وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه، وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم". يضيعهم، يبدد إخوانه بسبب جهله بأصول المودة والعشرة.
تأمل هذه الأقوال الجميلة، آيات الله، وأحاديث رسول الله، أقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.
من الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان).
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة، هناك مفاسد كثيرة نذكر منها في هذه الخطبة:-(140/3)
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك، قال ـ والحديث ثابت عنه ـ: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس)) سبحان ربي العظيم، أحاديث نبوية يتكلم بها النبي عن ربه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى [النجم:3، 4] يتكلم عن نفوس بشرية، لا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تكنه وتجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس، وقلت مرة بقول الله, أن النبي عليه الصلاة والسلام احتاج لتوجيه من هذا النوع، يقول سبحانه وتعالى لنبيه ، ونحن من باب أولى؛ ففي علم الأصول إذا نزل الخطاب بأقل الناس استحقاقًا فأكثر الناس استحقاقًا من باب أولى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تتطلع لما عند الناس وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]ولكن إذا ألمت بالإنسان مصيبة، كما قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان)، أقول إذا ألمت بك مصيبة، ونزلت به نازلة فاطلب مشورة إخوانك من أقرب الناس إليك، ممن تعزهم وتجلهم، وتشعر بأنهم يبادلونك نفس الشعور، فإن كان مؤمنًا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).(140/4)
والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بقوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] تبوءا الدار أي المدينة، الذين استقبلوا المهاجرين المسلمين من صحابة النبي تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ أي مما أوتي المهاجرون من الفضائل فهم أول الناس إسلامًا، وأولهم ذكرًا في الآيات الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ [التوبة:117] فلهم فضائل معروفة، وإن كان الأنصار فضلهم معروف، فلا يتضايقون من فضل المهاجرين عليهم، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ نزلت في أنصاري، قصته أنّ النبي يأتيه رجل يعاني من اللأواء وضيق العيش ويطلب ولو طعامًا يسد جوعته، فيستنفر الأنصار من يؤويه، فينبري أحد الأنصار رضي الله تعالى عنه وكان فقيرًا، ويأتي إلى أهله ويطلب منهم أن يصنعوا طعامًا لضيفه الذي دفعه إليه النبي عليه الصلاة والسلام، فالمرأة تقول: البيت ليس فيه إلا طعام الصبية، طعام الصبية فقط لهذه الليلة، فقال: اطبخوه وكان قليلاً، وأشغل الأطفال حتى ناموا ولم يتعشوا، وبدأ الضيف يأكل والطعام قليل، وأطفأ النور ليأكل الضيف ليشعر الضيف بأنه يأكل معه، فاستحق بهذا الصنيع أن ينزل فيه قرآنوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
اسأله سبحانه وتعالى أن يربينا وإياكم على معاني الإسلام من إيثار وغيره، أصبح الإسلام مجرد مفاهيم، عاريةعن تطبيق إلا من رحم الله وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24].(140/5)
إذاً إذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، لا تطلب منه حاجتك، اطلب منه المشورة، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، لا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه, لذلك فرق العلماء بين الطمع فيما بين أيدي الناس وعرض المشكلات، عرض المشكلات، قد تشير عليه بمشورة ولا تقدم له شيئاً، وتكون هذه المشورة من أعظم ما يقدم للإنسان، تأمره بالصبر, بالاستعفاف، بأشياء كثيرة وكلها مأثورة في ديننا العظيم.
ومن الأمور التي تقدح في الأخوة وتبعثر الأصدقاء: المعاصي، المعاصي وتضييع الطاعات والقربات، والتنافس في المعاصي عياذاً بالله، سبحان الله إذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)) في روايتين قال : ((والذي نفس محمد بيده ما توادّ اثنان فيُفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهم)) حديث صحيح رواه أحمد.
سبحان الله، الذنوب هذه تمحق الشركات، ((فإن صدقا بوركا لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما))، والشريكان في بركة إذا صدقا، وإذا تسربت المعاصي والنيات تبعثرت الأوراق، وهكذا العلائق والإخوة.
لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "الجواب الكافي" قال: "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه" لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، سبحان الله المعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله فانقطعت الصلة مع أحبته في الله، سبحان الله العظيم.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.(140/6)
أما فرسان المعاصي ورجالات المنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم من الأيام في ضحكات وجلسات وسفرات ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، سبحان الله العظيم.
ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] الله أكبر، إخوة في الله في الدنيا وتواصل في الجنان عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حبًا في الله، ويزكي نفوسنا ويرفع همومنا.
كذلك من مفسدات الأخوة عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث، فقد ترك لنا النبي منهجًا رائعًا راقيًا يبني علاقاتنا ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا ويصفي علاقاتنا، من ذلك اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان، قال سبحانه وتعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا [الأسراء:53] يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان، يقصدك, تنقصك, يرمي إلى كذا، هل يقصد كذا؟ لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي: ((الكلمة الطيبة صدقة))، وقال سبحانه وتعالى موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]. سبحان الله، كيف الشارع يبشع التصرفات الرعناء والهوجاء يلعن ويسب ويرفع صوته على إخوانه إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.(140/7)
لذلك عبد الله بن عمرو بن العاص يصف النبي بقوله: (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا) لم يكن فاحشًا يعني لم يكن قبيحًا في قوله أو فعله ولا متفحشًا ولا يتعمد ذلك، سجية فيه الكلام الطيب، ولكن بعض الناس عياذاً بالله حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب ينثر القيءَ والصديد يمينًا وشمالاً لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه أعوذ بالله رفع الصوت والسباب والشتم والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات ويقضي على العلاقات.
كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام؛ لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث ـ يعني من حديث النبي وربما بمسألة علمية ـ أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ" ذكر هذا الذهبي في السير في المجلد الخامس عن عطاء رحمه الله تعالى.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
أدرى بفقه الحديث وسنده ومراميه ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.
بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا، أنا مر عليّ هذا كأنه يقول: أنت جاهل فقدرك أن تكون مستمعًا، سبحان الله العظيم.
والنبي يجلس يستمع لمن؟ لأحد رؤوس الكفر عتبة بن الربيعة يتكلم ويتكلم حتى سكت، ولما سكت لم يتكلم النبي إلا بعد هذه الجملة ((هل فرغت يا أبا الوليد)) تريد إكمال تريد حلقة تكملها، تريد استدراكاً، قال: لا، قال: ((الآن اسمع)) أدب، سبحان الله العظيم، يدعو إلى الكفر والباطل والزندقة، والنبي يدعو إلى الحق بكتاب الله ومعجزة ظاهرة، ومع ذلك يعطيه درسًا في أدب الاستماع.(140/8)
كذلك من مفسدات الأخوة ـ مما يتعلق بالأدب ـ المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل، لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها، لها معاني، لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا ومدروسًا ملائمًا، كثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة أو تعليقه سخيفة، أليس كذلك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراء والجدال، قد تنقطع العلاقة المتينة الضاربة في الزمن بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة. عياذاً بالله سبحانه وتعالى، يضرب بالعشرة والمودة لما تصل إلى ملامسة ذاته وكبريائه؛ بسبب أنه لم ينصهر بعد في بوتقة الإيمان، وفي بحبوحة العقيدة.
وصدق رسول الله ، والحديث في البخاري في كتاب الأدب، يقول: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) كثير الخصومة، افتعال المعارك الكلامية، وحب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي، هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال ، والحديث ثابت كما ذكره أحمد والترمذي، ورمز الألباني إلى ثبوته في صحيح الجامع، قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).(140/9)
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، يورث الجدل، سبحان الله العظيم، والجدال والمجادلة وردت كثيرًا في القرآن في أغلب سياقتها مذمومة، وارجع إلى المعجم المفهرس، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56]. مجادل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه, نسأل الله السلامة، ولذلك فاستعذ بالله.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع لا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة فانسحب بلطف وبطريقة جميلة تدل على حكمة، قال سبحانه وتعالى: وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لا بأس، لكن الجدال بمعناه العام لا شك أنه مذموم، لذلك قال في الحج تربية فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة:197]. سبحان الله، تخصيص بعد تعميم، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، جدال تخصيص بعد تعميم يدل على العناية، مخصوص، الجدال الذي من أجل إظهار النفس ولا طائل من ورائه لا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
وقال سبحانه وتعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً[الكهف:54] ووصف الكفار بأنهم قوم لدٌّ، كثيرو اللدد والخصومة، قالوا للنبي: شُق القمر، شَق القمر هل أسلموا؟ لا، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:1، 2]، أما صاحب الحق فيحتاج فقط إلى بيان بسيط وجلي ويقبل بدون مجادلة.(140/10)
نسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن لا يجادلون إلا بحق ولأجل الحق، أقول: هذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه، لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة فيقطع علاقة متينة لأنه أورث الجدل عياذاً بالله.
كذلك من مفسدات الأخوة: النجوى، أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معاني عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة المؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
ما معنى النجوى؟
يفصلها النبي في الحديث الثابت في الصحيحين، يقول: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه))، قال العلماء: إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء كما أشار ابن كثير رحمه الله إلى طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة، وليس طلبه الإذن كعادة بعض الناس يأخذه بيده ويقول: عن إذنك، لا، لا بد أن تطيب نفسه قبل الشروع في الابتعاد، كأن يقول: تسمح لنا يا أخي بحديث في موضوع خاص سري بيني وبينه يتعلق بموضوع لو كان لك به علاقة لما أخفيناه عن مثلك، ليس لك به علاقة، لكن ثمة سر نكتمه كما أمر الله وأمر رسوله، فإن طابت نفسه وقال: لكم ما أردتما فلا بأس، أماأن يقول: عن إذنك وينصرف فهذا لا ينبغي, الله يقول: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والنبي يقول: ((فإن ذلك يحزنه)).
بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ إمارات الريبة فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث وأنه لن يذكر من بعيد ولا من قريب.
آداب نبوية مرعية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة.(140/11)
حقيقة الإيمان
كتبه : الشيخ سليمان حمد العودة
ملخص الخطبة
1- وصية الأنبياء بالإيمان والثبات عليه 2- تفاوت إيمان الناس بالغيب 3- الإيمان منزلة لا يدركها بعض من يدعيها 4- العلاج لهذه الفاحشة 5- اختلاف أهل البدع في حقيقة الإيمان 6- خوف المؤمنين من الله وخوفهم من النفاق 7- ينبغي أن يظهر أثر الإيمان في سلوكنا 8- من الإيمان التحاكم إلى شرع الله ونبذ شرائع غيره
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: والإيمان هو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود من أجلها خلق الله الخلق وبعث الأنبياء وأنزلت الكتب: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25].
والإيمان هو ميدان الصراع بين الحق والباطل، وأوذي وفتن من أجله المؤمنون ولم يسلم من التهديد والمطاردة في سبيله المرسلون: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:102-103].
وقال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد [إبراهيم :13-14].
وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا [الأعراف:88].
والإيمان لاهميته تواصى به الانبياء عليهم السلام: كما قال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:133].
ومازال محل تذكير الآباء للابناء حتى حضور الموت: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون .(141/1)
أيها المسلون: الإيمان الحق هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإيمان الحق هو التصديق الجازم بعالمي الغيب والشهادة، وإذا تساوى الناس في الإيمان بعالم الشهادة، وهو ما يشاهدونه حاضرا بأم أعينهم تفاوتوا في الإيمان بالغيب الذي غيبه الله عن أنظارهم وحواسهم في هذه الحياة، وأخبرهم عنه خبر صدق في كتبه المنزلة وبواسطة أصدق خلقه من أخبار الأمم الماضية وأهوال يوم القيامة وأشراط الساعة ونحوها.
هنا يتفاوت الناس حسب إيمانهم، فمنهم من يؤمن بها كأنه يراها رأي العين، ومنهم من يجحد وينكر، وما يجحد بآيات الله إلا الظالمون، ومنهم من يبقى شاكا مترددا فإن لم يرد الله به خير ويهديه للإيمان عاش معذبا في هذه الحياة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى...نسأل الله السلامة والعصمة.
عباد الله: والإيمان بالله منزلة علية تشرأب لها الأعناق، والإيمان بالله ملاذ عند الشدائد والكروب، ولذا فليس كل من ادعى الإيمان مؤمنا: قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات:14].
بل لقد ادعاه فرعون حين أحس الهلاك ففضحه الله وجعله عبرة للمعتبرين حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون [يونس:90-92].
وإذا كان الأمر كذلك فما هي حقيقة الإيمان؟ وما نوع الأعمال التي تبلغ بصاحبها إلى هذه المنزلة الرفيعة.
يعرف علماء السنة والجماعة الإيمان بأنه: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
ويعنون بقول اللسان: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما.
أما اعتقاد القلب فهو: النية والإخلاص والمحبة والانقياد والاقبال على الله والتوكل عليه ولزام ذلك وتوابعه.(141/2)
أما عمل بالجوارح فهو: عمل الصالحات القولية والفعلية والواجبة والمسنونة مما يندرج تحت شعب الإيمان التي قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
وهذا المفهوم الواضح الشامل للإيمان يرد على الطوائف الضالة التي يعتقد بعضها أن الإيمان مجرد لاصق وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كالمرجئة ومن سايرهم، ويرد كذلك على الذين يكفرون بالذنب الذي يرتكبه المسلم وهم الخوارج ومن شايعهم، أو يغالون في الدين وينسبون لله ما ليس منه كالرافضة والباطنية على اختلاف نحلهم.
إخوة الإسلام: الإيمان الحق اعتقاد للمبدأ الحق وثبات عليه دون تردد أو ارتياب إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسله ثم لم يرتابوا(3).
وهو جهاد بالمال والنفس وتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
الإيمان الحق خوف من الجليل يقود لفعل الجميل والتوكل على العزيز الرحيم إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال:2].
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [المؤمنون:60].
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق ولكنهم يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم(4))).
قال سفيان بن عيينة: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض هؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه(5).(141/3)
خوف المؤمنون يا عباد الله ليس خوفا سلبيا يقعد بهم عن عمل الصالحات، لكنه تخوف من عدم القبول لكونهم قصروا في شروط القبول يدفعهم إلى تحسين العمل واتقانه وهو خوف من أن يسلب منهم هذا الإيمان ،وهو يدفعهم إلى مزيج العناية به واستشعار حلاوته قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((ما لي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم، والذي نفسي بيده لو إن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، وما خاف عبد على إيمانه إلا منحه، وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه(6))).
خوف المؤمنين صيانة للنفس عن النفاق الذي تبدو صورته الظاهرة حسنة للعيان، والله أعلم بما تكن الصدور وتنطوي عليه القلوب من الكفر والعصيان، ولذا أخرج البخاري في صحيحه تعليقا ووصله غيره عن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه(7).
وقال الحسن البصري رحمه الله: والله ما أصبح ولا أمسى على وجه الأرض مؤمن إلا ويخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق(8).
أيها المسلمون: الإيمان الحق الذي نحتاجه جميعا هو عدل في القول ووفاء بالعهد ونطق بالحق وسكوت عن الباطل: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله اوفوا [الأنعام:125].
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
وهو خلق رفيع وحسن أدب مع الخالق والمخلوق: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء(2))).
وهو لحسن خلقه وكرمه لا يتفطن للشر وقد جاء في الحديث الحسن: ((المؤمن غِر كريم، والفاجر خب لئيم(3))).
والمعنى كما قال صاحب النهاية: إن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة وقلة فطنته للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا ولكن كرم وحسن خلق(4).(141/4)
والمؤمن الحق يتجاوز دائرة ذاته ويهتم ويألم لأحوال إخوانه قال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس(1))).
وهو بين الناس طلق المحيا، كريم الندى، لطيف المعشر يألف ويؤلف ((ولا خير من لا يألف وخير الناس أنفعهم للناس(2)))
وهو مع ذلك كله آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر والمؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [التوبة:71].
وبالجملة فأهل الإيمان هم المحافظون على جلائل الأعمال القولية والفعلية مثل قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون [المؤمنون:1-9].
جعلني الله وإياكم من أهل الإيمان ونفعني بهدي القرآن . . الخ.
---
(3) انظر : معارج القبول ، الحكمي 1/20-30
(4) رواه أحمد و الترمذي .
(5) الإيمان لابن تيمية /60
(6) أخرحة البيهقي في شعب الإيمان .. ثلاث شعب ….1/191
(7) انظر : الفتح 1/109
(8) رواه البيهقي في الشعب ، ورواه البخاري طرفاً منه ، الفتح 1/111، الشعب 1/191 192
(2) أخرجه أحمد ،وغيره بسند صحيح ، وصحيح الجامع 5/89
(3) رواه أبو داود و الترمذى و الحاكم ، وصحيح الجامع 5/89
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر ، ابن الأثير ، 3/354 ، 355
(1) حديث حسن رواه أحمد عن سهيل بن سعد ، صحيح الجامع 6/7
(2) صحيح الجامع 6/7
الخطبة الثانية(141/5)
الحمد لله رب العالمين انعم على عباده المؤمنين إذ هداهم للإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرح صدور المسلمين للإيمان فهم على نور من ربهم، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أكمل المؤمنين إيمانا وأحسنهم خلقا اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: والإيمان ضمان للثبات في مواقف الامتحان وهو مركب للنجاة في طوفان الفتن والمحن، به يميز الله الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب [آل عمران:179].
يفرق المؤمنين بين عذاب الله وفتنه الناس، يصبرون على البلوى ويشكرون على السراء ((عجبا لأمر المؤمن إن اصابته ضراء صبر وكان خير له)) وفي حديث آخر: ((المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله(2))).
والإيمان معلم هاد في بيداء الصحارى المهلكة إذا تاه الدليل أو خيم الظلام أو كان حبيس الغم أو ضاقت على المرء الضوائق فيؤنسه الإيمان بخالقه ويتسع له المكان مهما كان ضيقاً ومنعزلاً: وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء:87-88].
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً [الكهف:16].
الإيمان الحق سبب للأمان إذا انتشر الرعب وساد القلق وتخطف الناس ولم يأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82].
والمؤمنون هم الذين تزيدهم الشدائد ثباتا ورؤيتهم لتكالب الأعداء عليهم إيمانا وتسليما ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً [الأحزاب:22].(141/6)
أما غير المؤمنين فتطير قلوبهم لكل نازلة فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [الأحزاب:19].
والمؤمنون رحماء بينهم هينون لينون كافون عن الأذى باذلون للمروءة والندى، وليس من الإيمان إيذاء المؤمنين قولا وفعلا: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً [الأحزاب:58].
المؤمنون يتحاكمون إلى شرع الله ويرضون بالإسلام حكما ولا يجدون في انفسهم حرجا بل يرضون ويسلمون تسليما انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [النور:51].
أما غير المؤمنين فيأنفون من حكم الله ويتحاكمون إلى الطاغوت وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله وأولئك هم الظالمون [النور:48-50].
المؤمنون حقا يتحرون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وهم حريصون على الحلال جمعا وإنفاقا لا يشربون الخمر ولا ياكلون السحت ولا يتعاملون بالربا أو ضروب المعاملات المحرمة الأخرى في البيع والشراء، نفقتهم عدل ووسط بين التقتير والإسراف، أمرهم ربهم بالحلال فامتثلوا، ونهاهم عن الحرام فانتهوا، قال لهم في الأولى: يا أيها الذين امنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [البقرة:172]. وقال لهم في الأخرى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفحلون وقال كذلك: يا أيها الذين ءامنوا لا تاكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون [المائدة:90].(141/7)
أما غير المؤمنين فلا يتورعون عن الحرام ولا يحتاطون في الحلال، أمرهم فرط ، وربما ملكوا القناطير المقنطرة، وقد يخيل لمن لا يعرفهم أنهم من شدة اللهاث جوعى، وربما انقلبت موازينهم فجأة فأصبح الغني فقيرا، والدائن مدينا، فلا الإيمان أسعفهم بالنزاهة والشكر على المال جمعا، وليس غير الإيمان يسليهم على فقده صبرا من يهن الله فما له من مكرم [الحج:18].
عباد الله: هذه دعوة لنا جميعا لنعلم حقيقة الإيمان ونتخلق بأخلاق الإسلام، وليست حصرا لحقائق الإيمان ولا احصاء لصفات المؤمنين، لكنها الاشارة بالبعض إلى الكل، أما النتيجة التي يجب أن نخلص إليها فهي أن الإيمان ليس بضاعة مزجاة تباع وتشترى بأبخس الأثمان أو مجرد دعوى وألقاب تجوز على كل لسان، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان نهج متكامل، فهو عبادة الله خاشعة ومعاملة لخلقه كريمة، وأخلاق رفيعة، هو كسب نظيف وإنفاق مشروع.
الإيمان الحق اعتقاد سليم وعمل صحيح، جهاد وتضحية، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولاء وبراء، مظهر ومخبر، بذل للندى، وكف عن الاذى، وخروج عن الأنانية المقيتة ونصرة للنفس المسلمة المظلومة.
وبهذا يتبين خطأ نظرتين للإيمان إحداهما جافية، والأخرى غالية.
أما الجافية فترى أن مجرد الإيمان بالله كاف حتى وإن ضيعت الصلاة وقُصر في أداء الزكاة واختلطت المعاملات الحلال بالحرام، بل يكثر هذا الصنف الجافي من القول: لا داعي للتركيز على المظاهر، فالمخابر هي الأساس، وهؤلاء يهدمون الإسلام لبنة لبنة، حتى إذا لم يبق إلا شبح البناء تهاوى وبكى على الأطلال.
أما الصنف الغالي فهم يعظمون الصغير ويكفرون على الذنب الكبير، وربما فتحوا معارك في خطأ علاجه بالحسنى أجدى وأولى، وربما جعلوا احتقار الناس دينا والتنقص من أمرهم دينا وشرعا والله يقول: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [النجم:32].(141/8)
إن دين الله هو وسط بين الغالي والجافي، والحكم عند التنازع: كتاب الله وسنة رسوله صلى عليه وسلم ونظرة واسعة لهما وفهم عميق.
اللهم سددنا في أقوالنا وأفعالنا، وهب لنا ايمانا تصلح به سرائرنا وعلانيتنا. . .الخ.
---
(2) صحيح الجامع(141/9)
المسيح الدجال
كتبه : الشيخ محمد حسان
ملخص الخطبة
1- علامات الساعة الكبرى 2- فتنة الدجال 3- وصف الدجال 4- السبيل إلى النجاة من فتنته
الخطبة الأولى
أحبتي في الله:
هذا هو لقاءنا الرابع مع دروس سلسلة الدار الآخرة، وكنا قد أنهينا آنفا الحديث عن العلامات الصغرى التي ستقع بين يدي الساعة، والآن حديثنا عن العلامات الكبرى التي ستقع قبل قيام الساعة مباشرة، وقد ذكر النبي هذه العلامات في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع علينا النبي ونحن نتذاكر فقال: ((ما تذاكرون؟)) قلنا: نذكر الساعة قال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم))([1]).
ولقد ذكر المصطفى هذه العلامات بغير هذا الترتيب في روايات أخرى صحيحة والذي يترجح من الأخبار كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" :
أن خروج الدجال هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب، والله أعلم([2]).
ولكن على أي حال فإن العلامات الكبرى ستقع متتابعة فهي كحبات العقد إذا انفرطت منه حبه تتابعت بقية الحبات.
ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصححه على شرط مسلم وأقره الحاكم والذهبي والألباني من حديث أنس أن النبي قال: ((الأمارات (أي العلامات الكبرى) خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً))([3]).(142/1)
واسمحوا لي أن أستهل الحديث اليوم مع حضراتكم في العلامات الكبرى عن الآية العظيمة الأولى التي تؤذن بتغير الأحوال على الأرض، ألا وهي المسيح الدجال... وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا فسوف أركز الحديث في العناصر التالية :
أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض.
ثانياً: وصف دقيق للدجال وفتنته.
ثالثاً: ما السبيل إلى النجاة.
فأعرني قلبك جيدا... وأعرني سمعك تماما... فإن الموضوع من الخطورة بمكان.
أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، فتدبر جيدا أيها الحبيب وقِفْ على خطر هذه الفتنة!، فالدجال أعظم فتنة على وجه الأرض من يوم أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة.
لماذا سمى الدجال بالمسيح الدجال؟!!
سمى الدجال بالمسيح لأن عينه ممسوحة قال المصطفى : ((الدجال ممسوح العين))([4]) وسمى بالدجال لأنه يغطى الحق بالكذب والباطل فهذا دجل فسمى بالدجال وفتنة الدجال فتنة عظيمة!!
وفى صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال))([5]).
وأمرُ الدجالِ أمرُُ غيبي والأمر الغيبي لا يجوز أن نتكلم فيه بشيء من عند أنفسنا إنما ننقل عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأنوه أيضاً أننا لا نلتفت إلا لما صح من حديث رسول الله كعادتنا ولله الحمد والمنة.(142/2)
روى ابن ماجه في سننه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أن الحبيب قال: ((إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة المسيح الدجال ولم يبعث الله نبيا إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة ،فإن يخرج الدجال وأنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج الدجال من بعدي فكل امريء حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم)).
يا لها من كرامة لأمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ففتنة الدجال عظيمة!.. أعظم فتنة على وجه الأرض بشهادة الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
أحبتي في الله:
لقد وصف النبي الدجال وصفاً دقيقاً محكماً وبين لنا فتنته بياناً شافيا حتى لا يغتر بالدجال أحد من الموحدين بالله رب العالمين... وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانياً: وصفٌ دقيقٌ للدجال وفتنته
وصف النبي الدجال فقال :والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال :
قام رسول الله في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى على الله بما هو أهله.... فذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، ولقد أنذر نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ألا فاعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور))([6]).
وفى رواية ((أعور العين اليمنى))، وفي رواية أخرى صحيحة ((أعور العين اليسرى))، اعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور جل جلاله، جل ربنا عن الشبيه.. وعن النظير.. وعن المثيل.. لا كفء له، ولا ضد له، ولا ند له ولا شبيه له، ولا زوج له ولا ولد له: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، لَيسَ كَمثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ .
ثم قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم))([7]).(142/3)
ماذا تريد بعد ذلك من الرحمة المهداة والنعمة المسداة من الذي قال ربه في حقه: بالمُؤمِنِينَ رَؤوفُُ رَحِيمُُ .
يبين لك لتتعرف على الدجال إن خرج بين أظهرنا، يقول لك ممسوح العين... مكتوب بين عينيه كافر... يقرؤه كل مسلم.
وفى رواية حذيفة في صحيح مسلم قال : ((الدجال، مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب))([8]).
لا ينبغي أن نصرف لفظ النبي على غير ظاهره، الكتابة على جبين الدجال كتابة حقيقية لدرجة أنه وردت في رواية في صحيح مسلم قال : ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي كافر))([9]).
وصف عجيب للدجال من رسول الله عليه الصلاة والسلام !
أستحلفك بالله أن تتدبر معي هذا المطلع العجيب الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال الذي لا ينطق عن الهوى : ((لأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال، معه نهران يجريان أحدهما رأى العين ماء أبيض، والأخر رأى العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض، ثم ليطأطيء رأسه فليشرب منه فإنه ماء بارد))([10]).
يقول لنا الصادق المصدوق لا تخش نار الدجال فهو دجال يغطى الحق بالكذب والباطل، إن رأيت ناره فاعلم بأنها ماء عذب بارد طيب.
وفى رواية أخرى في صحيح مسلم لحذيفة رضي الله عنه أن النبي قال: ((يخرج الدجال وإن معه ماءً وناراً، فما يراه الناس ماءً فهي نار تحرق وما يراه الناس نارا فهو ماء بارد عذب))([11]).(142/4)
في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: سأل الصحابة رسول الله عن المدة التي سيمكثها الدجال في الأرض، فقال الحبيب : ((أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كسائر أيامكم ))، قلنا: يا رسول الله اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره))([12])، يعنى صلوا الفجر وعدوا الساعات التي كانت قبل ذلك بين الفجر والظهر، وصلوا الظهر، وعدوا الساعات التي كانت بين الظهر والعصر وهكذا.
فسأل الصحابة رسول الله - وما زلنا في حديث النواس ابن سمعان -: وما سرعته في الأرض؟!: ((يمكث في الأرض أربعين ليلة فيمر على الأرض كلها؟ سرعته كالغيث - أي المطر- استدبرته الريح))... يعنى يمر في كل أرجاء وأنحاء الأرض.
ثم قال الحبيب : ((يأتي الدجال على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ماكانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر)).
فتنة رهيبة !!
فلو عقل هؤلاء لعلموا أن صفات النقص من أعظم الأدلة على كفره وبطلان إدعاءاته.
إن الذي يستحق أن يعبد هو المتصف بكل صفات الكمال والإجلال.
ثم ينطلق الدجال إلى قوم آخرين فيقول لهم: أنا ربكم. فيقولون :لا ويكذبونه.
يقول المصطفى : ((ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) أي جماعات النحل
فتنة رهيبة!!
ثم تزداد الفتنة !!!
يقول النبي ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، فيمشى الدجال بين القطعتين أمام الناس ويقول للشاب قم فيستوي الشاب حيا بين يديه !!.
فتنه رهيبه !!!
وفى رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم([13]) يقول المصطفى : ((فيخرج إليه شاب فتلقاه المسالح، مسالح الدجال (أي أتباعه من اليهود الذين يحملون السلاح) فيقولون له: أين تعمد؟(142/5)
فيقول: إلى هذا الذي خرج (أي إلى الدجال) فيقولون له أولا تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، أي لو نظرت إلى الدجال سأعرفه!
فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أو ليس قد نهانا ربنا أن نقتل أحداً دونه، فينطلقون بهذا الرجل المؤمن إلى الدجال، فإذا نظر المؤمن إليه قال: أيها الناس! هذا المسيح الدجال الذي ذكره لنا رسول الله يقول المصطفى: ((فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضربا، قال: فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب. قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشى الدجال بين القطعتين ،: ثم يقول له: قم، فيستوي قائما، قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة؟ قال: ثم يقول: يا أيها الناس: إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه في النار وإنما ألقي في الجنة)) فقال رسول الله : ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين))([14])
وسأختم حديثي عن فتنة الدجال بحديث عجيب رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث تميم الداري رضي الله عنه من حديث فاطمة بنت قيس عن تميم الداري قالت: سمعت منادي رسول الله ينادي: "الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله ، وكنت في النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى الرسول صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ((أيها الناس ليلزم كل إنسان مصلاه)) ثم قال ((أتدرون لم جمعتكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم.(142/6)
فقال رسول الله : ((أما إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام "قبيلتان عربيتان مشهورتان" فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا([15]) إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا جزيرة فلقيتهم دابة أهلب([16]) كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره، فقالوا: ويلك، من أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة، قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فلما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا ندرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن بيسان قلنا: وعن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة(142/7)
الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال أما إن ذاك خيرا لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عنى، أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فسأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة فهما محرمتان على كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدنى عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها)) قالت: قال رسول الله : وطعن بمخصرته في المنبر ((هذه طيبة.. هذه طيبة)) يعنى: المدينة ((ألا هل كنت حدثتكم عن ذلك؟)) فقال الناس: نعم، قال: ((فإنه أعجبني حديث تميم لأنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو؟ من قبل المشرق ما هو ؟، وأومأ بيده إلى المشرق)) قالت: فحفظت هذا من رسول الله .
أيها الأحبة الكرام:
هذا قليل من كثير، فلا زال هناك الكثير عن فتنة الدجال، فقد أجملت لكم ما يسر الله عز وجل، لنقف على خطورة هذه الفتنة.
وهناك سؤال لابد أن يطرح في هذا المجال ألا وهو:
هل سيقتل الدجال؟! ومن الذي سيقتله؟!!!
نعم... أبشروا سيقتل الدجال وسيقتله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.(142/8)
روى ابن ماجه في سننه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أنه قال: ((بينما إمام المسلمين يصلى بهم الصبح في بيت المقدس إذا نزل عيسى بن مريم، فإذا نظر إليه إمام المسلمين عرفه، فيتقهقر إمام المسلمين لنبي الله عيسى ليصلى بالمؤمنين - من أتباع سيد النبيين محمد- فيأتي عيسى عليه السلام ويضع يده في كتف إمام المسلمين ويقول: لا بل تقدم أنت فصلِّ فالصلاة لك أقيمت))، وفي لفظ ((فإمامكم منكم يا أمة محمد ويصلى نبي الله عيسى خلف إمام المسلمين لله رب العالمين، فإذا ما أنهى إمام المسلمين، قام عيسى وقام خلفه المسلمون، فإذا فتح عيسى باب بيت المقدس، رأى المسيح الدجال معه سبعون ألف يهودي معهم السلاح، فإذا نظر الدجال إلى نبي الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ثم يهرب فينطلق عيسى وراءه فيمسك به عند باب لد في فلسطين، فيقتله نبي الله عيسى ويستريح الخلق من شر الدجال)).
ويبقى هنا سؤال ألا وهو: ما السبيل إلى النجاة؟
والإجابة على هذا السؤال تكون بعد جلسة الاستراحة
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
---
([1]) رواه مسلم رقم (2901) فى الفتن ، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال ، وأبو داود رقم (4311) فى الملاحم ، باب أمارات الساعة ، والترمذى رقم (2184) فى الفتن ، باب ما جاء فى الخسف .
([2]) فتح البارى (11/353) .
([3]) أخرجه أحمد فى المسند رقم (7040) وقال محققه : إسناده صحيح .
([4]) رواه مسلم رقم (2933) ، فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (4316،4317،4318) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن
([5] ) رواه مسلم رقم (2946) فى الفتن ، باب فى بقية من أحاديث الدجال .(142/9)
([6]) رواه البخارى رقم (7127) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، ومسلم رقم (169) فى الإيمان ، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال ، وأبو داود واللفظ له رقم (4757) فى السنة ، باب فى الدجال ، والترمذى رقم (2236،2242) فى الفتن ، باب ما جاء فى علامة الدجال .
([7]) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 - 3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
([8]) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 :3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
([9]) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه .
([10]) رواه البخارى رقم (7130) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، ومسلم رقم (2934،2935) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4315) فى الملاحم ، باب خروج الدجال .
([11]) رواه مسلم رقم (2934 ، 2935 ) فى الفتن ، باب ذكر الدجال .
([12]) رواه مسلم رقم (2937) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4321، 4322) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2241) فى الفتن ، باب ما جاء فى فتنة الدجال .
([13]) رقم (2938) فى الفتن وأشراط الساعة ، باب فى صفة الدجال .
([14]) رواه البخارى رقم (7132) فى الفتن ، باب لا يدخل المدينة ، ومسلم رقم (2938) فى الفتن ، باب صفة الدجال وتحريم المدينة عليه .
([15]) أرفأت السفينة : قربتها إلى الشط وأدنيتها من البر .
([16]) الهلب : ما غلظ من الشعر والأهلب : الغليظ الشعر الخشن .
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.(142/10)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد أحبتي في الله:
فما السبيل إلى النجاة؟
أحبتي الكرام: أجيب لكم عن هذا السؤال من كلام سيد الرجال محمد بن عبد الله حتى تطمئن قلوبكم وتستريح، ثبتكم الله.
ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه وصححه الألباني.
قال : ((من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال))([1]).
وفى لفظ: ((من حفظ عشر آيات من أوائل سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)).
وفى لفظ: ((من حفظ عشر آيات من أواخر سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)).
لقد تبينتم الآن أمر الدجال، فالأمر جد خطير، هل نقف على مثل هذه الخطورة ونحفظ عشر آيات فقط من سورة الكهف، أراكم تقولون لا بل حفظ السورة بالكامل أمر يسير أمام هذه الخطورة الشديدة، أرى منكم أناساً يقولون نذهب إلى مكة أو المدينة، سأقول لكم لا بأس، من يستطيع الفرار منكم إلى مَكة المباركة أو طيبة طيبها الله، فله ذلك، فهما محرمتان على الدجال أن يدخل واحدة منهما وذلك من سبل النجاة.
لكنني لا أجد لك سبيلا للنجاة أكبر وأشرف وأجل وأعظم من أن ُتوحد الله جل وعلا وتعرف معنى كلمة.. "لا إله إلا الله".. فهذا هو أصل الأصول وبر الأمان لكل مؤمن يريد الأمان حقا في الدنيا والآخرة.
ألم يقل لك المصطفى بأنه لا يقرأ كلمة كافر بين عيني الدجال إلا مؤمن موحد للكبير المتعال، واعلم يقينا بأن الإيمان ليس كلمة يرددها لسانك فحسب.. بل الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان "يعنى القلب"... وعمل بالجوارح والأركان... ولابد أن تعلم أن أركان الإيمان... أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فلا بد لك من الآن أن تصحح إيمانك بالله جل وعلا وتحقق الإيمان يقينا.(142/11)
وقد قال الحسن : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-33].
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:107 -110].
---
([1]) رواه مسلم رقم (809) فى صلاة المسافرين ، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى ، وأبو داود رقم (4323) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2888) فى ثواب القرآن .(142/12)
جهنم
كتبه : هاشم محمدعلي المشهداني
ملخص الخطبة
1- أسماء جهنم. 2- لماذا خلق الله النار. 3- صفة جهنم. 4- من هم أهل النار. 5- إيمان المسلم بالنار.
الخطبة الأولى
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [آل عمران:197]. متعب للنفس المسلمة أن ترى الباطل في صولة وسلطان. وأن ترى الحق في ذل وهوان ولكن ذلك يزول عندما تعلم وتوقن أن الدنيا متاع، ولابد للمتاع أن ينفد، وجهنم هي المآل والمصير للباطل وأهله.
فما جهنم؟ ولماذا؟ وما صفتها؟ ومن هم أهلها؟ وكيف النجاة منها؟
أما جهنم: فكما أنه سبحانه جعل مستقر رحمته لأوليائه الجنة فقد جعل مستقر عذابه لأعدائه جهنم.
وينبغي أن تعلم:
1- أن لجهنم أسماء تدل على شدتها وأهوالها، ومن أسمائها :
أ/ الهاوية: فأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:8-9]. قال ابن زيد: (الهاوية النار هي أمه ومأواه التي يرجع إليها)([1]).
ب/ الحطمة: كلا لينبذن في الحطمة [الهمزة:4]. قال ابن كثير: (لأنها تحطم من فيها)([2]).
ج/ لظى: كلا إنها لظى نزاعة للشوى [المعارج:15-16]. فهي تتلظى وتلتهب وتحرق جلدة الرأس وهي الشوى وقيل الجلود والهام وقال الضحاك: (تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا)([3]).
2- الداخل إليها لا يموت فيستريح ولا يحيي حياة طيبة: ثم لا يموت فيها ولا يحي [الأعلى:13]. لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:36]. وعند ذاك يكون الموت أمنية الداخلين، الموت الذي كان أبغض شيء لهم في الحياة يصير أمنية يتمنونها: ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [الزخرف:77]. قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون ([4]).
وأما لماذا جنهم؟:(143/1)
1- فلا بد من وجود جنهم حتى لا يمضي الظالم من غير عقاب، فإذا ما اختلت موازين العدالة في الأرض فإن موازين السماء ثابتة لا تعبث بها الأهواء والمصالح والأموال والوساطات: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
وللحديث: ((يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان. فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست))([5]).
حتى يتشفى قلب المؤمن من الطغاة والظلمة الذين سفكوا وقتلوا ونهبوا وحرفوا الأمة عن ربها، ومثلوا دور الأمناء وهم الخونة، والصادقين وهم الكذبة والعلية وهم السفلة. ويوم القيامة هو يوم العدل والقصاص، سخرية تقابلها سخرية: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون [المطففين:29]. ويوم القيامة: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [المطففين :34]. وعذاب يقابله عذاب: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج:10]. وشتان بين عذاب العباد وعذاب رب العباد للعباد.
2- لأن بواعث النفس للعمل ثلاثة فأما أن يكون الباعث هو معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وهذا هو حال رسول الله : ((فقد كان يقوم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدا مشكورا))([6]).
وأما أن يكون الباعث الرغبة في الجزاء والمثوبة والجنة: إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا [النبأ:31-34].
وأما أن يكون الباعث للعمل الصالح هو الخوف من عذاب الله وعقابه وناره: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [الطور :26-27].
وأما صفة جهنم:(143/2)
مادة وقودها: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة [البقرة:24]. والوقود هو ما يلقي في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، فوقود جهنم هم الداخلون إليها، فكلما دخلها فوج تأججت وازدادت لهيبا.
عمقها: حديث ابن مسعود: سمعنا وجبة (أي صوتا شديدا) فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله : ((هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها))([7]).
لونها: للحديث: ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها))([8]).
حرارتها: وللحديث: ((إنها لجزء (أي نارنا) من سبعين جزءا من نار جهنم وما وصلت إليكم حتى نضحت مرتين بالماء لتضيء لكم))([9]).
طعامها وشرابها: للحديث: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟))([10]). وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه [الكهف:29]. والمهل الماء الأسود المنتن الغليظ الحار. قال سعيد ابن جبير: (إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم)([11]).
ثيابهم: قال تعالى: هذا خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [الحج:19-30]. قال سعيد بن جبير: فصلت لهم مقطعات من النار من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي)([12]). وللحديث: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه - وهو الصهر- ثم يعاد كما كان))([13]).
عميان أهلها: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم [الإسراء:97]. وعن أنس : ((قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاههم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم))([14]).(143/3)
عظيمة أجسامهم: للحديث: ((ضرس الكافر مثل أحد (أي جبل أحد) وفخذه مثل البيضاء(اسم لجبل) ومقعده من النار كما بين قديد ومكة))([15]).((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة))([16]).
أقل أهل النار عذاب: للحديث: ((إن أهون أهل النار عذابا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم))([17]). والقمقم ما يسخن به الماء من نحاس وغيره.
وللحديث: ((إن أدنى أهل النار عذابا الذي له نعلان من نار يغلي منهما دماغه))([18]).
وأما من هم أهلها؟:
الملحدون: الذين يدعون العقل ولا عقل، والذين انكروا أن يكون للكون إله وعاشوا وماتوا على ذلك، فإن من العقول من لا تؤمن حتى ترى العذاب: لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم [الشعراء:201].
المشركون: الذين جعلوا مع الله إلها آخر سواء كان صنما أو شجرا أو طاغية يأخذون منه المنهج والتشريع، وأعرضوا عن منهج الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذين اعتقدوا أن غير الله سبحانه هو النافع الضار المحيي المميت، الرازق المانع: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب [البقرة:165].(143/4)
المنحلون: الذين يريدون أن تنزلق الأمة إلى مهاوي الرذيلة والخنا حتى يسهل قيادها لأعداء الله ويلتمسون لذلك الأساليب من ترويج لصور العاهرات والساقطات حيث لم يتركوا عاهرة إلا وعقدوا معها لقاء وأظهروها بمظهر المتحررة من القيود البالية، ومن يثيرون الغرائز الحيوانية بالكلمة المسموعة أو المقروءة أو المرئية ومن لا يحسنون إلا (أدب الفراش) من شعراء النهود، ومن يتكسبون الأموال بالحفلات الماجنة وتأجير الشقق للدعارة وتحويل البلاد إلى بيت دعارة باسم السياحة والانفتاح قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
المجرمون: الذين لا تجدهم في مواطن الرجولة والدفاع عن الأمة وساحات الكرامة الذين لا يحسنون إلا قتل الأبرياء والعُزّل من المؤمنين، والأمة إذا فسقت ذلت وهانت وصارت نعلا بقدم الطاغية: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [الزخرف:54]. يسلب مالها، ويهتك عرضها، ويسلك بها سبل الضلالة والغواية والسقوط، وهي ترقص وتغني وتضحك وتصفق للمجرم الذين يغتال صالحيها: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء:93].
المضيعون لفرائض الله سبحانه: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [المدثر:43-45]. قال ابن كثير: (أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا وكلما غوى غاو غوينا معه حتى جاءهم الموت)([19]).
وأما موقف المسلم من جهنم:(143/5)
فإن العبد كلما ازداد معرفة كلما ازداد خشية وكلما ازداد خشية ازداد صلاحا واغتناما للأوقات قبل رحيلها، فهناك تعظم الحسرات وتسيل العيون بالدموع والعبرات أنهارا: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو اجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم مكان الدمع))([20]). وتعض الأيدي ندما وتحسرا: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [الفرقان:27]. وتصرخ الألسن بالأمنيات: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا [الأنعام:27]. يا ليتني قدمت لحياتي [الفجر:24]. يا ليتها كانت القاضية [الحاقة:27]. قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [المؤمنون:99-100].
فكان لابد من:
1) أن تعلم أن اللذة والنشوة الحرام سوف تذوي وتذوب عند أول غمسة في النار: ((ويؤتي بأنعم أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغه ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب))([21]).ويصبغ أي يغمس.
التوبة: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا [التحريم:8]. قال ابن كثير: (التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه كلما ذكرته) وقال عمر : (إن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا)([22]) واستيفاء شروط التوبة من الندم والعزيمة على أن لا تعود إلى الذنب ورد الحقوق إلى أصحابها والإقلاع عن المعصية.
المحاسبة: محاسبة النفس لازمة للنجاة يقول عمر : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا) فما وجدته من خير فأحمد الله عليه وما وجدته من شر فاستغفر الله عنه واعزم على أن يكون غدك خير من يومك ويومك خير من أمسك.(143/6)
2) العمل: فما ذكر الله الإيمان إلا واتبعه بذكر العمل الصالح الذي يصدقه، والذي يوزن يوم القيامة هي الأعمال: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:7-9]. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8].
3) المجاهدة: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت:69]. ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))([23]) مخالفة هوى النفس وطاعة الرحمن هي السبيل إلى تلك الجنان.
4) أن تحفظ جوارحك وحواسك عن الحرام: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36]. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [النبأ:40]. ((من يضمن لي ما بين لحييه (عظما الحنك أي اللسان) وما بين رجليه (الفرج كناية عن الزنا) ضمنت له الجنة))([24]).
وسأل عقبه بن عامر رسول الله فقال: ((يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك))([25]).
5) أن يكون لك ورد تحافظ عليه في يومك وليلتك:
من قراءة لجزء من القرآن في كل ليلة ما أمكن.
والمحافظة على الصلوات المكتوبة في المسجد، والمحافظة على السنن الراتبة.
وأن يكون لك ركعات بعد صلاة العشاء ومن الليل.
وأن تكون محافظا على الأوراد والأدعية.
وأن تكون لك في كل باب من أبواب الخير نصيباً، لعلك تنجو وتزحزح وتفوز.
---
([1])مختصر ابن كثير ج3ص270 .
([2])مختصر ابن كثير ج3 ص675.
([3])مختصر ابن كثير ج3 ص549.
([4])مختصر ابن كثير ج3 ص 297.
([5])الطبراني في الأوسط وروانه رواه الصحيح .
([6])متفق عليه .
([7])مسلم .
([8])رواه البيهقي والأصبهاني .
([9])البزار والحاكم .
([10])الترمذي والنسائي وابن ماجة .
([11])مختصر ابن كثير ج2 ص417 .
([12])مختصر ابن كثير ج2 ص 536 .
([13])ابن جرير والترمذي .
([14])متفق عليه .
([15])رواه أحمد واللفظ المسلم .
([16])الترمذي وابن حبان .(143/7)
([17])رواه البخاري ومسلم .
([18])الطبراني .
([19])مختصر ابن كثير ج3 ص573 .
([20])الحاكم وقال صحيح الإسناد .
([21])رواه مسلم .
([22])مختصر ابن كثير ج3 ص523 .
([23])مسلم .
([24])البخاري .
([25])الترمذي .(143/8)
الجنة
كتبه : هاشم محمدعلي المشهداني
ملخص الخطبة
1- مكان الجنة والنار. 2- أسماء الجنة. 3- لم خلق الله الجنة. 4- صفة الجنة وسكانها وخدمها. 5- أسباب دخول الجنة.
الخطبة الأولى
يقول رب العزة سبحانه: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133].
دعوة من الله سبحانه لعباده أن يسارعوا إلى كل خير وإلى كل عمل صالح، حتى يفوزوا بمغفرة الله والجنة. وقدّم المغفرة على الجنة - كما قال العلماء - لأن السلامة تطلب قبل الغنيمة وأصحاب الجنة هم المتقون.
فما الجنة؟ ولماذا؟ وما صفة الداخلين إليها؟ وما صفتها؟ وما أسباب دخولها؟
أما الجنة:
فهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، دار رب الأرباب وملك الملوك، التي أعدها لعباده المؤمنين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأهل التوحيد من أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن يطهرهم رب العزة سبحانه من ذنوبهم.
وسميت الجنة جنة، لأن الداخل إليها تستره بأشجارها وتغطيه.
وينبغي أن تعلم:
أن هاهنا إشكال أورده البعض في قول الله تعالى: وجنة عرضها السماوات والأرض [آل عمران:133]. فإذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار. أورد ابن كثير رحمه الله تعالى رواية عن الإمام أحمد: أن هرقل كتب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟))([1]). إذا جاء النهار غشى وجه العالم في جانب، ويكون الليل في الجانب الآخر، فكذا الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل سافلين([2]). كذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
سمى رب العزة الجنة بأسماء باعتبار صفاتها:(144/1)
أ- دار السلام: قال تعالى: لهم دار السلام عند ربهم [الأنعام:127]. ذلك لأن الداخل إلى الجنة قد سلم من كل آفة ومن كل بلاء ومن كل مكروه، فلا تنكيد ولا تنغيص. لقول النبي : ((ويؤتي بأشقى أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقال له: هل رأيت شرا قط؟ قد مر بك شر قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت شرا قط ولا مر بي شر قط))([3]).
ب- جنات عدن: وصدق الله العظيم: جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا [مريم:61]. العرب تقول: عدن الرجل في المكان: أي أقام فيه فلم يرتحل. وكذا الداخل إلى الجنة، لا يرتحل عنها أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فيؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة والنار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم إنه الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم))([4]).
ج- جنات النعيم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم [لقمان:8]. ذلك لما في الجنة من اللذائذ والأطايب التي أعدها رب العزة لأوليائه، ظاهرة وباطنة.
وأما لماذا الجنة؟ فلا بد من الجنة:
حتى لا يستوي الصالح بالطالح، ولا المحسن بالمسيء، ولا المؤمن بالكافر، ولا المظلوم بالظالم، وصدق الله العظيم:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون [القلم:35-36]. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [الحشر:20].
فإذا كانت الموازين قد اختلت في الأرض.
يوما تريك خسيس النار مرتفعا و يوما تخفض العاني
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف وتستقر بأقصى قعره الدرر
وكم على الأرض أشجارا مورقة وليس يرجم إلا من به ثمر
فإن موازين السماء لن تختل أبدا: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].(144/2)
حتى يعوّض رب العزة سبحانه المحسن عن إحسانه، والمجاهد عن جهاده، والصابر عن صبره، والمحتسب وجه الله عز وجل في كل بلية جرت عليه. في الحديث القدسي يقول الله سبحانه: ((يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ فيقول: نعم، فيقول رب العزة: وماذا قال عبدي؟ يقول: حمدك واسترجع: (أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون) فيقول رب العزة سبحانه: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد))([5]).
ويقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي بعينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة))([6]). وهذا أصل في التربية عظيم، بل هو البلسم الشافي لجراحات القلوب.
لأنها أمنية الصالحين، ومهوى أفئدة السالكين، فما دمع العين ولا حرقة القلب ولا انزعاج الجوارح إلى العمل بطاعة الله عز وجل، إلا لنيل تلك الجنان. فعند ذكرها تهون المصائب ويلذ الجهاد بل الموت في سبيل الله.
أخي إن مت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
عندما حضرت بلال الوفاة، قالت زوجته: واحزناه! قال: بل قولي: وافرحتاه! غدا نلق الأحبة، محمدا وصحبه.
وأما صفة الداخلين إلى الجنة:
في سنهم وخلقهم: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يدخل أهل الجنة على سن ثلاث وثلاثين، على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع))([7])، ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: وهذا السن أبلغ ما يكون العبد فيها من القوة، وبكمال القوة يكون كمال التلذذ والاستمتاع بما أعده رب العزة سبحانه.(144/3)
في تنزههم عن الفضلات والأذى: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك))([8]). سأل رجل من أهل الكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أهل الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويعطى الرجل في الجنة قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والجماع: فقال الرجل: يا محمد، أين تكون الفضلات بعد ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكون رشحا ويكون الرشح مسكا)). تكون عرقا ويكون هذا العرق مسكا بقدرة الله عز وجل.
في تطهيرهم في ظواهرهم وبواطنهم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وعند باب الجنة شجرة، يخرج من أصلها عينان، إذا شربوا من الأولى جرت عليهم نظرة النعيم، وخرج منهم ما في داخلهم من كل بأس وأذى، وإذا اغتسلوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدا))([9]).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أهل الجنة يدخلون الجنة جماعات جماعات لقول رب العزة سبحانه: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا )) [الزمر:73]
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كل أهل طاعة يحشرون ويأتون الجنة كجماعة لحالها، وذلك مما يؤنس بعضهم ببعض ويقوى بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض. وأهل النار والعياذ بالله يساقون إلى النار جماعات: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا [الزمر:71]. يقول ابن القيم: وذلك حتى يلعن بعضهم بعضا ويتهم بعضهم بعضا ويسب بعضهم بعضا، وهذا أبلغ في الهتيكة والخزي بأهل النار من أن يذهبوا إلى النار واحدا واحدا.
وباب الجنة لن يفتح لأحد إلا أن يكون أول داخل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((آتي الجنة فأستفتح أي فأستأذن فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك))([10]). وهذا تعظيم لقدر نبينا عليه الصلاة والسلام وتكريم له.
وأما صفة الجنة:(144/4)
1- في أبوابها: فهي ثمانية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من توضأ ثم أحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية))([11]). فهي ثمانية أبواب. وكل باب قد خصه رب العزة بطاعة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)). فقال أبو بكر الصديق : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وما على أحد من ضرورة أن يدعى من الأبواب كلها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((لا، وأرجو أن تكون منهم))([12])، أي: وأرجو يا أبا بكر أن تكون ممن يدعى من الأبواب الثمانية.
2- وأما أرضها: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها طينتها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم))([13]).
3- ما يكون لأدنى أهلها منزلة وما يكون لأعلاهم منزلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يجيء آخر رجل ممن يدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم، فيقول له رب العزة: ادخل الجنة ،فيقول: يا رب وأين أكون وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول له رب العزة سبحانه: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب. فيقول له رب العزة: لك ذلك ومثله ومثله ومثله مثله. فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك)).
وأما أعلاهم درجة فيقول رب العزة سبحانه: ((أولئك الذين أردت - أي اخترت - ختمت كرامتهم بيدي، وأعددت لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))([14]).(144/5)
4- وأما أنهارها، فهي أربعة أنواع من الأنهار، يقول رب العزة سبحانه: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [محمد:15].
وأعظم أنهارها الكوثر، قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر:1]. فقيل: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: ((نهر أعطانيه ربي حافتاه من الذهب، حصباؤه اللؤلؤ والياقوت، آنيته عدد نجوم السماء، ترد عليه أمتي يوم القيامة، لونه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا))([15]).
5- وأما حورها ونسائها: فيعلمنا المصطفى عليه الصلاة والسلام:
أ- عن مادة خلقهن: فيقول: ((خلق الله تعالى الحور العين من الزعفران))([16])، يقول ابن القيم: فإذا كانت الصورة الآدمية في حسنها وتناسقها مادة خلقها التراب: فكيف يكون حال الحور العين وقد خلقن من الزعفران هناك؟!
ب- في عفتهن: يقول رب العزة سبحانه: وعندهم قاصرات الطرف عين [الصافات:48]. عفيفات قد قصرن أبصارهن إلا عن أزواجهن، ذهب الحياء بخير الدنيا والآخرة.
ج- في طهرهن: وأزواج مطهرة [آل عمران:15]. فلا حيض ولا نفاس.
د- في حسنهن: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يسطع نور في الجنة فيرفع أهل الجنة رؤوسهم فيرون حورية قد ابتسمت))([17]).
ه- في نكاحهن: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وإن المؤمن ليصل في اليوم الواحد إلى مائة عذراء))([18]).
ولكنه لا مني ولا إنزال ولا ما يوجب الغسل، قول النبي : ((لا مني ولا منية))([19]) أي لا إنزال ولا موت يكون في الجنة.(144/6)
6- وأعظم عطاء الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة: ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقول أهل الجنة: ألم يبيّض وجوهنا؟! ألم يجرنا من النار؟! ألم يثقل موازيننا؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فما اعطوا عطاء أحب إليهم من النظر إلى وجه الله الكريم))([20]). وصدق الله العظيم: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة: 22-23]. للذين أحسنوا الحسنى – أي الجنة- وزيادة [يونس: 26]. أي وأعظم من الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الإمام مالك.
7- وأخيرا هنالك في الجنة أمنيات تتحقق. جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإنها تعجبني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحببت أتيت بفرس من ياقوته حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت))([21]).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا استقر أهل الجنة في الجنة، اشتاق الإخوان إلى الإخوان، فيطير سرير هذا إلى سرير هذا، فيذكران ما كان بينهما في الدنيا ويقول له: أتذكر مجلس كذا، جلسنا فدعونا الله أن يغفر لنا فغفر لنا))([22]).
وأما أسباب دخول الجنة؟
فينبغي أن تعلم أن الجنة غالية، والأمر يحتاج إلى جد لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من خاف أدلج – أدلج بالطاعة - ومن أدلج بلغ المنزل..)) ((ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة))([23]).
والأمر يحتاج إلى تشمير، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ألا من مشمّر للجنة، فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء، فقال الأصحاب: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال القوم: إن شاء الله))([24]).
والأمر يحتاج إلى عمل: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون [الأعراف:43].(144/7)
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا و زينتها فالموت لا شك يفنيها ويبديها
واعمل لدار غدا رضوان خازنها و الجار أحمد و الرحمن بانيها
قصورها ذهب و المسك طينتها و الزعفران حشيش نابت فيها
وتنافس في أعلى مقامات الجهاد: قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله [التوبة:111]. فالمشتري هو الله، والبائع هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هي الجنة، والطريق هو الجهاد.
وعلى الجهاد ربى رسول الله أصحابه رضوان الله عليهم، حتى صار الموت في سبيل الله تعالى أسمى أمنياتهم وأغلاها، وهذا صحابي جليل ممن اشتاق إلى لقاء الله تعالى على أكرم صورة، هي شاهد صدق على حب الله تعالى الذي اختلط بدمائهم وعصبهم ولحمهم، هو الصحابي عبد الله بن جحش وفي غزوة أحد يرفع يده ويدعو، وبماذا يدعو؟! ويا عجبا لما يدعو! يقول: اللهم إنك تعلم أنه قد حضر ما أرى، أي من التقاء الجيشين، فأسألك ربي أن تبعث إلي رجلا كافرا صنديدا قويا يقتلني ويجدع أنفي وأذني ويضعها في خيط، (زيادة في النكاية والتمثيل) ثم آتيك ربي فتقول: فيم ذاك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب، أي لأجلك يا رب قد فعل بي هذا.
