إذًا فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخلّ بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلومٌ أنه لا يجوز الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إنّ مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضعَ الصلاة عنهم، أو يقال: إن مشقة التحرّز عن الربا في هذا العصر تقتضي جوازَ التعامل به، أو يقال: إنّ مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات تقتضي أن يباحَ للمرأة التبرّج بدعوى عموم البلوى به[5].
الشبهة الثانية: الحجاب من عادات الجاهلية فهو تخلف ورجعية:
قالوا: إن الحجاب كان من عادات العرب في الجاهلية، لأنّ العرب طبِعوا على حماية الشّرف، ووأدوا البنات خوفًا من العار، فألزموا النساء بالحجاب تعصبًا لعاداتهم القبلية التي جاء الإسلام بذمّها وإبطالها، حتى إنّه أبطل الحجاب[6]، فالالتزام بالحجاب رجعية وتخلّف عن ركب الحضارة والتقدم.
الجواب:
1- إن الحجاب الذي فرضه الإسلام على المرأة لم يعرفه العرب قبل الإسلام، بل لقد ذمّ الله تعالى تبرّج نساء الجاهلية، فوجه نساء المسلمين إلى عدم التبرج حتى لا يتشبهن بنساء الجاهلية، فقال جلّ شأنه: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33].
كما أن الأحاديث الحافلة بذمّ تغيير خلق الله أوضحت أنّ وصلَ الشعر والتنمّص كان شائعًا في نساء اليهود قبل الإسلام، ومن المعروف أنه مما تستخدمه المتبرّجات.
صحيح أن الإسلام أتى فأبطل عادات ذميمة للعرب، ولكن بالإضافة إلى ذلك كانت لهم عادات جميلة أقرّها الإسلام فلم يبطلها، كإكرام الضيف والجود والشجاعة وغير ذلك.
وكان من ضمن عاداتهم الذميمة خروج النساء متبرّجات كاشفات الوجوه والأعناق، باديات الزينة، ففرض الله الحجاب على المرأة بعد الإسلام ليرتقي بها ويصونَ كرامتها، ويمنع عنها أذى الفسّاق والمغرضين[7].(170/3)
2- إذا كانت النساء المسلمات راضياتٍ بلباسهن الذي لا يجعلهن في زمرة الرجيعات والمتخلفات فما الذي يضير التقدميين في ذلك؟! وإذا كنّ يلبسن الحجاب ولا يتأفّفن منه فما الذي حشر التقدميين في قضية فردية شخصية كهذه؟! ومن العجب أن تسمع منهم الدعوةَ إلى الحرية الشخصية وتقديسها، فلا يجوز أن يمسّها أحد، ثم هم يتدخّلون في حرية غيرهم في ارتداء ما شاؤوا من الثياب[8].
3- إنّ التخلف له أسبابه، والتقدم له أسبابه، وإقحام شريعة الستر والأخلاق في هذا الأمر خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على متخلّف عن مستوى الفكر والنظر، ومنذ متى كان التقدّم والحضارة متعلّقَين بلباس الإنسان؟! إنّ الحضارة والتقدم والتطور كان نتيجةَ أبحاث توصَّل إليها الإنسان بعقله وإعمال فكره، ولم تكن بثوبه ومظهره[9].
الشبهة الثالثة: الحجاب وسيلة لإخفاء الشخصية:
يقول بعضهم: إنّ الحجابَ يسهّل عملية إخفاء الشخصية، فقد يتستّر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش[10].
الجواب:
1- يشرع للمرأة في الإسلام أن تستر وجهها لأن ذلك أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات. وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفا ـ فضلاً عن سائر بدنها ـ أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، وكل عاقل يعلم أيضًا أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها يشعر بوقاحتها وقلة حيائها وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأَولى أن يُساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرِض زينتها كالسلعة، فتجرّ على نفسها وصمة خُبث النية وفساد الطوية وطمع الذئاب البشرية[11].(170/4)
2- إنّ من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية والإدارات الجامعية والحملات الإعلامية والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء وتواري عن الأعين بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة وتستر عن الناس آفاتها وفجورها بمظهر الحصان الرزان فما ذنب الحجاب إذًا؟!
إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكلّ ذي عقل، مع أنّ نفس هذه المجتمعات التي يروَّج فيها هذه الأراجيف قد بلغت من الانحدار والتردّي في مهاوي التبرّج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستّر، ولا يحوِجهنّ إلى التواري عن الأعين.
وإذا كان بعض المنافقين يتشدّقون بأنّ في هذا خطرًا على ما يسمّونه الأمن فليبينوا كيف يهتزّ الأمن ويختلّ بسبب المتحجبات المتسترات، مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات!![12].
3- لو أن رجلاً انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بزته، وتحايل بذلك واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟! وهل يصلح سلوكه مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميّز للعسكريين مثلاً خشية أن يسيء أحد استعماله؟!
وما يقال عن البزة العسكرية يقال عن لباس الفتوّ، وزيّ الرياضة، فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون والفتى الذي يسيء والرياضي الذي يذنب هل يقول عاقل: إنّ على الأمة أن تحارب شعارَ العسكر ولباس الفتوّة وزيّ الرياضة لخيانات ظهرت وإساءات تكررت؟! فإذا كان الجواب: "لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي؟! ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟![13].(170/5)
4- إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي من تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة على أحدهما دون الآخر تكون كمن يمشي على رجل واحدة أو يطير بجناح واحد.
إن التصدي لهؤلاء المستهترات ـ إذا وجدن ـ أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقوبة على كل من تسوّل له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل[14].
الشبهة الرابعة: عفة المرأة في ذاتها لا في حجابها:
يقول البعض: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء يلقى ويسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهرها وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس كاشفة المفاتن لا يعرف السوء سبيلاً إلى نفسها ولا إلى سلوكها[15].
الجواب:
إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفّة مفقودة، ولا أن تمنحه استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها.
ولكن من هذا الذي زعم أن الله إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة في نفسها أو العفة في أخلاقها؟! ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانًا بأن كل من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية مع الرجال؟!(170/6)
إن الله عز وجل فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين قد تقع أبصارهم عليها، وليس حفاظًا على عفتها من الأعين التي تراها فقط، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان إلا أن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا فهل يقول عاقل تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة: إن للفتاة أن تبرز عارية أمام الرجال كلهم ما دامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟!
إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من مغرياتِ النساء وفتنتهن هو المشكلة التي أحوجت المجتمعَ إلى حلّ، فكان في شرع الله ما تكفّل به على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحلّ الإلهي ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المرأة المتبرجة عندئذ باستقامةٍ في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوس الرجال ما قد يتغلّب على كل استقامة أو عفة تتمتّع بها المرأة إذ تعرض من فنون إثارتها وفتنتها أمامهم[16].
الشبهة الخامسة: دعوى أن الحجاب من وضع الإسلام:
زعم آخرون أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية[17].
الجواب:
1- إن من يقرأ كتب العهد القديم وكتب الأناجيل يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفًا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعًا، إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن (رفقة) أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي، فقال العبد: هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت.(170/7)
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟
وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب.
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضًا أن تامار مضت وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت.
ويقول بولس الرسول في رسالته كورنثوس الأولى: "إن النقاب شرف للمرأة، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد[18].
فالكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين قد ذكرت عن البراقع والعصائب مالم يذكره القرآن الكريم.
2- وكان الرومان يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومنها قانون عرف باسم "قانون أوبيا" يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت[19].
3- وأما في الجاهلية فنجد أن الأخبار الواردة في تستّر المرأة العربية موفورة كوفرة أخبار سفورها، وانتهاكُ سترها كان سببًا في اليوم الثاني من أيام حروب الفجار الأول؛ إذ إن شبابًا من قريش وبني كنانة رأوا امرأة جميلة وسيمة من بني عامر في سوق عكاظ، وسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فامتهنها أحدهم فاستغاثت بقومها.
وفي الشعر الجاهلي أشعار كثيرة تشير إلى حجاب المرأة العربية، يقول الربيع بن زياد العبسي بعد مقتل مالك بن زهير:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرًا يندبنه يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا فاليوم حين برزن للنظار(170/8)
فالحالة العامّة لديهم أن النساء كن محجبات إلا في مثل هذه الحالة حيث فقدن صوابهن فكشفن الوجوه يلطمنها، لأن الفجيعة قد تنحرف بالمرأة عما اعتادت من تستر وقناع.
وقد ذكر الأصمعي أن المرأة كانت تلقي خمارها لحسنها وهي على عفة[20].
وكانت أغطية رؤوس النساء في الجاهلية متنوعة ولها أسماء شتى، منها:
الخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، يوضع على الرأس، ويلفّ على جزء من الوجه.
وقد ورد في شعر صخر يتحدث عن أخته الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها ولو هلكت مزقت خمارها
وجعلت من شعر صدارها
ولم يكن الخمار مقصورًا على العرب، وإنما كان شائعًا لدى الأمم القديمة في بابل وأشور وفارس والروم والهند[21].
النقاب: قال أبو عبيد: "النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، ومعناه أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاصقًا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين والأخرى مستوره"[22].
الوصواص: وهو النقاب على مارِن الأنف لا تظهر منه إلا العينان، وهو البرقع الصغير، ويسمّى الخنق، قال الشاعر:
يا ليتها قد لبست وصواصًا
البرقع: فيه خرقان للعين، وهو لنساء العرب، قال الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها[23]
الشبهة السادسة: الاحتجاج بقاعدة: "تبدل الأحكام بتبدّل الزمان":
فهم أعداء الحجاب من قاعدة: "تبدل الأحكام بتبدل الزمان" وقاعدة: "العادة محكّمة" أنه ما دامت أعرافهم متطوّرة بتطوّر الأزمان فلا بدّ أن تكون الأحكام الشرعية كذلك[24].
الجواب:
لا ريب أن هذا الكلام لو كان مقبولاً على ظاهره لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة أن ما تعارف عليه الناس وأصبح عرفًا لهم لا يخلو من حالات:(170/9)
1- إما أن يكون هو بعينه حكمًا شرعيًا أيضًا بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكّده، مثال ذلك: الطهارة من النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص والحدود وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعدّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب وتركها العقاب، سواء منها ما كان متعارفًا عليه قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيّدًا ومحسّنًا له كحكم القسامة والديه والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك، وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة وتطورت العادات والأحوال؛ لأنها بحدّ ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محكَّمة".
2- وإما أن لا يكون حكمًا شرعيًا، ولكن تعلّق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلّة بالمروءة والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ وفترة الحيض والنفاس إلى غير ذلك.(170/10)
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية ولكنها متعلَّق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء: "العادة محكمة"، فالأحكام المبنيّة على العرف والعادة هي التي تتغيّر بتغيّر العادة، وهنا فقط يصحّ أن يقال: "لا ينكر تبدّل الأحكام بتبدل الزمان"، وهذا لا يعدّ نسخًا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق فطبِّق غيره. يوضّحه أنّ العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو أن الحكم الأصلي باق، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لطبيقه[25].
الشبهة السابعة: نساء خيِّرات كنّ سافرات:
احتجّ أعداء الحجاب بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يرتدين الحجاب ولم يتجنّبن الاختلاط بالرجال.
وعمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها وينقبون فيها بحثًا عن مثل هؤلاء النساء حتى ظفروا بضالتهم المنشودة ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكن يبالين ـ فيما نقلته الأخبار عنهن ـ أن يظهرن سافرات أمام الرجال، وأن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج[26].
الجواب:
1- من المعلوم والمتقرر شرعا أن الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فضمن أيّ مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأنّ أغلبها وقع بعد من التشريع وانقطاع الوحي؟![27].(170/11)
2- وإذا علِم أن أحكام الإسلام إنما تؤخذ من نص ثابت في كتاب الله تعالى أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قياس صحيح عليهما أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم لم يصحّ حينئذ الاستدلال بالتصرّفات الفردية من آحاد الناس أو ما يسمّيه الأصوليون بـ"وقائع الأحوال"، فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلاً شرعيًا لأيّ حكم شرعيّ حتى لو كان أصحابها من الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم فكيف بمن دونهم؟!
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن ـ صحة وبطلانًا ـ بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله[28].
3- ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلاً قوة الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر لبطل أن يكونوا معرّضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحقَّ عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء))، وإلاّ فما بالنا لا نقول مثلاً: يحل شرب الخمر فقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيِّرة من شربها؟![29].
4- وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم وجمع غفير من النساء المتحجّبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟! فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة ولم يجعلها حجة بدلاً من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟!(170/12)
يقول الغزالي: "لم تزل الرجال على مر الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات أو يمنعن من الخروج"[30]، ويقول ابن رسلان: "اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات"[31].
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل واعتباره أصلاً راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟![32].
الشبهة الثامنة: الحجاب كبت للطاقة الجنسية:
قالوا: إنّ الطاقة الجنسية في الإنسان طاقة كبيرة وخطيرة، وخطورتها تكمن في كبتها، وزيادة الضغط يولّد الانفجار، وحجاب المرأة يغطّي جمالها، وبالتالي فإنّ الشباب يظلون في كتب جنسيّ يكاد أن ينفجر أو ينفجر أحيانًا على شكل حوادث الاغتصاب وغيرها، والعلاج لهذه المشكلة إنما يكمن في تحرير المرأة من هذا الحجاب لكي ينفس الشباب الكبت الذي فيهم، وبالتالي يحدث التشبع لهذه الحاجة، فيقلّ طبقًا لذلك خطورة الانفجار بسبب الكبت والاختناق[33].
الجواب:
1- لو كان هذا الكلام صحيحًا لكانت أمريكا والدول الأوربية وما شاكلها هي أقلّ الدول في العالم في حوادث الاغتصاب والتحرّش في النساء وما شاكلها من الجرائم الأخلاقية، ذلك لأن أمريكا والدول الأوربية قد أعطت هذا الجانب عناية كبيرة جدًا بحجة الحرية الشخصية، فماذا كانت النتائج التي ترتبت على الانفلات والإباحية؟ هل قلّت حوادث الاغتصاب؟ هل حدث التشبّع الذي يتحدّثون عنه؟ وهل حُميت المرأة من هذه الخطورة؟
جاء في كتاب "الجريمة في أمريكا": إنه تتم جريمة اغتصاب بالقوة كل ستة دقائق في أمريكا[34]. ويعني بالقوة: أي تحت تأثير السلاح.
وقد بلغ عدد حالات الاغتصاب في أمريكا عام 1978م إلى مائة وسبعة وأربعين ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين حالة، لتصل في عام 1987م إلى مائتين وواحد وعشرين ألف وسبعمائة وأربع وستين حالة. فهذه الإحصائيات تكذّب هذه الدعوى[35].(170/13)
2- إن الغريزة الجنسية موجودة في الرجال والنساء، وهي سرّ أودعه الله تعالى في الرجل والمرأة لحِكَم كثيرة، منها استمرار النسل. ولا يمكن لأحد أن ينكر وجود هذه الغريزة، ثم يطلب من الرجال أن يتصرفوا طبيعيًا أمام مناظر التكشف والتعرّي دونما اعتبار لوجود تلك الغريزة[36].
3- إن الذي يدّعي أنه يمكن معالجة الكبت الجنسي بإشاعة مناظر التبرّج والتعري ليحدث التشبع فإنه بذلك يصل إلى نتيجتين:
الأولى: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم الشهوات والعورات البادية من فئة المخصيّين، فانقطعت شهوتهم، فما عادوا يشعرون بشيء من ذلك الأمر.
الثانية: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم العورات الظاهرة من الذين أصابهم مرض البرود الجنسي.
فهل الذين يدعون صدقَ تلك الشبهة يريدون من رجال أمتنا أن يكونوا ضمن إحدى هاتين الطائفتين من الرجال؟![37].
الشبهة التاسعة: الحجاب يعطل نصف المجتمع:
قالوا: إن حجاب المرأة يعطل نصف المجتمع، إذ إن الإسلام يأمرها أن تبقى في بيتها[38].
الجواب:
1- إن الأصل في المرأة أن تبقى في بيتها، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33]. ولا يعني هذا الأمر إهانة المرأة وتعطيل طاقاتها، بل هو التوظيف الأمثل لطاقاتها[39].
2- وليس في حجاب المرأة ما يمنعها من القيام بما يتعلق بها من الواجبات، وما يُسمح لها به من الأعمال، ولا يحول بينها وبين اكتساب المعارف والعلوم، بل إنها تستطيع أن تقوم بكل ذلك مع المحافظة على حجابها وتجنبها الاختلاط المشين.
وكثير من طالبات الجامعات اللاتي ارتدين الثوب الساتر وابتعدن عن مخالطة الطلاب قد أحرزن قصب السبق في مضمار الامتحان، وكن في موضع تقدير واحترام من جميع المدرسين والطلاب[40].(170/14)
3- بل إن خروج المرأة ومزاحمتها الرجل في أعماله وتركها الأعمال التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها هو الذي يعطل نصف المجتمع، بل هو السبب في انهيار المجتمعات وفشو الفساد وانتشار الجرائم وانفكاك الأسَر، لأن مهمة رعاية النشء وتربيتهم والعناية بهم ـ وهي من أشرف المهام وأعظمها وأخطرها ـ أضحت بلا عائل ولا رقيب.
الشبهة العاشرة: التبرج أمر عادي لا يلفت النظر:
يدّعي أعداء الحجاب أن التبرج الذي تبدو به المرأة كاسية عارية لا يثير انتباه الرجال، بينما ينتبه الرجال عندما يرون امرأة متحجبة حجابًا كاملاً يستر جسدها كله، فيريدون التعرّف على شخصيتها ومتابعتها؛ لأنّ كلَّ ممنوع مرغوب[41].
الجواب:
1- ما دام التبرج أمر عادي لا يلفت الأنظار ولا يستهوي القلوب فلماذا تبرّجت؟! ولمن تبرجت؟! ولماذا تحمّلت أدوات التجميل وأجرة الكوافير ومتابعة الموضات؟![42].
2- وكيف يكون التبرج أمرًا عاديًا ونرى أن الأزواج ـ مثلاً ـ تزداد رغبتهم في زوجاتهم كلما تزينّ وتجمّلن، كما تزداد الشهوة إلى الطعام كلما كان منسقًا متنوعًا جميلاً في ترتيبه ولو لم يكن لذيذ الطعم؟![43].
3- إن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجاذبية الفطرية، لا تتغير مدى الدهر، وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها، بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر؛ ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها وفي أخلاقها وأفكارها وميولها، كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله. وهذه قاعدة فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة[44].(170/15)
4- أودع الله الشبق الجنسي في النفس البشرية سرًّا من أسراره، وحكمة من روائع حكمه جلّ شأنه، وجعل الممارسة الجنسية من أعظم ما ينزع إليه العقل والنفس والروح، وهي مطلب روحي وحسي وبدني، ولو أن رجلاً مرت عليه امرأة حاسرة سافرة على جمال باهر وحسن ظاهر واستهواء بالغ ولم يلتفت إليها وينزع إلى جمالها يحكم عليه الطب بأنه غير سوي وتنقصه الرغبة الجنسية، ونقصان الرغبة الجنسية ـ في عرف الطب ـ مرض يستوجب العلاج والتداوي[45].
5- إن أعلى نسبة من الفجور والإباحية والشذوذ الجنسي وضياع الأعراض واختلاط الأنساب قد صاحبت خروج النساء مترجات كاسيات عاريات، وتتناسب هذه النسبة تناسبًا طرديًا مع خروج النساء على تلك الصورة المتحللة من كل شرف وفضيلة، بل إن أعلى نسبة من الأمراض الجنسية ـ كالأيدز وغيره ـ في الدول الإباحية التي تزداد فيها حرية المرأة تفلّتًا، وتتجاوز ذلك إلى أن تصبح همجية وفوضى، بالإضافة إلى الأمراض والعقد النفسية التي تلجئ الشباب والفتيات للانتحار بأعلى النسب في أكثر بلاد العالم تحللاً من الأخلاق[46].
6- أما أن العيون تتابع المتحجبة الساترة لوجهها ولا تتابع المتبرجة فإن المتحجبة تشبه كتابًا مغلقًا، لا تعلم محتوياته وعدد صفحات وما يحمله من أفكار، فطالما كان الأمر كذلك، فإنه مهما نظرنا إلى غلاف الكتاب ودققنا النظر فإننا لن نفهم محتوياته، ولن نعرفها، بل ولن نتأثر بها، وبما تحمله من أفكار، وهكذا المتحجبة غلافها حجابها، ومحتوياتها مجهولة بداخله، وإن الأنظار التي ترتفع إلى نورها لترتد حسيرة خاسئة، لم تظفر بِشَروَى[47] نقير ولا بأقلّ القليل.(170/16)
أما تلك المتبرجة فتشبه كتابًا مفتوحًا تتصفّحه الأيدي، وتتداوله الأعين سطرًا سطرًا، وصفحة صفحة، وتتأثّر بمحتوياته العقول، فلا يترك حتى يكون قد فقد رونق أوراقه، فتثنت بل تمزق بعضها، إنه يصبح كتابًا قديمًا لا يستحق أن يوضع في واجهة مكتبة بيت متواضعة، فما بالنا بواجهة مكتبة عظيمة؟![48].
الشبهة الحادية عشرة: السفور حقّ للمرأة والحجاب ظلم:
زعموا أن السفور حقّ للمرأة، سلبها إياه المجتمع، أو سلبها إياه الرجل الأناني المتحجر المتزمت، ويرون أن الحجاب ظلم لها وسلب لحقها[49].
الجواب:
1- لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضدّه لتتخلّص من الظلم الذي أوقعه عليها، كما كان وَضعُ القضية في أوربا بين المرأة والرجل، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك ـ إن كانت مؤمنة ـ أن تجادله سبحانه فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا} [الأحزاب:36][50].
2- إن الحجابَ في ذاته لا يشكل قضية، فقد فرض الحجاب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفذ في عهد، واستمر بعد ذلك ثلاثة عشر قرنًا متوالية وما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يقول: إن المرأة كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مظلومة.
فإذا وقع عليها الظلم بعد ذلك حين تخلّف المسلمون عن عقيدتهم الصحيحة ومقتضياتها فلم يكن الحجاب ـ بداهة ـ هو منبع الظلم ولا سببه ولا قرينه، لأنه كان قائمًا في خير القرون على الإطلاق، وكان قرين النظافة الخلقية والروحية، وقرين الرفعة الإنسانية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله[51].
الشبهة الثانية عشرة: الحجاب رمز للغلو والتعصب الطائفي والتطرف الديني:(170/17)
زعم أعداء الحجاب أن حجاب المرأة رمز من رموز التطرف والغلو، وعلامة من علامات التنطع والتشدد، مما يسبب تنافرا في المجتمع وتصادما بين الفئتين، وهذا قد يؤول إلى الإخلال بالأمن والاستقرار.
الجواب:
1- هذه الدعوى مرفوضة من أساسها، فالحجاب ليس رمزا لتلك الأمور، بل ولا رمزا من الرموز بحال، لأن الرمز ما ليس له وظيفة إلا التعبير عن الانتماء الديني لصاحبه، مثل الصليب على صدر المسيحي أو المسيحية، والقلنسوة الصغيرة على رأس اليهودي، فلا وظيفة لهما إلا الإعلان عن الهوية. أما الحجاب فإن له وظيفة معروفة وحِكَما نبيلة، هي الستر والحشمة والطهر والعفاف، ولا يخطر ببال من تلبسه من المسلمات أنها تعلن عن نفسها وعن دينها، لكنها تطيع أمر ربها، فهو شعيرة دينية، وليس رمزا للتطرف والتنطع.
ثم إن هذه الفرية التي أطلقوها على حجاب المرأة المسلمة لماذا لم يطلقوها على حجاب الراهبات؟! لماذا لم يقولوا: إن حجابَ اليهوديات والنصرانيات رمز للتعصب الديني والتميز الطائفي؟! لماذا لم يقولوا: إن تعليق الصليب رمز من رموز التطرف الديني وهو الذي جرّ ويلات الحروب الصليبية؟! لماذا لم يقولوا: إن وضع اليهودي القلنسوة الصغيرة على رأسه رمز من رموز التطرف الديني وبسببه يحصل ما يحصل من المجازر والإرهاب في فلسطين المحتلة؟!
2- إن هذه الفرية يكذّبها التاريخ والواقع، فأين هذه المفاسد المزعومة والحجاب ترتديه المرأة المسلمة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟!
3- إن ارتداء المرأة للحجاب تم من منطلق عقدي وقناعة روحية، فهي لم تلزَم بالحجاب بقوة الحديد والنار، ولم تدعُ غيرها إلى الحجاب إلا بالحكمة والحجج الشرعية والعقلية، بل عكس القضية هو الصحيح، وبيان ذلك أن إلزام المرأة بخلع حجابها وجعل ذلك قانونا وشريعة لازمة هو رمز التعصب والتطرف اللاديني، وهذا هو الذي يسبب التصادم وردود الأفعال السيئة، لأنه اعتداء على الحرية الدينية والحرية الشخصية.
---(170/18)
[1] عودة الحجاب: محمد أحمد إسماعيل المقدم (3/391).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39).
[3] أخرجه مسلم في الجهاد (1732).
[4] عودة الحجاب (3/393).
[5] انظر: عودة الحجاب (3/395-396).
[6] المتبرجات للزهراء فاطمة بنت عبد الله (122).
[7] انظر: المتبرجات (122).
[8] المتبرجات (124) بتصرف.
[9] المترجات (124-125).
[10] عودة الحجاب (3/412).
[11] عودة الحجاب (3/412-413) باختصار.
[12] عودة الحجاب (3/412-413).
[13] إلى كل أب غيور يؤمن بالله لعبد الله ناصح علوان (44)، انظر: عودة الحجاب (3/414).
[14] عودة الحجاب (3/415).
[15] إلى كل فتاة تؤمن بالله. د.محمد سعيد البوطي (97).
[16] إلى كل فتاة تؤمن بالله (97-99).
[17] يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي للشيخ صالح البليهي (124).
[18] يا فتاة الإسلام (128-126) باختصار.
[19] يا فتاة الإسلام (126).
[20] المرأة بين الجاهلية والإسلام، محمد الناصر وخولة درويش (169، 170).
[21] المرأة بين الجاهلية والإسلام (171).
[22] غريب الحديث (2/440-441)، عند شرح قول ابن سيرين: "النقاب محدث".
[23] انظر: المرأة بين الجاهلية والإسلام (171-172)..
[24] عودة الحجاب (3/403).
[25] عودة الحجاب (3/403-404).
[26] عودة الحجاب (3/409).
[27] عودة الحجاب (3/409).
[28] عودة الحجاب (3/409-410).
[29] عودة الحجاب (3/410).
[30] إحياء علوم الدين (2/74).
[31] انظر: عون المعبود (4/106).
[32] عودة الحجاب (3/410-411).
[33] أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب؟ لعبد الحميد البلالي (7).
[34] هذا بالنسبة لعام (1988م) على ما في الكتاب.
[35] أختي غير المحجبة (8، 10) بتصرف.
[36] أختي غير المحجبة (12).
[37] أختي غير المحجبة (12-13).
[38] أختي غير المحجبة (64).
[39] أختي غير المحجبة (64).
[40] يا فتاة الإسلام اقرئي (39-40).
[41] المتبرجات (117).
[42] المتبرجات (117).(170/19)
[43] المتبرجات (117).
[44] التبرج لنعمت صافي (23-24).
[45] الفتاوى للشيخ محمد متولي الشعراوي بمشاركة: د.السيد الجميلي. انظر: المتبرحات (119-120)
[46] المتبرجات (120) وللمزيد من ذلك انظر: المرأة المتبرجة وأثرها السيئ في الأمة لعبد الله التليدي (12-25).
[47] الشَّروى كجدوى: المثل. (القاموس المحيط، مادة: شرى).
[48] المتبرجات (118).
[49] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (21).
[50] قضية تحرير المرأة (19).
[51] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (19-20).(170/20)
أريد أن أتوب ولكن
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن الله أمر المؤمنين جميعاً بالتوبة : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور /31 .
وقسم العباد إلى تائب وظالم ، وليس ثم قسم ثالث البتة ، فقال عز وجل : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات /11 وهذا أوان بعد فيه كثير من الناس عن دين الله فعمت المعاصي وانتشر الفساد، حتى ما بقي أحد لم يتلوث بشيء من الخبائث إلا من عصم الله .
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فانبعث الكثيرون من غفلتهم ورقادهم، وأحسوا بالتقصير في حق الله ، وندموا على التفريط والعصيان ، فتوجهت ركائبهم ميممة شطر منار التوبة ، وآخرون سئموا حياة الشقاء وضنك العيش ، وهاهم يتلمسون طريقهم للخروج من الظلمات إلى النور .
لكن تعترض طريق ثلة من هذا الموكب عوائق يظنونها تحول بينهم وبين التوبة ، منها ما هو في النفس ، ومنها ما هو في الواقع المحيط .
ولأجل ذلك كتبت هذه الرسالة آملاً أن يكون فيها توضيح للبس وكشف لشبهة أو بيان لحكم ودحر للشيطان .
وتحتوي هذه الرسالة على مقدمة عن خطورة الاستهانة بالذنوب فشرحاً لشروط التوبة ، ثم علاجات نفسية ، وفتاوى للتائبين مدعمة بالأدلة من القرآن الكريم والسنة ، وكلام أهل العلم وخاتمة .
والله أسأل أن ينفعني وأخواني المسلمين بهذه الكلمات ، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة ، والله يتوب علينا أجمعين .
مقدمة في خطر الاستهانة بالذنوب
اعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) التحريم /8(171/1)
ومنحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات - محتمل أن تكون الساعة الفلكية المعروفة ، أو هي المدة اليسيرة من الليل أو النهار ، من لسان العرب - عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتبت واحدة ) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209 . ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل .
ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً ، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً ، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب ، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر ، فيقول مثلاً : وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية . الأجانب هم ما سوى المحارم .
ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات ، حتى أن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها ؟ أهي كبيرة أم صغيرة ؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله :
- عن أنس رضي الله عنه قال : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) والموبقات هي المهلكات .
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا – أي بيده – فذبه عنه "(171/2)
وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ( وفي رواية ) إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) رواه أحمد ، صحيح الجامع 2686-2687 .
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها ، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
ونقول لمن هذه حاله : لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت .
وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون ، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم .
إنها لمن يؤمن بقوله تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) الحجر /49 ، كما يؤمن بقوله : ( وأن عذابي هو العذاب الأليم ) الحجر /50 .
شروط التوبة ومكملاتها
كلمة التوبة كلمة عظيمة ، لها مدلولات عميقة ، لا كما يظنها الكثيرون ، ألفاظ باللسان ثم الاستمرار على الذنب ، وتأمل قوله تعالى : ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) هود /3 تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار .
ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط ، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث ، وهذا ذكر بعضها :
الأول : الإقلاع عن الذنب فوراً .
الثاني : الندم على ما فات .
الثالث : العزم على عدم العودة .
الرابع : إرجاع حقوق من ظلمهم ، أو طلب البراءة منهم .
وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح ، نسوقها مع بعض الأمثلة :
الأول : أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر ، كعدم القدرة عليه أو على معاودته ، أو خوف كلام الناس مثلاً .(171/3)
فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس ، أو ربما طرد من وظيفته .
ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته ، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية ، أو أنها تضعف جسمه وذاكرته .
ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً .
ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه .
وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته ، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق ، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع ، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه ، بل لابد لمثل هذا من الندم والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف على فواتها ولمثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الندم توبة ) رواه أحمد وابن ماجه ، صحيح الجامع 6802 .
والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل ، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا لأربعة نفر ، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) رواه أحمد والترمذي وصححه صحيح الترغيب والترهيب 1/9 .
الثاني : أن يستشعر قبح الذنب وضرره .
وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية ، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل .(171/4)
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها :
حرمان العلم – والوحشة في القلب – وتعسير الأمور – ووهن البدن – وحرمان الطاعة – ومحق البركة – وقلة التوفيق – وضيق الصدر – وتولد السيئات – واعتياد الذنوب – وهوان المذنب على الله – وهوانه على الناس – ولعنة البهائم له – ولباس الذل – والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة – ومنع إجابة الدعاء – والفساد في البر والبحر- وانعدام الغيرة – وذهاب الحياء – وزوال النعم – ونزول النقم – والرعب في قلب العاصي – والوقوع في أسر الشيطان – وسوء الخاتمة – وعذاب الآخرة .
وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية ، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها :
أن يعتقد أن وزنها أخف .
لأن النفس تميل إليها أكثر ، والشهوة فيها أقوى .
لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها ، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز ، أسبابها حاضرة متوافرة .
لأن قرناءه وخلطاؤه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم .
لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية ، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد ، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي ، فأنشد أبو نواس :
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
الثالث : أن يبادر العبد إلى التوبة ، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة .
الرابع : أن يخشى على توبته من النقص ، ولا يجزم بأنها قد قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله .
الخامس : استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً ، كإخراج الزكاة التي منعت في الماضي ولما فيها من حق الفقير كذلك .(171/5)
السادس : أن يفارق موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى .
السابع : أن يفارق من أعانه على المعصية وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه .
والله يقول : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف /67 . وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة ، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم .
وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي .
الثامن : إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار ، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل ، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها .
ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها ، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات .
التاسع : أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء وأن يحرص على حلق الذكر ومجالس العلم ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي .
العاشر : أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب .
الحادي عشر : أن تكون التوبة قبل الغرغرة ، وقبل طلوع الشمس من مغربها : والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ) رواه أحمد والترمذي ، صحيح الجامع 6132 . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم .(171/6)
توبة عظيمة
ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن بريدة رضي الله عنه : أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني فرده ، فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، فقال : ( أتعلمون بعقله بأساً ؟ أتنكرون منه شيئاً ؟ ) قالوا : ما نعلمه إلا وفيّ العقل ، من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضاً ، فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، قال : فجاءت الغامدية ، فقالت : يا رسول الله إني زنيت فطهرني ، وإنه ردها ، فلما كان الغد ، قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فوالله إني لحبلى ، قال : ( أما لا ، فاذهبي حتى تلدي ) ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا رسول الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها ، فقال: ( مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس {وهو الذي يأخذ الضرائب } لغفر له ) رواه مسلم . ثم أمر بها فصلى عليها ، ودفنت .
وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ! فقال : ) لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم ، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل . رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/325 .
التوبة تمحو ما قبلها(171/7)
وقد يقول قائل : أريد أن أتوب ولكن من يضمن لي مغفرة الله إذا تبت وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت ؟
فأقول له ما داخلك من المشاعر داخل نفوس أناس قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله .
الأولى : روى الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها : " فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يديّ قال : مالك يا عمرو ؟ قال : قلت أردت أن أشترط ، قال ( تشترط بماذا؟) قلت : أن يغفر لي . قال : ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) .
والثانية : وروى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : " إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن ، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ) الفرقان /68 . ونزل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) .
هل يغفر الله لي
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته ، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا ارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة .(171/8)
وأقول لك أيها الأخ الكريم : هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه قد بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة ، وسرق عدة سرقات ثم يقول : تبت إلى الله عز وجل ، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الاثنين والخميس ، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة ؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات ، فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل : ( قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) الزمر الآيتان 53،54
فهذا الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان .
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشيء عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً .
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً .
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب هو الرجاء ثالثاً .
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً .
ونجيب عن كل منها .
فأما الأول : فيكفي في تبيانه قول الله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) الأعراف /56 .
وأما الثاني : فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح : ( قال تعالى من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئاً ) رواه الطبراني في الكبير والحاكم ، صحيح الجامع 4330 . وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة .(171/9)
وأما الثالث : فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي ، صحيح الجامع 4338 .
وأما الرابع : فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجه ، صحيح الجامع 3008 .
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث :
توبة قاتل المائة(171/10)
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدّل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط , فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه . وفي رواية في الصحيح ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) .
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب الله عليه ، فلم اليأس ؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك ، تأمل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان /68 – 70 .(171/11)
ووقفة عند قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان /70 تبين لك فضل الله العظيم ، قال العلماء التبديل هنا نوعان :
الأول : تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً وبالزنا عفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا .
والثاني : تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، وتأمل قوله تعالى : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية ، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته ، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل ؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل :
عن عبد الرحمن بين جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي طرق أخرى – " جاء شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدّعم على عصا حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة أي صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها ، وفي رواية ، إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم أي أهلكتهم فهل لذلك من توبة ؟ قال : ( فهل أسلمت ) قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . قال : ( تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ) قال : وغدراتي وفجراتني ، قال : ( نعم ) قال : الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى. قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة ، المجمع 1/36 وقال المنذري في الترغيب إسناده جيد قوي 4/113 وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح 4/149.
وهنا قد يسأل تائب ، فيقول : إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح .(171/12)
وإليك الجواب : عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتِاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) رواه البخاري .
فهذه الذنوب تغفر ، وهذه السيئات تبدل حسنات ، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة ، فماذا بقي !
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً ؟ .
فالجواب : ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان .
الأول : عمل القلب بالندم والعزم على عدم العودة ، وهذه تكون نتيجة الخوف من الله .
الثاني : عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها :
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) رواه أصحاب السنن ، صحيح الترغيب والترهيب 1/284 . ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران /135 .
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب وهذا ملخصها :
- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ( لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء )
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين – سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم .
- يقوم فيصلي ركعتين .
- لا يسهو فيهما .
- لا يحدث فيهما نفسه .(171/13)
- يحسن فيهن الذكر والخشوع .
- ثم استغفر الله .
والنتيجة :
غفر له ما تقدم من ذنبه .
إلا وجبت له الجنة . صحيح الترغيب 1/ 94 ، 95
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات ، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ، قال بعدها فعلمت لذلك أعمالاً أي صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع أي لباس من حديد يرتديه المقاتل ضيقة ، قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض ) رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2192 . فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية ، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح ، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة .
عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت ، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، ثم قال : ( ردوه علي ) ، فردوه عليه فقرأ عليه : ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .
