ إِلَى أَسَافِلِ النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِزَقُّومٍ يُسَوِّغُهُ ... مَاءٌ صَدِيدٌ وَلَا تَسْوِيغَ فِي النَّارِ
يُسْقَوْنَ مِنْهُ كُئُوسًا مُلِئَتْ سُقْمًا ... تَرْمِي بِأَمْعَائِهِمْ رَمْيًا عَلَى النَّارِ
يَشْوِي الْوُجُوهَ وُجُوهَا أُلْبِسَتْ ظُلْمًا ... بِئْسَ الشَّرَابُ شَرَابُ سَاكِنِي النَّارِ
وَلَا يَنَامُونَ إِنَ طَافَ الْمَنَامُ بِهِمْ ... وَلَا مَنَامَ لِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ
إِنْ يَسْتَقِيلُوا فَلَا تُقَالُ عُثْرَتُهُمْ ...(3/226)
أَوْ يَسْتَغِيثُوا فَلَا غِيَاثَ فِي النَّارِ
وَإِنْ أَرَادُوا خُرُوجًا رُدَّ خَارِجُهُمْ ... بِمَقْمَعِ النَّارِ مَدْحُورًا إِلَى النَّارِ
فَهُمْ إِلَى النَّارِ مَدْفُوعُونَ بِالنَّارِ ... وَهُمْ مِنَ النَّارِ يُهْرَعُونَ لِلنَّارِ
مَا أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِمْ ... وَلَا تُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَوْرَةُ النَّارِ
فَهَذِهِ صَدَعَتْ أَكْبَادُ سَامِعِهَا ... مِنْ ذِي الْحِجَا وَمِنْ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ
وَلَوْ يَكُونُ إِلَى وَقْتِ عَذَابِهِمْ ... فِي النَّارِ هَوَّنَ ذَاكُمْ لَفْحَةَ النَّارِ
فَيَا إِلَهِي وَمَنْ أَحْكَامُهُ سَبَقَتْ ... فِي الْفِرْقَتَيْنِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّارِ
رَحْمَاكَ يَا رَبِّ فِي ضَعْفِي وَفِي ضَعَتِي ... فَمَا وُجُودُكَ لِي صَبْرٌ عَلَى النَّارِ
وَلَا عَلَى حَرِّ شَمْسٍ إِنْ بَرَزْتُ لَهَا ... فَكَيْفَ أَصْبِرُ يَا مَوْلَايَ لِلنَّارِ
فَإِنْ تَغَمَّدَنِي عَفْوٌ وَثِقْتُ بِهِ ... مِنْكَ وَإِلَّا فَإِنِّي طُعْمَةُ النَّارِ
آخر:
يَا مُنْفِقَ الْعُمْرِ فِي حِرْصٍ وَفِي طَمَعٍ ... إِلَى مَتَى قَدْ تَوَلَّى وَانْقَضَى الْعُمُرُ
إِلَى مَتَى ذَا التَّمَادِي فِي الضَّلَالِ أَمَا ... تُثْنِيكَ مَوْعِظَةٌ لَوْ يَنْفَعُ الذِّكْرُ
بَادِرْ مَتَابًا عَسَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... وَمَا اقْتَرَفْتَ مِن الْآثَامِ يَغْتَفِرُ
وَجَنِّبِ الْحِرْصَ وَاتْرُكْهُ فَمَا أَحَدٌ ... يَنَالُ بِالْحِرْصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْقَدَرُ
وَلَا تُؤْمِلْ لِمَا تَرْجُو وَتَحْذَرُهُ ... مَنْ لَيْسَ فِي كَفِّهِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرُ
وَفَوِّضِ الْأَمْرَ لِلرَّحَمَنِ مُعْتَمِدًا ... عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
وَاحْذَرْ هُجُومَ الْمَنَايَا وَاسْتَعِدَّ لَهَا ... مَا دَامَ يُمْكِنُكَ الْإِعْدَادُ وَالْحَذَرُ
انتهى(3/227)
آخر:
لِمَنْ جَدَثٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... وَأَرْسَلَ فِي شَجْوِ الْهُمُومِ عِنَانِي
سَفَكْتُ عَلَيْهِ أَدْمُعِي فَسَقَيْتُهُ ... كَمَا هُوَ مِنْ كَأْسِ الشُّجُونِ سَقَانِي
وَقَفْتُ بِهِ حَيْرَانَ وَقْفَةَ هَائِمٍ ... أُعَالِجُ قَلْبًا دَائِمَ الْخَفَقَانِ
وَمَا بِي مَنْ فِي الْقَبْرِ لَكِنْ رَأَيْتُهُ ... عَلَى حَالَةٍ فِيهَا وَشِيكَ أَرَانِي
آخر:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَلِلَّهِ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ ... تَسُحُّ لِفَرْطِ الْوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا
يُقِيمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلَامَهُ ... عَلَى نَفْسِه مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا
فَصِيحًا إِذَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ... وَفِيمَا سِوَاهُ فِي الْوَرَى كَانَ مُعْجَمَا
وَيَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ... وَمَا كَانَ فِيهَا فِي الْجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَرِينَ الْهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ ... وَيَخْدِمُ مَوْلَاهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤْلِي وَبُغْيَتِي ... كَفَى بِكَ لِلرَّاجِينَ سُؤْلًا وَمَغْنَمَا
فَأَنْتَ الَّذِي غَذَّيْتَنِي وَكَفَلْتَنِي ... وَمَا زِلْتَ مَنَّانًا عَلَيَّ وَمُنْعِمَا
رَجَوْتُكَ مَوْلَى الْفَضْلِ تَغْفِرُ زَلَّتِي ... وَتَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا
انتهى.(3/228)
آخر:
قِفْ بِالْقُبُورِ بِأَكْبَادٍ مُصَدَّعَةً ... وَدَمْعَةٍ مِنْ سَوَادِ الْقَلْبِ تَنْبَعِثُ
وَسَلْ بِهَا عَنْ أُنَاسٍ طَالَمَا رَشَفُوا ... ثَغْرَ النَّعِيمِ وَمَا فِي ظِلِّهِ مَكَثُوا
مَاذَا لَقُوا فِي خَبَايَاهَا وَمَا قَدِمُوا ... عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا مِنْ أَجْلِهِ ارْتَبَثُوا
وَعَنْ مَحَاسِنِهِمْ أَنْ كَانَ غَيَّرَهَا ... طُولُ الْمُقَامِ بِبَطْنِ الْأَرْضِ وَاللَّبَثُ
وَمَا لَهُمْ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ تَنْهَشُهُمْ ... نَهْشًا تَزُولُ لَهُ الْأَعْضَاءُ وَالنَّجَثُ
وَتِلْكُمُ الْفَتَيَاتُ إِذْ طُرِحْنَ بِهَا ... هَلْ كَاَن فِيهِنَّ ذَا التَّغْيِيرُ وَالشِّعَثُ
فَإِنْ يُجِبْكَ عَلَى لِأَيِّ مُجِيبْهُمُوا ... وَلَنْ يُجِيبَ وَأَنَّى يَنْطِقُ الْجَدَثُ
فَانْظُرْ مَكَانَكَ فِي أَفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ ... فَإِنَّهُ الْجِدُّ لَا هَزْلٌ وَلَا عَبَثُ
انتهى.
آخر:
لِمَنِ الْأَقْبُرُ فِي تِلْكَ الرُّبَى ... مَلَأَتْ صَدْرِي شَجْوًا وَأَسَى
لِمَنِ الْأَوْجُهُ فِيهَا كَسَفَتْ ... بَعْدَ حُسْنٍ وَجَمَالٍ وَضِيَا
لِمَنِ الْأَجْسَامُ فِيهَا بَلِيَتْ ... بَعْدَ زَهْوٍ وَشَبَابٍ وَانْتِشَا
وَمِنِ الْفُرْسَانُ فِيهَا قَدْ نَسُوا ... رَوْعَةَ الْحَرْبِ بِرَوْعَاتِ الثَّرَا
وَرَمَوْا إِذْ هَتَفَ الْمَوْتُ بِهِمْ ... بِسُيُوفِ الْهِنْدِ رَوْعًا وَالْقَنَا
وَمَنِ الْخُرَّدُ فِيهَا شَدَّمَا ... فَتَكَتْ قَبْلَ آسَادِ الشَّرَا
نَظَرَ الْمَوْتُ إِلَيْهَا فَغَدَتْ ... تَنْفُرُ الْأَنْفُسُ مِنْهَا إِذْ تُرَى
لِمَنِ الْأَقْبُرُ فِي تِلْكَ الرُّبَى ... أَلْبَسَتْ جِسْمِيَ أَثْوَابَ الضَّنَا
يَا جُفُونًا أَرْسَلَتْ أَدْمُعَهَا ...(3/229)
مَا بِذَا بَأْسٌ لَوْ أَرْسَلْتِ الدَّمَا
صَاحِ يَا صَاحِ وَنِيرَانُ الْجَوَى ... عَلِقَتْ مِنِّي بِأَثْنَاءِ الْحَشَا
لَا تَظَنَنَّ بُكَائِي لَهُمُوا ... لَيْسَ وَاللهِ لَهُمْ هَذَا الْبُكَا
إِنَّمَا أَبْكِي لِنَفْسِي لَا لَهُمْ ... فَكَأَنِّي الْيَومَ فِيهِمْ أَوْ غَدَا
هَامِدُ الْجَمْرَةِ مَوْهُونُ الْقُوَى ... دَائِمُ الْحَسْرَةِ مَقْطُوعُ الْعُرَى
آخر:
يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا ... أَقْصِرْ فَمَا الدَّهْرُ إِلَّا بِالْهُمُومِ مُلِي
كَمْ مَنْظَرٍ زَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَتَهُ ... يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنِ الْحِيَلِ
وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ ... تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ
وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ ... قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولًا عَنِ الدُّوَلِ
وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا ... أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلَا خَوَلِ
يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً ... وَإِنْ جَهِلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ
هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ مَنْ قَبْلَهُ سَمَعَتْ ... أُذُنَاكَ أَنْ ابْنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ
وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلَوْا وَغَلَوْا ... فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنِ الْأَجَلِ
أَوْ هَلْ نَسِيتَ "لِدُوا لِلْمَوتِ" أَوْ عَمِيَتْ ... عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ
وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزٍّ لِعِزَّتِهِ ... أَوْ هَلْ خَلَا أَحَدٌ دَهْرًا بِلَا خَلَلِ
الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ... لَكِنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَى عَجَلِ
وَلَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ ... كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلَا عَمَلِ
وَلَيْسَ مَوْتُ الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ ... كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنَ الْأَوْغَادِ وَالسِّفَلِ
انتهى.(3/230)
آخر:
وَكَيْفَ قَرَّتْ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْيُنُهُمْ ... أَوْ اسْتَلَذَوْا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا
وَالْمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلَانِيَةً ... لَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لَا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ
قَدْ أَمْسَتِ الطَّيْرُ وَالْأَنْعَامُ آمِنَةٌ ... وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَا يَخْشَى لَهَا فَزَعُ
وَالْآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ ... لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الْأَسْرِارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يَرَى فِيهِ يَوْمَ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا ... وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ وَالْأَبْصَارُ وَالسَّمْعُ
وَإِذْ يَقُومُونَ وَالْأَشْهَادُ قَائِمَةٌ ... وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْأَمْلَاكُ قَدْ خَشَعُوا
وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي مُنْشَّرَةً ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْأَخْبَارُ تُطلعُ
فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمْ فِي الْجَحِيمِ فَلَا تَبْقَى وَلَا تَدَعُ
تَهْوِي بِسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ ... إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ ... هَيْهَاتَ لَا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
انتهى
آخر:
يَا نَائِمًا وَالْمَنُونَ يَقْضِي ... وَغَائِبًا وَالْحِمَامُ أَوْفَى
جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أَمْرٍ ... طَمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَفَّى
هَلْ بَعْدَ هَذَا الْمَشِيبِ شَيْءٌ ... غَيْرَ تُرَابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى
فَلَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ سَهْلًا ... وَلَا بِشَيْءٍ عَلَيْكَ يَخْفَى
مِنْ بَعْدِ مَا الْمَرْءُ فِي بَرَاحٍ ... يَهْتَزُّ تِيهًا بِهِ وَظَرْفَا
سَاكِنُ نَفْسٍ قَرِيرُ عَيْنٍ ...(3/231)
يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيمِ رَشْفَا
إِذْ عَصَفَتْ فِي دَارِهِ رِيحٌ ... تَقْصِفُ كُلَّ الظُّهُورِ قَصْفَا
فَبَاتَ فِي أَهْلِهِ حَصِيدًا ... قَدْ جَعَفَتْهُ الْمَنُونُ جَعْفَا
فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيمُ بُؤْسًا ... وَصَارَ ذَاكَ السُّكُونُ رَجْفَا
وَسِيقَ سَوْقًا إِلَى ضَرِيحٍ ... يُرْصَفُ بِالرَّغْمِ فِيهِ رَصْفًا
وَبَاتَ لِِلدَّوْدِ فِيهِ طَعْمًا ... وَلِلْهَوامِّ الْعِطَاشِ رَشْفَا
وَلَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ رَهِينًا ... بِكُلِّ مَا قَدْ هَفَا وَأَهْفَا
آخر:
وَمُجَرِّر خَطِيَّة يَوْمَ الْوَغَى ... مُنْسَابَة مِنْ خَلْفِهِ كَالْأَرْقَمِ
تَتَضَاءَلُ الْأَبْطَالُ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَبِيتُ مِنْهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ
شَرِسُ الْمُقَادَةِ لَا يَزَالُ رَبِيئَةً ... وَمَتَى يُحِسُّ بِنَارِ حَرْبٍ يُقْدِمِ
تَقَعُ الْفَرِيسَةُ مِنْهُ فِي فَوْهَاءَ إِنْ ... يُطْرَحْ بِهَا صُمُّ الْحِجَارَةِ يُحْطَمِ
ظَمْآنَ لِدَّمِ لَا يَقُومُ بِرَيِّهِ ... إِلَّا الْمُرَّوقُ فِي الْجُسُومِ مِنَ الدَّمِ
جَاءَتْهُ مِنْ قِبَلِ الْمَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِّ
وَرَمَى بِمُحْكَمٍ دِرْعِهِ وَبِرُمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مَلْقَى كَالْبَعِيرِ الْأَعْظَمِ
لَا يَسْتَجِيبُ لِصَارِخٍ إِنْ يَدْعُهُ ... أَبْدًا وَلَا يُرْجَى لِخَطْبِ مُعْظَمِ
ذَهَبَتْ بَسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَآى خَيْلَ الْمَنِيَّةِ تَرْتَمِي
يَا وَيْحَهُ مِنْ فَارِسٍ مَا بَالُهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوسَتِهِ وَلَمَّا يُكْلَمِ
هَذِي يَدَاهُ وَهَذِهِ أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ
هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَى مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمَشْرَفِيِّ وَلَا السِّنَانِ اللَّهْذَمِ
هِيَ وَيَحْكُمْ أَمْرُ الْإِلَهِ وَحُكْمُهُ ...(3/232)
وَاللهُ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ
يَا حَسْرَةً لَوْ كَانَ يُقْدَرُ قَدْرُهَا ... وَمُصِيبَةً عَظُمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمُ
خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا فِي حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ
آخر:
أَلَمْ تَسْمَعْ عَنِ النَّبَأِ الْعَظَيمِ ... وَعَنْ خَطْبِ خُلِقَتْ لَهُ جَسِيمُ
وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الْأَرْضَ هَدًّا ... وَيَرْمِي فِي الْحَضِيضَةِ بِالنُّجُومِ
وَأَهْوالٍ كَأَطْوَادِ رَوَاسَيْ ... تَلَاطَمُ فِي ظُلُوعِ كَالْهَشِيمِ
فَمِنْ رَأْسٍ يَشِيبُ وَمَنْ فُؤَادٍ ... يَذُوبُ وَمِنْ هُمُومٍ فِي هُمُومِ
وَسَكْرانٍ وَلَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ ... وَهَيْمَانٍ وَلَمْ يَعْلَقْ بِرِيمِ
وَمُرْضِعَةٍ قَدْ أَذْهَلَهَا أَسَاهَا ... فَمَا تَدْرِي الرَّضِيعَ مِنَ الْفَطِيمِ
وَمُؤْتَمةٍ تَوَلَّتْ عَنْ بَنِيهَا ... وَأَلْقَتْ بِالْيَتِيمَةِ وَالْيَتِيمِ
وَحُبْلَى أَسْقَطَتْ ذُعْرًا وَخَوْفًا ... فَيَاللهُ لِلْيَوْمِ الْعَقِيمِ
وَهَذَا مَشْهَدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ... وَجَمْعٌ لِلْحَدِيثِ وَلِلْقَدِيمِ
وَمَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ وَالنَّجَاشِي ... وَتُبَّعُ وَالقُرُوْمُ بَنُو القُروْمِ
بِذَاكَ اليَوْم إِلاَّ فِي مَقَامِ ... أَذَل مِن التُّرابِ لِذِي السَّلِيْمِ
وَمَا لِلمَرء إِلاَّ مَا سَعَاهُ ... لدَار البُؤس أو دَار النعيم
وَأَنْتَ كَمَا عَلِمْتَ وَرَبِّ أَمْرٍ ... يَكُون أَذَاهُ أَوْقَعَ بِالَعلِيْمِ
فَدَعْ عَيْنَيْكَ تُسَبْح فِي مَعِيْن ... وَقَلْبُكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ فِي جَحِيْم
وَشُقَّ جُيُوبَ صَبْرِكَ شَقَّ ثُكْلَى ... تَعَلَّقَتِ ابْنَهَا رَجُلاً سَهُوْمُ
وَمَاذَا الأَمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِن ... تُشَبَّهُ بِالبِحَارِ يَدُ الكَرِيُمِ(3/233)
آخر:
امْدُد يَمِيْنَكَ مِن دُنْيَاكَ آخِذة ... كِتَابَ فَوْزِكَ إِذْ تَحْتَلُّ أَخْرَاكَا
فَلَسْتَ تُدْرِكُ مَا فِي ذَاكَ مِن أَمَلْ ... إِلاَّ بِوَاسِطَةٍ مِن دَار دُنْيَاكَا
فَإِنْ تَكَاسَلْتَ أَوْ قَصَّرْتَ فِي طَلَبٍ ... كنت المخيب والمطلوب إذا ذاكا
يَا نَائِمَ القَلْبِ عَن أَمْرٍ يُرَادُ بِهِ ... نَبِّهِهُ وَيْحَكَ إِنَّ الأَمْرَ حَاذَاكَا
وَاشْدُدْ حُزَيْمَكَ وَاكْشِفْ سَاعِدَيْكَ لَهُ ... فَرُبَّمَا حَمدَتْ بِالْجِدِ عُقْبَاكَا
كَمْ رَابِحٍ بِكِتَابٍ كَانَ أَمْلأَهُ ... هُنَا بِمَا شَاءَ لاَ مَنْ كَانَ أَفْاكَا
فَظَلَّ مُرْتَقِيًا أَدْرَاجَ مَكْرُمَةٍ ... فِي عَدْنٍ أَوْ نَازلاً فِي النَّار أَدْراكَا
وَطَلْعَةُ المَوْت تُبْدِي عَن حَقيقةٍ مَا ... تُمْلِي فَإيَّاكَ أَنْ تَنْسَاهُ إِيَّاكَا
انتهى.
آخر:
مَاذَا تُؤْملُ وَالأَيَّامُ ذَاهِبَةٌ ... وَمَنْ وَرَائِكَ لِلأَيَّامِ قُطَّاعُ
وَصَيْحَةٍ لِهُجْومِ المَوْت مُنْكِرةٌ ... صُمَّتْ لِوَقْعَتِهَا الشَّنْعَاءِ أَسْمَاعُ
وغُصَّةٍ بِكؤوسٍ أَنْتَ شَارِبُهَا ... لَهَا بِقَلْبِكَ آَلاَمٌ وَأَوْجَاعُ
يَا غَافِلاً وَهْوَ مَطْلُوبٌ وَمُتَّبَعٌ ... أَتَاكَ سَيْلٌ مِن الفُرْسَانِ دَفَّاعُ
خذها إِلَيْكَ طعانا فِيْك نَافِذةَ ... تَعْدِي الْجَلِيْسَ وَأمرُ لَيْسَ يُسْطَاعُ
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُلْقَى عَلَى جَبَلٍ ... لأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِنْهُ وَهْوَ مَيَّاعُ
انتهى(3/234)
آخر:
وَاذكُرْ رُقَادِكَ فِي الثَّرَى ... فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ بَهَيمْ
قَدْ نَحِّيَتْ تِلْكَ الحُلَى ... واستَبْدَلَتْ تِلْكَ الرُّسُومْ
وَتَرَكْتَ وَيْحَكَ مُفْرَدًا ... لا أَهْل فِيْهِ وَلاَ حَمِيْمْ
حَيْرَانَ تَفْزَعَ لِلبُكَا ... لَهْفَان تَأنَسُ بِالغُمُوْمْ
حَتَّى يُنَادَى بِالوَرَى ... فَتَقُوُم أَسْرَعَ مَا تَقُوْمْ
عَرْيَانَ مُصْطَفِقَ الْحَشَا ... هَيْمَانَ مُجْتَمِعَ الْهُمُوْمْ
وَالنَّاس قَدْ رَجَفَتْ بِهِم ... حَرْبُ هُنَا لِكُمُوا عَقِيْمْ
فِي مَأزَقٍ تَهْفُو بِهِ ... لَفَحَاتِ نِيْرانِ السًّمُوْمْ
وَبَدَتْ هُنَاكَ سَرَائِرٌ ... قَدْ كُنْتَ قَبْلُ لَهَا كَتُوْمْ
وَرَأَيْتَ فِي مَحْصُولِهَا ... مَا شِئْتَ مِنْ خُسْرٍ وَشُؤْمْ
آخر:
اعتَزلْ ذكر الغواني وَالغَزَل ... وَقُلِ الفصل وجانبْ من هَزَلْ
ودع الذكرى لأَيَّام الصبا ... فلأَيَّام الصِّبَا نجمٌ أَفَلْ
إن أهُنَا عِيشةٍ قَضَيْتَهَا ... ذَهَبتْ لَذَّاتُهَا وَالإثْمُ حَلْ
واترك الغادة لاَ تَحْفَل بِهَا ... تُمْس فِي عِزّ رَفِيْعٍ وَتُجلْ
وَافتَكِر فِي مُنْتَهَى حُسْنَ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمرًا جَلَلْ
وَاهْجُرِ الخَمْرَةَ إِنْ كُنْتَ فَتًى ... كَيْفَ يسعى فِي جنون من عقل
وَاتقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا ... باشرت قلب امرئ إِلاَّ وَصلْ
لَيْسَ مَن يَقْطَع طَرقًا بَطَلا ...(3/235)
إِنَّمَا من يتقي الله بطلْ
صدق الشرع وَلاَ تركن إِلَى ... رَجل يَرْصُدُ فِي اللَّيْلِ زُحَلْ
حارت الأفكار فِي قدرة من ... قد هدانا سبلنا عز وَجلْ
أَيْنَ نمرود وَكنعان وَمن ... ملك الأَرْض وَولى وَعزلْ
أَيْنَ عاد أَيْنَ فرعون وَمن ... رَفَعَ الأهرام من يسمع يخلْ
أَيْنَ من سَادُوا وَشَادُوا وَبنوا ... هَلَكَ الكُلُّ فَلَمْ تُغْنِ القُلِلْ
أَيْنَ أرباب الحجى أَهْل النهى ... أَيْنَ أَهْل العلم وَالقوم الأولْ
سَيعِيْدُ اللهُ كُلاَّ مِنْهُمْ ... وسَيجْزِي فاعِلاً مَا قَدْ فَعلْ
يَا بُني اسْمعُ وَصَايا جَمعتْ ... حِكْمًا خُصَتْ بِهَا خَيْرُ الْمِلل ْ
اطْلبِ العِلْمَ وَلاَ تَكْسَلْ فَمَا ... أَبْعَد الْخَيْرَ عَلَى أَهْل الكَسَلْ
وَاحْتَفِلْ لِلفِقْهِ فِي الدِّيْنِ وَلا ... تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَخَوَلْ
وَاهْجُر النَّومَ وَحَصْله فَمَنْ ... يَعْرِفِ الْمَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
لاَ تَقُلْ قَدْ ذَهَبَتْ أرْبَابُهُ ... كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ
فِي ازْدِيَادِ العِلْمِ إِرْغَامُ العِدَى ... وَجَمَالُ العِلْم إِصْلاَحُ العَمَلْ
أَنَا لاَ أَخْتَارُ تَقْبِيْلَ يَدٍ ... قَطعُهَا أَجْمَلُ مِن تِلْكَ القُبَلْ
إَنْ جَزْتَنِي عَن مَدِيْحِي صَرت فِي ... رِقِّها أَوْلاً فِيْكفيني الْخَجَلْ
مُلْكُ كِسْرَى عَنْهُ تُغْنِي كِسْرةَ ... وَعَنْ البَحْرِ اكتِفَاءَ بِالوَشَلْ
أعذب الألفاظ قولي لك: خذ ... وَأَمَرُّ اللفظِ نَطْقِي بلَعَلْ
اعْتبرْ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} ... تلْقهِ حَقًّا {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
لَيْسَ مَا يَحْوى الفَتَى مِن عَزْمِهِ ... لا وَلاَ مَا فات يَوْمًا بِالكَسَلْ
اطْرَح الدُّنْيَا فَمَنْ عَادَاتِهَا ...(3/236)
تَخْفِضُ العَالِي وَتعلِي مَنْ سَفُلْ
عِيشة الرَّاغِبِ فِي تَحْصِيْلِهَا ... عِيْشَةُ الزَّاهِد فِيْهَا أَوْ أَقَلْ
كَمْ جَهُول وَهْوَ مثر مكثر ... وَعَلِيْم مَات مِنْهَا بِالعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى ... وَجَبَانٍ نَالَ غَايات الأملْ
فِاتْرِكِ الْحِيْلَة فِيْهَا وَاتْئِدْ ... إِنَّمَا الْحِيْلَة فِي تَرك الْحِيَلْ
أَيْ كَفَّ لَمْ تَنَلْ مِمَّا تَفِدْ ... فَرَمَاهَا اللهُ مِنْهُ بِالشَّلَلْ
لاَ تَقُل أَصْلي وَفَصْلي أَبَدًا ... إِنَّمَا أَصْلُ الْفَتَى مَا قَدْ حَصَلْ
قَدْ يَسودُ الْمَرءُ مِن غَيْرِ أَبٍ ... وَبِحُسْنِ السَّبكِ قَدْ يُنْفْى الزَّغَلْ
وَكَذَا الْوَرد مِن الشَّوكِ وَمَا ... يَطَلعُ النَّرجِسُ إِلاَّ مِنْ بَصَلْ
مع أني أحمد الله على ... نسبي إذ بأبي بكر اتصلْ
قِيْمَة الإِنْسَانِ مَا يُحْسُنُه ... أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ أَقَلْ
اكْتُمِ الأَمْرَيْنِ فَقْرًا وَغِنًى ... وَاكْسَبِ الفِلْسَ وَحَاسِبْ مَنْ مَطَلْ
وادَّرعْ جِدًّا وَكدا وَاجْتَنِبْ ... صُحْبَة الْحَمْقَى وَأَرْبَابِ الدِّوَلْ