ومن أبواب الجنة هو الإنفاق: يقول رب العزة سبحانه: لن تنالوا البر – أي لن تدخلوا الجنة – حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران:92]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((عندما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي، فقرأت: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون واللذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون ، فقال رب العزة سبحانه: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل))([25]).
ثم الصلاة:(144/8)
في الفرض يقول جرير بن عبد الله: كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان القمر بدرا، فكان عليه الصلاة والسلام: ((إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر – أي في الوضوح- لا تضامون في رؤيته – أي لا تملون- فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا))([26])- أي صلاة الصبح وصلاة العصر – وما أكثر تضييعنا لها.
في النافلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة: ركعتان قبل صلاة الصبح، وأربعا قبل الظهر، واثنتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء))([27]).
في قيام الليل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:16]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))([28]).
ثم أن تلزم ذكر الله سبحانه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من قال: سبحان الله والحمد لله، غرست له نخلة في الجنة))([29]). وللحديث: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وإنها قيعان وإن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))([30]).
الخلق الحسن: للحديث: ((ألا أخبركم برجالكم في الجنة: النبي في الجنة، والصديق في الجنة والشهيد في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في زوجها ثم تقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى))([31]).
---
([1])رواه الإمام أحمد.
([2])مختصر ابن كثير ج1 ص 318.
([3])مسلم.
([4])رواه البخاري.
([5])الترمذي وابن حيان.
([6])البخاري.
([7])رواه أحمد.(144/9)
([8])رواه مسلم.
([9])رواه البيهقي.
([10])رواه مسلم.
([11])رواه مسلم.
([12])رواه البخاري ومسلم.
([13])رواه الترمذي.
([14])رواه مسلم.
([15])رواه الترمذي.
([16])الطبراني مرفوعا.
([17])ابن أبي الدنيا.
([18])الترمذي.
([19])الطبراني.
([20])مسلم.
([21])الترمذي.
([22])ابن أبي الدنيا.
([23])رواه الترمذي.
([24])ابن ماجة وابن حيان.
([25])رواه أحمد والترمذي والنسائي.
([26])متفق عليه.
([27])رواه مسلم.
([28])الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
([29])الترمذي.
([30])الترمذي.
([31])النسائي.(144/10)
شرف المسلم
كتبه : الشيخ عائض القرني
ملخص الخطبة
1- شرف المسلم وعزه في تمسكه بالقرآن والسنة. 2- قصة ابن أم مكتوم مع النبي . 3- زواج جليبيب ومقتله. 4- عطاء بن رباح مفتي الحج. 5- عمر في بلاد الشام. 6- ربعي في بلاط رستم. 7- التأسي بالساقطين والساقطات ومهازيل الأمم.
الخطبة الأولى
أيها الناس:
ومما زادني شرفًا وفخرًا وكدتُ بأخمصي أَطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك "يا عبادي" وأن صيَّرت أحمد لي نبيِّا
من مبادئنا الأصيلة، ومن تعاليمنا الجليلة، أن نفتخر بهذا الدين، وأن نتشرف بأن جعلنا الله مسلمين، فمن لم يتشرف بالدين ومن لم يفتخر بكونه من المسلمين، ففي قلبه شك وقلة يقين، يقول الله في محكم التنزيل، مخاطبًا رسوله، صلى الله عليه وسلم: وإنَّه لذكرٌ لك ولقومِك وسوف تُسْألون [الزخرف:44]. أيْ: شرف لك، وشرف لقومك، وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة، فالواجب أن تتشرف بالقرآن، لكونك من أمة القرآن، ومن أمة الإسلام.
بشرى لنا معشر الإسلام أنّ لنا من العناية ركنًا غير مُنْهدِم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرُّسْلِ كنا أكرمَ الأممِ
ولذلك يقول جلّ ذكره: ولا تَهِنوا ولا تَحزَنُوا وأنتُم الأعلَوْن إن كنتم مؤمنين [آل عمران: 139].
قال الأستاذ سيد قطب: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون الأعلون سندًا، والأعلون مبادئًا، والأعلون منهجًا، فمبدؤكم المبدأ الأصيل، وقرآنكم القرآن الجليل، وسندكم الربُّ الفضيل، فكيف يَهِن من كان الله سنده، وكيف يهن من كان الله ربه ومولاه، وكيف يهن من كان رسوله وقدوته محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكيف يهن من كان دينه الإسلام.(145/1)
ولذلك كان لِزامًا علينا أن نفخر، وأن نشعر بالشرف والجلالة والنُّبل، يوم أن جعلنا الله مسلمين؛ لأن بعض الناس قد يخجل أن يلتفت إلى السّنّة، أو أن تظهر عليه معالم السنة، وهذا خطأ كبير وانهزام نفسي فاحش.
كيف يخجل المؤمن من السنة، ونجاته يوم القيامة موقوفة على اتباعها. ويظن بعض هؤلاء أن الغرب بما وصل إليه من تقدم علمي هم أهدى سبيلاً من أهل الإيمان والإسلام !! ولذلك يَرُدّ الله – عز وجل – على الذين ظنوا أن مبادئ الشرف ومبادئ الرِّفعة، في تحصيل الأموال ومتلاك الدنيا فقال سبحانه: وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم. أَهُمْ يقسمون رحمة ربِّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتّخِذَ بعضهم بعضًا سُخْرِيًّا ورحمةُ ربِّك خيرٌ مما يجمعون [الزخرف:31-32].
الشرف كل الشرف ليس في الدور، ولا القصور، ولا في الأموال، ولا في الأولاد، ولا في الهيئات ولا في الذوات، الشرف أن تكون عبدًا لرب الأرض والسماوات، الشرف أن تكون من أولياء الله، الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المحرّمات.(145/2)
جاء عبد الله ابن أم مكتوم، الضرير الفقير المسكين، إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، يسأله في بعض الأمور، والرسول صلى لله عليه وسلم، مشغول بكفار قريش وساداتهم و يريد أن يهديَهم إلى صراط الله المستقيم، فلما دخل عليه قال: يا رسول الله، أريد كذا وكذا فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم[1] لأنه لا يريد أن تفوته الفرصة مع هؤلاء الكبار، فعاتبه ربه من فوق سبع سماوات، عاتبه في أمر هذا المسكين الضرير، يقول الله له: عبس فخاطبه بخطاب الغَيْبة، ولم يقل ( عَبَسْتَ ) وإنما يقول عبس أي تغير وجهه واكفهرّ، عبس هذا الرسول، عبس هذا النبي، عبس هذا الداعية في وجه الرجل الصالح عبس وتولى [عبس:1]. أي أعرض عنه عبس وتولى أن جاءه الأعمى [عبس:1-2]. ولم يُسمِّه باسمه، إنما ذكره بصفته أن جاءه الأعمى ثم قال له: وما يدريك لعله يزّكى [عبس: 3]. من أخبرك بحاله، لعله أراد أن يتطهّر بالعلم النافع أراد منك أن تُفقّهه بالدين، أراد منك أن تقوده إلى رب العالمين، أو يذّكرُ فتنفعه الذكرى أما من استغنى [عبس:4-5]. أما الكافر الذي استغنى عن الرسالة والرسول، وعن القرآن والسنة، وعن الهداية والنور أما من استغنى فأنت له تصدى [عبس:5-6]. تستقبله، وتهش وتبش في وجهه، وتلين له في الخطاب.
هؤلاء الجبابرة الذيت أتوك تستقبلهم ,أما هذا الأعمى، فتعرض عنه؟! فأنت له تَصَدَّى وما عليك ألا يزَّكى [عبس:6-7]. ليس عليك حسابهم، ذرهم يموتوا بكفرهم، وجبنهم، وعنادهم، وجبروتهم، فالنار مثواهم. وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسْعى وهو يخشى فأنت عنه تَلَهَّى [عبس:7–10]. لا، لا تفعل.
فأتى عبد الله ابن أم مكتوم مرة ثانية، فقام له، صلى الله عليه وسلم، وعانقه، وفرش له رداءه، وقال له: ((مرحبًا بالذي عاتبني فيه ربي))[2].(145/3)
وبالفعل كانت النتيجة؛ أن من مات من هؤلاء الأشراف السادة، ماتوا على الكفر ودخلوا نارًا تلظى، وأما عبد الله ابن أم مكتوم، فأسلم واستمر على إسلامه ووفائه.
ولما أتى داعي الهداية وداعي الكفاح، وداعي الجهاد، وارتفعت راية الإسلام في يد عمر – رضي الله عنه وأرضاه – ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة، مع آل كسرى، وآل رستم، كان من المجاهدين عبد الله ابن أم مكتوم.
قال له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، قال: لا والله، الله يقول: انفروا خِفافاً وثقالاً [التوبة:41]. فلما حضر المعركة، سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه، رضي الله عنه وأرضاه.
سلام على ذلك الصديق المخلص، وسلام على ذلك المنيب، الذي تشرف بالإسلام، فكان قلعة من قلاع الحق، استقبلت نور السماء، فوزعته على البشرية، والرسول عليه الصلاة والسلام، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: "ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط، إلا ذو تقى"[3].
وعبد الرحمن بن عوف يقول: "والله ما رأيت متقياً لله إلا وددت أنني في مسلاخه".(145/4)
ترى المتقي، فيحبه قلبك إن كنت مسلماً؛ لما يظهر عليه من علامات النصح والقبول والرضا، وترى الكافر فيبغضه قلبك ولو كان وسيما جميلاً، فعليه آيات السخط والغضب، وعليه سمات الإعراض عن الله. وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامُهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُبٌ مُسَنَّدة المنافقون:4]. أما الأجسام فطويلة، وأما البشرة فجميلة، ولكن القلوب قلوب ضلالة، وقلوب جهالة، وقلوب عمالة، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، لا يملكون في الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولا يجد أحدهم إلا كسرة الخبز، وينام في الطرقات، ولكن الله نظر إلى قلوبهم فهداهم إلى الإسلام، أما الذين يتغنون في القصور والدور، قد لا يهديهم – سبحانه وتعالى – سواء السبيل: ولو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمَعَهم ولو أسْمَعَهم لتولَّوْا وهم معرضون [الأنفال:23].
جاء جليبيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم عليه الصلاة والسلام، لما رآه، وقال وهو يناصحه: ((يا جليبيب أتُريدُ الزواج؟ فقال يا رسول الله: من يزوجني، ولا أسرة عندي، ولا مال، ولا دار، ولا شيء من متاع الدنيا. فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمركم أن تزوجوني))، فذهب وطرق عليهم الباب وكانوا من سادات الأسر، ومن كبريات العشائر في الأنصار، فخرج ربُّ البيت، ورأى جُليْبيبًا وهيئته وفقره وعوزه، فقال له ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب؛ لا نسب، ولا مال، ولا دار، فشاوروا تلك البنت الصالحة، التي تربت في مدرسة التوحيد، فقالت: وهل نردُّ رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فتزوج بها، وعمر بيته الذي أسسه على تقوى الله - عز وجل – ورضوانه، ترفرف عليه المسكنة، ويزينه التكبير والتهليل والتحميد، وتظلله الصلاة في الهجيرِ، والصيام في شدة الحر[4].(145/5)
وحضر النبي صلى الله عليه وسلم، معركة من المعارك، فلما انتهت بالنصر، قال صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: صلى الله عليه وسلم: لكني أفقد جليبيبًا فاطلبوه فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُ صلى الله عليه وسلم، فوقف عليه، فقال: قتل سبعةً ثم قتلوه. هذا منِّي وأنا منه، هذا مني وأنا منه، ثم وضع ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حُفِر له، ووضع في قبره))[5].
لقد كانت عظمة هؤلاء يوم اتصلوا بالواحد الأحد، وعرفوا الله عزّ وجلّ، فَعَرَّفهم الله عز وجل على منازل الصديقين.
دخل سليمان بن عبد الملك الحرم، ومعه الوزراء، والأمراء، , والحاشية، والجيش، فقال: مَن عالم مكة؟ قالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فأشرف عليه، فوجده عبدًا، كأن رأسه زبيبة مشلولاً نصفه، أزرق العينين، مفلفل الشعر، لا يملك من الدنيا درهمًا ولا دينارًا، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: يقولون ذلك، قال بماذا حصلت على هذا العلم، قال: بترك فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة، ما خرجت منه، حتى تعلمت العلم، قال سليمان: يا أيها الحجاج لا يفتي في المناسك إلا عطاء.(145/6)
وحدث ان اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: دلوني على عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس عليه كالغمام، فأراد أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس؛ فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد. لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبدًا حبشيًّا، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف.
جاء هشام بن عبد الملك الخليفة، أخو سليمان، فحج البيت الحرام، فلما كان في الطواف، رأى سالم بن عبد الله بن عمر، الزاهد العالم العارف، وهو يطوف، وحذاؤه في يديه، وعليه عمامة وثياب، لا تساوي ثلاثة عشر درهمًا، فقال له هشام: يا سالم: أتريد حاجة أقضيها لك اليوم، قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليَّ الحوائج، وأنا في بيت من لا يُعْوِزُني إلى غيره، فاحمر وجه الخليفة، فلما خرج من الحرم، قال: هل تريد شيئًا؟ قال: أمِن حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ قال: أما حوائج الآخرة فلا أملكها، لكن من حوائج الدنيا، قال سالم: والله الذي لا. إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا مِن الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك ؟!.
إنهم عظماء لأنهم عاشوا في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، التي أخرَجت خير أمة للناس، يرون الذهب والفضة للكفار، فيهدمونها ويطأونها بالأقدام، فيقول لهم المستعمر والكافر: خذوا هذا الذهب، واتركوا بلادنا، قالوا: لا والله، دارنا وبلادنا، جنة عرضها السماوات والأرض.
ومن الذي باع الحياةَ رخيصةً ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشترى
أم من رأى نار المجوس فاُطفئت وأبان وجه الصبحِ أبيضَ نيِّرا
إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(145/7)
يخرج عمر – رضي الله عنه وأرضاه – لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فيخرج له الناس، ويستعرض الجيش المسلم، بقيادة أمرائه الأربعة تحت راية أبي عبيدة المقدام الهمام؛ يستعرضون له في الجابية، فلما أشرف عليهم قال: لا إله إلا الله، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم أمر الكتائب والجيوش أن تتفرق؛ فيدخل مسكنه في تواضع وفي هدوء، فلما اقترب الأمراء منه قال: تفرّقوا عني، أين أخي أبو عبيدة عامر بن الجراح، فتقدم أبو عبيدة، فعانقه وبكى طويلاً، فقال عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة، ماذا فعلنا بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعال نتباكى، ولا يرانا الناس فانحرفا عن الطريق، والجيوش تنظر إليهما، والأمراء، والقساوسة، والرهبان، والنصارى، فاتجها إلى شجرة، ثم توقفا يبكيان طويلاً.
رضي الله عنكم أيها السلف الصالح، يوم عرفتم أن الحياة بسنينها وأعوامها، ينبغي أن تصرف في مرضاة الله سبحانه وتعالى.(145/8)
يقول رستم قائد فارس، وتحت يديه مائتان وثمانون ألفًا من الجنود الكفرة، يقول لسعد بن أبي وقاص القائد المسلم. أرسل إليَّ من جنودك رسولاً أكلمه، فأرسل له سعدٌ رضي الله عنه رِبعيّ بن عامر وعمره ثلاثون سنة، من فقراء الصحابة، قال سعد: اذهب ولا تغير من مظهرك شيئًا، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، فخرج ربعيّ بفرسه الهزيل، وثيابه الرثة ورمحه البسيط، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه، جمع حوله الأسرة الحاكمة، والوزراء، والجنود، واستعدوا لأن يرهبوا هذا الوافد، علّه يتلعثم، فلا يستطيع الكلام، فلما جلس رستم قال: أدخلوه عليّ، فدخل يقود فرسه، واعتمد برمحه على بُسُطهم فخرّقها وأفسدها؛ ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة، وأنها رخيصة، وأنها لا تساوي عند الله شيئًا، ومن علامات رخصها وحقارتها؛ أن أعطاها هذا الكافر، وجعل سعد بن أبي وقاص ينام على الثرى.
فلما وقف أمامه قالوا: اجلس، قال ربعيّ: ما أتيتك ضيفًا، وإنما أتيتك وافدًا، فقال رستم: - والترجمان بينهما – مالكم أيها العرب، ما علمنا – وأقسم بآلهته – قوماً أذل ولا أقل منكم؛ للرومان حضارة، ولفارس حضارة، ولليونان حضارة، وللهنود حضارة، أما أنتم، فأهل جعلان، تطاردون الأغنام والإبل في الصحراء، فماذا أتى بكم؟(145/9)
قال ربعيّ: نعم، أيها الملك كنا كما قلت وزيادة، كنا أهل جهالة، نعبد الأصنام، يقتل القريب قريبه على مورد الشاة، لا نعرف نظامًا ومبدأ، ولا حضارة – أو كما قال – ثم انتفض ,ورفع صوته كأنه الصاعقة في مجلسه قائلاً: ولكن الله ابتعثنا لنخرج العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سَعَة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، فغضب رستم وقال: والله لا تخرج، حتى تحمل ترابًا من بساطي، فحمَّله على رأسه، فقال ربعيّ: هذه الغنيمة إن شاء الله؛ تسليم أرضك وديارك[6]، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام:45]. فلما أشرف على سعد، قال: ماذا على رأسك يا ربعيّ؟ فقال: تراب من تراب أرض رستم وكسرى، فكبر المسلمون حتى اهتز مخيّمهم وقالوا: هو النصر، تسليم أرضهم بإذن الله.
وفي الصباح الباكر، يوم أشرقت الشمس بأشعة النصر على الدنيا، كان سعد – رضي الله عنه وأرضاه – في أول الصفوف، والتقى الجمعان، وبرزت الفئتان، وتبدى الرحمن لحزبه – سبحانه وتعالى – وفي ثلاثة أيام، تسحق كتائب الضلالة والعمالة، وتداس الجماجم التي ما عرفت لا إله إلا الله، وتضرب الرؤوس التي ما دخل فيها نور لا إله إلا الله، ويدخل سعد في اليوم الرابع إيوان كسرى، الذي حكم الدنيا ألف سنة، فيراه مموَّهًا بالذهب، ويرى الياقوت والزبرجد والمرجان، فيبكي سعد ويقول: كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماءُ والأرضُ وما كانوا منظرين [الدخان:25 – 29].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسْـ ـمَك فوق هاماتِ النجومِ منارا
كنا جبالاً في الجبالِ وربما صِرْنا على موج البحارِ بحارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهـ ـدمُها ونهدمُ فوقَها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حُلْيًا وحاز الكنزَ والدينارا(145/10)
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي (5/402-403) ، رقم (3331) وقال : حديث غريب.
[2] انظر الدرّ المنثور ( 6 / 518 , 519 ) .
[3] أخرجه أحمد ( 6 / 69 ) .
[4] قصة زواج جليبيب رضي الله عنه رواها أحمد في المسند ( 4 / 422 , 425 ) . قال الهيثمي في المجمع ( 9 / 370 , 371 ) : رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح وهي بغير هذا السياق
[5] أخرجه مسلم ( 4 / 1918 , 1919 ) , رقم ( 2472 ) .
[6] انظر القصة في حياة الصحابة ( 4 / 515 ) وعزاها لابن جرير الطبري في تاريخه ( 3 / 33 ) .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وإمام المتقين, وحجة الله على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس:
إن مما يجب على المسلم الذي يريد أن يؤسس بيته على تعاليم الإسلام وشرائعه؛ أن يُعَرِّف بيته وأبناءه بالإسلام, وأن يعظم شعائر الله في قلوبهم, وأن يعظم الحدود التي أمر الله بحفظها, فيكون بيته معظمًا لله سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن تربي في نفس ابنك تعظيم الله, فلا يكون أحدٌ في قلبه أعظم من الله, ولا أجل من الله, ولا أحب من الله, هذا هو البيت المسلم.
واستقامة البيت المسلم وهداية الأبناء تحصل بأمور منها:
أن تعظم في قلب ابنك اسم الله سبحانه وتعالى وتعرفه على الواحد الأحد, فلا يتلفظ بلفظ الجلالة إلا في مكارم الأمور, وفي أشرف المناسبات, وأن تعلمه أين هو الله تبارك وتعالى في علوه, وتعرفه على صفات الواحد الأحد كرمه سبحانه وتعالى وحلمه وبره تبارك وتعالى, وتريه آثار القدرة في أسمائه وصفاته.(145/11)
يأكل الطعام فتقول له: هذا من فضل الله؛ ليحب الله, يلبس اللباس فتقول له: هذا من جود الله, فيتعرف على الله, يدخل البيت فتقول له: هذا من عطاء الله وفضله, فيتحبب إلى الله تعالى.
ومن أمور التعظيم أيضًا, تعظيم كتاب الله فتحبب إليه القرآن, وتعظم مبدأ القرآن في قلبه, وتجعل القرآن من أعظم اهتماماته في الحياة, فإن وجدت قصاصةُ من المصحف رفعتها وقبلتها وطيّبتها وهو يراك, فإن هذا السلوك أعظم من مائة محاضرة, تحاضر فيها عن عظمة القرآن.
ترى شيئًا من حديث المصطفى فترفعه, يُذكر لك الرسول في المجلس فتصلي وتسلم عليه فتعظم في قلبه رسول الهدى وتعظم في نفسه جهوده وجهاده .
وتعظم كذلك أبا بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين, حتى يكون هؤلاء الأخيار هم النجوم عند أبنائنا, لا نجوم الفن ولا نجوم الغناء؛ لأن كثيرًا من الأطفال تربوا على أن العظماء هم المغنون والمغنيات الأحياء منهم والأموات, فيرى أن هذا المغني قد شق طريق المجد, وقد صعد إلى القمة, وقد نال من الفخر ما لم ينله أحد من العالمين.
ويظن بعض الأطفال أن هؤلاء الفنانين والفنانات رزقوا من العقول ومن الذكاء ما لم يرزقه أحد من الناس, لا لشيء إلا لأن الطفل يصبح ويمسي على صوت هذا المغني, وهذا الفنان وهذا المهرج, أما ذكر محمد فقل أن يسمعه في بيته.
وطائفة من الناس, ثقافتهم آثمة, دخيلة, عميلة, ضالة؛ رأوا أن نجوم المجد ماركس, ولينين وهرتزل ونابليون, وهتلر, أعداء الإنسانية, وشرذمة البشرية, إنهم يقرأون كتبهم ويحفظون كلماتهم, وهؤلاء ـ والذي لا إله إلا هو, والذي شرف محمدًا بالرسالة ـ لا يساوون غبار نعليه ولا يساوون التراب الذي وطئه ولا يساوون ـ ولو اجتمعوا من الشرق إلى الغرب ـ حذاء أبي بكر, أو عمر, أو عثمان, أو علي.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جَمَعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
أولئك الذين هدى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].(145/12)
أولئك الذين ركبوا متن التاريخ, وأسمعوا أذن الزمن, وامتطوا بحار المجد, يرفعون لا إله إلا الله.
أولئك الذي علم الله الإنسانية بهم العدالة, وأفنى الله بهم الضلالة, ومحق الله بهم العمالة.
أولئك الذين كان كل منهم قرآنًا يمشي على الأرض, يتعاملون بتعاليم القرآن, وينامون على تلاوة القرآن, ويستيقظون على صوت القرآن.
أولئك الذين نظر الله إلى قلوبهم, فرضي عنهم ورضوا عنه؛ يكلم شهداءهم كفاحًا, ويرضى عن مواقفهم, ويثني عليهم وهم في الحياة الدنيا.
يجتمعون تحت شجرة, فينزل جبريل بكلام الله سبحانه وتعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة [سورة الفتح:18].
ويجتمعون في الصباح الباكر فيتنزل جبريل بقوله سبحانه وتعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود [الفتح:29].
جلالة, ونور, وبياض, وإشراق, وبشاشة, أما أولئك الذين دخلوا علينا في المجلات الخليعة, وفي الكتب الظالمة الغاشمة, وفي الأفكار الإلحادية الضالة, أولئك أبخس خلق الله, ولا أبالغ إذا قلت: إن الكلاب أطهر منهم, وإن الحمير أنزه منهم؛ لأنها مخلوقة بلا عقول ولا تكليف, أما هم فكلفوا بعقول, ثم ألحدوا, وكفروا, وأعرضوا فهم أضل منها سبيلاً أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله [الجاثية:23].
نعم إن الذي لا يؤمن بالله, تطارده لعنة الله في الدنيا والآخرة, كما قال تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفَّفُ عنهم العذابُ ولا هم ينظرون [البقرة:161-162].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ علينا إسلامنا, ذلك الإسلام الذي أتى به رسول الله فأخرج به الدنيا من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان والتوحيد.(145/13)
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدَّل حالها
بل كرَّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
عباد الله:
صلوا ولموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقد قال : ((من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(145/14)
لا تحزن
كتبه : الشيخ عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللله وعلى اله وصحبه ومن موالاه
فعنوان هذه المحاضره: لا تحزن
*وهي رساله لك مهموم ومغموم ومحزون تقول له لا تحزن .
* وهي خطاب لك مصاب ومبتلى وكل من سحقته المشقه والعناء تقول له لا تحزن .
*وهي نداء لك من احدقت به المصائب واحاطت به النكبات وخنقته الأزمات تقول له لا تحزن.
* وهي دعوة لمن فقد أبنه وفجع بثمرة فؤاده واصيب بصفية من أهل الدنيا ونعي اليه حبيبه تقول له لا تحزن.
*وهي أمل لكل من أثقلته الديون وعظه الفقر وأمضته الحاجه وأحاطت به البأساء تقول له
لا تحزن.
*وهي مواساة لمن اقعده المرض ونغص عيشة السقم وأقض مضجعه الألم وشرد نومه اليأس تقول له لا تحزن .
*وهي عزاء لمن أُصدت عليه الأبواب ولمن ذاق مرارة الغربة واحتسى كأس الفراق وشرب علقم الإحباط تقول له لا تحزن.
*وهي سلوة لمن أشرف على الإنتحار ومل الحياة وسئم العيش وعاف البقاء تقول له لا تحزن.
عناصر المحاضرة...
1. إن مع العسر يسرى .
2. فكر واشكر.
3. ما مضى فات.
4. يومك يومك
5. اترك المستقبل حتى يأتي.
6. مواجهة النقد الأثم.
7. لا تنتظر شكرا من احد.
8. الإحسان إلى الغير.
9. اطرد الفراغ بالعمل.
10. قضاء وقدر.
11. اصنع من اليمون شرابا حلو.
12. أمن يجيب المضطر اذا دعاه
13. العوض من الله
14. الإيمان هو الحياة
15. أجني العسل ولا تكسر الخليه.
16. ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
17. أم يحسدون الناس على ما آتهم الله من فضله.
18. أقبل الحياة كما هي.
19. تعزى بأهل البلاء.
20. الصلاة الصلاة.
21. حسبنا الله ونعم الوكيل .
22. قل سيرو في الارض.
23. فصبر جميل.
24. لا تحمل الكرة الارضيه على رأسك.
25. لا تحطمك التوافه.
26. أرض بما قسمه الله لك تكن اغنى الناس.
27. ذكر نفسك بجنة عرضها السموات والارض
28. وقفات(146/1)
وهذه هي التفاصيل:
1/ إن مع العسر يسرى...
يا إنسان أن بعد الجوع شبع وبعد الظمأ ري وبعد السهر نوم وبعد المرض عافيه وبعد الفقر غناء وبعد السجن حريه , سوف يصل الغائب ويهتدي الضال ويفك العاني وينقشع الظلام (فعسى الله ان يأتي بالفتح أو امر من عنده).
بشر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأوديه ,بشر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر, بشر المنكوب بلطف خفي وكف حانيه .
أذا رئيت الصحراء تمتد وتمتد فعلم أن وراءها رياض خضراء وارفه الظلال , أذا رئيت الحبل يشتد ويشتد فعلم أنه سوف ينقطع.
مع الدمعه بسمة ومع الخوف آمن ومع الفزع سكينه, النار لاتحرق أبراهيم التوحيد لأن الرعاية الربانيه فتحت نافذة برداً وسلاماً , البحر لايغرق كليم الرحمن لأن الصوت القوي الصادق نطق بـ (كلا ان معي ربي سيهدين) ,المعصوم في الغار بشر صاحبة بأنة وحدة سبحانة معنا فنزل الأمنُ والسكينةُ.
أن عبيد ساعاتهم الراهنة وأرِقاء ظروفهم القاتمة لايرون ألا النكد والضيق والتعاسة لأنهم لاينظرون ألا لجدار الغرفة وباب الدار فحسب , ألآ فليمدوا أبصارهم وراء الحجب, ألآ فليطلقوا أعنت أفكارهم إلى ما وراء الأسوار, ألآ فليحسنوا الظن بالعزيز الغفار.
أذن فلا تذق ذرعا فمن المحال دوام الحال وأفضل العبادة إنتظار الفرج.
الأيام دول والدهر قُلب والليالي حبالا والغيب مستور والحكيم كل يوم هو في شئن ولعل الله يحدث بعد ذلك امراً(وإن مع العسر يسرى ).....
دع المقادير تجري في أعنتها *** ولا تبيتاً ألا خالي البالِ
مابين غمضت عينٍ وأ نتباهتها *** يغير الله من حال إلى حالِ(146/2)
وانظر إلى يونس بن متى عليه السلام في ظلمات ثلاث لا أهل ولا ولد ولا صاحب ولا حبيب ولا قريب ألا الله الواحد الأحد فهتف بالكلمة الصادقه المؤثره الناصعة(لا إله الا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) فجاء الفرج, ويعقوب عليه السلام يقول لأبناءه (لا تيأسوا من روح الله أنه لا ييأس من روح الله ألا القوم الكافرون) .
فلا يأس والل يُدعى ولا قنوط والله يرجى ولا خيبة والله يعبد ولا إحباط والله يؤمل جل في علاه.
فإذا سئلت فسئل الله وإذا أستعنت فأستعن بالله وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال وعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرى)
أنظر إلى أخبار الأمم وقصص الدول كيف غلب الله على أمره جل في علاه لأنه الفعال لما يريد فجاء بالعسر بعد اليسر سبحانه وفي الحديث الحسن ( لن يغلب عسر يسرين), المنصور بن أبي عامر الملك الأندلسي حكم بقتل عالم من العلماء وأعطى السياف ورقه أراد أن يكتب فيها يقتل فكتب يطلق فردها السياف إليه فشطبها وكتب يطلق فردها إليه فشطبها وكتب يطلق يريد يقتل ,فلما كتب يطلق تعجب وحتار وقال والله أنه لأمر الله جل في علاه والله ماأردت ألا قتلة وأنه ليطلق رغم أنفي فأطلقه (كل يوم هو في شأن)
سهرت أعين ونامت عيون *** في شؤون تكون أو لا تكون
أن رباً كفاك ما كان با لأمس *** سيكفيك غداً ما يكون(146/3)
2/ فكر واشكر...
المعنى أن تذكر نعم الله عليك ، فإذا هي تغمرك منن فوقك ومن تحت قدمك (وان تعدوا نعم الله لاتحصوها)
صحت في بدن، أمن في وطن، غذاء وكسل، هواء وماء، لديك وأنت ما تشعر تملك الحياة وأنت لا تعلم (وأصبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه) عندك عينان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وأمن في أوطان (فبأي ألاء ربكما تكذبان) هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك وقد بترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك وقد قطعت سوق، أحقير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي وأن تكرع من الماء البارد وهناك من عكر عليه الطعام ونغص عليه المنام بأمراض وأسقام.
تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم تأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، انظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، ألمح عقلك وقد أنعم عليك بحضوره ولم تفجع بالجنون والذهول.
أتريد في بصرك وحده كجبل أحد ذهبا، أتحب بيع سمعك وزن ثهلان فضة، هل تشتري قصور الزهراء بلسانك فتكون أبكم، هل تقايض بيديك مقابل عقود اللؤلؤ والياقوت لتكون أقطع إنك في نعم عميمة، أنك في أفضال جسيمة ، أنك في أيادي عظيمة ولكنك لا تدري تعيش مهموم مغموم حزين كئيب وعندك الخبز الدافئ والماء البارد والنوم الهانئ والعافية الوارفة تتفكر في المفقود ولا تشكر الموجود، تنزعج من خسارة ماليه وعندك مفتاح السعادة وقناطير مقنطرة من الخير والمواهب والنعم والأشياء.
فكر وشكر(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فكر في نفسك، فكر في أهلك ، فكر في بيتك، فكر في عملك ، فكر في عافيتك، فكر في أصدقائك ، فكر في الدنيا من حولك ( يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال(من أصبح أمن في سربه معافى في بدنه عنده قوته وقوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال(أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)(146/4)
خذ القناعة من دنياك وأرضى بها *** لو لم يكن لك ألا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل سار منها بغير الطيب والكفن
يقول أبو العتاهية:
رغيف خبز يابس تأكله في زاوية *** وكوز ماء بارد تشربه من صافية
وغرفة خاليه نفسك فيها راضية *** ومصحف تدرسه مستند لسارية
خير من السكنى بظلات القصور العالية *** من بعد هذا كله تصلى بنار الحامية
3/ ما مضى فات
تذكر الماضي والتفاعل معه و استحضاره والحزن لمآسيه حمق وجنون وقتل للإرادة وتبديد للحياة الحاضرة.
إن ملف الماضي عند العقلاء يطوى ولا يرى, يعلق عليه أبدا في زنزانة النسيان, يقيد بحبال قوية في سجن الإهمال فلا يخرج أبدا ويوصد عليه فلا يرى النور لأنه مضى وانتهى لا الحزن يعيده, لا الهم يصلحه, لا الغم يصححه, لا الكدر يحييه لأنه عدم.
لا تعيش في كابوس الماضي وتحت مظلة الفائت انقض نفسك من شبح الماضي أتريد أن تعيد النهر إلى مصبه والشمس إلى مطلعها والطفل إلى بطن أمه واللبن إلى الثدي والدمع إلى العين.
إن تفاعلك مع الماضي وقلقك منه واحتراقك بناره وإنطراحك على أعتابه وضع مأساوي رهيب, مخيف, مفزع.
القراءة في دفتر ماضي ضياع للحاضر وتمزيق للجهد ونسف للساعة الراهنة, ذكر الله الأمم وما فعلت ثم قال (تلك امة قد خلت ) وقال لأوليائه (لكي لا تأسوا على ما فآتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)انتهى الأمر, قضيت المسألة, لا طائل من تشريح جثة الزمان وإعادة عجلة التاريخ.
إن اللذين يعودون للماضي كالذي يطحن الطحين وهو مطحون أصلا وكالذي ينشر نشارة الخشب وقديما قالوا لمن يبكي على الماضي: لا تخرج الأموات من قبورهم. وقد ذكر من يتحدث على ألسنة البهائم إنهم قالوا للحمار: لما لا تجتر قال: أكره الكذب.(146/5)
إن بلاؤنا أننا نعجز عن حاضرنا ونشتغل بماضينا نهمل قصورنا الجميلة ونندب أطلالنا البالية ولا إن اجتمعت الأنس والجن على إعادة الماضي لما استطاعوا لأن هذا المحال بعينه.
إن الناس لا ينظروا إلى الوراء ولا يلتفتون إلى الخلف لأن الريح تتجه إلى الأمام والماء ينحدر إلى الأمام القافلة تسير إلى الأمام فلا تخالف سنة الحياة.
4/يومك يومك
اسمع إلى الأثر الثابت (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ) لليوم فحسب سأعيش فلا أمس الذي ذهب بخيره وشره ولا الغد الذي لم يأتي إلى الآن.
اليوم الذي أظلتك شمسه وأدركك نهاره هو يومك فحسب, عمرك يوم واحد ما مضى فات والمأمول غيب ولك الساعة التي أنت فيها فجعل في خلدك العيش لهذا اليوم وكأنك ولدت فيه وتموت فيه حينها لا تتعثر حياتك بين هاجس الماضي وهمه وغمه وبين توقع المستقبل وشبحه المخيف وزحفه المرعب.
لليوم فقط اصرف تركيزك و اهتمامك, لليوم فقط وجه إبداعك وكدك وجهدك, لهذا اليوم لا بد أن تقدم صلاة خاشعة وتلاوة متدبرة وإطلاع متأمل وإبداع برقي وذكر بحضور واتزان في أمور وحسن في خلق ورضا بالمقسوم واهتمام بالمظهر واعتناء بالجسم ونفع للآخرين, لليوم هذا الذي أنت فيه تعيش فتقسم ساعاته فتجعل من دقائقه سنوات ومن ثوانيه شهور تزرع فيه الخير, تسدي فيه الجميل, تستغفر فيه من الذنب, تذكر فيع الرب تتهيأ للرحيل, تعيش هذا اليوم فرح وسرور وأمن وسكينة ترضى فيه برزقك, بزوجتك, بأطفالك, بوظيفتك, ببيتك, بعملك, بمستواك (وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين .((146/6)
تعيش هذا اليوم بلا حزن ولا إزعاج ولا سخط ولا حقد ولا حسد. إن عليك أن تكتب على لوح قلبك عبارة واحده تجعلها أيضا على مكتبتك تقول العبارة: يومك يومك.
إذا كلت خبزا حارا شهيا فهل يضرك خبز الأمس اليابس الرديء أو خبز غد الغائب المنتظر, إذا شربت ماء عذب زلال هذا اليوم فهل تحزن من ماء أمس المالح الأجاج أو تهتم لماء غد الآسي الحار.
إنك لو صدقت مع نفسك بإرادة فولاذية صارمة, عارمة, حاسمة, حازمة, جازمة, لا أخضعتها لنظرية لن أعيش إلا هذا اليوم حينها تشغل كل لحظة في هذا اليوم في بناء كيانك في تنمية مواهبك في تزكية عملك فتقول: لليوم فقط أهذب ألفاظي فلا أنطق هجرا أو فحشا أو سب أو غيبه, لليوم فقط سوف أرتب بيتي ومكتبتي فلا ارتباك ولا بعثرة إنما هو نظام ورتابة, للبوم فقط سوف أعيش فأعتني بنظافة جسمي وتحسين مظهري والاهتمام بهندامي والاتزان في مشيتي وكلامي وحركاتي, لليوم فقط سأعيش فأجتهد في طاعة ربي وتأدية صلاتي على أكمل وجهه والتزود بالنوافل وتعاهد مصحفي والنظر في كتبي وأحفظ فائدة ومطالعة كتاب نافع, لليوم فقط سأعيش فأغرس في قلبي الفضيلة واجتث منه شجرة أثر بغصونها الشائكة من كبر وعجب ورياء وحسد وحقد وغل وسوء ظن, لليوم فقط أعيش وأنفع الآخرين أسدي الجميل للغير, أعود مريض, أشيع جنازة, أدل حيران, أطعم جائع, أفرج عن مكروب, أقف مع مظلوم, أشفع لضعيف, أواسي منكوب, أكرم عالم, أرحم صغير, أجل كبير, لليوم سأعيش فيا ماضي ذهب وانتهى أغرب كشمسك فلن ابكي عليك ولن تراني أقف لأتذكرك لحظة لأنك تركتنا وهجرتنا وارتحلت عنا ولن تعود إلينا ابد الآبدين ويا مستقبل أنت في عالم الغيب فلن أتعامل مع الأحلام ولن أبيع نفسي مع الأوهام ولن أتعجل لميلاد مفقود لأن غدا لا شيء لأنه لم يخلق ولأنه لم يكن شيئا مذكورا, يومك يومك أيها الإنسان أروع كلمة في قاموس السعادة لمن يرد الحياة في أبها صورها وأجمل حللها.
5/أترك المستقبل حتى(146/7)
يأتي
(أتى أمر الله فلا تستعجلوه) لا تستبق الأحداث أتريد إجهاض الحمل قبل إتمامه وقطع الثمرة قبل النضج, إن غدا مفقود لا حقيقة له, ليس له وجود, ولا طعم ولا لون ولا رائحة فلماذا نشغل أنفسنا به ونتوجس من مصائبه ونهتم لحوادثه ونتوقع كوارثة ولا ندري ما يحال بيننا وبينه أو نلقاه فإذا هو سرور ونور وحبور المهم أنه في العالم الغيب لم يصل إلى الأرض بعد.
أن علينا أن لا نعبر الجسر حتى نأتيه ومن يدري لعلنا نقف قبل وصول الجسر أو لعل الجسر ينقطع بنا وربما وصلنا الجسر ومررنا بسلام
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى *** ولا زاجرات الضير ما الله مانع
لا يعلم الغيب إلا الله فانتظر موعودك مع الله وكن سعيد بيومك.
إن إعطاء الذهن مساحة أوسع في التفكير في المستقبل وفتح كتاب الغيب ثم الاكتواء بالمزعجات المتوقعة ممقوت شرعاً لأنه طول أمل ومذموم عقلاً لأنه مصارعة للظل.
إن كثيراً من هذا العالم يتوقع في مستقبله الجوع والعري والمرض والفقر والمصائب وهذا كله من مقررات مدارس إبليس ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)وكَل بها رباً عليما حكيما جل في علاه كثير هم الذين يبكون لأنهم سوف يجوعون غداً وسوف يمرضون بعد سنة وسوف ينتهي العالم بعد 100عام.
أن الذي عمره في يد غيره لا ينبغي له أن يراهن على العدم والذي لا يدري متى يموت لا يجوز له الاشتغال بشيء مفقود لا حقيقة له.(146/8)
أترك غداً حتى يأتيك لا تسأل عن أخباره لا تنتظر زحٌفه لأنك مشغول باليوم وأن تعجب فعجب هؤلاء الذين يقترضون الهم نقداً ليقضوه نسيئة في يوم لم تشرق شمسه ولم يرى النور فحذاري من طول الأمل.
6/كيف تواجه النقد الآثم
الرقاع السخفاء الحمقى التافهون سبوا الخالق الرازق جل في علاه, شتموا الأحد الذي ذهب بالجمال والكمال والجلال لا إله ألا هو فماذا أتوقع أنا وأنت ونحن أهل الحيف والخطأ, أنك سوف تواجه في حياتك حرب ضروس لا هوادة فيها من النقد الآثم المر ومن التحطيم المدروس المقصود ومن الإهانة المتعمدة مادام أنك تعطي وتبني وتؤثر وتستطع وتلمع وتبدع ولن يسكت هؤلاء عنك حتى تتخذ نفقاً في الأرض أو سلم في السماء فتفر من هؤلاء أما و أنت بين أظهرهم فأنتظر منهم ما يسئك ويبكي عينك ويدمي مقلتك ويغض مضجعك.
إن الجالس على الأرض لا يسقط, إن الناس ليرفسون كلباً ميتاً ولا كنهم يغضبون عليك لأنك فقتهم صلاحاً أو علم أو أدب أو مال أو بيان أو زهد فأنت عندهم مذنب حتى تترك مواهبك ونعم الله عليك وتنخلع من كل صفات الحمد وتنسلخ من كل معاني النبل وتبقى بليداً غبياً صغراً محطماً مكدوداً هذا ما يريدون بالضبط.
إذن فصمد لكلام هؤلاء, إذن فثبت أحد, إذن فصبر على نقدهم و تشويههم وتجريحهم وتحقيرهم, إذن كن كالصخرة الصامدة المهيبة تتكسر عليها حبات البرد لتثبت وجودها وتعلن صمودها وقدرتها على البقاء أنك. أن أصغيت لكلام هؤلاء وتفاعلت به حققت أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك وتكدير عمرك,
ألا فصفح الصفح الجميل , ألا فأعرض عنهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون.
أن نقدهم السخيف ترجمة محترمة لك وبقدر وزنك يكون النقد الآثم المفتعل , أنك لن تستطيع أن تغلق أفواه البشر و لا تستطيع أن تعتقل ألسنتهم لكنك تستطيع أن تدفن نقدهم وتجنيهم بتجافيك لهم وإهمالك لشأنهم وإضراحك لقولهم (قل موتوا بغيظكم)(146/9)
وكلمة حاسد من غير جرم *** سمعت فقلت مري فنفُذيني
وعابوها علي ولم تعبني *** ولم يندا لها أبداً جبيني
*********
حسدوا الفتى إن لم ينالوا سعيهم *** فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسداً وبغياً أنه لذميم
وقال آخر:
وشكوت من ظلم الوشاة ولن تجد *** ذا سؤدد إلا أصيب بحُسدٍ
لا زلت يا سبط الكرام مُحسداً *** والتافه المسكين غير مُحسدِ
أنك تستطيع أن تصب في أفواه هؤلاء الخردل بزيادة فضائلك وتربية محاسنك وتقويم اعوجاجك أن كنت تكون مقبول عند الجميع محبوب لدى الكل سليم من العيوب عند العالم فقد طلبت مستحيل وأملت أمل بعيد ألا يكفيك أن الواحد جل في علاه القهار تباركت أسماءه الكامل تقدست آلاءه يقول ( يسبني أبن أدم وما ينبغي له ذلك ويشتمني أبن أدم وما ينبغي له ذلك, أما سبه أياي – تعال الله في علياءه- فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار أما شتمه أياي فإنه يقول أني اتخذت صاحبة وولد وأنا الله لم أتخذ صاحبة ولا ولد)
وهذا هو الله جل في علاه ورسولنا صلى الله عليه وسلم من بلغ الكمال البشري سب وشتم وهجي وقيل له ساحر وشاعر وكاهن وكذاب ومجنون فنزل عليه فصفح الصفح الجميل وصبر صبرا جميلا.
10/ قضاء وقدر
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن برءها) فليعلم من جهل وليدري من غفل جف القلم،رفع الصحف،قضي الأمر،كتبت المقادير (لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا) الله بتوكلنا حسبنا الله ونعم الوكيل(وأفوض أمري إلى الله)
دعها سماويه تجري على قدر *** لا تفسدنها برئ بنك منكوس
****** ******
سهرت أعين ونامت عيون *** في شؤون تكون أولا تكون
أن ربا كفاك ما كان بالأمس *** سيكفيك في الغد ما يكون
واسمع العام ذي الفطرة الصحيحة يقول:
لا تشتكي يا وحد بات مهموم *** ترى الفرج عندك تراب الحزام
وأن كان عينك خالفت لذة النوم *** أنت تنام وخالقك ما ينام(146/10)
(ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصيبك) إن هذه العقيدة إذا رسخت في نفسك وقرت في ضميرك صارت البلية عطية والمحنه منحه وكل الوقائع جوائز وأوسمة ومن يرد الله به خيراً يصب منه فلا يصبك قلق من مرض أو موت أبن أو خسارة مالية أو احتراق بيت فإن الباري قد قدر والقضاء قد حل والاختبار هكذا والخيرة لله والأجر حصل والذنب غفر.
هنيئا لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الأخذ المعطي القابض الباسط (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) ولن تهدأ أعصابك ولن تسكن بلابل نفسك ولن تذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر،جف القلم بما أنت لاق فلا تذهب نفسك حسرات،لا تظن أن بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار وحبس الماء أن ينسكب ومنع الريح أن تهب وحفظ الزجاج أن ينكسر هذا ليس بصحيح على رغمي ورغمك سوف يقع المقدور وينفذ القضاء ويحل المكتوب فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أستسلم للقدر قبل أن تتطوق بجيش السخط والتذمر والعويل أعترف بالقضاء قبل أن يدهمك سيل الندم أذن فليهدأ بالك وإذا فعلت الأسباب وبذلت الحيل ثم وقع ما كنت تحذر فهذا ما كان ينبغي أن يقع ولا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل.
واسمع إلى الجوائز وإلى الأوسمة وإلى الأعطيات للصابرين المحتسبين صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله يقول
(مالي عبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم أحتسبه ألا الجنة) وقال سبحانه في الحديث القدسي الصحيح (من ابتليته بحبيبتيه _أي عينيه_ فصبر عوضت منهما الجنة)وصح عنه عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه قال إذا قبضت أبن العبد المؤمن قال الله لملائكته وهو أعلم: قبضتم أبن عبدي المؤمن قالوا:نعم ,قال :قبضتم ثمرة فؤاده. قالوا: نعم ,قال : فماذا قال عبدي؟ قالوا :حمدك واسترجع. قال: ابنوا لعبدي بيت في الجنة وأسموه بيتا الحمد).(146/11)
وانظر إلى الأولياء كيف يصبرون على المقدر هذا عروة بن الزبير يسافر سفر طويل من المدينة إلى الشام عروة الذي يختم القران كل أربعة أيام , عروة الذي كان يقوم ثلث الليل, عروة الذي يصوم يوم ويفطر يوم ,عروة الذي قال عنه الزهري البحر الذي لا يكدره الدلاء, سافر إلى الشام ولكنه كان سفر بعيد شاق حتى قال بعد السفر (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) سافر معه ابنه محمد وذهب إلى هناك ونزل في بيت وأصابته الأكلة في رجله ورحلت في قدمه فأرادوا بتر القدم فصبر فسرت إلى الساق فأرادوا بتر الساق فصبر فسارت إلى الفخذ فقرر الأطباء بتر فخذه وقدموا له كأس من الخمر وهو الولي العابد الصادق الزاهد قال أأشرب خمرا قالوا: ليذهب عقلك لألا تجد ألم قال: والله لا أشربها كيف أذهب عقل منحنية ربي كيف أرتكب محرم ولكن إذا دخلت في صلاتي فسوف أنسى ألمي فقطعوا رجلي فكبر وأسترسل في صلاته وسافرت روحه إلى الملكوت العليا كما قال الأول:
إذا كان حب الهائمين من الورى *** بسلمى وليلى يسلب اللب والعقل
فماذا عسى أن يصنع الهايم الذي *** سرى قلبه شوق إلى العالم الأعلى(146/12)
وبتروا رجله وأغمي عليه وستفاق ليقول أول كلمة وينبس بأول جملة فيقول اللهم لك الحمد أن كنت أخذت فقد أعطيت وأن كنت ابتليت فقد عافيت قال له الناس أحسن الله عزائك في رجلك وأحسن الله عزائك في أبنك محمد فإنه بينما كانت تقطع رجلك ذهب إلى إسطبل الخيل فرفسته فرس فمات فعاد مرة ثانيه ليبعث رسالة حارة إلى الحي القيوم المتفضل سبحانه يقول : اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضاء أعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضو وأعطيتني أربعة أبناء وأخذت أبنا فأنت المتفضل صاحب الجميل. والمرأة السوداء صح الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى فإذا هي تصرع تمرض تتكشف يعيث بها المرض يزلزلها يقلقها تضرب منه قال صلى الله عليه وسلم وهو يعرض عليها الخيار وهي أمه سوداء لكنها مؤمنة بالله مسلمة بالقضاء والقدر أن شئتي دعوة الله لك فشافاك وإن شئتي صبرتي واحتسبتي ولك الجنة قالت بل أصبر واحتسب ودعوا الله لي ألا أتكشف, قال عطاء من أراد أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى هذه المرأة السوداء.
11/ اصنع من الليمون شرابا حلوا...
الذكي الأرب يحول الخسائر إلى أرباح والجاهل الرعديد يجعل المصيبة مصيبتين طرد الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة وأقام في المدينة دولة, سجن أحمد بن حنبل فصار أمام السنة ,حبس أبن تيمية فصار أمام الأمة, وضع السر خسي في قعر بير معطلة فأخرج ثلثين مجلد , أبعد أبن أثير فصنف أربعين مصنف, نفي أبن الجوزي فتعلم القراءات , أصابت الحمى مالك أبن الريب فصار شاعر الدنيا, مات أبناء أبي ذؤيب الهذلي فرثاهم بإلياذة أنصت لها الدهر وذهل منها الجمهور وصفق لها التاريخ .
أذا داهمتك داهية فانظر في الجانب المشرق منها إذا ناولك أحدهم كوب ليمون فأضف إليه حفنة من سكر , إذا أهدى أليك أحدهم ثعبان فخذ جلده الثمين وترك باقية , إذا لدغتك عقرب فعلم أنه مصل واقي ومناعة حصينة ضد سم الحيات.(146/13)
تكيف في ظرفك القاسي لتخرج لنا منه زهر وورد وياسمين (وعسى أن تكرهوا شيء وهو خير لكم ).
سجنت فرنسا قبل ثورتها العارمة شاعرين مجدين متفائل ومتشائم فأخرجا رئسيهما من النافذة السجن أما المتفائل فنظر نظرة في النجوم فضحك أما المتشائم فنظر في الطين فبكاء أنظر إلى الوجه الأخر المأساة لأن الشر المحض ليس موجود أصلا بل هناك خير ومكسب وفتح واجر (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) من الذي يفزع إليه المكروب ,من الذي يستغيث إليه المنكوب ,من الذي تصمد إليه الكائنات, من الذي تسأله المخلوقات ,من الذي يلتجأ إليه العباد من الذي تلهج الألسنة لذكره ، من الذي تألف له القلوب ، من هو الواحد الأحد ، انه الله الذي لا اله إلا هو ، وحق علي وعليك أن ندعوه في الشدة والرخاء والسراء والضراء ونفزع إليه في الملمات ونتوسل إليه في الكروبات وننطرح علي عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين حينها يأتي مدده يصل إلينا عونه يسرع إلينا فرجه ، حيل علينا فتحه .
12/ امن يجيب المضطر إذا دعاه ....
فينجي الغريق ويرد الغائب ويعافي المبتلى وينصر المظلوم ويهدي الضال ويشفي المريض ويفرج عن المكروب ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) ولن أسرد عليك هنا ادعيه إزالة الهم والحزن والغم ، فهي معلومة في السنة ، إذا وجدت الطريق إلى ربك وجدت كل شيء ، وان فقدت الإيمان به فقد قدت كل شيء ، إن دعائك ربك عباده أخرى وطاعة عظمى ثانية فوق أصول المطلوب وان عبدا يجيد فن الدعاء حري ألا يهتم و لا يغتم ولا يحزن ولا يقلق ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ).
كل الحبال تتصرم إلا حبله ، كل الأبواب توصد إلا بابه ، كل الطرق تغلق إلا طريقه هو قريب سميع ..مجيب يجيب المضطر إذا دعاه ، يأمرك وأنت الفقير الضعيف .. المحتاج.. وهو الغني.. القوي.. الواحد.. الماجد، بأن تدعوه ( ادعوني استجب لكم ).(146/14)
إذا استعدت عليك النوازل.. إذا ألمت بك الخطوب فالهج بذكره واهتف باسمه واطلب مدده ، وأسأله فتحه ونصره ، مرغ الجبين لتقديس اسمه ، لتحصل على تاج الحرية ، وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة مد يديك ارفع كفيك أطلق لسانك أكثر من طلبه بالغ في سؤاله ألح عليه .. ألزم بابه . انتظر لطفه .. ترقب فتحه، أشدو باسمه، أحسن الظن به / انقطع إليه، تبتل إليه تبتيلا حتى تسعد وتفلح.
13/ العوض من الله ..
لا تأسف على مصيبة فإن الذي قدرها عنده جنه وثواب وعوض واجر عظيم إن أولياء الله المصابين المبتلين ينوه بهم في الفردوس ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ).
وحق علينا أن ننظر في عوض المصيبة وفي ثوابها وفي خلها الخير ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم المهتدون ) ، هنيئا للمصابين وبشرى للمنكوبين ، سلام على المضطهدين ، إن عمر الدينا قصير وكنزها حقير والاخره خير وأبقى ، فمن أصيب هنا كفى هناك ، ومن تعب هنا ارتاح هناك ، ومن افتقر هنا اغتنى هناك ، أما المتعلقون بالدنيا العاشقون لها الراكنون إليها فاشدوا ما على قلوبهم فوت حظوظهم منها وتنغيص راحتهم فيها لأنهم يريدونها وحدها ، فلذلك تعظم عليهم المصائب وتكبر عندهم النكبات لأنهم ينظرون تحت أقدامهم فلا يرون إلا الدنيا الفانية الزهيدة الرخيصة .(146/15)
أيها المصابون ما فات شيء وأنت الرابحون فقد بعث لكم برسالة بين اسطرها لطف وعطف وثواب وحسن اختيار ، إن على المصاب الذي ضرب عليه سرادق المصيبة ، أن ينظر ليرى النتيجة ( وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) وما عند الله خير وأبقى واهني وامرئ واجل وأعلى وأغلى .
14/ الإيمان هو الحياة...
الأشقياء في كل معاني الشقاء هم المفلسون من كنوز الإيمان ومن رصيد اليقين فهم أبداً في تعاسة وغضب ومهانة وذلة (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) لا يسعد النفس ولا يزكيها ، لا يطهرها ، لا يسرها، لا يفرحها ، لا يذهب غمها وهمها وقلقها ألا الإيمان بالله رب العالمين لا طعم للحياة أصلا ألا بالإيمان
إذا الإيمان ضاع فلا حياة *** ولا دنيا لمن يشري دنيا
ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا(146/16)
وأن الطريقة المثلى للملاحده إن لم يؤمنوا فلينتحروا ليريحوا أنفسهم من هذه الأصار والأغلال والظلمات والدواهي يا لها من حياة تعيسة بلا إيمان يا لها من لعنة أبدية حاقة بالخارجين على منهج الله في الأرض.
(ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) وقد آن الأوان للعالم أن يقتنع كل القناعة وأن يؤمن كل الإيمان بأن لا إله إلا الله بعد تجربة طويلة شاقة عبر قرون غابرة توصل بعدها العقل أن الصنم خرافة والكفر لعنة والإلحاد كذبة وأن الرسل صادقون وأن الله حق وأنه على كل شيء قدير وبقدر إيمانك قوة وضعفاً ،حرارة وبرودة تكون سعادتك وراحتك وطمئنينيتك (من عمل صالح من ذكر أو أنثى وهو مؤمن لنحيينه حياة طيبه ولنجزينهم أجره بأحسن الذي كانوا يعلمون) وهذه الحياة الطيبة هي استقرار نفوسهم لحسن موعود ربهم، وثبات قلوبهم بحب باريهم، وطهارة ضمائرهم من أوضار الانحراف، وبرود أعصابهم أمام الحوادث ، وسكينته قلوبهم عند وقوع القضاء ورضاهم في مواطن القدر لأنهم رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
15/ أجني العسل ولا تكسر الخلية...