فقال معاذ – وفي رواية عمر – يا رسول الله أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال : ( بل للناس كافة ) رواه مسلم .
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما أن علموا بشيء من التغير عندي حتى شنوا عليّ حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل ؟!(171/14)
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين وليميز الله الخبيث من الطيب .
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت ، وهؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم ، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك ، وهذه أزمة عارضة ، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر !!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس ؟
والله يقول : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس ) الناس /1-6 .
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء ؟!
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة ولقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة .
هنالك : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم /27 .
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة ، ذكريات .. توسلات .. صور .. ورسائل .. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل ، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقاطعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله ، أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول فيها : " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك " يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر .
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب : " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور أي الفرن فسجرتها أي أحرقتها .(171/15)
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر أو أنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة . ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون )
إنهم يهددونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهددونني بإعلان فضائحي بين الناس ، ونشر أسراري على الملأ ، إن عندهم صوراً ووثائق ، وأنا أخشى على سمعتي ، إني خائف !!
ونقول : جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها ، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته .
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات ، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً ، لكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم ، وقل حسبي الله ونعم الوكيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال : ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ) رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 4582 .
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً : لقد سجلت مكالمتك ولديّ صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك !! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه .
وانظر إلى حرب أولياء الشياطين لمن تاب من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية ، ولكن الله مع المتقين ، ومع التائبين ، وهو ولي المؤمنين ، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم ، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً ، واعلم أن مع العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً .
وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول .(171/16)
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنويّ الفدائي الذي كان يهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً . " كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة ، حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفت ، فقالت : مرثد ؟ فقلت: مرثد ، قالت : مرحباً وأهلاً ، هلم فبت عندنا الليلة ، قلت : يا عناق حرم الله الزنا ، قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ( وهو جبل معروف عند أحد مداخل مكة ) فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلاً ثقيلاً ، حتى انتهيت إلى الأذخر ففككت عنه أكبله ( أي قيوده ) فجعلت أحمله ويُعييني ( أي يرهقني) حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) النور /3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها ) صحيح سنن الترمذي 3/80 .
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم ، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون ؟(171/17)
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقة هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة ، يوم الخزي الأكبر ، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين ، ولكنها على رؤوس الأشهاد ، أما الخلق كلهم من الملائكة والجن والإنس ، من آدم وحتى آخر رجل .
فهلم إلى دعاء إبراهيم :
( ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء /87-89
وتحصن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين .
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول : إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله ، ولكن ذنوبي تطاردني ، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي ، ويقض مضجعي ، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي ، فما السبيل إلى إراحتي .
فأقول لك أيها الأخ المسلم ، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة ، وهذا هو الندم بعينه ، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء ، رجاء أن يغفر الله لك ، ولا تيأس من روح الله ، ولا تقنط من رحمة الله ، والله يقول : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) الحجر /56 .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير .
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة ، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب ، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله .
هل اعترف ؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول : أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب ؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ ؟(171/18)
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز ، والمرأة ، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان .
فأقول لك أيها الأخ المسلم : اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم ، الذي ارتضاه الله ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) البقرة /186 . وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً ، وفي دعاء سيد الاستغفار: ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ) أي أعترف لك يا الله .
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى ، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران .. إلى آخر أركان المهزلة .
بل إن الله يقول : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط .
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف ، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه ، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله ، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده ، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً .
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه ، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد ، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت ، كما يخطر في أذهان البعض .
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها :(171/19)
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل ، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل ، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً ، وتقام عليك الحدود ، ثم ينظر في أمرك ، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام ، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه .
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول : أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة ، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة ، والله يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) النحل /43 وقال : ( الرحمن فاسأل به خبيراً ) الفرقان /59 .
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي ، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس ، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى ، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى ، وهذه مسألة تعبدية ، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم . والله المستعان .
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول : أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة ، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب ، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها ، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها ، فهل من إجابات على هذه التساؤلات ؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل .
س1 : إنني أقع في الذنب فأتوب منه ، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه ! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده ؟
جـ1 : ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب ، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة .(171/20)
س2 : هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر ؟
جـ2 : تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر ، إذا لم يكن من النوع نفسه ، ولا يتعلق بالذنب الأول ، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة ، والعكس صحيح ، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس ، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة ، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه . راجع المدارج.
س3 : تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها ، فماذا أفعل الآن ؟
جـ3 : أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها ، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار ، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه .
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام ، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده ، من غير عذر وهذه كفارة التأخير ، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان .
مثال : رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً ، وبعد سنين تاب إلى الله ، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام ، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية .
مثال آخر : امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها ، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها ، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه ، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام ، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر .
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة ، وحق للفقير من جهة أخرى . للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383 .(171/21)
س4 : إذا كانت السيئة في حق آدميّ فكيف تكون التوبة ؟
جـ4 : الأصل في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت لأخيه عنده مظلمة ، من عرض أو مال ، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه) رواه البخاري فيخرج التائب من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم ، فإن سامحوه وإلا ردها .
س5 : وقعت في غيبة شخص أو أشخاص ، وقذفت آخرين بأمورٍ هم بريئون منها فهل يشترط إخبارهم بذلك مع طلب المسامحة وإذا كان لا يشترط فكيف أتوب ؟!
جـ5 : المسألة هنا تعتمد على تقدير المصالح والمفاسد .
فإن كان إذا أخبرهم بم اغتابهم أو قذفهم لا يغضبون منه ولا يزدادون عليه حنقاً وغماً صارحهم وطلب منهم المسامحة ولو بعبارات عامة ، كأن يقول إني أخطأت في حقك في الماضي ، أو ظلمتك بكلام ، وإني تبت إلى الله فسامحني ، دون أن يفصل فلا بأس بهذا .
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم أو قذفهم حنقوا عليه وازدادوا غماً وغيظاً – وربما يكون هذا هو الغالب – أو أنه إذا أخبرهم بعبارات عامة لم يرضوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية له ، فإنه حينئذ لا يجب عليه إخبارهم أصلاً لأن الشريعة لا تأمر بزيادة المفاسد ، وإخبار شخص بأمور كان مستريحاً قبل سماعها على وجه يسبب البغضاء وينافي مقصد الشريعة في تأليف القلوب والتحاب بين المسلمين ، وربما يكون الإخبار سبباً لعداوة لا يصفو بعدها قلب المغتاب أبداً لمن اغتابه ، وفي هذه الحالة يكفي التوبة أمور منها :
1- الندم وطلب المغفرة من الله والتأمل في شناعة هذه الجريمة واعتقاد تحريمها .
2- أن يكذب نفسه عند من سمع الغيبة ، أو القذف ويبرئ المقذوف.
3- أن يثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمته فيها ، ويذكر محاسنه .(171/22)
4- أن يدافع عمن اغتابه ، ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه .
5- أن يستغفر له بظهر الغيب المدارج 1/291 ، والمغني مع الشرح 12/78
ولاحظ أيها الأخ المسلم الفرق بين الحقوق المالية وجنايات الأبدان ، وبين الغيبة والنميمة ، فالحقوق المالية يستفيد أهلها إذا أخبروا بها ، وردت إليهم ، ويسرون بذلك ، ولذلك لا يجوز كتمها بخلاف الحقوق التي في جانب العِرض ، والتي لا تزيد من يُخبر بها إلا ضرراً وتهييجاً .
س6 : كيف يتوب القاتل المتعمد ؟
جـ6 : القاتل المتعمد عليه ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق القتيل ، وحق الورثة .
فحق الله لا يُقضى إلا بالتوبة .
حق الورثة أن يسلم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم ، إما بالقصاص أو بالدية أو العفو .
ويبقى حق القتيل الذي لا يمكن الوفاء به في الدنيا ، وهنا قال أهل العم إذا حسنت توبة القاتل ، فإن الله يرفع عنه حق القتيل ويعوض القتيل يوم القيامة خيراً من عنده عز وجل ، وهذا أحسن الأقوال . المدارج 1/299 .
س7 : كيف يتوب السارق ؟
جـ7 : إذا كان الشيء عنده الآن رده إلى أصحابه .
وإن تلف أو نقصت قيمته بالاستعمال أو الزمن وجب عليه أن يعوضهم عن ذلك ، إلا إذا سامحوه فالحمد لله .
س8 : أشعر بالحرج الشديد إذا واجهت من سرقت منهم ، ولا أستطيع أن أصارحهم ، ولا أن أطلب منهم المسامحة فكيف أفعل ؟
جـ8 : لا حرج عليك في البحث عن طريق تتفادى فيه هذا الإحراج الذي لا تستطيع مواجهته ، كأن ترسل حقوقهم مع شخص آخر ، وتطلب عدم ذكر اسمك ، أو بالبريد ، أو تضعها خفية عندهم، أو تستخدم التورية وتقول هذه حقوق لكم عند شخص ، وهو لا يريد ذكر اسمه ، والمهم رجوع الحق إلى أصحابه .
س9 : كنت أسرق من جيب أبي خفية ، وأريد الآن أن أتوب ولا أعلم كم سرقت بالضبط ، وأنا محرج من مواجهته ؟
جـ9 : عليك أن تقدر ما سرقته بما يغلب على ظنك أنه هو أو أكثر منه ، ولا بأس أن تعيده إلى أبيك خفية كما أخذته خفية .(171/23)
س10 : سرقت أموالاً من أناس وتبت إلى الله ، ولا أعرف عناوينهم ؟
وآخر يقول أخذت من شركة أموالاً خلسة ، وقد أنهت عملها وغادرت البلد ؟
وثالث يقول سرقت من محل تجاري سلعاً ، وتغير مكانه ولا أعرف صاحبه ؟
جـ10 : عليك بالبحث عنهم على قدر طاقتك ووسعك ، فإذا وجدتهم فادفعها إليهم والحمد لله ، وإذا مات صاحب المال فتعطى لورثته ، وإن لم تجدهم على الرغم من البحث الجاد فتصدق بهذه الأموال بالنيابة عنهم ، وانوها لهم ولو كانوا كفاراً لأن الله يعطيهم في الدنيا ولا يعطيهم في الآخرة .
ويشبه هذه المسألة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في المدراج 1/388 أن رجلاً في جيش المسلمين غل ( أي سرق ) من الغنيمة ، ثم تاب بعد زمن ، فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه ، وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا ؟ فأتى هذا التائب حجاج بن الشاعر يستفتيه فقال له حجاج : يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم ، فإن الله يوصل ذلك إليهم ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إليّ من نصف ملكي ، وهناك فتوى مشابهة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قريبة من هذه قصة مذكورة في المدارج .
س11 : غصبت مالاً لأيتام وتاجرت به وربحت ، ونما المال أضعافاً وخفت من الله فكيف أتوب ؟
جـ11 : للعلماء في هذه المسألة أقوال أوسطها وأعدلها أنك ترد رأس المال الأصلي للأيتام ، زائداً نصف الأرباح ، فتكون كأنك وإياهم شركاء في الربح مع إعادة الأصل إليهم .
وهذه رواية عن الإمام أحمد ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم رحمه الله ( المدراج 1/392 )
وكذلك لو غصب سائمة من إبل أو غنم فنتجت أولاداً فهي ونصف أولادها للمالك الأصلي ، فإن ماتت أعطى قيمتها مع نصف النتاج إلى مالكها .(171/24)
س12 : رجل يعمل في الشحن الجوي وتتخلف عندهم بضائع أخذ منها مسجلاً خلسة وبعد سنوات تاب فهل يُرجع المسجل نفسه أو قيمته أو شبيهاً به ، علماً بأن هذا النوع قد انتهى من السوق ؟
جـ12 : يرجع المسجل نفسه زائداً عليه ما نقص من قيمته لقاء الاستعمال أو تقادم الزمن ، وذلك بطريقة مناسبة دون أن يؤذي نفسه ، فإن تعذر ، تصدق بقيمته نيابة عن صاحبه الأصلي .
س13 : كان عندي أموال من الربا ولكني أنفقتها كلها ، ولم يبق عندي منها شيء ، وأنا الآن تائب فماذا يلزمني ؟
جـ13 : لا يلزمك إلا التوبة إلى الله عز وجل توبة نصوحاً والربا خطير ، ولم يؤذن بحرب أحد في القرآن الكريم إلا أهل الربا وما دامت الأموال الربوية قد ذهبت كلها ، فليس عليك من جهتها شيء الآن .
س14 : اشتريت سيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام ، وهي موجودة عندي الآن فكيف أفعل ؟
جـ14 : من اشترى شيئاً لا يتجزأ كالبيت أو السيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يخرج ما يقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدق به تطييباً لتلك الممتلكات ، فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب ردّ مثله إليهم على التفصيل السابق .
س15 : ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان ، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال ؟
جـ15 : من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة ، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده ، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام ، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم .
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام ، وأراد أن يتوب فإن كان :(171/25)
1- كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا .
2- وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب .
س16 : شخص يأخذ الرشاوي ، ثم هداه الله إلى الاستقامة ، فماذا يفعل بالأموال التي أخذها من الرشوة ؟
جـ16 : هذا الشخص لا يخلو من حالتين :
1- إما أن يكون أخذ الرشوة من صاحب حق مظلوم اضطر أن يدفع الرشوة ليحصل على حقه لأنه لم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة ، فهنا يجب على هذا التائب أن يرد المال إلى الراشي صاحب الحق لأنه في حكم المال المغصوب ولأنه ألجأه إلى دفعه بالإكراه .
2- أن يكون أخذ الرشوة من راش ظالم مثله تحصل عن طريق الرشوة على أشياء ليست من حقه ، فهذا لا يُرجع إليه ما أخذه منه ، وإنما يتخلص التائب من هذا المال الحرام في وجوه الخير كإعطائه للفقراء مثلاً ، كما يتوب مما تسبب فيه من صرف الحق عن أهله .
س17 : عملت أعمالاً محرمة وأخذت مقابلها أموالاً فهل يجب عليّ وقد تبت إرجاع هذه الأموال لمن دفعها إليّ ؟
جـ17 : الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة ، أو يقدم خدمات محرمة ، ويأخذ مقابلاً أو أجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يعيده إلى من أخذه منه .(171/26)
فالزانية التي أخذت مالاً على الزنا لا تعيده إلى الزاني إذا تابت ، والمغني الذي أخذ أموالاً على الغناء المحرم لا يعيده إلى أصحاب الحفلة إذا تاب ، وبائع الخمر أو المخدارت لا يعيدها إلى من اشتروها منه إذا تاب ، وشاهد الزور الذي أخذ مقابلاً لا يعيد المال من استخدمه لشهادة الزور وهكذا ، والسبب أنه إذا أرجع المال للعاصي الذي دفعه فإنه يكون قد جمع له بين العِوض الحرام والمُعوَّض بالتخلص منه ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم . كما في المدارج 1/390 .
س18 : هناك أمر يقلقني ويسبب لي إرهاقاً وأرقاً ، وهو أني وقعت في الفاحشة مع امرأة فكيف أتوب ، وهل يجوز لي أن الزواج منها لستر القضية ؟
وآخر يسأل أنه وقع في الفاحشة في الخارج ، وأن المرأة حملت منه فهل يكون هذا ولده ، وهل يجب عليه إرسال نفقة الولد .
جـ18 : لقد كثرت الأسئلة عن الموضوعات المتعلقة بالفواحش كثرة تجعل من الواجب على المسلمين جميعاً إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاحها على هدي الكتاب والسنة وخصوصاً في مسائل غض البصر وتحريم الخلوة ، وعدم مصافحة المرأة الأجنبية والالتزام بالحجاب الشرعي الكامل وخطورة الاختلاط ، وعدم السفر إلى بلاد الكفار والاعتناء بالبيت المسلم والأسرة المسلمة والزواج المبكر وتذليل صعوباته .
أما بالنسبة إلى السؤال فمن فعل الفاحشة فلا يخلو من حالتين :
1- إما أنه زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهر مثلها ، عوضاً عما ألحق بها من الضرر ، مع توبته إلى الله توبة نصوحاً ، وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام ، أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه . انظر المدارج 1/366
2- أن يكون قد زنى بها برضاها ، فهذا لا يجب عليه إلا التوبة ، ولا يُلحق به الولد مطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا ينسب لأمه ، ولا يجوز إلحاقه بنسب الزاني .(171/27)
ولا يجوز للتائب الزواج منها لستر القضية والله يقول : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) التوبة /3 .
ولا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا ، ولو كان منه، كما لا يجوز العقد على امرأة لا يدرى أهي حامل أم لا .
أما إذا تاب هو وتابت المرأة توبة صادقة وتبين براءة رحمها ، فإنه يجوز له حينئذ أن يتزوج منها ، ويبدأ معها حياة جديدة يحبها الله .
س19 : لقد حصل والعياذ بالله أني ارتكبت الفاحشة وعقدت على المرأة الزانية ، وقد صار لنا سنوات وقد تبنا أنا وهي إلى الله توبة صادقة فماذا يجب عليّ ؟
جـ19 : ما دامت التوبة قد صحت من الطرفين فعليكما إعادة العقد بشروطه الشرعية من الولي والشاهدين ، ولا يلزم أن يكون ذلك في المحكمة بل لو حصل في البيت لكان كافياً .
س20 : امرأة تقول إنها تزوجت من رجل صالح وقد فعلت أموراً لا ترضي الله قبل زواجها ، وضميرها يؤنبها الآن ، وتسأل هل يجب عليها إخبار زوجها بما حصل منها في الماضي ؟
جـ20 : لا يجب على أيٍّ من الزوجين إخبار الآخر بما فعل في الماضي من المنكرات ، ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وتكفيه التوبة النصوح .
وأما من تزوج بكراً ثم تبين له عند الدخول بها أنها ليست كذلك لفاحشة ارتكبتها في الماضي ، فإنه يحق له أخذ المهر الذي أعطاها ويفارقها ، وإن رأى أنها تابت فستر الله عليها وأبقاها فله الأجر والمثوبة من الله .
س21 : ماذا يجب على التائب من فاحشة اللواط ؟
جـ21 : الواجب على الفاعل والمفعول به التوبة إلى الله توبة عظيمة ، فإنه لا يُعلم أن الله أنزل أنواعاً من العذاب بأمة كما أنزله بقوم لوط لشناعة جريمتهم فإنه :
1- أخذ أبصارهم فصاروا عمياناً ، يتخبطون كما قال تعالى : ( فطمسنا أعينهم )
2- أرسل عليهم الصيحة .
3- قلب ديارهم ، فجعل عاليها سافلها .(171/28)
4- أمطرهم بحجارة من سجيل منضود ، فأهلكهم عن بكرة أبيهم .
ولذلك كان الحد الذي يقام على مرتكب هذه الفاحشة القتل محصناً أو غير محصن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في إرواء الغليل .
س22 : تبت إلى الله ولديّ أشياء محرمة كأدوات موسيقية وأشرطة وأفلام ، فهل يجوز لي بيعها خصوصاً وأنها تساوي مبلغاً كبيراً ؟
جـ22 : لا يجوز بيع المحرمات وثمن بيعها حرام ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئاً حرك ثمنه ) رواه أبو داود وهو حديث صحيح . وكل ما تعلم أن غيرك سيستخدمه في الحرام فلا يجوز لك بيعه إياه، لأن الله نهى عن ذلك فقال : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومهما خسرت من مال الدنيا فما عند الله خير وأبقى ، وهو يعوضك بمنه وفضله وكرمه .
س23 : كنت إنساناً ضالاً أنشر الأفكار العلمانية ، وأكتب القصص والمقالات الإلحادية ، وأستخدم شعري في نشر الإباحية والفسوق ، وقد تداركني الله برحمته ، فأخرجني من الظلمات إلى النور وهداني فكيف أتوب ؟
جـ23 : هذه والله النعمة الكبرى والمنة العظمى ، وهي الهداية فاحمد الله عليها ، واسأل الله الثبات والمزيد من فضله .
أما من كان يستخدم لسانه وقلمه في حرب الإسلام ونشر العقائد المنحرفة أو البدع المضلة والفجور والفسق فإنه يجب عليه الآتي :
أولاً : أن يعلن توبته منها جميعاً ، ويُظهر تراجعه على الملأ بكل وسيلة وسبيل يستطيعه حتى يُعذر فيمن أضلهم ، ويبين الباطل الذي كان لئلا يغتر من تأثر به من قبل ، ويتتبع الشبهات التي أثارها والأخطاء التي وقع فيها فيرد عليها ، ويتبرأ مما قال وهذا التبيين واجب من واجبات التوبة ، قال تعالى : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم ) البقرة /160 .(171/29)
ثانياً : أن يسخر قلمه ولسانه في نشر الإسلام ، ويوظف طاقته وقدراته في نصر دين الله ، وتعليم الناس الحق والدعوة إليه .
ثالثاً : أن يستخدم هذه الطاقات في الرد على أعداء وفضحهم وفضح مخططاتهم ، كما كان يناصرهم من قبل ويفند مزاعم أعداء الإسلام، ويكون سيفاً لأهل الحق على أهل الباطل ، وكذلك كل من اقنع شخصاً ولو في مجلس خاص بأمر محرم كجواز الربا ، وأنه فوائد مباحة ، فإنه ينبغي عليه أن يعود ويبين له كما أضله حتى يكفّر عن خطيئته والله الهادي .
وختاماً :
يا عبد الله فتح الله باب التوبة فهلا ولجت ( إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عرضه مسيرة سبعين عاماً ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ) . رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2177 .
ونادى الله ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم . فهلا استغفرت .
والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، والله يحب الإعتذار فهلا أقبلت .
فلله ما أحلى قول التائب ، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني .
أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه .
وتأمل هذه القصة ودلالتها في موضع التوبة :(171/30)
روي أن أحد الصالحين كان يسير في بعض الطرقات فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ودموعه على خديه ، فخرجت أمه بعد حين ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي أين ذهبت عني ومن يؤويك سواي ، ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت !!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) رواه مسلم.
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟
والله يفرح إذا تاب العبد إليه ، ولن نعدم خيراً من رب يفرح ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض ، نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فأوى إلى ظل شجرة ، فوضع رأسه فنام نومة تحتها ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها ، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً ، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً ، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فينما هو كذلك ، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده ، تجر خطامها ، عليها زاده طعامه وشرابه ، فأخذ بخطامها ، فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته وزاده ) السياق مجموع من روايات صحيحة ، انظر ترتيب صحيح الجامع 4/368 .
واعلم يا أخي ، أن الذنب يُحدث للتائب الصادق انكساراً وذلة بين يدي الله ، وأنين التائبين محبوب عند رب العالمين .(171/31)
ولا يزال العبد المؤمن واضعاً ذنوبه نُصب عينيه فتُحدث له انكساراً وندماً ، فيعقب الذنب طاعات وحسنات كثيرة حتى أن الشيطان ربما يقول : يا ليتني لم أوقعه في هذا الذنب ، ولذلك فإن بعض التائبين قد يرجع بعد الذنب أحس مما كان قبله بحسب توبته .
والله لا يتخلى عن عبده أبداً إذا جاء مقبلاً عليه تائباً إليه .
أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب ، ويلبسه أحسن الثياب ، ويربيه أحسن التربية ، ويعطيه النفقة ، وهو القائم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه يوماً في حاجة ، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وكتفه وشد وثاقه ، ثم ذهب إلى بلاد الأعداء ، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه ، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لواعج الحسرات ، وتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه من النعيم .
فينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد ذبحه في نهاية المطاف ، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريباً ، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ، أنظر إلى ولدك وما هو فيه والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه وعدوه يشتد في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به .
فهل تقول إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها . إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه ، يقول : يا رب ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا معين له سواك ، مسكينك وفقيرك وسائلك ، أنت معاذه، وبك ملاذه ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، فهيا إلى فعل الخيرات ، وكسب الحسنات ، ورفقة الصالحين ، وحذار من الزيغ بعد الرشاد ، والضلالة بعد الهداية والله معك .(171/32)
يا سامعا لكل شكوى
كتبه : الشيخ إبراهيم الدويش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمني وتعلم حاجتي وشكاتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).(172/1)
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.(172/2)
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.(172/3)
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.(172/4)
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالى:(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:(172/5)
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).(172/6)
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة: ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.(172/7)
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.(172/8)
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
أيها المريض، أعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية، ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله.
رددها أنت بلسانك، فرقيتك لنفسك أفضل وأنجح، فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك، فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك، وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله.
فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول:
شفاك الله وعافاك، اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك، أو خفيت على عقلك البشري الضعيف، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
أيها الحبيب شفاك الله، هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار أبن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة (انظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة 525).
أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، هل سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وهل سمعت أنها (صلى الله عليه وآله وسلم): زار أم العلاء وهي مريضة فقال الله ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة.
قال أبن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه.(172/9)
والأحاديث والآثار في هذا مشهورة ليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين، نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين.
ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن:( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
أيها المريض أعلم أن الشافي هو الله، ولا شفاء إلا شفائه.
أيها المريض، بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته، هل سألت نفسك لماذا ابتلاك الله بهذا المرض، أو بهذه المصيبة ؟ ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها،ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه، فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء.
قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء.
وفي الأثر أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته.
يعني بالدعاء والإلحاح.
أيها المريض، المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله، وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه، وصدق من قال:
فربما صحت الأجسام بالعلل.
فأرفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك.
في رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
لا تعجب، إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.(172/10)
أيها المريض، إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوء، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تعالى يقول أنا عند ظني عبد بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.
يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله.
لا تجزعن إذا نالتك موجعة.............. واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا............ فصبح يسرك بعد العسر ينسلج
فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا........... وإن أقام قليلا سوف يدّلج
هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى، وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات، ولكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.
ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين.
كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، هم في الليل وذل في النهار، أحزان وآلام لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء، أو مع السجناء، صبية صغار، وبيت للأجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طرق الفاسقين.
هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها:
لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك، ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك.. إلى أخر الرسالة من كتاب إلى الدائنين والمدينين.(172/11)
وأقول أيها الأحبة، تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.
وأسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله ويقول: أنا رجل سجين علي مبلغ من المال، وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني؟
إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين. وسنده جيد.
قال السري السبطي: كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك، فأقعد وأبكي عليه.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى............... ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها.......... فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة، قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أفلا أعلمك كلاما إذ قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قلت بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه.(172/12)
وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا نعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك نصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزن وأبدله مكانه فرجا، وفي رواية فرحا، قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها، قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
أيها الأخوة، إن الإنسان منا ضعيف، ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.
انظروا للعيادات النفسية، وكثرت المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله، والاتصال والشكوى للذي قدّر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان.(172/13)
يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدرها ويهيئها للعبد.
إن الله تعالى يقول: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
قال أبن القيم في طريق الهجرتين: فإن الإنسان ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لابد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.
إذا فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه خضوعا وخشوعا لله، فيه اعترافا بالعبودية والذل لله، فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُغرف منها وما لا يعرف، ما كتب وما أخفى.
وأبشر أخي الحبيب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج......... أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وأرضى به......... إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه أبو داوود والنسائي عن أبي موسى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند لقاء العدو: اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟(172/14)
لماذا الخوف من الناس و(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.
أيها المسلم، لا يمكن للقلب أبدا أن يسكن أو يرتاح أو يطمأن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك وردد : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
رأى موسى عليه السلام البحر أمامه والعدو خلفه فقال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، إنها العناية الربانية إذا ركن إليها العبد صادقا مخلصا.
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ويرى أقدام أعدائه على باب الغار، ويلتفت إلى صاحبه يقول: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والأعجب من ذلك أنه مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله.
كان (صلى) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا نزل به أم أو أصابه غم لجأ إلى الله، فزع إلى الصلاة ليلجأ إلى الله، ويشكو إلى الله، ويناجي مولاه.
إنها الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.
فيا من وقعت بشدة أرفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.
وإن كنتَ مظلوماً فأبشر فإن النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: وأتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
ألا قولوا لشخص قد تقوى............على ضعفي ولم يخشى رقيبه
خبأت له سهاما في الليالي............. وأرجو أن تكون له مصيبة
أيها الأخوة والأخوات، إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل.(172/15)
لماذا أيها الأخوة ؟ أليس الأمر لله من قبل ومن بعد، أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا، أليس الله بقادر، أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا، ألا يعلم الله مكرهم، ألم يقل:
( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أليس الله بكافي عبده: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ألم يقل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ألم يقل: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
معاشر الأخوة اسمعوا وعوا، وأعلموا وأعلنوا، إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى لله، أين اللجاءة والمنجاة لله؟ ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز، والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.
أيها المسلمون، نريد أن تعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه، ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة، أليس لنا فيه أسوة، أوذي أشد الأذى، وكذّب أشد التكذيب، أتهم بعرضه وخدشت كرامته، وطرد من بلده، عاشا يتيما وافتقر، ومن شدةِ الجوع ربط على بطنه الحجر، قيل عنه كذابُ وساحر، ومجنونُ وشاعر، توضعُ العراقيلُ في طريقه، وسلى الجزورِ على ظهره، يشجُ رأسُه، وتكسرُ رباعيتُه، يقتلُ عمه، جمعوا عليه الأحزابَ وحاصروه، المشركون والمنافقون واليهود.
يذهبُ إلى الطائفِ يبلغُ دعوتَه فيقابلَ بالتكذيبِ والسبِ والشتمِ، ويطُردَ ويلاحقَ ويرمى بالحجارةِ فماذا فعل -بأبي هوَ وأمي- (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟(172/16)
أين ذهب، من يسأل، على من يشكو، إلى ذي الجبروتِ والملكوتِ، إلى القوي العزيز، فأعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) الشكوى، ورفعَ يديه بالنجوى، دعاء وألحَ وبكاء، وتظلمَ وتألمَ وشكا، لكن اسمع لفنِ الشكوى وإظهار العجزِ والضعفِ والافتقار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلتَ حيلتي وهوانِ على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلني إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطاً عليَ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذ بنورِ وجهَك الكريم، الذي أضاءت له السماوات، وأشرقت له الظلمات، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن تُحلَ عليَ غضبَك أو تُنزلَ علي سخَطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ضراعة ونجوى لربه.
أيها الأخوة، لماذا نشكو إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد:( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟ أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع، ينتحب ويرفع الشكوى إلى الله.
فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).(172/17)
ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وفي رواية كان إذا حزبه أمر قال ذلك، قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، وقال الطبراني كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.
وأخرج أبو داوود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفت عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
وأخرج الترمذي عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوت ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا في هذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب بها عن سيد الأنبياء.
وأخرج مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت فلما مات أبو سلمة قلت في نفسي أي المسلمين خير من أبي سلمة؟(172/18)
أو بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها –أي الدعاء- فأخلف الله لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذا فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إليكم أيها الأحبة أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء.
عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا.......وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر........لا تعترضها بأمر منك تنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد(172/19)
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
إن ربي لسميع الدعاء، فلا نعجب أيها الأحبة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وأسمع لدعا أبن القيم في الفاتحة يقول: ومكثت بمكة مدة يعتريني أدوار لا أجد لها طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثير منهم يبرأ سريعا.
وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال: فكأنما نشط من عقال، وهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة.
ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد أبن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد:
يا بني لا تدعو على شيء بعدها.(172/20)
وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.(172/21)
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وأذكر أن طالبا متميز في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فأهتم لذلك واغتم وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج.
فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة، وقبل أن انظر فيها دعوت الله ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم ك أتصوره، ولكن ربي سميع مجيب.
فإلى كل الطلاب والطالبات أقول:
لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتزفرون وتتوجعون ؟
لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال.
إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ولنجتهد ولكن كلها لا شيء إن لم يعينك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله، توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:
يا سامعا لكل شكوى، وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بأذن الله.
وأنت أيها المدرس والمدرسة، بل ويا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم، هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟
لعلك تسأل ما بقي؟
أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟
هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟
هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟(172/22)
هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم.
هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.
تنبيه مهم:
كثير من الناس إذا وقع بشدة عمد إلى الحرام، كمن يذهب للسحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نصح أو ذكّر قال: أنه مضطر، أو كما يقول البعض ليس كمن رجله في النار كمن رجله في الماء.
ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسّيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)،والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدنيا إلى اللجأ والتضرع إلى الله كما يقول الزمخشري.
وأنت أيها الأخ، أو أيتها الأخت، تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا، فإذا كان الله قد أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.
جاء رجل إلى مالك ابن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
إن الله قد عز وجل قد ذم من لا يستكين له، ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبهوا أيها الأحبة أنه لابد للضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
أي لو استكانوا لربهم لكان أمرا أخر، فكيف بحال من يقع بالشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة، كيف يريد الشفاء أو انكشاف البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعن به؟(172/23)
أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ؟
ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ؟
أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني.
أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ؟
فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بأسا للقانطين من رحمتي، ويا بأسا لمن عصاني ووثب على محارمي. ذكر ذل ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله.
أيها الأخوة إن اللهَ يحبُ أن يُسأل، ويغضبُ على من لا يسألُه، فإنه يريدُ من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحبُ الملحين في الدعاء، بل وينادي في كلِ ليلةٍ : هل من سأل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له.
فأين المضطرون، أين أصحابُ الحاجات، أين من وقع في الشدائدِ والكُربات.
معاشر الأخوة والأخوات، اقرءوا وانظروا في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المغترب الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذين خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، فرج عنهم بسؤالهم لله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله، وأعلنوا الخضوع والذل لله، وهذا الذل لا يصلح إلى لله، لحبيبه ومولاه.
ذل الفتى في الحب مكرمة....... وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبوديةُ لله عزٌ ورفعةٌ، ولغيره ذلٌ ومهانة، وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا......فأبذله للمتكرم المفضال
كان يحي ابن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
وكان بكر المزني يقول: من مثل يا ابن آدم؟ متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.(172/24)
وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له أنا لا أترع بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق.
هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.
وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه إلى هذه التوجيهات:
أولا: الدعاء له آداب وشروط:
لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس من ابن القيم رحمه الله قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للإسم الأعظم. انتهى كلامه بتصرف.
ثانيا: الصدقة:
وقد أكد عليها أبن القيم في كلامه السابق، ولها أثر عجيب في قبول الدعاء، بل وفعل المعروف أيا كان وصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ثالثا: عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط:(172/25)
وفي هذا توجيهات منها أن تعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يتوفر لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى، ومنها أن تعلم أن أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها، ومنها لا تجزع من عدم الإجابة فربما دُفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك، فعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال الله أكثر. وزاد فيه الحاكم: أو يدخر له من الأجر مثلها.
رابعا:ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك:
وهل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة، أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يستجاب لأحكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
وفي رواية لمسلم قيل: يا رسول الله ماالاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.
خامسا: أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يمون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.(172/26)
وأسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس لأبن رجب رحمه الله يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
سادسا: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف.
أيها الأخوة، وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس، الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة.
فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال، لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد......ذخرا يكون كصالح الأعمال
سابعا: إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى:
وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.
ثامنا: أحرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء:
وفي الحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب له.(172/27)
فالله الله بالحلال فإن له أثر عجيب في إجابة الدعاء، ربما قصرنا بوظائفنا، أي نوع من التقصير، وكان ذلك التقصير سبب في رد الدعاء أو إجابته، فلنتنبه لهذا أيها الأحبة.
تاسعا: حتى تكون مجاب للدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار:
فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية.
هذه توجيهات أنتبه إليها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن مجاب الدعاء إن شاء الله.
إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق أقول:
اطمأنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي، وفي بطون الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة للتنوخي وأبن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عزلوا، ثم جاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب.
فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلام جميل أيضا فأسمعه:
قال ومن علاجه – أي علاج المصيبة- أن يطفأ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العلم لم يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملئت دارا حبرة –أي سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.(172/28)
أيها الأخوة والأخوات، قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها.
إذا اشتملت على اليأس القلوب......وضاقت لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره واطمأنت..........وأرست غي أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها.....ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث........ يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت......... فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالعمة التي غفل عن شكرها.
وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها.
وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب، بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله، ويقف بابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء.
فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات للمخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص والتوحيد.
فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج، ولم يقنط، فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
بل اسمعوا إلى هذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى:
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل في ما حصل خيرا لك فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى.
واحسن الظن بالله وقل:
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجى(172/29)
من خشي الله لم ينله أذى
من رجا الله كان حيث رجا
هذه كلمات لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين.
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولك أجمعين.
فيا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كشف الظلل، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.(172/30)
يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا للمستضعفين، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آلي محمد أبدا.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(172/31)
ظاهرة ضعف الإيمان
كتبه : موقع الشيخ المنجد
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران /102 .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء /1 .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) الأحزاب /70 ، 71 .
أما بعد :
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين ، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم : " أحس بقسوة في قلبي " " لا أجد لذة للعبادات " " أشعر أن إيماني في الحضيض " ، " لا أتأثر بقراءة القرآن " ، " أقع في المعصية بسهولة " ، وكثيرون آثار المرض عليهم بادية ، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية .
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم ، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام : ( إنما القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية ( مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة الريح ظهراً لبطن ) . أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح : ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102 .(173/1)
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً ) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح : ظلال الجنة 1/102 . وفي رواية ( أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً ) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147 . والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) رواه مسلم رقم 2654 .
وحيث ( أن الله يحول بين المرء وقلبه ) وأنه لن ينجو يوم القيامة ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) وأن الويل ( للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) وأن الوعد بالجنة لـ ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ) كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك والأمر عظيم والشأن خطير فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع المختوم عليه .
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه ، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أولاً : مظاهر ضعف الإيمان
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر متعددة فمنها :(173/2)
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات : ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي ، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا ، وكذا ، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) رواه البخاري : فتح 10/486 .
2- ومنها : الشعور بقسوة القلب وخشونته : حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء ، والله جل وعلا يقول : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) البقرة /74 ، وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز ، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب ، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار .
3-ومنها : عدم إتقان العبادات : ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها ، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار ، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها ، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى : ( … لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي رقم 3479 وهو في السلسة الصحيحة 594 .(173/3)
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان : التكاسل عن الطاعات والعبادات ، وإضاعتها ، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها ، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) النساء /142 . ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد ، ويتأخر عن صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يخلفهم الله في النار ) رواه أبو داود رقم : 679 وهو في صحيح الترغيب رقم 510 . ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة ، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته ، وكذا يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية ، فربما لا يشهد صلاة العيد ( مع قول بعض أهل العم بوجوب شهودها ) ولا يصلي الكسوف والخسوف ، ولا يهتم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها ، فهو راغب عن الأجر ، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء /90 .
ومن مظاهر التكاسل في الطاعات ، التكاسل عن فعل السنن الرواتب ، وقيام الليل ، والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة .(173/4)
5- ومن المظاهر : ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء ، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، الإيمان بقوله : ( الإيمان : الصبر والسماحة ) السلسلة الصحيحة رقم 554 ، 2/86 . ووصف المؤمن بأنه : ( يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) السلسلة الصحيحة رقم 427 .
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم التأثر بآيات القرآن ، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة ، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن ، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه .
7- ومنها : الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى : فيثقل الذكر على الذاكر ، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله : ( ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) النساء /142 .(173/5)
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها } أي : دخلت فيه دخولاً تاماً { نكت فيه نكتة سوداء } أي : نقط فيه نقطة { حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ( أسود مربادا { بياض يسير يخالطه السواد } كالكوز مجخياً { مائلاً منكوساً } لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ) رواه مسلم رقم 144 . فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي . بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة أنكرها - كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) رواه أبو داود رقم 4345 ، وهو في صحيح الجامع 689 . فهذا الرضا منه وهو - عمل قلبي - أورثه منزلة الشاهد في الإثم .
9- ومنها حب الظهور وهذا له صور منها :(173/6)
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر ، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) ( قوله : نعم المرضعة أي أولها لأن معها المال والجاه واللذات ، وقوله : بئس الفاطمة أي : آخرها لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة ) رواه البخاري رقم 6729 . وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي ، أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل ) رواه الطبراني في الكبير 18/72 وهو في صحيح الجامع 1420 . ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسؤولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم ، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة وتقدم على الأفضل وغمط أهل الحقوق حقوقهم واستئثار بمركز الأمر والنهي .
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له ، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب - ) رواه البيهقي 2/439 وهو في صحيح الجامع 120 .(173/7)
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يمثل } أي ينتصف ويقوم { له عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار ) رواه البخاري في الأدب المفرد 977 انظر السلة الصحيحة 357 . ولذلك لما خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير { وفي رواية : وكان أرزنهما } فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) رواه أبو داود رقم 5229 والبخاري في الأدب المفرد 977 وهو في السلسلة الصحيحة 357 . ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة فبدئ باليمين ، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) رواه البخاري فتح 11/62 .(173/8)
10- ومنها : الشح والبخل ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ) رواه النسائي : المجتبي 6/13 وهو في صحيح الجامع 2678 . أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ) رواه أبو داود 2/324 وهو في صحيح الجامع رقم 2678 . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب ، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) سورة محمد /38 .
11- ومنها : أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف /2،3 . ولا شك أن هذا نوع النفاق ، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق ، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه ، وينهاهم عن المنكر ويأتيه .
12- ومنها : السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة ، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت ، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه .(173/9)
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان : النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه ، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل : هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط ؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في شرك الشبهات والمكروهات ، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما ، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً ، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .. ) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم رقم 1599 بل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم ، يسأل هل حرمته شديدة أو لا ؟! وكم الإثم المترتب عليه ؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام ، واستهانة بمحقرات الذنوب مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله ، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً ) قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا ، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : ( أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) رواه ابن ماجة رقم 4245 قال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وهو في صحيح الجامع 5028 .(173/10)
فتجده يقع في المحرم دون تحفظ ولا تردد ، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج وكلا الشخصين على خطر ، ولكن الأول أسوأ من الثاني ، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله : ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا ) أي دفعه بيده . رواه البخاري فتح 11/102 ، وانظر تغليق التعليق 5/136 المكتب الإسلامي .
14- ومنها : احتقار المعروف ، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً ) مسند أحمد 5/63 وهو في السلسلة الصحيحة 1352 . فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له ، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيراً لا ينبغي احتقاره ، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق ، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد ، وحتى ولو كان قشة فلعل هذا العمل يكون سبباً في مغفرة الذنوب ، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأًدخل الجنة ) رواه مسلم رقم 1914 .(173/11)
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه سوء وخلل ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة ) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 593 وهو في السلسلة الصحيحة 5/387 . وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجراً من الطريق فقال { أي الرجل } ما هذا ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رفع حجراً من الطريق كتب له حسنة ومن كانت له حسنة دخل الجنة ) المعجم الكبير للطبراني 20/101 ، السلسلة الصحيحة 5/387 .
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة ، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث ، فيكتفي بسلامة نفسه ، وهذا نتيجة ضعف الإيمان ، فإن المؤمن بخلاف ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس ) مسند أحمد 5/340 وهو في السلسلة الصحيحة 1137 .
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان : انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب { وفي رواية : ففرق بينهما إلا بذنب } يحدثه أحدهما ) البخاري في الأدب المفرد رقم 401 وأحمد في المسند 2/68 وهو في السلسلة الصحيحة 637 . فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها ، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحياناً هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده ، فيعيش بينهم أسوأ عيش ساقط القدر زري الحال لا حرمة له ، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا .(173/12)
17- ومنها : عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين ، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور ، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل ؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه ، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل .
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم ، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش : " لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري فتح 8/87 . فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور ، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل .
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة فتراه مرتعد الفرائص ، مختل التوازن ، شارد الذهن ، شاخص البصر ، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت ، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه ، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً ، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .(173/13)
19- ومنها : كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب ، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل ) رواه أحمد في المسند 5/252 وهو في صحيح الجامع 5633 . فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم ، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويكفي دافعاً لترك الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
20- ومنه : التعلق بالدنيا ، والشغف بها ، والاسترواح إليها ، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن ، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره ، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا ، وقد يحسده ، ويتمنى زوال النعمة عنه ، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد ) . رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
21- ومنها : أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله .(173/14)
22- ومنها : المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ، فتجده يهتم بالكماليات اهتماماً بالغاً ، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات ، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال : ( إياك والتنعيم ، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) رواه أبو نعيم في الحلية 5/155 وهو في السلسلة الصحيحة 353 وعند أحمد بلفظ إياي : المسند 5/243 .
ثانياً : أسباب ضعف الإيمان
إن لضعف الإيمان أسباباً كثيرة ومنها ما هو مشترك مع الأعراض مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا وهذا ذكر لبعض الأسباب مضافاً إلى ما سبق : -(173/15)
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس ، يقول الله عز وجل : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) الحديد /16 . فدلت الآية الكريمة على أن : طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب ، فمثلاً : الشخص الذي يبتعد عن إخوانه في الله لفترة طويلة لسفر أو وظيفة ونحو ذلك فإنه يفتقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله ، ويستمد منه قوة قلبه والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه ، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( إخواننا أغلى عندنا من أهلينا فأهلونا يذكروننا الدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة ) وهذا الابتعاد إذا استمر يخلف وحشة تقلب بعد حين إلى نفرة من تلك الأجواء الإيمانية ، يقسو على أثرها القلب ويظلم ، ويخبو فيه نور الإيمان . وهذا مما يفسر حدوث الانتكاسة لدى البعض في الإجازات التي يسافرون فيها أو عقب انتقالهم إلى أماكن أخرى للعمل أو الدراسة .
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة ، فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان ، يتعاهده ويحذيه مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل ، لو ابتعد عنه فترة من الزمن فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه ، ولذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووري التراب قال الصحابة : ( فأنكرنا قلوبنا ) ، وأصابتهم وحشة لأن المربي والمعلم والقدوة عليه الصلاة والسلام قد مات ، وجاء وصفهم أيضاً في بعض الآثار ( كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة ) ولكنه عليه الصلاة والسلام ترك فيمن ترك وراءه جبالاً كل منهم يصلح للخلافة وصار بعضهم لبعض قدوة ، أما اليوم فالمسلم في أشد الحاجة إلى قدوة يكون قريباً منه .(173/16)
3- ومن الأسباب : الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية التي تحيي القلب ، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان ، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه وعلى رأسها كتاب الله تعالى وكتب الحديث ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ والذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب ، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهم ، والانقطاع عن مثل هذه الكتب مع الإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط أو كتب الأحكام المجردة عن الأدلة أو كتب اللغة والأصول مثلاً من الأشياء التي تورث أحياناً قسوة القلب ، وهذا ليس ذماً في كتب اللغة أو الأصول ونحوها بل هو تنبيه لمن أعرض عن كتب التفسير والحديث ، فلا تكاد تجده يقرأ فيها مع أنها هي الكتب التي تصل القلب بالله عز وجل فعندما تقرأ في الصحيحين ( مثلاً ) تشعر أنك تعيش في أجواء العصر الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة ، وتتعرض لنفحات إيمانية ، من سيرتهم ، وحياتهم ، وتلك الأحداث التي جرت في عصرهم :
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه ، أنفاسه صحبوا
وهذا السبب - وهو الابتعاد عن الكتب الإيمانية - آثاره بادية على أولئك الذين يدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع وغيرها من الموضوعات التي صيغت بمعزل عن الإسلام ، وكذا من يعشق قراءة القصص الخيالية وقصص الحب والغرام وهواة تتبع الأخبار غير النافعة من الصحف والمجلات والمذكرات وغيرها من الاهتمام بها والمداومة على متابعتها .
4- ومنها : وجود الإنسان المسلم في وسط يعج بالمعاصي فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها وثالث يدخن ورابع يبسط مجلة ماجنة وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا ، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة .(173/17)
وبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم ، فأحاديث التجارة والوظيفة والأموال والاستثمارات ومشكلات العمل والعلاوات والترقيات والانتدابات وغيرها تحتل الصدارة في اهتمامات كثير من الناس وأحاديثهم .
وأما البيوت - فحدث ولا حرج - حيث الطامات والأمور المنكرات مما يندى له جبين المسلم وينصدع قلبه ، فالأغاني الماجنة ، والأفلام الساقطة ، والاختلاط المحرم وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين ، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض وتصبح قاسية ولا شك .
5- ومنها : الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ) رواه البخاري رقم 2730 . ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب ) رواه الطبراني في الكبير 4/78 وهو في صحيح الجامع 2384 . يعني الشيء اليسير الذي يبلغه المقصود . وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عم فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قال : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب ) رواه أحمد 5/219 وهو ففي صحيح الجامع 1781 .(173/18)
6- ومن الأسباب أيضاً : الانشغال بالمال والزوجة والأولاد ، يقول الله عز وجل : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) الأنفال /28 . ويقول عز وجل : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) آل عمران /14 ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله فإنه مستقبح مذموم صاحبه ، أما إن كان حب ذلك على وجهه الشرعي المعين على طاعة الله فهو محمود صاحبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد 3/128 وهو في صحيح الجامع 3124 . وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة ) رواه الطبراني في الكبير 24/241 وهو في صحيح الجامع 1990 . قوله مبخلة : إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكره الشيطان بأولاده فيقول : أولادي أحق بالمال أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله ، وقوله : مجبنة أي إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول تقتل وتموت فيصبح الأولاد ضياعاً يتامى ، فيقعد عن الخروج للجهاد ، وقوله : مجهلة أي يشغل الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه وقراءة كتبه . وقوله : محزنة أي إذا مرض حزن عليه وإذا طلب الولد شيئاً لا يقدر عليه الأب حزن الأب ، وإذا كبر وعق أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم .
وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب ولا ترك تربية الأولاد ، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات .(173/19)
وأما فتنة المال فيقول عليه الصلاة والسلام : ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) رواه الترمذي 2336 وهو في صحيح الجامع 2148 . والحرص على المال أشد إفساداً للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الترمذي رقم 2376 وهو في صحيح الجامع 5620 . ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية دون توسع يشغل عن ذكر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله ) رواه أحمد 5/290 وهو في صحيح الجامع 2386 . وقد تهدد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من جمع الأموال إلا أهل الصدقات فقال : ( ويل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أربع عن يمينه وعن شماله ومن قدامه ومن ورائه ) رواه ابن ماجه رقم 4129 وهو في صحيح الجامع 7137 . يعني في أبواب الصدقة ووجوه البر .
7- طول الأمل : قال الله تعالى : ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) وقال علي رضي الله عنه : ( إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ) فتح الباري 11/236 . وجاء في الأثر : ( أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) " ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى : ( فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) وقيل : من قصر أمله قل همه وتنور قلبه لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة … " فتح الباري 11/237 .(173/20)
8- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب : ( الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة ، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل : " من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً " فالإفراط في الكلام يقسي القلب ، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها ، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه 4193 وهو في صحيح الجامع . وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان .
وأسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرها ، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها ، والعاقل يدرك ذلك من نفسه ، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويقينا شر أنفسنا .
ثالثاً : علاج ضعف الإيمان(173/21)
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) رواه الحاكم في المستدرك 1/4 وهو في السلسلة الصحيحة 1585 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/52 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن . يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديماً ، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم ، إذ تجلت عنه فأضاء ) رواه أبو نعيم في الحلية 2/196 وهو في السلسلة الصحيحة 2268 . فالقمر تأتي عليه أحياناً سحابة تغطي ضوءه ، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء ، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية ، فتحجب نوره ، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة ، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب ، وعاد نور قلبه يضيء كما كان .(173/22)
ومن المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها هو معرفة أن الإيمان يزيد وينقص وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة ، فإنهم يقولون أن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان ( أي القلب ) وعمل بالأركان ( أي الجوارح ) يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان ، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة فمنها قوله تعالى : ( ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ) وقوله : ( أيكم زادته هذه إيماناً ) وقوله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) البخاري فتح 1/51 . وأثر الطاعة والمعصية في الإيمان زيادة ونقصاناً أمر معلوم مشاهد ومجرب فلو أن شخصاً خرج يمشي في السوق ينظر إلى المتبرجات ويسمع صخب أهل السوق ولغوهم ثم خرج فذهب إلى المقبرة فدخلها فتفكر ورق قلبه فإنه يجد فرقاً بيناً بين الحالتين فإذا القلب يتغير بسرعة.
وعن علاقة المفهوم بموضوعنا يقول بعض السلف : " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ، وما ينقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه ؟ أو ينقص ؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه ؟ " شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/140 .
ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه أما إذا لم يؤد الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعاً في عمل مستحبات مثلاً فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة وهذا مما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل عمل شرة - يعني نشاط وقوة - ولكل شرة فترة - يعني ضعف وفتور - فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك ) رواه أحمد 2/210 وهو في صحيح الترغيب رقم 55 .(173/23)
وقبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن ذكر ملاحظة وهي : أن كثيراً من الذين يحسون بقسوة قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد فيها على الآخرين مع أن بمقدورهم - لو أرادوا - علاج أنفسهم بأنفسهم وهذا هو الأصل لأن الإيمان علاقة بين العبد وربه وفيما يلي ذكر عدد من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على المجاهدة : -
1- تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء ونوراً يهدي به سبحانه من شاء من عباده ، ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواء فعالاً قال الله عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر .
( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائم بالليل ، حتى إنه في إحدى الليالي قام يردد آية واحدة من كتاب الله ، وهو يصلي لم يجاوزها حتى أصبح وهي قوله تعالى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } سورة المائدة /118 ) رواه أحمد 4/149 وفي صفة الصلاة للألباني ص : 102 .(173/24)
وكان عليه الصلاة والسلام يتدبر القرآن وقد بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً ، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطارة قال : دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة رضي الله عنها ، فقال عبيد الله بن عمير : ( حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي - تعني يصلي - فقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض … } آل عمران /190 ) السلسلة الصحيحة 1/106 . وهذا يدل على وجوب تدبر هذه الآيات .
والقرآن فيه توحيد ووعد ووعيد وأحكام وأخبار وقصص وآداب وأخلاق وآثارها في النفس متنوعة وكذلك من السور ما يرهب النفس أكثر من سور أخرى ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب ) السلسلة الصحيحة 2/679 . وفي رواية (هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي 3297 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 955 . لقد شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة التي ملأت بثقلها قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فظهرت آثارها على شعره وجسده ، ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) .(173/25)
وقد كان صحابته صلى الله عليه وسلم يقرأون ويتدبرون ويتأثرون وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً أسيفا رقيق القلب إذا صلّى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء ومرض عمر من أثر تلاوة قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) الأثر بأسانيده في تفسير ابن كثير 7/406 . وسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ قول الله عن يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) مناقب عمر لابن الجوزي 167 . وقال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله ، وقتل شهيداً مظلوماً ودمه على مصحفه وأخبار الصحابة في هذا كثيرة ، وعن أيوب قال سمعت سعيداً - ابن جبير - يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً عشرين مرة ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) سير أعلام النبلاء 4/324 . وهي أخر آية نزلت من القرآن وتمامها ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) . وقال إبراهيم بن بشار : الآية التي مات فيها علي بن الفضيل : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ) في هذا الموضع مات وكنت فيمن صلّى عليه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 4/446 . وحتى عند سجدات التلاوة كانت لهم مواقف فمنها قصة ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) الإسراء /109 . فسجد سجدة التلاوة ثم قال معاتباً نفسه : هذا السجود فأين البكاء ؟ .
ومن أعظم التدبر أمثال القرآن لأن الله سبحانه وتعالى لما ضرب لنا الأمثال في القرآن ندبنا إلى التفكر والتذكر فقال : ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) وقال : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .(173/26)
تفكر أحد السلف مرة في مثل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه فجعل يبكي ، فسئل ما يبكيك ؟ فقال : إن الله عز وجل يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) العنكبوت /43 . وأنا لم أعقل المثل ، فلست بعالم ، فأبكي على ضياع العلم مني .
وقد ضرب الله لنا في القرآن أمثلة كثيرة منها : مثل الذي استوقد ناراً ، ومثل الذي ينعق بما لا يسمع ، ومثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل ، ومثل الكلب الذي يلهث ، والحمار يحمل أسفاراً ، والذباب ، والعنكبوت ، ومثل الأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، ومثل الرماد الذي اشتدت به الريح ، والشجرة الطيبة ، والشجرة الخبيثة ، والماء النازل من السماء ومثل المشكاة التي فيها مصباح ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، وغيرها ، والمقصود الرجوع إلى آيات الأمثال والاعتناء بها عناية خاصة .
ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول : " ملاك ذلك أمران : أحدهما : أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها ، وتدبر وفهم ما يراد منه ، وما نزل لأجله ، وأخذ نصيبك من كل آياته ، وتنزلها على داء قلبك ، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله " .
2- استشعار عظمة الله عز وجل ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، والتدبر فيها ، وعقل معانيها ، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب فهو ملكها وسيدها وهي بمثابة جنوده وأتباعه فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت .(173/27)
والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه وتواضعت نفسه للعلي العظيم وخضعت أركانه للسميع العليم وازداد خشوعاً لرب الأولين والآخرين فمن ذلك ما جاء من أسمائه الكثيرة وصفاته سبحانه فهو العظيم المهيمن الجبار المتكبر القوي القهار الكبير المتعال ، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ، وهو القاهر فوق عباده ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عزيز ذو انتقام ، قيوم لا ينام ، وسع كل شيء علماً ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وقد وصف سعة علمه بقوله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) الأنعام /59 . ومن عظمته ما أخبر عن نفسه بقوله: ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) الزمر/67 . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " رواه البخاري 6947 . ويتضعضع الفؤاد ويرجف القلب عند التأمل في قصة موسى عليه السلام لما قال : ( رب أرني أنظر إليك ) فقال الله : ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ) الأعراف/143 . ولما فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قرأها وقال بيده : ( هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فساخ الجبل ) الحديث رواه الترمذي برقم 3074 وأحمد 3/125 ، 209 وساق ابن كثير طرق الحديث في تفسيره 3/466 ، قال ابن القيم : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وخرجه الألباني وصححه في تخريج السنة لابن أبي عاصم حديث 480 . والله سبحانه وتعالى : ( حجابه النور ، لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) رواه مسلم(173/28)
برقم 197 . ومن عظمة الله ما حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير) رواه البخاري 7043 . والنصوص في هذا كثيرة والمقصود أن استشعار عظمة الرب بالتأمل في هذه النصوص وغيرها من أنفع الأشياء في علاج ضعف الإيمان ويصف ابن القيم رحمه الله عظمة الله بكلام عذب جميل فيقول : ( يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار ، ويداول الأيام بين الناس ، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى ، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو ، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً .. ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه ، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها ، فلا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات ، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية .. ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ) يغفر ذنباً ، ويفرج هماً ، ويكشف كرباً ، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً ، ويهدي ضالاً ، ويرشد حيراناً ، ويغيث لهفاناً ، ويشبع جائعاً ، ويكسو عارياً ، ويشفي مريضاً ، ويعافي مبتلى ، ويقبل تائباً ، ويجزي محسناً ، وينصر مظلوماً ، ويقصم جباراً ، ويستر عورة ، ويؤمن روعة ، ويرفع أقواماً ، ويضع آخرين ... لو أن أهل سماواته وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أتقى قلب رجل منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً ، ولو أن أهل سماواته(173/29)
وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، وحيهم وميتهم ، ورطبهم ويابسهم ، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا منهم ما سأله ، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة .. هو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس دونه شيء ، تبارك وتعالى أحق من ذكر ، وأحق من عبد ، وأولى من شكر ، وارأف من ملك ، وأجود من سئل … هو الملك الذي لا شريك له ، والفرد فلا ند له ، والصمد فلا ولد له ، والعلي فلا شبيه له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، وكل شيء زائل إلا ملكه .. لن يطاع إلا بأذنه ، ولن يعصى إلا بعلمه ، يطاع فيشكر ، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل ، وكل نعمة منه فضل ، أقرب شهيد ، وأدنى حفيظ ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار ، وكتب الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، عطاؤه كلام وعذابه كلام ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) الوابل الصيب ص : 125 بتصرف .
3- طلب العلم الشرعي : وهو العلم الذي يؤدي تحصيله إلى خشية الله وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) فلا يستوي في الإيمان الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فكيف يستوي من يعلم تفاصيل الشريعة ومعنى الشهادتين ومقتضياتهما وما بعد الموت من فتنة القبر وأهوال المحشر ومواقف القيامة ونعيم الجنة وعذاب النار وحكمة الشريعة في أحكام الحلال والحرام وتفصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من أنواع العلم كيف يستوي هذا في الإيمان ومن هو جاهل بالدين وأحكامه وما جاءت به الشريعة من أمور الغيب ، حظه من الدين التقليد وبضاعته من العلم مزجاة ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .(173/30)
4- لزوم حلق الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب منها ما يحصل فيها من ذكر الله ، وغشيان الرحمة ، ونزول السكينة ، وحف الملائكة للذاكرين ، وذكر الله لهم في الملأ الأعلى ، ومباهاته بهم الملائكة ، ومغفرته لذنوبهم ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) صحيح مسلم رقم 2700 . وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم : قوموا مغفوراً لكم ) صحيح الجامع 5507 . قال ابن حجر رحمه الله : ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم . فتح الباري 11/209 . ومما يدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال : لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال : قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول قال : قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات - يعني المعاش من مال أو حرفة أو صنعة - فنسينا كثيراً ، قال أبو بكر فو الله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذاك ) قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كانا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة(173/31)
ساعة وساعة ) ثلاث مرات صحيح مسلم رقم 2750 .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمونه إيماناً ، قال معاذ رضي الله عنه لرجل : ( اجلس بنا نؤمن ساعة ) إسناده صحيح : أربع مسائل في الإيمان ، تحقيق الألباني ص : 72 .
5- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير ، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلاً عظيماً لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصحابه ( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ قال أبو بكر أنا ، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ، قال، فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ، قال أبو بكر أنا ، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب 1 حديث 12 .
فهذه القصة ، تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصاً على اغتنام الفرص ، وتنويع العبادات ولما وقع السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم مفاجئاً دل ذلك على أن أيام أبي بكر رضي الله عنه كانت حافلة بالطاعات ، وقد بلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها مبلغاً عظيماً ، ومثال ذلك عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف منهم حماد بن سلمة قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي : " لو قيل لحماد بن سلمة : أنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً " سير أعلام النبلاء 7/447.
وينبغي أن يراعي المسلم في مسألة الأعمال الصالحة أموراً منها :(173/32)
المسارعة إليها لقوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) وقال تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) ومدلول هذه الآيات كان محركاً للمسارعة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك في قصة غزوة بدر لما دنا المشركون قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ) قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال : نعم قال : بخ بخ - كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ ) قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال : فإنك من أهلها ، فاخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه لحياة طويلة قال : فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل . صحيح مسلم 1901 . ومن قبل أسرع موسى للقاء الله وقال : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) وامتدح الله زكريا وأهله فقال : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التؤدة في كل شيء - وفي رواية خير - إلا في عمل الآخرة ) رواه أبو داود في سننه 5/157 وهو في صحيح الجامع 3009 .(173/33)
الاستمرار عليها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن ربه في الحديث القدسي : ( ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) صحيح البخاري 6137 . وكلمة ( ما يزال ) تفيد الاستمرارية ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تابعوا الحج والعمرة ) رواه الترمذي رقم 810 وهو في السلسلة الصحيحة 1200 . والمتابعة تعني كذلك الاستمرار وهذا المبدأ مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع . والمداومة على الأعمال الصالحة تقوي الإيمان وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( أدومها وإن قل ) رواه البخاري فتح11/194. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا عمل عملاً أثبته . رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب 18 حديث 141 .(173/34)
الاجتهاد فيها : إن علاج قسوة القلب لا يصلح أن يكون علاجاً مؤقتاً يتحسن فيه الإيمان فترة من الوقت ثم يعود إلى الضعف بل ينبغي أن يكون نهوضاً متواصلاً بالإيمان وهذا لن يكون إلا بالاجتهاد في العبادة . وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحولاً عدة فمنها : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ) . وقال الله تعالى عنهم : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . والاطلاع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين شيء يبعث على الإعجاب ويقود إلى الاقتداء فمن ذلك أنه كان لهم سُبُع من القرآن يختمونه كل يوم وكانوا يقومون الليل في الغزو والقتال ويذكرون الله ويتهجدون ، حتى في السجن ، يصفون أقدامهم ، تسيل دموعهم على خدودهم ، يتفكرون في خلق السموات والأرض ، يخادع أحدهم زوجته كما تخادع المرأة صبيها ، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام ، يقسمون الليل على أنفسهم وأهليهم ونهارهم في الصيام والتعلم والتعليم واتباع الجنائز وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس تمر على بعضهم السنون لا تفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام ينتظرون الصلاة بعد الصلاة يتفقد أحدهم عيال أخيه بعد موته سنوات ينفق عليهم ، ومن هذا حاله فإيمانه في ازدياد .(173/35)
عدم إملال النفس : ليس المقصود من المداومة على العبادات أو الاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادات ما يطيق ويسدد ويقارب وينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقصد عند الفتور ، ويدل على هذه التصورات مجموعة من الأحاديث منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا .. ) صحيح البخاري 39 . وفي رواية : ( والقصد القصد تبلغوا ) صحيح البخاري 6099 ، وقال البخاري رحمه الله باب ما يكره من التشديد في العبادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ( ما هذا الحبل ) قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ) صحيح البخاري 1099 . ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً نهاه عن ذلك وبين السبب بقوله : ( فإنك إذا فعلت هجمت عينك - يعني غارت أو ضعفت لكثرة السهر - ونفهت نفسك - يعني كلت ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل ) رواه البخاري ، فتح 3/38 .(173/36)
استدراك ما فات منها : فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن حزبه من الليل ، أو شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه من الليل ) رواه النسائي وغيره ، والمجتبي : 2/68 ، صحيح الجامع 1228 . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها وكان إذا فاته القيام من الليل غلبته عيناه بنوم أو وجع صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار ) رواه أحمد 6/95 . ولما رأته أم سلمة رضي الله عنها يصلي ركعتين بعد العصر وسألته أجابها عليه الصلاة والسلام بقوله : ( يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ) رواه البخاري فتح 3/105 . ( وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده ) رواه الترمذي رقم 427 وصحيح سنن الترمذي رقم 350 . ( وكان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر ) صحيح الجامع 4759 . فهذا الأحاديث تدل على قضاء السنن الرواتب ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان أولها : أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض " أي رمضان " تهذيب سنن أبي داود 3/318 ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً . فتح الباري 4/285 .(173/37)
رجاء القبول مع الخوف من عدم القبول ، وبعد الاجتهاد في الطاعات ، ينبغي الخوف من ردها على صاحبها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) قالت عائشة : هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : ( لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات ) رواه الترمذي 3175 وهو في السلسلة الصحيحة 1/162 . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : " لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) تفسير ابن كثير 3/67 . ومن صفات المؤمنين احتقار النفس أمام الواجب من حق الله تعالى : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة ) رواه الإمام أحمد ، المسند 4/185 وهو في صحيح الجامع 5249 . فمن عرف الله وعرف النفس يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفي ولو جاء بعمل الثقلين ، إنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله .(173/38)
6- تنويع العبادات : من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة ومنها ما يكون بالمال كالزكاة ومنها ما يكون بهما معاً كالحج ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة والفرائض تتنوع وكذلك السنن مثل الصلاة فيها رواتب ثنتي عشرة ركعة في اليوم ومنها ما هو أقل منزلة كالأربع قبل العصر وصلاة الضحى ومنها ما هو أعلى كصلاة الليل وهو كيفيات متعددة منها مثنى مثنى أو أربع ثم أربع ثم يوتر ومنها خمس أو سبع أو تسع بتشهد واحد ، وهكذا من يتتبع العبادات يجد تنويعاً عظيماً في الأعداد والأوقات والهيئات والصفات والأحكام ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها ، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ) رواه البخاري رقم 1798 . والمقصود المكثرون من أصحاب النوافل في كل عبادة أما الفرائض فلا بد من تأديتها للجميع ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الوالد أوسط أبواب الجنة ) رواه الترمذي رقم 1900 وهو في صحيح الجامع 7145 . أي بر الوالدين ، يمكن الاستفادة من هذا التنوع في علاج ضعف الإيمان والاستكثار من العبادات التي تميل إليها النفس مع المحافظة على الفرائض والواجبات التي أمر الله بها ، وهذا ويمكن للمرء المسلم إذا استعرض نصوص العبادات أن يجد أنواعاً فريدة لها آثار ومعان لطيفة في النفس قد لا توجد في غيرها وهذان مثالان :(173/39)
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يشنؤهم الله - أي يبغضهم - أما الثلاثة الذين يحبهم الله الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه ، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ) مسند أحمد 5/151 وهو في صحيح الجامع 3074 .
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ أرحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك ) الحديث رواه الطبراني وله شواهد ، انظر السلسلة الصحيحة 2/533 . وهذا شاهد مباشر لموضوع علاج ضعف الإيمان .(173/40)
7- ومن علاجات ضعف الإيمان : الخوف من سوء الخاتمة ، لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب ، أما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة منها : ضعف الإيمان والانهماك في المعاصي وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك صوراً مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ - أي يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه - أي يشربه في تمهل ويتجرعه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) صحيح مسلم رقم 109 . وقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم وقائع من هذا فمنها قصة الرجل الذي كان مع عسكر المسلمين يقاتل الكفار قتالاً لم يقاتله أحد مثله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه من أهل النار ) فتتبعه رجل من المسلمين فأصاب الرجل جرح شديد فاستعجل الموت فوضع سيفه بين ثديه واتكأ عليه فقتل نفسه . القصة في صحيح البخاري ، فتح 7/471 . وأحوال الناس في سوء الخاتمة كثيرة سطر أهل العلم عدداً منها ، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الداء والدواء " أنه قيل لبعضهم عند موته قل لا إله إلا الله فقال : لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ، وقيل لتاجر - ممن ألهته تجارته عن ذكر الله - لما حضرته الوفاة قل لا إله إلا الله فجعل يقول هذه قطعة جيدة هذه على قدرك هذه مشتراها رخيص حتى مات . طريق الهجرتين ص : 308 ، ويروى أن بعض جنود الملك الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له : قل لا إله إلا الله فقال : الناصر مولاي فأعاد عليه القول وأبوه يكرر الناصر مولاي ، الناصر مولاي ثم مات ، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا ، وقيل لأحد المرابين عند موته قل لا إله إلا(173/41)
الله فجعل يقول عشرة بأحد عشر يكررها حتى مات . الداء والدواء ص : 170 ، 289 . وبعضهم قد يسود لونه أو يتحول عن القبلة وقال ابن الجوزي رحمه الله لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة خير وهو يقول في ليالي موته " ربي هو ذا يظلمني " - تعالى الله عن قوله- فاتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت ثم قال ابن الجوزي رحمه الله : فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها هذا اليوم . صيد الخواطر 137 . وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً ؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم . الداء والدواء 171 .(173/42)
8- الإكثار من ذكر الموت : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هانم اللذات يعني الموت ) رواه الترمذي رقم 2307 وهو في صحيح الجامع 1210 . وتذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ومن أعظم ما يذكر بالموت زيارة القبور ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها فقال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجراً ) رواه الحاكم 1/376 وهو في صحيح الجامع 4584 . بل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم : ( زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم 3/65. فزيارة القبور من أعظم وسائل ترقيق القلوب وينتفع الزائر بذكر الموت وكذلك ينتفع الموتى بالدعاء لهم ومما ورد في السنة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) رواه مسلم رقم 974 . وينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويقصد بزيارته وجه الله وإصلاح فساد قلبه ثم يعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن الأهل والأحباب فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم وافترقت في القبور أجزاؤهم وترمل بعدهم نساؤهم وشمل ذل اليتم أولادهم وليتذكر آفة الانخداع بالأسباب والركون إلى الصحة والشباب والميل إلى اللهو واللعب وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليتفكر في حال الميت كيف تهدمت رجلاه ، وسالت(173/43)
عيناه ، وأكل الدود لسانه ، وأبلى التراب أسنانه . التذكرة للقرطبي ص : 16 وما بعدها بتصرف .
يا من يصيح إلى داعي الشقاء وقد ******** نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ****** في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ********* لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقي ولا الدنيا ولا الفلك ******** الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ************* فراقها الثاويان البدو والحضر
الأبيات لعبد الله بن محمد الأندلسي الشنتريني : تفسير ابن كثير 5/436 .
ومن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة ، ومما يؤثر في النفس من مشاهد الموت رؤية المحتضرين فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد . دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وشدة وما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم والله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه . التذكرة 17 .(173/44)
ومن تمام الشعور بالموت الصلاة على الجنازة ، وحملها على الأعناق والذهاب بها إلى المقبرة ودفن الميت ، ومواراة التراب عليه وهذا يذكر بالآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة ) رواه أحمد 3/48 وهو في صحيح الجامع 4109 . وبالإضافة إلى ذلك فإن في اتباع الجنازة أجراً عظيماً ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من شهد الجنازة من بيتها - وفي رواية : من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً - حتى يصل عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان من الأجر ) قيل يا رسول الله وما القيراطان قال : ( مثل الجبلين العظيمين ) ( وفي رواية كل قيراط مثل أحد ) . رواه الشيخان وغيرها والسياق مجموع من الروايات : أحكام الجنائز للألباني ص : 67 .
وكان السلف رحمهم الله يذكرون الموت عند نصح رجل يواقع معصية ، فهذا أحد السلف رحمه الله وكان في مجلسه رجل ذكر آخر بغيبة فقال واعظاً الذي يغتاب : " اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك " أي عند التكفين .(173/45)
9- ومن الأمور التي تجدد الإيمان بالقلب : تذكر منازل الآخرة ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب ، يبصر به الوعد والوعيد ، والجنة والنار ، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه ، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق ، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء ، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف ، واجتمعت الخصوم ، وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب ، وكثرة العطاش ، وقل الوارد ، ونصب الجسر للعبور ، ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضاً تحته ، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين ، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة أنقضائها . مدارج السالكين 1/123 . والقرآن العظيم فيه ذكر كثير لمشاهد اليوم الآخر في سورة ق والواقعة والقيامة والمرسلات والنبأ والمطففين والتكوير ، وكذلك في مصنفات الحديث مذكورة فيها تحت أبواب مثل القيامة ، والرقاق ، والجنة ، والنار ومن المهم كذلك في هذا الجانب قراءة كتب أهل العلم المفردة لهذا الغرض مثل حادي الأرواح لابن القيم ، والنهاية في الفتن والملاحم لابن كثير ، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ، والقيامة الكبرى والجنة والنار لعمر الأشقر وغيرها ، والمقصود أن مما يزيد الإيمان العلم بمشاهد القيامة كالبعث والنشور ، والحشر ، والشفاعة ، والحساب ، والجزاء ، والقصاص ، والميزان ، والحوض ، والصراط ، ودار القرار ، والجنة أو النار .(173/46)
10- ومن الأمور التي تجدد الإيمان : التفاعل مع الآيات الكونية روى البخاري ومسلم وغيرهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ) فقالت عائشة : يا رسول الله ، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، فقال : ( يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : ( هذا عارض ممطرنا ) رواه مسلم 899 . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم فزعاً إذا رأى الكسوف كما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة ) . فتح الباري 2/545 . وأمرنا عليه الصلاة والسلام عند الكسوف والخسوف أن نفزع إلى الصلاة وأخبر أنهما من آيات الله التي يخوف بها عباده ، ولا شك أن تفاعل القلب مع هذه الظواهر والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويذكر بعذاب الله ، وبطشه ، وعظمته ، وقوته ، ونقمته ، وقالت عائشة : ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشار إلى القمر فقال : يا عائشة : استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ) رواه أحمد 6/237 وهو في السلسلة الصحيحة . ومن أمثلة ذلك أيضاً : التأثر عند المرور بمواضع الخسف والعذاب وقبور الظالمين ، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصلوا الحجر : ( لا تدخلوا عليهم هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ) رواه البخاري رقم 423 . هذا والناس اليوم يذهبون إليها للسياحة والتصوير فتأمل !!.(173/47)
11- ومن الأمور بالغة الأهمية في علاج ضعف الإيمان ذكر الله تعالى وهو جلاء القلوب وشفاؤها ، ودواؤها عند اعتلالها ، وهو روح الأعمال الصالحة وقد أمر الله به فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال : ( واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) وذكر الله أكبر من كل شيء قال الله تعالى : ( ولذكر الله أكبر ) وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شرائع الإسلام فقال له : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي 3375 وقال حديث حسن غريب وهو في صحيح الكلم 3 . وهو مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم وجالب للرزق فاتح لأبواب المعرفة وهو غراس الجنة وسبب لترك آفات اللسان ، وهو سلوة أحزان الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فعوضهم الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البدنية والمالية ويقوم مقامها ، وترك ذكر الله من أسباب قسوة القلب :
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم *********** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم******* وليس لهم حتى النشور نشور(173/48)
ولذلك لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله قال تعالى : ( واذكر ربك إذا نسيت ) . وقال الله تعالى مبيناً أثر الذكر على القلب : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد /28 . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن العلاج بالذكر : " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل و " الذكر شفاء القلب ودواؤه ، والغفلة مرضه وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى قال مكحول ذكر الله تعالى شفاء ، وذكر الناس داء " الوابل الصيب رافع الكلم الطيب 142 .
وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإذا دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين - أي يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يتقرب من قلب المؤمن - فيقولون ما لهذا ، فيقال : قد مسه الإنسي ! مدارج السالكين 2/424 . وأكثر الناس الذين تمسهم الشياطين هم من أهل الغفلة الذين لم يتحصنوا بالأوراد والأذكار ، ولذلك سهل تلبس الشياطين بهم .(173/49)
وبعض الذين يشكون من ضعف الإيمان تثقل عليهم بعض وسائل العلاج كقيام الليل والنوافل فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلاج والحرص عليه فيحفظون من الأذكار المطلقة ما يرددونه باستمرار مثل : " لا إله إلا الله لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " و " سبحان الله وبحمده ، وسبحان الله العظيم " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " وغيرها ، ويحفظون كذلك من الأذكار المقيدة التي جاءت في السنة ما يرددونه إذا حان وقته زماناً أو مكاناً مثل أذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ والرؤى والأحلام والأكل والخلاء والسفر والمطر والأذان والمسجد والاستخارة والمصيبة والمقابر والريح ورؤية الهلال وركوب الدابة والسلام والعطاس وصياح الديكة والنهيق والنباح وكفارة المجلس ورؤية أهل البلاء وغيرها ، ولا ريب أن من حافظ على هذه سيجد الأثر مباشراً في قلبه . لشيخ الإسلام ابن تيمة رسالة مفيدة في الأذكار اسماها الكلم الطيب اختصرها الألباني باسم صحيح الكلم الطيب .(173/50)
12- ومن الأمور التي تجدد الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل ، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) رواه مسلم 482 . لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع ، فلما ألزق العبد جبهته في الأرض - وهي أعلى شيء فيه - صار أقرب ما يكون من ربه . يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله : " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني ، أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المساكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه " فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجياً ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة .
وكذلك إظهار الافتقار إلى الله مما يقوي الإيمان والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بفقرنا إليه وحاجتنا له فقال سبحانه : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) فاطر/15 .
13- قصر الأمل : وهذا مهم جداً في تجديد الإيمان ، يقول ابن القيم رحمه الله : " ومن أعظم ما فيها هذه الآية ( أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) الشعراء /205 ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) فهذه كل الدنيا فلا يطول الإنسان الأمل ، يقول : سأعيش وسأعيش ، قال بعض السلف لرجل صلّي بنا الظهر ، فقال الرجل : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر ، فقال : وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر ، نعوذ بالله من طول الأمل .(173/51)
14- التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد قال الله تعالى : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً ، فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه ، قد علم إلى ما يصير ) رواه الطبراني في الكبير 1/198 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 382 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو علماً أو متعلماً ) رواه ابن ماجه رقم 4112 وهو في صحيح الترغيب والترهيب رقم 71 .
15- ومن الأمور المجددة للإيمان في القلب : تعظيم حرمات الله ، يقول الله تعالى : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) الحج/32 . وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى ، وقد تكون في الأشخاص وقد تكون في الأمكنة وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان مثلاً : ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) الحج/30 ، ومن التعظيم لحرمات الله عدم احتقار الصغائر وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها . رواه أحمد 1/402 وهو في السلسلة الصحيحة 389.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(173/52)
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : " كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول ، مثل إطلاق البصر في المحرمات ، وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه ) وقال بعض السلف : " تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف " وهذا من تواضعه رحمه الله .
16- ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب : الولاء والبراء أي موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ، وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً وتذوى معاني العقيدة فيه ، فإذا جرد الولاء لله فوالي عباد الله المؤمنين وناصرهم ، وعادى أعداء الله ومقتهم فإنه يحيى بالإيمان .
17- وللتواضع دور فعال في تجديد الإيمان وجلاء القلب من صدأ الكبر ، لأن التواضع في الكلام والمظهر دال على تواضع القلب الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( البذاذة من الإيمان ) رواه ابن ماجه 4118 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 341 ومعناه أراد التواضع في الهيئة واللباس انظر النهاية لابن الأثير 1/110 . وقال أيضاً : من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) رواه الترمذي رقم 2481 وهو في السلسلة الصحيحة 718 . وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله لا يعرف من بين عبيده .
18- وهناك أعمال للقلوب ، مهمة في تجديد الإيمان مثل محبة الله والخوف منه ورجائه وحسن الظن به والتوكل عليه ، والرضا به وبقضائه ، والشكر له والصدق معه واليقين به ، والثقة به سبحانه ، والتوبة إليه وما سوى ذلك من الأعمال القلبية .
وهناك مقامات ينبغي على العبد الوصول إليها لاستكمال العلاج كالاستقامة والإنابة والتذكر والاعتصام بالكتاب والسنة والخشوع والزهد والورع والمراقبة وقد أفاض في هذه المقامات ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين .(173/53)
19- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان يقول جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) الحشر /18 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ويقول الحسن لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه، وقال ميمون بن مهران إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح .
وقال ابن القيم رحمه الله : وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها .
فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها ، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد .
20- وختاماً فإن دعاء الله عز وجل من أقوى الأسباب التي ينبغي على العبد أن يبذلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(173/54)
اركب معنا
كتبه : الشيخ محمد بن عبد الرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
اِرْكبْ مَعَنا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
أما الأول :
فقد جلس إليَّ مهموماً مغموماً .. ثم قال :
يا شيخ .. مللت من الغربة ..
فقلت : عسى الله أن يعجل رجوعك إلى أهلك وبلدك ..
فاستعبر وبكى .. ثم قال : أما ولله يا شيخ لو عرفت بقدر شوقي إليهم وقدر شوقهم إليَّ ..
هل تصدق يا شيخ أن أمي قد سافرت أكثر من أربعمائة ميل لتدعو لي عند ضريح قبر الشيخ فلان .. وتسأله أن يردني إليها ..!! فهو رجل مبارك تقبل منه الدعوات .. ويقضي الكربات .. ويسمع دعاء الداعين .. حتى بعد موته ..!!
أما الثاني :
فقد حدثني شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين .. قال :
كنت على صعيد عرفات .. والناس في بكاء ودعوات .. قد لفوا أجسادهم بالإحرام .. ورفعوا أكفهم إلى الملك العلام ..
وبينما نحن في خشوعنا وخضوعنا .. نستنزل الرحمات من السماء ..
لفت نظري شيخ كبير .. قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وانحنى ظهره .. وهو يردد : يا شيخ فلان .. أسألك أن تكشف كربتي .. اشفع لي .. وارحمني .. ويبكي وينتحب ..
فانتفض جسدي .. واقشعرّ جلدي .. وصحت به : اتق الله .. كيف تدعو غير الله !! وتطلب الحاجات من غير الله !! الجيلاني عبدٌ مملوكٌ .. لا يسمعك ولا يجيبك .. ادعُ الله وحده لا شريك له ..
فالتفت إليَّ ثم قال : إليك عني يا عجوز .. أنت ما تعرف قدر الشيخ فلان عند الله !!.. أنا أؤمن يقيناً أنه ما تنزل قطرة من السماء .. ولا تنبت حبة من الأرض إلا بإذن هذا الشيخ ..
فلما قال ذلك .. قلت له : تعالى الله .. ماذا أبقيت لله ..
فلما سمع مني ذلك .. ولاني ظهره ومضى ..
وأما الثالث .. والرابع .. والخامس .. فأخبارهم فيما بين يديك من أوراق ..
فسبحان الله .. أين هؤلاء اللاجئين إلى غير مولاهم .. الطالبين حاجاتهم من موتاهم ..
المتجهين بكرباتهم إلى عظام باليات .. وأجساد(174/1)
جامدات .. أينهم عن الله ..!! الملك الحق المبين !! الذي يرى حركات الجنين .. ويسمع دعاء المكروبين .. ولا يرضى أن يدعوا عباده سواه ..
فابكِ إن شئت على حال الأمة .. وقلب طرفك في بلاد الإسلام .. لترى أضرحة ومقامات .. وقبوراً ورفات .. صارت هي الملجأ عند الملمات .. والمفزع عند الكربات ..
نشأ عليها الصغير .. وشاب عليها الكبير ..
فهذه كلمات لهم وهمسات.. وأحاديث ونداءات.. بل هي صرخات وصيحات.. وابتهالات ودعوات.. للغارقين والغارقات..
الذين تلاطمت بهم الأمواج .. وضلوا في الفجاج ..
حتى تخلفوا عن سفينة النجاة .. وماتوا وهم مشركون .. وهم يحسبون أنهم مسلمون ..
إنها سفينة التوحيد .. التي هي كسفينة نوح .. من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ..
وكم رأينا في بلاد الإسلام .. من أقارب وإخوان .. وجيران وخلان .. ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ..
لذا جاء هذا الكتاب نداءً لهم جميعاً بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com
---
بسم الله الرحمن الرحيم(174/2)
البحر المتلاطم ..
كانت الدنيا مليئة بالمشركين .. هذا يدعو صنماً .. وذاك يرجو قبراً ..
والثالث يعبد بشراً .. والرابع يعظم شجراً ..
نظر إليهم ربهم فمقتهم عربهم وعجمهم .. إلا بقايا من موحدي أهل الكتاب ..
وكان من بين هؤلاء السادرين ..
سيد من السادات .. هو عمرو بن الجموح ..
كان له صنم اسمه مناف .. يتقرب إليه .. ويسجد بين يديه ..
مناف .. هو مفزعه عند الكربات .. وملاذه عند الحاجات ..
صنم صنعه من خشب .. لكنه أحب إليه من أهله وماله ..
وكان شديد الإسراف في تقديسه .. وتزيينه وطييبه وتلبيسه ..
وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا .. حتى جاوز عمره الستين سنة ..
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .. وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه .. داعيةً ومعلماً لأهل المدينة .. أسلم ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح مع أمهم دون أن يعلم ..
فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المعلم وقرؤوا عليه القرآن .. وقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه ؟
فقال : لست أفعل حتى أشاور مناف فأَنظُرَ ما يقول !!
ثم قام عمرو إلى مناف .. وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يلهمها الصنم في زعمهم ..
أقبل عمرو يمشي بعرجته إلى مناف .. وكانت إحدى رجليه أقصر من الأخرى .. فوقف بين يدي الصنم .. معتمداً على رجله الصحيحة .. تعظيماً واحتراماً .. ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال :
يا مناف .. لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم .. ولا يريد أحداً بسوء سواك .. وإنما ينهانا عن عبادتك .. فأشِرْ عليّ يا مناف .. فلم يردَّ الصنم شيئاً .. فأعاد عليه فلم يجب ..
فقال عمرو : لعلك غضبت .. وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك ..
ثم تركه وخرج .. فلما أظلم الليل .. أقبل أبناؤه إلى مناف ..
فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف ..
فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يجده ..
فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! من عدا على(174/3)
إلهنا الليلة .. فسكت أهله ..
ففزع ..واضطرب ..وخرج يبحث عنه ..فوجده منكساً على رأسه في الحفرة..فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه..
وقال له : أما والله يا مناف لو علمتُ من فعل هذا لأخزيته ..
فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم .. فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة ..
فلما أصبح الشيخ التمس صنمه .. فلم يجده في مكانه ..
فغضب وهدد وتوعد .. ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ..
ثم ما زال الفتية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُسْتَها ..
ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عدوك عن نفسك ..
فلما جَنَّ الليلُ حمل الفتيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النتن .. فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال :
ورب يبول الثعلبان برأسه *** لقد خاب من بالت عليه الثعالب
ثم دخل في دين الله .. وما زال يسابق الصالحين في ميادين الدين ..
وانظر إليه .. لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر .. منعه أبناؤه لكبر سنه .. وشدة عرجه .. فأصر على الخروج للجهاد.. فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبقاء في المدينة .. فبقي فيها ..
فلما كانت غزوة أحُد .. أراد عمرو الخروج للجهاد .. فمنعه أبناؤه .. فلما أكثروا عليه .. ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. يدافع عبرته .. ويقول : ( يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد ..
قال : إن الله قد عذرك ..
فقال .. يا رسول الله .. والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ..
فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج .. فأخذ سلاحه وقال : اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي ..
فلما وصلوا إلى ساحة القتال .. والتقى الجمعان .. وصاحت الأبطال .. ورميت النبال ..
انطلق عمرو يضرب بسيفه جيش الظلام .. ويقاتل عباد(174/4)
الأصنام ..
حتى توجه إليه كافر .. بضربة سيف كُتِبَت له بها الشهادة ..
فدفن رضي الله عنه .. ومضى مع الذين أنعم الله عليهم ..
وبعد ست وأربعين سنة في عهد معاوية رضي الله عنه ..
نزل بمقبرة شهداء أحد .. سيل شديد .. غطّى أرض القبور ..
فسارع المسلمون إلى نقل رُفات الشهداء .. فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح .. فإذا هو كأنه نائم .. ليّن جسده .. تتثنى أطرافه .. لم تأكل الأرض من جسده شيئاً ..
فتأمل كيف ختم الله له بالخير لما رجع إلى الحق لما تبين له ..
بل انظر كيف أظهر الله كرامته في الدنيا قبل الآخرة .. لما حقق لا إله إلا الله ..
هذه الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات .. وفطر الله عليها جميع المخلوقات .. وهي سبب دخول الجنة ..
ولأجلها خلقت الجنة والنار .. وانقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار .. وأبرار وفجار ..
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ..
* * * * * * * * *(174/5)
سفينة النجاة ..
وكم من إنسان هلك مع الهالكين .. واستحق اللعنة إلى يوم الدين .. بسبب أنه لم يحقق التوحيد ..
فالله هو الرب الواحد .. لا يتوكل العبد إلا عليه .. ولا يرغب إلا إليه ..
ولا يرهب إلا منه .. ولا يحلف إلا باسمه .. ولا ينذر إلا له .. ولا يتوب إلا إليه ..
فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله .. ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة ..
وانظر إلى معاذ رضي الله عنه .. لما مشى خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجأة ثم سأله ..
يا معاذ : أتدري ما حق الله على العباد .. وما حق العباد على الله ..
قال : الله ورسوله أعلم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
وفي حديث آخر .. أنه رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. أي ذنب عند الله أعظم .. فقال صلى الله عليه وسلم : أن تجعل لله نداً وهو خلقك ..
* * * * * * * * *(174/6)
نعم .. التوحيد من أجله .. بعث الله الرسل .. قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله .. من صنم أو حجر .. أو قبر أو شجر ..
والتوحيد هو مهمة الرسل الأولى كما قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .. بل إن الخلق لم يخلقوا إلا ليوحدوا الله قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ..
والأعمال كلها متوقفة في قبولها على التوحيد .. قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .. ومن حقق التوحيد نجا .. كما صح في الحديث القدسي عند الترمذي .. أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ..
ولعظم أمر التوحيد .. خاف الأنبياء من فقده ..
فذاك أبو الموحدين .. محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيم عليه السلام .. يبتهل إلى الملك العلام .. ويقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .. ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ..
* * * * * * * * *(174/7)
بداية الانحراف ..
أول ما حدث الشرك في قوم نوح ..
فبعث الله نوحاً .. فنهاهم عن الشرك .. فمن أطاعه ووحد الله نجى ..
ومن ظل على شركه .. أهلكه الله بالطوفان .. وبقي الناس بعد نوح على التوحيد زماناً ..
ثم بدأ إبليس في الإفساد .. ونشر الشرك بين العباد .. ولم يزل الله تعالى يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين ..
إلى أن بعث خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم.. فدعا إلى التوحيد .. وجاهد المشركين ..وكسر الأصنام ..
ومضت الأمة من بعده على التوحيد ..
إلى أن عاد الشرك إلى بعض الأمة بسبب تعظيم الأولياء والصالحين ..
حتى بنيت الأضرحة على قبورهم .. وصرف الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لمقاماتهم ..
وسموا هذا الشرك توسلاً بالصالحين ومحبة لهم بزعمهم .. وزعموا أن محبتهم لهؤلاء وتعظيم قبورهم .. تقربهم إلى الله زلفى ..
ونسوا أن هذه حجة المشركين الأولين حيث قالوا عن أصنامهم : { ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى } ..
والعجب أنك إذا أنكرت على هؤلاء شركهم .. قالوا لك .. كلا بل نحن موحدون .. ولربنا عابدون ..
ويظنون أن معنى التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأحقيته بالعبادة دون غيره ..
وهذا مفهوم قاصر .. بل مفهوم باطل للتوحيد ..
فأبو جهل .. وأبو لهب .. بهذا المفهوم موحدون .. فإنهم يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم المستحق للعبادة .. لكنهم أشركوا معه آلهة أخرى ظنوا أنها توصل إليه .. وتشفع لهم عنده ..
قصة ..
روى البيهقي وغيره : أنه لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته بين الناس .. حاول كفار قريش أن ينفروا الناس عنده .. فقالوا : ساحر .. كاهن .. مجنون ..
لكنهم وجدوا أن أتباعه يزيدون ولا ينقصون ..
فاجتمع رأيهم على أن يغروه بمال ودنيا ..
فأرسلوا إليه حصين بن المنذر الخزاعي .. وكان من كبارهم ..
فلما دخل عليه حصين .. قال : يا محمد .. فرقت جماعتنا .. وشتت شملنا .. وفعلت .. وفعلت .. فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك(174/8)
حتى تكون أكثرنا مالاً .. وإن أردت نساءً زوجناك أجمل النساء .. وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. ومضى في كلامه وإغرائه ..والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه ..
فلما انتهى من كلامه .. قال له صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا عمران ..
قال : نعم .. قال : فأجبني عما أسألك .. قال : سل عما بدا لك ..
قال : يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد ؟ قال : أعبد سبعة .. ستة في الأرض .. وواحداً في السماء !!
قال : فإذا هلك المال .. من تدعوا !؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا انقطع القطر من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا جاع العيال .. من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فيستجيب لك وحده .. أم يستجيبون لك كلهم ..
قال : بل يستجيب وحده ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يستجيب لك وحده .. وينعم عليك وحده .. وتشركهم في الشكر .. أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك .. قال حصين : لا .. ما يقدرون عليه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا حصين ..أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ..فقيل إنه أسلم فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به..
حقيقة ..
نعم كانوا يعبدون اللات والعزى .. لكنهم يعتبرونها آلة صغيرة تقربهم إلى الإله الأعظم وهو الله جل جلاله .. ويصرفون لها أنواعاً من العبادات .. لتشفع لهم عند الله .. لذا كانوا يقولون { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ..
كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ..
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ..
وفي الصحيحين وغيرهما ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً جهة نجد .. لينظروا له ما حول المدينة ..
فبنما هم يتجولون على دوابهم .. فإذا برجل قد تقلد سلاحه .. ولبس الإحرام .. وهو يلبي قائلاً : لبيك اللهم(174/9)
لبيك .. لبيك لا شريك لك .. إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك .. ويردد : إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك ..
فأقبل الصحابة عليه .. وسألوه أين يريد .. فأخبرهم أنه يريد مكة .. فنظروا في حاله فإذا هو قد أقبل من ديار مسيلمة الكذاب .. الذي ادعى النبوة ..
فربطوه وأوثقوه وجاؤوا به إلى المدينة .. ليراه النبي صلى الله عليه وسلم .. ويقضي فيه ما شاء ..
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : أتدون من أسرتم .. هذا ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ..
ثم قال اربطوه في سارية من سواري المسجد .. وأكرموه ..
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجمع ما عنده من طعام وأرسل به إليه .. وأمر بدابة ثمامة أن تعلف ويعتنى بها .. وتعرض أمامه في الصباح والمساء ..
فربطوه بسارية من سواري المسجد .. فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
قال : عندي خير يا محمد .. إن تقتلني تقتل ذا دم .. ( أي ينتقم لي قومي ) .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد .. ثم قال له : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك إن تقتلني تقتل ذا دم .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. و إن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى بعد الغد .. فمر به فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك ..
فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا رغبة له في الإسلام .. وقد رأى صلاة المسلمين .. وسمع حديثم .. ورأى كرمهم ..
قال صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ..
فأطلقوه .. وأعطوه دابته وودعوه ..
فانطلق ثمامة إلى ماء قريب من المسجد .. فاغتسل .. ثم دخل المسجد .
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك .. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ..
و الله ما كان دين أبغض إلي من دينك .. فأصبح(174/10)
دينك أحب الدين إلي ..
والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ..
ثم قال : يا رسول الله .. إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟
فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالخير .. وأمره أن يكمل طريقه إلى مكة ويعتمر ..
فذهب إلى مكة يلبي بالتوحيد قائلاً .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
نعم أسلم فقال : لبيك لا شريك لك .. فلا قبر مع الله يعبد .. ولا صنم يُصلَّى له ويُسْجَد ..
ثم دخل ثمامة رضي الله عنه مكة .. فتسامع به سادات قريش فأقبلوا عليه ..
فسمعوا تلبيته فإذا هو يقول .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
فقال له قائل : أصبوت ؟ قال : لا .. ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ..
فهموا به أن يؤذوه .. فصاح بهم وقال :
ولا و الله .. لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة .. حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ..
كانوا يعظمون الله .. أكثر من تعظيمهم لهذه الآلهة ..
فقل لي بربك .. ما الفرق بين شرك أبي جهل وأبي لهب ..
وبين من يذبح اليوم عند قبر .. أو يسجد على أعتاب ضريح .. أو يذبح له ويطوف ..
أو يقف عند مشهد الولي ذليلاً خاضعاً .. منكسراً خاشعاً ..
يسأله الحاجات .. وكشف الكربات .. يلتمس من عظام باليات شفاء المريض .. ورد المسافر ..
عجباً .. والله يقول :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ..
* * * * * * * * *(174/11)
وهذا الشرك ..الذي يقع عند القبور من ذبح لها ..وتقرب إلى أهلها ..وطواف عليها..هو أعظم الذنوب ..
نعم أعظم من الزنا .. وأعظم من شرب الخمر .. والقتل .. وعقوق الوالدين .. وقد قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ..
نعم .. الله لا يغفر أن يشرك به .. بينما قد يغفر الله للزناة .. ويعفو عن القتلة والجناة ..
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
أن امرأة بغياً من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء ..
فرأت كلباً بجوار بئر يصعد عليه تارة .. ويطوف به تارة ..
في يوم حار قد أدلع لسانه من شدة الظمأ .. قد كاد يقتله العطش ..
فلما رأته هذه البغي ..
التي طالما عصت ربها .. وأغوت غيرها .. ووقعت في الفواحش والآثام .. وأكلت المال الحرام .. لما رأت هذا الكلب .. نزعت خفها .. حذاءها ..
وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء .. وسقته ..
فغفر الله لها بذلك .. الله أكبر .. غفر الله لها .. بماذا ..؟
هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار ؟! هل قتلت في سبيل الله ؟!
كلا .. وإنما سقت كلباً شربةً من ماء .. فغفر الله لها .. لأنها كانت تقع في المعاصي لكنها ما كانت تشرك بالله ولياً ولا قبراً .. ولا تعظم حجراً ولا بشراً .. فغفر الله لها ..
فما أقرب المغفرة من العاصين وما أبعدها عن المشركين ..
* * * * * * * * *(174/12)
قصة ..
بعض الناس يفزع ويضطرب .. ويحزن إذا رأى كثرة الزناة وشراب الخمور .. بينما لا يتأثر وهو يرى كثرة من يتمسحون بأعتاب القبور ويصرفون لها أنواع العبادات .. مع أن الزنى وشرب الخمر معاص كبار .. لكنها لا تخرج من ملة الإسلام .. بينما صرف شيء من العبادة لغير الله هو شرك يموت به الإنسان كافراً ..
ولذا كان العلماء الربانيون يجعلون تدريس العقيدة أصل الأصول ..
كان الشيخ محمد -رحمه الله - قد ألف كتاب التوحيد ..وأخذ يشرحه لطلابه ..ويعيد ويكرر مسائله عليهم ..
فقال له طلابه يوماً : يا شيخ نريد أن تغير لنا الدرس إلى مواضيع أخرى .. قصص .. سيرة ..تاريخ ..
قال الشيخ : سننظر في ذلك إن شاء الله ..
ثم خرج إليهم من الغد مهموماً مفكراً ..
فسألوه عن سبب حزنه فقال : سمعت أن رجلاً في قرية مجاورة .. سكن بيتاً جديداً .. وخاف من تعرض الجن له فذبح ديكاً عند عتبة باب البيت .. تقرباً إلى الجن .. ولقد أرسلت من يتثبت لي من هذا الأمر ..
فلم يتأثر الطلاب كثيراً .. وإنما دعوا لذاك الرجل بالهداية .. وسكتوا ..
وفي الغد لقيهم الشيخ .. فقال ..
تثبتنا من خبر البارحة .. فإذا الأمر على خلاف ما نقل إليَّ ..
فإن الرجل لم يذبح ديكاً تقرباً إلى الجن .. ولكنه زنا بأمه ..
فثار الطلاب وانفعلوا .. وسبوا وأكثروا .. وقالوا لا بد من الإنكار عليه .. ومناصحته .. وعقوبته .. وكثر هرجهم ومرجهم ..
فقال الشيخ : ما أعجب أمركم .. تنكرون هذا الإنكار على من وقع في كبيرة من الكبائر .. وهي لم تخرجه من الإسلام ..
ولا تنكرون على من وقع في الشرك .. وذبح لغير الله .. وصرف العبادة لغير الله ..
فسكت الطلاب .. فأشار الشيخ إلى أحدهم وقال .. قم ناولنا كتاب التوحيد نشرحه من جديد ..
* * * * * * * * *(174/13)
والشرك أعظم الذنوب .. ولا يغفره الله أبداً .. قال الله { إن الشرك لظلم عظيم } ..
والجنة حرام على المشركين .. وهم مخلدون في النار .. قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ..
ومن وقع في الشرك .. أفسد عليه هذا الشرك .. جميع عباداته من صلاة وصوم وحج وجهاد وصدقة .. قال تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ..
* * * * * * * * *(174/14)
والشرك له صور متعددة :
منها ما يخرج من الملة .. ويخلد صاحبه في النار إذا مات ولم يتب منه ..
كدعاء غير الله .. والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله .. من القبور .. والجن .. والشياطين .. والخوف من الموتى .. أو الجن والشياطين أن يضروه أو يمرضوه ..
ورجاء غير الله فيما يقدر عليه إلا الله .. من قضاء الحاجات .. وتفريج الكربات .. مما يمارس الآن حول الأضرحة والقبور ..
فالقبور تزار لأجل الاتعاظ والدعاء للأموات .. كما قال صلى الله عليه وسلم : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ..
وذلك للرجال .. أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور .. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور .. ولأن زيارتهن قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن ..
أما زيارة القبور لدعاء أهلها .. والاستغاثة بهم .. أو الذبح لهم .. أو التبرك بهم .. أو طلب الحاجات منهم .. والنذر لهم ..
فهذا شرك أكبر .. ولا فرق بين كون المدعو المقبور نبياً أو ولياً أو صالحاً .. فكل هؤلاء بشر .. لا يملكون ضراً ولا نفعاً .. قال الله لأحب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم :( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ) ..
ويدخل في ذلك ما يفعله الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به .. أو عند قبر الحسين .. أو البدوي .. أو الجيلاني .. أو غيرهم ..
أما زيارة القبور للصلاة عندها والقراءة .. فهذه بدعة ..
وإنما يشرع للزائر الاتعاظ والدعاء للميت فقط ..
ومن العجب أن يذهب مسلم إلى المقبورين وهو يعلم أنهم جثث هامدة .. لا يستطيعون أن يتخلصوا مما هم فيه .. فيطلب منهم أن يستجيبوا الدعوات .. أو يفرجوا الكربات ..
وكثير من هذه الأضرحة .. والقبور .. التي تعظم .. ويبنى عليها .. يكون لها خدم وسدنة .. يظهرون التقى والتقشف .. ويختلقون للناس الأكاذيب .. ويدعونهم إلى الشرك بالله ..
* * * * * * * * *(174/15)
نداء .. نداء ..
إني أقول لألئك الذين يدعون الأموات ..
أمواتكم هؤلاء .. الذين تبكون على عتباتهم .. وترجون شفاعاتهم ..( هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ) ..
لا والله لا يسمعون .. ولا ينفعون .. بل يخذلون ويضرون ..
وما أجمل ما فعله ذلك الغلام الصغير .. الذي عمره 13 سنة .. وسافر مع والده إلى الهند ..
والهند بلاد كبيرة .. تتنوع فيها الآلهة .. يعبدون كل شئ .. من حيوان ونبات وجماد وبشر وكواكب ..
دخل الغلام أحد المعابد .. فرأى الناس يعبدون ثمرة جوز الهند ..
وقد رسموا لها عينين وأنفاً وفماً .. ويقدمون لها البخور والطعام والشراب ..
ثم رآهم يصلون لها .. فلما سجدوا لها .. أقبل الغلام إلى الثمرة فاختطفها وهرب بها ..
فلما رفعوا رؤوسهم من سجودهم .. لم يجدوا إلههم .. فالتفتوا .. فإذا الغلام قد حمل الإله .. وفرَّ به هارباً ..
فقطعوا صلاتهم .. وركضوا وراء الغلام ..
فلما ابتعد عنهم .. جلس على الأرض .. ثم كسر الجوزة .. وشرب مائها وألقاها على الأرض ..
فتصايحوا لما رأوا الإله مكسوراً .. فأخذوه وضربوه وتلتلوه .. ثم ذهبوا به إلى قاضي البلد ..
فقال له القاضي : أنت الذي كسرت الإله ؟
قال الغلام : لا .. ولكني كسرت جوزة .. قال القاضي : ولكنها إلاههم ..
قال الغلام : أيها القاضي !! هل كسرت يوماً جوزة هند وأكلتها ؟
قال القاضي : نعم .. قال الغلام : فما الفرق إذاً ؟
فسكت القاضي واحتار .. ونظر إلى عبادها يريد منهم الجواب ..
فقالوا : هذه الجوزة لها عينان وفم ..
فصاح بهم الغلام قال: هل تتكلم ؟ قالوا : لا ..
قال : هل تسمع ؟ قالوا : لا ..
قال : فكيف تعبدونها إذاً ؟ فبهت الذي كفر .. والله لا يهدي القوم الظالمين ..
فنظر إليهم القاضي .. فخاف أن يتعرضوا للغلام بسوء ..
فقال للغلام .. عقوبة لك .. قررنا تغريمك 150 روبية ..
فدفعها الغلام مرغماً .. وخرج منتصراً ..
* * * * * * * * *(174/16)
ومما يزيد الطيب بلة .. أن المتعلقين بالقبور .. لم يكتفوا بتعظيم الأموات .. وسؤالهم الحاجات .. وإنما صرفوا الأموال في تزيينها .. ورفعها .. والبناء عليها ..
وتنقسم القباب والأضرحة المبنية على القبور .. إلى قسمين :
الأول : قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة .. حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور ..
والثاني : قباب تبنى في المساجد.. أو تبنى عليها المساجد.. وقد تكون في قبلة المسجد.. أو في الخلف.. أو في أحد جوانبه ..
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : \" اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد .. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد \" وهذا في قبره الشريف وفي كل قبر ..
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج : \" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته .. ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته ..
ونهى صلى الله عليه وسلم أن ( يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه .. أو أن يكتب عليه \" ..
ولعن صلى الله عليه وسلم \" المتخذين عليها [ أي القبور] المساجد والسُرج \" ..
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام .. لا على قبر نبي.. ولا غيره ..
* * * * * * * * *(174/17)
الواقع الأليم ..
واليوم .. خذ على عجل الواقع الأليم ..
• في مصر : أضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر وقراها .. ستة آلاف ضريح .. وهي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين .. بل إنه من الصعب أن تجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر .. بل تعتبر القرية التي تخلو من أضرحة منزوعة البركة عندهم ..
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى.. وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره .. وكثر زواره ..
فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة : ضريح الحسين.. وضريح السيدة زينب.. وضريح السيدة عائشة.. والسيدة سكينة.. والسيدة نفيسة.. وضريح الإمام الشافعي.. وضريح الليث ابن سعد ..
إضافة إلى ضريح البدوي بطنطا .. والدسوقي بدسوق .. والشاذلي بقرية حميثرة ..
وقبر مزعوم للحسين .. يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات .. وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء .. وطلب قضاء الحاجات عند الملمات ..
وضريح السيد البدوي .. له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر .. يقصده الناس من خارج البلاد وداخلها .. من السُنة والشيعة ..
وجلال الدين الرومي .. الذي كتب على قبره ومزاره : صالح للأديان الثلاثة .. المسلمين واليهود والنصارى .. ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم ..
• أما في الشام فقد ذكر الباحثون الثقاة أن في دمشق وحدها 194ضريحاً والمشهور منها 44 ضريحاً.. وينسب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً.. وفي دمشق ضريح لرأس يحيى بن زكريا - عليهما السلام - .. يقع في المسجد الأموي .. وبجانب المسجد قبر لصلاح الدين .. وعماد الدين زنكي .. وقبور أخرى تزار ويتوسل بها...
وفي سوريا أيضاً : ضريح لمحيي الدين بن عربي صاحب \"فصوص الحكم\".. وهو ضال فاجر ..
• وفي تركيا أكثر من 481 جامعاً لا يكاد يخلو جامع من ضريح .. أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في القسطنطينية ..
• وفي الهند يوجد أكثر من(174/18)
مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس ..
• أما العراق .. ففي بغداد وحدها أكثرُ من مئة وخمسين جامعاً وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح.. وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع.. وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة .. ( انظر: الانحرافات العقدية.. ص289.. 294.. 295 ) .
• وفي الهند : أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني .. ويعملون أنواع العبادات .. كالسجود.. والنذور..
• وفي باكستان .. ضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور .. وهو من القبور العظيمة..
* * * * * * * * *(174/19)
والعجب أن الناس مفتونون بها .. مع أن أكثرها أضرحة مكذوبة .. لا حقيقة لها ..
• فالحسين رضي الله عنه .. له قبر بالقاهرة يتقربون إليه .. ويصرفون له أنواعاً من العبادات من دعاء وذبح وطواف ..
وفي عسقلان قبر للحسين أيضاً ..
وفي سفح جبل الجوشن غربي حلب ضريح ينسب إلى رأس الحسين رضي الله عنه أيضاً ..
وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين : في دمشق .. والحنانة - بين النجف والكوفة - .. وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنه .. وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنه .. وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده ..( انظر: الانحرافات العقدية.. ص288.. ومجلة (لغة العرب).. ج7 السنة السابعة (1929م).. ص557 561.. ومعالم حلب الأثرية.. عبد الله حجار ) ..
• أما السيدة زينب بنت علي - رضي الله عنهما – فقد ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع .. إلا أن قبراً منسوباً إليها أقامه الشيعة في دمشق .. (انظر : عبد الله بن محمد بن خميس.. شهر في دمشق.. ص 67. ) ..
ولا يقل عنه جماهيرية الضريح المنسوب إليها في القاهرة .. ولم تذكر كتب التاريخ أبداً أنها جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات ..
• وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء رضي الله عنه مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم .. ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة .. ( انظر : مساجد مصر وأولياؤها الصالحون 2/33 ) ..
• وقل مثل ذلك في مشهد السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بالقاهرة .. الذي أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله .. وضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي - رضي الله عنهم - ..
• ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح علي بن أبي طالب بالنجف بالعراق.. وهو قبر مكذوب فإن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة ..
• وفي البصرة قبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رغم أنه مات بالمدينة ودفن(174/20)
بالبقيع ..
• وفي حلب ضريح لجابر بن عبد الله رضي الله عنه مع أنه توفي في المدينة ..
• بل ينسب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و (رقية) بنتي رسول صلى الله عليه وسلم مع أنهما زوجتا عثمان رضي الله عنه .. وماتتا في المدنة النبوية .. في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهما النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع في المدينة ..
• ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام بجامع دمشق.. فإن هوداً لم يجئ إلى الشام .. وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت..
• وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام .. رغم أنه مات بالحجاز.. وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين.. التي بها كذلك مزار لأيوب عليه السلام ..
* * * * * * * * *(174/21)
مقام الشيخ بركات ..
انظر كيف تلاعب الشيطان بعقول الناس .. حتى صرفهم عن عبادة رب الأرض والسموات .. إلى تعظيم الأموات .. بل تعظيم التراب والرفات ..
وقد تبدأ المسألة أحياناً بإشاعةٍ عن قبر من القبور .. وأنه لزائره نافع .. ولداعيه شافع ..