بَيْنَ تَبْذِيْرٍ وَبخْل رُتْبَةٌ ... وَكلا هَذين إِنْ زَادَ قَتلْ
لاَ تَخُضْ فِي حَقِّ سَادَاتٍ مَضُوا ... إِنَّهُم لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلزَلَلْ
وَتَغَافَل عَن أُمورٍ إِنَّهُ ... لَمْ يَفُزْ بِالحَمْدِ إِلاَّ مَنْ غَفَلْ
لَيْسَ يخلو المرء من ضد وَلو ... حاول العزلة فِي رأس جبلْ
مِلْ عَن النَّمَّامِ وَازجُرهُ فَمَا ... بَلغَ الْمَكْرُوه إِلاَّ مَنْ نَقَلْ
دَار جارَ السَّوْءِ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ ... لم تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النَّقَلْ
جَانِبْ السُّلْطَان وَاحْذَرْ بَطْشَهُ ... لاَ تُعَانِدْ مَنْ إِذَا قَالَ فَعَلْ
لاَ تَلي الْحُكْمَ وَإنْ هُم سَألُوا ...(3/237)
رَغْبَة فِيْك وَخَالِفْ مَنْ عَذَلْ
إنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاء لِمَنْ ... وُلِّيَ الأَحْكَامَ هَذَا إِنْ عَدَلْ
فَهُو كَالمَحْبُوسِ عَن لَذَّاتِهِ ... وَكلا كفيه فِي الْحَشْرِ تَغلْ
إِنَّ لِلنَقْصِ وَالاستِثْقَالِ فِي ... لَفْظَةِ القَاضِي لَوعظًا وَمَثَلْ
لاَ توازِي لَذْةُ الْحُكْمِ بِمَا ... ذَاقَه الشَّخْصُ إِذَا الشَّخْصُ انْعَزَلْ
فَالوِلاَيَاتُ وَإِنْ طَابَتْ لِمَنْ ... ذَاقَهَا فَالسُّم فِي ذَاكَ العَسَلْ
نَصَبُ الْمَنْصِبِ أَوْهَى جَلَدِي ... وَعَنَائِي مِنْ مُداراةِ السَّفلْ
قَصر الآَمَال فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فدليل العقل تقصير الأملْ
إَنَّ مَنْ يَطْلُبَهُ المَوْت عَلَى ... غُرَّةٍ مِنْهُ جَدِيْرٍ بِالوَجَلْ
غِبْ وَزر غِبا تَزِدْ حُبَّا فَمَنْ ... أَكْثَر التّرْدَاد أَقْصَاهُ الْمَلَلْ
خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غَمْدَهُ ... وَاعْتَبِر فَضْلَ الفَتَى دُوْنَ الْحُلَلْ
لاَ يَضُرُّ الْفَضْلَ إِقْلاَلُ كَمَا ... لا يَضُرُّ الشَّمْسَ إِطْبَاقُ الطَّفَلْ
حُبُّكَ الأَوْطَانُ عَجْزُ ظَاهِرَّ ... فَاغْتَرِبْ تَلْقَ عَن الأَهْل بَدَلْ
فَبِمُكْثِ الْمَاءِ يَبْقَى آَسنِا ... وَسُرَى البَدْرِ بِهِ البَدْرُ اكْتَمَلْ
أَيُّهَا العَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا ... إِنَّ طِيْبَ الوَرْدِ مُؤْذٍ لِلْجُعَلْ
عَدِّ عَن أَسْهُمِ قَوْلِي وَاسْتَتِرْ ... لاَ يُصِيبَنَّكَ سَهْمٌ مِن ثُعَلْ
وَصَلاة وَسَلامًا أَبَدًا ... لِلنَبِيِّ المُصْطَفَى خَيْر الدُّولْ
وَعَلَى الآَلِ الكِرَامِ السًّعَدَا ... وَعَلَى الأَصْحَابِ وَالقَوْمِ الأُولْ
مَا ثَوَى الرَّكِبُ بِعُشَّاقٍ إِلَى ... أَيْمنِ الْحَيِّ وَمَا غَنَّى رَمَلْ
انتهى.(3/238)
آخر:
أَتَلْهُو بَيْنَ تِلْفَازٍ وَكُوْرَه ... وَأَنْتَ مِن الْهَلاَكِ عَلَى شَفِيْرِ
فَيَا مَنْ غَرَّهُ أَمَل طَوِيْل ... بِهِ يَدْنُو إِلَى أَجَلٍ قَصِيْرِ
أَتَفْرَح وَالْمَنَيَّةُ كُل يَوْمٍ ... تُرِيْكَ مَكَانَ قَبْركَ فِي القُبُورِ
هِيَ الدُّنْيَا وَإِنْ سَرَّتْكَ يَوْمًا ... فَإِنَّ الْحُزْنَ عاقِبَةُ السُّرُوْرِ
سَتُسْلَبُ كُلَّ مَا جَمَّعْتَ فِيْهَا ... كَعَارِيَةِ تُرَدُّ إِلَى مُعِيْرِ
وَتَعْتَاضُ اليَقِيْنَ مِن التَّضَنِّيْ ... وَدَارَ الْحَقِّ مِن دَارِ الْغُرُوْرِ
آخر:
فَلِلَّهِ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ ... تَسِحُّ لِفَرْطِ الوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا
يُقِيْمُ إِذَا مَا اللّيلُ مَدِّ ظَلاَمَهُ ... عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا
فَصِيْحًا بِمَا قَدْ كَانَ مِن ذِكْرِ رَبَّهِ ... وَفِيْمَا سِوَاهُ فِي الوَرَى كَانَ أَعْجَمَا
وَيَذْكَّرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ... وَمَا كَانَ فِيْهَا بِالجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَريْنَ الْهَمَّ طُوْلَ نَهَارِه ... وَيَخْدِمُ مَوْلاَه ُإِذَا الليلُ أَظْلَمَا
يَقُولُ إِلَهِيْ أَنْتَ سُؤْلِي وَبغْيَتِي ... كَفَى بِكَ لِلرَّاجِيْنَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا
عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زَلَتِيْ ... وَيَسْترُ أَوْزَارِيْ وَما قَدْ تَقَدَّمَا
انتهى.
آخر:
إَلَىْ كَمْ إِذَا مَا غِبْت تُرْجَى سَلامَتِي ... وَقَدْ قَعَدَتْ بِي الْحَادِثَاتُ وَقَامَتِ
وَعُمِّمْتُ مِن نَسْجِ القَتِيْر عِمامَةُ ... رُقُومُ البِلَى مَرْقومةً بِعِمَامَتِي
وَكُنْتَ أَرَى لِي فِي الشَّبَابِ عَلاَمَةً ... فَصِرْتُ وَإنِي مُنْكِرُ لِعَلاَمَتِي
وَمَا هِي إِلاَّ أوبة بَعْد غَيْبَة ...(3/239)
إِلَى الغيبة القُصْوَى فَثَمَّ قِيَامَتِي
كَأَنِّي بِنَفْسِي حَسْرةً وَندَامَةً ... تَقْطَع إذ لَمْ تُغْنِ عَنِّي نَدَامَتِي
مني النَّفسِ مِمَّا يُوْطِئُ المَرْءَ عَشْوَةُ ... إِذَا النَّفْسُ جَالتَ حَوْلَهُنَّ وَحَامَتِ
وَمَن أَوْطَأتُه نَفْسه حَاجَة فَقَد ... أَسَاءَتْ إِليْهِ نَفْسُهُ وَأَلاَمَتِ
أَمَا وَالِّذي نفسي لَهُ لو صدقتها ... لرددت توبيخي لَهَا وَملامتي
فللهِ نَفْسٌ أَوْطَأَتْنِي مِن العَشَا ... حُزُوْنًا وَلو قَوَّمْتُهَا لاسْتَقَامَتِ
وَللهِ يَوْم أَي يَوْمٍ فَظَاعَةً ... وَأَفْظَعُ مِنْهُ بَعْدُ يَوْمِ قِيَامَتِي
وَللهِ أَهْلِي إِذْ حَبَونِي بِحُفْرَةٍ ... وَهُمْ بِهَوانِي يَطْلُبُون كَرَامَتِي
وَللهِ دُنْيَا لاَ تَزَالُ تَرُدَّنِي ... أباطيلها فِي الْجَهْلِ بَعْدَ اسْتِقَامَتِي
وَللهِ أَصْحَابُ الْمَلاعِبِ لَوْ صَفَتْ ... لهم لذة الدُّنْيَا بِهِنَّ وَدامتِ
وَللهِ عَيْنُ أَيْقَنَتْ أَنَّ جَنَّةً ... وَنَارًا يَقِيْنٌ صَادِقٌ ثُمَّ نَامَتِ
آخر:
كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأخْبَارِ مَنْ مَضَى ... وَلَمْ تَرَ فِي البَاقِيْنَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ
فَإِنْ كَنْتَ لاَ تَدْرِي فَتِلكَ دِيَارُهُم ... عَلَيْهَا مَجَالُ الرِّيْحِ بَعْدَك وَالقَطرُ
وَهَلْ أَبْصَرْت عَيْنَاكَ حَيًّا بِمَنْزلٍ ... عَلَى الأَرْض إِلاَّ بِالفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
وَأَهْل الثَّرَى نَحْوَ الْْمَقَابِر شُرَّع ... ولَيْسَ لَهُم إِلاَّ إِلَى رَبِّهِم نَشْرُ
عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعون وَهكَذَا ... يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَردَّهُم الْحَشْرُ
فَلاَ تَحْسَبَنَّ الوفْرَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... وَلَكِن مَا قَدَّمْتَ مِن صَالحٍ وَفْرُ
ولَيْسَ الَّذِي يبقى الَّذِي أَنْتَ جامع ... وَلَكِن مَا أوليت مِنْهُ هُو الذخرُ
قَضَى جَامِعُو الأَمْوَال لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الفَقْرَ يَا بُؤْساً لِمَنْ زَادُهُ الفَقْرُ(3/240)
بَلْ سَوْفَ تَصْحُوا حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغَطَا ... وَتَذَكَّر قَوْلِي حِيْنَ لاَ يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وَمَا بَيْنَ مِيْلاَدِ الفَتَى وَوفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفُسَهُم عُمْرُ
لأَنَّ الَّذِي يَأْتِي كَمِثْل الَّذِي مَضَى ... وَمَا هُو إِلاَّ وَقْتُكَ الضَّيّقُ النِّزْرُ
فَصَبْرًا عَلَى الأَوْقَاتِ حَتَّى تَحُوزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيْل بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ
انتهى.
آخر:
أَتَيْت إِلَيْكَ يَا رَبَّ العِبِادِ ... بِإِفْلاَسِي وَذلِّي وَانْفِرَادِي
وَهَا أَنَا وَاقِفٌ بِالبَابِ أَبْكِي ... زمانا مَا بَلَغْتُ بِهِ مُرَادِي
عَسَى عَفْوٌ يَبَلِّغُنِي الأَمَانِي ... فَقَدْ بَعُدَ الطَّرِيْقُ وَقَلَّ زَادِي
وَمَالِي حِيْلَةٍ إِلاَّ رَجَائِي ... وَمِنْكَ عَلَى الْمَدَى حُسُْن اعتِقَادِي
وَلَوْ اقصيْتَنِي وَقَطعْتَ حَبْلِي ... وَحَقَّكَ لاَ أَحُولُ عَن الوِدَادِ
فَجِدْ بِالعَفوِ يَا مَوْلاَيَ وَارْحَم ... عُبَيْدًا ضَلَّ عَن طُرْقِ الرَّشَادِ
وَقَدْ وَافَي بِبَابِكَ مُسْتَجِيْرًا ... يَخَافُ مِن القَطِيْعَةِ وَالبِعَادِ
آخر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَرْثي فَقِيْدًا مِن الوَرَى ... وَتَدْعُو لَهُ بَعْد النَّبِيِّ الْمُكَرّمِ
فَلاَ تَبْكِيَنْ إِلاَّ عَلَى فَقْدِ عَالِمٍ ... يُبَادِرُ بالتَّفْهِيْم لِلْمُتَعَلّمِ
وَفَقْدِ إِمَامٍ عَالِمٍ قَامَ مُلْكُهُ ... بِأَنْوَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ لاَ بِالتَّحْكُّمِ
وَفَقْدِ شُجَاعٍ صَادِقٍ فِي جِهَادِهِ ... وَقَدْ كُسِرَتْ رَايَتُهُ فِي التَّقَدُّمِ
وَفَقْدِ كَرِيْمٍ لاَ يَمَلّ مِن العَطَا ... لِيُطْفِئَ بُؤسَ الفَقْرِ عَن كُلّ مُعْدَمِ
وَفَقْدِ تَقِي زَاهِدٍ مُتَوَرِّعٍ ...(3/241)
مُطِيع لِرَبّ العَالَمِيْنَ مُعَظِمِ
فَهُم خَمْسَةٌ يَبْكِى عَلِيْهِم وَغَيُرهُم ... إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أَمُ قَشْعَمِ
انتهى.
آخر:
يَا أَيُّهَا العَاصِي الْمُسِيء إِلَى مَتَى ... تَعْصِي الإِلَه وَتغْتَذِي بِنَوالِهِ
قُمْ فِي الدَّيَاجَي طَالبًا مَرضَاتَه ... واخضع وَذل لعزه وَجلالهِ
وَاْخَضْع إِلَيْهِ وَنَادِهِ بِتَذَلُّلِ ... يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الكَئِيْب الوَالِهِ
يَا مَنْ إِذَا سَأَل الْمُقَصِّرُ عَفْوَهُ ... فَهُوَ الْمُجِيْبُ بِفَضْلِهِ لِسُؤَالِهِ
حَاشَاك تَمْنَعُه رِضَاكَ وَقد أَتَى ... مُتَنَصِّلاً مِنْ عُظْمِ قُبْحِ فِعَالِهِ
آخر:
قَطَعْتُ زَمَانِي حِيْنًا فَحِيْنَا ... أَدِيْر مِن اللَّهْوِ فِيْهِ فُنُونَا
وَأَهْمَلتُ نَفْسِي وَمَا أَهْمِلَتْ ... وَهَوَّنْتَ مِنْ ذَاكَ مَا لَمْ يَهُوْنَا
وَرُبَّ سُرُوْرٍ شَفَىَ غَلَّةً ... وَلِى فَاعْقَبَ حُزْنًا رَصِيَنا
وَكَمْ آَكِلُ سَاعَة لِمَا يُرِيْد ... يُكَابِدُ مَا أَوْرثَتْهُ سِنِيْنَا
وَمَا كَانَ أَغْنَي الفَتَى عَن نَعِيْمِ ... يَعُودُ عَلَيهِ عَذَابًا مُهِيْنَا
وَكَمْ وَعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَّمَانِ ... لَو أَنْيِ أَصِيْخُ إِلَى الوَاعِظيْنَا
وَكَمْ دَعَانِي دَاعي الْمنُوْن ... وَأَسْمَعَ لَو كُنْتُ فِي السَّامِعِيْنَا
وَمَاذَا أؤمل أو أرتجيه ... وَقَدْ جُزْتُ سَبْعًا عَلَى الأَرْبَعِيْنَا
فَلَو كَانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا ... سَمِعْتُ لَعَمْرِي مِنْهُ أَنِيْنَا(3/242)
وَلَنْ يَبْرَحَ الْمَرءُ فِي رَقْدَةٍ ... يَغِطُّ إِلَى أْنْ يُوَافِي الْمُنوْنَا
فَتُوْقِظُهُ عِندَهَا رَوْعَة ... تَقَطّعُ مِنْهُ هُنَاكَ الوَتِيْنَا
وَإذْ ذَاكَ يَدْرِي بِمَا كَانَ فِيْهِ ... وَتَجْلُو الْحَقَائِقُ مِنْهُ الظُّنُونَا
انتهى.