الرفق ما كان في شيء ألا زانة وما نزع من شيء إلا شانه...اللين في الخطاب، البسمة رائقة على المحيى، الكلمة الطيبة عند اللقاء هذي حلل منسوجة يرتديها السعداء وهي صفات المؤمن كالنحلة تأكل طيب وتصنع طيب وإذا وقعت على الزهرة لا تكسرها لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
أن من الناس من تشرئب لقدومهم الأعناق وتشخص إلى طلعاتهم الأبصار وتحييهم الأفئدة وتشيعهم الأرواح لأنهم محبوبون في كلامهم في أخذهم في عطائهم في بيعهم في شرائهم في لقائهم في وداعهم.(146/17)
أن اكتساب الأصدقاء فن مدروس يجيده النبلاء الأبرار فهم محفوفون دائما وأبداً بهالة من الناس أن حظروا فالبشر والأنس،أن غابوا فالسؤال والدعاء أن هؤلاء السعداء لهم دستور أخلاق عنوانه (أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فهم يمتصون الأحقاد بعاطفتهم الجياشة وحلمهم الدفين وصفحهم البريء يتناسون الإساءة ويحفظون الإحسان تمر بهم الكلمات النابية فلا تلج أذانهم بل تذهب بعيداً هناك إلى غير رجعة هم في راحة والناس منهم في أمن والمسلمون منهم في سلام (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ... (والمؤمن من أمن الناس على دمائهم وأموالهم) يقول صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه (أن الله أمرني أن أصل من قطعني وأن أعفوا عن من ظلمني وأن أعطي من حرمني) و الله لقد وصلت من قطعك وعفوت عمن ظلمك وأعطيت من حرمك فهنيء لك تلك المنزلة (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) بشر هؤلاء بثواب عاجل من الطمأنينة والسكينة والرضوان والهدوء وبشرهم بثواب أخروي كبير في جوار رب غفور في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
16/ ذكر الله تعالى
الصدق حبيب الله، الصراحة صابون القلوب، التجربة برهان الرائد لا يكذب أهله.
لا يوجد عمل أشرح للصدر وأعظم للأجر كالذكر (فذكروني أذكركم)وذكره سبحانه جنة في أرضه من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها وأضرارها
أذا مرضنا تداوينا بذكركم *** ونترك الذكر أحياناً فننتكس
أذكرونا مثل ذكرانا لكم *** ربا ذكرى قربت من نزحا
وهو الطريق الميسر المختصر إلى كل فوز وفلاح طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر،جرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف والفزع والهم والحزن بذكره تزاح جبال الكرب والغم والأسى
الله أكبر كل هم ينجلي *** عن قلب كل مكبر ومهلل(146/18)
و لا عجب أن يرتاح الذاكرون فهذا هو الأصل الأصيل لكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون عن ذكره (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون).
يا من شكا الأرق وبكى من الألم وتفجع من الحوادث ورمته الخطوب هيا أهتف باسمه تقدس في علياءه هل تعلم له سميا أن بقدر إكثارك من ذكره ينبسط خاطرك يهدأ قلبك تسعد نفسك يرتاح ضميرك لأن في ذكره معاني التوكل والثقة والاعتماد والتفويض وحسن الظن وانتظار الفرج فهو قريب أذا دعي سميع أذا نودي مجيب أذا سؤل فضرع وخشع وخضع وأخشع وردد أسمه الطيب المبارك على لسانك توحيد وتمجيدا وثناء ومدحا ودعاء وسؤال واستغفار وسوف تجد بحوله وقوته السعادة وأمن والسرور والنور والحبور (فأثابهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) يقول عليه الصلاة والسلام( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت)
17/ يحسدون الناس على ما آتهم الله من فضله
الحسد كالأكلة الملحة تنخر العظم نخر، إن الحسد مرض مزمن يعيش في الجسم فسادا وقد قيل لا راحة لحسود فهو ظالم في ثوب مظلوم وعدو في جلباب صديق وقد قيل لله در الحسد ما أعدله بدء بصاحبه فقتله.
أنني أنهى نفسي ونفسك عن الحسد رحمة بي وبك قبل أن نرحم الآخرين لأننا بحسدنا لهم نطعم الهم لحومنا ونسقي الغم دمائنا ونوزع النوم على جفون الآخرين.
أن الحاسد يشعل فرن ساخن ثم يقتحم فيه التنغيص والكدر والهم،أمراض الحاضر يولدها الحسد لتقضي على الراحة والحياة الطيبة الجميلة .
بلية الحاسد أنه خاصم القضاء وأتهم الباري في العدل وأساء الأدب وخالف الشرع وقدح في العقل، يا للحسد من مرض لا يؤجر صاحب ومن البلاء لا يثاب عليه المبتلى به وسوف يبقى هذا الحاسد في حرقة دائمة حتى يموت أو تذهب نعم الناس عنهم كل يصالح ألا الحاسد(146/19)
أعطيت كل الناس من نفسي الرضا *** ألا الحسود فإنه أعياني
مالي له ذنب عليه عملته *** إلا ترادف نعمة الرحماني
وأبا فما يرضيه إلا ذلتي *** وذهاب أموالي وقطع لساني
أن الحاسد يريد شيء محدد لا غيره يريد تتنازل عن مواهبك أن تلغي خصائصك أن تترك مناقبك فإن فعلت ذلك فلعله يرضى على مضض. نعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد فإنه يصبح كالثعبان الأسود السام لا يقر قراره حتى يفرغ سمه في جسم بريء فأنهاك أنهاك عن الحسد واستعذ بالله من الحاسد فإنه لك بالمرصاد
18/ اقبل الحياة كما هي
حال الدنيا منغصه اللذات،كثيرة التبعات، جاهمة المحيا ،كثيرة التلون مزجه بالكدر، خلقت بالنكد، وأنت منها في كبد
دار متى ما أضحكت في يومها *** أبكت غداً قبحاً لها من دار
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار
طبعت على كدر وأنت تريده *** صفوا من الأقذار والأعداء
لن تجد ولد ولا زوجة أو صديق أو نبيل أو مسكن أو وظيفة ألا وفيه ما يكدر وعنده ما يسوء أحيانا فأطفأ حر شره ببرد خيره لتنجوا رأس برأس والجروح قصاص. أراد الله لهذه الدنيا أن تكون جامعه للضدين والنوعين والفريقين والرايين خير وشر، صلاح وفساد،سرور وحزن ثم يصفى الخير كله والصلاح والسرور في الجنة ويجمع الشر كله والفساد والحزن في النار وفي الحديث (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم ومتعلم).
فعش واقعك ولا تسرح مع الخيال ولا تحلق في عالم المثاليات أقبل الحياة كما هي وطوع نفسك لمعايشتها ومواطنتها فسوف لا يصفوا لك صاحب ولا يكمل لك فيها أمر ولا يصلح لك فيها حال لأن التمام والكمال في الآخرة لن تكمل لك زوجة وف الحديث( لا يفرق مؤمن مؤمنه أن كره منها خلق رضي منها آخر) .
فينبغي أن نسدد وان نقارب وأن نعفو وأن نصفح وأن نأخذ ما تيسر ونذر ما تعسر (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )(146/20)
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
أذا أنت لم تشرب مرار على القذى *** ظمئت وأي الناس تصفى مشاربه
*************
ولست بمستبقي أخا لا تلمه *** على شعث أي الرجال المهذب
فلنغض الطرف أحيانا ونسدد الخطى ونتغافل عن الأمور
ليس الغبي بسيد في قومه *** لا كن سيد قومه المتغابي
19/ تعزى بأهل البلاء
تلفت يمنة ويسره فهل ترى إلا مبتلى هل تشاهد إلا منكوب هل تبصر إلا مصاب في كل دار نائحة على كل خد واد بني سعد كم من المصائب كم من الصابرين فلست أنت وحدك المصاب بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل كم مريض على سريره من أعوام يتقلب ذات اليمين وذات الشمال يئن من ألم يصيح من السقم كم من محبوس مرت به السنوات ما رأى الشمس بعينة وما عرف غير زنزانته كم من رجل و امرأة فقد فلذات أكبادهما في ميعة الشباب وريعان العمر، كم من مكروب،كم من مديون، كم من محبوس ، كم من عرض منهوك، كم من دم مسفوك، كم من عقل منهوب، كم من مال مسلوب آن لك أن تتعزى بهؤلاء وأن تعلم علم اليقين بأن هذه الحياة سجن للمؤمن وإنها دار الأحزان والنكبات وتصبح القصور حافلة بأهلها تمسي خاوية على عروشها بينما الشمل مجتمع والأبدان في عافية والأموال وافره والأولاد كثر ثم ما هي ألا أيام فإذا الفقر والموت والفراق والأمراض (وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال).(146/21)
فعليك أن توطن نفسك كتوطين الجمل المحنك الذي يبرك على الصخرة وعليك أن توازن مصابك بمن حولك وبمن سبقك في مسيرة الدهر ليظهر لك أنك معافى بالنسبة لهؤلاء وأن هو لم يأتك إلا واخزات سهلة فأحمد الله على لطفه وشكره على ما أبقى وأحتسب ما أخذ وتعزى بمن حولك ولك في رسولنا صلى الله عليه وسلم قدوة وضع السلى على رأسه، أدميت قدماه، شج وجهه، حوصر في الشعب، طرد من مكة، كُسرت ثنيته، رمي في عرض زوجته، قتل سبعين من أصاحبه، فقد أبنه، ماتت بناته، ربط الحجر على بطنه، أتهم بشتى التهم وصانه الله عن ذلك وهذا بلاء لابد منه وتمحيص لأعظم منه.
وقد قتل قبل ذلك زكريا وذبح يحيا وهجر موسى ووضع الخليل في النار وسار الأءمه على هذا الطريق فضرج عمر، اغتيل عثمان وطعن علي وجلدت ظهور الأءمه وسجن الأخيار ونكل بالأبرار (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين أمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب)(146/22)
قل للذي بصروف الدهر عيرنا *** هل عاند الدهر ألا من له خطر
أما ترى البحر تعلوا فوقه جيف *** وتستقر بأقصى قعره درر
وفي السماء نجوم لا عداد لها *** وليس يكسف إلا الشمس والقمر
20/ ((حيا على الصلاة)) الصلاة الصلاة
( يا أيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) أذا داهمك الخوف وطوقك الحزن وأخذ الهم بتلابيبك قم حالاً إلى الصلاة تذوب لك روحك وتطمئن نفسك.
أن الصلاة كفيلة بإذن الله باجتياح مستعمرات الأحزان و الغموم ومطاردة فنون الاكتئاب كان صلى الله عليه وسلم إذا أحز به أمر قال( أرحنا بالصلاة يا بلال) فكانت قرة عينه وسعادته وبهجته وقد طالعت سير أقوام أفذاذ كانت أذا ضاقت بهم الضوائق وكشرت في وجههم الخطوب فزعوا إلى صلاة خاشعة فتعود لهم قواهم وإراداتهم وهممهم ، أن صلاة الخوف فرضت لتؤدى في ساعة الرعب يوم تتطاير الجماجم وتسيل النفوس على شفرات السيوف فإذا الثبات والسكينة والرضوان والأنس.
أن على الجيل الذي تعصف به الأمراض النفسية أن يتعرف على المسجد وأن يمرغ جبينه ليرضي ربه أولا ولينقذ نفسه من هذا العذاب الواصب وألا فإن الدمع سوف يحرق جفنه والحزن سوف يحطم أعصابه وليس لديه طاقة تمده بالسكينة والأمن ألا الصلاة ، ومن أعظم النعم لو كنا نعقل هذه الصلوات الخمس كل يوم وليله كفارة لذنوبنا، رفع لدرجاتنا،صلاح لأحوالنا،سكينة لنفوسنا،دواء لأمراضنا،تسكب في ضمائرنا مقادير زاكية من اليقين، تملئ جوانحنا بالرضا أما ؤلائك الذين جانبوا المسجد وتركوا الصلاة فمن نكد إلى نكد ومن حزن إلى حزن ومن شقاء إلى شقاء (فتعس لهم وأضل أعمالهم) .
21/ حسبنا الله ونعم الوكيل
تفويض الأمر إلى الله، التوكل عليه،الثقة بوعوده، الرضاء بصنيعه، وحسن الظن به، انتظار الفرج منه، من أعظم ثمرات الإيمان ومن احل صفات المؤمنين وحينما يطمئن العبد إلى حسن العاقبة ويعتمد على ربه في كل شأنه يجد الرعاية والولاية والكفاية والتأييد(146/23)
والنصرة لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل فجعلها الله عليه بردا وسلاما،ولما قيل لرسولنا صلى الله عليه وسلم أن الناس قد جمعوا لكم قال حسبنا الله ونعم الوكيل (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)
إن الإنسان وحده لا يستطيع أن يصارع الأحداث ولا يقاوم الملمات ولا ينازل الخطوب لأنه خلق ضعيف ،عاجز ولكنه حينما يتوكل على ربه ويثق بمولاه ويفوض الأمر إليه يجد النصرة والتأييد والفتح والإعانة (وعلى الله فتوكلوا إن كنت مؤمنين) فيا من أراد أن ينصح نفسه توكل على القوي الغني ذو القوة المتين لينقذك من الويلات ويخرجك من النكبات ويجعل شعارك ودثارك حسبنا الله ونعم الوكيل.
وإن قل مالك وكثر دينك وجفت مواردك وشح مصادرك فناد حسبنا الله ونعم الوكيل ، وإذا خفت من عدو أو رُعبت من ظالم أو فزعت من خطب فاهتف حسبنا الله ونعم الوكيل (وكفى بربك هاديا ونصيرا)
22) قل سيروا في الأرض
مما يشرح الصدر ويزيح الكرب السفر في الديار وقطع القفار والتقلب في الأمصار والنظر في كتاب الكون المفتوح لتشاهد أٌلام القدرة وهي تكتب على صفحات الوجود آيات الجمال لترى حدائق ذات بهجة ورياض أنيقة وجنات ألفافا.
اخرج من بيتك تأمل ما حولك وما بين يديك وما خلفك اصعد الجبال واهبط الأودية وتسلق الأشجار ، أرعب من الماء النمير ، ضع انفك على أغصان الياسمين حينها ترى روحك حرة طليقه كالطائر الغريد تسبح في فضاء السعادة اخرج من بيتك الغي الغطاء الأسود من عينك ثم سر في فجاج الله الواسعة ذاكره مسبحا .
وكتاب الفضاء اقرأ فيه .... سور ما قرأتها في كتاب
إن الانزواء في الغرفة الضيقة ما الفراغ القاتل طريق ناجح للانتحار، وليست غرفتك هي العالم ولست أنت كل الناس فلم الاستسلام أمام كتائب الأحزان.
ألا فاهتف بسمعك وبصرك وقلبك (انفروا خفافا وثقالا ) تعال لتقرأ القرآن هنا بين(146/24)
الجداول والخمائل والطيور وهي تتلوا خطب الحب، وبين الماء وهو يروي قصة وصوله من التل.
إن الترحال في مسارب الأرض متعه يوصي بها الأطباء لمن ثقلت عليه نفسه وأظلمت عليه غرفته فهيا بنا نسافر لنسعد ونفرح ونفكر ونتدبر ( ويفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) .
23) فصبر جميل
التحلي بالصبر من شيم الأفذاذ الذين يتلقون المكارة برحابه صدر وقوه إرادة وبمناعة أبية وإن لم اصبر أنا وأنت فما نصنع ، هل عندك حل لنا غير الصبر ، هل تعلم لنا زاد غيره كان احد العظماء مسرح تركض فيه المصائب وميدان تسابق فيه النكبات كلما خرج من نكبه دخل في أخرى وكلما نجا من كربه تعرض لثانية وهو متترس بالصبر ومتدرع بالثقة بالله حتى قال :
إن كان عندك يا زمان بقية *** مما يهان بها الكرام فهاتها
فجعل الله له فرجا ومخرجا، هكذا يفعل النبلاء يصارعون الملمات يطرحون النكبات أرضا.
دخلوا على أبي بكر وهو مريض ألا ندعو لك طبيبا قال الطبيب قد رأني قالوا: فماذا قال ؟ قال : يقول (إني فعال لما أريد ).
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي *** والذي قد أصابني من طبيبي.(146/25)
قال ابن المرتعش ذهبت عيني من أربعين سنه ما علمت ابنتي ولا زوجتي و في مقالات لأحد المعاصرين انه عرف جار له مقعد من عشرين سنه يقول : والله ما أن ولا اشتكى وما زال يحمد ربه حتى مات (واصبر وما صبرك إلا بالله ) ، اصبر صبر واثق بالفرج عالم بحسن المصير طالب للآجر راغب في تكفير السيئات اصبر مهما ادلهمت الخطوب وأظلمت أمامك الدروب فإن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب فإن مع العسر يسرى .
وقد قرأت في سير عظماء مرا في هذه الدنيا وذهلت لعظيم صبرهم وقورة احتمالهم كان المصائب تقع على رؤوسهم كأنها قطرات ماء باردة وهم في ثبات الجبال وفي رسوخ الحق ، فما هو إلا وقت قصير فتشرق وجوههم على طلائع فجر الفرج وفرحت الفتح وعصر النصر وأحدهم ما اكتفى بالصبر وحده بل رضي وابتسم واحتسب فكان الثواب والأجر والفرج .(146/26)
وقفة:
لا تحزن .. لأنك بحزنك تريد إيقاف الزمن وحبس الشمس وإعادة عقارب الساعة والمشي إلى الخلف ورد النهر إلى مصبه.
لا تحزن .. لأن الحزن كالريح الهوجاء تفسد الهواء وتبعثر الماء وتغير السماء، وتهلك الحديقة الغناء.
لا تحزن ..لأن المحزون كالنهر الأحمق ينحدر في البحر ويصب في البحر ( كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) وكالنافخ في قرب مثقوبة وكالكاتب بأصبعه على الماء .
لا تحزن .. فإن عمرك الحقيقي سعادتك وراحة بالك، فلا تنفق أيامك في حزن، ولا تبذر لياليك في الهم، ولا توزع ساعاتك على الغم، ولا تسرف في إضاعة حياتك، فإن الله لا يحب المسرفين.
لا تحزن .. فإن أموالك التي في خزائنك وقصورك السامقة وبساتينك الخضراء ما الخزن والأسى واليأس زيادة في أسفك وغمك وهمك .
لا تحزن .. فإن عقاقير الأطباء ودواء الصيادلة ووصفة الحكيم لا تسعدك وقد أسكنت الحزن قلبك وفرشت له عينك ، وبسطت له جوانحك ، وألحفتة جلدك .
لا تحزن .. وأنت تملك الدعاء ، وتجيد الإنطراح على عتبات الربوبية وتحسن المسكنة على أبواب ملك الملوك ومعك الثلث الأخير من الليل ، ولديك ساعة تمريغ الجبين في السجود .
لا تحزن .. فإن الله خلق لك الأرض وما فيها وأنبت لك حدائق ذات بهجة وبساتين فيها من كل زوج بهيج ونخل باسقات ولها طلع نضيد ونجوم لامعات وخمائل وجداول ولكنك تحزن !!
لا تحزن .. فأنت تشرب الماء الزلال وتستنشق الهواء الطلق وتمشي على قدميك معافى وتنام ليلك آمن.
لا تحزن ..فإن المرض يزول والمصاب يحول والذنب يغفر والدين يقضى والمحبوس يفك والغائب يقدم والعاصي يتوب والفقير يغتني.
لا تحزن .. أما ترى السحاب الأسود كيف ينقشع والليل البهيم كيف ينجلي والريح الصر صر كيف تسكن والعاصفة كيف تهدأ إذا فشدائدك إلى رخاء وعيشك إلى هناء ومستقبلك إلى نعماء.
لا تحزن .. لهيب الشمس يطفئه وارف الظل وظمأ الهاجرة يبرده الماء النمير وعظة الجوع يسكنها الخبز(146/27)
الدافئ ومعاناة السهر يعقبها نوم لذيذ و ألام المرض يزيلها هناء العافية فما عليك إلا الصبر قليل و الانتظار لحظة.
لا تحزن .. فقد حار الأطباء وعجز الحكماء وقف العلماء وتساءل الشعراء وبارت الحيل أما م نفاذ القدرة ووقوع القضاء وحتمية المقدور
عسى فرج قريب عسى *** نعلل نفسنا بعسى
فلا تقنط وأن لاقيت هما يقبض النفس *** فأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يأسا
(إن مع العسر يسرى)
يا أحد يا صمد يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم أسألك أن تذهب عنا الهم والغم والحزن والكدر والوصب والنصب اللهم أنا نعوذ بك من الشقاء والشقوة والذلة والفقر سبحانك ربك رب العزة عما يصفون سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله ألا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله وسلم على نبينه وأله وصحبه ومن والاه.....(146/28)
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
كتبه : الشيخ سعود الشريم
ملخص الخطبة
1- دور الوازع الديني في المحافظة عل الأخلاق الفاضلة. 2- الجاهلية وصور من خلوها من الرحمة الإنسانية. 3- بعثة النبي لتمام مكارم الأخلاق. 4- رحمة رسول الله بأمته. 5- الراحمون يرحمهم الرحمن. 6- رحمة النبي بالبهائم. 7- حين تغيب الرحمة تعيش البشرية حياة الذئاب. 8- نماذج من رحمة السلف. 9- صيام يوم عاشوراء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه؛ فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131].
أيها المسلمون، الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مسلمة، لا ينازع فيها إلا مريض لم ينقه، أو مغرض لا يفقه، إن تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، والوازع الديني الزاجر، والمنجي من النهابر[1]، الوازع الديني الذي يملك عنان النفس، ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ[2]، الذي يبرد الفؤاد.
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.(147/1)
ولقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدَّت قلوبهم من صخر صلد، تمثلت هذه الغلظة والقسوة، في أصحاب الأخدود، الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا فحمة أو رمادا، ولقد جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق) [القصة رواها مسلم في صحيحه][3].
قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [الفجر:4-8].
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيرا ولا كبيرا في عافية، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:10-14].
قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ [القصص:8]. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ [القصص:41].(147/2)
لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارسات شاذة، ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبث، يصنعها يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء، بل هي أشد قسوة منها ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلة ومردة من قديم الزمان وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72]. وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة، فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ[المائدة:13].
عباد الله، إن الله ـ جل وعلا ـ حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين هو من قال فيه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ [التوبة:128].
وقال : ((إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق)) [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه][4].
لقد تجلت رحمة المصطفى ، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، لا يحول دونها ريبة أو قتر، في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم أرسله إلى البشرية رحمن رحيم، وأنشز لحمه وَبَلَّ عروقَه إملاجُ حليمة السعدية له، فكان له من اسمها الحلم والسعادة.(147/3)
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله تلا قول الله: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى ـ عليه السلام ـ: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع رسول الله يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله ـ عز وجل ـ: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فسأله، فأخبره بما قال ـ وهو أعلم ـ فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) [5]. الله أكبر! ما أعظم المصطفى !، وما أرحمه بأبي هو وأمي!.
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي، ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [رواه البخاري][6].
إن رحمة المصطفى لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي][7].
وقال : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه مسلم][8]. وقال في التحذير من عدم الاشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم، والنغرة عليهم: ((اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به)) [رواه مسلم][9].(147/4)
لقد تجلت رحمة المصطفى بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات، فلقد دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبُه[10])) [رواه أبو داود][11].
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم ـ عباد الله ـ من قصة هذا الجمل؟ أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟ ناهيكم عن إيذاء البشر والاستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟ أين أنت يا سائق الإبل؟ أين أنت يا راعي الأسرة؟ أين أنت يا راعي المدرسة؟ وأنت يا راعي الوظيفة؟ اتقوا الله جميعا فيمن استرعاكم، ولئن كان المصطفى قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه، أو البشر بطلب النصرة منه، فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، بتجلى خلق الرحمة في ذات المصطفى عالج محو الجاهلية، وقطع ظلالها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع، على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، واستنشاق النفنف[12] من محاسن الشريعة. وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله، أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب، رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالا وماتوا جهالا، وذلك هو الشقاء، وهو سببه وعلته.(147/5)
عباد الله، في طوايا الظلام، تدرس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، بلهَ ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا ما انملص منه، ولقد بدت نواعير الحياة عند البعض: (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك) بل لقد صور العالم لدى البعض، أنه دنيا فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان.
لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم، وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ما منها بد، وهي شاغلة النفوس.
ما أشده مضضا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة، فلا تجد إلا قلبا وصدرا وحرا، ولسانا ولقا ينصنص، إلا من عصم ربي، وقليل ما هم.
لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويرا على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها. ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم، بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرمانا إلا المذق، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألما، وإلا الجد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقرا.
إن من النجاة الفكر في البلاء، والتنطس في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله، فيكون علاجا يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.
إن النفس ينبغي أن تَعْنَتَ بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد المهاه فيما هو الإحسان، تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصب جديد.(147/6)
ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه، أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميس، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة.
إن الناس أحرار، متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم][13].
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم، في مقابل استبعاد تلك المعاني الحيوية، التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج بالحياة بعضها في بعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد، في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية، هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه، أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استنض زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري.
فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم، فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة، لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح، لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس، لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء[14] والقسوة والجشع.(147/7)
والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.
ولقد بلغت الرحمة مجلاة أوج صورها، في الخليفة الفاروق ، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسا على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب، فلما ولي الخلافة، خطب الناس مطمئنا لهم قائلا:
(اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)، فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن المرء المسلم، مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولا في أهله، وثانيا في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عونا لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته.(147/8)
واعملوا بمثل قول المصطفى : ((إن من إجلال الله ـ تعالى ـ، إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) [رواه أبو داود][15]. وحذارِ من الوقوع فيما حذر منه المصطفى بقوله: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) [رواه أبو داود][16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
---
[1] النَّهابِر : المهالك ، وجهنم - أعاذنا الله – تعالى – منها . (القاموس ، مادة نهبر).
[2] النُّقاخ: الماء البارد العذب الصافي والخالص ، (القاموس ، مادة نقخ).
[3] صحيح مسلم ح (3005).
[4] صحيح ، مسند أحمد (2/381) ، الأدب المفرد ح (273) ، مستدرك الحاكم (2/613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولفظه عندهم كلهم : ((....صالح الأخلاق)).
[5] صحيح مسلم ح (202).
[6] صحيح البخاري ح (1284) ، كما أخرجه مسلم ح (923).
[7] صحيح ، سنن أبي داود ح (4941) ، سنن الترمذي ح (1924) وقال : حسن صحيح.
[8] صحيح مسلم ح (2319).
[9] المصدر السابق ح (1828).
[10] تُدئبُه: يعني تُكدّه وتُتعبه . معالم السنن للخطابي (3/387).
[11] صحيح ، سنن أبي داود ح (2549).
[12] النفنف: الهواء.
[13] صحيح مسلم ح (2586) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (6011).
[14] المطيطاء: التبختر.
[15] حسن ، سنن أبي داود ح (4843).
[16] صحيح ، سنن أبي داود ح (4943) ولفظه : ((من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأتباعه وإخوانه.
أما بعد:(147/9)
فيا أيها الناس، لقد تجلت رحمة الله ـ تعالى ـ بالبشرية في شهر الله المحرم، بأن نجى الله كليمه موسى من كيد فرعون وجنوده، فنبذه الله في اليم وهو مليم، وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، شرع المصطفى صيامه. وقد صامه موسى ـ عليه السلام ـ؛ شكرا لله ـ عز وجل ـ، وصامه نبينا وأمر بصيامه.
ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه وقال عنه : ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [رواه مسلم][1].
وتأصيلا لقاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعا لمادة التشبه بهم من كل طريق، عزم المصطفى في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا مخالفة لأهل الكتاب فقال: ((فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع))، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله . ر[رواه مسلم][2].
فيستحب لكم أيها المسلمون صيام هذا اليوم، اقتداء بالنبي ، وكل خير في اتباع ما جاء به، وكل شر في ابتداع ما لم يأت به.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
---
[1] صحيح مسلم ح (1130).
[2] المصدر السابق (1134).(147/10)
ماذا تفعل في الحالات التالية
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد فإن المسلم يتعرض في حياته لعدد من الحالات الطارئة ، التي يحتاج فيها لوجود جواب فوري يعمل بمقتضاه عند حصول الحالة المعينة ، وكثيراً ما يصعب أو يتعذر وقتها البحث عن الحكم الشرعي أو السؤال عنه .
وهذا يؤكد أهمية التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشريعة حتى إذا ما احتاج المسلم للحكم وجده عنده فأنقذ نفسه أو غيره من إخوانه المسلمين من الوقوع في المحرمات أو الأخطاء، وكثيراً ما يؤدي الجهل إلى فساد العبادة أو الوقوع في الحرج ، ومن المؤسف أن يقوم إمام إلى الخامسة سهواً في صلاته بالجماعة فلا تجد في المسجد واحداً يعرف الحكم الشرعي في هذه المسألة ، أو يأتي مسافر وقت إقلاع الطائرة وهو ينوي العمرة ويكتشف فجأة أنه قد نسي لباس الإحرام ، وليس هناك وقت لتوفيره ثم لا يوجد في المطار من المسلمين من يخبره بماذا يفعل في هذه الحالة الطارئة ، ويدخل شخص المسجد وقد جمعوا للمطر وهم في صلاة العشاء وهو لم يصل المغرب فيقع في حيرة من أمره ، وقل مثل ذلك من الحالات التي يختلف المصلون فيها ويتناقشون بجهلهم ، فيقع الاضطراب والتشويش في مساجد المسلمين وجماعتهم ، وفي كثير من الأمور الشخصية والفردية ، فإن الجهل يوقع في الحرج وربما الإثم وخصوصاً إذا كان المرء في موقف يجب عليه فيه أن يتخذ قراراً وليس عنده علم يبني عليه قراراه .
وإذا كان أهل الدنيا يضعون الإجابات المسبقة للتصرف السليم في الحالات الطارئة ؛ كحصول الحريق ، وانتشال الغريق ، ولدغة العقرب ، وحوادث الاصطدام ، والنزيف والكسور ، وسائر إجراءاتهم في الإسعافات الأولية وغيرها ، يعلمون ذلك للناس ويقيمون الدورات لأجل ذلك ، فأهل الآخرة أولى أن يتعلموا ويعلموا أحكام هذا الدين .(148/1)
ومما ينبغي الانتباه له هنا التفريق بين المسائل الافتراضية التي لا تقع أو نادرة الوقوع وبين المسائل الواقعة فعلاً ، التي علم من التجربة وحال الناس أنها تحدث ويقع السؤال عنها .
فأما القسم الأول : فالبحث فيه من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً وقد حذرنا من هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم …) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم برقم 1337 ج : 2 ص : 975 .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث : ( فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه .. وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ) جامع العلوم والحكم ابن رجب 1/240 ت : الأرناؤوط .
وعلى هذا المعنى يحمل كلام جماعة من السلف كما جاء عن زيد بن ثابت ، رضي الله عنه ، أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول كان هذا ؟ فإن قالوا لا قال : دعوه حتى يكون . أورده ابن رجب المرجع السابق 1/245 وانظر آثاراً مشابهة في سنن الدارمي 1/49 ، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/174 .
أما القسم الثاني : وهي المسائل التي تقع فالسؤال عنها محمود ( وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له: إنّا لاقو العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها ) جامع العلوم والحكم 1/243 فهذا يدل على جواز السؤال عما هو متوقع حصوله .(148/2)
وهذا عرض لبعض المسائل الشرعية التي يتعرض لها الناس في حياتهم ، وهي من المسائل الواقعية التي حصلت وتحصل لبعض الناس مع كل مسألة جوابها مقروناً بذكر المصدر من أهل العلم الثقات ، وقد يكون في المسألة أقوال لكن جرى الاقتصار في الغالب على قول واحد معتبر بدليله مع الإيجاز طلباً للتسهيل والاختصار خشية التطويل والله أسأل أن ينفعني بهذا وإخواني المسلمين في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد وأن يجزي بالخير من ساهم في هذا إنه جواد كريم والله أعلم وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أولاً : الطهارة
إذا وجد في أصابعه طلاء أثناء الوضوء فهل الاشتغال بحكه وإزالته يقطع الموالاة ويلزمه إعادة الوضوء ؟ .
الجواب : لا تنقطع الموالاة بذلك - على الراجح - ولو جفت أعضاؤه لأنه تأخر بعمل يتعلق بطهارته ، وكذلك لو انتقل من صنبور إلى صنبور لتحصيل الماء ونحو ذلك .
أما إذا فاتت الموالاة بأمر لا يتعلق بوضوئه ، كإزالة نجاسة من ثوب ، أو أكل أو شرب ونحوه ، ونشفت الأعضاء فحينئذ ينبغي عليه أن يعيد الوضوء . فتاوى ابن عثيمين 4/145-146 .
إذا كان الإنسان مجروحاً في أحد أعضاء الوضوء ولا يستطيع وضع لاصق فليتوضأ ثم يتيمم للعضو المجروح المغني مع الشرح الكبير 1/282 ، ولا يجب عليه غسل مكان الجرح مادام يتضرر بالماء .(148/3)
إذا رأى في ثوبه أثر جنابة وقد صلّى عدة صلوات ولم يكن يدري فإن عليه أن يغتسل ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها في هذا الثوب إلا إذا عرف أن الجنابة من نومة قبلها فيعيد الصلاة من آخر نومة يظن أن الجنابة حصلت فيها ، المغني مع الشرح الكبير 1/199 . والأدلة على وجوب الاغتسال من الجنابة لأجل الصلاة كثيرة منها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) سورة النساء /43 . وحديث علي رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو ذكر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا فضحت الماء فاغتسل ) فضخت أي صببت والمقصود خروج المني ، رواه أبو داود رقم 206 وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم 125 . فدل ذلك على أن المني يجب منه الغسل والمذي يكفي فيه غسل الفرج والوضوء .
إذا كان مسافراً بالطائرة في رحلة من الرحلات الطويلة فأصابته جنابة ، ولا يستطيع الاغتسال ، وليس في الطائرة شيء يجوز التيمم عليه ، ولو انتظر حتى يصل إلى البلد الآخر لخرج وقت الصلاة التي لا تجمع كالفجر أو وقت جمع الصلاتين كالظهر والعصر، لأنه قد يسافر قبل الفجر ولا يصل إلا بعد طلوع الشمس أو يسافر قبل الظهر فلا يصل إلا بعد المغرب فماذا يفعل ؟ .(148/4)
الجواب : إذا سلمنا انه لا يستطيع الاغتسال في الطائرة فإن هذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة فاقد الطهورين ، وقد تباينت أقوالهم فيه ورأي الإمام أحمد وجمهور المحدثين أنه يصلي على حاله وهذه قدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والدليل الخاص في هذه المسألة ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء ( لعدم وجود الماء ) فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم صحيح مسلم 367 . ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولا أمرهم بإعادة ، فدل على أنها واجبة ولأن الطهارة شرط فلم تؤخر الصلاة عند عدمها . المغني مع الشرح الكبير 1/251 . ومثل هذه الحالة قد تقع لبعض المرضى الذين لا يستطيعون تحريك أعضائهم مطلقاً أو السجناء في بعض الأوضاع كالمقيد والمعلّق .
والمقصود أن يؤدي الصلاة ولا يخرجها عن وقتها بحسب حاله ولا إعادة عليه على الصحيح وما جعل الله علينا في الدين من حرج .
إذا أسقطت المرأة ونزل عليها الدم فهل تصلي أم لا ؟ .
هذه المسألة مبنية على نوع الدم هل هو نفاس أو استحاضة وقد ذكر العلماء الضابط في ذلك فقالوا : " إذا رأت الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان فهو نفاس .. وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس " المغني مع الشرح الكبير 1/361 .(148/5)
وفي هذه الحالة تكون مستحاضة تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصلي ، أما إذا كان الذي سقط جنيناً متخلقاً أو فيه آثار لتخطيط أحد الأعضاء كيد أو رجل أو رأس فإنه نفاس، وإن قالت إنهم أخذوه في المستشفى فرموه ولم أره فقد ذكر أهل العلم أن أقل زمن يتبين فيه التخطيط واحد وثمانون يوماً من الحمل . مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 4/292 . بناء على ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - فقال : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكاً يؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد .. ) هذا السياق في البخاري فتح 6/303 .
فمثل هذه تجتهد وتستعين بتقديرات الأطباء حتى يتبين لها حالها .
وأما الدم النازل قبيل الولادة إن كان مصحوباً بآلام الطلق فهو نفاس وإلا فلا . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس " . مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/327 .
ثانياً : الصلاة
إذا تعرض المصلي لوسوسة الشيطان في صلاته يلبس عليه القراءة ويأتي له بالخواطر السيئة ويشككه في عدد الركعات فماذا يفعل ؟ .
لقد حصل هذا لأحد الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه ، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ ؟ { أي يخلطها ويشككني فيها } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً ) ، قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني . صحيح مسلم رقم 2203 .(148/6)
فتضمن هذا الحديث أمرين لدفع شيطان الصلاة ، الأول : الاستعاذة بالله من شره فيتلفظ بها المصلي ولا حرج ، والثاني : التفل عن الشمال ثلاثاً وهو نفخ الهواء مع شيء من الريق بشرط أن لا يؤذي من بجانبه ولا يقذر المسجد .
إذا نابه شيء في صلاته ، فإذا كان رجلاً فليسبح ، وإن كان امرأة فلتصفق ، والدليل على ذلك ما جاء عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبح الرجال وليصفح النساء ) رواه أبو داود ، ولفظ الصحيحين : ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) . التصفيح هو التصفيق ، سنن أبي داود 941 ، وفي صحيح البخاري ط.البغا 1145 ، وفي صحيح مسلم 106 .
إذا أقيمت الصلاة وحضرت حاجة الإنسان ، فليذهب إلى الخلاء ، ويقضي حاجته ولو فاتت الجماعة .
الدليل : عن عبد الله بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء ) رواه أبو داود رقم 88 وهو في صحيح الجامع 373 .
إذا شك المصلي هل احدث أم لا ؟ أو أحس بحركة في بطنه فهل ينصرف أم يواصل ؟ .
إذا تيقن من الحدث يخرج من الصلاة ، أما إذا شك ولم يتيقن فلا يخرج إلا بيقين ، وهو سماع الصوت أو وجود الريح ، فإن وجد ذلك فلينصرف ، وإلا فلا يلتفت .
والدليل : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أم لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) رواه أبو داود 177 وهو في صحيح الجامع 750 .
وهذا من التشريعات الإسلامية العظيمة في علاج الوسوسة .
إذا كان يصلي الوتر وأثناء صلاته أذن المؤذن لصلاة الفجر فهل يكمل وتره ؟ .(148/7)
نعم إذا أذن وهو أثناء الوتر فإنه يتم الصلاة ولا حرج عليه . ابن عثيمين فتاوى إسلامية 1/346 والمسالة داخلة في قضية وقت الوتر هل هو إلى طلوع الفجر أم إلى انتهاء صلاة الصبح وقول الجمهور إلى طلوع الفجر . إسعاف أهل العصر بما ورد في أحكام صلاة الوتر فيحان المطيري ص : 33 .
إذا فاتته صلاة العصر مثلاً فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت فماذا يفعل ؟ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة ، لكن هل يعيد المغرب فيه قولان :
أحدهما : يعيد وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه .
الثاني : لا يعيد وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر من مذهب أحمد .
والثاني أصح فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع . والله أعلم . مجموع فتاوى ابن تيمة 22/106 .
إذا أتى مسافر على جماعة يصلون لكنه لا يدري هل الإمام مسافر فيدخل معه بنية القصر أم مقيم فيتم وراءه ، فالأظهر أنه يعمل بما ترجح لديه من القرائن كرؤية حلية المسافر وآثار السفر على الإمام ، فإن رجح أنه مقيم ، فيتم .
الدليل : ما رواه الإمام أحمد بسند عن ابن عباس أنه سئل : " ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم ؟ فقال : تلك السنة " وفي رواية أخرى " تلك سنة أبي القاسم " الحديث سكت عنه الحافظ في التلخيص 2/50 ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند 3/260 . وإن رجح أنه مسافر فصلى معه بنية القصر ركعتين ، وبعدما سلم مع الإمام تبين له أن الإمام مقيم وأن الركعتين اللتين صلاهما هما الثالثة والرابعة للإمام ، فيقوم ويأتي بركعتين ليتم بهما الصلاة ، ويسجد للسهو . المجموع للنووي 4/356 . ولا يضره ما حصل من الكلام والسؤال لمصلحة صلاته .(148/8)
إذا عجز المصلي عن القيام فجأة أثناء الصلاة أو كان عاجزاً عن القيام فصلى قاعداً ثم استطاع القيام أثناء الصلاة فماذا يفعل ؟ .
قال ابن قدامة رحمه الله : " متى قدر المريض أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته ، وهكذا لو كان قادراً فعجز في أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحاً فيبني عليه كما لو لم يتغير حاله " . المغني مع الشرح الكبير 1/782 وكذلك المجموع للنووي 4/318 . والدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فقال : ( صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ) رواه البخاري فتح 2/587 .
إذا طرق على المصلي الباب أثناء الصلاة وهو يصلي أو رأت الأم ولدها يعبث بمصدر الكهرباء ونحو ذلك مما يطرأ فما العمل ؟ .
الجواب : إذا احتاج المصلي لعمل يسير أثناء الصلاة مثل فتح باب ونحوه ، فلا بأس بشرط أن لا يغير اتجاهه عن القبلة .
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه - وذكر أن الباب كان في القبلة . سنن ابي داود رقم 922 وصحيح سنن أبي داود 815 .(148/9)
وكذلك لو احتاجت الأم وهي تصلي أن تبعد ولدها عن خطر أو إيذاء ونحو ذلك فالحركة اليسيرة يميناً أو شمالاً ، أماماً أو وراءً لا تضر بالصلاة وكذلك لو سقط الرداء فللمصلي أن يرفعه وإذا انحل الإزار فله أن يشده ، وقد أباحت الشريعة للمصلي في بعض الحالات الحركة الكثيرة ولو كان يتغير اتجاهه عن القبلة كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب ) سنن ابي داود رقم 921 وفي صحيح سنن أبي داود 814 .
إذا ألقي السلام على المصلي في صلاته ، فإنه يرد السلام بالإشارة كما جاء عن صهيب رضي الله عنه قال : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد إشارة . سنن أبي داود 925 وصحيح سنن ابي داود 818 . وقد وردت صفة الإشارة في أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه ، قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي قال فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ، قال : يقول هكذا وبسط كفه ، وبسط جعفر بن عون ( أحد الرواة ) كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق . سنن ابي داود 927 وصحيح سنن أبي داود 820 .(148/10)
إذا دخل الرجل المسجد والإمام يصلي فهل يدخل مع الإمام مباشرة أو ينتظر حتى يرى الإمام هل سيقوم أو سيجلس ؟ الصحيح الذي يدل عله الدليل أنه يدخل مع الإمام في أي حال يكون فيه الإمام ساجداً أو قائماً أو راكعاً أو قاعداً ، والدليل هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ) سنن أبي داود 893 وصحيح سنن أبي داود 792 . وعن معاذ قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام ) سنن الترمذي 591 وهو في صحيح سنن الترمذي 484 . ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( فما أدركتم فصلوا ) .
إذا أقيمت الصلاة والإنسان في طريقه إلى المسجد فلا يسرع في مشيته ، بل يمشي بسكينة ووقار لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) رواه البخاري فتح 2/390 .
إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج ؟ .
الجواب : عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج .
والدليل : عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف ) سنن أبي داود 1114 وهو في صحيح سنن أبي داود 985 . قال الطيبي : أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف وليس هذا من الكذب بل من المعاريض بالفعل ورخص له في ذلك لئلا يسول له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس أ.هـ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/18 .(148/11)
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه ، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه ، وكذلك من فوائد هذا التوجيه النبوي قطع وساوس الشيطان بأن يبقى في الصف مع الحدث أو يواصل مع الجماعة وهو محدث وهذا لا يرضي الله ، وكيف يبقى وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالانصراف ، هذا ويجوز له اختراق الصفوف أو أن يمشي إلى الجدار ثم يخرج فيتوضأ ويعود للصلاة .
وإذا صلّى إنسان في مسجد ثم أتى مسجداً آخر لدرس أو حاجة فوجدهم يصلون فإنه يدخل معهم في الصلاة ويحتسبها نافلة حتى لو كان في وقت من أوقات النهي لأنها صلاة ذات سبب ، والدليل ما رواه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه في باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة من حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه ، قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف ، فلما قضى صلاته انحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه ، فقال : عليَّ بهما ، فجيء بهما ترعد فرائصهما { أي يرجفان ويضطربان خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم والفريصة : هي اللحمة التي بين الجنب والكتف تهتز عند الفزع } فقال : ( ما منعكما أن تصليا معنا ) ، فقالا : يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا ، قال : ( فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) رواه الترمذي رقم 219 وهو في صحيح الجامع 667 .(148/12)
وفي الحديث انهما أتيا بعد صلاة الفجر وهو وقت النهي . وأخرج مالك في الموطأ في باب ما جاء في إعادة الصلاة مع الإمام بعد صلاة الرجل لنفسه عن محجن رضي الله عنه أنه كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع ومحجن في مجلسه لم يصل معهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم ؟ ) قال : بلى يا رسول الله ! ولكني قد كنت صليت في أهلي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ) موطأ مالك 1/130 ، وهو في السلسلة الصحيحة رقم 1337 .
إذا دخل الرجل المسجد فصلى السنة فأقيمت الصلاة فأحسن ما يقال في ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة والرجل في الركعة الثانية فإنه يتمها خفيفة وإذا كان في الركعة الأولى فيقطعها ويدخل مع الإمام . فتاوى ابن عثيمين 1/345 . والأصل في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) مسلم 1/394 . فإذا أنهى ركوع الركعة الثانية فيتمها وإن كان قبل ذلك يقطع الصلاة لأن ما بقي من السجود والتشهد لا يسمى صلاة ، وقطع الصلاة يكون بغير سلام بل بمجرد النية خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس .
إذا كان جماعة يصلون وأثناء الصلاة تبين لهم أن القبلة إلى جهة أخرى فعند ذلك يتحولون جميعاً إلى جهة القبلة ، وكذلك المنفرد وما مضى من صلاتهم صحيح ، ودليل ذلك : ما رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ) سورة البقرة ، الآية 144 . فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى : ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة. رواه مسلم رقم 527 .(148/13)
أما إن تبين لبعضهم ولم يتبين للآخرين فإن الذي تبين له يستدير إلى الجهة التي يعتقدها جهة القبلة ، فإن كان المختلفون في جهة واحدة فمال بعضهم يميناً وبعضهم شمالاً فيصح اقتداء بعضهم ببعض وإن اختلفت الجهة بالكلية فقد اختلف العلماء في صحة اقتداء بعضهم ببعض ، وإن كان فيهم من لم يتبين له شيء فإنه يختار أوثقهم معرفة جهة القبلة ويقلده . المغني مع الشرح الكبير 1/473 . ومن خفيت عليه جهة القبلة فيلزمه السؤال إن استطاع وإلا اجتهد إن كان يستطيع الاجتهاد ، فإن لم يستطع فإنه يقلد غيره ممن يصح تقليده ، فإن لم يجد فليتق الله ما استطاع وليصل وصلاته صحيحة ، وهذا يحدث كثيراً لمن يُبتلى بالسفر إلى بلاد الكفار وليس حوله أحد من المسلمين ولا عنده أحد يخبره ولا وسيلة تمكنه من معرفة اتجاه القبلة . فأما إن كان بإمكانه أن يعرف جهة القبلة ، ولكنه أهمل ولم يبذل ما يستطيعه وصلى ، فعليه الإعادة لأنه مفرط . المغني مع الشرح الكبير 1/490 .(148/14)
إذا كان يصلي في جماعة فانقطع مكبر الصوت أو نعس وهو يصلي وسبقه الإمام بركن أو أكثر ثم تنبه أو رجع الصوت فالعمل أن يأتي بما فاته من الأركان ثم يلحق بالإمام وهذه المسالة لها عدة صور منها : أن يقرأ الإمام آية فيها لفظة سجود ويتوهم بعض المأمومين أنها سجدة وليست كذلك فيكبر الإمام للركوع بعد انتهاء الآية ويركع ويظن بعض المأمومين خصوصاً ممن هم في أطراف الصفوف أنه كبر لسجدة التلاوة فيسجدون ثم يقول الإمام سمع الله لمن حمده فيقوم هؤلاء من السجود فاتهم مع الإمام الركوع والرفع منه فعلى هؤلاء أن يأتوا بما فاتهم ويلحقوا بالإمام لأنهم ليسوا بمتعمدين ، فأما من تعمد التخلف عن الإمام كمن يطيل في السجود بحجة الدعاء حتى يفوت الركن الذي بعد السجود ، فقول الجمهور فيمن فاته ركنان متواليان بغير عذر : إن صلاته باطلة ويأثم . كشاف القناع 1/467 والموسوعة الفقهية 6/29 . والأصل في وجوب متابعة الإمام قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإن ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) صحيح البخاري رقم 689 .
إذا أحدث الإمام وهو يصلي بالناس أو تذكر أثناء الصلاة أنه ليس على طهارة فإنه يخرج من الصلاة وله أن يستخلف من يتم بالناس الصلاة كما ورد عن عمر وعلي وعلقمة وعطاء . وإن لم يستخلف وصلوا فرادى جاز ذلك وهو اختيار الشافعي أي صلاتهم فرادى . وإن قدموا رجلاً منهم ليتم بهم الصلاة جاز ذلك .(148/15)
والدليل ما ورد عن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة . رواه البخاري فتح 7/60 . ووجه الاستدلال أن عمر فعل ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكر منكر فكان إجماعاً . أحكام الإمامة . المنيف ص : 234 . وإن تذكر أنه ليس على طهارة فأشار إليهم أن يبقوا كما هم فذهب فتطهر ثم عاد فكبر وصلى بهم صح ذلك ، والدليل ما رواه أبو داود عن أبي بكرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم ) سنن أبي داود رقم 233 ، وهو في صحيح سنن أبي داود 1/45 . وعنون عليه أبو داود باب : في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ، وقال الخطابي في شرح الحديث : في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلّى بالقوم وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته أن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم وعلى الإمام الإعادة . سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي ت : الدعاس 1/159 .
إذا كان في صلاة الجماعة وراء الإمام فرأى عورة الإمام غير مستورة لشق في ثوبه أو كان الثوب رقيقاً شفافاً فإن أمكنه أن يتقدم فيسترها أو يغطيها بشيء فليفعل وإلا فعليه أن ينصرف من صلاته ويخرج فينبه الإمام كأن يقول له غط العورة أو احفظ ما تكشف منها ولا يجوز له السكوت ومواصلة الصلاة لأنه علم أن صلاة الإمام غير صحيحة وائتمامه به غير صحيح . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .
إذا كان يصلي ( إماماً أو مأموماً أو منفرداً ) فتذكر أثناء الصلاة أنه مسح على الخفين بعد انتهاء مدة المسح فعليه أن يخرج من الصلاة لأن طهارته غير صحيحة وقد نص عليه الإمامان أحمد والشافعي . المغني 2/505 .(148/16)
إذا قرأ الإمام في الصلاة ما تيسر من القرآن ثم نسي تكملة الآية ولم يفتح عليه أحد من المصلين فهو مخير إن شاء كبر وأنهى القراءة وإن شاء قرأ آية أو آيات من سور أخرى إذا كان ذلك في غير الفاتحة أما الفاتحة فلا بد من قراءتها جميعها لأن قراءتها ركن من أركان الصلاة . ابن باز فتاوى إسلامية 396 .
إذا خرج الناس إلى صلاة الاستسقاء أو أرادوا الخروج فنزل المطر فهذه المسألة على حالتين :
إن تأهبوا للخروج فسقوا قبل أن يخرجوا شكروا الله تعالى على نعمه ولم يخرجوا .
وإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلوا شكراً لله تعالى . المغني مع الشرح الكبير 2/296 .
إذا نعس الإنسان وهو يستمع إلى خطبة الجمعة فيستحب له أن يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه ولا يتكلم بل يشير إليه إشارة . والدليل : حديث سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مقعد صاحبه ويتحول صاحبه إلى مقعده ) . رواه البيهقي 3/238 وهو في صحيح الجامع 812 . وكذلك حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره ) رواه أبو داود 1119 وهو في صحيح الجامع 809 .
ثالثاً : أحكام السهو
إذا شك الإنسان في صلاته هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً فالعمل على ما ترجح لديه فإن لم يترجح لديه شيء فليبن على اليقين وهو الأقل ثم يسجد للسهو . والدليل : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ؟ ثلاثاً أو أربعاً ؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان . صحيح مسلم رقم 571 .(148/17)
إذا تذكر الإمام في التشهد الأخير أنه قد قرأ التحيات في القيام في الركعة السرية بدلاً من الفاتحة فإنه يقوم ليأتي بركعة صحيحة بدلاً من الركعة غير الصحيحة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) رواه البخاري رقم 723 . وينبغي على المأمومين أن يتابعوه ولو كانت الخامسة لهم فإن لم يتفطنوا ولم يقوموا وجعلوا يسبحون أشار إليهم بيديه يميناً وشمالاً أن قوموا ليعلمهم أنه جازم في قيامه غير ناس ولا ساه .
وإذا وقع مثل ذلك للمأموم خلف إمامه فصلاته صحيحة ما دام خلف إمامه . والدليل : حديث أبي بكرة لما دخل راكعاً ولم يقرأ الفاتحة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) رواه البخاري رقم 750 . فالمأموم إذا نسي قراءة الفاتحة أو جهل وجوبها عليه أو أدرك الإمام راكعاً فإنه في هذه الأحوال تجزئه الركعة وتصح صلاته ولا يلزمه قضاء الركعة لكونه معذوراً بالجهل والنسيان وعدم إدراك القيام وهو قول أكثر أهل العلم . ابن باز فتاوى إسلامية 1/263 . وهذا مما يتحمله الإمام عن المأموم كما قال الناظم :
ويحمل الإمام عن مأموم ***** ثمانية تعد في المنظوم
فاتحة كذا سجود السهو ******* وسترة مع القنوت المروي
وسمع الله مع السجود في ****** تلاوة الإمام سراً فاكتفي
وهكذا تلاوة المأموم ******* خلف الإمام فافهمن منظومي
تشهد أول عمن سبق ******* بركعة من أربع فكن محق(148/18)
إذا ركع ثم رفع رأسه فتذكر أنه لم يقل سبحان ربي العظيم في ركوعه فإنه لا يعود إلى الركوع لأن التسبيح قد سقط برفعه من الركوع فلو عاد إلى الركوع عمداً أبطل صلاته لأنه يكون قد زاد ركنا وهو هذا الركوع الثاني وإن عاد جاهلاً أو ناسياً لم تبطل الصلاة وعليه في مثل ذلك أن يسجد للسهو إن كان منفرداً أو إماماً لأن التسبيح واجب يجبره بسجود السهو ، أما إن كان مأموماً فيسقط عنه الواجب بسهوه عنه . المغني مع الشرح الكبير 1/679 .
إذا نسي التشهد الأول وقام للثالثة وابتدأ الفاتحة فقول أكثر أهل العلم أنه لا يرجع وإن رجع عالماً أن نزوله لا يجوز تبطل صلاته لشروعه في ركن آخر وأما الواجب الذي فاته فإنه يجبره بسجود السهو ، والدليل ما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو ) رواه أبو داود رقم 1036 وهو في السلسلة الصحيحة 321 .
فالخلاصة : أن من قام إلى الثالثة ناسياً التشهد فله ثلاث حالات :
أن يذكره قبل اعتداله قائماً فيلزمه الرجوع إلى التشهد .
أن يذكره بعد اعتداله قائماً وقبل شروعه في قراءة الفاتحة فالأولى له أن لا يجلس وإن جلس فصلاته صحيحة .
أن يذكره بعد الشروع في الفاتحة فلا يجوز له الرجوع . المغني مع الشرح الكبير 1/677 . وهذه الحالات مستنبطة من الحديث السابق .
إذا سلم الإمام فقام المأموم ليتم ما فاته فإذا بالإمام يسجد للسهو بعد السلام فإن كان المأموم لم ينتصب قائماً فإنه يرجع ويسجد للسهو مع إمامه وإن انتصب قائماً فإنه لا يرجع فإذا أتم صلاته سجد للسهو الذي فاته . ودليل هذه المسألة هو دليل المسألة السابقة . المغني مع الشرح الكبير 1/697 .(148/19)
إذا سها الإمام في الصلاة وترك ركناً وجعل المأمومون يسبحون وهو لا يفهم مقصودهم ولا يدري أين الخطأ وينتقل إلى أركان ليس بينها الركن المتروك فلأهل العلم عدة أقوال في إفهامه ، من أمثلها أن يجهروا بالذكر الخاص بالركن المفقود فإن كان ركوعاً قالوا : سبحان ربي العظيم ، وإن كان سجوداً قالوا : سبحان ربي الأعلى ، وإن كان الجلسة بين السجدتين قالوا : رب اغفر لي وهكذا . المغني مع الشرح الكبير 1/707 .
أحكام متفرقة
إذا نسي ملابس الإحرام وأقلعت به الطائرة فإن استطاع أن يتدبر أمره بإزار ورداء من أي لون أو صنف من الشراشف أو المناشف ونحوها فعل ذلك وإن لم يجد أزال من المخيط وغطاء الرأس وأحرم في ثيابه إذا حاذى الميقات من الجو ولا يجاوز الميقات بغير إحرام فإذا وصل إلى مكان يستطيع فيه استبدال ملابسه بإزار ورداء فعل ذلك وعليه فدية ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين وهو مخير في فعل أي واحدة منها وإحرامه صحيح . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .
إذا كان الرجل في الطواف أو السعي فعرضت له حاجة كأن عطش وأراد أن يشرب أو فقد أحد من أهله فتوقف للبحث عنه أو تعب واحتاج أن يستريح فإن كان التوقف يسيراً عرفاً فإنه يتابع الطواف ويبني على ما سبق . أما إذا أقيمت الصلاة فقطع الطواف وصلّى فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة والأحوط عند إكماله الأشواط الباقية أن لا يعتد بالشوط الأخير الذي لم يكمله وقطعه لأداء الصلاة . ابن باز فتاوى الحج والعمرة ص : 80 ، والمجموع للنووي 8/49 .
أما مسألة الاستراحة في الطواف والسعي فهي مبنية على مسألة اشتراط الموالاة في الطواف والسعي .
فأما السعي فلا تشترط فيه الموالاة على القول الراجح . المغني مع الشرح الكبير 3/414 . فعليه لو سعى الإنسان عدة أشواط ثم توقف ليستريح ثم عاد ليكمل جاز ذلك . وأما الموالاة في الطواف فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين :(148/20)
القول الأول : وجوب الموالاة فيبطل الطواف بالتفريق الكثير بغير عذر .
القول الثاني : أن الموالاة سنة فلا يبطل الطواف وإن طالت المدة . اختاره النووي في المجموع 8/47 . والعمل بالقول الأول أحوط .
إذا توفي رجل في سفينة في البحر فيقول الإمام أحمد : ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعاً ( كجزيرة في البحر أو شاطيء ) يدفنونه به حبسوه يوماً أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد ، فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط وصلى عليه ويُثقل بشيء ويلقى في الماء . المغني مع الشرح الكبير 2/381 .
إذا كان لدى رجل ورقة من فئة الـ 50 ريالاً مثلاً واحتاج إلى صرفها عشرات فذهب إلى آخر ليصرفها فلم يكن لدى صاحبه إلا ثلاث عشرات مثلاً فهل يجوز أن يعطيه الخمسين ويأخذ منه ثلاث العشرات والعشرين الباقية تبقى ديناً له على صاحبه يستوفيها منه بعد ذلك ؟ رغم شيوع مثل هذه الصورة وانتشارها في الواقع إلا أن كثيراً من الناس يتعجبون إذا قيل لهم هذا ربا والعلة أن التفاوت موجود فيما قبضه كل منهما وشرط التبايع والصرف في الأوراق النقدية إذا كانت من جنس واحد أن تكون مثلاً بمثل يداً بيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) رواه البخاري رقم 2068 . { تشفوا من الاشفاف وهو التفضيل والزيادة - الورق : أي الفضة - غائباً : أي مؤجلاً - بناجز : أي بحاضر } والحديث فيه النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة .
فإن قيل فما هو المخرج والبديل والناس دائماً يحتاجون إلى صرف الأوراق النقدية :
فالجواب : إن الحل في ذلك أن يضع الخمسين رهناً عند صاحبه ويأخذ منه الثلاثين ديناً وسلفاً ثم يسدد الدين بعد ذلك ويفك الخمسين المرهونة ويأخذها . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .(148/21)
إذا أمر الرجل في وظيفته بأمر فعليه أن ينظر فإن كان الأمر ليس فيه معصية لله فإنه يفعل ما أمر به ، أما إن كان في الأمر معصية فلا يطع حينئذ وإلا كان مشاركاً في الإثم والوزر ، قال عليه الصلاة والسلام : ( لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) الحديث في البخاري الفتح 13/121 ، وأحمد 1/94 والسياق من السلسلة الصحيحة رقم 181 . وقال الله تعالى : ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) .
سنن وآداب
إذا تجددت للمسلم نعمة أو اندفعت عنه نقمة فيستحب له أن يسجد سجود الشكر . المغني مع الشرح الكبير 1/654 ، فعن أبي بكرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله تعالى ) رواه أبو داود 2774 وهو صحيح : تخريج المشكاة 1494 . ولا تشترط الطهارة واستقبال القبلة ولكن إذا توضأ واستقبل القبلة فهو أفضل . مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/216 .
إذا أتاك مال حلال من شخص أو من جهة دون طلب منك ولا مد يد ولا إذلال ولا تطلع فخذه والدليل : عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) رواه البخاري 1404 .
إذا وضع للمسلم طعام في بيت أخيه المسلم فتحيَّر في أمر اللحم هل هو حلال أم لا ؟ فيجوز له الأكل دون السؤال لأن الأصل في المسلم السلامة . والدليل : قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه فإن سقاه شراباً من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه ) رواه أحمد 2/399 وهو في السلسة الصحيحة 627 . وكذلك فإن في السؤال إيذاء للمسلم وجعله في مجال الشك والريبة .(148/22)
إذا كان يمشي في نعليه وانقطع أحدهما فلا يمش في نعل واحدة والأخرى حافية فإما أن يصلحها ويمشي بهما أو يخلعهما ويحتفي والاحتفاء أحياناً سنة . والدليل : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمشي أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً ) رواه البخاري 5518 ، وأما العلة في ذلك فقد ذكر العلماء أقوالاً أصحها دليلاً ما ذكره ابن العربي وغيره أن ( العلة أنها مشية الشيطان ) فتح الباري 10/310 . ودليل ذلك : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة ) السلسلة الصحيحة 348 .
إذا رأى المسلم رؤيا حسنة أو صالحة يستحب فعل ما يلي :
أن يحمد الله عز وجل .
يعبرها لنفسه أو يخبر عالماً يعبرها له .
لا يخبر بها إلا ناصحاً أو لبيباً أو حبيباً ولا يخبر حاسداً . والدليل : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها ) رواه البخاري 6584 ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقصوا الرؤيا إلا على عالم أو ناصح ) رواه الترمذي 2280 وهو في السلسلة الصحيحة 119 . لأنهما يختاران أحسن المعاني في تأويلها بخلاف الحاسد والجاهل .
إذا رأى المسلم حلماً سيئاً فإنه يفعل ما يلي :
يبصق عن يساره ثلاثاً .
يستعيذ بالله من الشيطان ثلاثاً .
يستعيذ بالله من شرها .
أن يقوم فيصلي .
يغير الجنب الذي كان نائماً عليه إذا أراد مواصلة النوم ولو كان تحوله إلى الشمال لظاهر الحديث .
لا يخبر بها أحداً من الناس .(148/23)
لا يفسرها لنفسه ولا يطلب تفسيرها . والدليل : عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) رواه مسلم 2262 . وفي رواية ( وليعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره ) فقال - أي الراوي - إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل ، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها . رواه مسلم 2261 . وعن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : ( لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك ) رواه مسلم 2268 . وفي رواية ( فمن رأى ما يكره فليقم فليصل ) رواه الترمذي 2280 وهو في صحيح الجامع 3533 .
إذا وقع بصر المسلم على امرأة أجنبية وبقي أثر ذلك في نفسه فإن كان له زوجة فليذهب إلى بيته وليأت أهله ليرد ما وجد في نفسه . والدليل : عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه ) رواه مسلم 1403 .
إذا صار مجلسه بين الشمس والظل فليتحول عن مجلسه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه الظل وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم ) رواه أبو داود 4821 وهو في صحيح الجامع 748 . والعلة في ذلك أنه مجلس الشيطان ، والدليل : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس بين الضح والظل وقال : ( مجلس الشيطان ) . رواه أحمد 3/413 وهو في صحيح الجامع 6823 .(148/24)
إذا أصاب أهل الرجل الوعك فيستحب له أن يفعل كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ( كان إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول إنه ليرتق فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسر إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ) . { يرتق أي يشد القلب لأن الحزن يرخيه ، ويسروا أي : يكشف ويجلو - رواه الترمذي 2039 وهو في صحيح الجامع 4646 } .
إذا كذب أحد أبناء الرجل أو أحد أفراد أهله فإنه يعالج هذا الموقف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة ) السلسلة الصحيحة 2052 وصحيح الجامع 4675 .
إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه أو ينقذ معصوماً أو يخرج من حرج عظيم أو يتخلص من موقف عصيب فهل من طريقة غير الكذب ينجو فيها من الحرج ولا يقع في الإثم ؟ .
الجواب : نعم توجد طريقة شرعية ومخرج مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو التورية أو المعاريض وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه ( باب المعاريض مندوحة عن الكذب ) صحيح البخاري كتاب الأدب باب 116 .
والتورية هي الإتيان بكلام له معنى قريب يفهمه السامع ومعنى آخر بعيد يقصده المتكلم تحتمله اللغة العربية ويشترط أن لا يكون فيها إبطال حق ولا إحقاق لباطل وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
ذكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً : ضرسي ، ضرسي ، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير .(148/25)
وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه ، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب ، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له أنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله .
وكان الإمام أحمد في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي والإمام أحمد يكره خروجه فقال الإمام أحمد : ليس المروذي هنا وما يصنع المروذي ها هنا وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث لأن السائل لا يراه .
ومن أمثلة التورية أيضاً :
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه ، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً : فقلت : والله لن أكلمه ، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح . وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله ، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي . يعني اللاعب . إغاثة اللهفان : ابن القيم 1/381 وما بعدها 2/106-107 ، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/14 . هذا مع التنبيه هنا أن لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ ولذلك لأمور منها :
أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .
فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا ؟ .
أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً
أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.(148/26)
وفي خاتمة هذه الرسالة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا ويعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(148/27)
القابضات على الجمر
كتبه : الشيخ محمد بن عبد الرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
القابضات على الجمر
الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار .. وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار .. وجعل الدار الآخرة هي دار القرار .. فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار .. ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار .. وسبق رحمته بعباده غضبه وهو الرحيم الغفار ..أحمده على نعمه الغزار ..وأشكره وفضله على من شكر مدرار ..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ..وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار ..الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار صلى الله عليه وسلم .. صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والأبكار ..
أما بعد :
فهذه رسالة .. رسالة .. إلى القابضات على الجمر ..
رسالة .. إلى أولئك الفتيات الصالحات .. والنساء التقيات ..
حديثٌ .. إلى اللاتي شرفهن الله بطاعته .. وأذاقهن طعم محبّته ..
إلى حفيدات خديجة وفاطمة .. وأخوات حفصة وعائشة ..
هذه أحاسيس .. أبثها ..إلى من جعلن قدوتهن أمهات المؤمنين ..
وغايتهن رضا رب العالمين ..إلى اللاتي طالما دعتهن نفوسهن إلى الوقوع في الشهوات ..
ومشاهدة المحرمات .. وسماع المعازف والأغنيات ..
فتركن ذلك ولم يلتفتن إليه .. مع قدرتهن عليه .. خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ..
هذه وصايا .. إلى الفتيات العفيفات .. والنساء المباركات .. اللاتي يأمرن بالمعروف .. وينهين عن المنكر .. ويصبرن على ما يصيبهن ..
هذه همسات .. إلى حبيبة الرحمن .. التي لم تجعل همها في القنوات .. ومتابعة آخر الموضات .. وتقليب المجلات .. وإنما جعلت الهموم هماً واحداً هو هم الآخرة ..
هذه رسالة .. إلى تلك المؤمنة العفيفة التي كلما كشر الفساد حولها عن أنيابه .. رفعت بصرها إلى السماء وقالت : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
هذه رسالة .. إلى القابضات على الجمر اللاتي قال فيهن النبي صلى الله عليه وسلم : ((149/1)
يأتي على
الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ) ..
رسالة .. إلى المرأة الصالحة التقية .. التي قدمت محبة الله وأوامره .. على تقليد فلانة أو فلانة .. فأصبحت غريبة بين النساء بسبب صلاحها وفسادهن .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لها فيما رواه ابن ماجة والدارمي : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " . قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : " الذين يصلحون إذا فسد الناس " ..
هذه كلمات .. إلى القابضات على الجمر .. لأذكرهن بأخبار من تقدمهن إلى طريق الجنة .. ممن تركن لذة الحياة .. وحملن همَّ الدين .. حتى ضاعف الله لهن الحسنات .. وكفر السيئات .. ورفع الدرجات .. حتى سبقن كثيراً من الرجال ..
أول تلك القابضات على الجمر ..
هي تلك المرأة الصالحة التي كانت تعيش هي وزوجها .. في ظل ملك فرعون .. زوجها مقرب من فرعون .. وهي خادمة ومربية لبنات فرعون ..
فمن الله عليهما بالإيمان .. فلم يلبث زوجها أن علم فرعون بإيمانه فقتله ..فلم تزل
الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون .. وتنفق على أولادها الخمسة .. تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها ..
فبينما هي تمشط ابنة فرعون يوماً .. إذ وقع المشط من يدها ..
فقالت : بسم الله .. فقالت ابنة فرعون : الله .. أبي ؟
فصاحت الماشطة بابنة فرعون : كلا .. بل الله .. ربي .. وربُّك .. وربُّ أبيك ..
فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها ..
ثم أخبرت أباها بذلك .. فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره ..
فدعا بها .. وقال لها : من ربك ؟ قالت : ربي وربك الله ..
فأمرها بالرجوع عن دينها .. وحبسها .. وضربها .. فلم ترجع عن دينها .. فأمر فرعون
بقدر من نحاس فملئت بالزيت .. ثم أحمي .. حتى غلا ..
وأوقفها أمام القدر .. فلما رأت العذاب .. أيقنت أنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله
تعالى .. فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة .. الأيتام الذين تكدح لهم..(149/2)
وتطعمهم .. فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة .. تدور أعينهم .. ولا
يدرون إلى أين يساقون ..
فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون .. فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي .. وأخذت
أصغرهم وضمته إلى صدرها .. وألقمته ثديها ..
فلما رأى فرعون هذا المنظر ..أمر بأكبرهم .. فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي
.. والغلام يصيح بأمه ويستغيث .. ويسترحم الجنود .. ويتوسل إلى فرعون .. ويحاول
الفكاك والهرب ..
وينادي إخوته الصغار .. ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين .. وهم يصفعونه ويدفعونه ..
وأمه تنظر إليه .. وتودّعه ..
فما هي إلا لحظات .. حتى ألقي الصغير في الزيت .. والأم تبكي وتنظر .. وإخوته
يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة .. حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل .. وطفحت
عظامه بيضاء فوق الزيت .. نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله .. فأبت عليه ذلك ..
فغضب فرعون .. وأمر بولدها الثاني .. فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث .. فما هي
إلا لحظات حتى ألقي في الزيت .. وهي تنظر إليه .. حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه .. والأم ثابتة على دينها .. موقنة بلقاء ربها ..
ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي ثم حمل وغيب في الزيت ..
وفعل به ما فعل بأخويه ..
والأم ثابتة على دينها .. فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت ..
فأقبل الجنود إليه .. وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه .. فلما جذبه الجنود .. بكى وانطرح على قدمي أمه .. ودموعه تجري على رجليها .. وهي تحاول أن تحمله مع أخيه ..
تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها .. فحالوا بينه وبينها .. وحملوه من
يديه الصغيرتين .. وهو يبكي ويستغيث .. ويتوسل بكلمات غير مفهومة .. وهم لا يرحمونه ..
وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي .. وغاب الجسد .. وانقطع الصوت .. وشمت الأم رائحة اللحم .. وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها ..تنظر الأم إلى(149/3)
عظامه .. وقد رحل عنها إلى دار أخرى ..
وهي تبكي .. وتتقطع لفراقه .. طالما ضمته إلى صدرها .. وأرضعته من ثديها .. طالما
سهرت لسهره .. وبكت لبكائه ..
كم ليلة بات في حجرها .. ولعب بشعرها .. كم قربت منه ألعابه .. وألبسته ثيابه ..
فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك ..فالتفتوا إليها .. وتدافعوا عليها ..
وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها .. وكان قد التقم ثديها ..
فلما انتزع منها .. صرخ الصغير .. وبكت المسكينة .. فلما رأى الله تعالى ذلها
وانكسارها وفجيعتها بولدها .. أنطق الصبي في مهده وقال لها :
يا أماه اصبري فإنك على الحق ..ثم انقطع صوته عنها .. وغيِّب في القدر مع إخوته ..
ألقي في الزيت .. وفي فمه بقايا من حليبها ..
وفي يده شعرة من شعرها .. وعلى أثوابه بقية من دمعها ..
وذهب الأولاد الخمسة .. وهاهي عظامهم يلوح بها القدر ..
ولحمهم يفور به الزيت .. تنظر المسكينة .. إلى هذه العظام الصغيرة ..
عظام من ؟ إنهم أولادها .. الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً .. إنهم
فلذات كبدها .. وعصارة قلبها .. الذين لما فارقوها .. كأن قلبها أخرج من صدرها ..
طالما ركضوا إليها ..وارتموا بين يديها ..
وضمتهم إلى صدرها .. وألبستهم ثيابهم بيدها .. ومسحت دموعهم بأصابعها .. ثم هاهم
ينتزعون من بين يديها .. ويقتلون أمام ناظريها ..
وتركوها وحيدة وتولوا عنها .. وعن قريب ستكون معهم ..
كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب .. بكلمة كفر تسمعها لفرعون .. لكنها
علمت أن ما عند الله خير وأبقى ..
ثم .. لما لم يبق إلا هي .. أقبلوا إليها كالكلاب الضارية .. ودفعوها إلى القدر ..
فلما حملوها ليقذفوها في الزيت .. نظرت إلى عظام أولادها .. فتذكرت اجتماعهم معهم
في الحياة .. فالتفتت إلى فرعون وقالت : لي إليك حاجة .. فصاح بها وقال : ما حاجتك
؟ فقالت : أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد .. ثم أغمضت عينيها ..
وألقيت(149/4)
في القدر .. واحترق جسدها .. وطفت عظامها ..
فلله در هذه الماشطة ما أعظم ثباتها .. وأكثر ثوابها ..
ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها .. فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه البيهقي : ( لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة .. فقلت: ما هذه الرائحة ؟ فقيل لي : هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُها .. ) ..
الله أكبر تعبت قليلاً .. لكنها استراحت كثيراً ..
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } ..
مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها .. وجاورت ربها ..
ويرجى أن تكون اليوم في جنات ونهر .. ومقعد صدق عند مليك مقتدر .. وهي اليوم أحسن منها في الدنيا حالاً .. وأكثر نعيماً وجمالاً ..
وعند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً .. ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ..
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : من دخل الجنة ينعم لا يبؤس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه . وله في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ..ومن دخل إلى الجنة نسي عذاب الدنيا .. فمن سكان الجنة ؟!
إنهم .. أهل الصيام مع القيام وطيب الكلمات والإحسان
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
عسل مصفى ثم ماء ثم خمر ثم أنهار من الالبان
وطعامهم ما تشتهيه(149/5)
نفوسهم ولحومهم طير ناعم وسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كملت لذي الإيمان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولدان
وشرابهم من سلسبيل مزجه الكافور ذاك شراب ذي الإيمان
والحُلْيُ أصفى لؤلؤ وزبرجد وكذاك أسورة من العقيان
هذا وخاتمة النعيم خلودهم أبداً بدار الخلد والرضوان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر العشاق عنك وهم ذوو إيمان
والله لم تخرج إلى الدنيا للذة عيشها أو للحطام الفاني
لكن خرجت لكي تعدَّ الزاد للأخرى فجئت بأقبح الخسران
ـــ
فما أطيب عيش المؤمنة في الجنة ..
عندما تتقلبُ في أنهارها .. وتشربُ من عسلها ..
بل وتنظر إلى وجه ربها ..
ما أطيب عيشك أنت .. وربُك يسألك في الجنة :
يا فلانة .. هل رضيت .. هل رضيت بما أنت فيه من النعيم ..
فتقولين : وما لي لا أرضى وقد أعطيتني ما أرجو وأمنتني مما أخاف ..
فيقول : أعطيك أعظم من ذلك .. ثم يكشف الحجاب عن وجهه فتنظرين إليه ..
فلا تنصرفين إلى شيء من النعيم ما دمت تنظرين إليه ..
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده
المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون } ..
ولكن لن يصل أحد إلى الجنة إلا بمقاومة شهواته .. فلقد حفت الجنة بالمكاره .. وحفت
النار بالشهوات .. فاتباع الشهوات في اللباس .. والطعام .. والشراب .. والأسواق ..
طريق إلى النار .. قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( حفت الجنة بالمكاره .. وحفت النار بالشهوات ) ..
فاتعبي اليوم وتصبَّري .. لترتاحي غداً ..
فإنه يقال لأهل الجنة يوم القيامة : { سلام عليكم بما(149/6)
صبرتم فنعم عقبى الدار } ..
أما أهل النار فيقال لهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون } ..
ـ
هذه أولى القابضات على الجمر ..
ثبتت على دينها برغم الفتنة العظيمة التي أحاطت بها ..
فعجباً والله لفتيات .. لا تستطيع إحداهن الثبات على إقامة الصلاة .. فلا تزال تتساهل بأدائها حتى تتركها حتى تكفر ..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ..
ومن تركت الصلاة خلدها الله في النيران .. وعذبها مع الشيطان .. وأبعدها عن النعيم
.. وسقاها من الحميم ..
{ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } ..
ذكر الذهبي في الكبائر ..
أن امرأة ماتت فدفنها أخوها .. فسقط كيس منه فيه مال في قبرها فلم يشعر به حتى
انصرف عن قبرها .. ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبش التراب .. فلما وصل إليها وجد القبر يشتعل عليها ناراً .. ففزع .. ورد التراب عليها ..
ورجع إلى أمه باكياً فزعاً وقال : أخبريني عن أختي وماذا كانت تعمل ؟
فقالت الأم : و ما سؤالك عنها ؟
قال : يا أمي إني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً ..
فبكت الأم وقالت : كانت أختك تتهاون بالصلاة .. وتؤخرها عن وقتها .
فهذا حال من تؤخر الصلاة عن وقتها .. فلا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس .. أو تؤخر غيرها من الصلوات ..
فكيف حال من لا تصلي ؟
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤياه لعذاب من يخرج الصلاة عن وقتها .. فقال :
أتاني الليلة آتيان .. وإنهما ابتعثاني .. وإنهما قالا لي : انطلق .. وإني انطلقت معهما ..
وإنا أتينا على رجل مضطجع .. وإذا آخر قائم عليه بصخرة .. وإذا هو يهوي بالصخرة
لرأسه .. فيثلغ رأسه ..فيتدهده الحجر هاهنا .. فيتبع الحجر .. فيأخذه ..(149/7)
فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان ثم يعود عليه ..فيفعل به مثل ما فعل به مرة الأولى ..
فقلت : سبحان الله !! ما هذان ..فقال الملكان : هذا الرجل .. يأخذ القرآن فيرفضه .. ( يعني لا يعمل بما فيه ) ..وينام عن الصلاة المكتوبة ..
{ كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ..
ـ
أما ثانية القابضات على الجمر ..
فقد كانت ملكة على عرشها ..
على أسرةٍ ممهدة ، وفرشٍ منضدة ..
بين خدم يخدمون .. وأهلٍ يكرمون ..
لكنها كانت مؤمنة تكتم إيمانها ..
إنها آسية .. امرأة فرعون .. كانت في نعيم مقيم ..
فلما رأت قوافل الشهداء .. تتسابق إلى السماء ..
اشتاقت لمجاورة ربّها .. وكرهت مجاورة فرعون ..
فلما قتل فرعون الماشطة المؤمنة .. دخل على زوجه آسيةَ يستعرض أمامها قواه ..
فصاحت به آسية : الويل لك ! ما أجرأك على الله .. ثم أعلنت إيمانها بالله ..
فغضب فرعون .. وأقسم لتذوقَن الموت .. أو لتكفرَن بالله ..
ثم أمر فرعون بها فمدت بين يديه على لوحٍ .. وربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد
.. وأمر بضربها فضربت ..
حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها .. واللحم ينسلخ عن عظامها ..
فلما اشتدّ عليها العذاب .. وعاينت الموت ..رفعت بصرها إلى السماء .. وقالت :
{ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم
الظالمين } ..
وارتفعت دعوتها إلى السماء ..
قال ابن كثير : فكشف الله لها عن بيتها في الجنة ..
فتبسمت .. ثم ماتت .. نعم .. ماتت الملكة ..
التي كانت بين طيب وبخور .. وفرح وسرور ..
نعم تركت فساتينها .. وعطورها .. وخدمها .. وصديقاتها ..
واختارت الموت ..
لكنها اليوم .. تتقلب في النعيم كيفما شاءت ..
ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك .. وهي .. طالما ..
وقفت تناجي ربها والليل مسدول البراقع
تصغي لنجواها السماء وقد جرت منها المدامع
تدعو فتحتشد الملائك والدجى هيمان خاشع
والعابدات الزاهدات جفت مراقدُها المضاجع
وتخرّ(149/8)
للرحمن ساجدة مطهرة النوازع ..
نفعها صبرها على الطاعات .. ومقاومتها للشهوات ..
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولئك لهم
جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } ..
فأين نساؤنا اليوم ؟
أين نساؤنا عن سير هؤلاء الصالحات ..
أين النساء اللاتي يقعن في المخالفات الشرعية في لباسهن .. وحديثهن .. ونظرهن .. ثم
إذا نصحت إحداهن قالت : كل النساء يفعلن مثل ذلك .. ولا أستطيع مخالفة التيار ..
سبحان الله !!
أين القوةُ في الدين .. والثباتُ على المبادئ ..
إذا كانت الفتاة بأدنى فتنة تتخلى عن طاعة ربها .. وتطيع الشيطان .. أين الاستسلام
لأوامر الله .. والله تعالى يقول : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } ..
أين تلك الفتيات العابثات .. اللاتي تتعرض إحداهن للعنة ربها ..
فتلبس عباءتها على كتفها .. فيرى الناس تفاصيل كتفيها وجسدها .. إضافة إلى تشبهها
بالرجال .. لأن الرجال هم الذين يلبسون عباءاتهم على أكتافهم .. ومن تشبهت بالرجال
فهي ملعونة ..
وأين تلك المرأة التي تنتف حواجبها وتغير خلق الله .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد لعن النامصة والمتنمصة ..
وأين تلك تلك الواشمة .. التي تضع الوشم على وجهها على شكل نقط متفرقة .. أو على
شكل رسوم في مناطق من جسدها .. وهذا فعل المومسات .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة ..
بل .. أين تلك المرأة التي تلبس الشعر المستعار .. أو ما يسمى بالباروكة .. والله تعالى قد لعن الواصلة والمستوصلة ..
فهؤلاء النساء ملعونات ..أتدرين ما معنى ملعونة ؟! أي مطرودة من رحمة الله ..
مطرودة عن سبيل الجنة ..
أو ترضين أن تطردي عن الجنة ..(149/9)
بسبب شعرات تنتفينها من حاجبيك .. أو عباءة تنزلينها على كتفيك .. أو نقاط من وشم في أنحاء جسدك ..
أو تريدين الجمال ؟!
ليس الجمال والله بالتعرض للعنة الله وسخطه ..
بل الجمال الحقيقي هو ما يكون بطاعة الله ..
ويكمل الجمال ويزين .. للمؤمنات في الجنة ..
فإذا كان الله تعالى قد وصف الحور العين بما وصف ..
وهن لم يقمن الليل .. ولم يصمن النهار .. ولم يصبرن عن الشهوات ..
فما بالك بجمالك أنت .. وحسنك .. وبهائك ..
وأنت التي طالما خلوت بربك في ظلمة الليل .. يسمع نجواك .. ويجيب دعاك .. طالما
تركت لأجل رضاه اللذات .. وفارقت الشهوات ..
فيا بشراك وقد تلقتك الملائكة عند الأبواب .. تبشرك بالنعيم وحسن الثواب .. وقد
ازددت جمالاً فوق جمالك ..
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } ..
فأنت في الجنة .. قد ..
كملت خلائقُك وأكمل حسنك كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهك والليل تحت ذوائب الأغصان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرك فيضيء سقف القصر بالجدران
وتبختري في مشيكِ ويحق ذاك لمثلك في جنة الحيوان
ووصائف من خلفكِ وأمامكِ وعلى شمائلكِ ومن أيمان
لا تؤثرِ الأدنى على الأعلى فتحرمي ذا وذا يا ذلة الحرمان
منتكِ نفسُك باللحاق مع القعو د عن المسير وراحة الأبدان
ولسوف تعلمِ حين ينكشف الغطا ماذا صنعتِ وكنتِ ذا إمكان
ـ
فأين تلك المسكينة .. التي تعرض عن سماع السور والآيات .. وتستمع إلى المعازف
والأغنيات .. فتتعرض لعذاب الله .. وتحرم من سماع الغناء في الجنة .. سبحان الله ..
ما كفاك القرآن وسماعُه .. فتركتيه وبحثت عن الغناء .. قال محمد ابن المنكدر : إذا
كان يوم القيامة نادى مناد :
أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان ؟!
أسكنوهم رياض المسك .. ثم يقول الله للملائكة :(149/10)
اسمعوهم تمجيدي وتحميدي ..
وعن شهر بن حوشب : أن الله جل ثناؤه يقول لملائكته : إن عبادي كانوا يحبون الصوت الحسن في الدنيا فيدعونه من أجلي .. فأسمعوا عبادي ..
فيأخذون بأصوات من تسبيح وتكبير لم يسمعوا بمثله قط ..
قال ابن عباس
ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
واهاً لذياك السماع فكم به للقلب من طرب ومن أشجان
نزه سماعك إن أردت سماع ذياك الغنا عن هذه الألحان
حب الكتاب وحب الحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
والله إن سماعهم في القلب والإيمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه أبدا من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حبا وإخلاصا مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلان ..
ـ
بل إن القابضات على الجمر .. لم يكتفين بالصبر على العذاب .. وتحمل البلاء .. وإنما
كان لهن في نصر الدين .. ومقاومة الباطل .. بطولات وأعاجيب .. صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم .. عجوز قد جاوز عمرها الستين سنة .. فلما اجتمع الكفار من قريش وغيرها .. وتآمروا على غزو المدينة .. حفر المسلمون خندقاً في جهة من جهات المدينة .. وكانت الجبال تحيط ببقية الجهات ..
وكان عدد المسلمين قليلاً .. فاستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم للرباط أمام الخندق لصدّ من يتسلل إليهم من الكفار ..
أما النساء والصبيان فقد جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصن منيع .. ولم يترك عندهم من يحرسهم .. لقلة المسلمين وكثرة الكفار ..
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم منشغل مع أصحابه في القتال عند الخندق .. تسلل جمع من اليهود حتى وصلوا إلى الحصن .. ثم لم يجرؤا على الدخول خشية من وجود أحد من المسلمين .. فاصطفوا خارج الحصن .. وأرسلوا واحداً منهم يستطلع لهم الأمر .. فجعل هذا اليهودي يطوف بالحصن .. حتى وجد فرجة فدخل(149/11)
منها .. وجعل يبحث وينظر .. فرأته صفية رضي الله عنها .. ففزعت وقالت في نفسها :
هذا اليهودي يطوف بالحصن .. وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من
يهود .. وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. وإن صرخت فزعت النساء والصبيان .. وعلم اليهودي أن لا رجال في الحصن ..
فتناولت سكيناً وربطتها في وسطها .. ثم أخذت عموداً من خشب ..
ونزلت من الحصن إليه وتحينت منه التفاتة .. فضربته بالعمود على أم رأسه .. حتى
قتلته .. فلما خمد .. تناولت سكيناً .. فلله درّ صفية .. تلك العابدة التقية ..
ـ
فتأملي في جرأتها وبذلها نفسها لخدمة الدين ..
فكم تبذلين أنت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
كم ترين في المجالس من النامصات .. وفي الأسواق من المتبرجات .. وفي الأعراس من المتعريات .. فماذا فعلت تجاههن ؟!
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز
حكيم } ..
ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحق اللعنة ..
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ..
ولا تخجلي من ذلك فالدعوة تحتاج إلى جرأة في أولها .. ثم تفرحين بآخرها ..
والصالحات القابضات على الجمر .. إذا أتى إحداهن الأمر من الشريعة .. أطاعت ..
وسلّمت .. وأذعنت .. ولم تعترض .. أو تخالف .. أو تبحث عن مخارج ..
وتأملي في خبر تلك الفتاة العفيفة الشريفة .. العروس ..
قال أنس رضي الله عنه : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : جليبيب في وجهه دمامة .. فعرض عليه رسول الله التزويج .. فقال : إذا تجدني كاسداً ..
فقال : غير أنك عند الله لست بكاسد ..
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يتحين الفرص لتزويج جليبيب ..
حتى(149/12)
جاء رجل من الأنصار يوماً يعرض ابنته الثيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليتزوجها .. فقال صلى الله عليه وسلم : نعم يا فلان .. زوجني ابنتك ..
قال : نعم ونعمين .. يا رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : إني لست أريدها لنفسي .. قال : فلمن ؟ قال : لجليبيب ..
قال : جليبيب !! يا رسول الله !! حتى استأمر أمها ..
فأتى الرجل زوجته فقال : إن رسول الله يخطب ابنتك ..
قالت : نعم .. ونعمين .. زوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال : إنه ليس يريدها لنفسه .. قالت : فلمن ؟ قال : يريدها لجليبيب ..
قالت : حلقى لجليبيب .. لا لعمر الله لا أزوج جليبيباً .. وقد منعناها فلاناً وفلاناً .. فاغتم أبوها لذلك .. وقام ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فصاحت الفتاة من خدرها بأبويها : من خطبني إليكما ؟
قالا : رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : أتردان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإنه لن يضيعني .. فكأنما جلَّت عنهما ..
فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. شأنك بها فزوِّجها جليبيباً .. فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم جليبيباً ..
ودعا لها وقال : اللهم صب عليهما الخير صباً .. ولا تجعل عيشهما كداً كداً ..
فلم يمض على زواجه أيام .. حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة .. وخرج معه جليبيب .. فلما انتهى القتال .. وبدأ الناس يتفقد بعضهم بعضاً ..
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم : هل تفقدون من أحد قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..
ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..قال : ولكني أفقد جليبيباً ..
فقاموا يبحثون عنه .. ويطلبونه في القتلى .. فلم يجدوه في ساحة القتال ..
ثم وجدوه في مكان قريب .. إلى جنب سبعة من المشركين قد قتلهم ثم قتلوه .. فوقف
النبي(149/13)
صلى الله عليه وسلم ينظر إلى جثته ..
ثم قال : قتل سبعة ثم قتلوه .. قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني وأنا منه ..
ثم حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه .. وأمرهم أم يحفروا له قبره ..
قال أنس : فمكثنا نحفر القبر .. وجليبيب ماله سرير غير ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حتى حفر له ثم وضعه في لحده ..
قال أنس : فوالله ما كان في الأنصار أيم أنفق منها .. تسابق الرجال إليها كلهم يخطبها بعد جليبيب ..
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } ..
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) ..
فأين تلك الفتيات الصالحات .. اللاتي تقدم إحداهن محبة الله ورسوله على هواها .. فإذا سمعت الأمر من الله تعالى قدمته على أمر كل أحد .. بل قدمته على ما تزينه لها صديقاتها .. أو توسوس به لها نفسها ..
قالت عائشة رضي الله عنها كما عند أبي داود : والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار .. أشدَّ تصديقاً بكتاب الله .. ولا إيماناً بالتنزيل .. لقد أنزل في سورة النور قوله تعالى في الأمر بحجاب المؤمنات { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن } ..
فسمعها الرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم انقلبوا إليهن .. يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها .. يتلو الرجل على امرأته .. وابنته .. وأخته .. وعلى كل ذات قرابته ..فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرطها - وهو كساء من قماش تلبسه النساء - .. فاعتجرت به .. - لفته على رأسها - .. وقامت بعضهن إلى أزرهن فشققنها واختمرن بها .. أي الفقيرة التي لم تجد قماشاً تستر به وجهها .. أخذت إزارها وهو ما يلبس من(149/14)
البطن إلى القدمين ثم شقت منه قطعة غطت بها وجهها .. تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه ..
قالت عائشة : فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ..
ــ
الله أكبر .. هذا حال المرأة في ذلك الزمان .. في تغطيتها لوجهها .. وسترها لزينتها
.. تتستر حتى لا يراها الرجال ..
هل تدرين من هي هذه المرأة التي أمرت بالتستر ..
إنها عائشة أم المؤمنين .. وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأسماء بنت أبي بكر .. وغيرهن من الصالحات التقيات ..
وهل تدرين يسترن زينتهن عن من .. عن أبي بكر .. وعمر .. وعثمان .. وعلي .. وغيرهم من الصحابة .. أزكى رجال الأمة .. وأعفُهم وأطهرُهم .. ومع ذلك أمرت النساء بالتستر مع صلاح ذلك المجتمع ..
بل قد نهى الله أبا بكر .. وعمر .. وطلحة .. والزبير .. والصحابة جميعاً عن الاختلاط بالنساء .. فقال : { وإذا سألتموهن متاعاً } يعني إذا سألتم أزواج النبي وهن أطهر النساء .. { فاسألوهن من وراء حجاب } .. لماذا ..؟؟ { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } ..
فكيف الحال اليوم مع نسائنا .. ورجالنا .. وقد فسد الزمان ؟
ماذا نقول لنساء جريئات .. تحادث إحداهن البائع في السوق بكل طلاقة لسان .. وكأنه
زوجُها أو أخوها .. بل قد تضاحكه وتمازحه .. ليخفض لها في السعر .. مع لبسها للنقاب الواسع ..
وقد تزيد على ذلك الخلوة بالسائق .. وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ..
وكل هذه المعاصي هي تعلم أنها معاصٍ .. لكنها مع ذلك تقدم عليها بنعم أعطاها الله
لها .. فتعصي الله بنعمته .. وكأن ربها عاجز عن عذابها ..
سبحان الله .. لو شاء الله لسلب منك هذه النعم التي تعصينه بها !!
اذهبي إلى مستشفى النقاهة وانظري أحوال النساء التي فقدن العافية ..
اذهبي إلى هناك .. لتري فتيات في عمر الزهور ..
لا يتحرك في الواحدة منهن إلا عيناها ..
أما بقية جسدها فمشلول شلل كلّي .. لو قطعت رجلاها ويداها بالسكاكين(149/15)
لما أحست بشيء .. نسأل الله لهن الشفاء والعافية .. والأجر العظيم ..
كل واحدة منهن .. تتمنى لو تتحكم ولو .. بإخراج البول والغائط ..
بل لا تدري إحداهن أنه قد خرج منها بول أو غائط إلى إذا شمت الرائحة .. يُلْبَسْنَ
حفائظ على عوراتهن كالأطفال ..
وتبقى الحفائظ على بعضهن ثلاثة أيام وأربعة ..
قد كانت مثلك .. تأكل وتشرب .. وتضحك وتلعب .. وتتمشى في الأسواق .. وفجأة .. ودون سابق تحذير .. أصيبت بحادث سيارة .. أو جلطةٌ في القلب أو الدماغ ..
والنتيجة .. صارت حية في صورة ميتة .. عشر سنين .. وعشرين سنة .. وثلاثين ..
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون * قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } ..
ولا يعني أن كل من أصابها مرض فإن ذلك يكون عقوبةً وجزاء .. كلا .. ولكن .. لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ..
والقابضات على الجمر ..
يتسابقن إلى الأعمال الصالحة .. صغيرها وكبيرها .. ولهن في كل ميدان سهم .. ولا
تعلمين ما هو العمل الذي به تدخلين إلى الجنة ..
فلعلَّ شريطاً توزعينه في مدرسة ..
أو نصيحةً عابرة تتكلمين بها .. يكتب الله بها لك رضاه ومغفرتَه ..
ولقد .. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : أن امرأة بغياً من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء .. فرأت كلباً بجوار بئر يصعد عليه تارة .. ويطوف به تارة .. في يوم حار قد أدلع لسانه من العطش .. قد كاد يقتله العطش .. فلما رأته هذه البغي ..
التي طالما عصت ربها .. وأغوت غيرها .. ووقعت في الفواحش .. وأكلت المال الحرام ..
لما رأت هذا الكلب .. نزعت خفها .. حذاءها .. وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء .. وسقته ..
فغفر الله لها بذلك .. الله أكبر .. غفر الله لها .. بماذا ..؟
هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار ؟! هل قتلت في سبيل الله ؟!
كلا ..(149/16)
وإنما سقت كلباً شربةً من ماء .. فغفر الله لها ..
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرت عن : امرأة مسكينة جاءتها .. تحمل ابنتين لها .. فقالت : يا أم المؤمنين .. والله ما دخل بطوننا طعام منذ ثلاثة أيام ..
فبحثت عائشة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد إلا ثلاث تمرات ..
فأعطتها الثلاث تمرات .. ففرحت المسكينة بها .. وأعطت كل واحدة من الصغيرتين تمرة .. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .. فكانت البنتان لفرط الجوع .. أسرعَ إلى تمرتيهما من الأم إلى تمرتها .. فرفعتا أيديَهما تريدان التمرة التي بيد الأم .. فنظرت الأم إليهما .. ثم شقت التمرة الباقية بينهما ..
قالت عائشة : فأعجبني حنانها .. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة .. أو أعتقها بها من النار ..
فالقابضات على الجمر يتسابقن إلى الطاعات .. وإن كانت يسيرة صغيرة .. والأعظم من ذلك هو الحذر من المعاصي .. وعدم التساهل بها .. فقد قال تعالى عن قوم تساهلوا بالمعاصي وتصاغروها : { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } ..
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين .. أنه رأى امرأة تعذب في النار ..
فما الذي أدخلها إلى النار ؟
هل سجدت لصنم ..؟ هل قتلت نبياً ؟ .. هل سرقت أموال الناس .. ؟ كلا ..دخلت امرأة
النار في هرة .. سجنتها .. فلا هي أطعمتها .. ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض
حتى ماتت هزلاً .. قال صلى الله عليه وسلم : فلقد رأيتها في النار والهرة تخدشها ..
وروى البخاري .. أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار .. وتفعل .. وتصدق .. لكنها .. تؤذي جيرانها بلسانها ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير فيها .. هي من أهل النار ..
قالوا : وفلانة تصلي المكتوبة .. وتصدق بأثوار – يعني بأجزاء يسيرةٍ من الطعام –
ولا تؤذي أحداً ..
فقال رسول الله(149/17)
صلى الله عليه وسلم : هي من أهل الجنة ..
والقابضات على الجمر في هذا الزمان .. تعلم كل واحدة منهن .. أن الحرب الموجهة إليها حرب ضروس يريدون منها استعبادها .. وهتك عرضها .. باسم الحرية والمساواة ..
فما معنى الحرية التي يدعوا إليها المفسدون ؟ ..
ولماذا لا يدعون إلى تحرير العمال المظلومين .. والضحايا المنكوبين .. والأيتام
المنبوذين ..
لماذا يصرون على أن المرأة العفيفة .. التي تعيش في ظل وليها .. ولو مدَّ أحد
العابثين يده إليها .. لما عادت إليه يده .. لماذا يصرون دائماً على أن هذه المرأة
تحتاج إلى تحرير ..
هل ارتداء المرأة للعباءة والحجاب لتحمي نفسها من النظرات المسعورة .. يعدُّ عبودية
تحتاج أن تحرر المرأة منها ..؟؟
هل تخصيص أماكن معينةٍ لعمل المرأة .. بعيدةٍ عن مخالطة الرجال .. هو عبودية وذلٌ
للمرأة .. ؟
هل تربية المرأة لأولادها .. ورأفتها ببناتها .. وقرارها في بيتها .. هو عبودية
تحتاج إلى تحرير ..؟؟
ثم .. لماذا نجد أن أكثر من يتنابحون ويدعون إلى تحرير المرأة .. وتكشفها لهم ..
ويزعمون أن حجابها قيد وغلٌ لا بدَّ أن تتحرر منه .. لماذا نجد أن أكثر هؤلاء هم
ليسوا من العلماء .. ولا من المصلحين .. وإنما أكثرهم من الزناة .. وشراب الخمور ..
وأصحاب الشهوات المسعورة ؟؟
فلماذا يدعوا هؤلاء إلى تحرير المرأة ؟
لماذا يستميتون لإخراج العفيفة من بيتها .. لماذا ؟؟ الجواب واضح ..
اشتهوا أن يروها متعرية راقصة فزينوا لها الرقص .. فلما تعرّت وتبذلت .. وأصبحت
تلهو وترقص في المسارح .. أرضوا شهواتهم منها .. ثم صاحوا بها وقالوا : قد حرّرناك
..
واشتهوا أن يتمتعوا بها متى شاءوا .. فزينوا لها مصاحبة الرجال .. ومخالطتهم .. حتى
حوّلوها إلى حمام متنقل .. يستعملونه متى شاءوا .. على فرشهم .. وفي حدائقهم ..
وباراتهم .. وملاهيهم .. فلما تهتكت وتنجّست .. صاحوا بها وقالوا : قد حرّرناك ..
خدعوها بقولهم حسناء(149/18)
والغواني يغرّهن الثناء
واشتهوا أن يروها عارية على شاطئ البحر .. وساقيةً للخمر .. وخادمةً في طائرة ..
وصديقة فاجرة .. فزينوا لها ذلك كلَّه وأغروها بفعله ..
فلما ولغت في مستنقع الفجور .. تضاحكوا بينهم وقالوا : هذه امرأة متحررة .. فمن
ماذا حرّروها ؟
عجباً .. هل كانت في سجن وخرجت منه إلى الحرية ؟
هل الحرية في تقصير الثياب .. ونزع الحجاب ..
أم الحرية في التسكع في الأسواق .. ومضاجعة الرفاق ..
هل الحرية في مكالمة شاب فاجر .. أو الخلوة بذئب غادر ..
أليس الحرية الحقيقية .. والسيادة النقية .. هي أن تكوني عفيفة مستترة ..
أبوك يرأف عليك .. وزوجك يحسن إليك ..
وأخوك يحرسك بين يديك .. وولدك ينطرح على قدميك ..
وهذه هي الكرامة العظيمة التي أرادها الله تعالى لك ..
فلقد أوصى الله بك أباك وأمك :
فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : ( من عال جاريتين حتى تبلغا .. جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ) ..
وأوصى بك أولادك فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين .. للرجل الذي سأله فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال : أمك .. ثم أمك .. ثم أمك .. ثم أبوك ..
بل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة زوجها .. وذمّ من غاضب زوجته أو أساء إليها .. فعند مسلم والترمذي ..أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في حجة الوداع .. فإذا بين يديه مائةُ ألف حاج .. فيهم الأسود والأبيض .. والكبير والصغير .. والغني والفقير .. صاح صلى الله عليه وسلم بهؤلاء جميعاً وقال لهم : ألا واستوصوا بالنساء خيراً .. ألا واستوصوا بالنساء خيراً ..
وروى أبو داود وغيره .. أنه في يوم من الأيام أطاف بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن ..فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .. قام .. وقال للناس : لقد طاف بآل محمد صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن .. ليس أولائك بخياركم ..
وصحّ عند ابن ماجة والترمذي أن النبي(149/19)
صلى الله عليه وسلم قال : ( خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) ..
بل .. قد بلغ من إكرام الدين للمرأة .. أنها كانت تقوم الحروب .. وتسحق الجماجم ..
وتتطاير الرؤوس .. لأجل عرض امرأة واحدة ..
ذكر أصحاب السير :
أن اليهود كانوا يساكنون المسلمين في المدينة ..
وكان يغيظهم نزولُ الأمر بالحجاب .. وتسترُ المسلمات .. ويحاولون أن يزرعوا الفساد
والتكشف في صفوف المسلمات .. فما استطاعوا ..
وفي أحد الأيام جاءت امرأة مسلمة إلى سوق يهود بني قينقاع ..
وكانت عفيفة متسترة .. فجلست إلى صائغ هناك منهم ..
فاغتاظ اليهود من تسترها وعفتها .. وودوا لو يتلذذون بالنظر إلى وجهها .. أو لمسِها
والعبثِ بها .. كما كانوا يفعلون ذلك قبل إكرامها بالإسلام .. فجعلوا يريدونها على
كشف وجهها .. ويغرونها لتنزع حجابها .. فأبت .. وتمنعت .. فغافلها الصائغ وهي جالسة .. وأخذ طرف ثوبها من الأسفل .. وربطه إلى طرف خمارها المتدلي على ظهرها .. فلما قامت .. ارتفع ثوبها من ورائها .. وانكشفت سوأتها .. فضحك اليهود منها.. فصاحت المسلمة العفيفة .. وودت لو قتلوها ولم يكشفوا عورتها .. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين .. سلَّ سيفه .. ووثب على الصائغ فقتله ..فشد اليهود على المسلم فقتلوه ..
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .. وأن اليهود قد نقضوا العهد وتعرضوا للمسلمات .. حاصرهم .. حتى استسلموا ونزلوا على حكمه ..
فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكل بهم .. ويثأر لعرض المسلمة العفيفة ..
قام إليه جندي من جند الشيطان .. الذين لا يهمهم عرض المسلمات .. ولا صيانة المكرمات .. وإنما هم أحدهم متعة بطنه وفرجه ..
قام رأس المنافقين .. عبد الله بن أبي ابن سلول ..
فقال : يا محمد أحسن في موالي اليهود وكانوا أنصاره في الجاهلية ..
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. وأبى ..
إذ كيف يطلب العفو عن أقوام يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا(149/20)
..فقام المنافق
مرة أخرى .. وقال : يا محمد أحسن إليهم .. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. صيانة لعرض المسلمات .. وغيرة على العفيفات ..
فغضب ذلك المنافق .. وأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم .. وجرَّه وهو يردد : أحسن إلى مواليّ .. أحسن إلى مواليّ ..
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم والتفت إليه وصاح به وقال : أرسلني ..
فأبى المنافق .. وأخذ يناشد النبي صلى الله عليه وسلم العدول عن قتلهم ..
فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هم لك ..
ثم عدل عن قتلهم .. لكنه صلى الله عليه وسلم أخرجهم من المدينة .. وطرَّدهم من ديارهم ..
إن الصالحات .. القابضات على الجمر .. عفيفاتٌ مستوراتٌ ..
تموت إحداهن ولا تهتك سترها .. بل قد ..
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ..
أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كانت دائمة الستر والعفاف ..
فلما حضرها الموت ..
فكرت في حالها وقد وضعت جثتها على النعش .. وألقي عليها الكساء .. فالتفتت إلى
أسماء بنت عميس ..
وقالت يا أسماء : إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء ..
إنه ليطرح على جسد المرأة الثوب فيصف حجم أعضائها لكل من رأى ..
فقالت أسماء : يا بنت رسول الله .. أنا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة ..
قالت : ماذا رأيتِ .. فدعت أسماء بجريدة نخل رطبة فحنتها .. حتى صارت مقوّسة كالقبة .. ثم طرحت عليها ثوباً .. فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله .. تُعرف بها المرأة من الرجل ..فلما توفيت فاطمة .. جعل لها مثل هودج العروس .. هذا حرص فاطمة على الستر وهي جثة هامدة .. فكيف لما كانت حية ؟!
سبحان الله !!
أين أولئك الفتيات المسلمات .. اللاتي نعلم أنهن يحببن الله ورسوله ..
وقلوبهن تشتاق إلى الجنة .. ولكن مع ذلك :
تذهب إحداهن إلى المشغل النسائي فتكشف عورتها طائعة مختارة لتقوم امرأة أخرى بإزالة الشعر من أجزاء جسدها .. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي : ( ما(149/21)
من امرأة تضع ثيابها .. في غير بيت زوجها .. إلا هتكت الستر بينها وبين ربها ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيما صح عند البيهقي : ( شر نسائكم المتبرجات المتخيلات ، وهن المنافقات ، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم ) ..
بل .. أين الفتيات المسلمات اللاتي نؤمل فيهن أن ينصرن الإسلام .. ويبذلن أنفسهن وأرواحهن خدمة لهذا الدين ..
فنفاجأ بإحداهن قد لبست العباءة المطرّزة .. أو الكعب العالي .. ثم ذهبت إلى سوق ..
أو حديقة .. أو تلبس إحداهن البنطال .. وتقول : لا يراني إلا إخوتي .. أو أنا ألبسه بين النساء .. وكل هذا لا يجوز .. كما أفتى بذلك العلماء ..
بل قد تزيد بعض النساء بأن لا تكتفي بعمل المعصية بل تجرّ غيرها من الفتيات إليها .. فتنشر الصور المحرّمة .. أو أرقام الهواتف المشبوهة .. أو المجلات المليئة بالعهر والفساد .. والله تعالى يقول : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ..
ــ
إن تساهل المرأة بالتكشف والسفور .. يؤدي إلى فساد حياتها .. وأن تكون أحقر عند
الناس من كل أحد ..
سألت عدداً من الشباب .. ممن يتتبعون الفتيات في الأسواق وعند بوابات المدارس ..
كيف تنظرون إلى الفتاة التي تستجيب لكم فقالوا لي جميعاً – والله - : إننا نحتقرها
ونلعب بها وبعقلها .. فإذا شبعنا منها ركلناها بأرجلنا .. بل قال لي أحدهم : والله
يا شيخ إني إذا ذهبت إلى السوق ورأيت فتاة عفيفة قد جمعت على نفسها ثيابها فإنها
تكبر في عيني .. ولا أجرؤ على الاقتراب منها .. بل والله لو رأيت أحداً يقترب منها
لتشاجرت معه ..
بل انظري إلى ما يحدث في البلاد التي يزعمون أن فيها حرّية ..
فقد بلغت المرأة من التكشف والسفور .. بل التفسخ والانحطاط .. ما ندمت عليه ..
يغتصب يومياً في أمريكا ألفٌ وتسعمائة فتاة .. عشرون في المائة منهن يغتصبن من قبل آبائهن(149/22)
..!!
ويقتل سنوياً في أمريكا مليون طفل ما بين إجهاض متعمد أو قتل فور الولادة !! وبلغت
نسبة الطلاق في أمريكا ستين في المائة من عدد الزيجات ..!! وفي بريطانيا مائة وسبعون شابة تحمل سفاحاً كلَّ أسبوع !!
كم من امرأة هناك والله تتمنى ما أنتِ عليه من تستر وعفاف ..
بل إن النساء لما تكشفت هناك .. انتشرت الفواحش .. وكثرت السرقات وأنواع الجرائم ..
والشيطان طالما استعمل بعض النساء لتحقيق الفساد في الأرض .. ومن استغواها الشيطان .. فأطاعته وقدمت شهوات نفسها .. وتتبعت الموضات .. في اللباس .. والعباءة .. والنمص .. والوشم .. والأغاني .. والأفلام .. والمجلات .. وصارت هذه الشهوات أغلى عندها من اتباع شريعة ربها .. فهي عاصية .. وما خلقت النار إلا لتأديب العصاة ..
أخرج مسلم عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً .. فسمعنا وجبة .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما هذا ؟
فقلنا : الله و رسوله أعلم ..
قال : هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً .. فالآن انتهى إلى قعرها ..قال الله
: { خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } ..
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين * ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون *
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } ..
أما طعامهم فيها فشجرة الزقوم : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون } ..
أما حالهم في المحشر بين الناس فهم كما(149/23)
قال الله :{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً } ..
هذا حال من عصت ربها .. وأهملت آخرتها ..
حتى خفت موازينها .. وتبرأ منها أبوها وأمها ..
ولم تنفعها صديقاتها .. ولا أساورها ومجلاتها ..
وأهل النار .. هم في النار لا ينامون ولا يموتون ..
يمشون على النار .. ويجلسون على النار ..
ويشربون من صديد أهل النار .. ويأكلون من زقوم النار ..
فرشهم نار .. ولحفهم نار .. وثيابهم ونار .. وتغشى وجوههم النار ..
قد ربطوا بسلاسل بأيدي الخزنة أطرافها ..
يجرونهم بها في النار .. فيسيل صديدهم .. ويرتفع صراخهم ..
ويلقى الجرب على جلودهم .. فيحكّون جلودهم .. حتى تبدو العظام ..
ولو أن رجلاً أدخل النار .. ثم أخرج منها إلى الأرض ..
لمات أهل الأرض من نتن ريحه .. وتشوّه خلقه ..
{ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } ..
{ فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون
* تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون *
فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } ..
ــ
والقابضات على الجمر ..
لا تعيش إحداهن لنفسها فقط .. بل تحمل هم هذا الدين .. ليس هم إحداهن لباسها وحذاؤها .. وتسريحة شعرها .. وإنما همها الأكبر كيف تخدم هذا الدين .. إذا رأت عاصية فكيف تنصحها .. فتجدين أنها مباركة أينما كانت .. تفيد النساء في مجالسهن ..
توزع عليهن الأشرطة النافعة .. تنصح هذه .. وتتودد(149/24)
إلى هذه .. فهي أحسن الناس قولاً
.. { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين }
* * * * * * * *
القابضات على الجمر ..
هن نساء صالحات .. تغض إحداهن بصرها عن النظر إلى الرجال .. بل وتغض بصرها عن النظر إلى من قد تُفتن بها من النساء .. ومن تساهلت بالنظر الحرام .. والخلوة المحرمة .. جرّها ذلك إلى كبيرة الزنا .. أو السحاق عياذاً بالله ..
{ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } ..
وعند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجالاً ونساءً عراة في مكان ضيق مثل التنور .. أسفله واسع وأعلاه ضيق .. وهم يصيحون ويصرخون .. وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم .. فإذا أتاهم ذلك اللهب صاحوا من شدة حره ..قال صلى الله عليه وسلم : فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟
قال : هؤلاء الزناة والزواني .. فهذا عذابهم إلى يوم القيامة .. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .. نسأل الله العفو والعافية .
ومن تساهلت بالمعصية الصغيرة جرتها إلى الكبيرة .. وخشي عليها من سوء الخاتمة ..
والله يقول { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } ..
ذكر ابن جرير في تفسيره .. إن راهباً من بني إسرائيل تعبد ستين سنة ..
وأن الشيطان أراد أن يغويه فلم يقدر عليه ..
فمرضت فتاة لها ثلاثة إخوة ..
فجاؤوا بها إليه .. وجعلوها في بيت قريب منه .. ليأتي إليها ويداويها ..
فوسوس له الشيطان مراراً .. حتى خلا بها .. فوقع عليها وحملت منه ..
فقال له الشيطان : الآن يعلم أخوتها .. فيفضحوك ..
فاقتلها .. وقل لهم : ماتت فصليت عليها ودفنتها ..
فعمد إليها فقتلها ودفنها .. فلم يلبث أخوتها أن علموا به ..
فاشتكوه إلى ملكهم فأمر بصلبه وقتله ..
فلما رُبط ليقتل .. أتاه الشيطان .. وقال له :
أنا صاحبك الذي وسوست لك حتى أوقعتك ..
فاسجد لي سجدة واحدة .. وأخلصك مما أنت فيه ..
فخرّ له الراهب ساجداً .. فلما سجد له .. قال له الشيطان :
إني بريء منك ..(149/25)
إني أخاف الله رب العالمين ..
فذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } ..
واعلمي أن المؤمنات إذا ذُكرن تذكرن ..
ذكر ابن قدامة في كتابه التوابين :
أن قوماً فساق .. أمروا امرأة ذات جمال أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه .. وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم ..
فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب .. وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ..ثم تعرضت له حين خرج من مسجده .. فنظر إليها .. فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة ..
فقال لها الربيع : كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك ؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين ؟ أم كيف بك لو قد ساء بك منكر ونكير ؟ فصرخت صرخة .. وبكت .. ثم تولت إلى بيتها .. وتعبدت .. حتى ماتت ..
وذكر العجلي في تاريخه :
أن امرأة جميلة بمكة وكان لها زوج فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة ..
فقالت لزوجها : أترى يرى أحد هذا الوجه ولا يفتتن به ؟!
قال : نعم .. قالت : من ؟! قال : عبيد بن عمير العابد الزاهد في الحرم ..
قالت : أرأيت إن فتنته .. وأكشف وجهي عنده ..
قال : قد أذنت لك ..فاتته كالمستفتية فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام ..فأسفرت
عن وجه مثل فلقة القمر ..
فقال لها : يا أمة الله .. غطي وجهك واتق الله ..
فقالت : إني قد فتنت بك ..
فقال : إني سائلك عن شيء .. فإن أنت صدقت .. نظرت في أمرك ..
قالت : لا تسألني عن شيء إلا صدقتك ..
قال : اخبريني .. لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك .. أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة .. قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أدخلت في قبرك فأجلست للمساءلة .. أكان يسرك إني قضيت لك هذه الحاجة ؟..
قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك .. أكان
يسرك أنى قضيت لك(149/26)
هذه الحاجة ؟
قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين تنجين أم لا .. كان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة ..
قالت : اللهم لا .. قال : فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين .. كان يسرك إني قضيت لك هذه الحاجة ؟
قالت : اللهم لا .. قال : فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة .. كان يسرك إني قضيت لك
هذه الحاجة ؟ قالت : اللهم لا ..قال : فاتقي الله يا أمة الله .. فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك .. فرجعت إلى زوجها ..
فقال : ما صنعت ؟ قالت : أنت بطال .. ونحن بطالون .. الناس يتعبدون ويستعدون للآخرة .. وأنا وأنت على هذا الحال ..
فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة .. حتى ماتت ..
وختاماً :
أيتها الجوهرة المكنونة .. والدرةُ المصونة ..
يا مربية الأجيال .. وصانعة الرجال ..
هذه وصايا استخرجتها لك من مكنون نصحي ..