حتى تنتشر قصص الكرامات بين الناس .. فتتحول إلى حقيقة .. ثم تبدأ صور الشرك تظهر عنده .. من طواف عليه .. ودعاء له من دون الله .. كما يقع عند أكثر ما تقدم من قبور .. سواء كانت نسبة القبر إلى صاحبه صحيحة او مختلقة ..
وهذا يذكرني بما حكاه أحدهم عن قصة ضريح الشيخ بركات .. وهذه القصة وقعت بين شابين هما عادل وسعيد .. تخرجا من الجامعة .. ثم توظفا مدرِّسين في قرية ينتشر فيها تعظيم القبور .. والاغترار بالنذور ..
فقد كان عادل يتبادل الحديث مع سعيد وهما في طريقهما إلى المدرسة في القرية .. وفجأة صعد الحافلة متسول نصف معتوه.. كبير في السن يهتز ويتأرجح..
ويمسح لعابه بكمه المتهدل المتسخ.. يستجدي الركاب ويتهدد ويتوعد.. يهددهم بأنه سيدعو عليهم بأن تنقلب الحافلة بهم في عرض الطريق .. ويدعي أنه مستجاب الدعوة ..
ويبدو أن سعيداً قد نشأ في أسرة .. متأثرة كثيراً بالكرامات والأولياء .. والأبدال والأوتاد!
حيث فزع واضطرب .. ثم طلب من عادل أن يبادر إلى إعطائه بعض الدراهم خشية أن تنقلب الحافلة فعلاً .. لأن المتسول المذكور (عبد الكريم أبو شطة ) من الدراويش المباركين المستجابي الدعوة ..
فتعجب عادل وقال : نعم .. أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكرامات .. ولكن هي للصالحين الأتقياء .. العاملين الأخفياء .. وليست لأمثال هذا من المجاديب .. الذين يتأكلون بدينهم ..
فصاح به سعيد : لا تقل ذلك .. فإن الأحاديث عن الخوارق التي جرت على يديه يتناقلها الصغير والكبير.. وسترى بعد قليل أنه سينزل ونمضي نحن في الحافلة.. ويسبقنا إلى القرية التالية ماشياً.. حيث سينتظرنا هناك.. نعم .. كرامة .. هل تنكر(174/22)
الكرامات؟
عادل : أنا لا أنكر الكرامات بشكل مطلق .. فالله قادر أن يكرم من شاء من عباده.. لكن أن تصبح الكرامات طعامنا وشرابنا وتدخلنا في باب إشراك هؤلاء العبيد والأموات مع الله سبحانه وتعالى في الخلق والأمر والتصرف في الكون .. حتى نصبح نخافهم ونتقي غضبهم .. فلا ..
سعيد : يعني أنت لا تصدق أن الشيخ أحمد أبو سرود قد جاء من عرفات إلى استانبول وأكل الكبة المشوية عند أهله وعاد ليلاً إلى عرفات ؟
عادل : يا سعيد .. بارك الله في عقلك أهذا الذي تعلمته في الجامعة ؟
سعيد : بدأنا بأسلوب السخرية!
عادل : أنا لا أسخر منك.. ولكن أن يكون كلام العوام وخرافاتهم كلاماً منزلاً محكماً لا يقبل النقد .. فلا ..
سعيد : ولكن هذه الكرامات لا ينقلها العوام فقط.. بل إن ساداتنا المشايخ ينقلون كثيراً منها عن أصحاب المقامات والأضرحة.
عادل : طيب يا سعيد ما رأيك لو برهنت لك برهاناً عملياً أن كل هذه المقامات والأضرحة خلط ودجل ؟ وأن كثيراً من هذه الأضرحة لا حقيقة لها .. فلا قبر .. ولا مقبور .. ولا وليَّ .. وإنما إشاعات ودجل انتشر عند الناس حتى صدقوه ..
فانتفض سعيد وأخذ يردد : أعوذ بالله! أعوذ بالله!
ثم سكتا قليلاً .. وسارت الحافلة حتى وصلت بهم إلى الدوار الموصل إلى قريتهم .. فالتفت عادل إلى سعيد .. وقال : هل يوجد على هذا الدوار قبر أو مقام أو ضريح لأحد الأولياء يا سعيد ؟
سعيد : لا .. وهل يعقل أن يدفن ولي في عرض الطريق .. وفي دوار ..
عادل : إذاً ما رأيك لو أشعنا في القرية أن على هذا الدوار قبراً قديماً لأحد الصالحين قد اندرس وضاعت معالمه ؟ وألفنا قصصاً في كراماته .. واستجابة الدعاء عنده .. وننظر هل سيصدق الناس أم لا ..
وأنا متأكد أن الناس ستحمل هذه الإشاعة محمل الجد .. وربما يقيمون في العام القادم مقاماً أو ضريحاً كبيراً للشيخ المزعوم ! ويدعونه من دون الله .. وهو تراب على تراب .. لو حفروا حتى يصلوا الأرض السفلى(174/23)
لما وجدوا شيئاً ..
سعيد : دعك من هذا يا رجل .. وهل تظن الناس أغبياء .. سفهاء إلى هذا الحد ؟
عادل : طيب.. أنت ماذا تخسر إذا تعاونت معي ؟ ووافقتني .. أم أنت خائف من النتيجة ..
سعيد : لا لست خائفاً.. ولكن ! أنا غير مقتنع ..
عادل : حسناً .. بما أنك نصف موافق فما رأيك أن نطلق على الشيخ المزعوم اسم: الشيخ بركات ؟
سعيد : طيب..كما تشاء ..
واتفق عادل وسعيد على إشاعة الأمر بأسلوب هادئ بين زملائهم المدرسين في المدرسة .. وعند الحلاقين - باعتبار أن دكان الحلاق من أهم وسائل الإعلان - ..
فلما وصلا القرية .. نزلا من الحافلة وتوجها إلى دكان الحلاق سليم .. فدخلا وحدثا الحلاق عن الأولياء .. وأن أحد الأولياء الصالحين مدفون منذ سنين .. وله مكانة عند الله .. وأن المستغيثين به قليل ..
فسألهم الحلاق عن مكان قبره .. فأخبراه أنه عند الدوار الذي في مدخل القرية ..
فقال الحلاق : الحمد لله الذي أكرمنا بولي في قريتنا .. كنت أتمنى هذا مند زمن .. هل من المعقول أن القرى المجاورة \" الجديدة \" و \" أم الكوسا \" عندهم عشرات الصالحين .. ونحن لا يوجد عندنا ولا مقام واحد ؟
قال عادل : الشيخ بركات يا حاج سليم كان من كبار الصالحين وكانت له مكانته عند الباب العالي ..
فصاح الحلاق : إذاً أنت تعرف كل هذه المعلومات عن الشيخ بركات قدس الله سره وتسكت !!
ثم انتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم ..
وبدأ الناس من كثرة حديثهم عنه .. يرونه في المنام..
وأخذوا يتحدثون في مجالسهم عن طوله الفارع.. وعمامته الضخمة .. وكراماته التي لا تحصى.. وكيف أن المئذنة كانت تنزل إليه إذا دخل وقت الأذان .. و.. و ..
وبدأ الحديث في المدرسة بين أخذ ورد بين الأساتذة جميعاً ..
فلما زاد الأمر عن حده .. لم يطق الأستاذ سعيد صبراً .. فصاح بهم ..
أيها العقلاء .. دعوكم من هذه الخرافات يا ناس ..
فقالوا بصوت واحد : خرافات .. تعنى أن الشيخ بركات غير(174/24)
موجود ؟
سعيد : طبعاً غير موجود .. وليس لقبره حقيقة .. وهذه مجرد إشاعة .. والدوار تراب فوق تراب .. لا شيخ ولا ولي ولا مقام ..
فانتفض المدرسون : ما الذي تقوله يا رجل ؟ وكيف تجرؤ أن تقول هذا عن الشيخ بركات ؟
الشيخ بركات هو الذي انفجر الينبوع الغربي في القرية على يديه .. وهو الذي ..
اضطرب سعيد من كثرة صياحهم .. لكنه قال : لا تعطوا عقولكم لغيركم .. أنتم عقلاء ومتعلمون .. وليس كلما حدثكم أحد عن قبر أو ضريح .. أو تلاعب الشيطان بعقولكم في النوم صدقتموه ..
عندها .. دخل مدير المدرسة في النقاش فقال : ولكن صفات الشيخ موجودة وأكيدة ..
ألم تقرأ ما كتبت عنه الجريدة البارحة ؟
فعجب سعيد .. وسأله : حتى الجريدة !! وماذا كتبت ؟
قال المدير : تحت عنوان \" اكتشاف مقام الشيخ بركات \"
كتبت تقول :
ولد الشيخ بركات - قدس الله سره - عام 1100هـ وهو من سلالة سيدنا خالد بن الوليد.. وقد درس على عدد كبير من العلماء منهم فلان وفلان.. ولقد اشترك مع الجيش التركي في إحدى معاركه مع الصليبيين ..
ولما اشتد القتال مع الصليبيين .. استبد به الحماس فنفخ عليهم من فمه .. فآثار رياحاً وزوبعة ضخمة .. رفعت جيش الصليبيين مسافة مائة متر في الهواء .. وسقطوا جميعاً مضرجين بدمائهم..
قال سعيد : ما شاء الله !! ومن أين جاء الصحفي بهذه المعلومات الدقيقة عن الشيخ بركات ؟!!!
قال المدير : هذه حقائق .. أتظنه جاء بها من بيت أبيه ؟!!.. هذا تاريخ ..
قال سعيد : ولكن هذه دعوى وتحتاج إلى دليل.. فالبينة على من ادعى.. وعلي وعليك التثبت من صحة أي دعوى .. وإلا ادعى كل واحد منا ما يحلو له .. قبور .. أولياء .. كرامات ..
ثم صاح بهم سعيد .. يا جماعة .. بصراحة : مقام الشيخ بركات .. قضية مختلقة .. وإشاعة ملفقة .. اخترعتها أنا والأستاذ عادل .. لنثبت بها غوغائية الناس وجهلهم .. وعدم تثبتهم .. وهذا الأستاذ عادل أمامكم فاسألوه إن شئتم ..
فالتفتوا إلى(174/25)
عادل وقالوا : الأستاذ عادل رجل يحب الجدل مثلك .. وكل قضية يطلب عليها دليل.. وهو حاقد على الأولياء والصالحين ..
ومهما ادعيت أنت وعادل .. فنحن مؤمنون بأن الشيخ بركات - قدس الله سره - موجود من زمن الأجداد .. والدنيا لا تخلو من الأولياء والصالحين ومقاماتهم .. نعوذ بالله من الضلال !!
فسكت عادل وسعيد .. وقرع الجرس وانصرف الأساتذة إلى الدروس..
وسار الأستاذ سعيد مذهولاً مما رأى يحدث نفسه : الشيخ بركات .. كرامات .. معقول ؟ غير معقول !..
أيمكن أن يكون كل هؤلاء مخطئين !! ؟ والجريدة كاذبة ؟
غريب ! والمشايخ بالأمس اجتمعوا في الدوار وأقاموا الحضرة والاحتفال للشيخ بركات ؟
لكن الشيخ بركات اخترعه الأستاذ عادل !! أيمكن أن يكون الخرف أصابهم جميعاً؟ غير ممكن !! غير ممكن !!
وبدأت تتسرب إلى ذهن سعيد فكرة جديدة .. ربما أن الشيخ بركات موجود فعلاً .. وربما أن الأستاذ عادل يعلم ذلك مسبقاً .. لكنه أوهمه أنه هو الذي اخترع وجود الشيخ بركات ..
فكر الأستاذ سعيد في ذلك .. لكنه استعاذ من الشيطان ليبعد هذه الفكرة من عقله .. لكنه لم يفلح ..
وفي اليوم التالي .. استمر النقاش في المدرسة على هذا المنوال .. وكان العام الدراسي في أواخره .. وانتهت المناقشات بذهاب كل أستاذ إلى بلده عندما حانت العطلة الصيفية ..
* * * * * * * * *(174/26)
وفي العام التالي ركب الأستاذ عادل والأستاذ سعيد الحافلة ذاهبين إلى المدرسة في القرية ..
وكان الأستاذ عادل قد نسي الموضوع تماماً .. مع أنه هو الذي اخترع القضية وأشاعها ..
لكنه انتبه إلى الأستاذ سعيد وهو يتمتم بلسانه بأذكار وأدعية عندما اقتربوا من دوار القرية ..
وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما وصلوا إلى الدوار .. فوجدوا بناءاً جميلاً لمقام الشيخ بركات ينتصب شامخاً على الدوار .. وبجانبه مسجد كبير فخم على الطراز المعماري التركي ..
ابتسم الأستاذ عادل وعلم أن الناس مساكين سفهاء .. وأن الشيطان قد أفلح في نشر الشرك بينهم ..
فالتفت إلى الأستاذ سعيد .. ليشاركه التبسم ..
لكنه فوجئ أن الأستاذ سعيد كان غائباً في ادعيته .. بل صاح سعيد بالسائق .. طالباً منه أن يتوقف قليلاً .. ثم رفع يديه وقرأ الفاتحة على روح الشيخ بركات ..( بتصرف من مقال في مجلة البيان العدد : ، للأستاذ : علي محمد ) .
* * * * * * * * *
ماذا يفعلون هناك ؟
يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار .. والسكر والقهوة والشاي .. وأنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال .. ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح.. وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضاً للولي أو الشيخ.. ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه.. ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه..
بل تجد أن هؤلاء المفتونين .. يحلفون بالأموات والمقبورين .. فإذا أراد أحدهم أن يحلف على شيء لم يقبلوا منه أن يحلف بالله .. بل لو حلف بالله وقال : والله العظيم .. أو أقسم بالله .. ما قبلوا منه ولا صدقوه .. فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه ..
وقد آل الأمر ببعض هؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجاً.. ووضعوا له مناسك.. حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه : (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام..
* * * * * * * * *(174/27)
بل إنهم مبالغة منهم في البدعة والشرك .. جعلوا لزيارة الضريح آداباً ..
فينبغي أن يخلع الزوار نعالهم الضريح .. احتراماً لصاحب الضريح ..
ويتم دخول القبة بإذن من حارسها..
كما يتولى خادم الضريح (تطويف) الزوار حول الضريح كما يطوف المسلمون حول الكعبة ..
ويتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى : فمنهم من يأخذ من ترابها.. ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها.. ثم يمسح على جسده وملابسه.
وإذا دخلت الضريح رأيت أعاجيب العبادة لغير الله ..
دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء ..
بل ترى المرأة ترفع طفلها .. وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها ..
ترى من يسجد وهو مستقبل القبر ..
إضافة إلى تقديم النذور عند هذه القباب ..
ومن الناس من يعكف عند القبر أياماً وشهوراً .. التماساً للشفاء أو لقضاء حاجة .. وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض ..
كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل إلى حد البكاء..
فصار هؤلاء المقبورون آلهة من دون الله .. والله لا يرضى أن يعبه نبي ولا ملك .. فكيف إذا عُبد معه غيرهم ..
* * * * * * * * *(174/28)
تشابهت قلوبهم ..
هؤلاء المقبورون لا يستطيعون نصر أنفسهم .. ولا نفعها ,, فضلاً عن نفع غيرهم ..
وما أقرب حال من يعظمونهم ويخافونهم .. من حال وفد ثقيف لما أسلموا فخافوا من صنم عندهم .. وهو لا يضر ولا ينفع ..
فقد ذكر موسى بن عقبة :
لما تمكن الإسلام في الناس .. بدأت القبائل ترسل وفودها لتعلن إسلامها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..
فأقبل بضعة عشر رجلاً من قبيلة ثقيف .. إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فأنزلهم المسجد ليسمعوا القرآن ..
فلما أرادوا إعلان إسلامهم .. نظر بعضهم إلى بعض فتذكروا صنمهم الذي يعبدون .. وكانوا يسمونه الربة ..
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم .. عن الربا والزنا والخمر فحرم عليهم ذلك كله ..
فأطاعوا .. ثم سألوه عن الربة .. ما هو صانع بها ؟
قال : اهدموها .. قالوا : هيهات !! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها .. قتلت أهلها .. ومن حولها ..
فقال عمر رضي الله عنه : ويحكم ما أجهلكم !! إنما الربة حجر ..
قالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب ..
ثم قالوا : يا رسول الله .. تولَّ أنت هدمها . أما نحن فانا لن نهدمها أبدا ..
فقال صلى الله عليه وسلم : سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها .. فاستأذنوه أن يرجعوا إلى قومهم ..
فدعوا قومهم إلى الإسلام .. فأسلموا ومكثوا أياماً .. وفي قلوبهم وجل من الصنم ..
فقدم عليهم خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في نفر من الصحابة ..
فأقبلوا إلى الصنم وقد اجتمع الرجال والنساء والصبيان ..
وهم يرتجفون .. وقد أيقنوا أنها لن تنهدم .. وسوف تقتل من يمسها ..
فأقبل عليها المغيرة بن شعبة .. فأخذ الفأس .. وقال لأصحابه :
والله لاضحكنكم من ثقيف .. فضربها بالفأس ..
ثم سقط يرفس برجله .. فصاح الناس .. وظنوا أن الصنم قتله ..
ثم قالوا لخالد بن الوليد ومن معه : من شاء منكم فليقترب ..
فلما رأى المغيرة فرحتهم بنصرة صنمهم .. قام فقال : والله يا معشر ثقيف .. إنما هي لكاع .. حجارة(174/29)
ومدر .. فاقبلوا عافية الله واعبدوه .. ثم ضربها فكسرها .. ثم علا الصحابة فوقها فهدموها حجراً حجراً ..
واليوم .. جميع هذه الأضرحة والقبور .. لو جاءها موحّد فهدما على رؤوس أصحابها لما استطاعت الانتقام لنفسها ..
* * * * * * * * *
كيف نشأ الشرك ..؟!
لو تأملت كيف نشأ الشرك على الأرض .. لوجدت أنه الغلو في الصالحين ورفعهم فوق منزلتهم ..
ففي قوم نوح ..كان الناس موحدين ..يعبدون الله وحده لا شريك له .. ولم يكن شرك على وجه الأرض أبداً
وكان فيهم خمسة رجال صالحين .. هم وُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر .. وكانوا يتعبدون .. ويعلمون الننس الدين .. فلما ماتوا .. حزن عليهم قومهم .. وقالوا : ذهب الذين كانوا يذكروننا بفضل العبادة .. ويأمروننا بطاعة الله ..
فوسوس الشيطان لهم .. قائلاً : لو صوّرتم صورهم .. على شكل تماثيل .. ونصبتموها عند مساجدكم .. فإذا رأيتموهم ذكرتم العبادة فنشطتم لها ..
فأطاعوه .. فاتخذوا الأصنام رموزاً .. لتذكرهم بالعبادة والصلاح..!..
فكانوا فعلاً .. يرون هذه الأصنام فيتذكرون العبادة .. ومضت السنين .. وذهب هذا الجيل .. ونشأ أولادهم من بعدهم .. وكبروا وهم يرون آباءهم يثنون على هذه التماثيل والأصنام .. ويعظمونها .. لأنها تذكرهم بالصالحين ..
ثم نشأ قوم بعدهم .. فقال لهم إبليس: ( إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها .. وكانوا إذا أصابهم قحط أو حاجة لجئوا إليها ) فاعبدوها..
فعبدوها .. حتى بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام .. فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .. فما آمن معه إلا قليل .. فغضب الله على الكافرين .. فأهلكهم بالطوفان ..
هذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام ..
فكيف نشأ الشرك في قوم إبراهيم ؟ كانوا يعبدون الكواكب والنجوم .. ويرون أنها تتحكم في الأكوان .. تكشف الكربات .. وتجيب الدعوات .. وتهب الحاجات ..
يعتقدون أن هذه الكواكب ( وسطاء ) بين الله وخلقه .. وأنهم موكول إليهم تصريف هذا(174/30)
العالم ..
ثم لم يلبثوا أن صنعوا أصناماً .. على صور الكواكب والملائكة ..
وكان أبوه يصنع الأصنام فيعطيها أولاده فيبييعونها .. وكان يلزم إبراهيم للخروج لبيع الأصنام .. فكان إبراهيم ينادي عليها : من يشتري ما يضره ولا ينفعه ؟
فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم .. ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي ..
ثم دعا أباه وقومه إلى نبذ هذه الأصنام .. فلم يستجيبوا له ..
فحطم أصنامهم .. فحاولوا إحراقه فأنجاه الله من النار ..
الوارثون للشرك ..؟؟
هذا حال قوم نوح وإبراهيم ..
واليوم نأتي إلى القبوريين فنسأل : كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح ؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك ؟
تبدأ العلاقة بتقديس الأشخاص .. ذوي الصلاح والتقوى ..
ومن ثم : تستحب زيارة تلك البقاع .. ليس لتذكر الموت والآخرة .. بل لتذكر الشيخ الصالح والاعتبار به .. ثم دعاء الله عندها رجاء الإجابة .. ثم لمس القبر وتقبيله .. والتمسح به ..
ثم اتخاذه ( واسطة ) و ( وسيلة ) للاستشفاع به عند الله .. ويزعمون أن صاحب الضريح طاهر مكرم .. مقرب معظم .. له جاه عند الله .. بينما صاحب الحاجة متلطخ بالذنوب .. لا يصلح أن يدعو الله مباشرة .. فلا بدَّ أن يجعل صاحب القبر واسطة بينه وبين الله !!
ثم يقذف الشيطان في قلوب الزائرين .. يقول لهم :
ما دام هذا المقبور مكرماً فقد يعطيه الله تصرفاً وقدرة ..
فيبدأ الزائر يعظم المقبور في نفسه .. ويهابه .. ويرجوه ..
ثم بعد ذلك يدعوه .. ويستغيث به .. ثم يبني عليه مسجداً .. أو قبة وضريحاً ..
ويوقد فيه القناديل .. ويعلق عليه الستور .. ويعبده بالسجود له .. والطواف به .. وتقبيله واستلامه.. والحج إليه.. والذبح عنده.. ثم ينسجون حوله الكرامات .. والقصص والحكايات .. فهذه امرأة دعته فرزقت زوجاً .. والثانية أنجبت ولداً .. وهكذا ..
وبعضهم يردد قائلاً .. من زار الأعتاب ما خاب .. أي: من زار الأضرحة والأعتاب ( المقدسة ) .. قضيت حاجته ونال(174/31)
مراده..
بل سئل أحد التجار: لماذا تقسم للزبائن بضريح الشيخ .. ولا تقسم بالله ؟
فقال : إنهم هنا لا يرضون بالقسم باسم الله.. ولا يرضون إلا بالقسم بضريح سيدنا فلان ..
فانظر كيف صار تعظيمهم للضريح أكبر من تعظيمهم لله !!
وما دام الأمر كذلك .. فما الفرق بين كوم تراب .. وحجارة وأخشاب .. أو ضريح ومقام .. أو صور وأصنام .. أو أي شيء من المخلوقات؟.. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!.. واعتقاد أنه يضر وينفع .. ويغني ويشفع ..
وما أقرب حال هؤلاء بما حكاه أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه .. لما قال :
كنا في الجاهلية نعبد الأصنام .. والأحجار والأشجار ..
فكان أحدنا يعبد حجراً .. فإذا رأى حجراً آخر أمثل منه .. ألقى حجره وعبد الآخر ..
فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..
فخرجنا مرة في سفر .. ومعنا إلهنا الذي نعبده .. حجر قد جعلناه في خُرج .. فكنا إذا أشعلنا ناراً لطعام فلم نجد حجراً ثالثاً للقدر .. وضعنا إلهنا .. وقلنا : هو أدفأ له إذا اقترب من النار ..
فنزلنا منزلاً يوماً .. وأخرجنا الحجر من الخُرج ..فلما ارتحلنا صاح صائح من قومي فقال : ألا إن ربكم قد ضل فالتمسوه ..
فركبنا كل بعير صعب وذلول نبحث عن ربنا ..
فبينما نحن نبحث إذ سمعت صائحاً آخر من قومي يقول : ألا إني قد وجدت ربكم .. أو رباً يشبهه ..
فرجعت إلى موضع رحالنا .. فرأيت قومي ساجدين عند صنم .. فأتينا فنحرنا عنده الإبل ..
فاعجب من جهلهم في جاهلية ما قبل الإسلام .. واعجب أكثر من جاهليتهم اليوم ..
بالله عليك ما الفرق بين يعبد حجراً .. ومن يعبد قبراً ..
بين من ينزل حاجاته بأصنام .. ومن ينزلها برفات وعظام ..
بين من يتعبد لقبور الأولياء .. ومن يتعبد لطين وماء ..
نعم كل هؤلاء يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..
وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا شك فيها ولا خفاء ..(174/32)
* * * * * * * * *
أربعة اعتراضات ..
الأول :
قد يقول بعض المتعلقين بالقبور .. الداعين لها .. أنتم تشددون علينا .. فنحن لا نعبد الأموات .. لكن هؤلاء المقبورين أولياء صالحون .. لهم عند الله جاه ومكان .. فهم يشفعون لنا عند الله ..
فنقول : هذا هو شرك كفار قريش في عبادتهم للأصنام ..
فمشركو العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية .. وأن الخالق الرازق المدبر هو الله وحده لا شريك له .. كما قال تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) [يونس: 31].
ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم .. واستحل دماءهم .. وأموالهم .. لأنهم لم يفردوا الله عز وجل بجميع أنواع العبادة ..
والآيات القرآنية .. والأحاديث النبوية .. التي حذرت من عبادة غير الله .. بينت أن الشرك بالله هو أن يجعل العبد لله نداً شريكاً في العبادة سواءً كان صنماً أو حجراً .. أو نبياً أو ولياً أو قبراً ..
نعم الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به الله سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن .. أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر والمشهد ..
ولو ظهرت علينا اليوم فرقة جديدة من الفرق .. وادعت أن لله صاحبة وولداً لصار حكمهم حكم النصارى .. وانطبقت عليهم الآيات التي نزلت في النصارى .. وإن لم يسموا أنفسهم نصارى .. لأن حكمهما واحد .. فكذلك عباد القبور اليوم ..
* * * * * * * * *(174/33)
الثاني ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور .. ويقولون :
نحن نتقرب إلى المقبورين .. من الأولياء والصالحين .. من أجل طلب الشفاعة.. فهؤلاء الموتى قوم صالحون كانوا في الدنيا صوامين في النهار .. بكائين في الأسحار .. فلهم جاه وقدر عند الله .. نحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ..
فنقول لهم .. يا قوم .. ويحكم أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
إن الله قد سمَّى اتخاذ الشفعاء شركاً .. فقال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [يونس: 18].
ونقول لهم أيضاً .. نحن نؤمن معكم .. بأن الله تعالى أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة .. وهم أقرب الناس إليه .. لكن ربنا نهانا عن سؤالهم ودعائهم ..
نعم .. الأنبياء والأولياء والشهداء .. لهم شفاعة عند الله .. ولكنها ليست بأيديهم يشفعون لمن شاؤوا .. ويتركون من شاؤوا .. كلا .. بل لا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لهم .. ويرضى عن المشفوع ..
* * * * * * * * *
الثالث ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور فيقولون ..
إن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون على القبور.. ويتخذون المشاهد والقباب.. ويتحرون الدعاء عندها .. فهل الأمة كلها على باطل .. وأنتم على الحق ..
فنقول لهم : أكثر هذه المشاهد والأضرحة مكذوبة .. لا تصح نسبتها إلى أصحابها.. كما تقدم ..
وأيضاً .. فإن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها .. من البدع المنكرة ..
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما صنعوا ) متفق عليه ..
* * * * * * * * *(174/34)
الرابع ..
وهنا شبهة .. قد يقذفها الشيطان في بعض القلوب ..
وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير.. ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه.. كما يحتجون بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وسلم ..
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن حيث مات .. والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاءت بذلك الأحاديث ..
فدفن في حجرة عائشة رضي الله عنها .. فلم يدفن في المسجد .. وإنما دفن في الحجرة .. هذا في أول الأمر ..
والصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً .. كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .. قالت : فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) أخرجه البخاري ومسلم ..
نعم دفن أول الأمر في بيت عائشة .. وكان بيت عائشة ملاصقاً للمسجد من الجهة الشرقية ..
ومضت السنوات .. والناس يكثرون .. والصحابة يوسعون المسجد من جميع الجهات .. إلا من جهة القبر ..
وسعوه من جهة الغرب والشمال والجنوب .. إلا الجهة الشرقية فلم يوسعوه منها لأن القبر يحجزهم عن ذلك ..
وفي سنة ثمان وثمانين .. أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسبع وسبعين سنة .. وبعدما مات عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة .. أمر الخليفة الوليدُ بن عبد الملك بهدم المسجد النبوي لتوسعته .. وأمر بتوسعته من جميع الجهات .. وإضافة جميع حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .. عندها وسع من الجهة الشرقية .. وأدخلت فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة رضي الله عنها .. فصار القبر بذلك في المسجد .. ( انظر: الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 ـ 323 ، تاريخ ابن كثير، 9/74 ) ..
فهذه قصة القبر والمسجد ..
إذن .. لا يصح لأحد أبداً .. أن يحتج بما وقع بعد الصحابة رضي الله عنهم ..(174/35)
لأنه مخالف للأحاديث الثابتة .. وما فهمه سلف الأمة.. وقد أخطأ الوليد بن عبد الملك – عفا الله عنه - في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد.. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور .. وكان الأصل أن يوسَّعَ المسجد من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية ..
وكذلك القبة التي فوق قبره صلى الله عليه وسلم .. فإنها ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم .. ولا من الصحابة رضي الله عنهم ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته.. بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين .. وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ..(انظر: تحذير الساجد للألباني، ص 93، وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق ، ص 106 ، تطهير الاعتقاد، ص 43 ) .
* * * * * * * * *(174/36)
نداء .. نداء ..
أقول للمتعلقين بالمقبورين .. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
بالله عليكم .. هل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً.. أو يرجون بشراً ؟ أو يتوسلون بضريح ومقام ؟ ويغفلون عن الملك العلام ؟
وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته.. يسأله قضاء حاجة من الحاجات .. أو تفريج كربة من الكربات ؟
وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين.. والصحابة والتابعين ؟
وانظر إلى الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه في المدينة النبوية .. لما أجدبت الأرض .. وانقطع القطر .. وشكوا ذلك إلى عمر رضي الله عنه .. خرج بهم ثم صلى صلاة الاستسقاء .. ثم رفع يديه وقال :
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بدعاء نبينا لنا فأسقيتنا .. اللهم وإنا نتوسل إليك بدعاء عم نبيك صلى الله عليه وسلم .. ثم التفت إلى العباس رضي الله عنه وقال : قم يا عباس فادعُ الله أن يسقينا .. فقام العباس ودعا الله تعالى .. وأمن الناس على دعائه وبكوا وابتهلوا .. حتى اجتمع فوقهم السحاب وأمطروا ..
فانظر إلى الصحابة الكرام .. وهم أكثر منا فقهاً .. وأعظم محبة للنبي صلى الله عليه وسلم .. لما أصابتهم الحاجات .. ونزلت بهم الكربات .. ما ذهبوا إلى قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم .. وقالوا : يا رسول الله !! اشفع لنا عند الله .. كلا .. فهم يعلمون أن دعاء الميت لا يجوز وإن كان نبياً مرسلاً .. أو ولياً مقرباً ..
فهم إذا أرادوا الحاجات .. التمسوا كشف الكربات بالدعوات الصالحات ..
فآهٍ ثم آهٍ .. لمساكين اليوم يزدحمون على عظام ورفات .. يلتمسون منها المغفرة والرحمات ..
يا قومنا .. ويحكم ..
هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل .. نهى عنها عبثاً ولعباً .. أم أنه خاف أن تعيد للمسلمين جاهليتهم(174/37)
الأولى ؟ بعبادة الصور والتماثيل ؟
وأي فرق بين من يعظم الصور والتماثيل .. وبين من يعظم الأضرحة والقبور .. ما دام كل منها يجر إلى الشرك.. ويفسد عقيدة التوحيد ؟
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك .. الحلف بغير الله :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام .. لأن الحلف تعظيم لا يصح إلا لله ..
وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً : \"من حلف بغير الله فقد أشرك\" ..
وقال صلى الله عليه وسلم : من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ..
فإذا حلف بغير الله .. وكان الحالف يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله فهو شرك أكبر .. وإن اعتقد أن المحلوف به أقل من الله .. فهو شرك أصغر ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله ، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
ومن كان الحلف بغير الله يجرى على لسانه .. فيجب أن يجاهد نفسه على تركه ..
وبعضهم يحلف بالله كاذباً .. ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً ..
ومن شرك الألفاظ الذي يجري على ألسنة بعض الناس ..
كقول بعضهم : ما شاء الله وشئت .. أو : لولا الله وفلان .. أو : مالي إلا الله وأنت .. وهذا من بركات الله وبركاتك ..
والصواب أن يقول : ما شاء الله ثم فلان .. ولولا الله ثم فلان ..
* * * * * * * * *(174/38)
ومن وسائل الشرك :
تعليق التمائم والحروز والأوراق والحجب .. خوفاً من العين وغيرها .. فإذا اعتقد أن هذه مجرد أسباب وطرق لرفع البلاء أو دفعه .. فهذا شرك أصغر ..
أما إن اعتقد أنها تتحكم وتدفع البلاء بنفسها .. فهذا شرك أكبر لأنه تعلق بغير الله .. وجعل لغير الله تصرفاً في الكون مع الله ..
والتمائم نوعان :
من القرآن : كمن يعلق قماشاً أو جلداً .. أو قطعة ذهب .. أو غيرها قد كتب عليه آيات من القرآن .. وهذه لا تجوز .. لأنها لم يرد فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. وقد تجر إلى تعليق غيرها ..
والنوع الثاني : من غير القرآن .. كمن يعلق ما كتب عليه أسماء الجن .. ورموز السحرة .. وهذا من وسائل الشرك عياذاً بالله ..
قال ابن مسعود : من قطع تميمة من إنسان .. فكأنما أعتق رقبة ..
ورأى حذيفة بن اليمان رجلاً قد علق في يده حلقة من صفر ( حديد ) .. فقال له : ما هذا ؟
قال : من الواهنة .. أي خوف العين ..
فقال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً .. لو متَّ وهي عليك ما أفلحت أبداً ..؟؟؟
* * * * * * * * *
وكذلك الرقى .. وهي الأذكار والأوراد التي تقرأ على المريض ..
فالجائز منها ما كان بكلام الله أو بأسماء الله وصفاته .. مثل أن يقرأ الفاتحة والمعوذات على المريض .. أو يدعو بشيء مما ورد في السنة النبوية ..
أما ترديد أسماء الجن ..أو حتى ترديد أسماء الملائكة والأنبياء والصالحين ..فهذا دعاء لغير الله وهو شرك أكبر..
وكيفيتها : أن يقرأ وينفث عل المريض .. أو يقرأ في ماء ويسقاه المريض ..
* * * * * * * * *(174/39)
ومن الشرك : ادعاء علم الغيب ..
فلا يعلم الغيب إلا الله وحده.. قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ..
فلا يمكن لأحد أبداً .. أبداً .. أن يعلم الغيب .. لا ملك مقرب .. ولا نبي مرسل ..ولا ولي متعبد .. ولا إمام متبع .. كلا .. كلا .. لا يعلم الغيب إلا الله ..
إلا أن يكون رسولاً يوحى الله إليه شيئاً من المغيبات .. كما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكائد الكفار له .. وأشراط الساعة .. ونحو ذلك ..
فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل .. كقراءة الكف أو الفنجان .. أو النظر في النجوم .. أو الكهانة أو السحر ..فهو كاذب كافر ..
وما يحصل من المشعوذين والدجالين من الإخبار بالمفقودات أو الغائبات .. وعن أسباب بعض الأمراض .. إنما هو باستخدام الجن والشياطين ..
وقد يذهب بعض ضعاف الإيمان إلى المنجمين فيسألهم عن مستقبله وعن زواجه .. وهذا حرام .. ومن ادعى علم الغيب أو صدق من يدعيه فهو مشرك كافر ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *(174/40)
ومن وسائل الشرك : السحر والكهانة والعرافة ..
والسحر هو : عزائم وكلام وأدوية وتدخينات .. وله حقيقة .. وقد يؤثر في القلوب والأبدان .. فيمرض .. ويقتل .. ويفرق بين المرء وزوجه ..
وهو من أعظم الذنوب : قال صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هي ؟ قال : الإشراك بالله والسحر )..
فالسحر فيه استخدام الشياطين .. والتعلق بهم .. والتقرب إليهم بما يحبونه .. ليقوموا بخدمة الساحر .. وفيه أيضاً ادعاء علم الغيب .. وهذا كفر وضلال ..
لذا قال تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ..
وحكم الساحر القتل .. كما فعل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ..
والعجب أننا أصبحنا في زمان .. تساهل الناس فيه بالسحر .. وربما عدوا ذلك فناً من الفنون التي يفتخرون بها .. ويمنحون الجوائز لأصحابها ..
ويقيمون للسحرة الحفلات..والمسابقات..ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين ..وهذا من التهاون بالعقيدة
وما أجمل أن يصنع بالساحر ما صنعه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ..
فإنه دخل على أحد الخلفاء فرأى بين يديه ساحراً .. يلعب بسيف في يده .. ويخيل للناس أنه يضرب يقطع رأس الرجل ثم يعيده ..
فجاء أبو ذر من اليوم التالي .. وقد لبس رداءه .. وخبأ سيفه تحته .. ثم دخل على الخليفة .. فإذا الساحر بين يديه يلعب بالسيف .. ويسحر أمام الناس .. وهم في عجب وإعجاب ..
فاقترب منه أبو ذر .. ثم أخرج سيفه فجأة ورفع وهوى به على رقبة هذا الساحر .. فأطار رأسه ..
فسقط الساحر صريعاً .. وقال أبو ذر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حد الساحر ضربة بالسيف ..
ثم التفت إليه أبو ذر وقال : أحيي نفسك .. أحيي نفسك .. ؟؟؟
* * * * * * * * *(174/41)
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ومما يجب التنبه له : أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس .. بحيث يظهرون بمظهر الأطباء .. فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله .. بأن يذبحوا خروفاً صفته كذا وكذا .. أو دجاجة ..
وأحياناً يكتبون لهم الطلاسم الشركية .. والتعاويذ الشيطانية ..
بصفة حروز يعلقونها في رقابهم .. أو يضعونها في صناديقهم .. أو في بيوتهم ..
وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات .. كأن يضرب نفسه بالسلاح .. أو يضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه ..
أو غير ذلك من الشعوذات .. التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان .. يجريه على أيديهم ..
وشياطينهم تخنس عند ذكر الله ..
كما ذكر أحد الشباب أنه سافر يوماً إلى إحدى الدول .. ودخل أحد مسارحها .. وأخذ ينظر إلى ما يسمى السيرك ..
قال : وبينما نحن ننظر إلى الألعاب المتنوعة .. فإذا بامرأة تأتي ثم تمشي على حبل بقدرة عجيبة .. ثم قفزت على الجدار .. ومشت عليه كما تمشي البعوضة .. والناس قد أخذ منهم العجب منها كل مأخذ .. فقلت في نفسي .. لا يمكن أن يكون ما تفعله حركات بهلوانية تدربت عليها .. صحيح أنا عاص .. لكني موحّد .. لا أرضى بمثل هذا فتحيرت ماذا أفعل ؟
فتذكرت إني حضرت خطبة جمعة عن السحر والسحرة .. وكان مما ذكر الشيخ أن السحرة يستعملون الشياطين .. وأن الشياطين يبطل كيدها .. وتفنى قوتها إذا ذكر الله ..
فقمت من على كرسيي .. ومضيت أمشي متجهاً إلى خشبة المسرح .. والناس يصفقون معجبين .. ويظنوني لفرط إعجابي .. أقترب من الساحرة ..
فلما وصلت إلى المسرح .. وصرت قريباً من هذه الساحرة .. وجهت نظري إليها ثم قرأت آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .. ) .. فبدأت المرأة تضطرب .. وتضطرب .. فوالله ما ختمت الآية إلا وقعت على الأرض ..(174/42)
وأخذت تنتفض .. وقام الناس وفزعوا .. وحملوها إلى المستشفى ..
وصدق الله إذ قال ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) .. وقال : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : تعظيم التماثيل والنصب التذكارية ..
والتماثيل جمع تمثال .. وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان ..
والنصب التذكارية : تماثيل يقيمونها على صور الزعماء والعظماء .. وينصبونها في الميادين والحدائق ونحوها ..
وما وقع الشرك في الأرض إلا بسبب هذه التماثيل ..
أما ترى قوم نوح لما صنعوا تماثيل لرجال منهم .. لم يمض عليهم زمن حتى عبدوهم من دون الله ..
لذا نهى صلى الله عليه وسلم عن نصب التماثيل .. وعن تعليق الصور .. لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ..
بل لعن صلى الله عليه وسلم المصورين .. وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة .. وأمر بطمس الصور .. وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : التوسل البدعي :
كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم .. أو بذوات المخلوقين أو حقهم .. أو بطلب الدعاء والشفاعة من الأموات .. فلا يجوز أن يقول في دعائه : اللهم إني اسألك بجاه نبيك .. أو بحق فلان .. أو بروح الميت فلان .. كل هذا لا يجوز ..
والتوسل الجائز المشروع .. هو التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته .. كأن يقول : يا رحيم ارحمني .. يا غفور اغفر لي ..
وكذلك التوسل إلى الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة .. كأن يقول اللهم بإيماني بك وتصديقي لرسلك .. أدخلني جنتك ..
والتوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء .. كأن يطلب من عبد صالح حي .. أن يدعوا الله له .. فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب .. أما طلب الدعاء من ميت في قبره .. فلا يجوز ..
* * * * * * * * *(174/43)
فكل ما سبق هو من حقوق الله على عباده .. لا يجوز صرفه لغير الله تعالى ..
ومن الإيمان بالله أيضاً :
اعتقاد أن الله رب كل شيء وأنه المستحق للعبادة ..
وله الأسماء الحسنى والصفات العلى .. { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } ..
ونؤمن بأن الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء .. كما قال : { وكلم الله موسى تكليما } .. والقران وجميع الكتب السماوية .. هي كلام الله ..
ونؤمن بأن الله عالٍ على خلقه بذاته وصفاته ..
وبأنه خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .. واستواؤه على العرش يليق بجلاله وعظمته لا يعلم كيفيته إلا هو عز وجل ..
ومع أنه عالٍ على عرشه .. إلا أنه يعلم أحوال خلقه .. ويسمع أقوالهم .. ويرى أفعالهم .. ويدبر أمورهم ..
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة .. قال تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ..
وكل ما أخبر الله به في كتابه وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات ربنا فنحن مؤمنون بها .. مصدقون بحقيقتها .. على الوجه اللائق به عز وجل ..
* * * * * * * * *(174/44)
والإيمان بالملائكة :
أن الله خلقهم من نور .. ووكلهم بأعمال يقومون بها ..
وهم عباد لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون .. هم أكثر منا عدداً .. وأكثر خوفاً وتعبداً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ..
وصحّ عند أبي داود والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
ولبعض الملائكة أعمال خاصة .. فجبريل موكل بالوحي إلى الأنبياء .
وميكائيل بالمطر والنبات .. وإسرافيل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة ..
وملك الموت موكل بقبض الأرواح .. ومالك خازن النار ..
ولله ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام .. وآخرون موكلون بحفظ بني آدم .. ومنهم موكلون بكتابة أعمال بني آدم .. وملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره .. وغير ذلك ..
* * * * * * * * *(174/45)
هؤلاء هم الملائكة .. وهم عالم غيبي .. نؤمن بوجودهم وإن كنا لا نراهم ..
وهناك مخلوقات أخرى غائبة عنا أيضاً .. وهم :
الجن .. وهم مخلوقون من نار .. وخلقهم الله قبل خلق الإنس .. كما قال تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ } .
وهم مكلفون مأمورون بالعبادة .. فمنهم المؤمن ومنهم الكافر .. ومنهم المطيع .. ومنهم العاصي ..
وهم يعتدون على الإنس أحياناً .. كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً ..
ومن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان (أي يمسح فرجه بعد البول والغائط ) بعظم أو روث .. ففي مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العظم والروث : ( لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن ) ..
ومن عدوان الجن على الإنس .. تسلطهم بالوسوسة .. وتخويفهم .. وصرعهم ..
ويمكن للمسلم أن يتحصن منهم بالأذكار الشرعية .. كقراءة آية الكرسي .. والمعوذات .. والأذكار الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. أما التقرب إليهم بالذبح لهم ودعائهم لاتقاء شرهم فهذا من صور الشرك ..
ولا شك أن الجن والشياطين ضعفاء .. وكيدهم ضعيف .. ولكن الإنسان إذا كثرت معاصيه .. وصار ينظر إلى الحرام .. ويسمع المعازف .. وضعف إيمانه .. وقلَّ تعلقه بربه .. وغفل عن ذكر الله .. وعن التحصن بالأذكار الشرعية استطاعوا التسلط عليه ..
قال تعالى عن الشيطان وجنده : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ..
* * * * * * * * *(174/46)
والإيمان بالكتب :
وهي الكتب التي أنزلها على أنبيائه .. هداية للخلق .. وهي كثيرة .. نؤمن بها كلها ..
وقد أخبرنا الله بأربعة منها ..
فالقرآن أنزله الله على محمد .. والتوراة على موسى .. والإنجيل على عيسى .. والزبور على داود .. عليهم الصلاة والسلام ..
وكلها كلام الله تعالى .. والقرآن هو آخرها وأعظمها .. جمع الله فيه ما في الكتب السابقة .. قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالأنبياء والرسل .. عليهم السلام ..
فقد بعث الله في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له .. وأول الرسل : نوح وأخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام ..
والرسل عددهم كثير .. منهم من أخبرنا الله باسمه .. وقص علينا خبره .. ومنهم من لم يخبرنا به ..فنؤمن بهم كلهم ..قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}..
وهم بشر مخلوقون لا فرق بينهم وبين الناس إلا أنهم يوحى إليهم..{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ }..
نعم .. هم بشر يأكلون ويشربون .. ويمرضون ويموتون ..
ويجب الإيمان بهم جميعاً فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع ..
قال الله عن قوم نوح : { كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } .. وقال عن قوم هود ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ) .. مع أن كل أمة لم تكذب إلا نبيها .. ولكن لأن رسالة جميع الأنبياء واحدة فمن كذب بواحد منهم فقد كذب بالجميع ..
وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح بن مريم ..
لأنه بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم باتباعه .. فلم يطيعوه .. وقل مثل ذلك في اليهود .. وغيرهم ..
* * * * * * * * *(174/47)
والإيمان باليوم الآخر ..
وهو التصديق بما ذكر الله في كتابه .. وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم .. بما يقع بعد الموت ..
فتؤمن أولاً بعذاب القبر ونعيمه .. وهو ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } .. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم وغيره أنها متواترة .. وفي السنة أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
منها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) ..
ومنها ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
وعذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل ..
* * * * * * * * *(174/48)
ومن الإيمان باليوم الآخر ..
الإيمان بالبعث وإحياء الموتى حين ينفخ في الصور .. فيقومون حفاة عراة غرلاً ( غير مختوننين ) .. كما قال تعالى : { ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ..
والإيمان بالحساب والجزاء .. قال الله : { إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ..
والإيمان بالجنة والنار .. فالجنة .. دار المتقين .. فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
والنار هي دار العذاب .. فيها من العذاب والنكال مالا يخطر على البال ..
وتؤمن كذلك بأشراط الساعة الصغرى .. والكبرى .. كخروج الدجال .. ونزول عيسى عليه السلام من السماء .. وطلوع الشمس من مغربها .. وخروج دابة الأرض من موضعها .. وغير ذلك ..
ونؤمن .. بالشفاعة .. والحوض والميزان .. ورؤية الله تعالى .. وغير ذلك من أمور الآخرة ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالقدر خيره وشره :
فتؤمن بأن الله قبل أن يخلق الخلق .. علم كل شيء جملة و تفصيلاً .. وكتبه في اللوح المحفوظ .. وخلق جميع الكائنات { اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ..
ولا يحدث في هذا الكون شيء إلا وقد علم الله حدوثه .. وأذن به..قال الله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
وكل إنسان له مشيئة وقدرة .. يختار بهما فعل الشيء أو تركه .. فهو إن أراد توضأ وصلى .. وإن أراد ضل وزنى .. لذا هو محاسب ومجازى .. ولا يجوز أن يحتج بالقدر على ترك الواجبات .. أو فعل المحرمات ..
* * * * * * * * *(174/49)
ومما يقدح في الإيمان ..
الاستهزاء بالدين .. فهو ردة عن الإسلام .. قال الله :
{ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ..
ومثل هذا ما يقوله بعضهم : إن الإسلام دين قديم لا يصلح لعصرنا .. أو إنه تأخر ورجعية .. أو يقول : إن القوانين الوضعية أحسن من الإسلام .. أو يقول في من يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة : هذا متطرف .. أو هذا وهابي .. أو يفرق المسلمين ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان .. الحكم بغير ما أنزل الله ..
فمن مقتضى الإيمان بالله الحكم بشرعه ..
في الأقوال والأفعال .. والخصومات والأموال .. وسائر الحقوق ..
فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله .. ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله .. ولا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله .. فقال تعالى :
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .. وقال : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ..
فلا بد من الحكم بما أنزل الله .. في كل شيء في البيع والشراء .. والسرقة .. والزنا .. وغيرها .. وليس في أحكام الطلاق والزواج والأحوال الشخصية فقط ..
ومن شرع قوانين للناس .. وزعم أن هذه القوانين أنسب وأفضل من حكم الله فهو كافر .. نعم كافر ..
قال الله : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .. وقال الله : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ..
وفي الصحيح أنه لما أنزل الله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } .. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : يا رسول الله .. لسنا نعبدهم .. قال : ( أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه .. ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ) .. قال : بلى . قال صلى الله عليه وسلم : \"فتلك عبادتهم \" ..(174/50)
* * * * * * * * *
ومن القوادح في الإيمان .. موالاة الكفار .. أو معاداة المؤمنين ..
ولا شك .. أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين .. وأن يحذروا مودتهم .. كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } ..
بل حرم الله محبة الآباء والإخوان .. إن كانوا كفاراً .. قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ..
والآيات في هذا المعنى كثيرة .. تدل كلها على وجوب بغض الكفار ومعاداتهم .. لكفرهم بالله .. وعدائهم لدينه .. ومعاداتهم لأوليائه .. وكيدهم للإسلام وأهله ..
كما قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ..
وواقع اليهود والنصارى اليوم لا يخفى .. في كيدهم للإسلام .. ومحاربة أهله والتنفير منه .. وإنفاق الأموال الضخمة للصد عن سبيله ..
ومن صور موالاة بعض المسلمين للكافرين اليوم : مخالطتهم وموادتهم من غير قصد(174/51)
الدعوة ، أو مساكنتهم في بلادهم ، أو السفر إليهم من غير ضرورة .. والتشبه بهم في اللباس ، أو المظهر ، أو طريقة الحياة .. أو التكلم بلغتهم من غير حاجة ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان ..
تنقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. أو سبهم .. أو تنقص أهل بيته الكرام ..
فنحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا نغلوا في حب أحد منهم .. لا في علي رضي الله عنه .. ولا في غيره ..
ولا نتبرأ من أحد منهم .. ونبغض من يبغضهم ..
ولا نذكرهم إلا بخير .. قال تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ..
ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم من خلافات أو حروب .. الإمساك عن ذلك كله .. فهم بشر يخطئون ويصيبون .. وكما عصم الله سيوفنا عن الدخول في تلك الفتن فلنعصم منها ألسنتنا .. ونقول : هم بشر لهم رب يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم ..
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر .. تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة .. ثم لعمر .. ثم لعثمان .. ثم لعلي رضي الله عنهم ..
* * * * * * * * *(174/52)
ومن القوادح في الإيمان ..
ما استحدثه بعض المسلمين من بدع يزعمون أنها تقربهم إلى الله ..
كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. والقيام له في أثناء ذلك .. وإلقاء السلام عليه ..
أو الاحتفال بمولد غيره من الأولياء والصالحين ..
وذلك كله من البدع الدين .. لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا الصحابة رضي الله عنهم ..
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود عليه ..
وقال : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ..
وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ..
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله لم يكمل الدين .. حتى جاء المتأخرون فأحدثوا عبادات زعموا أنها تقربهم إلى الله .. وهذا اعتراض على الله ورسوله ..
فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ..
وقد صرح العلماء بإنكار الموالد .. لأنها عبادة مبتدعة محدثة ..
خاصة إذا وقع فيها غلو في الرسول صلى الله عليه وسلم .. واختلاط النساء بالرجال .. أو استعمال آلات الملاهي ..
وقد يقع فيها الشرك الأكبر بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم .. والاستغاثة به .. وطلبه المدد .. واعتقاد أنه يعلم الغيب .. ونحو ذلك من الأمور الكفرية ..
كما يردد بعضهم قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي *** صفحا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ومثل هذه الأوصاف : علم الغيب .. والمغفرة يوم القيامة .. والتحكم في الدنيا والآخرة .. لا تصح إلا لمن بيده ملكوت السموات والأرض ..
وهذه تقع كثيراً .. في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. أو مولد غيره من الأولياء ..
فإن قيل .. إن هذه الموالد يذكر فيها الرسول .. وتقرأ سيرته(174/53)
.. قلنا ..
هذا كلام حسن .. ولكن يمكن أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته من غير تحديد موعد معين كل سنة .. فيذكر على المنابر .. أو في المحاضرات .. أو المجالس العامة .. وغيرها ..
وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ..
وقد رددنا الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله فوجدناه يأمرنا باتباع نبينا .. ويخبرنا بأن الدين كامل ..
ورددنا الاحتفال بالموالد إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه .. فعلمنا أنه ليس من الدين .. بل هو من البدع المحدثة ..
بل هو من التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم ..
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس .. قال تعالى { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
ومن العجائب :
أن بعض الناس يجتهد في حضور الاحتفالات المبتدعة .. ويتخلف عن الجمع والجماعات ..
وبعضهم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المولد .. ولذا يقومون مرحبين ..
وهذا باطل وجهل .. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره .. لا يخرج منه قبل يوم القيامة .. وروحه في عليين عند ربه في دار الكرامة .. قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ) ..
أما الصلاة والسلام عليه .. فهي من أفضل القربات .. قال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ..
ونعلم جميعاً أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم .. ويعظمه ..
ومن تعظيمه وتوقيره .. اتخاذه إماما متبوعاً ..
فلا نتجاوز .. ما شرعه من العبادات ..
قال الله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ..
* * * * * * * * *(174/54)
ومن البدع الظاهرة :
الاحتفال بليلة 27 من رمضان :
فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان الإكثار من العبادات .. وكان في العشر الأخير يزيد الاجتهاد ..
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ..
هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي ليلة القدر .. وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو
مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فالاحتفال بها بدعة .. خاصة أن ليلة القدر قد تكون ليلة السابع والعشرين .. وقد تكون غيرها من الليالي ..
* * * * * * * * *
ومن البدع أيضاً :
الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ..
ولا ريب أن الإسراء والمعراج من الدلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ..
وقد ثبت الإسراء والمعراج في الكتاب والسنة ..
والليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره ..
ولو ثبت تعيينها لم يجز تخصيصها بشيء من عبادة أو احتفال ..
لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها .. ولم يخصوها بشيء ..
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة .. وأدى الأمانة .. فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لبينه لنا ..
* * * * * * * * *
ومن البدع :
الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام ..
وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه .. وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها ..
أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع .. كما نبه على ذلك ابن رجب ..
وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال :
ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ..
* * * * * * * * *(174/55)
وختاماً ..
ذكر العلماء أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله .. ويكون بها خارجاً عن الإسلام ..
ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض :
الأول : الشرك في عبادة الله تعالى .. كما تقدم ..
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعاً .
الثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر .
الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه .. أو أن حكم غيره أحسن من حكمه .. كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه – فهو كافر .
ويدخل في ذلك: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أنها مساوية لها .. أو أنه يجوز التحاكم إليها ( حتى لو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل ) .. أو اعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين .. أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين .. أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى .
وكذلك من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر .
وكذلك : كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما .. وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة .. لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً .. وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة .. كالزنى .. والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله .. فهو كافر بإجماع المسلمين ..
الخامس : من أبغض شيئاً مماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر .. لقول تعالى { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزال له فأحبط أعمالهم } [محمد : 9 ].
السادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر .. والدليل قوله تعالى : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }(174/56)
[التوبة 65 –66 ].
السابع : السحر .. ومنه الصرف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يبغضه في الآخر ) والعطف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يحببه في الآخر ) .. فمن فعله أو رضي به كفر .. والدليل قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [البقرة : 102] .
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين .. والدليل قوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة :51].
التاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليه السلام .. وكما يعتقد بعض الصوفية أنهم تسقط أنهم التكاليف الشرعية .. – فهو كافر لقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران :85] .
العاشر : الإعراض عن دين الله .. لا يتعلمه ولا يعمل به .. والدليل قوله تعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [السجدة:22 ].
* * * * * * * * *(174/57)
وقفة :
إن الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى ..أن يترك المرء الصلاة ..
فتاركو الصلاة هم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن .. وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين ..
الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : \"بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة \" ..
وصح عند الترمذي والحاكم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ..
قال الشيخ ابن عثيمين : وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه أحكام المرتدين .. فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة .. وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة .. ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث .. وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار .. ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..
وحال تاركي الصلاة عند الموت أدهى وأفظع ..
ذكر ابن القيم :
أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا الله ..
وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال : أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !! ثمّ أخذ يشهق حتى مات ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة .. وأهله حوله يبكون ..
فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه .. وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه(174/58)
..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أين ؟ .. قال : إلى المسجد .. قالوا : وأنت على هذه الحال !! قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه .. خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده .. نعم .. مات وهو ساجد ..
وقال عطاء بن السائب : أتينا إلى أبي عبدالرحمن السلمي .. وهو مريض في مصلاه في المسجد .. فإذا هو قد اشتد عليه الأمر .. وقد بأت روحه تنزع .. فأشفقنا عليه .. وقلنا له : لو تحولت إلى الفراش .. فإنه أوثر وأوطأ .. فتحامل على نفسه وقال :
حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلوة .. فأنا أريد أن أقبض على ذلك ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
كان سعد بن معاذ رضي الله عنه .. صالحاً قانتاً .. متعبداً مخبتاً .. عرفه الليل ببكاء الأسحار .. وعرفه النهار بالصلاة والاستغفار ..
أصابه جرح في غزوة بني قريظة..فلبث مريضاً أياماً ثم نزل به الموت..
فلما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : انطلقوا إليه .. قال جابر :
فخرج وخرجنا معه .. وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالنا .. وسقطت أرديتنا .. فعجب أصحابه من سرعته .. فقال :
إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله .. كما غسلت حنظلة ..
فانتهى إلى البيت فإذا هو قد مات .. وأصحاب له يغسلونه .. وأمه تبكيه .. فقال صلى الله عليه وسلم : كل باكية تكذب إلا أم سعد .. ثم حملوه إلى قبره .. وخرج صلى الله عليه وسلم يشيعه .. فقال القوم : ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخف علينا منه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ما يمنعه أن يخف وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم .. قد حملوه معكم .. والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد .. واهتز له العرش ..
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(174/59)
كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }
* * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي .. منع الزكاة .. فهي الركن الثالث من أركان الإسلام ..
وفي صحيح مسلم أنه قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ..
وروى البخاري أنه قال : ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا النبي الآية: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ..
* * * * * * * * *(174/60)
وأخيراً .. يا أخي الكريم .. وأختي الكريمة ..
يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به .. يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ..
والله إني لك ناصح .. وهذا الحق قد تبين لك .. وعرفت أن الدين واحد لا يتعدد .. فهو الله لا إله إلا هو .. حي قيوم .. فرد صمد .. لا يرضى أن يشرك معه أحد ..
ولا تكن من أولئك الذين يقولون : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .. بل قل : إنا موحّدون طائعون متبعون ..
ولا تغتر بكثرة من يذبح عند القبور .. أو يشرك بالله عندها ..
ولا تأخذك كثرة الأحاجي والقصص التي ينسجها هؤلاء عن مقبوريهم .. أنهم يكشفون الكربات .. ويجيبون الدعوات ..
وانظر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .. الذي كان مصدقاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم حق .. وأن الدين الحق هو الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام .. حتى إنه كان يردد دائماً قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت فينا أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حذارِ مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ولكن منعه من اتباع الحق .. خوفه من مخالفة الآباء والأجداد ..
بل انظر إليه .. وهو على فراش الموت .. شيخ كبير قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وحانت منيته ..
والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند رأسه يدافع عبراته .. ويقول : يا عمّ قل لا إله إلا الله .. قل لا إله إلا الله ..
وعند رأسه قد وقف كفار قريش .. فكلما أراد أن يتلفظ بشهادة التوحيد قالوا له : أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يناشده أن يلفظ الشهادتين .. وهم يحثونه على البقاء على ملة آبائه وأجداده ..
حتى مات .. وهو على دين آبائه وأجداده .. على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
مات .. وارتحل من هذا الدنيا ومقره إلى جهنم وبئس(174/61)
المصير .. والله قد حرم الجنة على الكافرين ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
* * * * * * * * *
بل .. انظر إلى محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيمَ عليه السلام ..
الذي ابتلي في مولاه..وعذب في سبيل الله..لا يستطيع يوم القيامة أن ينفع أباه..لأن أباه مات مشركاً بالله..
فعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة .. وعلى وجه آزر قترة وغبرة ..
فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصيني ؟! فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ..
فيقول إبراهيم : يا رب .. إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون .. وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟
فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين ..
ثم يقال : يا إبراهيم .. ما تحت رجليك .. فينظر فإذا هو بذيخ ( أي ذئب ) متلطخ ..
فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار .. فتنبه لهذا كله وتذكر ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .. ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) ..
وكن رجاعاً إلى الحق .. ناصحاً لغيرك .. داعياً إلى التوحيد ..
أسأل الله للجميع الهدى والرشاد .. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..(174/62)
محرمات استهان بها الناس
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض لا يجوز تضييعها ، وحد حدودا لا يجوز تعديها ، وحرم أشياء لا يجوز انتهاكها .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية ، فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية [ وما كان ربك نسيا ] . ) [ رواه الحاكم 2/375 وحسنه الألباني في غاية المرام ص: 14 ]
والمحرمات هي حدود الله عز وجل ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) الطلاق/1 وقد هدد الله من يتعدى حدوده وينتهك حرماته فقال سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) سورة النساء/14
واجتناب المحرمات واجب لقوله صلى الله عليه وسلم ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ) [ رواه مسلم : كتاب الفضائل حديث رقم 130 ط. عبد الباقي]
ومن المشاهد أن بعض متبعي الهوى ، ضعفاء النفوس ، قليلي العلم إذا سمع بالمحرمات متوالية يتضجر ويتأفف ويقول : كل شيء حرام ، ما تركتم شيئا إلا حرمتموه ، أسأمتمونا حياتنا ، وأضجرتم عيشتنا ، وضيقتم صدورنا ، وما عندكم إلا الحرام والتحريم ، الدين يسر، والأمر واسع ، والله غفور رحيم .
ومناقشة لهؤلاء نقول :
إن الله جل وعلا يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير فهو يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء سبحانه ، ومن قواعد عبوديتنا لله عز وجل أن نرضى بما حكم ونسلم تسليما .(175/1)
وأحكامه سبحانه صادرة عن علمه وحكمته وعدله ليست عبثا ولا لعبا كما قال الله : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) الأنعام/115
وقد بين لنا عز وجل الضابط الذي عليه مدار الحل والحرمة فقال تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) الأعراف/157 فالطيب حلال والخبيث حرام .
والتحليل والتحريم حق لله وحده فمن ادعاه لنفسه أو أقر به لغيره فهو كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله .. ) الشورى/21
ثم إنه لا يجوز لأي أحد أن يتكلم في الحلال والحرام إلا أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة وقد ورد التحذير الشديد فيمن يحلل ويحرم دون علم فقال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب .. ) سورة النحل/116
والمحرمات المقطوع بها مذكورة في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق .. الآية ) سورة الأنعام/151
وفي السنة كذلك ذكر لكثير من المحرمات كقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . [ رواه أبوداود 3486 وهو في صحيح أبي داود 977 ]
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) . [ رواه الدارقطني 3/7 وهو حديث صحيح ]
وقد يأتي في بعض النصوص ذكر محرمات مختصة بنوع من الأنواع مثلما ذكر الله المحرمات في المطاعم فقال : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام .. الآية ) المائدة/3(175/2)
وذكر سبحانه المحرمات في النكاح فقال : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم .. الآية ) النساء/23
وذكر أيضا المحرمات من المكاسب فقال عز وجل : ( وأحل الله البيع وحرم الربا .. الآية ) البقرة/275
ثم إن الله الرحيم بعباده قد أحل لنا من الطيبات مالا يحصى كثرة وتنوعا ولذلك لم يفصل المباحات لأنها كثيرة لا تحصر وإنما فصل المحرمات لانحصارها وحتى نعرفها فنجتنبها فقال عز وجل : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ..) الأنعام/119
أما الحلال فأباحه على وجه الإجمال مادام طيبا فقال : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) البقرة/168 فكان من رحمته أن جعل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى ومن توسعته على عباده فعلينا الطاعة والحمد والشكر .
وبعض الناس إذا رأوا الحرام معددا عليهم ومفصلا ضاقت أنفسهم ذرعا بالأحكام الشرعية وهذا من ضعف إيمانهم وقلة فقههم في الشريعة فهل يريد هؤلاء يا ترى أن يعدد عليهم أصناف الحلال حتى يقتنعوا بأن الدين يسر ؟ وهل يريدون أن تسرد لهم أنواع الطيبات حتى يطمئنوا أن الشريعة لا تكدر عليهم عيشهم ؟
هل يريدون أن يقال بأن اللحوم المذكاة من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان والوعول والدجاج والحمام والبط والوز والنعام حلال وأن ميتة الجراد والسمك حلال ؟.
وأن الخضراوات والبقول والفواكه وسائر الحبوب والثمار النافعة حلال
وأن الماء واللبن والعسل والزيت والخل حلال
وأن الملح والتوابل والبهارات حلال
وأن استخدام الخشب والحديد والرمل والحصى والبلاستيك والزجاج والمطاط حلال
وأن ركوب الدواب والسيارات والقطارات والسفن والطائرات حلال(175/3)
وأن استعمال المكيفات والثلاجات والغسالات والنشافات والطاحونات والعجانات والفرامات والمعاصر وسائر أدوات الطب والهندسة والحساب والرصد والفلك والبناء واستخراج المياه والنفط والمعادن والتنقية والتحلية والطباعة والحاسبات الآلية حلال
وأن لبس القطن والكتان والصوف والوبر والشعر والجلود المباحة والنايلون والبوليستر حلال
وأن الأصل في النكاح والبيع والشراء والكفالة والحوالة والإجارة والمهن والحرف من النجارة والحدادة وإصلاح الآلات ورعي الغنم حلال
وهل يمكن يا ترى أن ينتهي بنا المقام إذا أردنا المواصلة في العد والسرد فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟
أما احتجاجهم بأن الدين يسر فهو حق أريد به باطل فإن مفهوم اليسر في هذا الدين ليس بحسب أهواء الناس وآرائهم وإنما بحسب ما جاءت به الشريعة فالفرق عظيم بين انتهاك المحرمات بالاحتجاج الباطل بأن الدين يسر ـ وهو يسر ولاشك ـ وبين الأخذ بالرخص الشرعية كالجمع والقصر والفطر في السفر ، والمسح على الخفين والجوربين للمقيم يوما بليلته وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، والتيمم عند الخوف من استعمال الماء وجمع الصلاتين للمريض وحين نزول المطر ، وإباحة النظر إلى المرأة الأجنبية للخاطب ، والتخيير في كفارة اليمين بين العتق والإطعام والكسوة ، وأكل الميتة عند الاضطرار وغير ذلك من الرخص والتخفيفات الشرعية .(175/4)
وبالإضافة لما تقدم فينبغي أن يعلم المسلم بأن في تحريم المحرمات حكما منها : أن الله يبتلي عباده بهذه المحرمات فينظر كيف يعملون ومن أسباب تميز أهل الجنة عن أهل النار أن أهل النار قد انغمسوا في الشهوات التي حفت بها النار وأهل الجنة صبروا على المكاره التي حفت بها الجنة ، ولولا هذا الابتلاء ما تبين العاصي من المطيع . وأهل الإيمان ينظرون إلى مشقة التكليف بعين احتساب الأجر وامتثال أمر الله لنيل رضاه فتهون عليهم المشقة وأهل النفاق ينظرون إلى مشقة التكليف بعين الألم والتوجع والحرمان فتكون الوطأة عليهم شديدة والطاعة عسيرة .
وبترك المحرمات يذوق المطيع حلاوة : من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ويجد لذة الإيمان في قلبه .
وفي هذه الرسالة يجد القارئ الكريم عددا من المحرمات التي ثبت تحريمها في الشريعة مع بيان أدلة التحريم من الكتاب والسنة [ وقد صنف بعض العلماء في المحرمات أو في بعض أنواعها كالكبائر ومن الكتب الجيدة في موضوع المحرمات كتاب تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس الدمشقي رحمه الله تعالى ] ، وهذه المحظورات مما شاع فعلها وعم ارتكابها بين كثير من المسلمين ، وقد أردت بذكرها التبيان والنصح ، أسأل الله لي ولإخواني المسلمين الهداية والتوفيق والوقوف عند حدوده سبحانه وأن يجنبنا المحرمات ويقينا السيئات والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
المحتويات
الشرك بالله
عبادة القبور
الذبح لغير الله
تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله
السحر والكهانة والعرافة
الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس
اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك
الرياء بالعبادات
الطيرة
الحلف بغير الله تعالى
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم
ترك الطمأنينة في الصلاة
العبث وكثرة الحركة في الصلاة
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا(175/5)
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ماله رائحة كريهة
الزنا
اللواط
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير إذن شرعي
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي
الظهار
وطء الزوجة في حيضها
إتيان المرأة في دبرها
عدم العدل بين الزوجات
الخلوة بالأجنبية
مصافحة المرأة الأجنبية
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال
سفر المرأة بغير محرم
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية
الدياثة
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده
أكل الربا
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها
بيع النجش
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة
القمار والميسر
السرقة
أخذ الرشوة وإعطاؤها
غصب الأرض
قبول الهدية بسبب الشفاعة
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره
عدم العدل في العطية بين الأولاد
سؤال الناس المال من غير حاجة
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
أكل الحرام
شرب الخمر ولو قطرة واحدة
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها
شهادة الزور
سماع المعازف والموسيقى
الغيبة
النميمة
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن
تناجي اثنين دون الثالث
الإسبال في الثياب
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
صبغ الشعر بالسواد
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك
الكذب في المنام
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر
عدم الاستتار من البول
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون
سوء الجوار
المضارة في الوصية
اللعب بالنرد
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن
النياحة
ضرب الوجه والوسم في الوجه
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي
الشرك بالله(175/6)
وهو أعظم المحرمات على الإطلاق لحديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا) قالوا قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله .. متفق عليه البخاري / رقم 2511 ط. البغا ) وكل ذنب يمكن أن يغفره الله إلا الشرك فلا بد له من توبة مخصوصة قال الله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء/48
والشرك منه ما هو أكبر مخرج عن ملة الإسلام ، صاحبه مخلد في النار إن مات على ذلك .
ومن مظاهر هذا الشرك المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين :(175/7)
ـ عبادة القبور واعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات والاستعانة والاستغاثة بهم والله سبحانه وتعالى يقول : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ... ) سورة الإسراء/23 ، وكذلك دعاء الموتى من الأنبياء والصالحين أو غيرهم للشفاعة أو للتخليص من الشدائد والله يقول : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .. أإله مع الله ) النمل/62 وبعضهم يتخذ ذكر اسم الشيخ أو الولي عادته وديدنه إن قام وإن قعد وإن عثر وكلما وقع في ورطة أو مصيبة وكربة فهذا يقول يا محمد وهذا يقول يا علي وهذا يقول يا حسين وهذا يقول يا بدوي وهذا يقول يا جيلاني وهذا يقول يا شاذلي وهذا يقول يا رفاعي وهذا يدعو العيدروس وهذا يدعو السيدة زينب وذاك يدعو ابن علوان والله يقول : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ... ) سورة الأعراف/194 وبعض عباد القبور يطوفون بها ويستلمون أركانها ويتمسحون بها ويقبلون أعتابها ويعفرون وجوههم في تربتها ويسجدون لها إذا رأوها ويقفون أمامها خاشعين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وحاجاتهم من شفاء مريض أو حصول ولد أو تيسير حاجة وربما نادى صاحب القبر يا سيدي جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني والله عز وجل يقول ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) سورة الأحقاف/5 وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار ) رواه البخاري الفتح 8/176 ، وبعضهم يحلقون رؤوسهم عند القبور ، وعند بعضهم كتب بعناوين مثل : "مناسك حج المشاهد" ويقصدون بالمشاهد القبور وأضرحة الأولياء ، وبعضهم يعتقد أن الأولياء يتصرفون في الكون وأنهم يضرون وينفعون والله عز وجل يقول : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ...) سورة يونس/107 ، وكذلك من الشرك النذر لغير الله كما يفعل الذين ينذرون الشموع والأنوار لأصحاب القبور .(175/8)
ــ ومن مظاهر الشرك الأكبر الذبح لغير الله والله يقول : ( فصل لربك وانحر ) سورة الكوثر/2 أي انحر لله وعلى اسم الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله من ذبح لغير الله ) رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه رقم 1978 ط. عبد الباقي ، وقد يجتمع في الذبيحة محرمان وهما الذبح لغير الله والذبح على غير اسم الله وكلاهما مانع للأكل منها ، ومن ذبائح الجاهلية - الشائعة في عصرنا - " ذبائح الجن " وهي أنهم كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو حفروا بئرا ذبحوا عندها أو على عتبتها ذبيحة خوفا من أذى الجن ( انظر تيسير العزيز الحميد ط. الإفتاء ص : 158 )
ــ ومن أمثلة الشرك الأكبر العظيمة الشائعة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو اعتقاد أن أحدا يملك الحق في ذلك غير الله عز وجل ، أو التحاكم إلى المحاكم والقوانين الجاهلية عن رضا واختيار واعتقاد بجواز ذلك وقد ذكر الله عز وجل هذا الكفر الأكبر في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) التوبة/31 ولما سمع عدي بن حاتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يتلوها قال : فقلت : إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال : ( أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم ) رواه البيهقي السنن الكبرى 10/116 وهو عند الترمذي برقم 3095 وحسنه الألباني في غاية المرام ص:19 ، وقد وصف الله المشركين بأنهم ( لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .. ) سورة التوبة/29 ، وقال الله عز وجل : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) سورة يونس/59
ــ ومن أنواع الشرك المنتشرة السحر والكهانة والعرافة :(175/9)
أما السحر فإنه كفر ومن السبع الكبائر الموبقات وهو يضر ولا ينفع قال الله تعالى عن تعلمه ( فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) البقرة/102 ، وقال ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) طه/69 ، والذي يتعاطى السحر كافر قال الله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) البقرة/102
وحكم الساحر القتل وكسبه حرام خبيث ، والجهال والظلمة وضعفاء الإيمان يذهبون إلى السحرة لعمل سحر يعتدون به على أشخاص أو ينتقمون منهم ومن الناس من يرتكب محرما بلجوئه إلى الساحر لفك السحر والواجب اللجوء إلى الله والاستشفاء بكلامه كالمعوذات وغيرها .