تُغَازِلُنِي الْمَنِيَّةُ مِنْ قَرِيْبِ ... وَتَلْحَظُنِي مُلاَحَظَةَ الرَّقِيْبِ
وَتَنْشُر لِي كِتَابًا فِيْهِ طَيِّي ... بِخَطِ الدَّهْرِ أَسْطُرُه مَشِيْبِي
كِتابٌ فِي مَعَانِيهِ غُموضٌّ ... يَلُوْحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيْبِ
أَرَى الأَعْصَارَ تَعْصُر مَاءَ عُوْدِي ... وَقَدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ القَضِيب ِ
أَدَالَ الشَّيبُ يَا صَاحِ شَبَابِي ... فَعُوِّضْتُ البَغِيضَ مِن الْحَبِيبِ
وَبُدَّلْتُ التَّثَاقُلَ مِن نَشَاطِي ... وَمِنْ حُسْنِ النَّضَارَةِ بِالشُّحُوبِ
كَذَاكَ الشَّمْسُ يَعْلُوهَا اصْفِرارٌ ... إِذَا جَنَحَتْ وَمَالَتْ لِلْغُروبِ
تَحَارِبُنا جُنودٌ لاَ تُجَارى ... وَلا تُلَقى بِآسادِ الْحُرُوبِ
هِي الأَقْدَار وَالآَجَالُ تَأْتِي ... فَتَنْزِلُ بِالْمُطَبِّبُ وَالطَّبِيْبِ
تَفَوق أَسْهُمًا عَن قَوْسِ غَيْبٍ ... وَمَا أَغْراضُها غَيْرُ القُلوبِ
فَأِنِّى بِاحْتِراسٍ مِن جُنودٍ ... مُؤيَّدَةٍ تُمَدُّ مِن الغُيُوبِ
وَمَا آسى عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِن ... عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِن الذُّنُوْبِ
فَيَا لَهْفِي عَلَى طُوْلِ اغْتِرَارِي ... وَيَا وَيْحي مِن اليَوْم العَصِيْبِ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنُحْ نَفْسِي وَأَبْكِي ... عَلَى حُوبَي بِتَهْتَانٍ سَكَوُبِ
فَمَنْ هَذَا الَّذِي بَعْدي سَيَبْكِي ... عَلَيْهَا مِنْ بَعِيْدٍ أَوْ قَرِيْبِ؟(3/243)
آخر:
فَأَمْسَوا رَمِيْمًا فِي التُّرابِ وَعُطلتْ ... مَجَالِسُهُمْ مِنْهُمْ وَأخليّ الْمَقَاصِرُ
وَحَلُّوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لِسُكَانَ القُبُورِ التَّزَاوُرُ
فَمَا أَنْ تَرَى إِلاَّ قُبُورًا ثَوَوا بِهَا ... مُسَطحَةً تَسْفِيْ عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ ... مُبَادَرَةٌ تَهْوي إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ
آخر:
فَإِنْ تَكُ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ لَهَا الْحُسْنى بِحُسْنِ فِعَالِهَا
تَفُوزُ بِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَحُورُهَا ... وَتُحْبَرُ فِي رَوْضَاتِها وَظِلاَلِهَا
وُترزق مِمَّا تَشْتَهِي مِنْ نَعِيْمِهَا ... وَتَشْرَبُ مِن تَسْنِيْمَهَا وَزلالِهَا
وَإِنَّ لَهُم يَومُ الْمَزِيْدِ لِمَوْعِدًا ... زِيِادَةُ زُلْفَى غَيُرُهُم لاَ يَنَالُهَا
وُجُوهٌ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ نَوَاظِرٌ ... لَقَدْ طَالَ مَا بِالدَّمْعِ كَانَ ابْتِلالَهَا
تَجَلَى لَهَا الرَّبُ الرَّحِيمُ مُسَلّمًا ... فَيزْدَادُ مِن ذَاكَ التَّجلي جَمَالُهَا
بِمَقْعَد صِدْق حَبَّذا الْجُارُ رَبَّهُمْ ... وَدَار خُلُود لَمْ يَخَافُوا زَوَالُهَا
فَواكِهُهَا مِمَّا تَلَذُّ عُيُونُهُمْ ... وَتَطَّرِدُ الأَنْهَارُ بَيْنَ خِلاَلِهَا
عَلَى سُرُر مَوضُونَةٍ ثَم فُرْشُهُمْ ... كَمَا قَالَ فِيْهَا رَبَّنَا وَاصِفًا لَهَا
بَطَائِنَهَا استَبْرَق كَيْفَ ظَنُّكُم ... ظَوَاهِرهَا لاَ مُنْتَهى لِجَمَالِهَا
انتهى(3/244)
آخر:
قال رحمه الله: في وصف العلم ووصية طلابه:
العِلمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ ... أَذْن وَأَعُرَبَ عَنْه نَاطِقٌ بِفَمِ
العِلمُ غايته القصوى وَرتبته ... العلياءَ فَاسَعُوا إِلَيْهِ يَا ذَوي الْهِمَمِ
العِلمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالِبُهُ ... للهِ أَكَرمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
العِلمُ نُورٌ مُبِيْنٌ يَسْتَضِيء بِه ... أَهْل السَّعادة وَالْجَهَالِ فِي الظُلمِ
العِلمُ أَعْلَى حَيَاة لِلعِبَادِ كَمَا ... أَهْل الْجِهِالِة أَمواتٌ بِجِهَلهِمِ
العِلمُ وَاللهِ مِيراثُ النُبُوةِ لاَ ... مِيرَاثَ يُشْبَهُه طُوبَى لِمقتَسِمِ
لأَنَّهُ إِرْثُ حَقِّ دَائمٍ أَبَدًا ... وَمَا سِواهُ إِلَى الإِفُناءِ وَالعَدمِ
العِلمُ مِيزانُ شِرعِ اللهِ حَيْثُ بِهِ ... قِوامُهُ وَبدونِ العِلْمِ لَمْ يقمِ
وَسُلطةُ العِلمِ تَنْقَادُ القُلُوبُ لِهَا ... إِلَى الْهُدَى وَإِلَى مَرْضَاةِ ربِّهِمِ
وَيَذْهَبُ الدِّين وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ ... ـلمُ الَّذِي فِيْهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ
العِلمُ يَا صَاح يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبْه ... أَهْل السَّمَواتِ وَالأَرْضِيْنَ مِن لَمِمِ
كَذاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيَتانُ فِي لُجَجٍ ... مِن البِحارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظَلَمِ
وَخِارجَ فِي طِلاَبِ العِلمِ مُحْتَسبَا ... مُجِاهدُ فِي سَبيلِ الله أَيَّ كَمِيِ
وَأَنَّ أَجْنِحَةَ الأمْلاكِ تَبْسُطُهَا ... لِطَالبيه رِضًى مِنْهُمُ بِصُنعهمِ
وَالسَّالكون طَريق العِلم يَسلكهم ... إِلَى الجنانِ طَريقًا بَارئ النَّسِمِ
والسَّامع العلم وَالواعَي ليحفظه ... مؤديا ناشرا إياه فِي الأممِ
فَيَا نَضَارَتِه إذ كَانَ مُتَّصِفًا ... بذَا بَدَعوةِ خيرِ الخلقِ كُلِّهُمِ(3/245)
كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْل العِلمِ أنْ رُفُعُوا ... من أجْلِهِ درجات فَوقَ غيرهمِ
وكَانَ فضل أبينا فِي القَدِيْمِ عَلَى ... الأَملاَكِ بالعِلمِ مَن تَعِليم رِبِّهِمِ
كَذَاك يُوسُف لَمْ تظهر فضيلته ... للعالمين بغير العِلمِ وَالحكمِ
وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالعِلمِ حَامِلَهُ ... أَعْظِم بِذِلِكَ تَقْدِيْمًا لِذِي قَدمِ
كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوا لِلوَحْي أَوْعِيَة ... وَأضْحَتِ الآَيْ مِنْهُ فِي صَدُوُرهِمِ
وَأنْ غَدَوا وَكلاءِ فِي القِيامِ بِهِ ... قَولاً وَفعِلا وَتعُلِيْما لِغيرهِمِ
وِخصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِه ... وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الكِلمِ
وَمَعْ شِهَادِتِه جَاءَتْ شِهَادَتُهُم ... حَيثُ اسَتجابوا وَأَهْل الجهِل فِي صَمَمِ
وَالعَالمِونَ عَلَى العِبَادِ فَضْلَهُم ... كالبدر فضلا عَلَى الدري فاغتنمِ
وَبالمهم المهم ابدأ لتدركه ... وقدم النص عَلَى الآراء فافتهمِ
قدم وَجوبا علوم الدِّين إن بها ... يبين نَهْجِ الْهُدَى مِن مُوْجِب النَّقْمِ
وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّين جَابِرُهُ ... وَالكَسْرُ فِي الدِّين صَعْب غَيْر مُلْتَئِمِ
مَا العِلمُ إِلاَّ كِتَابُ اللهُ أَوْ أَثْر ... يَجْلو بِنُورِ هُدَاه كَل مُنْبَهِمِ
ما تَمُّ عِلْمٌ سِوى الوَحْيُ المبين وَما ... مِنْهُ اسْتَمَدَ أَلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ
والكَتْمُ لِلعِلمِ فَاحذَر إِنْ كَاتَمَهُ ... فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأقوام كُلّهمِ
وَمِنْ عُقُوبَتِه أنْ فِي الْمِعَادِ لهُ ... من الجَحِيْم لجاما لَيْسَ كاللجمِ
وكاتم العلم عمن لَيْسَ يَحْمِلْهُ ... مَاذَا بِكِتْمَانْ بَل صَوْنُ فَلاَ تَلُمِ
وإِنَّمَا الكَتْم مَنْعُ العِلمِ طَالَبَهُ ... مِن مُسْتَحِق لَهُ فَافْهَمْ وَلاَ تَهِمِ
وَأَتْبِعِ العِلمَ بِالأعْمَالِ وَادعُ إِلَى ... سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ
وَاصْبِر عَليَ لاَحِقٍ مِن فِتْنَةٍ وَأَذَى ... فِيْهِ وَفي الرُّسِلِ ذِكْرَى فَاقتَدِه بِهِمِ(3/246)
لَوَاحِدَ بِكَ يَهْدِيْهِ الإِلَه لِذَا ... خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمُرِ مِن النَّعَمِ
وَاسْلُكْ سَواءَ الصِّراطِ الْمُسْتَقِيْم وَلا ... تَعْدلْ وَقُلْ: رَبِّيَ الرَّحْمَنُ وَاستَقِمِ
يَا طالبَ العِلمِ لاَتَبْغَيِ بِهِ بَدَلاً ... فَقَدْ ظَفَرْتَ وَربِّ اللوحِ وَالقَلَمِ
وَقَدِّسِ العِلمَ وَاعرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِه ... فِي القَوْلِ وَالفِعْلِ وَالأَدَبِ فَالتَزِمِ
واجْهَدْ بِعَزْمٍ قَويٍ لاَ انْثِنَاءَ لَهُ ... لَو يَعْلَمُ الْمَرءُ قَدْرَ العِلمِ لَمْ يَنَمِ
وَالنُّصْحُ فَابذُله لِلطلاَّبِ مُحْتَسِبًا ... فِي السِّر وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ
وَمَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيْكَ يَطْلُبه ... وَفِيْهِم احفَظ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِمِ
وَالنِّيَة اجعَل لِوَجْهِ اللهِ خَالِصَةً ... إِنَّ البناءَ بِدون الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ
وَمَنْ يَكُنَ لِيقولَ النَّاس يَطْلُبُه ... اخْسر بِصَفْقَتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ
وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِيْ الدُّنْيَا فلَيْسَ لَهُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حَظٍّ وَلاَ قِسمِ
إِيَّاكَ وَاحذر ممارات السَّفِيْهِ بِهِ ... كَذَا مُبَاهَات أَهْلِ العِلمِ لاَ ترمِ
فَإنََّ أَبْغَضَ كُلَّ الْخَلقِ أَجْمَعُهُم ... إِلَى الإِلَهِ أَلَدُّ النَّاسِ فِي الْخِصْمِ
وَالعُجْبَ فاحْذَرهُ إِنَّ العَّجْبَ مُجْتَرفُ ... أَعْمالَ صَاحِبِهِ فِي سَيْلِهِ العَرِمِ
انتهى.