سكبت فيها روحي .. وصدقتكِ فيها النصحَ والتوجيه ..
أسأل الله تعالى أن يحفظك ويحميك من كل سوء ..
وأن يجعلك مباركة في نفسك وأهلك وولدك ..
اللهم وفق وليَّ أمرنا لمل تحب وترضى ..(149/27)
غض البصر
كتبه : هيثم جواد الحداد
ملخص الخطبة
1- أهمية الحديث عن غض البصر. 2- فتنة النساء والتحذير منها. 3- مسوغات الإقامة في بلاد الكفر. 4- فوائد غض البصر عن الحرام. 5- وسائل معينة على غض البصر.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الفتن في هذه الدنيا متنوعة متعددة، وهي راجعة إلى نوعين اثنين: فتن الشبهات، وفتن الشبهات، وكل من هذين النوعين يتبدل ويتلون بأشكال مختلفة ويختلفة قوة وضعفاً من حين لآخر.
وفي هذه البلاد، ومع دخول هذا الفصل فصل الصيف، تهاجمنا فتنتة عمياء لا يكاد يسلم من أذاها، ولا ينجو من خطرها من ابتلي بالسكن هذه الديار.
أيها الإخوة، مع حلول فصل الصيف، وعندما تشتد حرارة هذه الشمس ولو بشيء يسير، يتحين أهل هذه البلاد هذه الفرصة بعد طول انتظار وعناء، فينسلخون من ملابسهم، ويتفنون في إظهار أجسادهم، ويتسابقون في تقصير ألبستهم، وصدق الله عز وجل إذ يقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
أيها المؤمنون، لعلكم أدركتم هذه الفتنة وطبيعتها، إنها فتنة النظر المحرم إلى النساء.
أيها الإخوة، قد يسأل أحدكم قائلاً: لماذا نتكلم عن غض البصر؟
نتكلم عنه لأمور:
إن أكبر فتنة سيتعرض لها الإنسان في هذه الحياة الدنيا هي فتنة المسيح الدجال، لكن هذه قد لا تصيب الناس جميعهم، فمن مات قبل أن يتعرض لها، فقد أمن مصيبتها.(150/1)
يتلو هذه الفتنة، فتنة الرجال بالنساء، في صحيح البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاء)). وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
أيها الإخوة، وحتى لا نقع في فهم خاطئ لهذا الحديث، فنقصر الفتنة فيه على فتنة الشهوة الجنسية المحرمة، سواء عن طريق النظر، أو عن طريق الزنا، فإن المراد بالفتنة هنا عموم الفتنة من عموم النساء، سواء كانت زوجة أم أجنبية، وسواء كانت فتنتها الشهوة الجنسية، أم الصد عن ذكر الله والانشغال بها عن طاعة الله، كما قال الله عز وجل: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14].(150/2)
أيها المؤمنون، وفتنة النساء هذه خطيرة جداً، حيث أوقعت في شباكها جماعة من العباد والصالحين، حتى صرفتهم عن زهدهم وتنسكهم، وعبادتهم لله عز وجل، بل إن بعضهم مرق من دين الإسلام بسبب امرأة، وما القصة التي اشتهر ذكرها عن جمع من أهل السير والتاريخ والتفسير، ببعيدة عنا عن جمع من الصحابة والتابعين، وذكرها ابن جرير في تفسيره من عدة أوجه أحدها عن علي بن أبي طالب قال: إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنّها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها، فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة، فسجد له، فقال: إني برىء منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنه لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء، وهو كفر من بقي أيضاً.
وعن سعيد بن المسيب قال: ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء.
أيها المؤمنون، هذه الفتنة المدلهمة، والخطر العظيم، له مداخل ووسائل يلج بها الشيطان على الإنسان، أول مداخل هذه الفتنة، هو النظر إلى النساء، وصورهن، وأشكالهن.
النظر إلى الصور الجميلة يا عباد الله، بلاء ابتلينا به، ومحنة أذهلت العقول، وصهرت أفئدة الرجال، وتلاشى معها إيمان كثير من المسلمين، وصرفت قلوب آخرين عن البر والتقوى.(150/3)
النظر إلى النساء، فتنة ليس لها من دون الله حام ولا مانع، مصيبة كبيرة، ومفسدة ضخمة، وشر مستطير، وبلاء ومحنة، اللهم اعصمنا منها، واحفظنا عن الوقوع فيها، وارحمنا يا أرحم الراحمين، فإنه لا حول لنا ولا طول بها.
في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ : ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ)).
أيها الإخوة، النظر بريد الزنا، قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وقال الحجاوي: فضول النظر أصل البلاء لأنه رسول الفرج , أعني الآفة العظمى والبلية الكبرى , والزنا إنما يكون سببه في الغالب النظر , فإنه يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والفكرة , فهذه الفتنة من فضول النظر , وهو من الأبواب التي يفتحها الشيطان على ابن آدم.
قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].(150/4)
وتأملوا أيها المؤمون ما في هذه الآية من البلاغة الغوية، وسمو التشريع، وفصاحة الخطاب، فقد قال الله عز وجل: يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ولم يقل يغضوا أبصارهم، ومن هنا على رأي كثير من المفسرين للتبعيض، لأن أول نظرة لا يملكها الإنسان، وإنما يغض فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج، فلم يقل: يحفظوا فروجهم، وقال: وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ، إذ حفظ الفرج عام.
ثم تأمل كيف بدأ بالأمر بحفظ البصر ثم أتبعه بحفظ الفرج، وذلك لأنّ البصر الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه.
ولهذا قالوا: النواظر صوارم مشهورة، فأغمدها فى غمد الغض والحياء من نظر المولى، وإلا جرحك بها عدو الهوى[1].
وما أحسن قول الشاعر :
وغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
أيها المؤمنون، في الديار الكافرة التي طغا أهلها في البلاد فأكثروا فيها الفساد، إذا نظرت أمامك فسيقع نظرك على محرم، وإذا صرفته إلى الجهة اليمنى، فستشاهد صورة قبيحة، وإذا التفت إلى يسارك فسيمر أمام ناظريك شيطان في صورة امرأة شبه عارية، وإذا نظرت أسفل منك فسترى مفاتن من نوع آخر، فأين تنظر، انظر إلى السماء لتدعو الله عز وجل أن يهدي أهل هذه البلاد، وأن يرحمنا وإياهم فلا ينزل عليهم حجارة من سجيل تحرق أجسادهم العارية، فإن لم يهدهم فندعوه أن يخرجنا من هذه البلاد سالمين في ديننا وأعراضنا، وأهلينا، وأن يهدي بلاد المسلمين فلا تحذو حذوهم في هذا العري والفجور، وأن تلتزم الإسلام نهجاً وتقرب أهل الخير بدل أن تضيق على أهل الخير حتى تضطرهم للقدوم إلى هذه الديار.(150/5)
أيها الإخوة، مظاهر الفجور التي نشاهدها بأم أعيننا صباح مساء، تعيد علينا السؤال المهم والخطير، ما هو المسوغ الشرعي لبقائنا في هذه البلاد، هذا السؤال المحرج الذي كثيراً ما تسائلنا به في دواخل أنفسنا، وكثيراً ما تهربنا من الإجابة عنه، وكثيراً ما غالطنا عند الإجابة عنه حقائق شرعية، بل وواقعية.
أيها المؤمنون، وكما ذكرت قبل، فإن الحق مؤلم، والصراحة مزعجة، ومواجهة المشكلة تحتاج إلى شجاعة وإقدام، فلذا أريد أن ألخص لكم جواب هذا السؤال فيما يلي:
سكنى هذه الديار لا تجوز إلا بتحقق ثلاثة شروط:
الأول: الأمن على الدين، بحيث يكون لدى المقيم من العلم، والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه من الثبات على دينه، والحذر من الزيغ والإنحراف، ومولاة الكافرين ومحبتهم.
الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة، والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلى جماعة، وكذلك لا يمنع من الصيام والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين.
الثالث: المسوغ الشرعي. ولا نريد أن نفصل في هذه الشروط.
لكن ليسأل كل منا نفسه عن مدى تحقق هذه الشروط، وليتذكر قول الرسول : ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)).
أيها الإخوة، ولما كان النظر المحرم بهذه الدرجة من الخطورة، وهذه المنزلة من الغواية، كان لغض البصر فوائد كثيرة، يسر الله لبيانها العالم الرباني طبيب القلوب الشيخ ابن قيم الجوزية، وها نحن نذكر نتفاً من تلك الفوائد التي صاغها يراعُه:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة:
فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليـ ـه ولا عن بعضه أنت صابر(150/6)
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه، والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه، وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.
وقال الشاعر:
إذا أنت لم ترع البروق اللوامحا ونمت جرى من تحتك السيل سائحا
غرست الهوى باللحظ ثم احتقرته وأهملته مستأنسا متسامحا
ولم تدر حتى أينعت شجراته وهبت رياح الوجد فيه لواقحا
فأمسيت تستدعي من الصبر عازبا عليك وتستدني من النوم نازحا
الفائدة الثانية:
أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه، ولهذا ـ والله أعلم ـ ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ [النور:35]، عقيب قوله: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].
الفائدة الثالثة:
أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة، تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها، فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها، كما قيل:
مرآة قلبك لا تريك صلاحه والنفس فيها دائماً تتنفس
وقال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال لم تخطىء فراسته، وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه، فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته، فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.(150/7)
الفائدة الرابعة:
أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل له سلطان البصير مع سلطان الحجة، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه، قال الحسن: إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين، إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
أيها المؤمنون، إن فهم هذا وإداركه يبين لنا سبباً من أسباب الذل الذي ضرب على هذه الأمة في هذه العصور، لقد أذلتنا المعاصي، وأسرتنا الذنوب، وأوهن قوانا البعد عن الله، فخارت لنا كل قوة، ووهنت لنا كل عزيمة، وأصبحنا أهون الخلق، وانظر في حال قنواتنا الفضائية التابعة لدولنا الإسلامية تعلم أين نحن.
وبهذا المناسبة، فأقول عرضاً: هذا الكلام، أعني اتهام قنواتنا الإعلامية بنشر الرذيلة، وبث الفساد، يريح النفس، ويسلي القلب لأن فيه إلقاء للتعبة على الآخرين، وينسى الفرد منا مجابهة الحقيقة، ومواجهة الصراحة، إذا كان هؤلاء يصنعون الفساد في هذه القنوات الفضائية، فما الذي يدعونا لهذا الفساد بجلب هذه القنوات إلى منازلنا، ثم يجبرنا على مشاهدتها؟
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقه فإنه يأتيك بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الأيام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
الفائدة الخامسة:
أيها الإخوة، من فوائد غض البصر أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.(150/8)
وأيضاً فإنه لما كفّ لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وهاهنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السادسة:
أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه فهو كما قيل: طليق برأي العين وهو أسير، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار كما قال القائل:
كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
الفائدة السابعة:
أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول، فمتى هتك الحجاب وقع في المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد، فغض البصر يسد عنه هذا الباب.
أيها المؤمنون، وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهنا على بعضها.
أيها المؤمنون، والآن وبعد بيان خطورة هذا الآمر، وبيان أهمية غض البصر، يرد علينا سؤال هام جداً، ولعل قد خطر بخاطركم كلكم، ألا وهو ما هي الوسائل المعينة على غض البصر؟
أيها المؤمنون، نعم هو سؤال هام جدا، بل هو سؤال محير، لا سيما في هذه البلاد، ولا سيما في هذه الأجواء الصيفية.
أيها الأخ المبارك، إليك بعض الوسائل التي تعينني وتعينك على خوض هذه المعركة القاسية مع النفس، والهوى، والشيطان، فارع لي أذناً صاغية، وامنحني فؤادك الخير، وامنحني عقلك النير لأقول لك:
القاعدة الأولى: إذا نظرت نظر الفجأة فاصرف بصرك:
في صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله البجلي قال سَأَلْت رَسُول اللَّه عَنْ نَظْرَة الْفَجْأَة, فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِف بَصَرِي.(150/9)
قال النووي في شرح مسلم وَمَعْنَى نَظَر الْفَجْأَة أَنْ يَقَع بَصَره عَلَى الْأَجْنَبِيَّة مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِي أَوَّل ذَلِكَ , وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِف بَصَره فِي الْحَال , فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ , وَإِنْ اِسْتَدَامَ النَّظَر أَثِمَ لِهَذَا الْحَدِيث , فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِف بَصَره مَعَ قَوْله تَعَالَى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ.
أيها المؤمنون، كما ذكرنا فإن بصر الإنسان في هذه البلاد معرض في كل دقيقة، بل في كل لحظة إلى الوقوع على صورة محرمة، فماذا يفعل؟
اصرف بصرك ولو أن تضطر لإغماض عينيك، واعلم يا عبدالله أنك إنما تتعامل مع الله، مع ربك ومولاك، من إذا غضب ألقى بك في نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم.
القاعدة الثانية: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى و ليست لك الآخرة)[2] رواه الإمام أحمد وأبوداود وهو حديث حسن.
وهذه قاعدة متصلة بالقاعدة السابقة، ومكملة لها، وهي قاعدة ذهبية في غض البصر وحفظه عن الحرام، لا سيما في هذه البلاد.
قال ابن الجوزي : "وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب , ولا يتأمل بها المحاسن, ولا يقع الالتذاذ بها , فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم".
القاعدة الثالثة: تجنب الجلوس والتسكع في الطرقات:(150/10)
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ)).
قال النووي: "هَذَا الْحَدِيث كَثِير الْفَوَائِد, وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة, وَأَحْكَامه ظَاهِرَة, وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَب الْجُلُوس فِي الطُّرُقَات لِهَذَا الْحَدِيث".
أيها الإخوة، نههاهم الرسول عن الجلوس في الطرقات لأنها مظنة التعرض للنظر المحرم، وارتكاب منهيات أخرى، فلذلك قال لهم النبي : ((فإن كان لابد))، فأعطوا الطريق حقه، وذكر من حق الطريق غض البصر.
أيها الإخوة، يشترك مع الطرقات هذه التي هي مظنة النظر المحرم، الأماكن العامة التي يكثر فيها التفسخ، كبعض الحدائق والأسواق، وللأسف إن كثيراً من المسلمين يتهاونون في هذا الأمر، فيخرجون للنزهة في مثل هذه الحدائق مع علمهم بأنها مليئة بمظاهر التفسخ والانحلال والعري، ثم بعد ذلك يطالبون بالحلول العملية المعنية على غض البصر.
فإن قال قائل: لكن لا يستطع الإنسان حبس نفسه بالبيت، فلا بد من الخروج لشراء الحوائج، والنزهة، فنقول أولا: لا بد أن يكون ذلك بقدر الحاجة، ولا يحدث فيه توسع، ثم ليتجنب الإنسان الأزمنة والأمكنة التي هي مظنة الفساد، وبعد ذلك نقول له كما قال الرسول لأصحابه: ((فإن كان ولا بُد فأعطوا الطريق حقه... غض البصر، وكف الأذى)).(150/11)
أيها الإخوة، ما أشبه هذه البلاد في هذه الأيام، دور النظافة والاستحمام التي وجدت في بعض البلاد الإسلامية في عصور سابقة، دور النظافة هذه كانت تسمى بالحمامات، وليس المقصود بها أماكن قضاء الحاجة، بل هي أماكن عامة تتوفر فيها التدفئة والماء الساخن الذي لا يتوفر لكل أحد في تلك الأزمنة.
هذه الدور يدخلها عموم الناس من الرجال فقط، أو النساء فقط، ولا يراعون فيها حفظ عوراتهم وسترها عن أعين الناس، ومع أنها تخلو عن الاختلاط بين الرجال والنساء، إلا أن العلماء ذكروا لها أحكاماً خاصة، لأن فيها كشفاً للعورات، وهذه الأحكام التي ذكرها العلماء للتك الدور كأنما ذكروها لهذه البلاد.
قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشر شروط، نذكر منها ما يلي:
الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهر عن الرحضاء، ومعنى هذا أن الدخول لمجرد الترفه الذي لا حاجة له به.
الثاني: أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث: أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور، وغير ذلك.
فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر.
---
[1] بتصرف من تفسير الثعالبي (3/116).
[2] (حم د ت ك) عن بريدة. تحقيق الألباني. (حسن) انظر حديث رقم (7953) في صحيح الجامع.
الخطبة الثانية
وبعد: فمن القواعد المعينة على غض البصر: قوله تعالى.
القاعدة الرابعة: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
قال ابن عباس: (هو الرجل يكون جالساً مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها، وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره, فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر, فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره, وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها).
وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه[1].
وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى.(150/12)
سئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره. وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
القاعدة الخامسة: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيمامة:14، 15].
يكثر الإنسان من البحث عن الأعذار في عدم إمكانية غض البصر، وأنه أمر غير واقعي، ويبدأ الشيطان بحياكة صور متعددة من الأعذار، ويزين له الاتكال عليها من أجل أن يطلق بصره، ويسرح بنظره، فتارة يقول له مستهزئاً: الأحسن لك أن تكون أعمى، أو أن تصطدم بالناس، وتارة يقول له: سر كالأبله الذي لا يعرف شيئاً، وأخرى يقول له المهم نظافة القلب، ولو نظرت إلى النساء، وهكذا، إلى غير هذه من الأعذار، والجواب عن كل هذا: بل الإنسان على نفسه بصير، ولو أكثر من إلقاء المعاذير، وهذا معنى تلك الآية.
القاعدة السادسة: ((احفظ الله يحفظك)).
نعم احفظ الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، يحفظك من الإنزلاق في المعاصي، كما يحفظك إذا احتجت إليه في يوم شدة، ومن حفظ الله أن تلزم ذكره حتى تكون أقرب إليه، وأبعد عن الشيطان، فإذا مر عليك منظر، أو رأيت صورة فإنك تكون متصلاً بالله، مستمداً القوة منه، فيكون ذلك أقوى لأن تغض بصرك.
أيها الإخوة، من الغريب أن بعض الإخوة، مفرط في ذكر الله، بل هو مصاحب للشيطان، إما عن طريق الغناء الذي هو مزمار الشيطان كما قال غير واحد من السلف، وباعث على النشوة ومحرك للغرائز، وباعث على الخفة، مصاحب لكل ذلك، ثم بعد ذلك يقول: إن غض البصر غير ممكن في هذه الديار.
يا أخي أحطت نفسك بأسوار الشيطان، وتخندقت في حبائله، ثم بعد ذلك تطالب نفسك بما لا مقدرة عليه، وتتمنى أن تغض بصرك.(150/13)
ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
قال ابن تيمية: وتأمل كيف عصم الله عز وجل يوسف عليه السلام من فتنة امرأة العزيز، فقد كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقاً لقوله: وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42].
القاعدة الثامنة: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).
أيها الأخ المبارك، إن انزلاق عينيك في نظرة محرمة، واختلاسة طرفك لصورة نهيت عن النظر إليها، ينكت نكتة سوداء في قبلك، فاحذر أن تكثر هذه النقاط السود حتى يصبح قلبك أسود مرباداً كالكوز مجخياً أي منكوساً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب في هواه، فاحذر كل الحذر من هذا، وأتبع هذه السيئة بحسنة، حتى تجلو قلبك وتغسل فؤادك من ظلمة المعصية، وذلة المخالفة، وتضيق على شيطانك منافذه.
إن الشيطان يأتيك فيقول لك: ها قد وقعت، فانتهى أمرك، فلا تحمل نفسك ما لاطاقة لك به، فلا داعي لأن تعاهد نفسك بعدم النظر وتمنتع عن شيء تعلم يقيناً أنك ستعود إليه، وهكذا ينسج الشيطان الرجيم حولك خيوطاً من الوهم، والوهن، حتى تصبح أسيره، ولا تلبث أن يصدق عليك قول الله عزوجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ [الجاثية:23].
القاعدة التاسعة: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].(150/14)
روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال سمعت مصعب بن سعد يقول: كان سعد يعلمنا هذا الدعاء عن النبي: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر)).
الدعاء، خير سلاح، وأقوى وسيلة، وأنفع دواء، به استعانة برب الأرض والسماء، به النصر على الأعداء، فاستعن به يا أخي.
ادع الله دائماً أن يحفظ عليك إيمانك، وأن يقوي عزيمتك على غض البصر، وحفظ النظر، ادع الله في ليلك ونهارك، في أوقات الاستجابة، وفي كل وقت.
أيها الإخوة المؤمنون، ضيق الوقت يمنعني من بيان أمور أخرى متصلة بهذا الموضوع، منها ذكر بعض الحيل الشيطانية التي يحتال بها الشيطان لأجل أيقاعنا في هذه الفتنة، وكذا الحديث عن مشاهدة القنوات الفضائية، ثم الحديث عن شبكة الانترت والوسائل المعنية على السلامة من أخطارها، ولعل الله ييسر ذلك إن كان في العمر بقية.
أيها الإخوة، ما هي إلا كلمات سكبت فيها روحي، وأفرغت فيها مشاعري، أرجو أنها خرجت من قلب اعتصر من هول هذه المشكلة، والكلام يسير، لكن الفعل عسير.
---
[1] تفسير القرطبي.(150/15)
كونوا على الخير أعوانا
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
كونوا على الخير أعوانا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " آل عمران : 102
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " النساء : 1
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " الاحزاب : 70-71
أما بعد :
فقد جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ِ(2) سورة المائدة
وما أحوجنا في هذا الزمان الذي انتشر فيه الشرّ وانحسر فيه الخير وقلّ المعينون عليه أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة وندعو إليها ونحثّ عليها لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم . من إقامة أمر الدين وتقوية المصلحين ، وكسر الشرّ ومحاصرة المفسدين .
الإعانة ومرادفاتها في اللغة
قال صاحب الألفاظ المؤتلفة :
باب الاعانة :
يقال أعانه وأجاره وأيده .. ورافده وأغاثه وعاونه وعاضده وآزره وناصره .. وظافره وظاهره ومالأه ، والعون : الظهير ، ورجل معوان كثير المعونة للناس و استعان به فأعانه و عاونه وفي الدعاء : " رب أعني ولا تعن علي . " وتعاون القوم أعان بعضهم بعضا .(151/1)
ومن ثمرات التعاون الألفة ، قال الجرجاني في تعريف الألفة : اتفاق الآراء في المعاونة على تدبير المعاش
( انظر الألفاظ المؤتلفة 1/159 ، التعريفات 1 /51 ، ولسان العرب 13/298 )
وفي التعريف كلمة مهمة وهي : " اتفاق الآراء " وما توحي به من وحدة الهدف ، واجتماع القلوب على بلوغه .
معنى التعاون شرعا
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : " الإعانة هي : الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين ، بكل قول يبعث عليها ، وبكل فعل كذلك " ( تيسير الكريم الرحمن 2/238 بتصرف يسير )
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى " فقال : هو أن تعمل به وتدعو إليه وتعين فيه وتدل عليه . ( حلية الأولياء 7 /284 )
يقول القرطبي في تفسيره : ( وتعاونوا على البر والتقوى : هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ؛ أي ليُعِن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدال على الخير كفاعله ) الجامع لأحكام القرآن 3/6/33 .
وقال القاسمي في تفسيره : ( لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون ، أُمروا - إثر ما نهوا عنه - بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى .. ، ثم نُهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ) ( محاسن التأويل 3/22)
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى .. الآية :(151/2)
( اشتملت هذه الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم ، فإن كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين : واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق ، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونه والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولاسعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله ) ( زاد المهاجر 1 /6-7 ) .
ثم بيّن أهمية التعاون على البر والتقوى وأنه من مقاصد اجتماع الناس فقال : " والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا ، فإن العبد وحده لايستقلُّ بعلم ذلك ولابالقدرة عليه ؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه . ( زاد المهاجر 1/13)
فالإنسان ضعيف بوصفه فردا ، قوي باجتماعه مع الآخرين ، وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتما إلى التعاون مع غيره في أي مجال ، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم على البرّ والتقوى .
الفرق بين البر والتقوى ، والإثم والعدوان :
قيل البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكل برّ تقوى ، وكل تقوى بر . وقيل : البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، وقد ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البرّ رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته . ( أنظر الجامع لأحكام القرآن 6/47)
و" البرّ هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، والتقوى في هذه الآية : اسم جامع ، لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . ( تيسير الكريم الرحمن 2/238)(151/3)
وقال ابن القيم مفرقا بينهما : " وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فإن البرّ مطلوب لذاته إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم وأما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه ( زاد المهاجر 1 /11)
أما الفرق بين الإثم والعدوان :
فيقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : ( " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو التجري على المعاصي التي يأثم صاحبها .. " والعدوان " وهو التعدي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه ) ( تيسير الكريم الرحمن 2/239)
ومن القواعد المؤكّدة في التعاون :
أن المعاونة على البرّ : برّ
قال البيهقي - رحمه الله - : " الثالث والخمسون من شعب الإيمان ؛ وهو باب في التعاون على البر والتقوى قال الله عز وجل ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ومعنى هذا الباب أن المعاونة على البر بر لأنه إذا عدمت مع وجود الحاجة إليه لم يوجد البر وإذا وجدت وجد البر فبان بأنها في نفسها بر ثم رجح هذا البر على البر الذي ينفرد به الواحد بما فيه من حصول بر كثير مع موافقة أهل الدين والتشبه بما بني عليه أكثر الطاعات من الاشتراك فيها وأدائها بالجماعة " ( شعب الإيمان 6/101 )
ثم ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تمنعه من الظلم ، فذلك نصره ) أخرجه البخاري برقم 2444
ومعنى هذا أن الظالم مظلوم من جهته كما قال الله عز وجل ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ) فكما ينبغي أن ينصر المظلوم إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه كذلك ينبغي أن يُنصر إذا كان نفس الظالم ..(151/4)
التعاون بين البشر من فطرة الله التي فطر الناس عليها
يقول ابن خلدون في مقدمته :
الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكَنّ وغير ذلك وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التعاون ، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه . ( مقدمة ابن خلدون 1/429 )
وبيّن رحمه الله أهمية الاجتماع والتعاون لبني البشر وذكر أن التعاون يحصل به من الثمرة أكثر من حاجات المتعاونين فقال :
( قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وأنهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك ، والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا ، فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصته منه وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حدّاد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم ) . انتهى ( مقدمة ابن خلدون ج: 1 ص: 360)
ويقول في موضع آخر فيه مزيد بيان : ( إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصلح حياتها ولا بقاؤها إلا بالغذاء ، وهداه إلى التماسه بفطرته ، وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله ، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء ، غير موفية له بمادة حياته منه .
ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا ، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري .(151/5)
هب أنه يأكل حبا من غير علاج ؛ فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه ؛ الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد ، فلابد من اجتماع القُدُر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم ) ( مقدمة ابن خلدون 2/272-274 ) .
وهذا الكلام يدل قطعا على أن توزيع المهمات لإنجاز الأعمال من التعاون المطلوب ، وأن هذا التعاون بين الأفراد ينتقل بعمل كلّ منهم ليصبح وظيفة عامة اجتماعية تكفل العيش لعدد كبير من المجمتع ، فالتعاون بين الأفراد وتقسيم العمل ظاهرتان ملازمتان للإنسان ولا غنى له عنهما ، وأنّ تعاون المجموعة لا يُنتج ما يكفيهم فقط وإنما يزيد ويفيض .
وهذا كلام عام في الأمور الدينية والدنيوية ، فأما بالنسبة للتعاون الشّرعي فإن الأسباب الدافعة لدى المسلم للتعاون على البرّ والتقوى والمشاركة في الخير عدّة ومنها :
- تحصيل ثواب امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى "(151/6)
- زيادة الأجر والمضاعفة : قال ابن القيم رحمه الله : ( فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله ، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة ؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة ، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين ، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ، ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ، وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم . ( الروح 1/128)
- الحاجة : فإنّ كثيرا من الأهداف والمشاريع الإسلامية لا يُمكن تحقيقها فرديا ، ولهذا قيل : لا يعجز القوم إذا تعاونوا .
- إتقان العمل وسهولة القيام به يكون أبلغ مع التعاون والعمل الجماعي وذلك أن الاشتراك في العمل مع آخرين يجعله أخفّ مشقّة وأسهل لتوزّع الحمل على الجميع
والتعاون المأمور به في الآية :(151/7)
الأول : تعاون على البر والتقوى ؛ من الجهاد وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها ، يقول القرطبي في تفسيره : ( والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" ، ويجب الإعراض عن المتعدي، وترك النصرة له ورده عما هو عليه ) ( الجامع لاحكام القرآن 6/47 )
والتعاون المنهي عنه في الآية : التعاون على الإثم والعدوان ؛ كالإعانة على سفك دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو انتهاك عرض مصون ، أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك ..
والمعاونة تكون بالجاه والبدن والنفس والمال والقول والرأي .
مجالات التعاون على البر والتقوى :
إن التعاون على البر والتقوى يكون بوجوه كثيرة تفوق الحصر ، فكل عمل في مرضاة الله يكون التعاون والتظاهر عليه من التعاون على البر والتقوى .. ومن أمثلة ذلك :
أولا : التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين :
ويكون ذلك بنصرة الإسلام وأهله ، فقد حضّ الله تعالى عباده المؤمنين على نصرة دينه وأوليائه ، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة بشتى الوسائل المشروعة ، فقال عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله " الصف : 14 ، أي يساعدني في الدعوة إلى الله ( البداية والنهاية 2/85 ) .(151/8)
ولهذا ينبغي أن يتعاون المسلم مع أخيه المسلم في الدعوة إلى الله ، ليشدّ أزره ويتقوى به كما قال الله تعالى لموسى عليه السلام : " سنشد عضدك بأخيك " ( القصص : 35 ) ، وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : " وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " أي أعاونك وأؤيدك في نشر دعوتك ، وقال جَابِرٍ رضي الله عنه مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ رواه الإمام أحمد في مسنده 13934
ومن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين : جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل ، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال ، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله ؛ وقد تعاون الصحابة في الجهاد في مشاهد كثيرة ومواقف متنوعة ومن ذلك حفر الخندق وأصابهم في ذلك ما أصابهم فصبروا ، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال : " لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع " أخرجه البخاري برقم 4101 .
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم : التعاون على قتل مدعي النبوة ، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم .(151/9)
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن سلمة ، فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم ، قال : فأذن لي أن أقول شيئا ، قال : قل ، فأتاه محمد بن مسلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا وإني قد أتيتك أستسلفك ، قال : والله لتملّنّه ( ليزيد ضجركم منه ) قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، فقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين ، فقال : نعم ارهنوني ، قالوا : أيّ شيء تريد ؟ قال : ارهنوني نساءكم ، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب . قال : فارهنوني أبناءكم ؟ قالوا : كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم ، فيقال : رُهن بوسق أو وسقين ، هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ( يعني السلاح ) ، فواعده أن يأتيه ، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ فقال : إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ، إن الكريم لو دعي لطعنة بليل لأجاب ، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب ، فقال : ما رأيت كاليوم ريحا - أي أطيب - .. أتأذن لي أن أشم رأسك ، قال : نعم ، فشمه ، ثم أشم أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي ، قال : نعم ، فلما استمكن منه ، قال : دونكم ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . ( أخرجه البخاري برقم 4037 ) .
وقال ابن عبد البر في ترجمة زياد بن حنظلة التميمي : له صحبة ، وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتعاونوا على مسيلمة وطليحة والأسود . ( بغية الطلب في تاريخ حلب 9/3916 ) .
ثانيا : التعاون على إقامة العبادات :(151/10)
جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطبة خطبها في قوم : ( فانظروا رحمكم الله واعقلوا وأحكموا الصلاة واتقوا الله فيها وتعاونوا عليها وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى والصلاة أفضل البر ) ( طبقات الحنابلة 1/ 354 ) .
ومن أمثلة ذلك :
التعاون على قيام الليل
كان أهل البيت الواحد من أوائل هذه الأمة يتوزعون الليل أثلاثا يصلي هذا ثلثا ثم يوقظ الثاني فيصلي ثلثا ثم يوقظ الثالث فيصلي الثلث الأخير .
عن أبي عثمان النهدي قال تضيفت أبا هريرة سبعا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا ( سير أعلام النبلاء 2/609 )
وكان الحسن بن صالح وأخوه عليّ وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل وبالنهار قياما وصياما فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما وكان يقال للحسن حية الوادي يعني لا ينام بالليل . ( أنظر حلية الأولياء 7/ 328 )
ثالثا : التعاون في بناء المساجد :
قال الله تعالى : " مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ " التوبة :18(151/11)
وقد أورد البخاري في صحيحه بابا في التعاون في بناء المساجد ، وسطر فيه أحاديثا تبين بوضوح مدى التعاون بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد النبوي فعن أَبِي سَعِيدٍ في ذِكْر بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ ( رواه البخاري 428 )
وقام المسلمون يعمرون المساجد في البلاد التي فتحوها ، قال بعض الشعراء في وصف مسجد الكوفة لما بُني على أربعة أساطين ضخمة لم يحدث فيها خلل ولا عيب :
بنى زياد لذكر الله مصنعة ...... من الحجارة لم تعمل من الطين
لولا تعاون أيدي الإنس ترفعها ..... إذا لقلنا من اعمال الشياطين
( فتوح البلدان 1/342 )
رابعا : التعاون في مجال طلب العلم :
وهذا باب من التعاون يكفي في معرفته مطالعة كتب السير الغاصّة بالقصص التي بلغت من التعاون أوجه ، فهذا عمر رضي الله عنه يقول : كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ .. الحديث رواه البخاري 4792(151/12)
" وَكَانَ عُمَر مُؤَاخِيًا أَوْس بْن خَوْلِيّ لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ وَلا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ , وقَوْله ( جِئْته بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَر ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ الْوَحْي أَوْ غَيْره ) أَيْ مِنْ الْحَوَادِث الْكَائِنَة عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وفِي رِوَايَة " إِذَا غَابَ وَشَهِدْت أَتَيْته بِمَا يَكُون مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيِّ " يَحْضُر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غِبْت وَأَحْضُرهُ إِذَا غَابَ وَيُخْبِرنِي وَأُخْبِرهُ " . وَفِي رِوَايَة " لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ وَلَا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ " ( باختصار من فتح الباري : شرح الحديث السابق : كتاب النكاح )
وقد تعرض لطالب العلم ضائقة خلال طلبه فيهبّ إخوانه لمعاونته : قال عمر بن حفص الأشقر : كنا مع محمد بن إسماعيل ( وهو البخاري ) بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أياما فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفذ ماعنده ولم يبق معه شيء ، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث . ( تاريخ بغداد 2 / 13) .
وقد يعين العالم من ليس من أهل العلم ويحتسب بالإنفاق عليه أجر تفريغ العالم وطالب العلم للتدريس والطّلب : قال هياج بن عبيد كان لرافع قدم في الزهد وإنما تفقه الشيخ أبو إسحاق وأبو يعلى بن الفراء بمعاونة رافع لهما لأنه كان يحمل وينفق عليهما . ( سير أعلام النبلاء 18/52 )(151/13)
ويدخل في التعاون العلمي : التعاون في تأليف الكتب ، فقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله أنه " ولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان . " ( طبقات الشافعية ج: 4 ص: 30 ) فاستفدنا من ذلك تخريج ثلاثة كتب صارت من أهم المراجع لطلاب الحديث .
ومن هذا الباب أيضا شرح المواد الدراسية من الخبير بها للقاصر عن فهمها ، وكان بعض نبلاء المسلمين يشتري المصاحف والألواح ويوزعها على أطفال الكتاتيب معونة لهم على حفظ القرآن الكريم .
خامسا : التعاون في الدعوة والتعليم وإنكار المنكر
فهذ يقترح فكرة لموضوع وهذا يجمع قصصا واقعية عنه وهذا يعمل بحثا ميدانيا أو استبيانا حول الموضوع وآخر يجمع الأدلة الشرعية وكلام العلماء بشأنه وهذا يحشد الشواهد والأبيات الشعرية المتعلقة به وآخر أوتي موهبة في التحدّث يلقيه في محاضرة تسير بها الركبان . أو كاتب مجيد يخطّ بأسلوبه ذلك المحتوى من العمل المشترك في رسالة أو كتاب يؤثّر في نفوس القراء .
وعالم أو طالب علم لديه - مما فتح الله به عليه - ما يقدّمه في دورة علمية ، وآخر يملك خبرة إدارية يسيّر بها أعمالها وثالث عنده مال يبذله لإسكان الطلاب الفقراء وإعاشتهم فترة الدورة ، وهكذا وعصرنا الذي نعيش فيه يحتاج كثيرا إلى الأعمال المشتركة والبركة مع الجماعة .
وفي مجال إنكار المنكر المنكر تعاون عظيم أيضا : فهذا يجمع معلومات عن المنكر ويستقصي خبره في المجتمع وهذا يبحث حكمه شرعا وثالث يعين على إيصاله إلى من ينكره ويغيّره ، وآخر يخطب عنه ويحذّر منه .(151/14)
وهذا الاشتراك في العمل الصالح له اجر عظيم وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَالْمُمِدَّ بِهِ
رواه الترمذي 1561 وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
فلا بد أن تكون هناك أدوار تكاملية إذا أنّ كثيرا من المشروعات وأمور الدّين لا يمكن القيام بها فرديا ، وإتاحة المجال للتخصصات المختلفة أن تعمل بتعاون سيثمر نتائج باهرة .
سادسا : المعاونة في إقامة الأنشطة الخيرية والأعمال الإسلامية
والمشاركة فيها بالنفس والمال ، والجود عليها بالوقت ، والحثّ على الحضور ، وتكثير السّواد فيها ، وحسن استقبال روّادها ، وإتقان وضع برامجها وترتيب جداولها ، وشحذ الهمم لتنفيذ مهامّها ، والعمل على تحقيق مقاصدها ، ونشر فكرتها ، وتصحيح مسيرتها ، والذبّ عنها ، وحراسة أهلها ، ومقاومة محاولات هدمها وإعاقتها .
سابعا : التعاون في القيام بحقوق المسلمين :
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ( مسند الإمام أحمد 15147 )(151/15)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ ( رواه مسلم 3258 ) .
ففِي هَذَا الْحَدِيث : الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالإِحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالأَصْحَاب , وَالاعْتِنَاء بِمَصَالِح الأَصْحَاب , وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج , وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ , وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال , وَهَذَا مَعْنَى قَوْله ( فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره ) أَيْ : مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته . وَفِيهِ : مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل , وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا , وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة , وَعَلَيْهِ ثِيَاب , أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه , وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع ، ويدخل ضمنه مجالات متعدده ، منها :
إعانة الملهوف(151/16)
عن يزيد بن الأسود قال لقد أدركت أقواما من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هوي أو دجلة نادى يا لعباد الله فيتواثبون إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه ولقد وقع رجل ذات يوم في دجلة فنادى يا لعباد الله فتواثب الناس إليه فما أدركت إلا مقاصّه في الطين فلأن أكون أدركت من متاعه شيئا فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها . ( شعب الإيمان 6/ 107 )
فانظر اخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على نازلته وضرورته .
إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الاعتداءات
عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل - وفي رواية أي العمل أفضل - قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قال قلت أي الرقاب أفضل قال أنفَسها عند أهلها وأكثرها ثمنا - وفي رواية وأغلاها ثمنا - قال قلت أرأيت إن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لأخرق .. الحديث رواه مسلم 84 وهو في صحيح البخاري بلفظ تعين ضايعا .
وعند قوله أن تعين صانعا ( ضايعا ) أو تصنع لأخرق نتذكّر القصة العظيمة التي قصّها علينا ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف :
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) ..
آتيناه من كل شيء سببا أي من أسباب التمكين من الجنود وآلات الحرب وأعطيناه الأسباب والوسائل ، وهذا يعني أنّ صاحب الإمكانات تكون التبعة التي عليه أكثر من غيره بسبب ما أعطاه الله .
ثم قال عزّ وجلّ(151/17)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93)قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98) سورة الكهف ، ففي هذه الآيات صورة من صور التعاون على الخير ودفع الشر وصدّ حملات المفسدين .
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام ، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعانى أنه : كان حسن الأخلاق واسع المروءة رفيع السيادة والفتوة كريم الطباع مفضالا بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعى في قضاء حوايجهم وعلاج مرضاهم والقيام بمؤونتهم وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحرى عليها وإنفاقها في وجوه الخير وعمّر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها واعتنى بدَرَسة القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبا معلوما خصوصا في شهر رمضان .. وله الزيادة الواسعة النافعة في مسجد الفليحى بصنعاء وكان يضيق بالمصلين فأنفق عليه جل ماله وبنى لله مسجدا في ساحة سمرة معمر بصنعاء عمره في آخر أيامه ووقف له .. وكان كثير العوارض والأمراض متلقيا لها بالقبول . ( البدر الطالع 2 /192 )(151/18)
وكان بعض النبلاء المسلمين يعطي فقراء الفلاحين البذور ، والتقاوي إعانه لهم على زرع محاصيل يستفيدون منها . ومن صور التعاون العامة ؛ ما جاء في آداب الطريق وقد جمعها الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله :
جَمَعْت آدَاب مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى ....... الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشِ السَّلام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلام ........... وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ ........... وَأَغِثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ .......... أَذَى وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلانَا
التعاون في مواجهة شدائد العَيْش
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الناس أغنياء ، والبعض الآخر فقراء ، ؛ ليساعد بعضهم بعضا ، خاصة في أمور معاشهم ، ومعاونتهم على شظف الدنيا ، ومواساتهم فيها ، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى أنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ( صحيح البخاري 2306 )
قَوْلُهُ : ( إِذَا أَرْمَلُوا ) أَيْ فَنِيَ زَادهمْ , وَأَصْله مِنْ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنْ الْقِلَّةِ ، وفي الحديث : فَضِيلَة الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ , وَاسْتِحْبَاب خَلْطَ الزَّاد فِي السَّفَرِ وَفِي الإِقَامَةِ أَيْضًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
تعاون أصحاب المسئوليات فيما بينهم(151/19)
لعل من أهم صور التعاون ؛ تعاون كل من تجمعهم مهمة واحدة لإنجاز هذه المهمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى ، وهذا هو مفهوم توجيه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ حيث قَالَ يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا ( رواه البخاري 2811 )
وتلك الوصية النبوية جاءت لتؤصِّل عند جميع المسلمين دور التعاون في إنجاح جميع الأعمال والمهامّ حتى العظيم منها ، ولهذا كان من أوائل ما اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عقد أسباب التعاون ، وكان ذلك بأن آخى بين المهاجرين والأنصار ليحصل بذلك مؤازرة ومعاونة لهؤلاء بهؤلاء ( سير أعلام النبلاء 1/ 143 ) ؛ وذلك لأن المعاونة تورث المحبة والترابط .
وقد قيل لسعيد بن عامر بن حذيم : إن أهل الشام يحبونك ؟ قال : لأني أعاونهم وأواسيهم .
هذا وصور التعاون على البرّ والتقوى كثيرة جدا لا يُمكن حصرها ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جدا وهذا الذهبي رحمه الله لم يستدل من القرآن على مشروعية التعزية إلا بها فقال : رحمه الله : " واعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير وذكْر ما يسلّي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهوِّن مصيبته وهي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قول الله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ، وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية واعلم أن التعزية - وهي الأمر بالصبر - مستحب قبل الدفن وبعده قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت . ( الكبائر 1/188 ) .
وللتعاون أصول وضوابط حتى ذكر بعض المصنفين علما يسمى " بالسياسة المدنية " بعد ذكره علم تدبير المنزل فقال في أبجد العلوم :(151/20)
أ - علم التدبير المنزلي والحكمة المنزلية : وهي العلم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملوك ونحو ذلك ، وفائدة هذا العلم ان تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود .
ب - علم السياسة المدنية : وهو علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة وفائدته أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الابدان ومصالح بقاء نوع الإنسان . ( أبجد العلوم 2 /246 )
وهذا من أهم مقاصد المدنية ؛ ألا وهو التعاون على أمور المعيشة ، ومصالح الأبدان والنفوس ، فكيف إذن إذا كان التعاون من أجل مصلحة الدين ؟
التعاون على الشيطان
ورد في بعض الآثار في صفة المؤمن أخو المؤمن يتعاونان على الفتّان : أي الشيطان
والتعاون على الشيطان : أن يتناهيا عن اتباعه والافتتان بخُدَعه ( الفائق 3 /102 )
ولا يجوز لمسلم أن يعاون الشيطان على أخيه المسلم .. كما دلّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ . رواه البخاري 6777
قال ابن حجر رحمه الله :(151/21)
وَوَجْهُ عَوْنِهِمْ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَان يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُل لَهُ الْخِزْيُ فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ . وَوَقَعَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْن شُرَيْح وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَابْن لَهِيعَةَ ثَلَاثَتهمْ عَنْ يَزِيد بْن الْهَاد نَحْوه وَزَادَ فِي آخِره " وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ " زَادَ فِيهِ أَيْضًا بَعْد الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ " وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّبْكِيتِ وَهُوَ مُوَاجَهَتُهُ بِقَبِيحِ فِعْلِهِ , وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَر بِقَوْلِهِ " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ مَا اِتَّقَيْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , مَا خَشِيت اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , مَا اِسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ " وَفِي حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر عِنْد الشَّافِعِيّ بَعْد ذِكْر الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلام : بَكِّتُوهُ فَبَكَّتُوهُ , ثُمَّ أَرْسَلَهُ " وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاصِي بِالإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّه كَاللَّعْنِ . انتهى
الضرب الثاني من ضروب التعاون : التعاون على الإثم والعدوان
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان ، قال تعالى : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم ، وحيث أن المقصود الأساس في هذه الرسالة الحثّ على التعاون على الخير فأكتفي بهذه الصور للعكس ومن ذلك :
- التعاون على إقامة الشرك والكفر(151/22)
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة في بناء المساجد والأضرحة والقباب على القبور وجعل السّدنة الذين يأخذون النذور والقرابين وجمع التبرعات لصيانتها وترميمها ، ومن هذا الباب أيضا المعاونة على بناء كنائس النصارى
ومن القصص الجيدة في إنكار ذلك أبيات أرسلت لا بن شهاب لما عاون عرب طور سيناء على بناء البيعة بعكبرا ، يقول الشاعر المسلم يحثّ على رفض ذلك ومعاقبة من فعله :
أردتكم حصنا حصينا لتدفعوا نبال العدى عني فكنتم نصالَها
فيا ليت إذا لم تحفظوا لي مودتي وقفتم ، فكنتم لا عليها ولا لها
فيا سيف دين الله لا تنبُ عن هدى ودولة آل هاشم وكمالها
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى فتلك لعمري عثرة لن تُقالَها
أفي حكم حق الشكر إنشاء بيعة النـ صارى لتتلو كفرها وضلالها
يَشيد موذينا الدمشقيُّ بيعة بأرضك تبنيها له لينالها
وينفق فيها مال حران والرُّها وتفتيحها قسرا وتُسبى رجالُها
وترغم أنف المسلمين بأسرهم وتلزمهم شنآنَها ووبالَها
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة فتعرف منها حرامها وحلالها
ويركب في أسواقنا متبخترا بأعلاج روم قد أطالت سبالها
فخذ ماله واقتله واستصف حاله بذا أمر الله الكريم وقالها
ولا تسمعن قول الشهود فإنهم طغاة بغاة يكذبون مقالها
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم ليرضوك حتى يحفظوا منك مالها
بل من شروط أهل الذمة التي ذكرها العلماء : " أن لا يحدثوا كنيسة وأن يعاونوا المسلمين ويرشدوهم ويصلحوا الجسور فإن تركوا شيئا من ذلك فلا ذمة لهم . " معجم البلدان ج: 1 ص: 57
ولذلك كان من البلية والفساد العظيم فتح مجالات التعاون مع النصارى وغيرهم من أعداء الإسلام ؛ لما يترتب على ذلك من هدم القيم الإسلامية والمثل العليا للأمة ... يقول السلطان عبد الحميد :(151/23)
" إن طراز التفكير عند الأوربيين وعند النصارى طراز غريب ملىء بالتناقضات فلا يستطيع الإنسان أن يحدد رأيه فيهم فيوما تراهم عريقين صادقين ويوما سفلة ظالمين ، .. إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون ، لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم ، إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف " ( مذكراتي السياسية 1/196 )
- الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام ، قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن العشق : فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر ، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده ؛ وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان . انتهى ( الجواب الكافي 1/154 )
- التعاون على إحياء البدع وإقامتها
ومن ذلك المشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة .
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس ويكون في زمرة العمال الظلمة المترصدين في الطرق وغيرها . ( أنظر أبجد العلوم 2/58 )
- أن يدل رجلا على مطلوب ليقتل ظلما أو يحضر له سكينا وهذا يحرم لقوله : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ( شعب الإيمان 1/ 268 )
- المعاونة في الأغاني نظما وتلحينا وتنظيما لحفلاتها وتسجيلها ونشرها ، قال في شعب الإيمان 4/281 ويحرم كذلك تجهيز الشِّعْر للمغنين .
- المعاونة على المنكر عموما(151/24)
وشرّ المراتب في المنكر بعد ارتكابه المعاونة عليه ثم الرضا ثم المداهنة ثم السكوت عن الإنكار .
وعلى المسلم أن يصبر على أذى من يخالفهم لأجل منكرهم
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وذلك ان كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم ، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار أهلها ويؤثرون من يشاركهم في أمورهم وشهواتهم إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطّاع الطريق ونحو ذلك واما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدا له على ذلك وإما لئلا يعلو عليهم بذلك ويُحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منّته وخطره ونحو ذلك من الأسباب .. . انتهى ( الاستقامة2/256 )
وفي رفض التعاون على الإثم والعدوان يقول ابن القيم رحمه الله :
" الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات(151/25)
فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر ؛ فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتّب على موافقتهم ، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى ، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد ، فألم يسير يُعقِب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تُعقِب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله . انتهى ( إغاثة اللهفان 2/193 ) .
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى المحاربين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(151/26)
شكاوي وحلول
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )
أما بعد :
فقد وردت إليّ أسئلة من بعض الإخوان في بعض الدروس والمحاضرات تتضمن أموراً مما يُعانون ومشكلات مما يواجهون من أمراض قلبية ومصاعب نفسية وعقبات واقعية .
وكانت الإجابات عن تلك الأسئلة المكتوبة والمشكلات المعروضة في سلسلة دروس بعنوان شكاوى وحلول .
وقد أعدت النظر فيها بعد إعدادها للكتابة وأقدمها اليوم إلى إخواني رجاء الدخول في حديثه صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) صحيح مسلم والله أسأل أن يوفقني وإخواني المسلمين لفعل الخيرات واجتناب السيئات والنجاة يوم الحسرات إنه خير مسؤول وهو كل شيء قدير .
النوم عن صلاة الفجر
أخ يشتكي ويقول : إن صلاة الفجر تفوتني في كثير من الأيام ، فلا أصليها في وقتها إلا نادراً ، والغالب ألا أستيقظ إلا بعد طلوع الشمس ، أو بعد فوات صلاة الجماعة في أحسن الأحوال ، وقد حاولت الاستيقاظ بدون جدوى ، فما حل هذه المشكلة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد : فإن حل هذه المشكلة – كغيرها – له جانبان : جانب علمي ، وجانب عملي .(152/1)
أما الجانب العلمي فيأتي من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن يعلم المسلم عظمة مكانة صلاة الفجر عند الله عز وجل ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله ) مسلم ص 454 رقم 656 ، الترمذي 221 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) رواه الإمام أحمد المسند 2/424 ، وهو في صحيح الجامع 133 ، وقال : ( من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته ) ومعنى في ذمة الله : أي في حفظه وكلاءته سبحانه ، " من كتاب النهاية 2/168" والحديث رواه الطبراني 7/267 ، وهو في صحيح الجامع رقم 6344 . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :
( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون ) رواه البخاري الفتح 2/33 .
وفي الحديث الآخر : ( أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة ، في جماعة ) رواه أبو نعيم في الحلية 7/207 ، وفي السلسلة الصحيحة 1566 . وفي الحديث الصحيح : ( من صلّى البردين دخل الجنة ) رواه البخاري الفتح 2/52 . والبردان الفجر والعصر .
الناحية الثانية : أن يعلم المسلم خطورة تفويت صلاة الفجر ومما يبين هذه الخطورة الحديث المتقدم :(152/2)
( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ) وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن ) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/271 ، قال الهيثمي رجال الطبراني موثقون المجمع 2/40 . وإنما تكون إساءة الظن بذلك المتخلف عن هاتين الصلاتين لأن المحافظة عليهما معيار صدق الرجل وإيمانه ، ومعيار يقاس به إخلاصه ، ذلك أن سواهما من الصلوات قد يستطيعها المرء لمناسبتها لظروف العمل ووقت الاستيقاظ ، في حين لا يستطيع المحافظة على الفجر والعشاء مع الجماعة إلا الحازم الصادق الذي يُرجى له الخير .
ومن الأحاديث الدالة على خطورة فوات صلاة الفجر قوله صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ، فإن من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم ) رواه مسلم ص 454 ، ومعنى من يطلبه من ذمته بشيء يدركه أي من يطلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه والقيام بعهده يدركه الله إذ لا يفوت منه هارب ، حاشية صحيح مسلم ترتيب عبد الباقي 455 .
هاتان الناحيتان كفيلتان بإلهاب قلب المسلم غيرة ، أن تضيع منه صلاة الفجر فالأولى منهما تدفع للمسارعة في الحصول على ثواب صلاة الفجر ، والثانية هي واعظ وزاجر يمنعه من إيقاع نفسه في إثم التهاون بها .
وأما الجانب العملي في علاج هذه الشكاية فإن هناك عدة خطوات يمكن للمسلم إذا اتبعها أن يزداد اعتياداً ومواظبة على صلاة الفجر مع الجماعة ، فمن ذلك :
1-التبكير في النوم : ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ، فلا ينبغي للمسلم أن ينام قبل صلاة العشاء والمُشاهد أن غالب الذين ينامون قبل العشاء يمضون بقية ليلتهم في خمول وكدر وحال تشبه المرضى .(152/3)
ولا ينبغي كذلك أن يتحدث بعد صلاة العشاء ، وقد بين أهل العلم سبب كراهية الحديث بعدها فقالوا : لأنه يؤدي إلى السهر ، ويُخاف من غلبة النوم عن قيام الليل ، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو المختار أو الفاضل .
والمكروه من الحديث بعد صلاة العشاء كما قال الشراح : هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة راجحة فيها ، أما ما كان فيه مصلحة وخير فلا يكره ، كمدارسة العلم ، ومعرفة سير الصالحين وحكايتهم ، ومحادثة الضيف ، ومؤانسة الزوجة والأولاد وملاطفتهم ، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم وأنفسهم ، إلى آخر ذلك من الأسباب المباحة . فما الحال إذا تفكرنا فيما يسهر من أجله كثير من الناس اليوم من المعاصي والآثام إذن فعلى المسلم أن ينام مبكراً ، ليستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر ، وأن يحذر السهر الذي يكون سبباً في تثاقله عن صلاة الفجر مع الجماعة .
حقاً إن الناس يتفاوتون في الحاجة إلى النوم ، وفي المقدار الذي يكفيهم منه ، فلا يمكن تحديد ساعات معينة يُفرض على الناس أن يناموا فيها ، لكن على كل واحد أن يلتزم بالوقت الكافي لنوم يستيقظ بعده لصلاة الفجر نشيطاً ، فلو علم بالتجربة والعادة أنه لو نام بعد الحادية عشر ليلاً مثلاً لم يستيقظ للصلاة ، فإنه لا يجوز له شرعاً أن ينام بعد هذه الساعة .. وهكذا .
2- الحرص على الطهارة وقراءة الأذكار التي قبل النوم ، فإنها تعين على القيام لصلاة الفجر .
3- صدق النية والعزيمة عند النوم على القيام لصلاة الفجر ، أما الذي ينام وهو يتمنى ألا تدق الساعة المنبهة ، ويرجو ألا يأتي أحد لإيقاظه ، فإنه لن يستطيع بهذه النية الفاسدة أن يصلي الفجر ، ولن يفلح في الاستيقاظ لصلاة الفجر وهو على هذه الحال من فساد القلب وسوء الطوية .(152/4)
4- ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ مباشرة ، فإن بعض الناس قد يستيقظ في أول الأمر ، ثم يعاود النوم مرة أخرى ، أما إذا بادر بذكر الله أول استيقاظه انحلت عقدة من عُقد الشيطان ، وصار ذلك دافعاً له للقيام ، فإذا توضأ اكتملت العزيمة وتباعد الشيطان ، فإذا صلّى أخزى شيطانه وثقل ميزانه وأصبح طيب النفس نشيطاً .
5- لا بد من الاستعانة على القيام للصلاة بالأهل والصالحين ، والتواصي في ذلك ، وهذا داخل بلا ريب في قوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وفي قوله ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )
فعلى المسلم : أن يوصي زوجته مثلاً بأن توقظه لصلاة الفجر ، وأن تشدد عليه في ذلك ، مهما كان متعباً أو مُرهقاً ، وعلى الأولاد أن يستعينوا بأبيهم مثلاً في الاستيقاظ ، فينبههم من نومهم للصلاة في وقتها ، ولا يقولن أب إن عندهم اختبارات ، وهم متعبون ، فلأدعهم في نومهم ، إنهم مساكين ، لا يصح أن يقول ذلك ولا أن يعتبره من رحمة الأب وشفقته ، فإن الرحمة بهم والحدَبَ عليهم هو في إيقاظهم لطاعة الله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها )
وكما يكون التواصي والتعاون على صلاة الفجر بين الأهل ، كذلك يجب أن يكون بين الإخوان في الله ، فيعين بعضهم بعضاً ، مثل طلبة الجامعات الذين يعيشون في سكن متقارب ومثل الجيران في الأحياء ، يطرق الجار باب جاره ليوقظه للصلاة ، ويعينه على طاعة الله .
6- أن يدعو العبد ربه أن يوفقه للاستيقاظ لأداء صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإن الدعاء من أكبر وأعظم أسباب النجاح والتوفيق في كل شيء .
7- استخدام وسائل التنبيه ، ومنها الساعة المنبهة ، ووضعها في موضع مناسب ، فبعض الناس يضعها قريباً من رأسه فإذا دقت أسكتها فوراً وواصل النوم ، فمثل هذا يجب عليه أن يضعها في مكان بعيد عنه قليلاً ، لكي يشعر بها فيستيقظ .(152/5)
ومن المنبهات ما يكون عن طريق الهاتف ، ولا ينبغي للمسلم أن يستكثر ما يدفعه مقابل هذا التنبيه ، فإن هذه نفقة في سبيل الله ، وأن الاستيقاظ لإجابة أمر الله لا تعدله أموال الدنيا .
8- نضح الماء في وجه النائم ، كما جاء في الحديث من مدح الرجل الذي يقوم من الليل ليصلي ، ويوقظ زوجته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ومدح المرأة التي تقوم من الليل وتوقظ زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء رواه الإمام أحمد في المسند 2/250 وهو في صحيح الجامع 3494 .