أما الكاهن والعراف فكلاهما كافر بالله العظيم لادعائهما معرفة الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وكثير من هؤلاء يستغفل السذج لأخذ أموالهم ويستعملون وسائل كثيرة من التخطيط في الرمل أو ضرب الودع أو قراءة الكف والفنجان أو كرة الكريستال والمرايا وغير ذلك وإذا صدقوا مرة كذبوا تسعا وتسعين مرة ولكن المغفلين لا يتذكرون إلا المرة التي صدق فيها هؤلاء الأفاكون فيذهبون إليهم لمعرفة المستقبل والسعادة والشقاوة في زواج أو تجارة والبحث عن المفقودات ونحو ذلك وحكم الذي يذهب إليهم إن كان مصدقا بما يقولون فهو كافر خارج عن الملة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الإمام أحمد 2/429 وهو في صحيح الجامع 5939 أما إن كان الذي يذهب إليهم غير مصدق بأنهم يعلمون الغيب ولكنه يذهب للتجربة ونحوها فإنه لا يكفر ولكن لا تقبل له صلاة أربعين يوما والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " صحيح مسلم 4/1751 ، هذا مع وجوب الصلاة والتوبة عليه .(175/10)
ــ الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس :
عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية ـ على أثر سماء كانت من الليلة ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب . وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب " رواه البخاري أنظر فتح الباري 2/333 . ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات فإن اعتقد ما فيها من أثر النجوم والأفلاك فهو مشرك وإن قرأها للتسلية فهو عاص آثم لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك بالإضافة لما قد يلقي الشيطان في نفسه من الاعتقاد بها فتكون وسيلة للشرك .
ــ ومن الشرك اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق عز وجل كذلك كما يعتقد بعضهم في التمائم والعزائم الشركية وأنواع من الخرز أو الودع أو الحلق المعدنية وغيرها بناء على إشارة الكاهن أو الساحر أو اعتقاد متوارث فيعلقونها في رقابهم أو على أولادهم لدفع العين بزعمهم أو يربطونها على أجسادهم أو يعلقونها في سياراتهم وبيوتهم أو يلبسون خواتم بأنواع من الفصوص يعتقدون فيها أمورا معينة من رفع البلاء أو دفعه وهذا لاشك ينافي التوكل على الله ولا يزيد الإنسان إلا وهنا وهو من التداوي بالحرام وهذه التمائم التي تعلق في كثير منها شرك جلي واستغاثة ببعض الجن والشياطين أو رسوم غامضة أو كتابات غير مفهومة وبعض المشعوذين يكتبون آيات من القرآن ويخلطونها بغيرها من الشرك وبعضهم يكتب آيات القرآن بالنجاسات أو بدم الحيض وتعليق كل ما تقدم أو ربطه حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من علق تميمة فقد أشرك ) رواه أحمد 4/156 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 492 .(175/11)
وفاعل ذلك إن اعتقد أن هذه الأشياء تنفع أو تضر من دون الله فهو مشرك شركا أكبر ، وإن اعتقد أنها سبب للنفع أو الضرر ، والله لم يجعلها سببا ، فهو مشرك شركا أصغر وهذا يدخل في شرك الأسباب
ــ الرياء بالعبادات :
من شروط العمل الصالح أن يكون خالصا من الرياء مقيدا بالسنة والذي يقوم بعبادة ليراه الناس فهو مشرك وعمله حابط كمن صلى ليراه الناس ، قال الله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) النساء/ 142 ، وكذلك إذا عمل العمل لينتقل خبره ويتسامع به الناس فقد وقع في الشرك وقد ورد الوعيد لمن يفعل ذلك كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به " رواه مسلم 4/2289 . ومن عمل عبادة قصد بها الله والناس فعمله حابط كما جاء في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم رقم 2985
ومن ابتدأ العمل لله ثم طرأ عليه الرياء فإن كرهه وجاهده ودافعه صح عمله وإن استروح إليه وسكنت إليه نفسه فقد نص أكثر أهل العلم على بطلانه .
ــ الطيرة :
وهي التشاؤم قال تعالى : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) الأعراف/131 .
وكانت العرب إذا أراد أحدهم أمرا كسفر وغيره أمسك بطائر ثم أرسله فإن ذهب يمينا تفاءل ومضى في أمره وإن ذهب شمالا تشاءم ورجع عما أراد وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذا العمل بقوله : " الطيرة شرك " رواه الإمام أحمد 1/389 وهو في صحيح الجامع 3955 .(175/12)
ومما يدخل في هذا الاعتقاد المحرم المنافي للتوحيد : التشاؤم بالشهور كترك النكاح في شهر صفر ، وبالأيام كاعتقاد أن آخر أربعاء من كل شهر يوم نحس مستمر أو الأرقام كالرقم 13 أو الأسماء أو أصحاب العاهات كما إذا ذهب ليفتح دكانه فرأى أعور في الطريق فتشاءم ورجع ونحو ذلك فهذا كله حرام ومن الشرك وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء فعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير ولا تطير له ولا تكهن ولا تكهن له ( وأظنه قال :) أو سحر أو سحر له " رواه الطبراني في الكبير 18/162 انظر صحيح الجامع 5435 . ومن وقع في شئ من ذلك فكفارته ما جاء في حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم : " اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " رواه الإمام أحمد 2/220 السلسلة الصحيحة 1065 .
والتشاؤم من طبائع النفوس يقل ويكثر وأهم علاج له التوكل على الله عز وجل كما في قول ابن مسعود : " وما منا إلا ( أي : إلا ويقع في نفسه شئ من ذلك ) ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود رقم 3910 وهو في السلسلة الصحيحة 430 .
ــ الحلف بغير الله تعالى :
الله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وأما المخلوق فلا يجوز له أن يقسم بغير الله ومما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بغير الله والحلف نوع من التعظيم لا يليق إلا بالله عن ابن عمر مرفوعا : " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " رواه البخاري انظر الفتح 11/530 . وعن ابن عمر مرفوعا : " من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الإمام أحمد 2/125 انظر صحيح الجامع 6204 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالأمانة فليس منا " رواه أبو داود 3253 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 94 .(175/13)
فلا يجوز الحلف بالكعبة ولا بالأمانة ولا بالشرف ولا بالعون ولا ببركة فلان ولا بحياة فلان ولا بجاه النبي ولا بجاه الولي ولا بالآباء والأمهات ولا برأس الأولاد كل ذلك حرام ومن وقع في شيء من هذا فكفارته أن يقول لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح : " من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله .. " رواه البخاري فتح 11/536
وعلى منوال هذا الباب أيضا عدد من الألفاظ الشركية والمحرمة التي يتفوه بها بعض المسلمين ومن أمثلتها : أعوذ بالله وبك ـ أنا متوكل على الله وعليك ـ هذا من الله ومنك ـ مالي إلا الله وأنت ـ الله لي في السماء وأنت لي في الأرض ـ لولا الله وفلان ـ أنا بريئ من الإسلام ـ يا خيبة الدهر ( وكذا كل عبارة فيها سب الدهر مثل هذا زمان سوء وهذه ساعة نحس والزمن غدار ونحو ذلك وذلك لأن سب الدهر يرجع على الله الذي خلق الدهر ) ـ شاءت الطبيعة ـ كل الأسماء المعبدة لغير الله كعبد المسيح وعبد النبي وعبد الرسول وعبد الحسين
ومن المصطلحات والعبارات الحادثة المخالفة للتوحيد كذلك : اشتراكية الإسلام ـ ديموقراطية الإسلام ـ إرادة الشعب من إرادة الله ـ الدين لله والوطن للجميع ـ باسم العروبة ـ باسم الثورة .
ومن المحرمات إطلاق لفظة ملك الملوك وما في حكمها كقاضي القضاة على أحد من البشر ـ إطلاق لفظة سيد وما في معناها على المنافق والكافر ( سواء كان باللغة العربية أو بغيرها) ـ استخدام حرف لو الذي يدل على التسخط والتندم والتحسر ويفتح عمل الشيطان ـ قول اللهم اغفر لي إن شئت ـ [ وللتوسع انظر معجم المناهي اللفظية : بكر أبو زيد ]
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم :(175/14)
يعمد كثير من الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم إلى مجالسة بعض أهل الفسق والفجور بل ربما جالسوا بعض الذين يطعنون في شريعة الله ويستهزئون بدينه وأوليائه ولاشك أن هذا عمل محرم يقدح في العقيدة قال الله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) الأنعام/68
فلا يجوز الجلوس معهم في هذه الحالة وإن اشتدت قرابتهم أو لطف معشرهم وعذبت ألسنتهم إلا لمن أراد دعوتهم أو رد باطلهم أو الإنكار عليهم أما الرضا أو السكوت فلا ، قال الله تعالى : ( فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) التوبة/96
ترك الطمأنينة في الصلاة :(175/15)
من أكبر جرائم السرقة السرقة من الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله : وكيف يسرق من صلاته قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها " رواه الإمام أحمد 5/310 وهو في صحيح الجامع 997 . وإن ترك الطمأنينة وعدم استقرار الظهر في الركوع والسجود وعدم إقامته بعد الرفع من الركوع واستوائه في الجلسة بين السجدتين كل ذلك مشهور ومشاهد في جماهير المصلين ولا يكاد يخلو مسجد من نماذج من الذين لا يطمئنون في صلاتهم . والطمأنينة ركن والصلاة لا تصح بدونها والأمر خطير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" رواه أبو داود 1/533 وهو في صحيح الجامع 7224 . ولا شك أن هذا منكر يستحق صاحبه الزجر والوعيد ، عن أبي عبد الله الأشعري قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ من مات على هذا مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم ، إنما مثل الذي يركع وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين فماذا تغنيان عنه " رواه ابن خزيمة في صحيحه 1/332 وانظر صفة صلاة النبي للألباني 131 ، وعن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود قال : ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا صلى الله عليه وسلم رواه البخاري انظر الفتح 2/274 . وينبغي على من ترك الطمأنينة في الصلاة إذا علم بالحكم أن يعيد فرض الوقت الذي هو فيه ويتوب إلى الله عما مضى ولا تلزمه إعادة الصلوات السابقة كما دل عليه حديث ارجع فصل فإنك لم تصل .
العبث وكثرة الحركة في الصلاة :(175/16)
وهذه آفة لا يكاد يسلم منها أعداد من المصلين لأنهم لا يمتثلون أمر الله ( وقوموا لله قانتين ) البقرة/238 ، ولا يعقلون قول الله ( قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ) المؤمنون/1-2 ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن تسوية التراب في السجود قال " لا تمسح وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى " رواه أبو داود 1/581 وهو في صحيح الجامع 7452 ، وقد ذكر أهل العلم أن الحركة الكثيرة المتوالية بغير حاجة تبطل الصلاة فكيف بالعابثين في صلواتهم يقفون أمام الله وأحدهم ينظر في ساعته أو يعدل ثوبه أو يلقم إصبعه أنفه ويرمى ببصره يمينا وشمالا وإلى السماء ولا يخشى أن يخطف بصره وأن يختلس الشيطان من صلاته .
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا :
الإنسان من طبعه العجلة ( وكان الإنسان عجولا ) الإسراء/11 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/104 وهو في السلسلة 1795 . وكثيرا ما يلاحظ المرء وهو في الجماعة عددا من المصلين عن يمينه أو شماله بل ربما يلاحظ ذلك على نفسه أحيانا مسابقة الإمام بالركوع أو السجود وفي تكبيرات الانتقال عموما وحتى في السلام من الصلاة وهذا العمل الذي لا يبدو ذا أهمية عند الكثيرين قد جاء فيه الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " رواه مسلم 1/320-321 .(175/17)
وإذا كان المصلي مطالبا بالإتيان إلى الصلاة بالسكينة والوقار فكيف بالصلاة ذاتها وقد تختلط عند بعض الناس مسابقة الإمام بالتخلف عنه فليعلم أن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا ضابطا حسنا في هذا وهو أنه ينبغي على المأموم الشروع في الحركة حين تنقطع تكبيرة الإمام فإذا انتهى من ( راء ) الله أكبر يشرع المأموم في الحركة لا يتقدم عن ذلك ولا يتأخر وبذلك ينضبط الأمر وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في غاية الحرص على عدم استباق النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم وهو البراء بن عازب رضي الله عنه إنهم كانوا يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدا يحني ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ثم يخر من وراءه سجدا ) رواه مسلم رقم 474 ط. عبد الباقي .
ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم وصار في حركته نوع من البطء نبه المصلين خلفه فقال ( يا أيها الناس إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود .. ) رواه البيهقي 2/93 وحسنه في إرواء الغليل 2/ 290 ، وعلى الإمام أن يعمل بالسنة في التكبير إذا صلى وهو ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع .. ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس ) رواه البخاري رقم 756 ط. البغا ، فإذا جعل الإمام تكبيره مرافقا ومقترنا بحركته وحرص المأموم على الالتزام بالكيفية السابق ذكرها صلح أمر الجماعة في صلاتهم .
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ما له رائحة كريهة : -
قال الله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... ) الأعراف/31(175/18)
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو قال : فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته " رواه البخاري انظر الفتح 2/339 ، وفي رواية لمسلم " من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " رواه مسلم رواه 1/395 . وخطب عمر بن الخطاب الناس يوم الجمعة فقال في خطبته : " ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين : هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا " رواه مسلم 1/396 .
ويدخل في هذا الباب الذين يدخلون المساجد بعد أعمالهم مباشرة والروائح الكريهة تنبعث من آباطهم وجواربهم .
وأسوأ من هذا المدخنون الذين يتعاطون التدخين المحرم ثم يدخلون المساجد يؤذون عباد الله من الملائكة والمصلين .
الزنا :
لما كان من مقاصد الشريعة حفظ العرض وحفظ النسل جاء فيها تحريم الزنا قال الله تعالى : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) الإسراء/32 ، بل وسدت الشريعة جميع الذرائع والطرق الموصلة إليه بالأمر بالحجاب وغض البصر وتحريم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك .
والزاني المحصن يعاقب بأشنع عقوبة وأشدها وهي رجمه بالحجارة حتى يموت ليذوق وبال أمره وليتألم كل جزء من جسده كما استمتع به في الحرام والزاني الذي لم يسبق له الوطء في نكاح صحيح يجلد بأكثر عدد في الجلد ورد في الحدود الشرعية وهو مائة جلدة مع ما يحصل له من الفضيحة بشهادة طائفة من المؤمنين لعذابه والخزي بإبعاده عن بلده وتغريبه عن مكان الجريمة عاما كاملا .
وعذاب الزناة والزواني في البرزخ أنهم يكونون في تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار يكونون فيه عراة فإذا أوقدت عليهم النار صاحوا وارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها وهكذا يفعل بهم إلى قيام الساعة .(175/19)
ويزداد الأمر قبحا إذا كان الرجل مستمرا في الزنا مع تقدمه في السن وقربه من القبر وإمهال الله له فعن أبي هريرة مرفوعا : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " رواه مسلم 1/102-103 . ومن شر المكاسب مهر البغي وهو ما تأخذه مقابل الزنا ، والزانية التي تسعى بفرجها محرومة من إجابة الدعوة عندما تفتح أبواب السماء في نصف الليل [ الحديث في صحيح الجامع 2971 ، وليست الحاجة والفقر عذرا شرعيا مطلقا لانتهاك حدود الله وقديما قالوا تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فكيف بفرجها .
وفي عصرنا فتح كل باب إلى الفاحشة وسهل الشيطان الطريق بمكره ومكر أوليائه واتبعه العصاة والفجرة ففشا التبرج والسفور وعم انفلات البصر والنظر المحرم وانتشر الاختلاط وراجت مجلات الخنا وأفلام الفحش وكثر السفر إلى بلاد الفجور وقام سوق تجارة الدعارة وكثر انتهاك الأعراض وازداد عدد أولاد الحرام وحالات قتل الأجنة فنسألك اللهم رحمتك ولطفك وسترك وعصمة من عندك تعصمنا بها من الفواحش ونسألك أن تطهر قلوبنا وتحصن فروجنا وأن تجعل بيننا وبين الحرام برزخا وحجرا محجورا .
اللواط :-
كانت جريمة قوم لوط هي إتيان الذكران من الناس قال الله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) العنكبوت/29 .
ولشناعة هذه الجريمة وقبحها وخطورتها عاقب الله مرتكبيها بأربعة أنواع من العقوبات لم يجمعها على قوم غيرهم وهي أنه طمس أعينهم وجعل عاليها سافلها وأمطرهم بحجارة من سجيل منضود وأرسل عليهم الصيحة(175/20)
وفي هذه الشريعة صار القتل بالسيف ـ على الراجح ـ هو عقوبة الفاعل والمفعول به إذا كان عن رضا واختيار فعن ابن عباس مرفوعا : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه الإمام أحمد 1/300 وهو في صحيح الجامع 6565 .
وما ظهر في زماننا من الطواعين وأنواع الأمراض التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا بسبب الفاحشة كمرض الإيدز القاتل يدل على شئ من حكمة الشارع في تعيين هذه العقوبة البليغة .
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير عذر شرعي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " رواه البخاري انظر الفتح 6/314 .
وكثير من النساء إذا صار بينها وبين زوجها خلاف تعاقبه - بظنها - بمنعه حقه في الفراش وقد يترتب على هذا مفاسد عظيمة منها وقوع الزوج في الحرام وقد تنعكس عليها الأمور فيفكر جادا في الزواج عليها
فعلى الزوجة أن تسارع بإجابة زوجها إذا طلبها امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتجب وإن كانت على ظهر قتب " انظر زوائد البزار 2/181 وهو في صحيح الجامع 547 والقتب ما يوضع على ظهر الجمل للركوب . وعلى الزوج أن يراعي زوجته إذا كانت مريضة أو حاملا أو مكروبة حتى يدوم الوفاق ولا يقع الشقاق .
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي :-(175/21)
تسارع كثير من النساء إلى طلب الطلاق من أزواجهن عند حصول أدنى خلاف أو تطالب الزوجة بالطلاق إذا لم يعطها الزوج ما تريد من المال وقد تكون مدفوعة من قبل بعض أقاربها أو جاراتها من المفسدات وقد تتحدى زوجها بعبارات مثيرة للأعصاب كقولها إن كنت رجلا فطلقني ومن المعلوم أنه يترتب على الطلاق مفاسد عظيمة من تفكك الأسرة وتشرد الأولاد وقد تندم حين لا ينفع الندم ولهذا وغيره تظهر الحكمة في الشريعة لما جاءت بتحريم ذلك فعن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " رواه أحمد 5/277 وهو في صحيح الجامع 2703 . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : " إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " رواه الطبراني في الكبير 17/339 وهو في صحيح الجامع 1934 . أما لو قام سبب شرعي كترك الصلاة أو تعاطي المسكرات والمخدرات من قبل الزوج أو أنه يجبرها على أمر محرم أو يظلمها بتعذيبها أو بمنعها من حقوقها الشرعية مثلا ولم ينفع النصح ولم تجد محاولات الإصلاح فلا يكون على المرأة حينئذ من بأس إن هي طلبت الطلاق لتنجو بدينها ونفسها .
الظهار :-
من ألفاظ الجاهلية الأولى المنتشرة في هذه الأمة الوقوع في الظهار كأن يقول الزوج لزوجته أنت علي كظهر أمي أو أنت حرام علي كحرمة أختي ونحو ذلك من الألفاظ الشنيعة التي استبشعتها الشريعة لما فيها من ظلم المرأة وقد وصف الله ذلك بقوله سبحانه :( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور ) المجادلة/2(175/22)
وجعلت الشريعة الكفارة في ذلك مغلظة مشابهة لكفارة قتل الخطأ ومماثلة لكفارة الجماع في نهار رمضان لا يجوز للمظاهر من زوجته أن يقربها إلا إذا أتى بالكفارة فقال الله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ) المجادلة/3-4 .
وطء الزوجة في حيضها :-
قال تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة/222 ، فلا يحل له أن يأتيها حتى تغتسل بعد طهرها لقوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .. ) البقرة/222 ، ويدل على شناعة هذه المعصية قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الترمذي عن أبي هريرة 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 .
ومن فعل ذلك خطأ دون تعمد وهو لا يعلم فليس عليه شيء ومن فعله عامدا عالما فعليه الكفارة في قول بعض أهل العلم ممن صحح حديث الكفارة وهي دينار أو نصف دينار ، قال بعضهم هو مخير فيهما وقال بعضهم إذا أتاها في أول حيضها في فورة الدم فعليه دينار وإن أتاها في آخر حيضها إذا خف الدم أو قبل اغتسالها من الحيض فعليه نصف دينار والدينار بالتقدير المتداول 25,4 غراما من الذهب يتصدق بها أو بقيمتها من الأوراق النقدية .
إتيان المرأة في دبرها :(175/23)
بعض الشاذين من ضعاف الإيمان لا يتورع عن إتيان زوجته في دبرها ( في موضع خروج الغائط ) وهذا من الكبائر وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل هذا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " رواه الإمام أحمد 2/479 وهو في صحيح الجامع 5865 ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الترمذي برقم 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 . ورغم أن عددا من الزوجات من صاحبات الفطر السليمة يأبين ذلك إلا أن بعض الأزواج يهدد بالطلاق إذا لم تطعه ، وبعضهم قد يخدع زوجته التي تستحي من سؤال أهل العلم فيوهمها بأن هذا العمل حلال وقد يستدل لها بقوله تعالى ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) البقرة/223 ، ومعلوم أن السنة تبين القرآن وقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يجوز أن يأتيها كيف شاء من الأمام والخلف مادام في موضع الولد ولا يخفى أن الدبر ومكان الغائط ليس موضعا للولد . ومن أسباب هذه الجريمة الدخول إلى الحياة الزوجية النظيفة بموروثات جاهلية قذرة من ممارسات شاذة محرمة أو ذاكرة مليئة بلقطات من أفلام الفاحشة دون توبة إلى الله . ومن المعلوم أن هذا الفعل محرم حتى لو وافق الطرفان فإن التراضي على الحرام لا يصيره حلالا .
عدم العدل بين الزوجات :-(175/24)
مما وصانا الله به في كتابه العزيز العدل بين الزوجات قال الله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) النساء/129 ، فالعدل المطلوب هو أن يعدل في المبيت وأن يقوم لكل واحدة بحقها في النفقة والكسوة وليس العدل في محبة القلب لأن العبد لا يملكها وبعض الناس إذا اجتمع عنده أكثر من زوجة ينحاز إلى واحدة ويهمل الأخرى فيبيت عند واحدة أكثر أو ينفق عليها ويذر الأخرى وهذا محرم وهو يأتي يوم القيامة بحال جاء وصفها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أبو داود 2/601 وهو في صحيح الجامع 6491 .
الخلوة بالأجنبية :-
الشيطان حريص على فتنة الناس وإيقاعهم في الحرام ولذلك حذرنا الله سبحانه بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .. الآية) النور/21 ، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومن سبل الشيطان في الإيقاع في الفاحشة الخلوة بالأجنبية ولذلك سدت الشريعة هذا الطريق كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " رواه الترمذي 3/474 انظر مشكاة المصابيح 3118 . وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان " رواه مسلم 4/1711 . فلا يجوز لرجل أن يختلي في بيت أو حجرة أو سيارة بامرأة أجنبية عنه كزوجة أخيه أو الخادمة أو مريضة مع طبيب ونحو ذلك وكثير من الناس يتساهلون في هذا إما ثقة بنفسه أو بغيره فيترتب على ذلك الوقوع في الفاحشة أو مقدماتها وتزداد مأساة اختلاط الأنساب وأولاد الحرام .
مصافحة المرأة الأجنبية :(175/25)
وهذا مما طغت فيه بعض الأعراف الاجتماعية على شريعة الله في المجتمع وعلا فيه باطل عادات الناس وتقاليدهم على حكم الله حتى لو خاطبت أحدهم بحكم الشرع وأقمت الحجة وبينت الدليل اتهمك بالرجعية والتعقيد وقطع الرحم والتشكيك في النوايا الحسنة ... الخ، وصارت مصافحة بنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة وزوجة الأخ وزوجة العم وزوجة الخال أسهل في مجتمعنا من شرب الماء ولو نظروا بعين البصيرة في خطورة الأمر شرعا ما فعلوا ذلك . قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " رواه الطبراني 20/212 وهو في صحيح الجامع 4921 . ولا شك أن هذا من زنا اليد كما قال صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني " رواه الإمام أحمد 1/412 وهو في صحيح الجامع 4126 ، وهل هناك أطهر قلبا من محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال " إني لا أصافح النساء" رواه الإمام أحمد 6/357 وهو في صحيح الجامع 2509 ، وقال أيضا " إني لا أمس أيدي النساء" رواه الطبراني في الكبير 24/342 وهو في صحيح الجامع 7054 وانظر الإصابة 4/354 ط. دار الكتاب العربي . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام [ رواه مسلم 3/1489 ] . ألا فليتق الله أناس يهددون زوجاتهم الصالحات بالطلاق إذا لم يصافحن إخوانهم .
وينبغي العلم بأن وضع حائل والمصافحة من وراء ثوب لا تغني شيئا فهو حرام في الحالين .
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال :(175/26)
وهذا مما فشا في عصرنا رغم التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أيما امرأة استعطرت ثم مرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية " رواه الإمام أحمد 4/418 انظر صحيح الجامع 105 . وعند بعض النساء غفلة أو استهانة يجعلها تتساهل بهذا الأمر عند السائق والبائع وبواب المدرسة ، بل إن الشريعة شددت على من وضعت طيبا بأن تغتسل كغسل الجنابة إذا أرادت الخروج ولو إلى المسجد . قال صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد ليوجد ريحها لم يقبل منها صلاة حتى تغتسل اغتسالها من الجنابة " رواه الإمام أحمد 2/444 وانظر صحيح الجامع 2703 . فإلى الله المشتكى من البخور والعود في الأعراس وحفلات النساء قبل خروجهن واستعمال هذه العطورات ذات الروائح النفاذة في الأسواق ووسائل النقل ومجتمعات الإختلاط وحتى في المساجد في ليالي رمضان وقد جاءت الشريعة بأن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه نسأل الله أن لا يمقتنا وأن لا يؤاخذ الصالحين والصالحات بفعل السفهاء والسفيهات وأن يهدي الجميع إلى صراطه المستقيم .
سفر المرأة بغير محرم :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم " رواه مسلم 2/977 . وسفرها بغير محرم يغري الفساق بها فيتعرضون لها وهي ضعيفة فقد تنجرف وأقل أحوالها أن تؤذى في عرضها أو شرفها، وكذلك ركوبها بالطائرة ولو بمحرم يودع ومحرم يستقبل ـ بزعمهم ـ فمن الذي سيركب بجانبها في المقعد المجاور ولو حصل خلل فهبطت الطائرة في مطار آخر أو حدث تأخير واختلاف موعد فماذا يكون الحال والقصص كثيرة . هذا ويشترط في المحرم أربعة شروط وهي أن يكون مسلما بالغا عاقلا ذكرا .(175/27)
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها " رواه مسلم 2/977 .
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية :
قال الله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ) النور /30 ، وقال صلى الله عليه وسلم " ...فزنا العين النظر ..." ( أي إلى ما حرم الله ) رواه البخاري انظر فتح الباري 11/26 . ويستثنى من ذلك ما كان لحاجة شرعية كنظر الخاطب والطبيب . ويحرم كذلك على المرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي نظر فتنة قال تعالى ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) ويحرم كذلك النظر إلى الأمرد والحسن بشهوة ، ويحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وكل عورة لا يجوز النظر إليها لا يجوز مسها ولو من وراء حائل . ومن تلاعب الشيطان ببعضهم ما يفعلون من النظر إلى الصور في المجلات ومشاهدة الأفلام بحجة أنها ليست حقيقية وجانب المفسدة وإثارة الشهوات في هذا واضح كل الوضوح .
الدياثة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث " رواه الإمام أحمد 2/69 وهو في صحيح الجامع 3047 .
ومن صور الدياثة في عصرنا الإغضاء عن البنت أو المرأة في البيت وهي تتصل بالرجل الأجنبي يحادثها وتحادثه بما يسمى بالمغازلات وأن يرضى بخلوة إحدى نساء بيته مع رجل أجنبي وكذا ترك إحدى النساء من أهل البيت تركب بمفردها مع أجنبي كالسائق ونحوه وأن يرضى بخروجهن دون حجاب شرعي يتفرج عليهن الغادي والرائح وكذا جلب الأفلام أو المجلات التي تنشر الفساد والمجون وإدخالها البيت .
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده :(175/28)
لا يجوز شرعا لمسلم أن ينتسب إلى غير أبيه أو يلحق نفسه بقوم ليس منهم وبعض الناس يفعلون ذلك لمآرب مادية ويثبتون النسب المزور في الأوراق الرسمية وبعضهم قد يفعله حقدا على أبيه الذي تركه وهو في صغره وكل ذلك حرام ويترتب على ذلك مفاسد عظيمة في أبواب متعددة كالمحرمية والنكاح والميراث ونحو ذلك وقد جاء في الصحيح عن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما مرفوعا : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " رواه البخاري انظر فتح الباري 8/45 . ويحرم في الشريعة كل ما فيه عبث بالأنساب أو تزوير فيها وبعض الناس إذا فجر في خصومته مع زوجته اتهمها بالفاحشة وتبرأ من ولده دون بينة وهو قد جاء على فراشه وقد تخون بعض الزوجات الأمانة فتحمل من فاحشة وتدخل في نسب زوجها من ليس منه وقد جاء الوعيد العظيم على ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت آية الملاعنة : " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " رواه أبو داود 2/695 انظر مشكاة المصابيح 3316 .
أكل الربا :
لم يؤذن الله في كتابه بحرب أحد إلا أهل الربا قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) البقرة / 278-279 ، وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .(175/29)
والناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود والعجز عن تسديد الديون وشلل الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات وجعل ناتج الكدح اليومي وعرق العمل يصب في خانة تسديد الربا غير المتناهي للمرابي وإيجاد الطبقية في المجتمع من جعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا .
وكل من يشارك في الربا من الأطراف الأساسية والوسطاء والمعينين المساعدين ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فعن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وقال : " هم سواء " رواه مسلم 3/1219 . وبناء عليه لا يجوز العمل في كتابة الربا ولا في تقييده وضبطه ولا في استلامه وتسليمه ولا في إيداعه ولا في حراسته وعلى وجه العموم تحرم المشاركة فيه والإعانة عليه بأي وجه من الوجوه .(175/30)
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبيان قبح هذه الكبيرة فيما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " رواه الحاكم في المستدرك /37 وهو في صحيح الجامع 3533 . وبقوله فيما جاء عن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما مرفوعا : " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية " رواه الإمام أحمد 5/225 انظر صحيح الجامع 3375 . وتحريم الربا عام لم يخص بما كان بين غني وفقير كما يظنه بعض الناس بل هو عام في كل حال وشخص وكم من الأغنياء وكبار التجار قد أفلسوا بسببه والواقع يشهد بذلك وأقل ما فيه محق بركة المال وإن كان كثيرا في العدد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل " رواه الحاكم 2/37 وهو في صحيح الجامع 3542 ومعنى قل أي نقصان المال .
وليس الربا كذلك مخصوصا بما إذا كانت نسبته مرتفعة أو متدنية قليلة أم كثيرة فكله حرام صاحبه يبعث من قبره يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والصرع .
ومع فحش هذه الجريمة إلا أن الله أخبر عن التوبة منها وبين كيفية ذلك فقال تعالى لأهل الربا : "( فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) وهذا عين العدل .(175/31)
ويجب أن تنفر نفس المؤمن من هذه الكبيرة وأن تستشعر قبحها وحتى الذين يضعون أموالهم في البنوك الربوية اضطرارا وخوفا عليها من الضياع أو السرقة ينبغي عليهم أن يشعروا بشعور المضطر وأنهم كمن يأكل الميتة أو أشد مع استغفار الله تعالى والسعي لإيجاد البديل ما أمكن ولا يجوز لهم مطالبة البنوك بالربا بل إذا وضع لهم في حساباتهم تخلصوا منه في أي باب جائز تخلصا لا صدقة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولا يجوز لهم الاستفادة منه بأي نوع من الاستفادة لا بأكل ولا شرب ولا لبس ولا مركب ولامسكن ولا نفقة واجبة لزوجة أو ولد أو أب أو أم ولا في إخراج الزكاة ولا في تسديد الضرائب ولا يدفع بها ظلما عن نفسه وإنما يتخلص منها خوفا من بطش الله تعالى .
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها :(175/32)
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال " ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس منا " رواه مسلم 1/99 ، وكثير من الباعة اليوم ممن لا يخاف الله يحاول إخفاء العيب بوضع لاصق عليه أو جعله في أسفل صندوق البضاعة أو استعمال مواد كيميائية ونحوها تظهره بمظهر حسن أو تخفي صوت العيب الذي في المحرك في أول الأمر فإذا عاد المشتري بالسلعة لم تلبث أن تتلف من قريب وبعضهم يغير تاريخ انتهاء صلاحية السلعة أو يمنع المشتري من معاينة السلعة أو فحصها أو تجريبها وكثير ممن يبيعون السيارات والآلات لا يبينون عيوبها وهذا حرام . قال النبي صلى عليه وسلم " المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له " رواه ابن ماجة 2/754 وهو في صحيح الجامع 6705 . وبعضهم يظن أنه يخلي مسئوليته إذا قال للمشترين في المزاد العلني .. أبيع كومة حديد .. كومة حديد ، فهذا بيعه منزوع البركة كما قال صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ". رواه البخاري أنظر الفتح 4/328 .
بيع النجش :(175/33)
وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع غيره ويجره إلى الزيادة في السعر، قال صلى الله عليه وسلم "لا تناجشوا" رواه البخاري انظر فتح الباري 10/484 ، وهذا نوع من الخداع ولا شك وقد قال عليه الصلاة والسلام " المكر والخديعة في النار " انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1057 . وكثير من الدلالين في الحراج والمزادات ومعارض بيع السيارات كسبهم خبيث لمحرمات كثيرة يقترفونها منها تواطؤهم في بيع النجش والتغرير بالمشتري القادم وخداعه فيتواطؤن على خفض سعر سلعته أما لو كانت السلعة لهم أو لأحدهم فعلى العكس يندسون بين المشترين ويرفعون الأسعار في المزاد يخدعون عباد الله ويضرونهم .
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة : -
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) الجمعة/9
وبعض الباعة يستمرون في البيع بعد النداء الثاني في دكاكينهم أو أمام المساجد ويشترك معهم في الإثم الذين يشترون منهم ولو سواكا وهذا البيع باطل على الراجح وبعض أصحاب المطاعم والمخابز والمصانع يجبرون عمالهم على العمل في وقت صلاة الجمعة وهؤلاء وإن زاد ربحهم في الظاهر فإنهم لا يزدادون إلا خسارا في الحقيقة ، أما العامل فإنه لابد أن يعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لبشر في معصية الله " . رواه الإمام أحمد 1/129 وقال أحمد شاكر إسناده صحيح رقم 1065 .
القمار والميسر :-
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) المائدة/90 .
وكان أهل الجاهلية يتعاطون الميسر ومن أشهر صوره عندهم أنهم كانوا يشتركون في بعير عشرة أشخاص بالتساوي ثم يَضرب بالقداح وهو نوع من القرعة فسبعة يأخذون بأنصبة متفاوتة معينة في عرفهم وثلاثة لا يأخذون شيئا .
وأما في زماننا فإن للميسر عدة صور منها :(175/34)
ـ ما يعرف باليانصيب وله صور كثيرة ومن أبسطها شراء أرقام بمال يجري السحب عليها فالفائز الأول يعطى جائزة والثاني وهكذا في جوائز معدودة قد تتفاوت فهذا حرام ولو كانوا يسمونه بزعمهم خيريا .
ـ أن يشتري سلعة بداخلها شيء مجهول أو يعطى رقما عند شرائه للسلعة يجري عليه السحب لتحديد الفائزين بالجوائز .
ـ ومن صور الميسر في عصرنا عقود التأمين التجاري على الحياة والمركبات والبضائع وضد الحريق والتأمين الشامل وضد الغير إلى غير ذلك من الصور المختلفة حتى أن بعض المغنين يقومون بالتأمين على أصواتهم .
هذا وجميع صور المقامرة تدخل في الميسر وقد وجد في زماننا أندية خاصة بالقمار وفيها ما يعرف بالطاولات الخضراء الخاصة لمقارفة هذا الذنب العظيم وكذلك ما يحدث في مراهنات سباق الخيول وغيرها من المباريات هو أيضا نوع من أنواع الميسر ويوجد في بعض محلات الألعاب ومراكز الترفيه أنواع من الألعاب المشتملة على فكرة الميسر كالتي يسمونها "الفليبرز" ومن صور المقامرة أيضا المسابقات التي تكون فيها الجوائز من طرفي المسابقة أو أطرافها كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم .
السرقة :
قال تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) المائدة / 38 .
ومن أعظم جرائم السرقة سرقة حجاج وعمار بيت الله العتيق وهذا النوع من اللصوص لا يقيم وزنا لحدود الله في أفضل بقاع الأرض وحول بيت الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة صلاة الكسوف : ( لقد جئ بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه [ أمعاءه ] في النار ، كان يسرق الحاج بمحجنه [ عصا معقوفة الطرف ] فإن فطن له قال : إنما تعلق بمحجني ، وإن غفل عنه ذهب به .. ) رواه مسلم رقم 904 .(175/35)
ومن أعظم السرقات السرقة من الأموال العامة وبعض الذين يفعلونها يقولون نسرق كما يسرق غيرنا وما علموا أن تلك سرقة من جميع المسلمين لأن الأموال العامة ملك لجميع المسلمين وفعل الذين لا يخافون الله ليس بحجة تبرر تقليدهم وبعض الناس يسرق من أموال الكفار بحجة أنهم كفار وهذا غير صحيح فإن الكفار الذين يجوز سلب أموالهم هم المحاربون للمسلمين وليس جميع شركات الكفار وأفرادهم يدخلون في ذلك ومن وسائل السرقة مد الأيدي إلى جيوب الآخرين خلسة وبعضهم يدخل بيوت الآخرين زائرا ويسرق وبعضهم يسرق من حقائب ضيوفه وبعضهم يدخل المحلات التجارية ويخفي في جيوبه وثيابه سلعا أو ما تفعله بعض النساء من إخفائها تحت ثيابها وبعض الناس يستسهل سرقة الأشياء القليلة أو الرخيصة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " رواه البخاري انظر فتح الباري 12/81 . ويجب على كل من سرق شيئا أن يعيده إلى صاحبه بعد أن يتوب إلى الله عز وجل سواء أعاده علانية أو سرا شخصيا أو بواسطة فإن عجز عن الوصول إلى صاحب المال أو إلى ورثته من بعده مع الاجتهاد في البحث فإنه يتصدق به وينوي ثوابه لصاحبه .