آخر:
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ يَا مَغْرُورُ فِي غَفَلٍ ... قُمْ لِلتَّلاَقِي فَأَنْتَ اليَوْم فِي مَهَلِ
واسْتَفْرِغِ الدَّمعَ مِمَّا فَاتَ مِن زَمِنٍ ... وَانْدُبْ بِتَوبِةٍ عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ
بَادِر إِلَى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا ... فَالنَّجْحُ فِي الْجِّدِ وَالْحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ
كُنْ لاَ محالةَ فِي الدُّنْيَا كَمُغْتَرِبٍ ... عَلَى رَحِيْلٍ دَنَا أَوْ عَابر السُّبلِ
دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخرةِ ... إِنَّ الإِقَامةَ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَجَلِ(3/247)
وَكُلُّ مَنْ حَلَّ فِي الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلُ ... يَوْمًا لمنْزِلة فِي إثْرِ مُرْتَحِلِ
هَلا اعْتَبَرتَ فَكَمْ حلوا وَكم رَحِلُوا ... وإِنَّمَا النَّاس فِي حِلٍّ وَمرتَحَلِ
إذَا تَجَهَّم أَمر لاَ مَرَدَّ لَهُ ... لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَالِ وَالْحُلُلِ
يَقُومُ عَنْكَ الأَطْبَّاءُ وَالصَّدِيْقُ إِذًا ... وَقَد طَوَوا صُحُفَ التَّدْبِيْرِ وَالْخَيُلِ
فَيَدْرجُونَكَ فِي الأَكْفِانِ مُنْتزعًا ... عَنْكَ الثِّيَابُ مِن الأَبْرادِ وَالْحُلَلِ
وَيودعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَردًا ... وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِن الْمُقِلِ
وَقَائِلُ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ... وَقَائِل مَنْهُم قَدْ كَانَ خَيْرَ وَلِي
فَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا ... وَهَمُّهُم فِي اقْتِسَامِ الإرْثِ بِالْجَدَلِ
وَبَعْضُهُم مَعَ بَعْضٍ فِي مُخَاصَمَةٍ ... وَإِنَّهُم بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ
ويَأخُذُونَ قَرِيْبًا فِي مَعَايِشِهِمْ ... لاَ يَذْكُرُوْنَكَ فِي خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ
يَا أَيُّهَا الغرُّ لاَ تَغُرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ ... خَيْرُ الْمُصَاحبِ عِنْديّ صَالِحُ العَمَلِ
فِيْمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرة ... فِيْمَ التَّكَاسُلُ وَالأحوالُ فِي حَوَلِ
فِيْمَ العَويلُ لدى دَار خَلَتْ وَعَفَّتْ ... فِيْمَ البُكَاءُ عَلَى الآَثَارِ وَالطُّلَلِ
فِيْمَ التَّصَابِي وَأَيَّام الصِبَا غَبَرَتْ ... فِيْمَ النَّسْيبُ وَلاَ إِبانَ لِلْغَزلِ
فكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ ... وَكَيْفَ تَلْهُوْ وَنَارُ الشَّيْبِ فِي شُعَلِ
دَعْ ذِكْر لَيْلَى وَلِبنَى وَازَدِيَادِهِمَا ... ثَم ارتِحَالِهما مِن هَذِه الْحلِلِ
تِلْكَ الغَوِانِي وَإنْ أَخْلَصْنَ خُلّتَها ... وَاللهِ لَسْنَ بَرْيِئاتٍ مِن الدَّخِلِ
حُبُّ الأَحِبَّةِ حِرمَانِ وَمَنَدمَةٌ ... فَالغُولُ عَاقِبْةً للشَّاربِ الثَّمِلِ
يَا رَبَّ صَلِّ وَسَلَّم دَائِمًا أَبَدًا ... عَلَى نَبيِّكَ طَهَ سِيِّدِ الرُّسُلِ(3/248)
فصل
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه واتقانه وتحسينه.
فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيف أصبحت فبكى، وقال أصبحت في غفلة عظيمة عن الموت مع الذنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لست أدري علاما أهجم ثم بكى.
وقال آخر: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدا أي في الآخرة ولا تفرح بشيء لا يسرك غدا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحزن منك على ما فاتك من الطاعة، وألزمك الفكر في بقية عمرك.
وقال آخر: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه. ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.
قال إسرافيل: حضرت ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دخل الشرطي بطعام له، فقام ذو النون فنفض يده أي (قبضها عن الطعام) فقيل له: إن أخاك جاء به، فقال: إنه على يدي ظالم، قال: وسمعت رجلا سأله ما الذي أتعب العباد وأضعفهم؟ فقال: ذكر المقام وقلة الزاد، وخوف الحساب، ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله جل وعلا أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.(3/249)
والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار، ثم مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.
وقال: سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: من لم يعرف قدر النعم، سلبهامن حيث لا يعلم. ما خلع الله على عبد خلعة أحسن ولا أشرف من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينة بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركت أقواما يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لك قومي خذي حظك من الآخرة.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكن أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.
ونظر أبوهاشم إلى شريك القاضي يخرج من دار يحي بن خالد فبكى، وقال: أعوذ بالله من علم لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها فقيل له هذا خطأ.
فقال: دعونا من كلامكم رأيت الجنة رضا نفسي، وركعتين أصليهما رضا ربي، ورضاء ربي أحبي إلي من رضا نفسي، تأمل ياأخي دقة هذا الفهم لله دره.(3/250)
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغن ذلك شيئا. وإذا ساق السائق ولم يققد القائد لم يغن ذلك شيئا، وإذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفس طوعا وكرها وطاب العمل.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفس بادري بالأوقات قبل إنصرامها واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها.
فكأنك بالقبور قد تشققت وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} يا نفس أما الورعون فقد جدوا وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لايحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
دَبُّوا إِلَى الْمجدِ وَالساعُونَ قَدْ بَلغُوا ... جُهْدَ النُفُوسِ وَشَدُّوا دُوْنَه الأَزُرَا
وَسَاوَرا الْمجدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُم ... وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَن وَافِى وَمَنْ صَبَرا
لاَ تَحْسَبِ الْمَجدَ تَمْرًا أَنْتَ آَكلُه ... لَنْ تَبْلُغَ المجد حَتَّى تلعَق الصَّبِرَا
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن ظلم العبد نفسه يكون بترك ما(3/251)
ينفعها وهي محتاجة إليه وذلك فعل ماأمر الله به وبفعل ما يضرها، وذلك المعاصي كلها.
كما أن ظلم الغير كذلك إما بمنع حقه أو التعدي عليه، فإن الله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
وجاء القرآن بالأمر بالإصلاح والنهي عن الفساد، والصلاح كله طاعة والفساد كله معصية.
وقد لا يعلم كثير من الناس ذلك على حقيقته فعلى المؤمن أن يأمر بكل مصلحة وينهي عن كل مفسدة.
وكل ما أمر الله به راجع إلى العدل وكل ما نهى عنه راجع إلى الظلم.
والظلم الذي حرمه الله على نفسه أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه به، أو يعاقب البري على ما لم يفعله من السيئات.
أو يعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير العدل ونحو ذلك مما ينزه الله جل وعلا عنه وذلك لكمال عدله وحمده.
ومن أسباب قوة الإيمان ونوره سماع القرآن وتدبره ومعرفة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته.
والنظر في آيات الله والتفكر في ملكوت السموات والأرض والتأمل في أحوال نفس الإنسان ومثل رؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم ونحو ذلك.
للهِ دَرُّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرا ... وَاسْتَعْذَبُوا الوَجْدَ وَالتَّبْرِيْحَ وَالفِكَرا
فُهُمْ نُجُومُ الْهَدَي وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُم ... إِذْا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةٌ بُرَرَا
كُلُّ غَدَا وَقتهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلا ... عَمَّا سِوَاهُ وَللَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا(3/252)
يُمْسي وَيُصْبِحُ فِي وَجْدٍ وَفي قَلَقٍ ... مِمَّا جَنَاهُ مِن العِصيان مُنْذَعِرَا
يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا ... بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْهُ لِي يِا خَيْر مِن غَفَرَا
حَمَلْتُ ذَنْبَا عَظِيْمًا لاَ أَطِيْقُ لَهُ ... وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ مَا أَمَرَا
عَصَيْتُهُ وَهْوَ يُرخي سِتْرَهُ كَرَمًا ... يَا طَالَما قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرا
وَطَالَمَا كَانَ لِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ ... إِذا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبةٍ نَصَرا
وَأَنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ ... وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلاَيَ مُعْتَذرًا
لَعَلَّ تَقْبَلَ عَذْرِي ثم تَجْبُرُنِي ... يَوْمَ الحِسَابِ إِذْا قَدَّمْتُ مُنْكَسِرا
وَقَدْ أَتَيْتُ بَذُل رَاجِيًا كَرَمًا ... إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا
اللهم أجرنا من النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار، اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا وأقلنا من عثراتنا ولا تفضحنا بين يديك يا أرحم الراحمين وصلي الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
قال محمد بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا مالا كثيرا فدخل قلبي من ذلك شيء فتركته لله وخرجت منه فما خرجت من الدنيا حتى رد الله على ذلك المال عامته إلي وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني، وزوجت ابنتي من ابنه ومات أخي فورثه أبي ومات أبي فورثته أنا، فرجع ذلك كله إلي وإلى ولدي في الدنيا.
عن عطاء الحسن الخرساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم مستوصون بها، وأنتم عليها حراص وإنما أوصيكم بآخرتكم فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الموت كشيء ذقتموه فوالله لتذوقنه واجعلوا(3/253)
الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزلنها.
وهي دار الناس كلهم ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يصلحه اغتبط ومن خرج إلى سفر لم يأخذ له أهبته ندم، فإذا أضحى لم يجد ظلا، وإذا ظمئ لم يجد ماء يتروي به، وإنما سفر الدنيا منقطع وأكيس الناس من قام يتجهز لسفر لا ينقطع.
وقال آخر يوصي أخا له: اعلم أنك تلقى ما أسفلت ولا تلقى ما خلفت فمهد لنفسك فإنك لاتدري متى يفجؤك أمر ربك قال فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا.
قيل للقمان الحكيم، ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة وترك ما لا يغني.
عن جابر الجعفي، قال: قال لي محمد بن علي بن الحسين: يا جابر إني لمحزون وإني لمشتغل القلب، قلت وما حزنك وما شغل قلبك؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه يا جابر ما الدنيا ما عسى أن تكون هل هو إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها.
يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم.
ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة، ففازوا بثواب الأبرار إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، وإن نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك قوالين بحق، قوامين بأمر الله، فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت منه.(3/254)
أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، واحفظ الله تعالى ما استرعاك من دينه وحكمته.
قال بعضهم: فكر في ذنبك وتب إلى ربك، ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها، ورغبنا في طلبها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، قال الله جل وعلا: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
أتى الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار.
قولهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} وذكرت ما أجيبوا به {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .
وقال كعب الأحبار: لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أتصدق بوزني ذهبا.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وكان يقول: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف.
يقول: إذا كان في صحته محسنا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه(3/255)
أي بالله.
وإذا كان في صحته مسيئا ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
تَحَدِّثُنِي الآَمَالُ وَهِي كَذُوْبَةٌ ... تُبَدِّلُ فِي تَحْدِيْثَهَا وَتُحَرِّفُ
بَأنِّي فِي الدُّنْيَا أَقْضِى مَآَرِبِي ... وَبَعْدُ يَحِقُ الزُّهْدُ لِي وَالتَّقَشُّفُ
وَتِلكَ أَمَانِي لاَ حَقَيِقَةَ عِنْدَهَا ... أَفي فَرقِ الضَّديْنِ يُبْغَي التَّآَلُفُ
وقال محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه لابنه: يا بني إياك والضجر والكسل فإنهما مفتاح كل شر إنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله عز وجل من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي.
وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
كان الربيع بن خيثم إذا أصبح قال: مرحبا بملائكة الله اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقال: إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك وإذا هممت فاذكر علمه بك وإذا نظرت فاذكر نظره إليك.
وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك فإنه يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .
رأى بعضهم رجلا يستمع إلى رجل يقع في عرض آخر فقال له: نزه سمعك عن استماع الخناء كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك(3/256)
القائل، وإنما نظر في شر ما في وعائه فأفرغها في وعائك.
إِذَا أَخْبَرتَ عَن رَجُل بِريء ... مِن الآَفَاتِ ظَاهُره صَحِيْحُ
فَسَلْهُم عَنْهٌ هَلْ هُوَ آَدمِيٌّ ... فَإِنَّ قَالُوا نَعَمْ فَالقَوْلُ رِيْحُ
وَلَكِن بَعْضُنَا أَهْلُ اسْتِتَارٍ ... وَعِنْدَ اللهِ أَجْمَعُنَا جَرِيْحُ
وَمِن إِنْعَامِ خَالِقِنَا عَلَيْنَا ... بِأَنَّ ذُنُوبَنَا لَيْسَتْ تَفُوحُ
فَلَو فَاحَتْ لأَصْبَحْنَا هُرُوبًا ... فُرَادَى فِي الفَلا مَا نَسْتَرِيْحُ
وَضَاقَ بِكُلِّ مُنْتَحِلٍ صَلاحًا ... لِنَتْنِ ذُنوبِهِ البَلَدُ الفَسِيْحُ
المعاصي تنقسم إلى قسمين، قسم ذنوب جوارح ظاهرة مثل القذف والغيبة والظلم والاغتصاب والقتل والزنا واللواط والسرقة ونحو ذلك.
والقسم الثاني: وهي ذنوب القلوب وهن المهلكات القاصمات ومنها: الشرك والشك والنفاق والكفر والاغترار بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.
ومنها احتقار الذنوب والتهاون بها والتسويف بالتوبة والإنابة والإصرار على المعاصي والرياء والتيه والكبر والعجب والخيانة والغدر والحسد والغل والحقد والبغض.
وسوء الظن والجفاء والقطيعة والعقوق والقسوة والشح والحرص والشره على ما لا ينبغي الحرص والشره عليه.
ومنها: الطغيان بالمال والقوة والجاه واحتقار النعم والاحتقار بمصائب الدين ومنها الاستهانة بعلم الله ونظره وسمعه واطلاعه.