فنضح الماء من الوسائل الشرعية للإيقاظ ، وهو في الواقع منشط ، وبعض الناس قد يثور ويغضب عندما يوقظ بهذه الطريقة ، وربما يشتم ويسب ويتهدد ويتوعد ، ولهذا فلا بد أن يكون الموقظ متحلياً بالحكمة والصبر ، وأن يتذكر أن القلم مرفوع عن النائم ، فليتحمل منه الإساءة ، ولا يكن ذلك سبباً في توانيه عن إيقاظ النائمين للصلاة .
9- عدم الانفراد في النوم ، فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل وحده رواه الإمام أحمد في المسند 2/91 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 60 . ولعل من حِكم هذا النهي أنه قد يغلبه النوم فلا يكون عنده من يوقظه للصلاة .
10- عدم النوم في الأماكن البعيدة التي لا يخطر على بال الناس أن فلاناً نائماً فيها ، كمن ينام في سطح المنزل دون أن يخبر أهله أنه هناك ، وكمن ينام في غرفة نائية في المنزل أو الإسكان الجماعي فلا يعلم به أحد ليوقظه للصلاة ، بل يظن أهله وأصحابه أنه في المسجد ، وهو في الحقيقة يغّط في نومه .
فعلى من احتاج للنوم في مكان بعيد أن يخبر من حوله بمكانه ليوقظوه .(152/6)
11- الهمة عند الاستيقاظ ، بحيث يهب من أول مرة ، ولا يجعل القيام على مراحل ، كما يفعل بعض الناس الذين قد يتردد الموقظ على أحدهم مرات عديدة ، وهو في كل مرة يقوم فإذا ذهب صاحبه عاد إلى الفراش ، وهذا الاستيقاظ المرحلي فاشل في الغالب ، فلا مناص من القفزة التي تحجب عن معاودة النوم .
12- ألا يضبط المنبه على وقت متقدم عن وقت الصلاة كثيراً ، إذا علم من نفسه أنه إذا قام في هذا الوقت قال لنفسه : لا يزال معي وقت طويل ، فلأرقد قليلاً ، وكل أعلم بسياسة نفسه .
13- إيقاد السراج عند الاستيقاظ ، وفي عصرنا الحاضر إضاءة المصابيح الكهربائية ، فإن لها تأثيراً في طرد النعاس بنورها .
14- عدم إطالة السهر ولو في قيام الليل ، فإن بعض الناس قد يطيل قيام الليل ، ثم ينام قبيل الفجر بلحظات ، فيعسر عليه الاستيقاظ لصلاة الفجر ، وهذا يحدث كثيراً في رمضان ، حيث يتسحرون وينامون قُبيل الفجر بقليل ، فيضيعون صلاة الفجر ، ولا ريب أن ذلك خطأ كبير ؛ فإن صلاة الفريضة مقدمة على النافلة ، فضلاً عمن يسهر الليل في غير القيام من المعاصي والآثام ، أو المباحات على أحسن الأحوال ، وقد يزين الشيطان لبعض الدعاة السهر لمناقشة أمورهم ثم ينامون قبل الفجر فيكون ما أضاعوا من الأجر أكثر بكثير مما حصلوا .
15- عدم إكثار الأكل قبل النوم فإن الأكل الكثير من أسباب النوم الثقيل ، ومن أكل كثيراً ، تعب كثيراً ، ونام كثيراً ، فخسر كثيراً ، فليحرص الإنسان على التخفيف من العشاء .(152/7)
16- الحذر من الخطأ في تطبيق سنة الاضطجاع بعد راتبة الفجر ، فربما سمع بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلّى أحدكم فليضطجع على يمينه ) رواه الترمذي رقم 420 وهو في صحيح الجامع 642 . وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى سنة الفجر يضطجع ، ثم يُؤذنه بلال للصلاة ، فيقوم للصلاة ، وربما سمعوا هذه الأحاديث ، فعمدوا إلى تطبيق هذه السنة الثابتة ، فلا يحسنون التطبيق ، بحيث يصلي أحدهم سنة الفجر ، ثم يضطجع على جنبه الأيمن ، ويغط في سبات عميق حتى تطلع الشمس ، وهذا من قلة الفقه في هذه النصوص ، فليست هذه الاضطجاعة للنوم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بلال للصلاة وهو مضطجع ، وكان أيضاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وابن حبان إذا عرس ( قبل ) الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى ، وأقام ساعده رواه أحمد في المسند 5/298 وهو في صحيح الجامع رقم 4752 ، وهذه الكيفية في النوم تمنع من الاستغراق ؛ لأن رأس النائم في هذه الحالة يكون مرفوعاً على كفه وساعده ، فإذا غفا سقط رأسه ، فاستيقظ ، زد على ذلك أن بلالاً كان موكلاً بإيقاظه صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر .
17- جعل قيام الليل في آخره قبيل الفجر ، بحيث إذا فرغ من الوتر أذن للفجر ، فتكون العبادات متصلة ، وتكون صلاة الليل قد وقعت في الثلث الأخير - وهو زمان فاضل – فيمضي لصلاة الفجر مباشرة وهو مبكر ونشيط .
18- اتباع الهدي النبوي في كيفية الاضطجاع عند النوم ، بحيث ينام على جنبه الأيمن ، ويضع خده الأيمن على كفه اليمنى ، فإن هذه الطريقة تيسر الاستيقاظ ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف النوم بكيفيات أخرى ، فإنها تؤثر في صعوبة القيام .
19- أن يستعين بالقيلولة في النهار ، فإنها تعينه ، وتجعل نومه في الليل معتدلاً ومتوازناً .(152/8)
20- ألا ينام بعد العصر ، ولا بعد المغرب ، لأن هاتين النومتين تسببان التأخر في النوم ، من تأخر نومه تعسر استيقاظه .
21- وأخيراً فإن الإخلاص لله تعالى هو خير دافع للإنسان للاستيقاظ للصلاة ، وهو أمير الأسباب والوسائل المعينة كلها ، فإذا وجد الإخلاص الذي يلهب القلب ويوقظ الوجدان ، فهو كفيل بإذن بإيقاظ صاحبه لصلاة الصبح مع الجماعة ، ولو نام قبل الفجر بدقائق معدوادات .
ولقد حمل الإخلاص والصدق بعض الحريصين على الطاعة على استعمال وسائل عجيبة تعينهم على الاستيقاظ تدل على اجتهادهم وحرصهم وتفانيهم ، فمن ذلك أن أحدهم كان يضع عنده عدة ساعات منبهة إذا نام ، ويجعل بين موعد تنبيه كل واحدة والأخرى بضع دقائق ، حتى إذا أطفأ التي دقت أولاً دقت الثانية بعدها بقليل وهكذا ، وكان أحدهم يربط في يده عند النوم خيطاً ، ويدليه من نافذة غرفته ، فإذا مر أحد أصحابه ذاهباً إلى المسجد جذب هذا الخيط فيستيقظ لصلاة الفجر .
فانظر يا رعاك الله ماذا يفعل الإخلاص والتصميم ، ولكن الحقيقة المرة هي أن ضعف الإيمان ، وقلة الإخلاص تكاد تكون ظاهرة متفشية في الناس اليوم ، والشاهد على ذلك ما نراه من قلة المصلين ونقص الصفوف في صلاة الفجر ، بالرغم من كثرة الساكنين حول المسجد في كثير من الأحياء .
على أننا لا ننكر أن هناك أفراداً يكون ثقل النوم عندهم أمراً مرضياً قد يُعذرون به ، لأنه أمر خارج عن الإرادة فمثل هذا عليه أن يلجأ إلى الله بالتضرع ، ويستفيد ما استطاع من الوسائل الممكنة ، وأن يراجع الطبيب لمحاولة إيجاد علاج .
وأخيراً هذا تنبيه على أمر مشتهر بين الناس وهو زعمهم بأن هناك حديثاً مفاده أنّ من أراد الاستيقاظ لصلاة الفجر فعليه أن يقرأ قبل النوم آخر سورة الكهف ، وينوي بقلبه القيام في ساعة معينة ، فيقوم ، ويزعمون أن ذلك مجرب ، ونقول لهم : إنه لم يثبت بذلك حديث ، فلا عبرة به ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .(152/9)
كثرة الضحك
وهذه شكوى من ظاهرة كثرة الضحك بين الناس ، وبخاصة الشباب يقول السائل :
مجالسنا التي نجلس فيها مع الإخوان والزملاء يكثر فيها الضحك كثرة مفرطة ، وهذه الظاهرة تتفشى وتنتشر فما هو العلاج ؟ .
الجواب : إن علاج هذه الشكوى يأتي من جانبين : جانب علمي ، وجانب عملي .
أما الجانب العلمي : فيضمن أمرين :
أولها : أن نعلم كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك ، فهو خير قدوة في ذلك وفي كل شيء .
فقد ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ان لا يضحك إلا تبسماً رواه أحمد في المسند 5/97 وهو في صحيح الجامع 4861 . في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت قليل الضحك . رواه أحمد في المسند 5/86 وهو في صحيح الجامع 4822 . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً ، حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم . رواه أبو داود رقم 5098
ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تكثروا الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه رقم 4193 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 506 . وفي رواية : ( فإن كثرة الضحك فساد القلب ) وإن من التفريط بعد ذلك أن يركب المسلم ثبجاً يعلم أن فيه العطب .
هذا هو الجانب العملي في الحل بإيجاز .
وقبل الدخول في الجانب العملي لا بد أن نعلم أن الضحك ليس أمراً محرماً أو أن المسلم لا بد أن يكون عبوساً خشناً مكفهر الوجه ؛ فإن الضحك أمر جبلي طبعي : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) ولكن المشكلة التي نحن بصدد علاجها والتحذير من آثارها .
- هي أن تكون المجالس مدوية بالقهقهات المتجاوبة .
- هي أن يُفسد المؤمن قلبه بكثرة الضحك وفغر الفم ، بدلاً من أن يكون جاداً سليماً .(152/10)
- هي أن يجعل الداعية كثرة إضحاك الناس وسيلة كما يزعم لكسب الناس ، من أجل التأثير عليهم وإفادتهم ، وما علم أنهم يلتفون حوله ليضحكوا فقط ، وما أقل استفادتهم منه .
إن المشكلة هي أن يجعل بعض الناس كثرة الضحك متنفساً له من همومه وكروبه ، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أذكر أن شاباً كان يعاني يوماً من هموم تخلفه في دراسته ، ومشكلاته مع أهله ، وغير ذلك ، فخرج من بيته ، فصادفه في الطريق أخ له ، فقال : أين أنت ذاهب ؟ فقال : أنا مهموم مغموم ، وسأذهب إلى فلان الفلاني ، لكي يضحكني وينسيني أحزاني .. هكذا قال ، وما شعر أن إضحاك هذا الشخص له إنما هو بمثابة المخدر ، يُنسي المرء أتراحه ما دام تحت تأثيره ، فإذا انتهى عادت إليه كما كانت .
وكان خليقاً ألا يغفل عن العلاج النبوي للهم والحزن والكرب ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى صحيح الجامع 4703 وكان إذا كربه أمر قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) صحيح الجامع 4777 وفي الحديث الصحيح الآخر : كان إذا نزل به هم أو غم قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، الله ربي ولا أشرك به شيئاً ) صحيح الجامع 4791 .
وفي دعاء الهم والغم المشهور : ( اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك .. الخ الحديث )
وهذه وطاءة لابد من الإلمام بها قبل الخوض في الجانب العملي في مداواة ظاهرة الإفراط في الضحك ، ذلك الجانب الذي يمكن تحقيقه بوسائل منها :
1- تذكر الموت ، والقبر ، واليوم الآخر ، وما فيه من الحساب ، الصراط والنار ، وسائر الأهوال ، وتربية هذا التذكر بتدبر النصوص التي تصور هذه المشاهد ، وبالقراءة في شرح تفاصيلها ، وبمجالسة أهل الزهد والقلوب اللينة .(152/11)
2- التأمل في واقع المسلمين ، وما يعانون منه من ابتعاد عن الدين ، وتخلف في جميع المجالات ، وما يتعرضون له من قهر وإيذاء وإبادة شرسة ، وما يحاك حولهم من تآمر عالمي ، فإذا تأمل المسلم هذه الأحوال تأملاً عميقاً صادقاً ، فلا بد أن يكون له أثر في ضحكه وبكائه .
3- أن يستشعر ثقل الأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أمته ، فإن أمته تتطلب جهوداً ضخمة لإنقاذهما من أوهاق التردّي والسقوط ، فإذا جعل هذا الأمر همه فإنه سيمضي شُعلة من النشاط لإصلاح أهله وأصدقائه وأحبابه ومجتمعه بقدر المستطاع ، ولن يجد وقتا للتهريج المقيت ، والضحك الكثير والاهتمامات التافهة .
4- تجنب مخالطة الشخصيات الهزلية المعروفة بكثرة الإضحاك والتهريج ، والابتعاد عن المجالس التي تكون فيها ، مع محاولة النصح لهم ولمجالسيهم .
ومرت قبل قليل إشارة إلى أن بعض الدعاة قد يجعل الإضحاك وسيلة لكسب الناس ، حتى قال بعض العامة أين الشيخ الذي يضحك ؟ نريد الشيخ الذي يضحك وهذه دركة نربأ بالأمة أن تهوي فيها ، فإن دين الله عظيم متين : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) وفي الحديث : ( لو تعلمون ما أعلم ؟ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) لو أننا أدركنا حق الإدراك ماذا يراد منا ، وماذا أمامنا ، لما اكتحلت أجفاننا بنوم هنيء .(152/12)
5- أن يجتهد في رد الضحك ما استطاع عن نفسه وعن غيره فقد يجتمع المجلس مع القوم تعودوا أن يكون غالب وقتهم ضحكاً وقهقهة ، فعليه أولاً أن يكظم الضحك عن نفسه كما يرد التثاؤب ، وثانياً أن يرشد الحاضرين ويُعينهم على أنفسهم ، وهذا يحتاج إلى رجل جاد حازم لبق ، والناس ولله الحمد فيهم خير كثير ، واستعداداً للاستجابة لداعي الإصلاح والتقويم ، وهذا الإرشاد يمكن أن تُسلك إليه سبل مختلفة : كأن تذكر لهم مساوئ الضحك والإضحاك ، مثل أنه يقود إلى الكذب والاختلاق ، حيث يضطر "المهرج" إذا لم يجد قصة أو حادثة حقيقة إلى صناعة قصص من نسج الخيال ، ليجعلها مادة للإضحاك ، وهذا الشخص قد توعده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم .. ويل له ، ويل له ) صحيح الجامع 7136 . كما أن من مساوئه أنه يؤدي إلى اهتزاز الشخصية وسقوطها من الأعين ، فإن مُضحك القوم وإن ظهر له أنه ذو مكانة بينهم ليس إلا محتقراً لديهم ، ولا يقدرونه ولا يوقرونه ، وقل مثل ذلك في الذي لا تراه إلا مغرقاً من الضحك .
6- تغيير الموضوع الذي قاد إلى الضحك إلى موضوع آخر مفيد ، فإذا رأيت أن الحاضرين قد تجاوزوا حدّ الاعتدال في الضحك ، وأسلموا قيادهم لدواعيه ، فتسلل إلى قلوبهم بالأسلوب المناسب ، لنقلهم إلى عالم الجد واستثمار الوقت ؛ بقراءة في كتاب نافع ، أو بطرح موضوع مهم للنقاش وإبداء الآراء ، أو دعوة للاتفاق على عمل إصلاحي خيري ، أو غير هذا أو ذاك من الأمور التي يحبها الله ويرضاها .
7- فإذا بلغ السيل الزبى ، وجاوز الأمر حده ، بأن أبى الجالسون إلا الإغراق في الضحك ، والمضي في طريق الغفلة ، فإن آخر العلاج الكي ، قم من المجلس وفارقه ، حماية لنفسك ، ووقاية لقلبك من الفساد ، بعد أن أديت ما عليك من واجب التوجيه والنصح ، ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )
الوساوس الشيطانية
وهذا سائل يقول :(152/13)
إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل ، تطوف بخاطري أفكار لا أستطيع أن أذكرها ، لأنها لا تليق بالله سبحانه ولكني أعاني من ترددها على ذهني كثيراً ، في الصلاة وخارج الصلاة ، حتى شككت في إيماني ، وارتبت هل أنا مسلم أو لا ، فما علاج هذه المصيبة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد :
فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أحاديث فيها حل هذه المشكلة ، وعلاج هذه الشكوى ولله الحمد :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول فمن خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 1657 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماء ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الأرض ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل : آمنت بالله ورسوله ) صحيح الجامع 1656 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من وجد من هذا الوسواس ، فليقل : آمنت بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 6587 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ) صحيح الجامع 7993 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الناس يتساءلون ، حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فإذا قالوا ذلك ؛ فقولوا : الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً ، وليستعذ من الشيطان ) صحيح الجامع 8182 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2975 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2976 .
من هذه النصوص نستطيع أن نستخلص ست وسائل للتغلب على هذه الوساوس والأفكار :(152/14)
1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر : آمنت بالله ورسوله .
2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، فيقول مثلاً : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً .
4- أن ينتهي عما هو فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ولينته " ، وهذه وسيلة مهمة ؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً ، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع ، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع .
5- أن يقرأ سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد ) فإن فيها ذكر صفات الرحمن ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس .
6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله ، وفي نعم الله ، ولا يتفكر في ذات الله ، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله ، قال تعالى : ( ولا يحيطون به علماً )
السهر
وهذه شكوى من مشكلة السهر ، وعدة أسئلة تدعو إلى حل هذه المشكلة ، فإن كثيراً من الناس يضيعون أوقاتاً طويلة جداً في السهر .
والجواب : إن السهر ليس نوعاً واحداً ، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : السهر في طاعة الله تعالى وهو سهر محمود ، ومنه السهر في مصالح المسلمين العامة ، كالجهاد والرباط في الثغور ، ومنه السهر في إحياء الليل بالقيام وتلاوة القرآن : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون )
ولا ننسى في هذا المقام الصحابي الجليل الذي كان يحرس المسلمين ليلاً ، ويقضي وقت الحراسة في الصلاة ، فرُمي بسهم من المشركين ، فأصابه السهم ، فأخذ دمه يسيل ، وهو مع ذلك ماض في صلاته يتلذذ بمناجاة ربه الكريم .(152/15)
وورد عن بعض أهل العلم أنهم تذاكروا الحديث حتى طلع الفجر ولقد كان الدعاة المخلصون ولا زالوا يسهرون الليل في مناقشة الأمور التي تؤرق الغيورين على الأمة ، وتقض مضاجعهم ، وتطرد الوسن عن عيونهم ، ومن ذلك مثلاً ما كان يجري بين الشيخين : عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ، مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر ، فقد كانا في فترة وجودهما في المدينة يسهران الليل كله إلى الفجر ، يناقشان أوضاع الأمة الإسلامية ، وما تردت إليه من البدع والخرافات والتخلف ، ويخططان لانتشال المجتمع الجزائري من هذا التردي .
هذا النوع من السهر سهر محمود كله ، إذا لم يؤد إلى تضييع مصلحة راجحة أو واجب شرعي أعلى منه ، فإن بعض الناس قد يسهرون في أمر شرعي ، ثم تفوتهم صلاة الفجر ، وهذا خطأ وخلل .
القسم الثاني : السهر المباح : وهو ما كان على أمر مباح ، شريطة ألا يؤدي إلى تضيع واجب ، فمن ذلك مثلاً محادثة المسافرين لبعضهم لتهوين مشقة السفر على أنفسهم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم مع بعض نسائه ، يؤانسها وهو في طريق سفر .
ومنه مسامرة الضيف ومؤانسته بالحديث .
ومنه سهر كثير من الناس اليوم في أعمالهم الليلة ، في هذه النوبات التي أوجدتها الأحوال المادية ولا ريب أن بعض مصالح المسلمين تقتضي أن يكون هناك من يعمل ليلاً ، كالعمل في الأمن ، والمستشفيات ، والمطارات ، والكهرباء ، وغير ذلك .
القسم الثالث : السهر في معصية الله عز وجل كالسهر في مشاهدة الأفلام ، والألعاب المحرمة كلعب الورق ، أو في أكل لحوم الناس بالغيبة والشتائم والبهتان وما شابه ذلك من أنواع المعاصي .
وهذا السهر محرم ، يأثم أصحابه ويستحقون العقوبة من الله ، وقد كثروا في هذا الزمان ؛ لأسباب بعضها مذكور في قول الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجدَه مفسدة للمرء أيّ مفسده
هذه هي أقسام السهر الثلاثة ، فيجب أن نفرق بين كل قسم والآخر .(152/16)
وفي زماننا هذا انتشر السهر لأسباب منها :
1- السهر للمصالح الدنيوية ، مثل سهر بعض التجار في تدبير أمور تجارتهم ، وسهر بعض الطلاب في مذاكرة المقررات الدراسية ، وينبغي لهؤلاء ومن شاكلهم أن يجتهدوا في ترتيب أوقاتهم ترتيباً يُغنيهم عن السهر المؤدي إلى المفاسد .
2- طبيعة العصر الحاضر التي غيرت الأوضاع الاجتماعية ، فلئن كان القدماء يشرعون في الهدوء والهجعة منذ حلول الظلام ، فإن وجود الكهرباء في عصرنا يحمل الناس على أن يمارسوا كثيراً من الأنشطة والأعمال والعلاقات التي لم يكونوا ليمارسوها في الظلام ، حتى لقد أصبح ليل بعض الناس كنهارهم .
3- انصراف كثير من الناس إلى ما يبث من برامج وفنون في وسائل الإعلام المختلفة : من إذاعة وتلفاز ، وما يسمى الفيديو وغيره .
4- جعل أكثر الناس زياراتهم وبرامجهم وعلاقاتهم العائلية وغير العائلية في الليل بسبب طبيعة الأعمال والدراسة ، فأصبحت تجد من النادر أن يزورك أحد في النهار ، إلا في عطلة الأسبوع ، وحتى مجالس العلم صار كثير منها يقام بعد صلاة العشاء .
5- انهماك بعض الناس في الثرثرة والأحاديث المتداعية الطويلة ، وربما أزعجوا الآخرين بثرثرتهم وضحكاتهم ، ولعل انتشار هذه الظاهرة في أوساط الطلاب في الإسكانات الجامعية أكثر وضوحاً ، حيث يقوم بعض الضيوف الثقلاء بزيارتهم في سكنهم ، ويمضون معهم الليل في القيل والقال ، ويلحقون الضرر بأنفسهم وبغيرهم ، ثم يضيعون كثيراً من الواجبات .
6- الأرق : والأرق يسببه في كثير من الأحيان مقارفة المعاصي والبعد عن الله تعالى ، فإن البعيد عن ربه لا يمكن أن يذوق الطمأنينة والأنس ، وإنما هو في قلق دائم ووحشة واضطراب .
كما أن للمشكلات العائلية والمادية والدراسية والعملية وغيرها أثراً بارزاً في إحداث القلق والأرق لدى الشخص حتى تنجلي أسبابها .(152/17)
على أننا لا ننكر أن هناك من يحرمه الأرق من لذيذ الكرى بسبب خوفه من الله ، وحرصه على صلاح أمته الأسيرة .
وبعد استعراض أقسام السهر وأبرز أسبابه ، نتجه لبيان الأسباب المعينة على علاج هذه الشكوى التي أصبحت وباء فاشياً .
وعلاجها من الناحية العلمية التأملية : أن يتفكر المرء في ما يترتب على السهر من الأضرار الجسمية ، وتفويت المصالح العظيمة ، فمن ذلك :
1- تضييع الواجبات الشرعية ، مثل تضييع صلاة الفجر كما أسلفنا إما بالتخلف عن الجماعة ، أو بقضائها في غير وقتها ، أو بأدائها مع الجماعة لكن دون خشوع وإحساس بسبب الإعياء الشديد الذي يجعله يصارع النعاس ولا يفقه من صلاته شيئاً ، فلا يدري ما قرأ الإمام ، ولا في أي ركعة هو ، ولا يتدبر ما يقوله في سجوده وركوعه وقيامه وقعوده ، ولذلك نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد صلاة العشاء .
2- الأضرار الجسدية : ذلك أن جعل الليل للحركة والنهار للسكون مصادم للطبيعة التي خلقها الله في الأرض والنفوس : ( وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه … )
ولهذا فإننا نجد القوم الذين تنكبوا الصراط ، وخالفوا الفطرة ، في حالة صحية سيئة مضطربة ، وإن نوم ساعة من الليل قد يعدل نوم ضعفها في غيره ، كما هو مجرب ومشاهد .
3- تقصير كثير من الموظفين في أعمالهم ، بحيث يأتي الموظف إلى عمله منهكاً متأخراً ، فيكون أداؤه ضعيفاً ، وتعامله مع المراجعين سيئاً ، وربما كان في بعض راتبه شبهة بسبب تقصيره في عمله .(152/18)
وقل مثل ذلك في شأن الطلاب الذين يسهرون ، ثم يأتون للمدرسة أو الجامعة متأخرين ، وقد ضربوا بالمحاضرات الأولى عرض الحائط ، ثم يجلس أحدهم كرسياً على كرسي ، لا يستوعب معلومة ، ولا ينتبه لشرح .
4- أنه يؤدي إلى النوم في غير وقت النوم ، فينام السهران مثلاً بعد العصر ، والنوم بعد العصر لغير الحاجة كرهه السلف ، أما الحاجة فلا بأس به . ثم إن هذا يسبب صداعاً وتفويتاً لوقت حيوي من اليوم .
5- أنه يعيق عن بعض العبادات التطوعية ، فإحياء الثلث الآخر من الليل مثلاً ، كيف يستطيعه السهران ؟! والتسحر لصيام التطوع ، كيف يطيق الاستيقاظ له ؟! ولا شك أن الإعياء والإجهاد سيثنيه عن النهوض ، فيفوت على نفسه خيراً كثيراً .
6- فوات بركة البكور في أول النهار ، فإن الذين يسهرون ينامون بعد صلاة الفجر ، فيحرمون أنفسهم من الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( بورك لأمتي في بكورها ) صحيح الجامع 2841 . ولا يقدرون على المكث في المسجد إلى طلوع الشمس لذكر الله ، ولا يخرجون إلى أرزاقهم مبكرين في وقت البركة والفضيلة ، وقد عم ذلك فينا ، حتى أصبحنا نرى من النادر أن يفتح تاجر متجره في وقت مبكر مثلاً .
إذا علم العاقل بهذه الأضرار الناجمة عن السهر ، وبفداحة الخسارة التي يمنى بها من جرائه ، فلا ريب أنه سيسعى سعياً حثيثاً لتصحيح وضعه ، واستدراك ما فاته ، وبذلك يكون قد وضع رجله في أول طريق العلاج .
وهذه إشارات إلى جوانب عملية في حل المشكلة يسترشد بها من يريد الوصول إلى ذلك العلاج :
1- بذل الوسع في تعويد النفس على النوم المبكر ، فإن السهر في الأصل عادة ، فإذا انبرى المرء لجهاد نفسه بحزم وبتصميم فإنه ينتصر عليها بإذن الله في بضعة أيام ويسير في ركاب المبكرين في النوم .(152/19)
2- الزواج فإن كثيراً من الشباب العزاب غير منضبطين في حياتهم ، بل يسهرون معاً ، ويشجع بعضهم بعضاً على السهر ، إذ ليس وراءهم أولاد ولا زوجات ، أما المتزوج فإنه يشعر أن في عنقه مسؤولية زوجته وأولاده ، فيحرص على العودة إليهم مبكراً لئلا يقلقوا ، أو يخافوا أو يحتاجوا إليه في هجعة الليل ، وهو ليس في البيت ، ومن جرب عرف .
3- تنمية الإحساس بالمسؤولية في شتى المجالات التي تعينه ؛ فإن المرء يحس أن على كاهله حملاً لابد أن يؤديه ، لا يمكن أن يهدر وقته ويفرط فيه ، في حين نجد غير المبالي يبدد كنوز الأوقات في سفاسف الأمور ، ولا يقدرها قدرها .
4- تعويض الحاجة إلى النوم بالقيلولة ، بدلاً من النوم في غير أوقات النوم ، فإن النوم بعد العصر أو قبل العشاء مضر كما أسلفنا وقد أوصى عليه الصلاة أمته بقوله : ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ) صحيح الجامع 4431 هذه بعض الوسائل العملية لعلاج مشكلة السهر ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
سرعة الغضب
وهذه شكوى من شخص يقول : إنني شديد الانفعال ، سريع الغضب ، وإذا حصل لي استفزاز ، فسرعان ما أثور فأكسر وأشتم وألعن وأرمي بالطلاق وقد سببت لي هذه المشكلة حرجاً كبيراً ، وكرهني أكثر الناس ، حتى زوجتي وأولادي وأعز أصدقائي ، فماذا أفعل للتخلص من هذا الداء الوبيل وإطفاء هذه النار الشيطانية ؟ .
الجواب : الغضب نزعة من نزعات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب ما لا يعلمه إلا الله ، ولذلك جاء في الشريعة ذكر واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحد من آثاره ، فمن ذلك :(152/20)
1- الاستعاذة بالله من الشيطان : عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان ، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) . رواه البخاري ، الفتح 6/377 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ) صحيح الجامع الصغير رقم 695 .
2- السكوت : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم فليسكت ) رواه الإمام أحمد المسند 1/239 ، وفي صحيح الجامع 693 ، 4027 . وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين ، وبالجملة فالسكوت هو الحل لتلافي كل ذلك .
3- السكون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) .
وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه " أي كسره أو حطمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء في هدم الحوض " وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذكر الحديث " الحديث بقصته في مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 " . وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوض فأغضبه رجل فقعد .. فيض القدير المناوي 1/408 .(152/21)
ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل كما سيرد بعد قليل وربما أتلف مالاً ونحوه ، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران ، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية ، قال العلامة الخطابي رحمه الله في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد ) . والله أعلم سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن 5/141 .
4- حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال : لا تغضب ، فردد ذلك مراراً ، قال : لا تغضب رواه البخاري فتح الباري 10/465 .
وفي رواية قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله . مسند أحمد 5/373
5- لا تغضب ولك الجنة حديث صحيح : صحيح الجامع 7374 ، وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، انظر الفتح 4/465
إن تذكر ما أعد الله للمتقين الذين يتجنبون أسباب الغضب ويجاهدون أنفسهم في كبته ورده لهو من أعظم ما يعين على إطفاء نار الغضب ، ومما ورد الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة ) رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176 . وأجر عظيم آخر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) رواه أبو داود 4777 وغيره ، وحسنه في صحيح الجامع 6518 .(152/22)
6- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرُّعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) رواه الإمام أحمد 5/367 ، وحسنه في صحيح الجامع 3859 . وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضح هذا الأمر ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ) رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .
7- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم " أي ما بين العنق والكتف " وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .(152/23)
ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل غضبنا لله ، وإذا انتهكت محارم الله ، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفر الناس من الصلاة بطول قراءته ، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح ، وغضب لما كلمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت ، وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها ، وغير ذلك ، فكان غضبه صلى الله عليه وسلم لله وفي الله .
8- معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين :
وهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض ، ومن صفات أنهم : ) ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئب الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : ( إذا ما غضبوا هم يغفرون ) .
9- التذكر عند التذكير :
الغضب أمر من طبيعة النفس يتفاوت فيه الناس ، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب ، لكن الصدِّيقين إذا غضبوا فذُكروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده ، وهذا مثالهم .(152/24)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل " العطاء الكثير " ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، وكان من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل رواه البخاري الفتح 8/304 . فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب رواه البخاري فتح 1/465 نعوذ بالله من الخذلان .
10- معرفة مساويء الغضب :
وهي كثيرة مجملها الإضرار بالنفس والآخرين ، فينطلق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل ، وهذه قصة فيها عبرة .
عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة " حبل مضفور " فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته ؟ قال : نعم قتلته ، قال : وكيف قتلته ، قال : كنت أنا وهو نتخبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته .. إلى آخر القصة . رواه مسلم في صحيحه 1307 .
وقد يحصل أدنى من هذا فيكسر ويجرح ، فإذا هرب المغضوب عليه عاد الغاضب على نفسه ، فربما مزق ثوبه ، أو لطم خده ، وربما سقط صريعاً أو أغمي عليه ، وكذلك قد يكسر الأواني ويحطم المتاع .(152/25)
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق ، واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المر ، وكله بسبب الغضب ، ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسار .
وما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب أمر عظيم كما يصف الأطباء كتجلط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكتة مميتة أو مرض السكري وغيره ، نسأل الله العافية .
11- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب :
لو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرأة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه ، وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله ! نعوذ بالله من الشيطان والخذلان .
12- الدعاء :(152/26)
هذا سلاح المؤمن دائماً يطلب من ربه أن يخلصه من الشرور والآفات والأخلاق الرديئة ، ويتعوذ بالله أن يتردى في هاوية الكفر أو الظلم بسبب الغضب ، ولأن من الثلاث المنجيات : العدل في الرضا والغضب صحيح الجامع 3039 كان من دعائه عليه الصلاة والسلام : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب ، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بالقضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) . رواه النسائي في السنن 3/55 والحاكم وهو في صحيح الجامع 1301 . والحمد لله رب العالمين .(152/27)
الرقابة لمن؟
كتبه : الشيخ علي عبد الخالق القرني
ملخص الخطبة
1- علم الله بكل شيء. 2- الخوف من الله المطلع على كل شيء. 3- ثمرة مراقبة الله. 4- الشهود يوم القيامة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111].
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27].
يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم الصاخة
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
ثم أعلموا يا عباد اللهِ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة.
البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت.(153/1)
إذاً فلتسقطُ رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعَها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة آلا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البرايا منشأ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
حي وقيوم فلا ينام وجل أن يشبه الأنام
فإنه العلي في دنوه وإنه القريب جل في علّوه
لا إله إلا هو.
علمُ البشرِ، ما علمُهم؟ علمُ قاصر، ضعيف قليل.
ما وراءَ هذه الجدران؟ نجهلُ منه الكثيرُ لا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا.
لكن الله يعلم ذلك ويعلم ما هو أعلى من ذلك.
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء [آل عمران:5]. يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك.
يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.
إنه العلم الكامل، إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم، العليم الخبير. يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.
هو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي(153/2)
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [المجادلة:7].
رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل، تحت جدارِ الكعبة، قد هدأت الجفون ونامت العيون، أرخى الليلُ سدوله، واختلط ظلامُه، وغارت نجومُه، وشاع سكونُه.
قاما يتذاكران، ويخططان ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيراً مما يعملون.
استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتونَ مما لا يرضى من القول.
تذاكرا مصابهم في بدر فقال صفوان وهو أحدُهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير.
فقال عمير: صدقت والله لولا دينُ علي ليس له قضاء، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة لركبتُ إلى محمد حتى أقتله.
صلى الله على نبينا محمد.
اغتنم صفوان ذلك الإنفعال، وذلك التأثر وقال: علي دينُك، وعيالُك عيالي لا يسعُني شيءُ ويعجزُ عنهم.
قال عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ: أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمَه، ثم انطلقَ به يغضُ السير به إلى المدينة.
وصل إلى هناك وعمرُ رضي الله عنه، أعني بنَ الخطاب في نفرٍ من المسلمين.
أناخَ عميرُ على بابِ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً سيفه.
فقال عمر: عدو الله، والله ما جاء إلا لشر.
ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخلُه علي.
فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أرسله يا عمر.
ثم قال ما جاء بك يا عمير. وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم
قال جئت لهذا الأسير، فأحسنوا به.(153/3)
قال صلى الله عليه وسلم: فما بالُ السيفِ في عنقك؟
قال: قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً.
فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟
قال: ما جئت إلا لذاك.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له: كذا، وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائلُ بيني وبينك.
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، واللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.
جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم الغيب. حُبكت المؤامرةُ سراً.
من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما؟ وهما يخططان، ويدبران ويمكران عند باب الكعبة.
إنه الذي لا يخفى عليه شيءُ في الأرض ولا في السماء.
كم تأمر المتآمرون في ظلام الليل، كم من عدو للإسلام جلس يخطط لضرب الإسلام وحدَه أو مع غيره سراً، ويظن أنه يتصرفُ كما يشاء، متناسياً أن الذي لا يخفى عليه شيءُ يسمع ما يقولون ويبطل كيدَهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
يا أيها العبدُ المؤمن: إذا لقيت عنتاً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن ولا تأسَ إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقالُ لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.
يا أيها المؤمن إذا جُعلت الأصابع في الآذان: واستغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن وضاقت نفسك فلا تأسَ ولا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].(153/4)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
يا أيها الشاب الذي وضع قدمَه على أول طريق الهداية، فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثاً يقاطعه، اثبت ولا تأسَ وأعلم علم يقين أنك بين يدي الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك، وسيجزي كل أمرء بما فعل.
لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
يا مرتكبَ المعاصي مختفياً عن أعينَ الخلق أين الله؟
أين الله ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت.
وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجترئ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك؟
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108].
يدخلُ بعضُ الناسِ غابةً ملتفة أشجارُها، لا تكادُ ترى الشمسَ معها، ثم يقول: لو عملتُ المعصيةُ الآنَ من كان يراني؟
فيسمعُ هاتفاً بصوت يملأ الغابة ويقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. بلى والله.
فيا منتهكاً حرماتِ الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيداً عن أعين المخلوقات، أين الله؟ هل سألت نفسكَ هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمنَ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثوراً)).
قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله قال: ((أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها)).(153/5)
إلى من يملأ ليله وعينَه وأذنه ويضيعُ وقتَه حتى في ثُلث اليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله، أين الله؟
فقد روى االثقاةُ عن خيرِ الملاء بأنه عز وجل وعلا
في ثلثِ الليل الأخيرِ ينزلُ يقول هل من تائبٍ فيقبلُ
هل من مسيء طالبٍ للمغفرة يجد كريماً قابلاً للمعذرة
يمن بالخيراتِ والفضائل ويسترُ العيب ويعطي السائل
فنسأله من فضله.
إن اللهَ لا يخفى عليه شيء فهلا اتقيتَه يا عبد الله.
عمرُ بن الخطاب رضي اللهُ عنه، يعسُ ليلةً من الليالي ويتتبع أحوال الأمة، وتعب فاتكأ على جدارٍ ليستريح، فإذا بمرأةٍ تقولُ لابنتها: امذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع.
فقالت البنت:ُ إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابُ اللبنَ بالماء.
فقالتِ الأم:ُ يا ابنتي قومي فإنك بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا مناديه.
فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةَ الله: أي أماه فأين الله؟ وللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.
ويمرُ عمرُ أخرى بامرأة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل، قد تغيبت في ظلمات ثلاث، في ظلمة الغربةِ والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السريري جوانبه
ما الذي راقبته في ظلام الليل وفي بعد عن زوجها، وفي هدأة العيون؟
والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنعم بها من مراقبة وأنعم بها من امرأة.
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟ أين الله يا رجل؟
أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول.(153/6)
أخيرا اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن وإنما وقع في زمن مضى لتعلم ثمرة مراقبة الله عز وجل، واستشعار ذلك الأمر.
رجل اسمه نوح بن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له أبنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق.
وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنياء قليلاً ولا كثيراً ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء.
أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها، وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك، ائتني بقطف من عنب.
جاءه بقطف فإذا هو حامض.
فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض.
فأتاه بآخر فإذا هو حامض.
قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض.
كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج.
ألا تعرف حلوه من حامضة؟
قال: والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته. والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.
والذي لا إله إلا هو ما رقبتك، ولا رقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أعجب به، وأعجب بورعه وقال: الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن.
وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب. واليهود يزوجون للمال. والنصارى للجمال. وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق. وعلى عهدنا هذا للمال والجاه. والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة؟(153/7)
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيراً من مبارك، قال: أنت حر لوجه الله أعتقه أولاً.
ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت.
قال: اعرض عليها. فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك.
قالت: أترضاه لي؟
قال: نعم.
قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك.
فما الثمرة وما النتيجة؟
حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل.
إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حياً بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي.
أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.
فيا أيها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات، في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك، واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطناً، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك.
إذا ما خلوت الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
عباد الله، اتقوا اللهَ في ما تقولون، واتقوا الله في ما تفعلون وتذرون.
اتقوا الله في جوارحكُم، اتقوا اللهَ في مطعمِكم ومشربِكم، فلا تدخلوا أجوافَكم إلا حلالاً فإن أجوافَكم تصبرُ على الجوعِ لكنها لا تصبرُ على النار.
اتقوا اللهَ في ألسنتِكم، اتقوا اللهَ في بيوتِكم، في أبنائِكم في خدمكم، في أنفسكم.
اتقوا اللهَ في ليلِكم ونهارِكم، اتقوا اللهَ حيثما كنتم.
وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].(153/8)
أقول ما تسمعون واٍستغفر الله فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا علم يقينٍ أن اللهَ هو الرقيب، وأن الله هو الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.
هو الشهيدُ وكفى به شهيداً، ومن حكمتِه سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامةِ الحجُةِ حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهودُ علينا وكفى باللهِ شهيداً، من هؤلاءِ الشهودِ:
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حيثُ يقول اللهُ عز وجل: وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيشهدُ على الأممِ وعلى هذه الأمة.
والملائكةُ أيضاً يشهدون وكفى باللهِ شهيداً، قال اللهُ عز وجل: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
ويقول جل وعلا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].(153/9)
فالملائكة أيضا ستشهد. والكتابُ سيشهد. والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغيرَ والكبيرَ والنقيرَ والقطميرَ، تنظرُ في صفحةِ اليومِ الثامنُ من هذا الشهر فإذا هي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].
والأرضُ التي ذللها الله عز وجل لنا ستشهدُ بما عمل على ظهرها من خيرِ أو شر: إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلت:1-5].
ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة، إذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.
وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29].
والخلقُ أيضا سيشهدون وكفى باللهِ شهيداً: لطالما تفكهُ الإنسانُ بين هؤلاءِ الخلقِ بالوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ بذكرِ ما سترَه اللهُ عليه. وما علم أن الخلق سيشهدونَ.
في الصحيح أن جنازة مرت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فيثني عليها الناس خيراً فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوء فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
فيتساءل الصحابة؟(153/10)
فيقول صلى الله عليه وسلم: ((أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه)).
وسيشهدُ ما هو أقربُ من هذا: ستشهدُ الجوارحُ فأيد تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
فاتقوا الله يا باد واجعلوا هؤلاءِ الشهودِ جميعهم لكم لا عليكم.
وبادروا أنفسَكم وأعمارَكم بالأعمالِ الصالحةِ قبل حلولِ الآجالِ وبقاءِ الحسراتِ.
أيا من يدعّي الفهم، إلى كم يا أخَ الوهم، تعبي الذنبَ بالذنب، وتخطي الخطأ الجم.
أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نصحه ريب، ولا تنعُ فقد صم.
أما نادى بك الموت، أما أسمعك الصوت، أما تخشى من الفوت، فتحتاطَ وتهتم.
فكم تسكرُ في السهو، وتختالُ من الزهو، وتنصبُ إلى اللهو، كأن الموتَ ما عم.(153/11)
وحتى متى جافيك، وإبطاؤك لافيك، طباعُ جمعت فيك، عيوبُ شملُها انظم.
أتسعى في هوى النفس، وتختالُ على الأنس، وتنسى ظلمةَ الرمس، ولا تذكرُ ما تم.
ستذري الدمَ لا الدمع، إذا عاينتَ ولا دمع، يقي في عرصة الجمع، ولا خالٍ ولا عم.
كأني بك تنحط، إلى اللحدِ وتنغط، وقد أسلمك الرهط، إلى أضيق منسم.
هناك الجسمُ ممدود، ليستأكَله الدود، إلى أن ينخر العود، ويمسي العظمَ قد رم.
فبادرِ أيها الغمر، لما يحلُ به المر، فقد كاد ينتهي العمر، وما أقلعت عن ذم.
وزود نفسَك الخير، ودع ما يعقبُ الضير، وهيء مركب السير، وخف لجة اليم.(153/12)
الحساب
كتبه : هاشم محمدعلي المشهداني
ملخص الخطبة
1- معنى الحساب في اللغة والاصطلاح. 2- أهوال يوم القيامة. 3- محكمة العدل والرحمة الإلهية في يوم القيامة: أ- العدل الملطق. ب- الشهود. ج- المتهم. د- المحكمة والمحاكمة. 4- إعداد المسلم نفسه لهذا الحساب.
الخطبة الأولى
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب [غافر:16].
يوم القيامة يوم جليل خطبه، عظيم خطره، بل هو اليوم الذي ليس قبله مثله ولا بعده مثله، والكل ظاهر ومكشوف فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا رتوش، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا المالك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار))([1])، وذلك هو يوم الحساب ويوم الجزاء.
فما الحساب؟ وما هي صفته؟ وعلى ماذا يحاسب الله تعالى العباد؟ وما موقف المسلم؟
الحساب اصطلاحا: هو محكمة العدل الإلهية التي يقضي فيها رب العزة سبحانه بين خلقه وعباده وينبغي أن تعلم أن يوم القيامة:
يوم يجمع الله فيه الأولين، والآخرين للحساب: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [الواقعة:50]. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه [آل عمران:9].
يوم تتكشف فيه الحقائق والأستار، فالكل مكشوف النفس والعمل والمصير: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [الحاقة:18].(154/1)
يوم يشيب من هوله الوليد، وتذهل الأم الحنون عن طفلها، وتسقط فيه الحامل حملها يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [الحج:2]. وللحديث: ((ذلك يوم يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة)) فأنشأ المسلمون يبكون([2]).
وأما صفة الحساب: فلا بد لكل محكمة من حاكم يحكم ويقضي، وشهود يشهدون، ومتهم وأرض يقام عليها الحكم.
1- أما الحاكم: فهو الله جل جلاله، جبار الأرض والسماء، تباركت أسماؤه وعظمت صفاته الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى ويبدأ الأمر:
أ- بنفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتصعق الخلائق كلها وتموت: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض [سورة الزمر:68].
ب- إحداث تغير عام في الكون فتنشق السماء وتتناثر النجوم وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت [التكوير:1-3]. كورت أي ظلمت، انكدرت: أي تناثرت، وسيرت: أي حركت وصارت كالهباء.
ج- ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتقوم الخلائق للحشر: ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [الزمر:68].
د- نزول عرش الرحمن جل جلاله: وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [الحاقة:16-17]، أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، وللحديث: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام))([3]).(154/2)
هـ- ثم يشرق على الأرض نور الحق جل جلاله: وأشرقت الأرض بنور ربها [الزمر:69]. أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء([4]).
و- ثم مجي الحق سبحانه مجيئا يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه الكبير المتعال: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر:21-22].
وأما صفة حكمه جل جلاله سبحانه:
1- العدل المطلق: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 807].
أ- فلا ظلم: ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49].
ب- ولا أنساب: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون:101]. أي لا تنفع الإنسان يومئذ قرابة ولا يرثي والد لولده يقول ابن مسعود : ((إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ ليأخذ حقه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا))([5]).
ج- ولا رشوة لتغير صورة الحكم، فالحاكم هو الغني المتعال والكل مفتقر إليه سبحانه: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [فاطر:15].
ح- ولا تهديد ولا ضغوط: فالحاكم هو القوي سبحانه: إن القوة لله جميعا [البقرة:165]، إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا [مريم :93]. فالكل ضعيف وعبد.
2- الشهود: وأما الشهود فهم كثير فلا مكان للإنكار والكذب والمراوغة
أ- وأعظمهم شهادة هو الله سبحانه الله جل جلاله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا [المجادلة:7].
ب- الرسل عليهم الصلاة والسلام ويشهد للرسل سيدنا وحبيبنا رسول الله للحديث: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من أحد. فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، ثم أشهد لكم))([6]).(154/3)
ج- الملائكة: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17]. يقول الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا وقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك)([7]).
د- الجوارح: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:21]. وعن أنس قال: ((كنا عند النبي فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول: يا رب ألم تجرني (تحفظني) من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، والكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل))([8]).
هـ- الأرض: يومئذ تحدث أخبارها [الزلزلة:4]. قرأ رسول الله هذه الآية: يومئذ تحدث أخبارها قال: ((أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمةٍ بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها))([9]).
ز- التسجيل الكامل كما ذكر بعض العلماء: لقوله تعالى: يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8]. وتعرض الأعمال عرضا حيا ناطقا، فسيرى المرء عمله وهو يباشره ويا للفضيحة([10]).
اللهم إنا نسألك ستر الدارين، اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.(154/4)
3- المتهم: هو الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأسجد له الملائكة، وكرّمه على كثير ممن خلق، سخر الكون له، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وجعل له واعظا من عند نفسه بالفطرة التي فطر الله الناس عليها على معرفته سبحانه وحذره من الشيطان وطاعته ثم يستقبل الإنسان ذلك كله بالسخرية: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [يس:30]. ويجعل من الشيطان ربا يعبده من دون الله: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا (أي خلفا) كثيرا أفلم تكونوا تعقلون [يس :60-62]. ويمر بآيات الله الدالة عليه سبحانه معرضا: وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [يوسف:105]. يمن الله عليه بالنعم فيزداد طغيانا: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [الأعلى:6-7]. الإنسان الذي إذا أحاطت به الخطوب تذكر ربه وإذا كان في نعمة غفل وكفر وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون [النحل:53–54].
4- وأما أرض المحكمة: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [إبراهيم:48]. وللحديث: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد))([11]) وللحديث: ((أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة))([12]).
فهي أرض أخرى غير أرضنا لم تطأها قدم من قبل، ولم تعمل عليها خطيئة، ولم يسفك عليها دم، أرض طاهرة من ذنوب بني آدم وظلمهم، طهر يتناسب وطهر القضاء. وأما على ماذا يحاسب الله تعالى العباد: فاعلم أن الحساب سوف يكون:(154/5)
مشافهة: فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه حسابه بنفسه للحديث: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، ثم ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمره))([13]).
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض على العبد عمله بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة للحديث: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه (أي يستره ولا يفضحه) فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: أعملت كذا وكذا فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته))([14]).
وأما أن يكون الحساب عسيرا وذلك لمن كثرت معاصيه فذلك الذي يناقش الحساب ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة للحديث: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس قد قال الله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال رسول الله : إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب))([15]). والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة.
والحساب يتناول كل شيء:
العمر والمال والجسم والعلم للحديث: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه))([16]).
عن النعم وشكرها: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [التكاثر:8]. قال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا([17]). وللحديث: ((إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال: له ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد))([18]).
3- عن الحواس واستعمالها: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36].(154/6)
قال ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم([19]).
4- عن الفرائض من صلاة وزكاة: للحديث: ((إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة وآخر ما يبقى الصلاة، وأول ما يحاسب به الصلاة ويقول الله: انظروا في صلاة عبدي، قال: فإن كانت تامة كتب تامة، وإن كانت ناقصة يقول: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن وجد له تطوع تمت الفريضة من التطوع، ثم قال: انظروا: هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة قال: انظروا هل له صدقة فإن كانت له صدقة تمت له زكاته))([20]).
5- عن الدماء والقتل: للحديث: ((أول ما يقضى بين بالناس يوم القيامة في الدماء))([21]) وللحديث: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا))([22]).
6- السؤال عن المسؤولية والأمانة: وقفوهم إنهم مسؤولون [الصافات:24]. للحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والأمير راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده))([23]).
7- عن الكلمة: للحديث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب))([24]). وللحديث: ((وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم))([25]).
و ما من كاتب إلا ستبقى كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
8- عن الحقوق والمظالم للحديث: ((يقول الله تعالى: أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة))([26]).
وأما موقف المسلم من الحساب:
1/ حاسب نفسك قبل أن تحاسب: يقول عمر : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن([27]).
2/ تحلل من الحقوق: للحديث: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحللن منها اليوم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم))([28]).(154/7)
يقول أحد السف: رحم الله من إذا مات ماتت معه ذنوبه.
3/ لا تفسد عملك الصالح بالمظالم: للحديث: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار))([29]).
4/ أمح السيئة بالحسنة: إن الحسنات يذهبن السيئات [هود:114]، وللحديث: ((اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))([30]). وللحديث: ((إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها))([31]).
5/ استشعار رقابة الله عليك: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))([32]).
6/ استحضار أهوال الآخرة والتفكر فيها: يقول الإمام الغزالي رحمه الله: ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال فيما يتوجه عليك من السؤال شفاها من غير ترجمان فتسأل عن القليل والكثير والنقير والقطمير فبينما أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء بأجسام عظام وأشخاص ضخام غلاظ شداد أمروا أن يأخذوا بنواصي المجرمين إلى موقف العرض على الجبار.
ثم تقبل الملائكة فينادون واحدا يا فلان بن فلان هلم إلى الموقف، وعند ذلك ترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتبهت العقول ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار، فتوهم نفسك يا مسكين وقد أخذت الملائكة بعضديك وأنت واقف بين يدي الله تعالى يسألك شفاها فكيف ترى حياءك وخجلتك وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك وأياديه ومساويك، فليت شعري بأي قدم تقف بين يديه وبأي لسان تجيب وبأي قلب تعقل وما تقول؟([33]).
---
([1])البخاري .
([2])الترمذي وأحمد .
([3])أبو داود .
([4])مختصر ابن كثير ج 3 ص 230 .
([5])مختصر ابن كثير ج2 ص 577.
([6])البخاري والترمذي .(154/8)
([7])مختصر ابن كثير ج2 ص 367.
([8])مسلم .
([9])أحمد والترمذي والنسائي .
([10])عقيدة المؤمن / الجزائري ص 290.
([11])البخاري ومسلم .
([12])البزار .
([13])البخاري .
([14])متفق عليه .
([15])البخاري .
([16])الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
([17])مختصر ابن كثير ج3 ص 673.
([18])الترمذي وابن حيان .
([19])مختصر ابن كثير ج 3 ص 673.
([20])رواه أبو يعلى .
([21])البخاري ومسلم .
([22])أبو داود وابن حيان .
([23])متفق عليه .
([24])متفق عليه .
([25])متفق عليه .
([26])أحمد بإسناد حسن .
([27])مختصر ابن كثير ج3 ص543.
([28])البخاري والترمذي .
([29])مسلم .
([30])الترمذي وقال حديث حسن .
([31])أحمد .
([32])البخاري ومسلم .
([33])أحياء علوم الدين ج3 ص517-519.(154/9)
سبعون مسألة في الصيام
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات ، فيها تضاعف الحسنات ، وتُمحى السيئات ، وتُرفع الدرجات ، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها ، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . وإنما خلق الله الخلق لعبادته فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال : ( كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ورغبهم فيه فقال : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) ، وأرشدهم إلى شكره على فرضه بقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) ، وحببّه إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات ، فقال عزّ وجلّ: ( أياما معدودات ) ، ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر ، فقال سبحانه : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه من فوقهم ويرجون ثوابه والفوز العظيم .
ولما كان قدر هذه العبادة عظيما كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله ، وما هو حرام فيجتنبه ، وما هو مباح فلا يضيّق على نفسه بالامتناع عنه .
وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه كتبتها باختصار عسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين والحمد لله رب العالمين
تعريف الصيام
1- الصوم لغة : الإمساك ، وشرعا الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية .
حكم الصيام(155/1)
2- أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض ، والدليل من الكتاب قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : بُني الإسلام على خمس : وذكر منها صوم رمضان رواه البخاري فتح 1/49 ومن أفطر شيئا من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها : " حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم " أي قبل وقت الإفطار صحيح الترغيب 1/420. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكّون في إسلامه ، ويظنّون به الزندقة والانحلال . وقال شيخ الإسلام رحمه الله : إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله ، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان . مجموع الفتاوى 25/265
فضل الصيام(155/2)
3- فضل الصيام عظيم ومما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة : أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب لحديث : " إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " البخاري فتح رقم 1904 صحيح الترغيب 1/407 ، وأن الصوم لا عِدل له النسائي 4/165 وهو في صحيح الترغيب 1/413 ، وأن دعوة الصائم لا تُردّ رواه البيهقي 3/345 وهو في السلسلة الصحيحة 1797 ، وأن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه رواه مسلم 2/807 ، وأن الصيام يشفع " للعبد يوم القيامة يقول : أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " رواه أحمد 2/174 وحسّن الهيثمي إسناده : المجمع 3/181 وهو في صحيح الترغيب 1/411 ، وأن " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " مسلم 2/807 ، وأن " الصوم جُنّة وحصن حصين من النار " رواه أحمد 2/402 وهو في صحيح الترغيب 1/411 وصحيح الجامع 3880 ، وأنّ " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه مسلم 2/808 ، وأنّ " من صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة " رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412 . وأنّ في الجنة بابا " يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد " البخاري فتح رقم 1797 .
وأما رمضان فإنه ركن الإسلام وقد أُنزل فيه القرآن ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، و " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " رواه البخاري الفتح رقم 3277 ، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر أنظر مسند أحمد 5/280 وصحيح الترغيب 1/421 ، و " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري فتح رقم 37 ، و "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء " رواه أحمد 5/256 وهو في صحيح الترغيب 1/419 .
من فوائد الصيام(155/3)
4- في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله : " لعلكم تتقون " ، وبيان ذلك : أن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالى وخوفا من عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام .
وأن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه ، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه ، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح .
وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسدّ جوعتهم ، إذ ليس الخبر كالمعاينة ، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل .
وأن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي ، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها . وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا .
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين ، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد .
وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حال رقّة نادرة ، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى . وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها .
5- آداب الصيام وسننه
ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ، فمن ذلك :
الحرص على السحور وتأخيره ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري فتح 4/139 ، فهو الغداء المبارك ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر " رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448(155/4)
تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر رواه البخاري فتح 4/198 ، وأن يفطر على ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ." رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922 ، ويقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال : ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود 2/765 وحسن الدارقطني إسناده 2/185 البعد عن الرفث لقوله صلى الله عليه وسلم " .. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث .. " رواه البخاري الفتح رقم 1904 والرفث هو الوقوع في المعاصي ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . " البخاري الفتح رقم 1903 ، وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب ، فربما ذهبت بأجر صيامه كله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع . " رواه ابن ماجه 1/539 وهو في صحيح الترغيب 1/453(155/5)
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات ، والأفلام والمباريات ، والجلسات الفارغات ، والتسكع في الطرقات ، مع الأشرار ومضيعي الأوقات ، وكثرة اللهو بالسيارات ، وازدحام الأرصفة والطرقات ، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة ـ عند كثير من الناس ـ شهر نوم بالنهار لئلا يحصل الإحساس بالجوع ، ويضيع من جرّاء ذلك ما يضيع من الصلوات ، ويفوت ما يفوت من الجماعات ، ثم لهو بالليل وانغماس في الشهوات ، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر لما سيفوته من الملذات ، وبعضهم يسافر في رمضان إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات !! وحتى المساجد لم تخل من المنكرات من خروج النساء متبرجات متعطرات ، وحتى بيت الله الحرام لم يسلم من كثير من هذه الآفات ، وبعضهم يجعل الشهر موسما للتسول وهو غير محتاج ، وبعضهم يلهو فيه بما يضرّ كالألعاب النارية والمفرقعات ، وبعضهم ينشغل بالصفق في الأسواق والتطواف على المحلات ، وبعضهن بالخياطة وتتبع الموضات ، وتنزل البضائع الجديدة والأزياء الحديثة في العشر الأواخر الفاضلات لتشغل الناس عن تحصيل الأجور والحسنات .