أخذ الرشوة وإعطاؤها :
إعطاء الرشوة للقاضي أو الحاكم بين الناس لإبطال حق أو تمشية باطل جريمة لأنها تؤدي إلى الجور في الحكم وظلم صاحب الحق وتفشي الفساد قال الله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنت تعلمون ) البقرة/ 188 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " رواه الإمام أحمد 2/387 وهو في صحيح الجامع 5069 . أما ما وقع للتوصل لحق أو دفع ظلم لا يمكن إلا عن طريق الرشوة فلا يدخل في الوعيد .(175/36)
وقد تفشت الرشوة في عصرنا تفشيا واسعا حتى صارت موردا أعظم من المرتبات عند بعض الموظفين بل صارت بندا في ميزانيات كثير من الشركات بعناوين مغلفة وصارت كثير من المعاملات لا تبدأ ولا تنتهي إلا بها وتضرر من ذلك الفقراء تضررا عظيما وفسدت كثير من الذمم بسببها وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل والخدمة الجيدة لا تقدم إلا لمن يدفع ومن لا يدفع فالخدمة له رديئة أو يؤخر ويهمل وأصحاب الرشاوي الذين جاءوا من بعده قد انتهوا قبله بزمن وبسبب الرشوة دخلت أموال هي من حق أصحاب العمل في جيوب مندوبي المبيعات والمشتريات ولهذا وغيره فلا عجب أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على الشركاء في هذه الجريمة والأطراف فيها أن يطردهم الله من رحمته فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنة الله على الراشي والمرتشي " رواه ابن ماجة 2313 وهو في صحيح الجامع 5114 .
غصب الأرض :-
إذا انعدم الخوف من الله صارت القوة والحيلة وبالا على صاحبها يستخدمها في الظلم كوضع اليد والاستيلاء على أموال الآخرين ومن ذلك غصب الأراضي وعقوبة ذلك في غاية الشدة فعن عبد الله بن عمر مرفوعا :" من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " رواه البخاري انظر الفتح 5/103 .
وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه مرفوعا : " أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره ( في الطبراني : يحضره ) حتى آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس " رواه الطبراني في الكبير 22/270 وهو في صحيح الجامع 2719 .
ويدخل في ذلك تغيير علامات الأراضي وحدودها فيوسع أرضه على حساب جاره وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم بشرح النووي 13/141 .
قبول الهدية بسبب الشفاعة :-(175/37)
الجاه والمكانة بين الناس من نعم الله على العبد إذا شكرها ومن شكر هذه النعمة أن يبذلها صاحبها لنفع المسلمين وهذا يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " رواه مسلم 4/1726 . ومن نفع بجاهه أخاه المسلم في دفع ظلم عنه أو جلب خير إليه دون ارتكاب محرم أو اعتداء على حق أحد فهو مأجور عند الله عز وجل إذا خلصت نيته كما أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اشفعوا تؤجروا " رواه أبو داود 5132 والحديث في الصحيحين فتح الباري 10/450 كتاب الأدب باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا .
ولا يجوز أخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة والدليل ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا : " من شفع لأحد شفاعة ، فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " . رواه الإمام أحمد 5/261 وهو في صحيح الجامع 6292 .
ومن الناس يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه لتعيين شخص في وظيفة أو نقل آخر من دائرة أو من منطقة إلى أخرى أو علاج مريض ونحو ذلك والراجح أن هذا المقابل محرم لحديث أبي أمامة المتقدم آنفا بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] وحسب فاعل الخير الأجر من الله يجده يوم القيامة . جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة ؟ الآداب الشرعية لابن مفلح 2/176 .
ومما يحسن الإشارة إليه هنا الفرق بين استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها مقابل أجرة فيكون هذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية وبين أن يبذل جاهه ووساطته فيشفع مقابل مال فهذا من المحظور .
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره :-(175/38)
لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في سرعة إعطاء الأجير حقه فقال : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة 2/817 وهو في صحيح الجامع 1493 .
ومن أنواع الظلم الحاصل في مجتمعات المسلمين عدم إعطاء العمال والأجراء والموظفين حقوقهم ولهذا عدة صور منها :
ــ أن يجحده حقه بالكلية ولا يكون للأجير بينة فهذا وإن ضاع حقه في الدنيا فإنه لا يضيع عند الله يوم القيامة فإن الظالم يأتي وقد أكل مال المظلوم فيعطى المظلوم من حسنات الظالم فإن فنيت أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار .
ــ أن يبخسه فيه فلا يعطيه إياه كاملا وينقص منه دون حق وقد قال الله تعالى : ( ويل للمطففين ) المطففين/1 ، ومن أمثلة ذلك ما يفعله بعض أرباب العمل إذا استقدم عمالا من بلدهم وكان قد عقد معهم عقدا على أجر معين فإذا ارتبطوا به وباشروا العمل عمد إلى عقود العمل فغيرها بأجور أقل فيقيمون على كراهية وقد لا يستطيعون إثبات حقهم فيشكون أمرهم إلى الله ، وإن كان رب العمل الظالم مسلما والعامل كافرا كان ذلك البخس من الصد عن سبيل الله فيبوء بإثمه .
ــ أن يزيد عليه أعمالا إضافية أو يطيل مدة الدوام ولا يعطيه إلا الأجرة الأساسية ويمنعه أجرة العمل الإضافي .(175/39)
ــ أن يماطل فيه فلا يدفعه إليه إلا بعد جهد جهيد وملاحقة وشكاوى ومحاكم وقد يكون غرض رب العمل من التأخير إملال العامل حتى يترك حقه ويكف عن المطالبة أو يقصد الاستفادة من أموال العمال بتوظيفها وبعضهم يرابي فيها والعامل المسكين لا يجد قوت يومه ولا ما يرسله نفقة لأهله وأولاده المحتاجين الذين تغرب من أجلهم . فويل لهؤلاء الظلمة من عذاب يوم أليم روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " رواه البخاري انظر فتح الباري 4/447 .
عدم العدل في العطية بين الأولاد :(175/40)
يعمد بعض الناس إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين وهذا على الراجح عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلا أو أنه لا يجد عملا أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرغ ونحو ذلك وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحدا من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيعطيه كما أعطى الأول . والدليل العام قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ) والدليل الخاص ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني نحلت ابني هذا غلاما ( أي وهبته عبدا كان عندي ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثله ؟ فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعه " رواه البخاري انظر الفتح 5/211 ، وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع فرد عطيته الفتح 5/211 ، وفي رواية " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور " صحيح مسلم 3/1243 . ويعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله [ مسائل الإمام أحمد لأبي داود 204 وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقا بينا ] . والناظر في أحوال بعض الأسر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات فيوغر صدور بعضهم على بعض ويزرع بينهم العداوة والبغضاء . وقد يعطي واحدا لأنه يشبه أعمامه ويحرم الآخر لأنه فيه شبها من أخواله أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالا يعطي أولاد الأخرى وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى وهذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلا وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية " ...أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ..." .(175/41)
رواه الإمام أحمد 4/269 وهو في صحيح مسلم رقم 1623
سؤال الناس المال من غير حاجة :
عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال قدر ما يغديه ويعشيه" رواه أبو داود 2/281 وهو في صحيح الجامع 6280 ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه " رواه الإمام أحمد 1/388 انظر صحيح الجامع 6255 . وبعض الشحاذين يقفون في المساجد أمام خلق الله يقطعون التسبيح بشكاياتهم وبعضهم يكذبون ويزورون أوراقا ويختلقون قصصا وقد يوزعون أفراد الأسرة على المساجد ثم يجمعونهم وينتقلون من مسجد لآخر وهم في حالة من الغنى لا يعلمها إلا الله فإذا ماتوا ظهرت التركة. وغيرهم من المحتاجين الحقيقيين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم .
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
حقوق العباد عند الله عظيمة وقد يخرج الشخص من حق الله بالتوبة ولكن حقوق العباد لا مناص من أدائها قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات والله سبحانه وتعالى يقول : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) النساء /58 ، ومن الأمور المتفشية في المجتمع التساهل في الاستدانة وبعض الناس لا يستدين للحاجة الماسة وإنما يستدين رغبة في التوسع ومجاراة الآخرين في تجديد المركب والأثاث ونحو ذلك من المتاع الفاني والحطام الزائل وكثيرا ما يدخل هؤلاء في متاهات بيوع التقسيط التي لا يخلو كثير منها من الشبهة أو الحرام .(175/42)
والتساهل في الاستدانة يقود إلى المماطلة في التسديد أو يؤدي إلى إضاعة أموال الآخرين وإتلافها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا من عاقبة هذا العمل : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري انظر فتح الباري 5/54 . والناس يتساهلون في أمر الدين كثيرا ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، بل إن الشهيد مع ماله من المزايا العظيمة والأجر الجزيل والمرتبة العالية لا يسلم من تبعة الدين ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه " رواه النسائي انظر المجتبى 7/314 وهو في صحيح الجامع 3594 . فهل بعد هذا يرعوي هؤلاء المتساهلون المفرطون ؟!
أكل الحرام :
من لا يخاف الله لا يبالي من أين اكتسب المال وفيم أنفقه بل يكون همه زيادة رصيده ولو كان سحتا وحراما من سرقة أو رشوة أو غصب أو تزوير أو بيع محرم أو مراباة أو أكل مال يتيم أو أجرة على عمل محرم ككهانة وفاحشة وغناء أو اعتداء على بيت مال المسلمين والممتلكات العامة أو أخذ مال الغير بالإحراج أو سؤال بغير حاجة ونحو ذلك ثم هو يأكل منه ويلبس ويركب ويبني بيتا أو يستأجره ويؤثثه ويدخل الحرام بطنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ... " رواه الطبراني في الكبير 19/136 وهو في صحيح الجامع 4495 . وسيسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وهنالك الهلاك والخسار فعلى من بقي لديه مال حرام أن يسارع بالتخلص منه وإن كان حقا لآدمي فليسارع بإرجاعه إليه مع طلب السماح قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات
شرب الخمر ولو قطرة واحدة :(175/43)
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) المائدة/90 ، والأمر بالاجتناب هو من أقوى الدلائل على التحريم وقد قرن الخمر بالأنصاب وهي آلهة الكفار وأصنامهم فلم تبق حجة لمن يقول إنه لم يقل هو حرام وإنما قال فاجتنبوه !!
وقد جاء الوعيد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن شرب الخمر فعن جابر مرفوعا : " ... إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " رواه مسلم 3/1587 . وعن ابن عباس مرفوعا : " من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن " رواه الطبراني 12/45 وهو في صحيح الجامع 6525 .
وقد تنوعت أنواع الخمور والمسكرات في عصرنا تنوعا بالغا وتعددت أسماؤها عربية وأعجمية فأطلقوا عليها البيرة والجعة والكحول والعرق والفودكا والشمبانيا وغير ذلك وظهر في هذه الأمة الصنف الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله : " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " رواه الإمام أحمد 5/342 وهو في صحيح الجامع 5453 . فهم يطلقون عليها مشروبات روحية بدلا من الخمر تمويها وخداعا ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .
وقد جاءت الشريعة بالضابط العظيم الذي يحسم الأمر ويقطع دابر فتنة التلاعب وهو ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " رواه مسلم 3/1587 . فكل ما خالط العقل وأسكره فهو حرام قليله وكثيره [ حديث " ما أسكر كثيره فقليله حرام " قد رواه أبو داود رقم 3681 وهو في صحيح أبي داود رقم 3128 ] ومهما تعددت الأسماء واختلفت فالمسمى واحد والحكم معلوم .(175/44)
وأخيرا فهذه موعظة من النبي صلى الله عليه وسلم لشراب الخمور ، قال عليه الصلاة والسلام : " من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا وإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة قالوا يا رسول الله وما ردغة الخبال قال : عصارة أهل النار . رواه ابن ماجة رقم 3377 وهو في صحيح الجامع 6313 .
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها :
لا يكاد يخلو محل من محلات الأدوات المنزلية اليوم من الأواني الذهبية والفضية أو المطلية بالذهب والفضة وكذلك بيوت الأثرياء وعدد من الفنادق بل صار هذا النوع من الأواني من جملة الهدايا النفيسة التي يقدمها الناس بعضهم لبعض في المناسبات ، وبعض الناس قد لا يضعها في بيته ولكنه يستعملها في بيوت الآخرين وولائمهم ، وكل هذا من الأمور المحرمة في الشريعة وقد جاء الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هذه الأواني فعن أم سلمة مرفوعا : " إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " رواه مسلم 3/1634 . وهذا الحكم يشمل كل ما هو من الآنية وأدوات الطعام كالصحون والشوك والملاعق والسكاكين وأواني تقديم الضيافة وعلب الحلويات المقدمة في الأعراس ونحوها .
وبعض الناس يقولون نحن لا نستعملها ولكن نضعها على رفوف خلف الزجاج للزينة ، وهذا لا يجوز أيضا سدا لذريعة استخدامها [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] .
شهادة الزور :(175/45)
قال الله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ) الحج/30-31 ، وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا " الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وجلس وكان متكئا ـ فقال : ألا وقول الزور قال فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " رواه البخاري انظر الفتح 5/261 .
وتكرار التحذير من شهادة الزور هنا لتساهل الناس بها وكثرة الدواعي إليها من العداوة والحسد ولما يترتب عليها من المفاسد الكثيرة فكم ضاع من الحقوق بشهادة الزور وكم وقع من ظلم على أبرياء بسببها أو حصل أناس على مالا يستحقون أو أعطوا نسبا ليس بنسبهم بناء عليها .
ومن التساهل فيها ما يفعله بعض الناس في المحاكم من قوله لشخص يقابله هناك اشهد لي وأشهد لك فيشهد له في أمر يحتاج إلى علم بالحقيقة والحال كأن يشهد له بملكية أرض أو بيت أو تزكية وهو لم يقابله إلا على باب المحكمة أو في الدهليز وهذا كذب وزور فينبغي أن تكون الشهادة كما ورد في كتاب الله : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) يوسف / 81 .
سماع المعازف والموسيقى:
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقسم بالله أن المراد بقوله تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) هو الغناء [ تفسير ابن كثير 6/333 ] وعن أبي عامر وأبي مالك الأشعري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... " رواه البخاري انظر الفتح 10/51 . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا : " ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف " انظر السلسلة الصحيحة 2203 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والحديث رواه الترمذي رقم 2212 .(175/46)
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكوبة وهي الطبل ووصف المزمار بأنه صوت أحمق فاجر وقد نص العلماء المتقدمون كالإمام أحمد رحمه الله على تحريم آلات اللهو والعزف كالعود والطنبور والشبابة والرباب والصنج ولا شك أن آلات اللهو والعزف الحديثة تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن المعازف وذلك كالكمنجة والقانون والأورج والبيانو والغيتار وغيرها بل إنها في الطرب والنشوة والتأثير أكبر بكثير من الآلات القديمة التي ورد تحريمها في بعض الأحاديث بل إن نشوة الموسيقى وسكرها أعظم من سكر الخمر كما ذكر أهل العلم كابن القيم وغيره ولاشك أن التحريم يشتد والذنب يعظم إذا رافق الموسيقى غناء وأصوات كأصوات القينات وهن المغنيات والمطربات وتتفاقم المصيبة عندما تكون كلمات الأغاني عشقا وحبا وغراما ووصفا للمحاسن ولذلك ذكر العلماء أن الغناء بريد الزنا وأنه ينبت النفاق في القلب وعلى وجه العموم صار موضوع الأغاني والموسيقى من أعظم الفتن في هذا الزمان .
ومما زاد البلاء في عصرنا دخول الموسيقى في أشياء كثيرة كالساعات والأجراس وألعاب الأطفال والكمبيوتر وبعض أجهزة الهاتف فصار تحاشي ذلك أمرا يحتاج إلى عزيمة والله المستعان .
الغيبة :
صارت فاكهة كثير من المجالس غيبة المسلمين والولوغ في أعراضهم وهو أمر قد نهى الله عنه ونفر عباده منه ومثله بصورة كريهة تتقزز منها النفوس فقال عز وجل : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) الحجرات/12 .
وقد بين معناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته " رواه مسلم 4/2001 .(175/47)
فالغيبة ذكرك للمسلم بما فيه مما يكرهه سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو أخلاقه أو خلقته ولها صور متعددة منها أن يذكر عيوبه أو يحاكي تصرفا له على سبيل التهكم
والناس يتساهلون في أمر الغيبة مع شناعتها وقبحها عند الله ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه " السلسلة الصحيحة 1871 .
ويجب على من كان حاضرا في المجلس أن ينهى عن المنكر ويدافع عن أخيه المغتاب وقد رغب في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " رواه أحمد 6/450 وهو في صحيح الجامع 6238 .
النميمة :-
لا يزال نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم من أعظم أسباب قطع الروابط وإيقاد نيران الحقد والعداوة بين الناس وقد ذم الله تعالى صاحب هذا الفعل فقال عز وجل : ( ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ) القلم/11 .
وعن حذيفة مرفوعا : " لا يدخل الجنة قتات " رواه البخاري انظر الفتح 10/472 وفي النهاية لابن الأثير 4/11 : وقيل القتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم .
وعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط [ بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " رواه البخاري انظر فتح الباري 1/317 .
ومن الصور السيئة لهذا العمل تخبيب الزوج على زوجته والعكس وهو السعي في إفساد العلاقة بينهما وكذلك قيام بعض الموظفين في نقل كلام الآخرين للمدير أو المسؤول في نوع من الوشاية للإيقاع وإلحاق الضرر وهذا كله من المحرمات .
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن :(175/48)
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) النور/27 ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا أن العلة في الاستئذان هي مخافة الإطلاع على عورات أصحاب البيوت : " إنما جعل الاستئذان من اجل البصر" رواه البخاري انظر فتح الباري 11/24 . واليوم مع تقارب المباني وتلاصق العمارات وتقابل النوافذ والأبواب صار احتمال كشف الجيران بعضهم بعضا كبيرا وكثيرون لا يغضون أبصارهم وربما تعمد بعض من في الأعلى الإطلاع من نوافذهم وأسطحهم على البيوت المجاورة أسفل منهم ، وهذه خيانة وانتهاك لحرمة الجيران ووسيلة إلى الحرام ، وحصل بسبب ذلك الكثير من البلاء والفتنة ويكفي دليلا على خطورة الأمر إهدار الشريعة لعين المتجسس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " رواه مسلم 3/1699 ، وفي رواية " ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " [ رواه الإمام أحمد 2/385 وهو في صحيح الجامع 6022 .
تناجي اثنين دون الثالث :
وهذه من آفات المجالس ومن خطوات الشيطان ليفرق بين المسلمين ويوغر صدور بعضهم على بعض وقد قال عليه الصلاة والسلام مبينا الحكم والعلة " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أجل ( أي من أجل كما ورد في بعض الروايات ) أن ذلك يحزنه " رواه البخاري انظر فتح الباري 11/83 ، ويدخل في ذلك تناجي ثلاثة دون الرابع وهكذا وكذلك أن يتكلم المتناجيان بلغة لا يفهمها الثالث ولا شك أن التناجي فيه نوع من التحقير للثالث أو إيهامه أنهما يريدان به شرا ونحو ذلك .
الإسبال في الثياب :
مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم الإسبال وهو إطالة اللباس أسفل من الكعبين وبعضهم يمس لباسه الأرض وبعضهم يسحبه خلفه(175/49)
عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل ( وفي رواية : إزاره ) والمنان ( وفي رواية : الذي لا يعطي شيئا إلا منه ) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " رواه مسلم 1/102 .
والذي يقول إن إسبالي لثوبي ليس كبرا فهو يزكي نفسه تزكية غير مقبولة والوعيد للمسبل عام سواء قصد الكبر أم لم يقصده كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار " رواه الإمام أحمد 6/254 وهو في صحيح الجامع 5571 . فإذا أسبل خيلاء صارت عقوبته أشد وأعظم وهي ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه البخاري رقم 3465 ط. البغا ، وذلك لأنه جمع بين محرمين والإسبال محرم في كل لباس كما يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود 4/353 وهو في صحيح الجامع 2770 . والمرأة يسمح لها أن ترخي شبرا أو شبرين لستر قدميها احتياطا لما يخشى من الانكشاف بسبب ريح ونحوها ولكن لا يجوز لها مجاوزة الحد كما في بعض ثياب العرائس التي تمتد أشبارا وأمتارا وربما حمل وراءها .
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : " أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرم على ذكورها " رواه الإمام أحمد 4/393 انظر صحيح الجامع 207 .
وفي الأسواق اليوم عدد من المصنوعات المصممة للرجال من الساعات والنظارات والأزرار والأقلام والسلاسل وما يسمونه بالميداليات بعيارات الذهب المختلفة أو مما هو مطلي بالذهب طلاء كاملا ومن المنكرات ما يعلن في جوائز بعض المسابقات : ساعة ذهب رجالي !!(175/50)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه ، فطرحه ، فقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ؟! " فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به قال : لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم 3/1655 .
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء :-
كان مما غزانا به أعداؤنا في هذا الزمان هذه الأزياء والموضات التي وضعوا أشكالها وتفصيلها وراجت بين المسلمين وهي لا تستر العورة لقصرها أو شفافيتها أو ضيقها وكثير منها لا يجوز لبسه حتى بين النساء وأمام المحارم وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور هذه الأنواع من الألبسة على نساء آخر الزمان كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " رواه مسلم 3/ 1680 والبخت هي الجمال طوال الأعناق . ويدخل في هذا الألبسة التي تلبسها بعض النساء تكون ذات فتحة طويلة من الأسفل أو مشقوقة من عدة جهات فإذا جلست ظهر من عورتها ما ظهر مع ما في ذلك من التشبه بالكفار واتباعهم في الموضات وما استحدثوه من الأزياء الفاضحة نسأل الله السلامة . ومن الأمور الخطيرة كذلك ما يوجد على بعض الملابس من الصور السيئة كصور المغنين والفرق الموسيقية وقوارير الخمر وصور ذوات الأرواح المحرمة شرعا أو الصلبان أو شعارات الأندية والجمعيات الخبيثة أو العبارات الرديئة المخلة بالشرف والعفة والتي كثيرا ما تكون مكتوبة بلغات أجنبية
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء :-(175/51)
عن أسماء بنت أبي بكر قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق ( أي تساقط ) شعرها أفأصله فقال : " لعن الله الواصلة والمستوصلة " رواه مسلم 3/1676 . وعن جابر بن عبدالله قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا " رواه مسلم 3/1679 .
ومن أمثلة هذا ما يعرف في عصرنا بالباروكة ومن الواصلات في عصرنا " الكوافيرات " وما تزخر به صالاتهن من المنكرات
ومن أمثلة هذا المحرم أيضا لبس الشعر المستعار كما يفعله بعض من لا خلاق لهم من الممثلين والممثلات في التمثيليات والمسرحيات .
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال في اللباس أو الكلام أو الهيئة :
من الفطرة أن يحافظ الرجل على رجولته التي خلقه الله عليها وأن تحافظ المرأة على أنوثتها التي خلقها الله عليها وهذا من الأسباب التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال هو مخالفة للفطرة وفتح لأبواب الفساد وإشاعة للانحلال في المجتمع وحكم هذا العمل شرعا هو التحريم وإذا ورد في نص شرعي لعن من يقوم بعمل فإن ذلك يدل على تحريمه وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " رواه البخاري انظر الفتح 10/332 ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " رواه البخاري الفتح 10/333 . والتشبه قد يكون بالحركات والسكنات والمشية كالانخناث في الأجسام والتأنث في الكلام والمشي .(175/52)
وكذلك لا يجوز تشبه كل من الجنسين بالآخر في اللباس ولا فيما هو من خصائصه فلا يجوز للرجل أن يلبس القلائد ولا الأساور ولا الخلاخل ولا الأقراط ونحوها كما هو منتشر عند أصناف الهبيين والخنافس ونحوهم وكذلك لا يجوز للمرأة أن تلبس ما اختص الرجل بلبسه من ثوب أو قميص ونحوه بل يجب أن تخالفه في الهيئة والتفصيل واللون ، والدليل على وجوب مخالفة كل من الجنسين للآخر في اللباس ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل " رواه أبو داود 4/355 وهو في صحيح الجامع 5071 .
صبغ الشعر بالسواد :
والصحيح أنه محرم للوعيد المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام " يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " رواه أبو داود 4/419 وهو في صحيح الجامع 8153 . وهذا عمل منتشر بين كثير ممن ظهر فيهم الشيب فيغيرونه بالصبغ الأسود فيؤدي عملهم هذا إلي مفاسد منها الخداع والتدليس على خلق الله والتشبع بحال غير حاله الحقيقية ولا شك أن لهذا أثرا سيئا على السلوك الشخصي وقد يحصل به نوع من الاغترار وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير الشيب بالحناء ونحوها مما فيه اصفرار أو احمرار أو بما يميل إلى اللون البني ، ولما أتي بأبي قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة من شدة البياض قال عليه الصلاة والسلام " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " رواه مسلم 3/1663 . والصحيح أن المرأة كالرجل لا يجوز أن تصبغ بالسواد ما ليس بأسود من شعرها .
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك :-(175/53)
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " رواه البخاري انظر الفتح 10/382 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " قال الله تعالى : ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة و ليخلقوا ذرة ... ) " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/385 . وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " كل مصور في النار ، يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذب في جهنم " قال ابن عباس : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه " رواه مسلم 3/1671 . فهذه الأحاديث دالة على تحريم صور ذوات الأرواح من الآدميين وسائر الحيوانات مما له ظل أو ليس له ظل سواء كانت مطبوعة أو مرسومة أو محفورة أو منقوشة أو منحوتة أو مصبوبة بقوالب ونحو ذلك والأحاديث في تحريم الصور تشمل ذلك كله .
والمسلم يستسلم لنصوص الشرع ولا يجادل فيقول أنا لا أعبدها ولا أسجد لها !! ولو نظر العاقل بعين البصيرة والتأمل في مفسدة واحدة فقط لشيوع التصوير في عصرنا لعرف شيئا من الحكمة في هذه الشريعة عندما جاءت بتحريم التصوير وهو ما حصل من الفساد العظيم من إثارة الغرائز وثوران الشهوات بل الوصول إلى الوقوع في الفواحش بسبب الصور .(175/54)
وينبغي على المسلم أن لا يحتفظ في بيته بصور لذوات الأرواح حتى لا يكون ذلك سببا في امتناع الملائكة عن دخول بيته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير " رواه البخاري انظر الفتح 10/380 . وتوجد في بعض البيوت تماثيل بعضها لمعبودات الكفار توضع على أنها تحف ومن الزينة فهذه حرمتها أشد من غيرها وكذلك الصور المعلقة أشد من غير المعلقة فكم أفضت إلى تعظيم وكم جددت من أحزان وكم أدت إلى تفاخر ولا يقال الصور للذكرى فإن الذكرى الحقيقية في القلب من عزيز أو قريب من المسلمين يدعى لهم بالمغفرة والرحمة فينبغي إخراج كل صورة أو طمسها اللهم إلا ما كان عسيرا وفيه مشقة بالغة كالصور التي عمت بها البلوى على المعلبات والصور في القواميس والمراجع والكتب التي يستفاد منها مع السعي لإزالتها ما أمكن والحذر مما في بعضها من الصور السيئة وكذلك يمكن الاحتفاظ بالصور التي تدعو الحاجة لها كما في إثباتات الشخصية ورخص بعض أهل العلم في الصور الممتهنة كالموطوءة بالأقدام ( فاتقوا الله ما استطعتم ) التغابن/16 .
الكذب في المنام :
يعمد بعض الناس إلى اختلاق رؤى ومنامات لم يروها لتحصيل فضيلة أو ذكر بين الخلق أو لحيازة منفعة مالية أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة ونحو ذلك، وكثير من العامة لهم اعتقادات في المنامات وتعلق شديد بها فيخدعون بهذا الكذب وقد ورد الوعيد الشديد لمن فعل هذا الفعل ، قال صلى الله عليه وسلم " إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تر ويقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل " رواه البخاري انظر الفتح 6/540 ، وقال صلى الله عليه وسلم " من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ...الحديث " رواه البخاري انظر الفتح 12/427 ، والعقد بين شعيرتين أمر مستحيل فكان الجزاء من جنس العمل .(175/55)
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر " رواه مسلم 2/667 . أما الوطء على القبور فطائفة من الناس يفعلونه فتراهم عندما يدفنون ميتهم لا يبالون بالوطء ( وبأحذيتهم أحيانا ) على القبور المجاورة دون احترام لبقية الموتى وفي عظم هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم ... " رواه ابن ماجة 1/499 وهو في صحيح الجامع 5038 . فكيف بمن يستولي على أرض مقبرة ويقيم عليها مشروعا تجاريا أو سكنيا . أما التغوط في المقابر وقضاء الحاجة فيها فيفعله بعض من لا خلاق له إذا حضره قضاء الحاجة تسور مقبرة أو دخل فيها فآذى الموتى بنتنه ونجاسته ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما أبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السوق "[ التخريج السابق ] . أي أن قبح قضاء الحاجة في المقبرة كقبح كشف العورة وقضاء الحاجة أمام الناس في السوق ، والذين يتعمدون إلقاء القاذورات والزبالة في المقابر ( خصوصا المهجورة والتي تهدمت أسوارها ) لهم نصيب من ذلك الوعيد . ومن الآداب المطلوبة عند زيارة المقابر خلع النعال عند إرادة المشي بين القبور .
عدم الاستتار من البول :(175/56)
من محاسن هذه الشريعة أنها جاءت بكل ما يصلح شأن الإنسان ومن ذلك إزالة النجاسة ، وشرعت لأجل ذلك الاستنجاء والاستجمار وبينت الكيفية التي يحصل بها التنظيف والنقاء وبعض الناس يتساهل في إزالة النجاسة مما يتسبب في تلويث ثوبه أو بدنه وبالتالي عدم صحة صلاته وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أسباب عذاب القبر فعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط [ بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " رواه البخاري انظر فتح الباري 1/317 . بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن : " أكثر عذاب القبر في البول " رواه الإمام أحمد 2/326 وهو في صحيح الجامع 1213 . وعدم الاستتار من البول يشمل من يقوم من حاجته بسرعة قبل أن ينقطع بوله أو يتعمد البول في هيئة أو مكان يرتد عليه بوله أو أن يترك الاستنجاء أو الاستجمار أو يهمل فيهما ، وقد بلغ من التشبه بالكفار في عصرنا أن صارت بعض المراحيض فيها أماكن لقضاء الحاجة مثبتة في الجدران ومكشوفة يأتي إليها الشخص فيبول أمام الداخل والخارج دون حياء ثم يرفع لباسه ويلبسه على النجاسة فيكون قد جمع بين أمرين محرمين قبيحين : الأول أنه لم يحفظ عورته من نظر الناس والثاني أنه لم يستنزه ولم يستبرئ من بوله .
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون :
قال الله تعالى : ( ولا تجسسوا ... ) الحجرات/11
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ... " رواه الطبراني في الكبير 11/248-249 وهو في صحيح الجامع 6004 والآنك هو الرصاص المذاب .(175/57)
فإذا كان ينقل حديثهم دون علمهم لإيقاع الضرر بهم فهو يضيف إلى إثم التجسس إثما آخر بدخوله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة قتات " رواه البخاري فتح 10/472 والقتات الذي يستمع إلى حديث القوم وهم لا يشعرون به
سوء الجوار
أوصانا الله سبحانه في كتابه بالجار فقال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) النساء/36 .
وإيذاء الجار من المحرمات لعظم حقه : عن أبي شريح رضي الله عنه مرفوعا : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/443
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثناء الجار على جاره أو ذمه له مقياسا للإحسان والإساءة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعت جيرانك يقولون : قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون : قد أسأت فقد أسأت " رواه الإمام أحمد 1/402 وهو في صحيح الجامع 623 .(175/58)
وإيذاء الجار له صور متعددة فمنها منعه أن يغرز خشبة في الجدار المشترك أو رفع البناء عليه وحجب الشمس أو الهواء دون إذنه أو فتح النوافذ على بيته والإطلال منها لكشف عوراته أو إيذاؤه بالأصوات المزعجة كالطرق والصياح وخصوصا في أوقات النوم والراحة أو ضرب أولاده وطرح القمامة عند عتبة بابه والذنب يعظم إذا ارتكب في حق الجار ويضاعف إثم صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .. لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره " رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 103 وهو في السلسلة الصحيحة 65 ، وبعض الخونة ينتهز غياب جاره في نوبته الليلية ويدخل بيته ليعيث فيه الفساد فالويل له من عذاب يوم أليم .
المضارة في الوصية : -
من قواعد الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار ومن الأمثلة على ذلك الإضرار بالورثة الشرعيين أو ببعضهم ومن يفعل ذلك فهو مهدد بقوله صلى الله عليه وسلم : " من ضار أضر الله به ومن شاق شق الله عليه " رواه الإمام أحمد 3/453 انظر صحيح الجامع 6348 . ومن صور المضارة في الوصية حرمان أحد الورثة من حقه الشرعي أو أن يوصي لوارث بخلاف ما جعلته له الشريعة أو أن يوصي بأكثر من الثلث .
وفي الأماكن التي لايخضع فيها الناس لسلطان القضاء الشرعي يتعذر على صاحب الحق أن يأخذ حقه الذي أعطاه الله له بسبب المحاكم الوضعية التي تحكم بخلاف الشريعة وتأمر بإنفاذ الوصية الجائرة المسجلة عند المحامي فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .
اللعب بالنرد :-(175/59)
تحتوي كثير من الألعاب المنتشرة والمستعملة بين الناس على أمور من المحرمات ومن ذلك النرد ( المعروف بالزهر ) الذي يتم به الانتقال والتحريك في عدد كثير من الألعاب كالطاولة وغيرها وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النرد الذي يفتح أبواب المقامرة والميسر فقال : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " رواه مسلم 4/1770 . وعن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعا : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " رواه الإمام أحمد 4/394 وهو في صحيح الجامع 6505 .
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن :-
لا يملك كثير من الناس ألسنتهم إذا ما غضبوا فيسارعون باللعن فيلعنون البشر والدواب والجمادات والأيام والساعات بل وربما لعنوا أنفسهم وأولادهم ولعن الزوج زوجته والعكس وهذا أمر جد خطير فعن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا : " .... ، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/465 ولأن اللعن يكثر من النساء فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه من أسباب دخولهن النار وكذلك فإن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة وأخطر منه أن اللعنة ترجع على صاحبها إن تلفظ بها ظلما فيكون قد دعا على نفسه بالطرد والإبعاد من رحمة الله .
النياحة :-(175/60)
من المنكرات العظيمة ما تقوم به بعض النساء من رفع الصوت بالصياح وندب الميت ولطم الوجه وكذلك شق الثوب وحلق الشعر أو شده وتقطيعه وكل ذلك يدل على عدم الرضا بالقضاء وعدم الصبر على المصيبة وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور " رواه ابن ماجة 1/505 وهو في صحيح الجامع 5068 . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " رواه البخاري انظر الفتح 3/163 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " رواه مسلم رقم 934
ضرب الوجه والوسم في الوجه :-
عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه . رواه مسلم 3/1673
أما ضرب الوجه فإن عددا من الآباء والمدرسين يعمدون إليه في معاقبة الأولاد حينما يضربون الوجه بالكف ونحوه وكذا يفعله بعض الناس مع خدمهم وهذا مع ما فيه من إهانة الوجه الذي كرم الله به الإنسان فإنه قد يؤدي أيضا إلى فقد بعض الحواس المهمة المجتمعة في الوجه فيحصل الندم وقد يطلب القصاص .
أما وسم الدواب في الوجه وهو وضع علامة مميزة يعرف بها صاحب كل دابة دابته أو ترد عليه إذا ضلت فهو حرام وفيه تشويه وتعذيب ولو احتج بعض الناس بأنه عرف قبيلتهم وعلامتها المميزة فيمكن أن يجعل الوسم في مكان آخر غير الوجه .
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي :-(175/61)
من خطوات الشيطان إحداث القطيعة بين المسلمين وكثيرون أولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون إخوانهم المسلمين لأسباب غير شرعية إما لخلاف مادي أو موقف سخيف وتستمر القطيعة دهرا وقد يحلف أن لا يكلمه وينذر أن لا يدخل بيته وإذا رآه في طريق أعرض عنه وإذا لقيه في مجلس صافح من قبله ومن بعده وتخطاه وهذا من أسباب الوهن في المجتمع الإسلامي ولذلك كان الحكم الشرعي حاسما والوعيد شديدا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " رواه أبو داود 5/215 وهو في صحيح الجامع 7635 .
وعن أبي خراش الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا : " من هجر أخاه سنة فهو بسفك دمه " رواه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم 406 وهو في صحيح الجامع 6557 .
ويكفي من سيئات القطيعة بين المسلمين الحرمان من مغفرة الله عز وجل فعن أبي هريرة مرفوعا : " تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين ، يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال : اتركوا أو أركوا ( يعني أخروا ) هذين حتى يفيئا " رواه مسلم 4/1988 .
ومن تاب إلى الله من المتخاصمين فعليه أن يعود إلى صاحبه ويلقاه بالسلام فإن فعل وأبى صاحبه فقد برئت ذمة العائد وبقيت التبعة على من أبى ، عن أبي أيوب مرفوعا : " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " رواه البخاري فتح الباري 10/492 .
أما إن وجد سبب شرعي للهجر كترك صلاة أو إصرار على فاحشة فإن كان الهجر يفيد المخطئ ويعيده إلى صوابه أو يشعره بخطئه صار الهجر واجبا ، وأما إن كان لا يزيد المذنب إلا إعراضا ولا ينتج إلا عتوا ونفورا وعنادا وازديادا في الإثم فعند ذلك لا يسوغ الهجر لأنه لا تتحقق به المصلحة الشرعية بل تزيد المفسدة فيكون من الصواب الاستمرار في الإحسان والنصح والتذكير .(175/62)
وختاما هذا ما تيسر جمعه من المحرمات المنتشرة [ والموضوع طويل وقد رأيت إتماما للفائدة أن أفرد فصلا خاصا بجملة من المنهيات الواردة في الكتاب والسنة مجموع بعضها إلى بعض ستكون في رسالة مستقلة إن شاء الله ] نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه ومن طاعته ما يبلغنا به جنته وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يتقبل توبتنا ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(175/63)