ومنها قلة الحياء من الله عز وجل وتقدس وقلة الحياء ممن على اليمين وعلى الشمال من الملائكة عند فعلك ما يكرهه الله ونحو ذلك من الذنوب(3/257)
التي لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
موعظة
قال ابن الجوزي: يا عجبا كيف أنس بالدنيا مفارقها، وأمن النار واردها، كيف يغفل من لا يغفل عنه، كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره، كيف يلهو من يقوده عمره إلى أجله وحياته إلى موته.
إخواني: الدنيا في إدبار وأهلها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقي لا يحصد إلا الندم.
مَا أَفْضَحَ المَوْت لِلدُّنْيَا وَزينَتَها ... جَدًّا وَمَا أَفْضَح الدُّنْيَا لأَهلِيْهَا
لاَ تَرْجِعَنَّ عَلَى الدُّنْيَا بِلائِمَةٍ ... فَعُذْرُهَا لَكَ بادٍ فِي مَسَاوِيْهَا
تَفني البَنِيْنَ وَتَفْنَي الأَهْل دَائِبَةً ... وَنَسْتِنيمُ إِلَيْهَا لاَ نُعَادِيْهَا
فَمَا يَزِيْدُكُمُوا قَتْلُ الَّذِي قَتَلَتْ ... وَلاَ العَدَاوَة إِلاَّ رَغْبَةً فِيْهَا
آخر
لِسَانَكِ للدُّنْيَا عَدُوٌ مُشَاحِن ... وَقَلْبُكَ فِيْهَا لِلِّسَانِ مُبَايِنُ
وَمَا ضَرَّهَا مَا قُلْتَ فِيْهَا وَقَدْ صَفَا ... لَهَا مِنْكَ وَدُّ فِي فُؤادَكَ كَامِنُ
آخر:
وَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيَا نَذُم صُرُوفَهَا ... وَنوسِعُهَا شَتْمًا وَنَحْنُ عَبِيْدُهَا
آخر:
يَذُمُونَ دُنْيَاهُم وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... وَلَم أَرَى كَالدُّنْيَا تُذَمُّ وَتُطْلَبُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/258)
فصل
اعلم وفقنا الله وإياك أن الصلاة عماد الدين وأجل مباني الإسلام بعد الشهادتين.
ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا دين لمن لا صلاة له.
جعلنا الله وإياكم من المحافظين عليها الخاشعين فيها الدائمين عليها المقيمين لها قال جل وعلا {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقال عز من قائل {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} وقال {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فالإنابة هي الرجوع إلى الله، والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والإقامة للصلاة الإتيان بها على الوجه الذي أمر الله به.
قال جلا وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صلوا كما رأيتموني أصلي" فالمصلي على الاتباع والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على الوجه الذي نقله علماء الأمة من السلف والخلف رضي الله عنهم هو المصلي المعدود عند الله من المقيمين للصلاة والمحافظين عليها.
وللصلاة صورة ظاهرة وحقيقة باطنة لا كمال للصلاة ولا تمام لها إلا بإقامتهما جميعا.(3/259)
فأما صورتها الظاهرة فهي القيام والقراءة والركوع والسجود ونحو ذلك من وظائف الصلاة الظاهرة.
وأما حقيقتها الباطنة فمثل الخشوع والإخبات وحضور القلب وكمال الإخلاص.
والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك من وظائف الصلاة الباطنة.
فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط فيها في البدن والثوب والمكان.
قال عليه الصلاة والسلام "الطهور شطر الإيمان" وفي الحديث الآخر "الطهور مفتاح الصلاة وإسباغ الوضوء وتثليثه من غير وسوسة ولا إسراف".
فإن الوسوسة في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يلبس بها على من ضعف عقله وقل علمه.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة "أن من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من أعضائه ودخل في الصلاة نقيا من الذنوب".
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها المبادرة بها في أول مواقيتها وفي ذلك فضل وأجر عظيم.
وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضاته ومحابه قال - صلى الله عليه وسلم -(3/260)
"أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله".
وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقول إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها.
وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته وقلت معرفته بالله وعظمته وضعفت رغبته فيما أعد الله لأوليائه في الدار الآخرة.
وأما تأخيرها عن وقتها فلا يجوز وفيه إثم عظيم.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها الخشوع وحضور القلب وتدبر القراءة وفهم معانيها واستشعار الخضوع والتواضع لله عند الركوع والسجود.
وامتلاء القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجزاء الصلاة.
والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شئون الدنيا والإعراض عن حديث النفس في ذلك ويكون همه في الصلاة وحسن تأديتها كما أمر الله فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدوى فاجتهد في تدبر ماتقول من كلام ربك واحرص على الطمأنينة فيها فإن الذي لا يتم الركوع والسجود في الصلاة سارق لها كما ورد في الحديث وورد أن من حافظ عليها وأتمها تخرج بيضاء تقول حفظك الله كما حفظتني والذي لا يتم الصلاة تخرج سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه.
رأى رجل حاتم الأصم واقفا يعظ الناس فقال: يا حاتم أراك تعظ الناس أفتحسن أن تصلي قال نعم قال: كيف تصلي؟(3/261)
قال: أقوم بالأمر وأمشي بالسكينة وأدخل بالهيبة وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم على السنة. وأسلمها إلى ربي وأحفظها أيام حياتي وأرجع باللوم على نفسي وأخاف أن لا تقبل مني وأرجو أن تقبل مني وأنا بين الرجاء والخوف وأشكر من علمني وأعلم من سألني وأحمد ربي إذ هداني. قال له محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يعظ.
روي أن زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم كان يتغير عند الوضوء ويصفر لونه فإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة. فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم.
وقال أبو بكر الوراق: ربما انصرف من الصلاة وأنا استحي من الله جل وعلا ولا حياء رجل انصرف من الزنا.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/262)
مواعظ
عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجل مرة وأنا شاب خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدا قال أبو بكر: فما نسيتها أبدا.
وكان يقوم الليل في قباء صوف وسراويل وعكازة يضعها في صدره فيتكئ عليها حين كبر فيحيي ليلته ويذكره حمل العصى بالسفر إلى الآخرة.
قال بعضهم:
حَمَلْتُ الْعَصَا لاَ الضَّعْفَ أَوْجَبَ حَمْلَهَا ... عَلَيَّ وَلاَ أَنِّي نَحَلْتُ مِن الكِبَرْ
وَلَكِنَّني أَلْزَمْتُ نَفْسِي حَمْلَهَا ... لأَعْلِمَهَا أَنَّ الْمُقِيْمَ عَلَى سَفَرْ
قال بعض أصحاب وكيع بن الجراح: كان لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.
وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول وهو ساجد: رب اغفر لي رب اعف عني إن تعف عني تعف عني تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي، قال ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
عن خيثمة قال: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله إما حج وإما عمرة وإما غزاة وإما صيام رمضان.
قال الربيع بن أبي راشد وقد رأى رجلا مريضا يتصدق بصدقة فقسمها بين جيرانه فقال: الهدايا أمام الزيارة فلم يلبث الرجل إلا أياما حتى مات(3/263)
فبكى عند ذلك الربيع بن أبي راشد وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.
قال أحمد بن عبد الله بن يونس كان معروف بن واصل التيمي إمام مسجد بني عمرو بن سعد قيل إنه كان يختم القرآن في كل ثلاث سفرا وحضرا وأنه أم قومه ستين سنة لم يسه في صلاته لأنها كانت تهمه.
وقال عبد الملك بن أبجر: ما من الناس إلا مبتلي بعافية لينظر كيف شكره أو مبتلي ببلية لينظر كيف صبره.
وفي الخبر يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك. قلت: هذا حاصل في عصرنا فتأمل.
عن معمر مؤذن سليمان التيم قال: صلى إلى جنبي سليمان التيمي العشاء الآخرة وسمعته يقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .
قال فلما أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} جعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا قال فخرجت وتركته قال: وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه قال فتسمعت فإذا هو لم يجزها وهو يقول: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
وقيل له أنت أنت (أي يثنون عليه) قال: لا تقولوا هكذا لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل، سمعت الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
ولما حضره الموت قال لابنه: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله(3/264)
عز وجل وأنا حسن الظن به.
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عتبة بن فرقد سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة.
سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
كان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عالما وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا، فعلام تعرجون، وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر.
إخواني: إنكم تغدون وتروحون في آجال قد غيبت عنكم لا تدرون متى تهجم عليكم فالوحا الوحا والنجا النجا فالطالب مسرع.
يَجِدُّ بِنَا صَرْفُ الزَّمَانِ وَنَهْزُلُ ... وَنُوقَظُ بِالأَحْدَاثِ فِيْهِ وَنَغْفُلُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ ظَاعِنٌ أَوْ مُوَدِّعٌ ... وَمُسْتَلَبٌ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ مُؤْجَّلُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلاَّ مَنَازِلٌ ... إِذَا مَا قَطَعنَا مَنْزِلاً بَانَ مَنْزلُ
فَنَاءٌ مُلِحٌ مَا يُغِبُ جَمِيْعَنَا ... إِذَا عَاشَ مِنَّا آَخِرٌ مَاتَ أَوَّلُ
وَكَم صَاحِبٍ لِي كُنْتُ أَكْرَهُ فَقْدَهُ ... تَسَلَّمَهُ مِنِّي الفَنَاءُ الْمُعَجَّلُ
اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون.
قال يحيى بن معاذ: لو سمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا.(3/265)
ولو رأت العقول بعين الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا إليها.
ولو أدركت القلوب المحبة لخالقها لتخلعت مفاصلها ولها فسبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء.
مَن نَالَ من جَوْهَر الأَشْيَاءَ بُغْيَتَهُ ... يِأسَى وَيَحْقِرُ قَومًا حَظُهُم عَرَضُ
إِنِّي لأَعْجَبُ مِن قَوْمٍ يَشفُهُمُ ... حُبُّ الزَّخَارِفِ لاَ يَدْرُونَ مَا الْغَرضُ
أَلاَ عُقُول أَلاَ أَحْلاَمَ تَزْجُرُهُمُ ... بَلَى عُقُولٌ وَأَحْلاَمٌ بِهَا مَرَضُ
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا. واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(3/266)
فوائد ومواعظ
اعلم يا أخي أن الناس عند الموت ثلاثة أقسام: الأول: ذو بصيرة علم أن الإنسان وإن طال عمره في الدنيا فهو كخطفة برق لمعت في السماء ثم عادت للاختفاء.
فلا يثقل على العاقل اللبيب الخروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوته من خدمة ربه عز وجل، والازدياد من ما يقربه إليه، والاشفاق مما يقول أو يقال له.
كما قال بعضهم لما قيل له لم تجزع قال: لأني أسلك طريقا لم أعهده وأقدم على ربي جل وعلا ولا أدري ماأقول وما يقال لي.
ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن العبادة ربما أشتاق إليه.
وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك.
فقد قال نبيك وصفيك - صلى الله عليه وسلم - "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".
الثاني: رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منكر للبعث، قد رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس من الآخرة.
فهذا مصيره كما ذكره الله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} .(3/267)
القسم الثاني: من خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم وهؤلاء أيضا مصيرهم كما ذكر الله، قال الله جل وعلا وتقدس: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} .
ثم اعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله، لقوله عليه الصلاة والسلام "خيركم من طال عمره وحسن عمله" وكلما كان العمر أطول في طاعة الله، كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع.
وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شر وبلاء، تكثر السيئات وتضاعف الخطيئات.
ومن زعم أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى فإن كان مع ذلك حريصا عليها ومشمرا فيها ومجانبا لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه وإن كان متكاسلا عنها ومسوفا فيها أي الأعمال الصالحة فهو من الكاذبين المتعللين بما لا يغني عنه لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء وجدته في غاية الحرص عليه مخافة أن يفوته ويحال بينه وبينه.
ولا سيما والعمل الصالح محله الدنيا ولا يمكن في غيرها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلا.(3/268)
وكن حذرا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.
قال الله جل وعلا: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} الآية فإياك أن تنفق أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسرك وندمك وحزنك بعد الموت.
إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرَكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ فِي غَيٍرِ وَاجِبٍ
قال محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم قال محمد بن أسلم: مالي ولهذا الخلق كنت في صلب أبي وحدي.
ثم صرت في بطن أمي وحدي
ثم دخلت الدنيا وحدي.
ثم تقبض روحي وحدي.
ثم أدخل في قبري وحدي.
ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي، فإن صرت إلى خير صرت وحدي.
ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي.
وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي.
وإن بعثت إلى النار بعثت وحدي، فمالي وللناس.
ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط قال وسمعته يحلف كذا وكذا مرة يقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت. ولكني لا أستطيع ذلك، خوفا من الرياء، وكان يدخل بيته ويغلق(3/269)
بابه ويدخل معه كوزا من ماء فلم أدرِ ما يصنع. حتى سمعت ابنا له صغيرا يحكي بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء؟ فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحيكه أي يقلده.
وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل لئلا يرى عليه أثر البكاء.
بلغ يا أخي الذين يذكرون أعمالهم للناس من حج وصدقة وصيام رياء وسمعة. وكان يصل قوما ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعملوا من بعثه إليهم ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم ويخفي نفسه.
ولا يعلمون من الذي أعطاهم ولا أعلم أنه وصل أحدا بأقل من مائة درهم إلا أن لا يمكنه ذلك.
ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبد الله أبشر بما صنع الله بأخيك من الخير قد نزل بي الموت وقد من الله عليّ أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه.
وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئا يحاسبني الله عليه ثم أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت.
واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثا غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي.
وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهما، فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئا أحل لي منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أنت ومالك لأبيك".
فكفنوني منها وابسطوا علي جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكينا يتوضأ منه ثم مات باليوم الرابع رحمه الله.(3/270)
قيل إنه مرض قيس بن سعد بن عباده أحد الكرماء فاستبطأ إخوانه في عيادته فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون لما لك عليهم من الدين.
فقال: أخزي الله مالا يمنع الإخوان عن الزيارة.
ثم أمر مناديا ينادي من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل.
فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة عواده.