* أن لا يصخب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ، إني صائم " رواه البخاري وغيره الفتح رقم 1894 ، فواحدة تذكيرا لنفسه ، والأخرى تذكيرا لخصمه . والناظر في أخلاق عدد من الصائمين يجد خلاف هذا الخُلق الكريم فيجب ضبط النفس ، وكذلك استعمال السكينة وهذا ما ترى عكسه في سرعات السائقين الجنونية عند أذان المغرب .(155/6)
* عدم الإكثار من الطعام ، لحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ .. " رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح ، والعاقل إنما يريد أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل ، وإن خير المطاعم ما استخدمت وشرها ما خُدمت . وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام ، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات ، وأشغلهن عن العبادة ، وصار ما ينفق من الأموال في ثمن الأطعمة أضعاف ما يُنفق في العادة ، وأصبح الشهر شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة . يأكلون أكل المنهومين ، ويشربون شرب الهيم ، فإذا قاموا إلى صلاة التراويح قاموا كسالى ، وبعضهم يخرج بعد أول ركعتين .
* الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس { بالخير } ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " . رواه البخاري الفتح رقم 6 فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرعين بالصيام .
والجمع بين الصيام والإطعام من أسباب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال الألباني في تعليقه : إسناده حسن لغيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فطّر صائما كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء . " رواه الترمذي 3/171 وهو في صحيح الترغيب 1/451 قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمراد بتفطيره أن يُشبعه . الاختيارات الفقهية ص : 109(155/7)
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم
* تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة ، والإسراع إلى التوبة والإنابة ، والفرح بدخول الشهر ، وإتقان الصيام ، والخشوع في التراويح ، وعدم الفتور في العشر الأواسط ، وتحري ليلة القدر ، ومواصلة ختمة بعد ختمة مع التباكي والتدبر ، وعمرة في رمضان تعدل حجة ، والصدقة في الزمان الفاضل مضاعفة ، والاعتكاف في رمضان مؤكد .
* لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجلّ عليكم صيامه ، تُفتح فيه أبواب السماء ، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه مردة الشياطين ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم " رواه النسائي 4/129 وهو في صحيح الترغيب 1/490
من أحكام الصيام
6- من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان والصوم في كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وكذلك من نذر صوما متتابعا لزمه .
ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي والصوم في كفارة اليمين ) عند الجمهور ( وصوم الفدية في محظورات الإحرام ) على الراجح ) وكذلك صوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع .
7- صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة ، ومن أمثلته عاشوراء وعرفة وأيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال والإكثار من الصيام في محرم وشعبان .(155/8)
8- جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم البخاري فتح الباري برقم 1985 وعن صيام السبت في غير الفريضة رواه الترمذي 3/111 وحسنه والمقصود إفراده دون سبب ، وعن صوم الدهر ، وعن الوصال في الصوم ، وهو أن يواصل يومين أو أكثر دون إفطار بينهما .
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله ، ويجوز لمن لم يجد الهدي أن يصومها بمنى .
ثبوت دخول الشهر
9- يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله أو بإتمام شعبان ثلاثين يوما ، ويجب على من رأى الهلال أو بلغه الخبر من ثقة أن يصوم .
وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة ، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في المسألة : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ، فإذا أخبر المسلم البالغ العاقل الموثوق بخبره لأمانته وبصره أنه رأى الهلال بعينه عُمل بخبره .
على من يجب الصوم
10- ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس .
و يحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة : ـ إنزال المني باحتلام أو غيره ، ـ نبات شعر العانة الخشن حول القُبُل ، ـ إتمام خمس عشرة سنة . وتزيد الأنثى أمرا رابعا وهو الحيض فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سنّ العاشرة .(155/9)
11- يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه "وذكر بعض أهل العلم أنه " يُضرب على تركه لعشر كالصلاة انظر المغني 3/90 . وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية والدلالة على الخير ، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض : كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار . البخاري فتح رقم 1960 وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته بالصيام ، بل ربما صام الولد متحمّسا وهو يُطيق فأمره أبوه أو أمه بالإفطار شفقة عليه بزعمهما ، وما علموا أنّ الشفقة الحقيقية بتعاهده بالصيام ، قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ) . وينبغي الاعتناء بصيام البنت في أول بلوغها ، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلا ثم لا تقضي .
12- إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار لزمهم الإمساك بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر ، لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في ذلك الوقت .
13- المجنون مرفوع عنه القلم ، فإن كان يجنّ أحيانا ويُفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه . وإن جنّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل . مجالس شهر رمضان ابن عثيمين ص : 28 ومثله في الحكم المصروع .
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر .
15- من جهل فرض الصوم في رمضان أو جهل تحريم الطعام أو الوطء فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله ، كحديث العهد بالإسلام والمسلم في دار الحرب ومن نشأ بين الكفار . أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور .
المسافر(155/10)
16- يُشترط للفطر في السفر : أن يكون سفرا مسافة أو عرفا ( على الخلاف المعروف بين أهل العلم ) ، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء وقد منع الجمهور من الإفطار قبل مغادرة البلد وقالوا إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد . أما إذا كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة . ، وأن لا يكون سفره سفر معصية ( عند الجمهور) ، وأن لا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر .
17- يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أم عاجزا وسواء شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ ، بحيث لو كان مسافرا في الظلّ والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر مجموع الفتاوى 25/210
18- من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره تفسير القرطبي 2/278
ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة ) المأهولة ( ، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر ، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان ، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه ، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقا لها فإنه لا يُفطر فيه لأنه لا يزال في البلد .
19- إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملا فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها . وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر . من فتاوى الشيخ ابن باز مشافهة(155/11)
20- من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهرا أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام .
وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لأنه في حكم المقيمين أنظر فتاوى الدعوة ابن باز 977
21- من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر لأن الله جعل مطلق السفر سببا للرخصة بقوله تعالى : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخر ) .
22- ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين ( وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يوميا وعليهم القضاء ) وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر . والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي أنظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/213
23- إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء مجموع الفتاوى 25/212 والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر ، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك .(155/12)
24- إذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم فلا يفطر إلا بإفطارهم ولو زاد عن ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تُفطرون " ، وإن نقص صومه عن تسعة وعشرين يوما فعليه إكماله بعد العيد إلى تسعة وعشرين يوما لأن الشهر الهجري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما . من فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز : فتاوى الصيام :دار الوطن ص: 15-16
المريض
25- كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به ، والأصل في ذلك قول الله تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه .
وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض أو يزيده أو يؤخر البرء يجوز له أن يُفطر بل يُكره له الصيام . وإذا كان المرض مطبقا فلا يجب على المريض أن ينوي الصوم بالليل ولو كان يُحتمل أن يُصبح صحيحا لأن العبرة بالحال الحاضرة .
26- إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى الفتاوى 25/217 ، وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما ، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه . أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء المغني مع الشرح الكبير 1/412، 3/32 ، والموسوعة الفقهية الكويتية 5/268 ، وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّما أو مخدرا لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياسا على النائم وإن كان أكثر لا يقضي قياسا على المجنون من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة(155/13)
27- ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب ، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما ، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر وعليهم نية الصيام بالليل ، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار ، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك ، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب : فتاوى اللجنة الدائمة 10/233،235 . وليست امتحانات الطلاب عذرا يبيح الفطر في رمضان ، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : فتاوى اللجنة الدائمة 10/241
28- المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام ، والمريض مرضا مزمنا لا يُرجى برؤه وكذا الكبير العاجز يُطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد ( وذلك يعادل كيلو ونصف تقريبا من الرز ) ، ويجوز أن يجمع الفدية فيطعم المساكين في آخر الشهر ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم ، ويجب إخراجها طعاما لنصّ الآية ولا يُجزئ إعطاؤها إلى المسكين نقودا فتاوى اللجنة الدائمة 10/198 ، ويُمكن أن يوكّل ثقة أو جهة خيرية موثوقة لشراء الطعام وتوزيعه نيابة عنه .(155/14)
والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره من فتاوى الشيخ ابن عثيمين ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء . ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه . فتاوى اللجنة الدائمة 10/195
29- من مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم . وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه " . من فتاوى اللجنة الدائمة مجلة الدعوة 806
الكبير والعاجز والهرم
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت لا يلزمهما الصوم ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى : ( وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين ) : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . البخاري كتاب التفسير باب أياما معدودات ..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف ، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم حال تمييزه ولم يجب حال هذيانه أنظر مجالس شهر رمضان :ابن عثيمين : ص 28
31- من قاتل عدوا أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال ساغ له الفطر ولو بدون سفر ، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل القتال : " إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطِروا " رواه مسلم 1120ط. عبد الباقي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأفتى به أهل الشام وهم في البلد لما نزل بهم التتار .(155/15)
32- من كان سبب فطره ظاهرا كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهرا ، ومن كان سبب فطره خفيا كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة .
النية في الصيام
33- تُشترط النية في صوم الفرض وكذا كلّ صوم واجب كالقضاء والكفارة لحديث : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " رواه أبو داود رقم 2454 ورجح عدد من الأئمة وقفه كالبخاري والنسائي والترمذي وغيرهم : تلخيص الحبير 2/188
ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة . والنية عزم القلب على الفعل ، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/215 . ومن نوى الإفطار أثناء النهار ولم يُفطر فالراجح أن صيامه لم يفسد وهو بمثابة من أراد الكلام في الصلاة ولم يتكلم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُفطر بمجرد قطع نيته ، فالأحوط له أن يقضي . أما الردّة فإنها تُبطل النية بلا خلاف .
وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر فإن قطع النية للإفطار في سفر أو مرض ـ مثلا ـ لزمه تجديد النية للصوم إذا زال عذره .
34- النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا : لا فقال فإني إذا صائم . رواه مسلم 2/ 809 عبد الباقي وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل .(155/16)
35- من شرع في صوم واجب ـ كالقضاء والنذر والكفارة ـ فلا بدّ أن يتمّه ، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر . وأما صوم النافلة فإن " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " رواه أحمد 6/342 ولو بغير عذر ، وقد أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مرة صائما ثم أكل كما جاء في صحيح مسلم في قصة الحيس الذي أهدي إليه عند عائشة رقم 1154 عبد الباقي ، ولكن هل يُثاب من أفطر بغير عذر على ما مضى من صومه ؟ قال بعض أهل العلم بأنه لا يُثاب الموسوعة الفقهية 28/13 ، والأفضل للصائم المتطوع أن يُتمّ صومه ما لم توجد مصلحة شرعية راجحة في قطعه .
36- من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه وعليه القضاء عند جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . رواه أبو داود 2454
37- السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة وجب عليه الصيام وإلا فإنه يجتهد لنفسه ويعمل بما غلب على ظنّه فإن تبين له بعد ذلك أن صومه وافق رمضان أجزأه ذلك عند الجمهور وإذا وافق صومه بعد رمضان أجزأه عند جماهير الفقهاء وإذا وافق صومه قبل دخول الشهر فلا يُجزيه وعليه القضاء ، وإذا وافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض أجزأه ما وافقه وما بعده دون ما قبله . فإن استمرّ الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . الموسوعة الفقهية 28/84
الإفطار والإمساك
38- إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " رواه البخاري : الفتح رقم 1954 والمسألة في مجموع الفتاوى 25/216(155/17)
والسنّة أن يعجّل الإفطار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء رواه الحاكم 1/432 السلسلة الصحيحة 2110 فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه ، ولا يمصّ أصبعه كما يفعل بعض العوامّ . وليحذر من الإفطار قبل الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أقواما معلقين من عراقيبهم تسيل أشداقهم دما فلما سأل عنهم أُخبر أنهم الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم . الحديث في صحيح ابن خزيمة برقم 1986 وفي صحيح الترغيب 1/420 ، ومن تحقق أو غلب على ظنه أو شكّ أنّ فطره حصل قبل المغرب فعليه القضاء لأنّ الأصل بقاء النهار : فتاوى اللجنة الدائمة 10/287 ، وينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصّغار والمصادر غير الموثوقة . وكذلك ينبغي الانتباه لفارق التوقيت بين المدن والقرى عند سماع الأذان في الإذاعة ونحوها .
39- إذا طلع الفجر وهو البياض المعترض المنتشر في الأفق من جهة المشرق وجب على الصائم الإمساك حالا سواء سمع الأذان أم لا . وإذا كان يعلم أنّ المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر فيجب عليه الإمساك حال سماع أذانه ، وأما إذا كان المؤذن يؤذن قبل الفجر فلا يجب الإمساك عن الأكل والشرب . وإن كان لا يعلم حال المؤذن أو اختلف المؤذنون ولا يستطيع أن يتبين الفجر بنفسه ـ كما في المدن غالبا بسبب الإنارة والمباني ـ فإن عليه أن يحتاط بالعمل بالتقويمات المطبوعة المبنية على الحسابات والتقديرات مالم يتبين خطؤها .
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع ، وما يلاحظ في بعض التقاويم من وجود خانة للامساك وأخرى للفجر فهو أمر مصادم للشريعة .(155/18)
40- البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار مادام يمكن تمييز ليلهم من نهارهم وفي بعض البلدان التي لا يمكن فيها تمييز ذلك يصومون بحسب أقرب البلدان إليهم مما فيه ليل أو نهار متميز .
المفطرات
41- المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة : ـ أن يكون عالما غير جاهل ، ـ ذاكرا غير ناس ، ـ مختارا غير مضطر ولامُكْرَه
ومن المفطّرات ما يكون من نوع الاستفراغ كالجماع والاستقاءة والحيض والاحتجام ومنه ما يكون من نوع الامتلاء كالأكل والشرب . مجموع الفتاوى 25/248
42- من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم ونقله .
وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو تنشيط الجسم أو إبر التطعيم فلا تضرّ الصيام سواء عن طريق العضلات أو الوريد ، فتاوى ابن ابراهيم 4/189 والأحوط أن تكون كل هذه الإبر بالليل ، وغسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّرا فتاوى اللجنة الدائمة 10/190 والراجح أن الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن وقلع السنّ ومداواة الجراح كل ذلك لا يفطر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/233 ، 25/245 ، وبخاخ الربو لا يفطّر لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة وليس بطعام وهو محتاج إليه دائما في رمضان وغيره . وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم بل يُعفى عنه لأنه مما تدعو إليه الحاجة فتاوى الدعوة : ابن باز عدد 979 ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه ، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
وسائر الأمور التالية ليست من المفطّرات :(155/19)
- غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس ) ، أو غسول ، أو منظار مهبلي ، أو إصبع للفحص الطبي .
إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم .
ما يدخل الإحليل ، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى ، من قثطرة ( أنبوب دقيق ) أو منظار ، أو مادة ظليلة على الأشعة ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف الأسنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية ، باستثناء السوائل والحقن المغذية .
غاز الأكسجين .
غازات التخدير ( البنج ) ما لم يعط المريض سوائل ( محاليل ) مغذية .
ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية .
إدخال قثطرة ( أنبوب دقيق ) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء .
إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها .
أخذ عينات ( خزعات ) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل ( محاليل ) أو مواد أخرى .
دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
43- من أكل أو شرب عامدا في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر وعليه التوبة والقضاء وإن كان إفطاره بمحرم كمسكر ازداد فعله شناعة وقبحا والواجب بكل حال التوبة العظيمة والإكثار من النوافل من صيام وغيره ليجبر نقص الفريضة ولعل الله أن يتوب عليه .(155/20)
44- و" إذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري فتح رقم 1933 وفي رواية : " فلا قضاء عليه ولا كفارة . "
وإذا رأى من يأكل ناسيا فإن عليه أن يذكّره لعموم قول الله تعالى وتعاونوا على البرّ والتقوى ولعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"فإذا نسيت فذكّروني " ولأن الأصل أن هذا منكر يجب تغييره . مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين ص: 70
45- من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق .
46- من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين فقد أفسد صومه أنزل أو لم يُنزل وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت ، قال : مالك؟ ، قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ، قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ ، قال : لا ... الحديث رواه البخاري فتح 4رقم 1936 هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة .
ومن جامع في أيام من رمضان نهارا فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها مع قضاء تلك الأيام ولا يُعذر بجهله بوجوب الكفّارة : فتاوى اللجنة الدائمة 10/321
47- لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلا فمعصيته أشدّ وقد هتك حرمة الشهر مرتين ؛ بأكله وجماعه والكفارة المغلظة عليه أوكد وحيلته وبالٌ عليه وتجب عليه التوبة النصوح . أنظر مجموع الفتاوى 25/262(155/21)
48- والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز ، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأَرَبه " ، أما حديث : " يدع زوجته من أجلي " فالمقصود به جماعها ، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك لأنه يؤدي إلى إفساد صومه ولا يأمن من وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع قال الله تعالى في الحديث القدسي : " ويدع شهوته من أجلي " . والقاعدة الشرعية : كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم .
49- وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع ، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة والقضاء والكفارة المغلّظة .
50- إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه و يجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر وعليه المبادرة لأجل الصلاة .
51- إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعا بل يتمّه ، وتأخير الغسل لا يضرّ الصيام ولكن عليه أن يبادر به لأجل الصلاة ولتقربه الملائكة .
52- من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك ، وإن شرع في الاستمناء ثمّ كفّ و لم يُنزل فعليه التوبة وليس عليه قضاء لعدم الإنزال ، وينبغي أن يبتعد الصائم عن كلّ ما هو مثير للشهوة وأن يطرد الخواطر الرديئة . وأما خروج المذي فالراجح أنه لا يُفطّر . وخروج الودي وهو السائل الغليظ اللزج بعد البول بدون لذة لا يُفسد الصيام ولا يوجب الغسل وإنما الواجب منه الاستنجاء والوضوء فتاوى اللجنة الدائمة 10/279(155/22)
53- و" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض " . حديث صحيح رواه الترمذي 3/89 ومن تقيأ عمدا بوضع أصبعه أو عصر بطنه أو تعمد شمّ رائحة كريهة أو داوم النظر إلى ما يتقيأ منه فعليه القضاء ، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر لأنه بدون إرادته ولو أعاده هو أفطر . وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين 67 ، وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر ، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه ، المغني 4/47 وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر، وإذا أخرج الماء بعد المضمضة فلا يضرّه ما بقي من البلل والرطوبة لأنه لا يمكنه التحرز منه ومن أصابه رعاف فصيامه صحيح وهو أمر ناشئ بغير اختياره فتاوى اللجنة الدائمة 10/264 وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه ، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/254 . أما النخامة ـ وهي المخاط النازل من الرأس ـ والنخاعة ـ وهي البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح ـ فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه لعموم البلوى بها فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك فإذا دخلت بغير قصده واختياره فلا تفطّر . واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم : فتاوى اللجنة الدائمة 10/276 ، ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، ومن الحاجة مضغ الطعام للولد إذا لم تجد الأم منه بدّ، وأن تتذوق الطعام لتنظر اعتداله ، وكذلك إذا احتاج لتذوّق شيء عند شرائه ، عن ابن عباس قال لا بأس أن يذوق(155/23)
الخلّ والشيء يريد شراءه . حسنه في إرواء الغليل 4/86 . وانظر الفتح شرح باب اغتسال الصائم كتاب الصيام
54- والسواك سنّة للصائم في جميع النهار وإن كان رطبا ، وإذا استاك وهو صائم فوجد حرارة أو غيرها من طَعْمِه فبلعه أو أخرجه من فمه وعليه ريق ثم أعاده وبلعه فلا يضره الفتاوى السعدية 245 ويجتنب ما له مادة تتحلل كالسواك الأخضر وما أضيف إليه طعم خارج عنه كالليمون والنعناع ، ويُخرج ما تفتت منه داخل الفم ، ولا يجوز تعمد ابتلاعه فإن ابتلعه بغير قصده فلا شيء عليه .
55- وما يعرض للصائم من جرح أو رعاف أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم . وكذلك إذا دخل إلى جوفه غبار أو دخان أو ذباب بلا تعمد فلا يُفطر ، وما لا يُمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطّره ومثله غبار الطريق وغربلة الدقيق ، وإن جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه قصدا لم يفطّره على الأصح المغني لابن قدامة 3/106 وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه ، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن أنظر مجموع الفتاوى 25/233 ، 25/245 وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة . ولا بأس بشمّ الطيب واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها ، والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعّط به : فتاوى اللجنة الدائمة 10/314. والأحسن أن لا يستخدم معجون الأسنان بالنهار ويجعله بالليل لأن له نفوذا قويا المجالس ابن عثيمين ص72
56- والأحوط للصائم أن لا يحتجم والخلاف شديد في المسألة ، واختار شيخ الإسلام إفطار المفصود دون الفاصد .
57- التدخين من المفطّرات وليس عذرا في ترك الصيام إذ كيف يُعذر بمعصية ؟!(155/24)
58- والانغماس في ماء أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد لابأس به للصائم ولا بأس أن يصبّ على رأسه الماء من الحر والعطش المغني 3/44 ويُكره له السباحة لما فيها من تعريض الصوم للفساد . ومن كان عمله في الغوص أو وظيفته تتطلّب الغطس فإن كان يأمن من دخول الماء إلى جوفه فلا بأس بذلك .
59- لو أكل أو شرب أو جامع ظانا بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لأن الآية قد دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبين ، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت فتح الباري 4/135 وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 29/ 263
60- إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فعليه القضاء ( عند جمهور العلماء ) لأن الأصل بقاء النهار واليقين لا يزول بالشك . ( وذهب شيخ الإسلام إلى أنه لا قضاء عليه )
61- وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه ، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسيا ثم تذكّر وفي فيه طعام أو شراب صحّ صومه إن بادر إلى لفظه .
من أحكام الصيام للمرأة
62- التي بلغت فخجلت وكانت تُفطر عليها التوبة العظيمة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض . ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلا ولم تقض . فإن لم تعلم عدد الأيام التي تركتها على وجه التحديد صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضت الأيام التي حاضت فيها ولم تقضها من الرمضانات السابقة مع إخراج كفارة التأخير عن كل يوم مجتمعة أو متفرّقة حسب استطاعتها .
63- ولا تصوم الزوجة ( غير رمضان ) وزوجها حاضر إلا بإذنه ، فإذا سافر فلا حرج .(155/25)
64- الحائض إذا رأت القصّة البيضاء ـ وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض ـ التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت ، تنوي الصيام من الليل وتصوم ، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفا صامت ، فإذا رجع دم الحيض أفطرت ، ولو كان دما يسيرا أو كدرة فإنه يقطع الصيام ما دام قد خرج في وقت العادة فتاوى اللجنة الدائمة 10/154 ، وإذا استمر انقطاع الدم إلى المغرب وكانت قد صامت بنية من الليل صحّ صومها ، والمرأة التي أحست بانتقال دم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس صح صومها وأجزأها يومها .
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها الفتح 4/148
65- المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غدا تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم .
66- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم وتقبل ما قَبِل الله منها من الفطر في الحيض والقضاء بعد ذلك وهكذا كانت أمهات المؤمنين ونساء السلف ، فتاوى اللجنة الدائمة 10/151 بالإضافة إلى أنه قد ثبت بالطبّ ضرر كثير من هذه الموانع وابتليت كثير من النساء باضطراب الدورة بسبب ذلك ، فإن فعلت المرأة وتعاطت ما تقطع به الدم فارتفع وصارت نظيفة وصامت أجزأها ذلك .
67- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام .
68- إذا أسقطت الحامل جنينا متخلّقا أو ظهر فيه تخطيط لعضو كرأس أو يد فدمها دم نفاس ، وإذا كان ما سقط علقة أو مضغة لحم لا يتبيّن فيه شيء من خَلْق الإنسان فدمها دم استحاضة وعليها الصيام إن استطاعت وإلا أفطرت وقضت فتاوى اللجنة الدائمة 10/224 . وكذلك إن صارت نظيفة بعد عملية التنظيف صامت . وقد ذكر العلماء أن التخلّق يبدأ بعد ثمانين يوما من الحمل.(155/26)
النفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة المغني مع الشرح الكبير 1/360 فإن رجع إليها الدم في الأربعين أمسكت عن الصيام لأنه نفاس ، وإن استمر بها الدم بعد الأربعين نوت الصيام واغتسلت ( عند جمهور أهل العلم ) وتعتبر ما استمر استحاضة ، إلا إن وافق وقت حيضها المعتاد فهو حيض .
والمرضع إذا صامت بالنهار ورأت في الليل نقطا من الدم وكانت طاهرا بالنهار فصيامها صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/150
69- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع الصوم " . رواه الترمذي 3/85 وقال : حديث حسن ، والحامل إذا صامت ومعها نزيف فصيامها صحيح ولا يؤثّر ذلك على صحة صيامها فتاوى اللجنة الدائمة 10/225
70- المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها ، قال ابن عقيل رحمه الله فيمن جامع زوجته في نهار رمضان وهي نائمة : لا كفارة عليها . والأحوط لها أن تقضي ذلك اليوم . وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح .(155/27)
وينبغي على المرأة التي تعلم أن زوجها لا يملك نفسه أن تتباعد عنه وتترك التزين في نهار رمضان . ويجب على المرأة قضاء ما أفطرته من رمضان ولو بدون علم زوجها ولا يُشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج ، وإذا شرعت المرأة في قضاء الصيام الواجب فلا يحلّ لها الإفطار إلا من عذر شرعي ولا يحلّ لزوج المرأة أن يأمرها بالإفطار وهي تقضي وليس له أن يُجامعها وليس لها أن تطيعه في ذلك : فتاوى اللجنة الدائمة 10/353 أمّا صيام النافلة فلا يجوز لها أن تشرع فيه وزوجها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ." رواه البخاري 4793
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام ، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران ، والعتق من النيران .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(155/28)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كتبه : الشيخ صلاح البدير
الخطبة الأولى :
الحمد لله ، الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا خير أمة ، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ، أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه للعالمين رحمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تكون لنا نوراً من كل ظلمة وسلم تسليماً كثيراً ، عباد الله اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب وطاعته أعلى نسب { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . }(156/1)
أيها المسلمون : إن المحافظة على حرمة الإسلام ، وصون المجتمع المسلم من أن تخلخله وتقوضه البدع والخرافات ، والمعاصي والمخالفات ، وحمايته من أمواج الشر الهائجة وآثار الفتن المائجة ، وتحذيره مزالق الشقوق ، ودركات الهبوط ، أصل عظيم من أصول الشريعة وركن مشيد من أركانها المنيعة ، يتمثل في ولاية الحسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلك المهمة العظمى والأمانة الكبرى التي هي حفاظ المجتمعات وسياج الآداب والكمالات بها صلاح أمرها واستتباب أمنها وقوة ملاكها ومساكها مافقدت في قوم إلا زاغت عقائدهم وفسدت أوضاعهم وتغيرت طباعهم وما ضعفت في مجتمع إلا بدت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال والأمة حين تكون سائرة في جادة الطريق محكمة شريعة الله بالتحقيق والتطبيق يكون من أول مهامها إقامة ولاية الحسبة ورفع لوائها وإعلاء بناءها وإعزاز أهلها لأن جميع الولايات تعود إليها ، يقول تبارك وتعالى{ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .} ويقول تبارك وتعالى{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
أمةٌ قائدة رائدة تحقق في المجتمع المسلم شرع الله وتصدع بالحق في وجوه النفوس المريضة الباغية إشباع شهواتها العابثة بأمن الأمة ومقدراتها ، يقول جل وعلا في وصف الأمة المحمدية وذكر أسباب الخيرية
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }
أيها المسلمون :(156/2)
إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتّال الذي به خراب المجتمعات وهلاكها وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب ، فعن أم المؤمنين أم الحسن زينب جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً وهو يقول : لاإله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ويأجوج مثل هذه ـ وحلّق باصبعه الإبهام والتي تليها ـ فقلت يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون .. قال صلى الله عليه وسلم : نعم إذا كثر الخبث ) متفق عليه . والخبث هو الفسوق والفجور .
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله لايعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة . رواه أحمد .
ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : مامن قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لايغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب . رواه أبو داوود وغيره . وكتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله أما بعد ، فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ماقُمع أهل الباطل واستخفي فيهم المحارم.
أيها المسلمون :(156/3)
إن الإدهان في الدين .. وعدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أول مادخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول ياهذا اتق الله ودع ماتصنع فإنه لايحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون } ثم قال صلى الله عليه وسلم : والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم . رواه أبو داوود والترمذي .
لُعنوا في كتاب الله لعناً يتلى على مر الأيام والسنين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين ، فاحذروا عباد الله سبيلهم الوخيم وفعلهم الذميم ، فإنه لاصلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران .
يامن رضيتم بالله رباً .. وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً : أصيخوا سمعكم وأصغوا قلوبكم لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .(156/4)
وانظروا وتساءلوا أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا ؟ أين إيماننا الصادق ؟ وخضوعنا التام لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم !
من رأى منكم منكراً فليغيره بيده السلطان في سلطانه ، والأمير في إمارته ، والقائد في جيشه ، والرجل في أهل بيته ، وكل مسؤول فيما تحت ولايته ومسئوليته ، يقول عثمان رضي الله عنه : إن الله يزع بالسلطان مالايزع بالقرآن ) ويقول بعض السلف : ( ماقيمة حق لانفاذ له !
أيها الآباء والأمهات :
طهروا بيوتكم من جميع المنكرات ، وليكن بيت النبوة على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام لكم في ذلك قدوة وأسوة تنتهجون نهجه وتحذون حذوه ، تقول عائشة رضي الله عنها : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة من جدران فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وتلوّن وجهه وقال : ياعائشة أشد عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى متفق عليه
. تقول عائشة رضي الله عنها فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين
أيها المسلمون :
من عجز منكم عن الإنكار باليد والسلطان فلينكر باللسان والبيان ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لاننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا .. لانخاف في الله لومة لائم . متفق عليه(156/5)
. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : ألا لايمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه رواه الترمذي وأحمد وزاد ، فإنه لايقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم وقال عليه الصلاة والسلام : لايحقر أحدكم نفسه قالوا يارسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال يرى أمراً لله عليه فيه مقال .. ثم لايقول فيه فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : مامنعك أن تقول فيّ كذا وكذا فيقول خشية الناس ، فيقول الله جل وعلا : فإياي كنت أحق أن تخشى . رواه ابن ماجه .
أيها المسلمون :
إن الطامة الكبرى ، والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب ويزيل خطر المعاصي في النفوس فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله ، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخياً لايعرف معروفاً ولاينكر منكراً إلا ماأشرب من هواه . رواه مسلم .
وسُئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من ميت الأحياء ؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه : الذي لاينكر المنكر بيده ولابلسانه ولا بقلبه ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالايفعلون ويفعلون مالايأمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
أيها المسلمون :(156/6)
لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل لا يخفى مستواها ولا يُجهل فحواها ومحتواها غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقيتها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها
فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات ؟ هل أوصدوا دونها الأبواب ؟ هل جاهدوها حق الجهاد ؟ هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد ؟ .
لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتوقظ ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم .. شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يارسول الله : اليهود والنصارى ! فقال صلى الله عليه وسلم فمن ؟ ! رواه البخاري .
يقول بعض أهل العلم : إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولاضجيجهم في الموقف من الضنك وإنما انظر إلى مواطاتهم أعداء الشريعة .
أيها المسلمون :
إنكم أغلى وأعلى وأعز وأكرم من أن تهبطوا من سماء عليائكم إلى التشبه بأمم كافرة فاجرة تعيسة بئيسة حائرة شاردة تلهث وراء شهوتها وتستهيج في سبيل متعتها ، فلقد شرفكم الله جل وعلا بأعظم دين ، وأكرمكم بأفضل رسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليكم خير كتاب فاشكروا الله على ماحباكم وأعطاكم ، وجابهوا جهود أعداءكم بجهود أقوى وأمضى قبل أن تشتد شوكتهم وتحتد شكتهم ، جهود تحفظ أمانة الدين الذي ائتمنكم الله عليه ، صونوه طاقتكم واحفظوه جهدكم { وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم .}
أيها المسلمون :(156/7)
لقد استحكمت غربة الدين وعظمت المصيبة على كثير من المسلمين في كثير من البلاد بسبب إفشاء الفساد وإشهاره ومداهنة بعض الناس في إنكاره ، وإن أطمّ المصائب وأوضع المراتب أخذ المال السحت على الإقرار عليه وحماية فاعله من أن يتوصل للإنكار عليه .
فأين القائمون لله ؟ الذابون عن دينه ، الذائدون عن محارمه ، بمجاهدة عدوه وأهل معصيته .
عباد الله :
إن مما يبعث على الحرقة والأسى .. أن يرى المسلم في مجتمعه وأمام عينيه صوراً ممرضة وأحوالاً مرضة من المنكرات والمحرمات فلا يجد لذلك في نفسه نساً ولا حساً ولاتوجعاً ولا إلتياعاً ، فأي ركن قد وهى ؟ وأي نور للإمة قد ذهب واختفى ؟ نعوذ بالله من اندراس معالم هذه الشعيرة واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ياخير أمة أخرجت للناس :
أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله ؟؟ أين الغضب ؟؟ أين تمّعر الوجوه ؟؟ في انتهاك حدود الله ، تقول عائشة رضي الله عنها : ماضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا إمرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ومانيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل
رواه مسلم .
أيها المسلمون :
تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن وقوموا قومة تُعلي راية الإيمان وخذوا على أيدي سفهاءكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسر والتضجر دون عمل وجد واجتهاد وأمر ونهي ودعوة وإرشاد لايغير من الواقع شيئاً ، بل هو داعية غم وهمّ وفتور وإحباط .
إننا لانريد غيرةً لاتعدوا أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا أو نحسها مجردة في مشاعرنا ، إننا نريدها باعثاً قوياً وواقعاً عملياً وعملاً إيجابياً لخدمة دين الله والانتصار لشرع الله وفق القيود الشرعية والضوابط المرعية.
أيها المسلمون :(156/8)
إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لايقدر عليها إلا الكمّل من الرجال ، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتهم وغرورهم وكبرياءهم وهبوط السفلة منهم ، ولابد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى .
فصبراً صبراً ياأهل الحسبة ، فقد أوذي إمامكم وقائدكم خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء محمد صلى الله عليه وسلم فصبر وصابر حتى نصره الله { ولا مبدّل لكلمات الله } { ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .}
أيها المسلمون :
إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطاءهم وبث الإشاعات الكاذبة عنهم جرم عظيم وذنب كبير تصيب المرء مغبته ومعرّته ولو بعد حين ، يقول جل وعلا { إن الذي يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم .} وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب
رواه البخاري .
فاحذروا من الانخداع بمقالات الجاهلين أو الانسياق وراء أكاذيب الحاقدين ومايدور على ألسنة المغرضين ، يقول جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً .}
بارك الله لي ولك في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :(156/9)
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً
عباد الله :
اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولاتعصوه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }
أيها المسلمون :
اعلموا أنه لا يجوز أبداً إجارة مركوب أو دار أو دكان لمن ينتفع بها في معصية الله ، أو يستخدمها لبيع ما حرم الله لما ينشأ عن تأجير هؤلاء من الأضرار المتعدية ونشر المنكر بين المسلمين
فاحذروا أن تساعدوهم أو تساندوهم أو تعاقدوهم أو تقاعدوهم واستجيبوا لقول المولى جل وعلا { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب }
عباد الله :
ارحموا أهل المعاصي والمنكرات ارحموهم وأرشدوهم ووجهوهم فالراحمون يرحمهم الرحمن ، أنقذوهم من الضلالة والعمى وبصّروهم طريق الرشاد والهدى ، واهجروا من أصر منهم على معاصيه وجاهر بفسوقه ومخازيه
.
يقول بعض أهل العلم :
وهجران من أبدى المعاصي سنة .. وقد قيل إن يردعه أوجد وأكد
وقيل على الإطلاق مادام معلناً .. ولاقه بوجه مكفهر مربد
عباد الله :
إن المعلوم بمقتضى النصوص والمشاهد بالواقع المحسوس أن هجران المجاهرين بالمعاصي والمنكرات المصرين على باطلهم وفسقهم وإقامة الحدود والتعزيزات عليهم له الأثر الأكبر والنصيب الأوفر في إضعاف المعاصي واضمحلالها .
يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : تحدث للناس أقضية على قدر ماأحدثوا من الفجور . وقد قيل : من استرخى لًبًبه ساء أدبه ومن أمن العقوبة أساء الأدب .
فلا بد من القوة والحزم مع ضرورة تجفيف منابع الشر وسبل الفساد وإلا انطبق علينا قول القائل :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له .. إياك إياك أن تبتل بالماء(156/10)
أيها القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
اعلم أن العلم إمام العمل ، فلتكن عالماً بما تأمر ، عالماً بما تنهى ، رفيقاً فيما تأمر ، رفيقاً فيما تنهى ، حليماً فيما تأمر ، حليماً فيما تنهى ، وليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ، ونهيك عن المنكر بلا منكر .
عباد الله :
كونوا للحق أعواناً {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } عباد الله :
إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون .(156/11)
الأمة الأبية
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أيها الإخوة أيتها الأخوات : إن أمتنا هذه ، أمةٌ أبيَّةٌ ولله الحمد ، إنها أمةٌ لا ترضى الذل والهوان ، إنها أمةٌ تقاوم الذي يريد الاعتداء على مقدساتها وعقيدتها ، إن هذه الأمة فيها خيرٌ عظيم ، قال النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ [ مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ] رواه الترمذي وقال الحافظ حديث حسن .
فالخير باقٍ في هذه الأمة ، كما كان من أولها ، فكما أن الدين كان محتاجاً إلى أول هذه الأمة لإبلاغة ، وكذلك هو محتاجٌ إلى القائمين به في آخر هذه الأمة ، والفضل للمتقدم قطعاًَ ، كما أن الزرع محتاجٌ إلى المطر الأول ، وإلى المطر الثاني ، ولكنَّ احتياجه إلى الأول آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها . ابن كثير رحمة الله .(157/1)
قال شيخ الإسلام : ومعنى الحديث أنه يكون في آخر الأمة من يقارب أولهم في الفضل ، وإن لم يكن منهم ، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل ، وذلك لأنه قال : لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره . حتى يشتبه على الناظر أيهما ، وذلك لأنه قال : لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره . ومن المعلوم أن الله يعلم ، أيهما خير ، وهذا فيه بشارةٌ عظيمةٌ لنا ، بأن الخير موجودٌ في هذه الأمة ، إلى قيام الساعة ، ألا ترى أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمة الله : [ لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله فيهم وهم كذلك ] فهذه الطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة ، تنافح عن دين الأمة ، تنافح عن عقيدة هذه الأمة ، تنافح عن شريعتها ، وعن أحكام ربها ، وعن مقدساتها ، بالسنان واللسان ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تقوم الساعة . قال النووي رحمه الله : في بيان أنه لا يلزم من هذه الطائفة أن تكون واحدة ، أو أن يكون واحداً قائماً بجميع الدين ، بل يمكن أن تكون الطائفة جماعةً متعددةً من أنواع المؤمنين ، ما بين شجاعٍ وبصيرٍ بالحرب وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ وقائمٍ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزاهدٍ وعابد ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلدٍ واحد ، بل يجوز اجتماعهم في قُطْرٍ واحد ، وافتراقهم في أقطار الأرض ، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد ، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض ، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم ، أولاً فأولاً ، أي أنهم يقلون ، إلى أن لا يبقى إلى فرقة واحدة ، ببلدٍ واحد ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله ، يعني قامة الساعة .
هذه الأمة لا يزال الله يغرس فيها غرساً ، إلى يوم القيامة ، لا يزال الله سبحانه وتعالى ، يظهر فيها من يظهر دينه ، قال عليه الصلاة والسلام :[ لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته ] رواه أحمد . وهو حديث صحيح .(157/2)
[ ويبعث لها على رأس كل مائة سنة ، من يجدد لها دينها ] حديث صحيح . يحيي من درس من الكتاب والسنة ، يدافع وينافح ، يبين الحق ويظهره ، يرد على أهل البدعة ، يرد على أعداء الدين ، وهكذا ظهرة في الأمة ، عمالقةٌ وجبال ، كلما مات سيدٌ قام سيدٌ ، وهكذا يتوالون ، والحمد لله بلا انقطاع ، وأنت ترى في هذا الزمان ، ولله الحمد ، من لا يزال ينافح عن الدين ، يرد على الأعداء ، ويصد كيدهم ، إن الإسلام كالشمس ، إن غربت من جهةٍٍ طلعت من أخرى ، فلا تزال طالعة ، وهذه الأمة ، قادرة ولله الحمد ، على الدفاع عن دينها ، إنهم يعملون بلا هوان ، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) ، إنهم يشعرون بالعزة ، التي تولدها فيهم هذا العقيدة ،(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )(المنافقون: من الآية8) ، من اسم الله العلي : يستعلون على أعدائهم ، ويستمدون من العلي سبحانه وتعالى ، علوهم على غيرهم من أهل الأرض ، فأهل الحق ظاهرين ، ولله الحمد ، فأهل الحق ظاهرون ولله الحمد ، على من ناوأهم ، يكبتون من عاداهم ، ويسكتون من أراد أن يخرج على دينهم ، وكلما ظهرت بادرة من بوادر الشر ، قام لها واحدٌ يتصدى فأكثر ، من المسلمين ، ولما حاول أحد الذين يثيرون الشبهات ، في أول هذه الأمة ، أن يطوف بالمجالس ، ويسأل عن متشابه القرآن ، وسمع عنه عمر بن الخطاب ـ t ـ فدعاه وقد أعد .... النخل ، فسأله من أنت ؟ من أنت ؟ فأخبره باسمه ، فقال عمر : وأنا عبدالله عمر ......... على رأسه حتى سالة الدماء ، فقال حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد ذهب الذي في رأسي ، وهكذا نفى صبيغَ بن عسلٍ ، خارج البلد ، إلى مكان بعيد ، حتى حوصر نفسياً ، فجعل يلتمس عن طريق ، أمير البلد ، من عمر ......... أن يفك عنه الحصار ، لأنه قد أمر الناس ....... لما ظهر أول أوائل الخارجية ، قام عبدالله .........(157/3)
كثير من الصحابة .......... ، ولما خرج الخوارج قام علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ، ولما قامت المعتزلة ، قام الإمام أحمد والبُوَيْصِي ، وغيرهم من أهل العلم ، يردون عليهم ، وهكذا أحمد بن نصر الخزاعي ، وطائفة من الأمة ، كلما رأيت لا يسكتون ، وأُلِفت المؤلفات الكثيرة ، في الرد على أعداء الدين ، وهكذا حتى ... الأعداء قد أصابهم الذل والهوان , لأنهم لم يُفْلحوا في طمس نور هذا الدين ، ولا يزال نوره قائماً ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشروكون ، ولوكره الكافرون ، وعندما ظهرت فرق أهل الشرك في هذه الأمة , قام أهل العلم بالرد عليهم , وقامت الحركات التجديدية , وقام أهل الجهاد في هذه الأمة , بالصد والرد , وهكذا تتوالا حلق الصراع بين الحق والباطل , وكل كيد الأعداء , في ظلال , (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) , وصار بعض هذه الأمة يعبد الأوثان , والقبور على الأضرحة , ويستغيث بالموتى من دون الله , ويتمسح بالقبور والأشجار والصخور ويطاف بها , وتعبد من دون الله , فقيض الله لهذه الأمة , من قام ليعيدها إلى التوحيد , ويبين للناس هذه الأعمال الشركية , وكلما قامت طائفة من أهل الشرك , على القبور , يدعون من دون الله , ويستغيثون بالأموات , تقوم طائفة من أهل الحق , بالرد عليهم , ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون ما الأذى , إن روح المقاومة في هذه الأمة , فعلاً روحٌ عجيبة , تدعوا للإعجاب والفخر , لقد قامت الشيوعية , وعدوات القومية , والاشتراكية , والوجودية , وأنواع الإلحاد , والحداثة , وقيض الله في هذه الأمة , من يقوم بالرد عليهم , وبيان كفرهم , وصريح باطلهم , ولم يكن الأمر خاصَّاً بالعلماء , بل من طلبة العلم والدعاة , بل من عامة الناس , يرفظون الأجنبي عن هذه العقيدة , والأجنبي عن الدين , يرفظون كل ما هو أجنبي عن هذا الدين , ومن الأمثلة(157/4)
على ذلك في واقعنا المعاصر , لما قامت فرنسا باحتلال الجزائر , واختيرت عشر فتيات مسلمات , أدخلهن الفرنس الممدارس الفرنسية , وألبسن الملابس الفرنسية , حتى أصبحن كالفرنسيات تماماً , وبعد أحد عشر عاماً من الجهود , هُيئة حفلة تحرج لهن , ودعي لها الكبراء والمفكرون وأهل الصحافة , ولما ابتدأت الحفلة فوجأ الجميع بالفتيات يدخلن , بلباسهن الإسلامي , فثارت الصحف , وتسائلت ماذا فعلن إذاً في الجزائر ؟ وماذا أنجزن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً , فقام وزير مستعمارتهم لاكوستلي يقول : وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا , وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر , تولى أمان الله على بلاد الأفغان , خلفاً لأبيه , ويريدوا الاستقلال , وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين , قام بزيارة طويلة للخارج , استغرقت سبعة أشهر , يطوف على بلادان في الغرب والشرق , ليرجع إلى بلده ليبدأ رحلة التحرير , إعجاباً بالغرب وبما فعل , واستناناً بأسان الترك , وأن يحذوَ حذوه , ويريد أن يفرض على الناس , أن .... الغربي , فأصدر تعليمات , بنزع الحجاب , وكذلك إلغاء الأزياء المحلية , ودعا الناس إلا ارتداء الأزياء الغربية , وذهب في الغلو مذهباً بعيداً , حتى أمر بتبادل التحية , على الطريقة الغربية , برفع قبعة الرأس ووضعها في مكانها , وأمر بتقييد أهل العلم , ونشاطهم , ولكن الله سبحانه وتعالى , قيض من علماء تلك البلاد , مع عامتهم , من قام عليه , وأزاله ولله الحمد , ورجعت البلاد إلى ما كانت عليه , أما أتان الترك , الذي قد كان نجح بالخدعة , في تركيا , في إزلة سلطان الحضارة الإسلامية عن تلك البلاد , وإلزامهم بنزع العمامة , وارتداء القبعة , ....... , فقام علمائها يبينون , وألف الشيخ عاطف , ............ ، قماشٌ , وهذا قماش , فأجابه الشيخ : انظر أيها القاضي , إلى هذا العلم المرفوع خلفك , يقصد علم تركيا , استبدله بعلم انجلترا مثلاً , فإن(157/5)
قبلت ولا فهي .... ، وإلا فهذا قماش وهذا قماش , فبهت القاضي , ومع ذلك فقد قتلوه , ..... قتلوه رحمه الله , لقد قامت المدارس الأجنبية , والمدارس المسمى بالعالمية , في بلاد المسليمن , فقام أهل العلم ببيان خطرها , وأن هذه مدارس البعثات , التنصيرية التي تريد إفساد دين الأمة , وعقيدتها , وتربية جيل من أبناء الكبراء .... , ليكونوا طليعة التخريب , ...... , ثم يسرعون بالعفن , ومع ذلك , فقد قامت طائفة من المسلمين , أمام تلك إحدى المدارس للبعثات التنصيرية , تطالب بتدريس مادة الدين الاسلامي , فيها , حتى كتب كبيرهم يقول : أنتم تعلمون ما هو السبب الذي أنشأت مدارسنا في بلادكم , فلماذا تحاولون إذاً المطالبة بتدريس الدين الإسلامي فيها , لقد أرادوا من وراء ذلك , إفساد الأديان , ولكن الله سبحانه وتعالى , كشف باطلهم , وقام أهل الإسلام , يحذرون من أثر هذه المدارس , وإفسادها , صحيح , لقد حصل لها تأثير سيء , وتربت عليها أجيال , من أهل الإفساد , ولكن لم تنجح , في تحويل بلاد الإسلام إلى بلاد كافرة ولله الحمد , وعندما قام المفسدون , بجلد ما عند الغرب , من كل إيجابيٍ وسلبيٍ ورذيلةٍ وصحيحٍ وخاطئٍ , قام في المسلمين , من ينادي بتنقيح العلوم , وعرضها على الكتاب والسنة , وخصوصاً ما يسمى بالعلوم الإنسانية , كالنفسانية , والإجتماعية , والإقتصادية , والتاريخية , والجغرافية , وغيرها . وتم التعليق على ما في تلك العلوم , من الأمور والجمل والعبارات , المخالفة للشريعة الإسلامية , وهكذا , أعيدة كتابة كثير من الكتب المؤلفة , باللغة الأجنبية , لتحذف العبارات المخالفة , للشريعة منها .(157/6)
ولما قام الكفار في هذا الزمان , بحربهم , من أجل تغير المناهج , في البلاد الإسلامية , قام في المسلمين من يدافع عن العقيدة والدين , ويبين أن الله سبحانه وتعالى , خلق البشر , (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)(التغابن: من الآية2) , وأن الله قسم الخليقة إلا قسمين , منهم المؤمن ومنهم الكافر , وأن الذي يرفض تكفير الكافر , فهو يعلم كفره ويأبى ذلك , فإنه كافر مثله , ولابد أن يحيى من حي عن بينة , ويهلك من هلك عن بينة , ولابد أن تقوم العلوم على أساس الدين ، وأن تنطلق منه , وأن لا تتعارض معه , وهكذا قام المخلصون بالمؤتمرات في التعليم الإسلامي , لتصحيح وتنقيح هذه الكتب , وعندما حاول بعض الذين يأخذون من الغرب , إزالة الإشارات التي فيها , تفريق الناس , إلى مؤمنين وكفار , وإزالة ما يدعوا , إلى البغض لهؤلاء الكفرة , وموالاة المؤمنين , فقط . قام بعض أهل العلم بالتصدي لهم , كما قال بعض هؤلاء الأفاضل , في رد الشبهات التي تعلق بها , الذين يحبون الكفار , ويريدون أن تزال كل العبارات والكلمات التي تأمر ببغضهم , استناداً إلى الآيات القرآنية , والأحاديث النبوية , وأنَّ هذه الآيات , والأحاديث تزال , وهذه الإشارات إلى حكم أؤلئك القوم , في شريعة الله تزال , قام أهل العلم بالبيان , وقالوا إن النصوص تدل على البراءة من الكفار كلهم , من حاربنا ومن لم يحاربنا , وإن زَعْم البعض , أن النصوص الشرعية , تدل على أن البراءة يكون فقط , ممن كفر وحارب , وليس ممن كفر وسالم , بَيَّنَ العلماء أن هذا القيد إنما جاء به من عند نفسه , وإن الله علق البراءة على الكفر مطلقاً , وقال تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)(آل عمران: من الآية28) ، وقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً(157/7)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(المجادلة: من الآية22) , وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23) , فأما الذين كفروا ولم يحاربونا , فإننا نبغضهم والله ونكرهم , بدا بيننا وبينهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحدة , لكننا لا نظلمهم , ولا نعتدي عليهم , ولا نسرق أموالهم , ولا نسفك دمائهم , فإذا حاربونا فليس لهم منا إلا السيف والله , فيضاف إلى بغضهم , القيام بمحاربتهم , وهكذا يتبين الفرق , بين الكافر الذي حاربنا وبين الكافر الذي سالمنا , فالكافر الذي سالمنا نبغضه لكفره , لا لشكله , ولا لبلده , ولا لقبيلته , ولا لاسمه , ولا لأصله , ولكننا نبغضه لكفره , ما دام أنه كفر بالله فبغضه في قلوبنا قائم , لكننا لا نظلمه ولا نعتدي عليه , فإن كفر وحاربنا فإننا نحاربه بالإضافة إلى كرهه وبغضه , فإن قضية البغض قضية دينية بحته , من الإيمان الحب في الله والبغض في الله , وكذلك لما قام البعض يقول : لا تكفير في هذا الدين , قام أهل العلم من يرد عليهم , ويقولون لهم : إذا كان الله قد كفر قوماً فهل يجوز لنا أن نكفرهم , أو أن توقف فيهم , أو أن ندعي أنهم ليسوا بكفار , كيف هذا , وكان في المسلمين , روح المقاومة والبغض أن يتولا كافرٌ عليهم , ولما استوزر باديس صاحب باديس قرطانه , اليهودي الشهير بابن النغريلة , وأعظل دائه المسلمين , قام زاهد إلبيرا وقرناطة ، أبو اسحاق الأيبيري رحمه الله , بإلقاء قصيدته ا لنونية المشهورة التي يقول لأهل صنهاجة المسلمين فيها :
ألا قل لصنهاجة أجمعين(157/8)
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة زينقةٍ مشفقٍ ( زينقة يعني محب )
صحيح النصيحة دنيا ودين
لقد زل سيدكم زلةً
أقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخو
وسادوا وتاهوا علىالمسلمين
في قصيدةٍ طويلة ، أثارة أهل صنهاجة , على أؤلئك اليهود , فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة , منهم ذلك الذي استوزر , وأراح الله منه البلاد والعباد , ولم تنس الأمة من والوْ أعدائها , وتقوم بتصفية حساباتها معهم , لقد كانت قريةً من القرى المنوفية تسمى ( دنشواي ) تشتهر بأدراج الحمام , التي تستقبلك إذا وصلت إلى حدودها , قام الإنجليز الذين احتلوا أرض الكنانة , بالعبث والفساد , وحصل أن ذهب بعضهم إلى تلك القرية للتسلية , لاصطياد الحمام , وقاموا بإطلاق النار على الحمام , فأصابة إحدى رصاصاتهم , أدران القمح , ونتج عن ذلك حريق , فتجمع رجال القرية يذودون عن ممتلكاتهم , وقاموا يطاردون أؤلئك المحتلين الإنجليز , فأصيب واحد بضربة شمس , ووقع الثاني على الأرض , مغشياً عليه , فكانت النتيجة , أن قام أؤلئك المحتلون , يريدون أن يأدبوا أهل هذه القرية , الذين تمردوا عليهم , وأُتي بهؤلاء القرويين المساكين للمحاكمة , وقام الجلداوي شيخ المحامين في ذلك الوقت لمحاكمة هزلية , أصدر فيها أحكاماً بإعدام أربعة , وجلد اثني عشر , وأشغالٍ شاقةٍ للباقين , واشترك في هذه الجريمة , بطرس غالي , الجهد الذي رأس المحكمة , وأحمد فتحي زغلول شقيق , سعد زغلول , فأما أحمد زغلول هذا , فقد أرسل له شوقي أبياتاً في احتفال أقيم لهذا الرجل , يقول له :
إذا ما جمعتم أمركم وهممتموا
لتقديم شيء للوكيل سمين
خذوا حبل مشنوقٍ بذيل جبيرةٍ
............................