وأتى رجل صديقا ودق عليه الباب فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمائة درهم دين علي فدخل الدار ووزن له أربعمائة درهم وسلمها له ودخل الدار يبكي فقالت امرأته: هلا تعللت واعتذرت حين شق عليك الإجابة؟
فقال: إنما أبكي لأني غفلت عنه ولم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاجئني به.
وحكي عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه فإذا أنا به فقلت: أسقيك فأشار إلي نعم فإذا رجل يقول آه فقال ابن عمي: انطلق إليه.
فجئت إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فسمع هشام آخر يقول آه فقال: انطلق به إليه فجئت إليه فإذا هو قد مات.
ثم رجعت إلى هشام فإذا هو أيضا قد مات.
ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
إِلَى كَمْ ذَا التَّرَاخِي وَالتَّمَادِي ... وَحادي المَوْت بِالأرْوَاحِ حَادي
فَلَوْ كُنَّا جَمَادًا لاَتَّعَظْنَا ... وَلَكِنا أَشَدُّ مِن الْجَّمَادِ
تُنَاديِنا الْمَنِيَّةُ كُلَّ وَقْتٍ ... وَمَا نُصْغَي إِلَى قَولِ الْمُنَادَي
وَأَنْفَاسُ النُّفُوسِ إِلَى انتِقَاصٍ ... وَلَكِن الذُّنُوبَ إِلَى ازْدِيَادِ(3/271)
إِذَا مَا الزَّرْعُ قَارَنَه اصفِرَارُ ... فلَيْسَ دَوُاؤُه غَيْرَ الْحَصَادِ
كَأَنَّكَ بِالْمَشِيْبِ وَقد تَبَدَّي ... وَبِالأُخْرَى مُنَادِيْهَا يُنَادِي
وَقَالُوا: قَدْ قَضَى فَاقْرَوْا عَلَيْهِ ... سَلامَكُمُ إِلَى يَوْم التَّنَادِ
عن أبي معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسح وجهه بدموعه.
فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.
وقال: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها فالموعظة إلى قلوبهم سريعة وهم إلى الرقة أقرب.
فداووا القلوب بالتوبة فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها وجالسوا التوابين فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
سمع المسعودي رجلا يقول أين الزاهدون في الدنيا الراغبون فيما عند الله فقال اقلب المعنى وضع يدك على من شئت.
عن صالح المري قال: كان عطاء السلمي قد أضر بنفسه حتى ضعف قال قلت له: إنك قد أضررت بنفسك وأنا متكلف لك شيئا فلا ترد كرامتي قال أفعل.
قال: فاشتريت سويقا من أجود ما وجدت وسمنا فجعلت له شريبة ولينتها وأرسلتها مع ابني وكوزا من ماء وقلت له لا تبرح حتى يشربها فرجع فقال قد شربها.
فلما كان من الغد جعلت له نحوها فرجعها ولم يشربها فأتيته فلمته(3/272)
فقلت: سبحان الله رددت علي كرامتي إن هذا مما يعينك، ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله.
قال: يا أبا بشر لا يسوءك الله قد شربتها أول مرة فلما كان الغد راودت نفسي على أن تسيغها فما قدرت ذلك.
إذا أردت أن أشربها ذكرت هذه الآية {يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ} .
فبكى صالح عند هذه وقال: قلت لنفسي أراني في واد وأنت في آخر.
وقال العلاء بن محمد: دخلت على السلمي وقد غشي عليه، فقلت لامرأته ما شأن عطاء، فقالت: سجرت جارتنا التنور فنظر إليه فخر مغشيا عليه.
وقال: إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه تمثلت لي نفسي بهم.
فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب في النار، ألا تصيح فتبكي.
وكيف لنفس تعذب ألا تبكي، وما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله.
وقال له بشر بن منصور: ماهذا الحزن؟ قال: ويحك الموت في عنقي والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي ما أدري ما يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه.
وقال عمر بن درهم لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف فصاح عطاء صيحة خر مغشيا عليه.
واجتمع الناس وقعد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب ثم(3/273)
أفاق فحمل.
قيل إن أبا عثمان المنتخب أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به نور الدين في ملكه من المكوس والضرائب وفيها تخويف وتحذير شديد له كانت هذه الأبيات سببا لوضعها عن الناس:
مِثِّلْ وَقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُوْرُ ... يَوْم القيامة وَالسَّمَاءِ تمورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى البِلىَ ... فِرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا ذَلِيْلاً وَالْحِسَابِ عَسِيْرُ
وَتَعَلَّقَتْ فِيْك الْخُصُوْمُ وَأَنْتَ فِي ... يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُوْدُ وَأَنْتَ فِي ... ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسَّدُ مَقْبُورُ
وَوَدِِدُتْ أَنَّكَ مَا وَليْتَ وَلاَيَةً ... يَوْمًا وَلاَ قَالَ الأَنَامَ أَمِيْرُ
وَبَقِيْتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيْرَةً ... فِي عَالَم المَوْتى وَأَنْتَ حَقِيْرُ
وَحُشِرتَ عِرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا ... قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيْرُ
أَرْضِيْتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارسٌ ... عَافِي الْخَرَابِ وَجسمُكَ الْمَعْمُوْرُ
أَرَضيْتَ أَنْ يُحْظَي سِوَاك بِقُرْبِهِ ... أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ الْمَعادِ وَيوْمَ تَبْدُو الْعُوْرُ
فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا وأمر بوضع الضرائب والمكوس في سائر البلاد وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم وكتب ذلك إلى سائل ممالكه وبلدانه سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/274)
فصل
قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا أعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا الله عز وجل علي فيه تبعة.
كان بالكوفة رجل قد خرج عن دنيا واسعة وتعبد فقال الفضيل لعبد الله بن المبارك: إن ههنا رجلا من المتعبدين قد خرج عن دنيا واسعة فامض بنا إليه ننظر عقله.
فجاءوا إليه وهو عليل وعليه عباءة وتحت رأسه قطعة لبنة فسلم عليه ابن المبارك ثم قال له: يا أخي بلغنا أنه ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله ما هو أكثر منه فما عوضك؟
قال: الرضا بما أنا فيه فقال ابن المبارك حسبك، وقاما على ذلك.
وأوصى بعضهم أخا له في الله فقال: لا يلهينك الناس عن ذات نفس فإن الأمر يخلص إليك دونهم ولم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثةً لذنب قديم.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملا، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا، فعلام تعرجون وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو شر فيا إخوتاه سيروا إلى ربكم سيرا جميلا.
وقال آخر: ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من(3/275)
حرصك وحيلك وإنما يلقاك ندمك إذا زل بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك وتبرأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب فلا أنت إلى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد.
أَبَدًا تُفهِّمُنَا الْخُطُوبُ كُرُوْرَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لاَ يَفْهَمُ
تَلْقَى مَسَامِعَنا العِظَاتُ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّل يَرْقُم وَعْظَه مِن يَرقُمُ
وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يُقْرَا الأَخِيرُ وَيدْرج الْمتقدِّمُ
لِحْدُ عَلَى لَحْدِ يُهَالُ ضَرْيِحُهُ ... وَبِأَعْظَمِ رَمِمٍ عَلَيْهَا أَعْظَمُ
مَنْ ذَا تَوقَّاه الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطاحَهم الْحِمَامُ وَجُوْهُمُ
وَالتَّبعانِ تَلاَحَقَا وَمُحَرِّقٌ ... وَالْمْنِذرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمِّمُ
رأى مالك بن دينار رجلا يسيء في صلاته فقال: ما أرحمني لعياله.
فقيل له يسيء هذا صلاته وترحم عياله قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
وقال سهل بن عبد الله: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزين لله بالصدق في كل الأحوال.
وإياك والتسويف فإنه يغرق الهلكى وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم يعرفون قيمة الوقت وأنه إذا فات لا يستدرك فهو أعز شيء يغار عليه أن ينقضي بدون عمل صالح.
فالوقت ينقضي وينصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته.(3/276)
فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوات مقدار ما أضاع، وطلب الرجوع فحيل بينه وبينه، وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس الفائت في اليوم الجديد.
قال الله جل وعلا: {وقالوا آمنا به وأني لهم التناوش من مكان بعيد} ومنع مما يحبه ويرتضيه.
وعلى أن ما اقتناه ليس للعاقل مما ينبغي أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه.
فيا لها من حسرة ما إلى رد مثلها من سبيل.
كان الحسن يقول: أصول الشر ثلاثة: الحرص، والحسد، والكبر.
فالكبر منع إبليس من السجود لآدم، والحرص أخرج آدم من الجنة، والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه.
وقال غيره: ليس لثلاث حيلة فقر يخالطه كسل، وخصومة يداخلها حسد، ومرض يداخله هرم.
ثلاثة ينبغي مداراتهم: الملك المسلط، والمرأة الحمقى، والمريض.
وقال آخر: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.
وقال آخر: يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
وكان يقول: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة.
إلهي ارحمني لقدرتك عليّ ولحاجتي إليك.
إلهي ضيعت بالذنب نفسي فارددها بالعفو علي يا أجود الأجودين.
يا من يغضب على من لا يسأل لا تمنع من قد سألك.
وقيل لآخر وهو يجود بنفسه قل، فقال: اللهم إني نصحت خلقك(3/277)
ظاهرا، وغششت نفسي باطنا، فهب لي غشي لنفسي، لنصحي لخلقك ثم خرجت روحه.
وقال آخر: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
وقال: حسن أدب الظاهر عنوان على حسن أدب الباطن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
وسئل عن الرجال فقال: القائمون بوفاء العهود قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .
من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وقيل لحمدون ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن.
ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
قلت: فكيف لو رأى أهل هذا الزمان وما أصيبوا به من التكالب على الدنيا والافتنان بزخارفها ومغرياتها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يَا آمِنَ السَّاحَةِ لاَ يَذْعَرُ ... بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأَكْبَرُ
وإِنَّمَا أَنْتَ كَمَحْبُوسِةٍ ... حُمَّ رَدَاهَا وَهِي لاَ تَشْعُرُ
وَالْمَرءُ مَنْصُوبٌ لَهُ حَتْفَهُ ... لَو أَنَّه مِن عَمَهٍ يَبْصِرُ
وَهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ ... وَالعُمْرُ عَن تَحْصِيِلِهَا يَقْصُرُ
وَكُلَّمَا تُزْجَرُ عَن مَطْلَبٍ ... كَانَتْ بِهِ أكلف إِذْ تُزْجَرُ
وإِنَّمَا تَقْصُرُ مَغْلُوْبَةُ ... كَالْمَاءِ عَن عُنْصُرهِ يَقْصُرُ
وَرُبَّمَا أَلْقَت مَعَاذِيْرَهَا ... لَوْ أَنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ(3/278)
وَنَاظِرُ المَوْت لَهَا نَاظِرٌ ... لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِذْ يَنْظُرُ
وَزَائِرُ المَوْتِ لَهُ طَلْعَةٌ ... يُبْصِرُهَا الأَكْمَهُ وَالْمُبْصِرُ
وَرَوْعَةُ المَوْت لَهَا سَكْرَةٌ ... مَا مِثْلُهَا مِن رَوْعَةٍ تُسْكِرُ
وَبَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مَنْزِلٌ ... يَنْزِله الأَعْظَم وَالأَحْقَرُ
يَتْرُك ذُوْ الفَخْرِ بِهِ فَخْرَهُ ... وَصَاحِبُ الكِبْرِ بِهِ يَصْغُرُ
قَدْ مَلَأتْ أَرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ ... نَكِيْرُهَا الْمَعْرُوفُ وَالمُنْكَرُ
وَبَعْدُ مَا بَعْدُ وَأَعْظِمْ بِهِ ... مِنْ مَشْهَدٍ مَا قَدْرُهُ يَقْدَرُ
يَرْجَف مِنْهُ الورى رجفة ... ينهد مِنْهَا الملأ الأكبرُ
ولَيْسَ هذا الوصف مستوفيا ... كل الَّذِي من وَصفه يذكرُ
وإِنَّمَا ذَا قطرة أُرسِلَتْ ... مِنْ أَبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أَبْحُرُ
وَقَدْ أَتَاكَ الثَّبْتُ عَنْهُ بِمَا ... أَخْبَركَ الصَّادِقُ إِذْ يِخْبِرُ
فَاعْمَلْ لَهُ وَيكَ وَإلاَّ فَلاَ ... عُذْرٍ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعَذرُ
سِهَامُ الْمَنَايَا فِي الوَرَى لَيْسَ تَمْنَعُ ... فَكُلُّ لَهُ يَوْمًا وَإن عَاشَ مَصْرَعُ
وَكُلُّ وَإن طَالَ الْمَدَى سَوْفَ يَنْتَهِي ... إِلَى قَعْرِ لَحْدٍ فِي ثَرَى مِنْهُ يُوْدَعُ
فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرينه ... إِلَى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيْلُ سَتُدْفَعُ
فَكُلُّ ابْنِ أَنْثَى سَوفَ يُفْضِي إِلَى الرَّدَى ... وَيَرْفَعُه بَعْد الأَرائِكِ شَرْجَعُ
وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإن عَاشَ بُرْهَةً ... قَضَاءُ تَسَاوَى فِيْهِ عَوْدٌ وَمُرْضَعُ
فَلاَ يَفْرَحَنْ يَوْمًا بُطُولِ حَيَاتِهِ ... لَبِيْبٌ فَمَا فِي عَيْشِهِ الْمَرْءُ مَطْمَعُ
فَمَا الْعَيْشُ إِلاَّ مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ ... وَمَا المَوْتُ إِلاَّ مِثْل مَا الْعَيْن تَهْجَعُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ كَالنَّبَاتِ فَيَابِس ... هَشِيْمٌ وَغَضُّ إِثْر مَا بَادَ يَطْلَعُ(3/279)
فَتَبَا لدَار مَا تَزَالَ تعَلُّنَا ... أََفَاوِيْقَ كَأْسٍ مَرَّةً لَيْسَ تَقْنِعُ
سَحَابُ أَمانِيْهَا جَهَامٌ وَبرْقُها ... إِذَا شِيْمَ بَرْقٌ خُلَّبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ
تَغُرُّ بنْيَها بِالْمُنَى فَتَقُودُهُمْ ... إِلَى قَعْرِ مَهْوَاةِ بِهَا الْمَرْءُ يُوْضَعُ
فَكَمْ أهَلَكَت فِي حُبِّهَا مِن مُتَيَّمٍ ... وَلَم يَحْظَ مِنْهَا بِالْمُنَى فَيُمَتَّعُ
تَمَنَيْهِ بِالآمَالِ فِي نَيْل وَصْلِهَا ... وَعَنْ غَيّهِ فِي حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ
أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا ... وَلَمْ يَنَلْ الأَمْرَ الَّذِي يُتَوَقَّعُ
فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعٍ حُطَامِها ... وَلَمْ يَهْنَ فِيْهَا بِالَّذِي كَانَ يَجْمَعُ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ ... مِن العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلم يَكُ يَجْشَعُ
إِلَى أَنْ تُوَافِيْهِ الْمِنِيِّةُ وَهْوَ بَالْ ... قَنَاعَةِ فِيْهَا آمِنًا لاَ يُرَوَّعُ
مَصَائِبُها عَمَّتْ فلَيْسَ بِمُفْلَتٍ ... شُجَاٌع وَلاَ ذُو ذِلَّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ
وَلا سَابِحٌ فِي قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرُ ... يُدَوِّمُ فِي بُوْحِ الفَضَاءِ وَيَنْزِعُ
وَلاَذُوْ امْتِنَاعٍ فِي بُرُوجٍ مُشِيْدَةٍ ... لَهَا فِي ذُرَى جَوِّ السَّمَاءِ تَرَفُّعُ
أَصَارَتْهُ مِنْ بَعْدِ الْحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ ... لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آَخِرَ الدَّهْرِ مَضْجَعُ
تَسَاوَى بِهَا مَنْ حَلَّ تَحْتَ صَعِيْدَهَا ... عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْمَمَاتِ وَتُبَّعُ
فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذُوُو الْغِنَى ... وَذُوْ لَكَنْ عِنْدَ الْمَقَالِ وَمِصْقَعُ
وَمَنْ لَمْ يَخَفْ عِنْدَ النَّوَائِبِ حَتْفَهُ ... وَذُوْ جُبُنٍ خَوْفًا مِن المَوْتِ يُسْرِعُ
وَذُوْ جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابِ وَمَخْلَبٍ ... وَكُلُّ بِغَاثٍ ذِلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ
وَمَنْ مَلَكَ الآَفَاتَ بَأْسًا وَشِدَّةً ... وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بِالضَّرُوْرَةِ يَقنَعُ
وَلَوْ كَشَفَ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِرًا لَهُمْ ... لِيَنظُرَ آَثَارَ البِلَى كَيْفَ يَصْنَعُ
لَشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيْل وَأَوْجُهَا ... مُعَفَّرَةٌ فِي التُّرْبِ شُوْهًا تُفَزِّعُ(3/280)
غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً ... عَبُوسًا وَقد كَانَتْ مِن البَشَرِ تَلْمَعُ
فَلَمْ يَعْرِفِ الْمَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ فِيْهِم ... وَلاَ خَامِلاَ مِن نَابِهٍ يَتَرَفَّعُ
وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا ... تَبَيَّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ الْعَيْنُ تَدْمَعُ
رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْفَ مِنْهُمْ وَطَالَمَا ... رَأَى مَا يَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ وَيُمْتِعُ
رَأَى أَعْظُمًا لاَ تَسْتَطِيْعُ تَمَاسُكًا ... تَهَافَتْ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ
مُجَرَّدَةً مِن لِحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ ... لِذِي فِكْرَةٍ فِيْمَا لَهُ يَتَوقَّعُ
تَخَوَّنَهَا مَرُّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ ... أَنَابِيْبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيْحُ تُسْمَعُ
إِلَى حَالَةٍ مُسْوَدَّةٍ وَجَمَاجِمٍ ... مُطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلّةٍ لَيْسَ تُرْفَعُ
أُزِيْلَتْ عَن الأَعْنَاقِ فَهِي نَوَاكِسٌ ... عَلَى التُّرْبِ مِنْ بِعد الوَسَائِدِ تُوْضَعُ
عَلاَهَا ظَلاَمٌ لِلْبِلَى وَلَطَالَمَا ... غَدَا نُورُهَا فِي حِنْدِسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ
كَأَن لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلاَ مَفْرِقًا لَهَا ... نَفَائِسُ تِيْجَانٍ وَدُرٍ مُرَصَّعُ
تَبَاعَدَ عَنْهُم وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ ... وَعَافَهُمُ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أجْمَعُ
وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ ... بِوَصْلِهِمُ وَجدًا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ
يُبَكِّيْهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ ... وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًا وَيَجْزَعُ
فَقُلْ لِلّذِي قَدْ غَرُّهُ طُوْلُ عُمْرهِ ... وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ
أَفِقْ وَانْظُرِ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيْرَةٍ ... تَجِدْ كُلَّ مَا فِيْهَا وَدَائِعَ تَرْجِعُ
فأَيْنَ الْمُلُوكُ الصِّيْدُ قِدْمًا وَمَنْ حَوَى ... مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتْ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ
حَوَاهُ ضَرِيْحَ مِنْ فَضَاء بَسِيْطَهَا ... يُقَصِرُ عَن جُثْمَانِهِ حِيْنَ يَذْرَعُ
فَكَمْ مَلَكَ أَضْحَى بِهَذَا مَذَلَّةٍ ... وَقَدْ كَانَ حَيًّا للْمَهَابَةِ يُتْبَعُ
يَقُودْ عَلَى الْخَيْلِ العِتَاقِ فَوَارِسَا ... يِسُدُّ بِهَا رَحْبَ الفَيَافِي وَيُتْرِعُ(3/281)
فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعُّمِ فِي ثَرَى ... تَوَارَي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ
بَعِيْدًا عَلَى قَرْبِ الْمَزَارِ إِيَابُهُ ... فلَيْسَ لَهُ حَتَّى القِيَامَةَ مَرْجَعُ
غَرِيْبًا مِنْ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا ... بِأَقْصَى فَلاَةٍ خَرْقُهُ لَيْسَ يَرْقَعُ
تُلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتُ بِمَنْزِلٍ ... جَدِيْبٍ وَقدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تَمْرِعُ
رَهِيْنَا بِهِ لاَ يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً ... وَلا يَسْتَطِيْعَنَّ الْكَلاَمَ فَيُسْمَعُ
تَوَسَّدَ فِيْهِ التُّرْب مِنْ بَعْد مَا اغْتِدى ... زَمَانًا عَلَى فُرُشٍ من الْخِز يُرْفَعُ
كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ فِي الْخَلْقِ لَنْ تَرَى ... مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلهُ لَيْسَ يُصْدَعُ
آخر: هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك:
أنِسْتُ بِلاَواءِ الزَّمَانِ وَذِلِّهِ ... فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكَ سَلامُ
إِلَى كَمْ أَعَانِي تِيْهَهَا وَدَلالَهَا ... أَلَمْ يَأَنْ عَنْهَا سَلْوةُ وَسَآمُ
وَقَد أَخْلَقَ الأَيَّامَ جِلْبَابِ حُسْنِهَا ... وَأُضْحَتْ وَدِيبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ
عَلَى حِيْنَ شَيْبُ قَدْ أَلَمَّ بَمَفْرِقِي ... وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهْوَ ثَغَامُ
طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوى ... وَثَارَ بِمْيَدَانِ الْمِزَاجِ قِتَامُ
فَلاَ هِيَ فِِي بُرْجِ الْجَمَالِ مُقِيْمَةٌ ... وَلاَ أَنَا فِي عَهْدِ الْمُجُونَ مُدَامُ
تَقَطَّعَتْ الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَلَمْ يَبْقَ فِيْنَا نِسْبَةٌ وَلِئآمُ
وَعَادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً ... وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ
كَأَنِّي بِهَا وَالقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابُه ... وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ
وَسِيْقَتْ إِلَى دَارِ الْخُمُولِ حُمُولُهُ ... يَحُنُّ إِلَيْهَا وَالدُّمُوعُ رُهَامُ
حَنِيْنَ عَجُولٍ غَرَّهَا البَوُّ فانْثَنَتْ ... إِلَيْهِ وَفِيْهَا أَنَّه وَضُغَامُ
تَوَلَّتْ ليَالِ لِلمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ ... لِكُلِ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ(3/282)
فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُوْمُ وَلَكِن مَا لَهُنَّ دَوَامُ
دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَومٌ تَوَلَّى بِالْمَسَاءَةِ عَامُ
فَلِلَّهِ دَرُّ الغَمِّ حَيثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ وَالْهُمُومُ سِهَامُ
أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيْرِ مُفْرَدًا ... وَلِيْ مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌُ وَنَدَامُ
وَكَمْ عِشْرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلاِمِ فِي القُلُوبِ كَلاَمُ
فَمَا عِشْتُ لاَ أَنْسَي حُقُوقَ صَنِيْعِهِ ... وَهَيِهَات أَنْ يُنْسَي لَدَيَّ ذِمَامُ
كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامُ إثْرَ ذَاكَ فِيَامُ
خَبَتْ نَارُ أَعْلاَمِ الْمَعَارِفِ وَالْهُدَى ... وَشَبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلاَلِ ضُرَامُ
وكَانَ سَرِيْرَ العِلمِ صَرْحًا مُمَرَّدًا ... يُنَاغِي القِبابِ السَّبْعَ وَهِي عِظَامُ
مَتينًا رَفيعًا لاَ يُطَارُ غُرابُهُ ... عَزيْزًا مَنِيْعًا لاَ يَكَادُ يُرَامُ
يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الْهُدَى مِنْ بُرُوْجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السِّحَابِ يُشَامُ
فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الرَّاسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوْشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ
وسِيْقَ إِلَى دَارِ الْمَهانَةِ أَهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسَيْرٍ لاَ يَزَالُ يُضَامُ
كَذَا تَجْرِيَ الأَيَّامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقِوَامُ
فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ ... وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الْحَدِيْدِ حُسَامُ
وَلِلْدَّهْرِ تَاراتٌ تَمُرُّ عَلَى الفَتَى ... نَعِيْمٌ وَبؤسٌ صِحَّةٌ وَسَقَامُ
وَمَنَ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلاَ يَعْتِبنَّهَا ... فلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلاَمُ
أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا ... وَمَاذَا الَّذِي تَبْغِيْهِ فَهْوَ حُطَامُ
تَشَكَّلَ فِيْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ وَالنَّاس عَنْهُ نِيَامُ
تَرَى النَّقْصَ فِي زِيِّ الكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأسِ رَبَّاتِ الْحِجَالِ عَمَامُ(3/283)
فَدَعْهَا وَنعْمَاهَا هَنِيْئًا لأِهلِهَا ... وَلاَ تَكُ فِيْهَا رَاعِيًا وَسَوَامُ
تَعَافُ العَرانِيْنُ السِّمَّاطَ عَلَى الْخِوَى ... إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ
عَلَى أَنَّهَا لاَ يُسْتَطاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيْهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ
وَلَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلفَ حَجِّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ
رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيْكَ كُلّهَا ... بِخُفَيْ حُنَينٍ لاَ تَزَالُ تُلاَمُ
هَبِ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا ... وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ
وَمُتِّعْتَ بِاللَّذَاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ ... ألَيْسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ
فَبَيْنَ البَرَايَا وَالْخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وَبَيْنَ الْمَنَايَا وَالنُّفُوس لِزَامُ
قَضَيَّة اِنْقَادَ الأَنَامُ لِحكْمِهَا ... وَمَا حَادَ عَنْهَا سَيِّدٌ وَغُلاَمُ
ضَرورِيَة تَقضي العُقُولُ بِصِدقِهَا ... سَلَ إِنْ كَانَ فِيْهَا مِرْيَةً وَخِصَامُ
سَلْ الأَرْضَ عَن حالِ الملوكِ التي خَلَتْ ... لَهم فَوقَ، فَوْق الفَرقدين مُقَامُ
بأبوابهم للوافدين تراكُم ... باعتابِهم للعاكِفين زِحَامُ
تُجْبكَ عَن أَسْرَارِ السِّيوفِ التي جَرَتْ ... عَلَيْهم جَوَابًا لَيْسَ فِيْهِ كَلاَمُ
بِأَنَّ الْمَنَايَا أَقَصْدَتْهُم نِبَالُهَا ... وَمَا طَاشَ عَنْ مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ
وَسِيْقُوا مَسَاقَ الغَابِرِيْنَ إِلَى الرَّدَى ... وَأَقْفَرَ مِنْهُم مَزَلٌ وَمَقَامُ
وَحَلُوا مَحِلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَه ... فلَيْسَ لَهُم حَتَّى القِيَام قِيَامُ
أَلَم بِهِمْ رِيْبُ الْمَنُونِ فَغَالَهُم ... فَهُم بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُّغَامِ رُغَامُ
انتهى.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.(3/284)
اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تشمت بنا أحدا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا(3/285)
بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤى المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت(3/286)
الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رءوف غفور رحيم.
اللهم نسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وعملا متقبلا، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إن نسألك حياة طيبة، ونفسا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن محمد السلمان
غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين(3/287)
فصل
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمال فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ.(3/288)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وأن تدمر أعداء الدين اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.
اللهم أعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.(3/289)
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إني أسألك الهدي والتقى والعفاف والغنى اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
ربنا تقبل منا أنت السميع العليم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافتك من عقوبتك وبك منك(3/290)
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي واصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنها، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.(3/291)
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعم علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. آمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/292)
خاتمة وصية، نصيحة
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظا وعلما كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتسير له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلا يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظا صحيحا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفا من الريالات.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سببا لحصول الأجر من الله وسببا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سببا مباركا يعمل(3/293)
به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تم هذا الجزء الثالث بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعا عاما إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
عبد العزيز المحمد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقا(3/294)