ولا تعرضوا شعري عليهم
فحسبي من الشعر حكمٌ خطه بيمين(157/9)
لا يحتاج إلى هجاء , فيكفيه ما أصد على المسليمن من هذا الحكم الظالم , فأما الوالي فقد لقي مصرعه فقيد بعده بسنوات قليلة , والهيباوي عمر إلى ثلاثٍ وثمانين , ذاق خلالها أيام الذل والهوان , لم ينس له الناس ذلك الموقف السيء الذي ظلم فيه أهل بلده . وقام مرةً ليلقيَ كلمةً , فإذا بأحد الحاضرين من خلف يقول : فليسقط جلاد جنشواي , وهكذا قام الناس عليه , بصوتٍ واحدٍ , فمات في عام ألف وتسعمائة وأربعين [ 1940م] , وكان خلف جماهيريته من يقول :
أيها المدعي العمومي مهلاً
بعض هذا فقد بلغت المراد
أنت جلادنا فلا تنس أنا
قد لبسنا على يديك الحداد
ولما قام أتاني الترك بإلغاء دولة الخلافة , وإنشاء الدولة العلمانية الغربية , وكان عمره قد ..... , فقال عرفات أوركا أحد المعجبين به : قد اقتنع أن كفاحه يجب أن يوجهه إلى الدين , فإنه منافسه الأكبر , وكان يعتقد من صغره أنه لا حاجة إلى الله , تعالى الله عما كان عليه ذلك الظالم علواً كبيرا . وكان لا يؤمن إلا بالمشاهد المحسوس . وكان يبغض الإسلام والعقيدة الصحيحة , بغضاً شديداً , وكذلك فإنه قد حكم شرع الغرب , في قومه , وأزاح الشريعة الإسلامية , فقام أهل الإسلام في تلك البلاد بالبرد , وألَّف إسماعيل بن إبراهيم الأسعردي الأزهري : تحذير أهل الإيمان على الحكم بغير ما أنزل الرحمن , وكان المسلمون يظنونه في بداية الأمر , مجاهداً غازياً , لما حصل من التراجع الوهمي من جيوش الحلفاء أمامه , حتى سماه بعضهم [ الغازي مصطفى كمال ] وشاعة أخباره في البداية , حتى أن أحمد شوقي الشاعر اغتر به وكتب قصيدةً بعد انتصارٍ مزعومٍ , لذلك الرجل علىالحلفاء يقول
الله أكبر كم في الفتحٍ من عجبٍ
يا خالد الترك جدد خالد العربي
ولكن حينما تبين أمره , وظهرة حقيقته , وألغى الخلافة الإسلامية , ونحى الشريعة الإسلامية , قال شوقي نفسه في قصيدةٍ ينعي فيها الخلافة :
عادة أغاني العرف رجع نواحي(157/10)
ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبٍ
ودفنت عند تبلد الإصباح
شيعت من هلعٍ بعبرةِ ضاحكٍ
في كل ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ
ضجت عليك مآذنٌ ومنابرٌ
وبكت عليك ممالكٌ ونواحِ
الهند والهت ومصر حزينةٌ
تبكي عليك بمدمعٍ سحاحِ
والشام تسأل والعراق وفارس
أمحى من أرض الخلافة ماحِ
وهكذا صارت أغاني العرس نياحه , وهكذا صار الفرح نعياً , وكفنت تلك العروس بثوب الزفاف , فرجموه بعد موته , وكرهوه وأبغضوه , وانكشف أمره , ولكن كان في وقته على القلة من المسلمين , من بيَّن حاله ...... ، لقد كان في المسلمين من يقوم إلى الخديوي , ليقول له : يا أفندينا أليس المحاكم المختلطة , فتحت بقانون يبيح الربا , أليس الزنا برخصة ؟ أليس الخمر مباح ؟ أليس أليس وعدد له المنكرات , فكيف ننتظر النصر من السماء , فقال وماذا نصنع وقد عاشبنا الأجانب ؟ وهذه ميزانيتهم . فقال إذاً فما ذنب العلماء ؟ وكان الخديوي قد انتقد قراءة صحيح البخاري , فقال : وما ذنب العلماء وما ذنب البخاري إذن ؟ وعندما دخل عليه أحد أهل العلم يعضه ويتكلم عليه , وينصحه , ويرفع صوته , ويخفضه , وينكر المنكرات , حتى أن ذلك الخديوي , استشاط غضباً , وجعلى يفور ويغلي , وكان هذا العالم , جالساً بينه وبين الخديوي وسادة , فقال : ذلك الخديوي , ماذا تقول ؟ اسكت ! هل تعرف الفرق بينك وبين الحمار ؟ قال : هذه الوسادة .(157/11)
ولما كتب الروايات في الحجوم على الدين , الروات التي فيها السبت لذات الإلهية , الروايا التي فيها التشكيك في الأحاديث النبوية , الروايات التي فيها نقد العبادات , قام علماء الإسلام والدعاة , والغيارى على الدين , بالرد عليها , وقام أهل الإسلام ببيان حكم الله في هؤلاء الذي يستهزؤن بشريعته , إن سلمان رشدي , لما كتب الآيات الشيطانية وغيرها , ورجع إلى بلده بومبي قام المسلمون في بومبي , بالتظاهر ضده , وأعلنوا أنهم يريدون قتله , وأنه يستحق الشنق , حتى اضطر إلى الهرب سراً , من فندق تاج محل , الذي كان يقيم فيه , مع عشيقته , فهرب محروساً مخفوراً , لا يلوي على شيء , عدا أن قام عليه المسلمون الذين عرفوا كفره وزندقته . وماجلان البحار المشهور , الذي يُكْبِرُه الكثيرون , وكان داعياً من دعاة النصرانية , لقد كان قتله على يد رجل مسلم , فقد ذهب مع الأسبان الذي وصلوا إلى جزر الصين في عام 927 م , يقودهم ماجلان الذي اكتشف رأس الرجاء الصالح , مع الأسف بمساعدة أحد البحارة المسلمين , الذين لعلهم لم يكونوا يدركون ما هو قصد هؤلاء , الأسبان , لقد كان الأسبان النصارى الغزاة , يبحثون عن طريقٍ بحريٍ , يهاجمون فيه البلاد , من بلاد جنوب شرق آسيا وغيرها , كالفلبين وأندنوسيا ونحوها , دون أن يمروا بالبحر الأبيض المتوسط , الذي كان فيه للمسلمين أساطير بحرية , فكانوا أن اهتدو إلى أؤلئك الطريق , الذي يمر بسواحل جنوب أفريقيا , ثم يتجه إلى تلك البلاد , دون أن يذهبوا إلى البحر المتوسط , نزلوا على أرض الفلبين يضنون أنها وثنية ، وأطلقوا عليها الفلبين نسبة إلى ملكهم ( فيليب الثاني ) الذي أرسل تلك الحملة الصليبية , لكن ما إن توغل الأسبان حتى فوجؤا بالمسلمين , في تلك البلاد , حتى أنهم صاحوا موروث , وهو الإسم الذي كان يطلقه الأسبان على المسلمين الأوائل , الذين فتحوا الأندلس , ومعناها السمر , نسبة إلى العرب والبربر ,(157/12)
المسلمين الذي فتحوا الأندلس , فكان الأسبان يسمون المسلمين موروث , السمر , ففوجأ الأسبان بهم , ونشب صراع بين المسلمين والصليبين في جزيرة ( مندناو ) وارخبيل سولو بقوة المسلمين في تلك البقاع , وقد استطاع الأسبان ، أن يفرضوا النصرانية بالقوة على جزيرة ( لوزون ) , ثم عرض ماجلان على حاكمها , أن يتنصر مقابل تنصيبه على كافة جزر الفلبين , ثم اتجه إلى الجزر الجنوبية , وأراد أن يجتمع من ملكها المسلم ( لابو لابو ) , وقال له : إنني بعت المسيح , أطلب منك التسليم , ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة , أولى منكم بحكم هذه البلاك , فرد عليه لابو لابو : إن الدين لله , وإن الإله الذي أعبده , هو إله جميع البشر , على اختلاف ألوانهم , ثم قام بنفسه , بقتل الصليب ماجلان , ..... الحقد والشر والانتقام , ثم عادوا بأساطل قوية عام 973م , واستطاع المسلمون ردهم عدة مرات عن جزر منجناو وسولو , حتى استولى الأسبان على الجزر الشمالية , وهكذا دخلوا في صراعات عظيمة , مع المسلمين , كان للمسلمين فيها نصرُ أحياناً , وتراجعُ آخر , وقامت حروب طاحنة , وبالرغم من استيلاء الأسبان على تلك البلاد , إلا أنهم لم يستطيعوا حكام السيطرة عليها كلياً , فاندلعت ضدهم عدة معارك جهادية من المسلمين , من أهمها ما كان في سنة 1290هـ , 1314 هـ , حتى عرفوا أنه لا مقام لهم في الفلبين , فرحلوا عنها , لكن بعد أن صار كثير من أهل تلك الديار من النصارى , ولكن ! لا زال أمر الدين قائم في تلك البلاد , والحمد لله , ولعل سرعة إسلام هؤلاء من أهل الفلبين , ترجع إلى أنهم يريدون العودة من حيث لا يشعرون إلا جذورهم الأصلية .(157/13)
أيها الإخوة : إن هذه المقاومة , لهؤلاء المحتلين الكافرين , وهذا الرفض , أن تحكم بلاد المسلمين من هؤلاء الكفار , يدل على تأصل روح العقيدة في المسلمين , وأنهم لا يرضون أبداً , أن يسيروا على منهج الكفر , وأصحاب الروايات التي تقدم ذكر بعضها , وغيرها [كوليمة أعشاب البحر ] التي اشتهرت قبل فترة وشاعة , وفيها سب الله عز وجل , سباً صريحاً مقنعاً , وقام ذلك الكاتب , الكافر المرتد الزنديق , بوصف الله عز وجل بصفات الذم , وشتم ربه , قام له علماء المسلمين , يبينون حكمه , وحكم روايته , وحكم قرائتها , وطباعتها , وترويجها , وتوزيعها , والإذن بها , وهكذا . وهو الذي كان يستهزأ بالله سبحانه وتعالى , استهزاءً عظيماً , ويقول عن ربه : فنان فاشل وسلحفاة , وهذا الكافر المرتد , لا يزال ولله الحمد ممقوتاً مبغوضاً من المسلمين , ولا يزال مستخفياً . ولما قام بعضهم أيضاً , بالهجوم على النبي ـ e ـ , وقام إليه من أهل العلم , في الأزهر وغيره , من يرد عليه , وبين أن عقد زواجه باطل , وأنه يجب التفريق بينه وبين زوجته , ولّا ولم يعقب , وهرب من بلده وذهب إلى من يواليهم , وهكذا تطاول عدة على الله عز وجل , وأنبيائه ورسله , وقالوا الكلام , الذي يتبين منه , ما في قلوبهم , من البغض , ومنه كلام تلك العجوز الشمطاء , التي لما قيل لها : هل تحبين أو تعترضين على من يقول لك يا حجة ؟ قالت : نعم لا أريد هذا الإسم فأنا لم أحج ولن أحج , وحجتي في شرفتي , وصلاتي في كتبي . ولذلك فإن أعداء الإسلام , لا يزالون يستضيفون هؤلاء في قنواتهم , ويفسحون لهم المجلات ليقولوا كفرهم , وسمهم ....... من كتب ، ممن كتب من أعطي جائزة نوبل للعهر والفساد ونشر الإنحلال , قام في المسلمين من يرد عليه , ويبينوا خطرة , ورذيلته , فأما سب النبي عليه الصلاة والسلام أيها الإخوة : فإن فيه بالذات عقوبة عظيمة جداً في الدنيا قبل الآخرة , فقد بين شيخ الإسلام(157/14)
ابن تيمية رحمه الله , في كتابه العظيم الصارم المسلول على شاتم الرسول , أنه يجب قتله ولو تاب , لأن للنبي عليه الصلاة والسلام حق , ولما مات عليه الصلاة والسلام , لا يمكن أن يتنازل عن حقه , فيقتل من سبه , ولو تاب , وتوبته لو كان صادقاً فيها تنفعه عند الله يوم القيامة , روى البخاري , روى أبو داود رحمه الله , روى أبو داود عن ابن عباس [ أن أعمى كانت له أم ولد , تشتم النبي ـ e ـ وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وتشتمه فأخذ المغول ( سيف قصير ) فوضعه في بطنها وهو أعمى ذهب وقد أخفاه , حتى ضنة أنه سيأتيها فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فلما أصبحا ذكر لرسول الله ـ e ـ فجمع الناس فقال أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حقٌ إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي ـ e ـ فقال يا رسول الله : أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها أبنان مثل اللؤلؤتين ( في الجمال ) وكانت بي رفيقةً ( يعني في الخدمة ) فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذة المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها فقال النبي ـ e ـ ألا اشهدوا أن دمها هدرٌ ] وصححه الألباني في صحيح أبي داود .(157/15)
ولما قام في المسلمين , تشبهٌ بالكفار , بالأخذ عنهم , وتقليدهم , وأخذت أفلامهم , وألعابهم , وسرت أعيادهم , وحصل التشبه بهم في أشياء كثيرة , قام في المسلمون من يغير هذا , ولما غزونا حتى في الألعاب , في البوكي مون وغيره , قام في المسلمين من يبين , حقيقة هذه الأشياء , لما غزونا بالبلنتاين وعيد الحب , قام في المسلمين من يبين , حكم هذه الأشياء , وأنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة , وأنه يشغل بالتفاهات , وأنه سبب فتح الباب الحرام , والتعارف , تعرف الرجل الأجنبي من امرأة أجنبية , وأن فيه التشبه بالكفار , وأنه يحرم على المسلم الإعانة عليه , بأكل أو شرب أو بيع أو شراء , أو صناعةٍ أو هدية ٍ , أو مواصلة أو مراسلة , أو إعلان أو غير ذلك , وأنه لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود فيه , وما يعين على الإحتفال , لقوله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2) , ولما قام بعض الأذناب بالوقوع , في بعض شرائع الإسلام , مثل تعدد الزوجات , وجعلوا يكتبون على صفحات مجلاتهم , من الخارج والأغلفة , نعم أو لا للزوجة الثانية , أيستفتى على الأحكام الشرعية , الأحكام الشريعية المقررة المنتهية , التي أجمع عليها العلماء , المذكورة في كتاب رب العالمين , من جعل الاسفتاء على شريعة رب العالمين , تقبل أو لا تقبل , قام العلماء يؤلفون في ذلك , وحكمة إباحة تعدد الزوجات , وفؤائد تعدد الزوجات , وتعدد زوجاته في إطار الضوابط الشرعية , وبين العلم والدين , وهكذا , لما قام في المسلمين , من ينادي بأخذ الحضارة الغربية , بِحُلْوِها ومُرِهَا , ويشكك في القرآن الكريم , وفي بلاغة القرآن الكريم , ومنهم المجرم ( طه حسين ) كما فعل في كتاب الشعر الجاهلي , وقال : للتوراة أتحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً , ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي من وجودهما التاريخي(157/16)
, إذاً عند طه حسين اسم إبراهيم وإسماعيل , وجوده في القرآن لا يكفي في إثبات وجوده في التاريخ , ما معنى ذلك ؟ أنه يمكن أن يكون في القرآن أباطيل وخرافات , وأشياء غير حقيقة , فضلاً عن إثبات هذه القصة , التي تحدثها بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة , ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة , نوعاً من الحيلة , سبحان الله ! ما ذكره الله في كتابه , وما ذكره النبي ـ e ـ في سنته , كما في صحيح البخاري , في هجرة إبراهيم لهاجر , وإسماعيل إلى مكة , وأن نزولهم فيها بأمر الله , ثم يأتي هذا ويقول : إن ذكرهم في القرآن لا يفيد أنها حقيقة تاريخية , قام العلماء بالرد عليه والأدباء كذلك , ومنهم مصطفى صادق الرافعي في تحت راية القرآن , ونقض كتاب الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين , ومحاضرات في بيان الأخطاء العلمية تاريخية التي اشتمل عليها كتاب الشعر في الجاهلي للشيخ محمد الخضري , ونحو ذلك من الكُتَّاب المسلمين , من أهل العلم , والأدب , والفضل , ونحو ذلك , لقد قيض الله سبحانه وتعالى , من يكتب من المسلمين ويرد على أمثال هؤلاء , ويبين حقيقة أمثال جمال الدين الأفغاني , وغيره , من المنحرفين , والباطنية , والمندسين , الذين أرادوا أن يفسدو الدين , وألّف محمد محمد حسين حصوننا مهددة من داخلها , في الرد على أهل الحداثة وكان منهم , ثم تاب إلى الله , وألف كتابه هذا من باب توبته , لأن الله قال : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا )(البقرة: من الآية160) , فمن كان منهم ثم تاب إلى الله , فلا بد أن يرد عليهم , وهكذا كل من ذهب إلى هؤلاء العلمانيين والحداثيين , إذا تاب إلى الله لابد أن يرد عليهم , وأن يبين ما كتب إذا كان كتب شيئاً , أو نشر شيئاً , أن يعلن توبته على الملأ , كما نشر الباطل على الملأ , فإنه لا يكفي أن ينشر الباطل على الملأ , ثم يتوب بينه وبين ربه , دون أن يبين لأن الله قال : (وَبَيَّنُوا ) ,(157/17)
وأيضاً : فإن هذه الأمة , ولله الحمد , لم تنسى من احتل شبراً من أراضيها , فقام عمر المختار , ضد هذه الحملات الصليبية على بلادة , وحافظ سلامة في بور سعيد في مصر , ضد اليهود , وسليمان الحلبي الذي قتل كليبر , الفرنسي الذي جاء مع نابليون , وخرج نابليون ليترك كليبر حاكماً عسكرياً على مصر , وكان سليمان الحلبي أحد طلبة العلم , في الجامع في الأزهر , في جامعة الأزهر , وكان عمره لما أزال ذلك الطاغية من الحياة أربعة عشر عاماً , وتقوم أحداث فلسطين , ويقوم هؤلاء اليهود بجرائمهم , قتلاً وسفكاً للدماء , وتدنيساً للمسجد الأقصى , فيقوم المسلمون بالرد عليهم , الأمة فيها خير , الأمة فيها مقاومة عجيبة , الأمة فيها صبر , إننا لنعجب فعلاً لهؤلاء المسليمن في فلسطين , أهم جنناً أم إنس , ........ ، يقومون بالعمليات ضد اليهود , إنه عجبٌ عجاب , والله , وهكذا لا يزال المسلمون , دائماً , كلما احتل الكفار يقومون بمقامة الكفار , إنه شيءٌ تاريخي ولله الحمد , لا يهود ولا صليبيين ولا غيرهم , لابد أن يقوم في المسلمين من يقاوم هؤلاء والحمد لله , بل تظهر قضية المقامة حتى في هذه المقاطعة , لبضائع الكفار حتى رصدوا انخفاض مبيعات إحدى الشركات الأجنية , في المشروبات الغازية , في بلد من البلدان العربية , 46% , وفي بلد آخر 20% , وإحدى شركات الوجبات السريعة , الأجنبية خسرة 35 % , وغيَّرة شركات أسمائها أيضاً , بل ربما غيرت أسماء المنتجات أيضاً , وتراجع الإقبال على بعض ما ينتجه الكفار , في عدد من المواضع والأماكن , حتى صارت الخسائر , بالمليارات حقيقةً , إن هذه المقاومة , وهذا التتبع للمحتل , والمعتدي , إنه شيءٌ يسري في الأمة , منذ عهدها الباكر , وحتى الآن , ولنأخذ قصة سلمة بن الأكوع , رضي الله تعالى عنه , كيف تبين هذه القصة , أن المسلم لا يرضى بالهوان , ولا يرضى بالإعتداء , وإنه يحارب ويطارد حتى النهاية .(157/18)
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : [ قدما الحديبية مع رسول الله ـ e ـ ونحن أربعة عشرة ومائة , وذكر الحديث وفيه , ثم خرجنا راجعين إلى المدينة , فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان , وكانوا مشركين , جبل , فاستغفر رسول الله ـ e ـ لمن رقي هذا الجبل الليلة , وكان يرقى ذلك الجبل , طليعةً وحِرَاسةً وحتى ينبه المسلمين , لو كان هناك شيئاً من جهة المشركين , فرقيت تلك الليلة , مرتين أو ثلاثاً , ثم قدما المدينة , فبعث رسول الله ـ e ـ بظهره يعني بالإبل , مع رباح , غلام رسول الله ـ e ـ , وأنا معه , وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر , مع إبل المسلمين ومع الرعي , ويجعله في المرعى ويشرب من الماء , فإذا أصبحنا , إذا عبدالرحمن الفزاري , أي المشرك , قد أغار على ظهر أي على الدواب والإبل , رسول الله ـ e ـ , فاستاقه أجمع , يعني سلب إبل المسلمين إبل النبي عليه الصلاة والسلام , وقتل راعيه , قتل المسلم , فقلت : يا رباح خذ هذا الفرس , فأبلغه طلحة بن عبيدالله , هذه الأمانه يردها إلى صاحبها , وأخبر النبي ـ e ـ أن المشركين قد أغاروا على سرحه , ثم قمت على أكمة , فاستقبلت المدينة فنادية ثلاثاً , يا صباحاه , ينبأ المسلمين , ثم خرجت في آثار القوم , أرميهم بالنبل , وارتجز وأقول :
أنا ابن الأكوع
واليوم يوم الرضع(157/19)
فألحق رجلاً منهم , فأصك سهماً في رحله , حتى خلص نصل السهم إلى كتفه , قلت : خذها وأنا ابن الأكوع , واليوم يوم الرضع , قال : فوالله ما زلت أرميهم , وأعقر بهم , فهذا يجرحه , وهذا يزيله عن فرسه , وهذا يصيب فرسه , فإذ رجع إلي فارس , يعني منهم , رجع إليه , لكي يحاربه , أتيت شجرة فجلست في أصلها , ثم رميته فعقرت به , يعني السهم يصيب يصيب , حتى إذا تضايق الجبل , فدخلوا في تضايقه , مضيق في الجبل , علوة الجبل , فجعلت أرديهم بالحجارة , فما زلت كذلك أتبعهم , حتى ما خلق الله من بعير , من ظهر رسول الله ـ e ـ إلا خلفته وراء ظهري , استلقى إبل المسلمين كلها , وخلوا بيني وبينه , ثم اتبعتهم , هل انتهت القضية ؟ لا . المعتدي يجب مطاردته إلى النهاية , ثم اتبعتهم أرميهم , حتى ألقوْ أكثرمن ثلاثين برداً , وثلاثين رمحاً , يستخفون , يعني ليسهل هروبهم , ويسهل سيرهم , ولا يطرحون شيئاً , إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة , يعرفها رسول الله ـ e ـ وأصحابه , علامات كل شيء مما أقلقاه المشركون , حتى أتوا متضايق من ثنية , فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري , يعني إعانه لهم , فجلسوا يتضحون , يعني يتغدون , وجلست على رأسِ قرنٍ , قال الفزاري : ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقينا من هذا البرح , والله ما فارقنا منذ غلس , يوينا حتى انتزع كل شيءٍ في أيدينا , قال : فاليقم إليه نفرٌ منكم , أربعه , فصعدوا إلي منهم أربعة في الجبل , فلما أمكنوني من الكلام , قلت : هل تعرفوني ؟ قالوا : لا ! , ومن أنت ؟ قلت : أنا سلمة بن الأكوع , والذي كرم وجهه محمدٍ ـ e ـ , لا أطلب رجلٌ منكم إلا أدركته , ولا يطلبني رجل منكم فيدركني , قال أحدهم : أنا أظن , أن هذا صادق فعلاً في كلامه , فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله ـ e ـ , يتخللون الشجر , فإذا أولهم الأخرم الأسدي , على إثره أبو قتادة الأنصاري , على إثره المقدام بن الأسود الكندي(157/20)
, فأخذة بعنان الأخرم , فولوا مدبرين , قلت : يا أخرم احذرهم , لا يقتطعوك حتى يصل رسول الله ـ e ـ وأصحابه , وهكذا إلى أن قال : فوالذي كرم وجه محمدٍ ـ e ـ , لتبعتهم أعدوا على رجليَّ حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمدٍ ـ e ـ ولا غبارهم شيئاً , يعني سلمه سبق الخيل , سبق الخيل , يطارد الأعداء , حتى يعدلوا قبل غروب الشمس , إلى شعبٍ فيه ماء , يقال له ذو قرد , ليشربوا منه وهم عطاش , فنظروا إليَّ أعدوا ورائهم , فخليتهم عنه , يعني حتى الماء ما ذاقوه , أجليتهم عنه , فما ذاقوا منه قطرة , فيخرجون فيستدون في ثنية , فأعدوا فألحق رجلاً منهم , فأصكه بسهم , في نخب كتفه , في لوح الكتف , قلت خذها وأنا ابن الأكوع , واليوم يوم الرضع , قال : يا ثكلته أمه , أكوعه بكرة , ما لقينا مثل اليوم , من مثل هذا , قلت نعم يا عدوَّ نفسه , أكوعك بكرة , وأردوْ فرسين على ثنية , فجئت بهما أسوقها , إلى رسول الله ـ e ـ , حتى اجتمع مع النبي عليه الصلاة والسلام , قال : ولحقني عامر بسطيحة , فيها مذقة من لبن , وسطيحة فيها ماء , فتوضأت وشربت , ثم أتيت رسول الله ـ e ـ , وهو على الماء , الذي حلأتهم عنه , فإذا رسول الله ـ e ـ , قد أخذ تلك الإبل , وكل شيءٍ استنقذته من المشركين , وكل رمحٍ وبرده , وإذا بلال نحر ناقة من الإبل , الذي استنقذت من القوم , وإذا هو يشوي لرسول الله ـ e ـ , من كبدها رسول الله , فأنتخب من رجل , ...... ، فلا يبقى منهم مخبرٌ إلا قتلته , ..... ، مع أنه بعد هالتعب كله , تعب واصل المطاردة , فضحك رسول الله ـ e ـ , ....... ، كان خيرٌ فرساننا اليوم أبو قتادة , وخيرَ رجّالتنا سلمه , ثم أعطاني رسول الله ـ e ـ سهمين , سهم الفارس وسهم الراجل , فجامعهما لي جميعا , ثم أردفني على ناقته العضباء , راجعين إلى المدينة , لما اقتربوا جاء واحد قال لسلمة : أتسابقني إلى المدينة , قال : نعم ، قال : فسابقْتُهُ فسبِقتُهُ , فدخلة(157/21)
المدينة قبله , فهؤلاء إذاً , الذين كانوا لا يرضون أبداً , أن يسلب للمسلمين شيء , وهكذا لما , قالت امرأة هاشمية من بني هاشم : وا معتصماه وهي أسيرٌ في يدٍ الروم لما أهانوها , بلغ ندائُها الخليل المعتصم , فقال : لبيك , ونهض من ساعته , وصاح في قصره النفير النفير , وجمع العساكر , وأحضر قاضي بغداد , ومعه ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة , فأشهدهم على أمواله , فجعل ثلثاً لولده , وثلاثاُ لله تعالى , وثلثاً لمواليه , ثم جاهد ففتح عموريه , وعندما كتب , نقفور إلى هارون الرشيد , يقول له : من نقفور ملك الروم , إلى هارون ملك العرب , أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي , أقامتك مقام الرخ , وأقامت نفسها مقام البيدق , طبعاً الرخ والبيدق , حجران من حجارة الشطرنج , الرخ : القلعة , والبيدق : هو هذا الجندي في المقدمة , وطبعاً البيدق ضعيف , والرخ أقوى , قال : الملكة التي كانت قبلي , من قومي , التي كانت تدفع لك مالاً , وجزية , ضعيفة , امرأة ضعيفة , أقامتك مقام الرخ , وأقامت نفسها مقام البيدق , فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيق بحمل أمثالها أمثاله إليها , وهذه طبعاً كبيرة , يقول لهارون : أنت الأولى أن تحمل الجزية تدفعها لنا , وذلك من ضعف النساء وحمقهن , فإذا قرأت كتابي هذا , فاردد إليَّ ما حملت إليك من الأموال , وافتدي نفسك به , وإلا فالسيف بيننا وبينك , فلما قرأ هارون الخطاب , أخذه الغضب الشديد , حتى لم يستطع أحدٌ أن ينظر إليه , ولا أن يخاطبه , وأشفق جلسائه عليه , ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب , بسم الله الرحمن الرحيم , من هارون أمير المؤمنين , إلى نقفور كلب الروم , قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة , والجواب ما تراه دون ما تسمعه , والسلام . ثم سار حتى نزل بباب هرقل , وفتحها وأخذ ابنة ملكها , وغنم من الأموال شيئاً كثيراً , وخرب وأحرق حتى طلب نقفور , الموادعه على خراج يؤديه(157/22)
إليه , في كل سنة , فأجابه الرشيد ورجع .
كانت المواقف سوءاً على القدرة على جهادهم , أو عدم القدرة , قوية , وابن تيمية رحمه الله , لما ذهب إلى قازان , ملك التتر , لمقابلته , وخرج معه جماعة من دمشق , من علمائها وكبرائها , لما دخل ابن تيمية رحمه الله , على قازان , ملك التتر , جعل يكلمه ويرفع صوته ويخفض ويعض وينهى ويأمر , ويقول كيف أنت تدَّعي الإسلام , ومعك قاضٍ بزعمك , وإمام , ومؤذن , ثم تقتحم بلاد المسلمين , وتقتل , وتريد أن تقتحم دمشق , لما وضع الطعام , التتر لما وضعوا الطعام للوفد المسلم , أبى شيخ الإسلام أن يأكل , قالوا له : كل , قال : لا , قالوا لماذا ؟ قال : وهل هذا إلا ما سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم ؟ فإذا سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم , الآن تذبحوا لنا منه ونأكل , ما يجوز أكل المغصوب والنهوب , ولا المسروق , وجعل يعض ملك التتر , وقائد التتر , حتى وقعت هيبة شيخ الإسلام في قلب الملك , وسأل عن اسمه من هذا ؟ وجعل أصحاب ابن تيمية يجمعون ثيابهم مخافة , قالوا الآن يسقط رأس ابن تيمية , والدم ينضح علينا , فجعلوا يجمعون ثيابهم مخافة أن يصيبها دمه , ولكن الله عز وجل ألقى هيبة شيخ الإسلام ابن تيمية في نفس ملك التتر , فوعده خيراً وأنه لن يقتحم البلد , ورده مكرماً , قالوا : كدت والله أن تهلكنا ، يقول الذي خرجوا معه الوفد , كدت والله أن تهلكنا , يعني على هذه المواقف الجريئة , والله لا نصحبك بعدها أبداً , قال : فذهبوا من طريق آخر , قال : فأما شيخ الإسلام , فسمع أهل دمشق بما فعل من أجلهم , وكيف أنه كان يأمر وينهى ملك التتر , فخرجوا إليه واستقبلوه , واجتمع عليه الناس , وأكرموه , حتى دخل دمشق , وأما نحن فخرج علينا جماعة من اللصوص , فشلحونا , وكان في هذه الأمة والحمد لله , من يتصدى لواضعي الحديث النبوي , ولما جيأ بذلك الزنديق الذي وضع , أربعة ألاف حديث , فقال له الخليفة , يقرره(157/23)
بما فعل , قال : نعم وضعت على نبيكم , كذبت أربعة آلاف كذبه , صارت بين الناس , يعني الآن سواء قتلتني أو ما قتلتني , الأحاديث شاعت وانتشرت , أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها , سارت بين الناس , قال : وأين أنت من عبدالله بن المبارك , وأبي إسحاق الفزاري , وفلان وفلان , ينخلانها حرفاً حرفا , يعني أن عندنا من علماء المسلمين , والمحدثين من يكشف هذه الأحاديث , ومن يبين أمرها للناس , وهكذا قاموا ببيان حال هذه الأحاديث , وتتبع المهدي رحمه الله , الزنادقه , حركة الزنادقة , وقام بتخليص المسلمين , من كثير من شرهم , لما قام في هذا الوقت , الآن , الهجوم على طريقة السلف , وعلى الدعوة السلفية المباركة , وعلى منهج إتباع القرآن والسنة , والأخذ بالأدلة الصحيحة من القرآن والسنة , وهي طريق السلف , ولزوم عقيدة السلف , بعيداً عن البدع , بعيداً عن التعصب , قام أعداء الإسلام الذين يعرفون الخطورة أين تكمن حقيقةً , وأن أشد الناس على أعداء الله , أتباع طريقة السلف , قاموا يشنون الحملات , على هذه العقيدة السلفية , والطريقة السلفية , وعلى رموزها وقادتها وعلمائها , كشيخ الإسلام ابن تيمية , ومحمد بن عبدالوهاب , وغيرهم , ولكن الله سبحانه وتعالى يقيض من هذه الأمة , من ينافح عن طريقة السلف , وعن عقيدة السلف , وعن منهج السلف , كتابةً وكلاماً وخطاباً في مجالات مختلفة , صحافةً وإذاعةً , وفي الفضائيات وغيرها , ولم يبق إلا السخفاء , الذين يلمزون ويطعنون , في هذه الدعوة السلفية المباركة , وفي علمائها , فهم أقزام يتزاحمون تحت أقدام شيخ الإسلام ابن تيمية , ومحمد بن عبدالوهاب وغيرهم , من علماء الإسلام , ولا شك أن من علماء هذه الدعوة المباركة , الشافعي رحمه الله , ومالك , وأحمد , وسفيان الثوري , والأوزاعي البيروتي وغيرهم من أهل العلم , الذين ساروا على طريقة السلف ، لقد تعرضت هذه الأمة لمحن كثيرة ، ومطاعن كثيرة ،ولكن(157/24)
تأبى أن تلين أو تهون ،
وكنا حين يأخذنا ولي
بطغيان ندوس له الجبين
ولما صارت في هذا الوقت المسلسلات التي تدخل بأهل الخير والصلاح ،وتحث المرأة على الخروج مع الأجانب ، وتعمل على توهين أحكام الشرع المطهر ، وتلمز المتصفين بالغيرة على محارمهم ونسائهم ، وتثير الشهوات وفيها الرعنات والسخرية وخوارم المروءة بأنواعها، ولمز النلس وكذلك إيثارت الرعنات والعصبيات الجاهلية ، ونشر الرذيلة والزور ، قام من علماء المسلمين من يبين حال هذه المسلسلات وأنه لا يجوز عملها ولا المشاركة فيها ولا تمويلها ولا عرضها ولا مشاهدتها ، وأيضاً فإن المطاعن لما توجهت على الحجاب الإسلامي كما حدث من قاسم أمين في كتاب تحرير المرأة وغيره ممن آزره ممن تقدموا وتأخروا ، قام أهل الإسلام يردون على قاسم أمين دعوته وألفت الكتب في ذلك ، ( السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب ) لمحمد إبراهيم القاياسي ، ( الجليس الأنيس عما في تحذير المرأة من تلبيس ) لمحمد أحمد حسنين البولاقي ، ( خلاصة الأدب ) حسين الرافعي ، (نظرات في السفور والحجاب ) لسفر الغلايني ، (قولي في المرأة ) لمصطفى صبري ، ( رساله في مشروعية الحجاب ) لمصطفى نجا ، ( رسالة الفتاه والفتى ) لعبد الرحمن حمصي ، هذه الكتب كتبت طبعاً لرد على قاسم أمين ولعلها بعضها غير موجود الآن ولا يكاد يوجد ، ولكن الشاهد أنه وجد في الأمة من يقاوم هذا ، وتكلم حتى الشعراء
أغرك يا أسماء ما ظن قاسم
أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم
تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به
سوى ماجنت تلك الرؤى والمزاعم
سلامٌ على الأخلاق في الشرق كله
إذا ماأستبيحت في الخدور الكرائم(157/25)
ومن الأشياء العجيبة أن بعض الأماكن التي حدث بها الهجوم على الحجاب ، وقامت هدى شعراوي وغيرها بعملية حرق الحجاب ، ومايسمى بتحرير المرأة ، تحريرها من الدين والشريعة ومن أحكام الله سبحانه و تعالى ، لتكون بهيمه تسرح ، وتكون نعجه ينظر إليها هؤلاء ، ويشبعون غرائزهم أو ملذاتهم ،منها من العجائب أن المتولي في ذلك والوقت كانت زوجته التي تسمى ناضلي لم يسمح لها بالسفر إلى أوربا فيما مرة واحدة عندما أجمع الأطباء على ضرورة سفرها للعلاج وكان زوجها قد سافر إلى إحدى دول أوربا فرفض إ ن يصطحبها في تلك الزيارات ، واشترط أن تبقى محجبةً ،ورفض أن تكون معه على نفس الباخرة وأمرها بأن تسافر في مركب خاص ليتفادى سفرها في البواخر العاديه حتى لاتختلط بالرجال ، وأمر بأن يكون هناك طالب حراسة خاص أمام جناحه ، يعني سبحان الله بعض الذين يريدون نشر السفور هم في أنفسهم غير مقتنعين به في زوجاتهم وبناتهم ، حتى أن أحد الإخوان أخبرني أنه رأى شخص ممن يكتبون في الصحف والجرائد كلام فيه كان يريد به تحرير المرأة وإزاله شرع الله عن المرأة بأن تخرج المرأة ، وتختلط المرأة بالرجال وأن تفعل وتفعل وتفعل , قال رأيته مع زوجته , فإذا الحجاب الحجاب العظيم , فقلت له : وا عجباً لك , أنت تكتب الآن , في نقد الحجاب , وقضية التحرير , وقضية إعطاء المرأة الحرية الكاملة , وإخراج المرأة واختلاط المرأة , ووزجتك على هذه , قال ماذا نفعل , هذا هو التيار , هذا هو التيار , يعني هذا هو المقبول إذاً عندهم .
قالوا ارفعي عنك الحجاب
أما كفاك به حجابا
واستقبلي عهد السفور
اليوم واطرحي النقاب
عهد الحجاب لقد تبا
عد يومه عنا وغاب
فأجبتهم والضحك ملؤ فمي
ولم أعدم جوابا
مهلاً فما هذا الذي
قدر غركي إلا سرابا
كم نظرة للوجه تورث
في الحشا جمراً مذابا
إذ ترغبوا لناسئكم صوناً
وعيشاً مستطابا
فدعوا السفور لأهله
وأرخوا عليهن النقاب(157/26)
قبل عشرات السنين , قبل أكثر من خمسين سنة , في إحدى البلدان الإسلامية , أراد المسؤول عن الجامعة أن يحدث فيها الإختلاط , وأن يعلن ذلك في حفل عام , ودعي إليه الناس والكتاب , والصحفيون وغيرهم , وجاء أحد مشايخ البلد الأفاضل من القضاة الأدباء , رحمه الله , وحضر الحفل وطلب أن يلقي كلمة , فرفضوا , لأنهم يتوقين ماذا سيقول , فأصر وألح , حتى رضخوا له في النهاية , فخرج في هذا الحفل , ووجه خطابه إلى هذا الذي كان يريد إعلان الإختلاط في تلك الليلة , ليبدأ سريانه من الغد , وجعل يذكر بقول الله سبحانه وتعالى في الآيات التي تنهى المرأة عن السفور وتأمرها بالحجاب : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ)(النور: من الآية31) ، ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)(الأحزاب: من الآية32) ، (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ )(النور: من الآية31) ، (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )(النور: من الآية31) ، ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ )(الأحزاب: من الآية53) ، بعد ذلك وجه إليهن خطاباً خاصاً , فقال له : ولقد علمت أن عليك مراقبين يراقبان حركاتك وسكناتك , وأنهما سيكتبان فيك تقريراً , فيرفعانه إلى محكمة تصدر فيك حكماً , لا يقبل النقض ولا الاستيناف , فثار وغضب , وقال : من الذي يراقبني ؟ ومن الذي يكتب عني تقريراُ ؟ ومن الذي سيصدر فيَّ إلى المحكمة ؟ أنا فلان , وأنا عندي كذا من القوة , وعندي كذا , قال : اسمع (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) , (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ـ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ـ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ(157/27)
إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (قّ:16 ، 17 ، 18) , فبهت , وأسكت القوم , وفشلة المآمرة في تلك الحفلة , وتفرقوا .
نعم , لقد حصل بعد ذلك هذا المنكر وقام , ولكن الشاهد , أنه كان من قام لله سبحانه وتعالى يقاوم وينافح , عن الدين , ويطالب ويرفض , هذا المنكر , وهكذا قام الخطباء والعلماء , والدعاة , باستنكار ما وقع في هذا المؤتمر الإقتصادي قريباً , دليلاً على وجود الغيرة والحميَّة , والإخلاص للدين , والسعي لتطبيع شريعة رب العالمين ,
أيها الإخوة : إن هذه الأمور , العظيمة , التي يريد اليوم الغربيون , جرنا إليها , وتحرير المرأة في زعمهم , والتركيز على قضية المرأة , ما لهم ولنسائنا , نحن نعرف كيف نتصرف ونتعامل , وعندنا قواعد في الشريعة , تحكم علاقة الرجال بالنساء , أفهم أعلم بمصالح نسائنا منا ؟ أو هم أغير على نسائنا منا , ولذلك فإن التصدي لهؤلاء , من أعظم القربات عند رب العالمين .(157/28)
أيها الإخوة : إن هذه الهجمات الشرسة التي تحدث اليوم , سواءً كانت مباشرة على المرأة المسلمة , سواء كان هؤلاء يشنونها صريحةً , أو ملفوفةً , إن التصدي لها من أعظم القربات عند رب العالمين , ولذلك فإنما يحدث اليوم , من إشاعة الإنحلال في بيوت المسلمين , عبر ما يسمى ببرامج " ستار أكدمي " " وستارز " " وبرق بذرز " وغيرها من البرامج التي يريدون فيها , إشاعة ثقافة الإنحلال , وجمع الفتيات مع الشباب , في بيوت فيها كاميرات , يريدون الإنتقال من التمثيليات إلى الحقيقة , كان التمثيل , كان نشر الفساد عن طريق التمثيل , تمثيلية فيها حب وحب وغرام , وواحد مع وحده , يمثل هذا عاشق مع معشوقه وكلام , وربما تنتهي في الزواج في النهاية , ذراً للرماد في العون , الآن يريدون الإنتقال , من التمثيليات المصورة سابقاً , إلى الحقيقة المنقولة حياً , الآن التوجه واضح , إلى الأستاذ عن طريق النقل المباشر , للعلاقات بدون تمثيل , والناس كثير منهم , سينجذبون إلى هذا , لأنهم يعرفون أن هذا ليس تمثيلاً , هذه حقيقة , هؤلاء جعلوا لكي يجربوا أنفسهم مع بعض , ويعيشوا مع بعض , ويقيموا العلاقات مع بعض , وهذا ليس تسجيلاً , قد صار سابقاً , ويذاع الآن , لا , هذا حي الآن ينقل من تلك الأكاديمية أكادمية الإنحراف والمجون والفسق والفجور والذعاره من ذلك المخور يبثون إلينا حياً "liveليف" وحقيقي وليس تمثيل , الآن هكذا صارت , ولابد أن يكون في المسلمين , من يقوم ويتصدى لهذه الأشياء , ويتكلم , المسألة تتعلق بأعراضنا , تتعلق بعفة فتياتنا , وشبابنا , وإن مثل هؤلاء الذين يخرجون , في هذه , اللقطات التي تبث لا حرمة لهم , بمعنى , أن غيبتهم جائزة , لأنهم أعلنوا الفسق , والمعلن بالفسق كما نص العلماء عليه , لا حرمة له ولا غيبة , ويشهر به ويطعن فيه على الملأ , ولذلك الشافعي رحمه الله , حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالنعال , وأن يطاف بهم على(157/29)
الدواب في البلد , وأن تسود وجوههم , التشهير , هذه عقوبة تعزيرية , معروفة عند علمائنا , والمجاهر بالفسق , لا غيبة له , ولذلك لو ذكر باسمه ونص عليه , فاضحاً له , بما يعمله , فإن هذا صحيح , ولا ينكر , ولا ينكر , لأن المسألة الآن خرجت عن نطاق الإستخفاء , والإستسرار , إلى النطاق العملي , وقد قال النبي ـ e ـ [كل أمتي معافى إلا المجاهرين] .
أيها الإخوة : من أدلة وجود الحياة في الأمة , روح الحياة , ومقاومة هذه الأشياء , ما حدث في فرنسا مثلاً , في أزمة الحجاب , عندما أرادوا منع المسلمات من الحجاب , في المعاهد والكليات والمدارس والمنشآت التعليمية إلخ , لقد عمت العالم الإسلامي , مشاعر الغضب والاستياء , من هذه القضية , وقام أهل العلم وتكلموا , والدعاة , ومواقع الإنترنت , وعملت للمسلمين مناسبات والإجتماعات كثيرة , وحصل الإنكار حتى على الذين ينتسبون إلى الإسلام , ممن أقر ذلك , وصارت عاطفة حتى بعض السافرات , مع المرأة المسلمة في فرنسا , ما معنى ذلك . ولما أراد أيضاً بعضهم , أن يجروا إلينا ويلات , مما يكون فيه مفاسد , من جهة سفور المرأة , وخروج المرأة , ونزع الحياء عنها , وجعلها تذهب طليقةً متمردةً على أهلها , لتكون سبباً في الفتنة , حتى وفي الزحام , قام في العلماء من يبين ذلك , وفي الدعاة وفي الناس وفي عموم الناس , والحمد لله القضية ليست مقتصرة على العلماء فقط , لقد تكلم عموم الناس في هذا الأمر , والحمد لله , وكان في خطاباتهم , ورسائل جوالاتهم , واتصالاتهم , حتى الإعلان بالإنكار , على القنوات وغيرها , وهذه من أعظم أبواب الأجر , والإحتساب في الإسلام , أن يقوم اليوم المتمكنون , بالإنكار والإتصال في القنوات , على هؤلاء الذين يروِّجون الفساد , للإنكار عليهم , وإن الوسائل والحمد لله , كثيرة , فنسأل الله ... أن ينصر دينه , وأن يعلي كلمته , ونسأله عز وجل , أن يجعلنا ممن نصر بهم الدين ,(157/30)
ونسأله سبحانه , أن يعلي هذه الشريعة في العالمين , وأن يجعلنا من السمتمسكين بسنة محمدٍ النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(157/31)
حدائق الموت
كتبه : الشيخ محمد بن عبد الرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
حدائق الموت
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ..
الحمد لله الكريم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى
الصواب .. مزيل الشدائد وكاشف المصاب ..
الحمد لله فارج الهم .. وكاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب ..
يسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم ..
لا يماثل .. ولا يضاهى .. ولا يرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه
توكلنا .. وإليه المرجع والمتاب ..
وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ..
واستأثر باستحقاق البقاء ..
وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ..
أما بعد ..
حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ينفخ في
الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
..
كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت
إن كنتم صادقين }
أين الجنود ؟ أين الملك ؟ أين الجاه ؟
أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟
أين الزعماء ؟
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان
مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب .. فأبى ..
فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أين طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن كان صادقاً ..
ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه ..
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن
لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير(158/1)
مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من
المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من
أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن
هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } ..
إنه الموت ..
هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات ..
المنايا تَجُوسُ كلّ البِلادِ والمنايَا تَبيدُ كلّ العِبَادِ
لَتَنالَنّ من قُرونٍ أراها مثلَ ما نِلْنَ من ثَمُودٍ وعادِ
هل تذكّرْتَ من خلا من بني الأصْـ ـفَرِ أهْلِ القِبابِ والأطْوادِ
هلْ تذكّرْتَ من خَلا من بني سَا سانَ أرْبابِ فارِسٍ والسّوَادِ
أينَ داوُدُ أينَ ؟ أينَ سُلَيْمَا نُ المنيعُ الأعراضِ والأجنادِ ؟!
أينَ نُمرُودُ وابْنُهُ أينَ قارُو نُ وهامانُ أينَ ذو الأوتادِ
وَرَدوا كلهم حِياضَ المنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ
أتَنَاسَيْتَ أمْ نَسيتَ المنايَا؟ أنَسيتَ الفِراقَ للأوْلادِ ؟
أنَسيتَ القُبُورَ إذْ أنتَ فيها بَينَ ذُلٍّ وَوَحشَةٍ وانفِرادِ
أي يَوْمٍ يَومُ الممات وإذْ أنْـ ـتَ تُنادى فَما تُجيبُ المنادي
أيّ يَوْمٍ يوم الفِراقِ وإذْ نَفْسُكَ تَرْقَى عَنِ الحَشا والفُؤادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الفراقِ وإذْ أنْـ ـتَ من النّزْعِ في أشَدّ الجِهادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الصّراخِ وإذْ يَلْطِمن حُرّ الوّجُوهِ والأجيَادِ
باكِياتٍ عَلَيكَ يَندُبنَ شَجواً خافِقاتِ القُلُوبِ والأكْبادِ
يَتَجاوَبْنَ بالرّنينِ ويَذْرِفْـ ـنَ دُمُوعاً تَفيضُ فَيضَ المَزادِ
أيّ يَوْمٍ يوْمُ الوُقوفِ إلى الله ويَوْمُ الحِسابِ والإشْهادِ
أيّ يَوْمٍ يوم المَرور عَلى النّا رِ وأهْوَالِها العِظامِ الشّدادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الخَلاصِ من النّا رِ وهَوْلِ العَذابِ والأصْفادِ
كم وكم في القُبُورِمن أهلِ ملكٍ كمْ وكمْ في القُبورِمن قُوّادِ
كمْ وكم في(158/2)
القُبورِمن أهلِ دُنْيا كمْ وكم في القُبورِ من زُهّادِ
وَرَدوا كلهم حِياضَ المنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ
* * * * * * * * * *
ومن تأمل في الموت علم أنه أمر كبّار .. وكأس تدار .. على من أقام أو سار .. يخرج
به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ..
ولو لم يكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي
والأيام ..
لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً ..
* * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي يكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..
ذكر بعض المؤرخين ..
أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة
وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غادة ذات دلال ومرح
خلقت من كل شيء حسن
أترى خاطبها يسمعها
يا حبيباً لست أهوى غيره
لا تكونن كمن جدّ إلى
لا فما يخطب مثلي من سها يجد الواصف فيها ما اقترح
طيب فالليت عنها مطرح
إذ تدير الكأس طوراً والقدح
بالخواتيم يتم المفتتح
منتهى حاجته ثم جمح
إنما يخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..
فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصرية ..
وقالت :
يا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن ..
قد والله أعجبتني هذه الجارية وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم ..(158/3)
فكرر ما ذكرت من
أوصاف .. لعله يشتاق ..
فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه رأيت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى كأنه من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته كغصن من الريحان ذي ورق خضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة بساحرة العينين طيبة النشر
فاضطرب الناس ..وكبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
يا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجارية .. زوجة لإبراهيم ..
فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار ..
لعل الله أن يرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً ..
فصاحت العجوز : يا إبراهيم .. يا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك يا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجارية .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في
سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله يا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دينار ..
فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء ..
وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجارية ..
على أن يبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني يا أرحم الراحمين ..
ثم قالت : يا أبا عبيد .. هذا مهر الجارية مني عشرةُ آلاف دينار ..
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً ..
وأخذت تعد الأيام لرحيله ..
وهي تودعه غي كل نظرة تنظرها .. وكلمة تسمعها ..
والمجاهدون يعدون العدة للخروج ..
فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو .. والمجاهدون حوله يتسابقون ..
والقراء حولهم يقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها ..(158/4)
دفعت إليه كفناً .. وطيباً يطيب به الموتى
.. ثم نظرت إليه .. وكأنما هو قلبها يخرج من صدرها ..
ثم قالت :
يا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب ..
وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها .. وكتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله ..
ثم قالت : اذهب يا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين يديه يوم القيامة ..
فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش ..
فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة ..
فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال ..
أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال ..
حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا يطعنه .. وهذا يضربه .. وهذا
يدفعه .. وهو يقاوم .. ويقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه ..
وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة ..
فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : يا أبا عبيد !
هل قبل الله هديتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هديتك ..
وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله .. الذي لم يخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها
.. بعدما فارقت ولدها .. يشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه
فتقلبها .. حتى نامت ..
فلما كان الغد :
جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك يا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال : لا زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت : رأيت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء .. وهو على سرير من اللؤلؤ .. وعلى(158/5)
رأسه تاج يتلألأ .. وإكليل يزهر
..
وهو يقول : يا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم ..
هؤلاء أقوام .. أيقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم
..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون *
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
* الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم } ..
* * * * * * * * * *
نعم والله .. ذلك الفوز الكبير ..
إذا أوقفهم ربهم بين يديه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ويرفع
درجاتهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله ..
فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم
يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه(158/6)
يرفع صدره ويقول :
يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
* * * * * * * * * *
بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من كل شيء ..
ذكر ابن كثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن يمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا
أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن(158/7)
تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر ..
فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب
جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت ..
وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله ..
* * * * * * * * * *
ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله(158/8)
..
بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس يتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها
.. يودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن يودع الناس ..
فعصب رأسه ..
ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم
إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ..
أيها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ..
ولن تروني في هذا المقام فيكم ..
ألا فمن كنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه ..
ومن كنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه ..
ومن كنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه ..
ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء ..
ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي ..
وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن كان له علي ..
أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة ..
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأكل جسده .. وهو يتحامل
على نفسه ويخرج إلى الناس ويصلي بهم ..
حتى صلى بأصحابه المغرب .. من يوم الجمعة ..
ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه ..
وظل على فراشه تكوي الحمى جسده ..
ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه ..
واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ينتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم ..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. يحاول النهوض من فراشه .. فلا يقدر .. فأبطأ
عليهم ..
فجعل بعض الناس ينادي : الصلاة .. الصلاة ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال :(158/9)
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض ..
فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء كبير ..
فصبوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده ..
فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل يشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه
..
فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا يصبون عليه الماء ..
حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم يقوم .. فأغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد على
جسده .. وأكثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على يديه ليقوم .. فأغمي
عليه ..
وأهله ينظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم ..
والناس عكوف في المسجد ينتظرونه ..
فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق ..
فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله ..
فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً ..
ذاك الجسد المبارك ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها ..
الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام ..
وبكت العينان .. من خشية الرحمن ..
عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل ..
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال :
مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ..
فيقيم بلال الصلاة .. ويتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس
.. ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة(158/10)
بكائه وحزنه ..
وانتهت صلاة العشاء ..
ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ويجتمع الناس بعدها للصلوات ..
ويصلي أبو بكر بهم .. أياماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه ..
فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في
جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن يمينه ويساره ..
ثم خرج يمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض ..
وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس يصلون ..
فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم ..
وجوه مباركة .. وأجسادٌ طاهرة ..
ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت يده ..
ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده ..
طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم ..
كم ليلة قامها وقاموها .. وأيام صامها وصاموها ..
كم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء ..
كم فارقوا لنصرة دينه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان ..
منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ينتظر .. وما بدلوا تبديلاً ..
ثم هاهو اليوم يفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها ..
فلما رآهم في صلاتهم ..
تبسم .. حتى كأن وجهه فلقة من قمر ..
ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت ..
قالت عائشة :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل يده في القدح ثم يمسح
وجهه بالماء .. ثم يقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ..
وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واكرب أبتاه .. فيلتفت إليها ويقول : ليس على أبيك كرب
بعد اليوم ..
فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء ..
فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبريل وميكائيل وإسرافيل ..
ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا ..
بل كان يتكلم فيما أهمه(158/11)
..
ويحذر من صور الشرك ويقول :
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
" اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم " ..
ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم ..
مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين ..
مات وليس أحد يطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة ..
لم يتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام ..
بل كان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً ..
يأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وينهى عن الشرك والأوثان ..
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم } ..
* * * * * * * * * *
وكذلك كان الصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم .. يستعدون للموت .. بالإكثار من الطاعات ..
والمسارعة إلى القربات ..
وهم مع كثرة أعمالهم .. وحسن أفعالهم .. إذا فجأهم الموت .. رجوا رحمة ربهم ..
وخافوا من عقابه .. ولم يركنوا إلى أعمالهم ..
عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس ..
حقد عليه الكافرون ..
وكان من أكثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي ..
وكان عبداً نجاراً حداداً في المدينة .. وكان يصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن
الشعير .. وهي حجران مصفحان يوضع أحدهما فوق الآخر ويطرح الحب بينهما .. وتدار
باليد .. فيطحن ..
أخذ هذا العبد يتحين الفرص للانتقام من عمر ..
فلقيه عمر يوماً في طريق فسأله وقال :
حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟!
فالتفت العبد عابساً إلى عمر ..
وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب ..
فلتفت عمر إلى من معه .. وقال :
توعدني العبد ..
ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة
قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ(158/12)
يطليه بالسم ..
حتى إذا طعن به .. يقتل إما بقوة الطعن أو السم ..
ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاوية من زوايا المسجد ..
فلم يزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ينبه الناس لصلاة الفجر ..
ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر ..
فلما ابتدأ القراءة ..
خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته ..
فصاح عمر .. ووقع على الأرض ..
وهو يردد قوله تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً ..
وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأكمل الصلاة بالناس ..
أما العبد فقد طار بسكينه يشق صفوف المصلين .. ويطعن المسلمين .. يميناً وشمالاً ..
حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة ..
ثم وقف شاهراً سكينه ما يقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً
غليظاً ..
فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه ..
وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه يبكون ..
وظل مغمى عليه .. حتى كادت أن تطلع الشمس ..
فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم كان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟ قالوا : نعم ..
فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة ..
ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن يقوم ليصلي فلم يقدر ..
فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس ..
فجعلت جراحه تنزف دماً ..
قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح ..
فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح ..
ثم قال : يا ابن عباس انظر من قتلني ..
فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه ..
فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ..
ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر ..
فخرج الماء من جروحه ..
فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصديد .. فأسقاه لبناً(158/13)
..
فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده ..
فقال : يا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً ..
فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك ..
ثم قال :
والله لو أن لي الدنيا كلها .. لافتديت به من هول المطلع .. يعني الوقوف بين يدي
الله تعالى ..
فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً ..
أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن يعز الله بك الدين والمسلمين .. إذ يخافون
بمكة ؟
فلما أسلمت .. كان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام ..
وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من
قتال المشركين ؟
ثم قبض وهو عنك راضٍ ..
ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض ..
ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار ..
وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو ..
ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك ..
فقال عمر : أجلسوني ..
فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ كلامك ..
فلما أعاد عليه ..
قال : والله إن المغرور من تغرونه ..
أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه ؟
فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد …
ثم جاء الناس فجعلوا يثنون عليه .. ويودعونه ..
وجاء شاب ..
فقال : أبشر يا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم
شهادة ..
فقال عمر : وددت أني خرجت منها كفافاً .. لا عليَّ ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام ..
قال : يا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ..
ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل يتغشاه الكرب .. ويغمى عليه ..
قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري ..
فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري ..
فقال : ضع رأسي على الأرض ..
فقلت : وهل حجري(158/14)
والأرض إلا سواء يا أبتاه ..
فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن يرحمني ..
فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي ..
فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم ..
ثم قال : ويل لعمر .. وويل لأمه .. إن لم يغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت
عليه السكرات .. ثم مات صلى الله عليه وسلم ..
ودفنوه بجانب صاحبيه ..
نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم يمت ..
قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات ..
صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن ..
تؤنسه صلاته في وحشته .. ويرفع جهاده من درجته ..
تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طويلاً ..
بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة ..
بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً :
بينا أنا نائم رأيتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت :
لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذكرت غيرته فوليت مدبراً ..
فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله !! ..
* * * * * * * * * *
نعم ..
هكذا الصالحون .. أيقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في كل لحظة ..
لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس .. اشتد عليه الكرب .. فلما اخذ
يشهق .. بكت ابنته ..
فقال : يا بنيتي .. لا تبكي .. فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة ..
كلها لأجل هذا المصرع ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة
.. وأهله حوله يبكون ..
فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه ..
وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أين ؟ ..
قال : إلى المسجد ..
قالوا : وأنت على هذه الحال !!
قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه ..
خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى(158/15)
ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده ..
نعم .. مات وهو ساجد ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
اصبر لمر حوادث الدهر فلتحمدن مغبة الصبر
وامهد لنفسك قبل ميتتها واذخر ليوم تفاضل الذخر
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر
وكأنهم قد هيئوك بما يتهيأ الهلكى من العطر
وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وظلمة القبر
يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري
أم ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر
أم ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر
ما حجتك فيما أتيت وما قولك لربك بل وما العذر
ألا تكون أخذت عذرك أو أقبلت ما استدبرت من أمر
* * * * * * * * * *
بل كان الصالحون يتحسرون عند الممات .. على فراق الأعمال الصالحات ..
ويودون لو طالت بهم الحياة للتزود في رفع الدرجات .. وتكثير الحسنات ..
احتضر عبد الرحمن بن الأسود .. فبكى .. فقيل له :
ما يبكيك !! وأنت .. أنت ..
يعني في العبادة والخشوع .. والزهد والخضوع ..
فقال : أبكي والله .. أسفاً على الصلاة والصوم .. ثمّ لم يزل يتلو حتى مات ..
أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت .. أخذ يبكي ويقول :
من يصلي لك يا يزيد إذا متّ ؟ ومن يصوم لك ؟
ومن يستغفر لك من الذنوب .. ثم تشهد ومات ..
هذه مشاهد الاحتضار .. لأرباب التعبدّ والأسرار ..
فلوا رأيتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار ..
يخافون يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..
فدفنوا تحت الثرى .. وقد أرضوا من يعلم السرّ وأخفى ..
هذا هو احتضار المؤمنين .. وما عند الله خير وأبقى ..
* * * * * * * * * *
الموت لا يفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير ..
هارون الرشيد
ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً ..
ذاك الذي كان يرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث
شئت .. فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي ..
هارون الرشيد .. خرج يوماً في(158/16)
رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول ..
فقال هارون : عظني يا بُهلول ..
قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك
؟
قال هارون : ماتوا ..
قال : فأين قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم ..
قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..
فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟
قال : صدقت .. زدني يا بهلول .. قال :
أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت يتسع
فبكى هارون وقال : زدني .. فقال :
يا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى وعُمرت السنين فكان ماذا
أليس القبر غاية كل حيٍ وتُسأل بعده عن كل هذا ؟
قال : بلى ..
ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مريضاً .. ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت
..
فلما حضرته الوفاة .. وعاين السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه :
اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا يكاد يحصي عددهم إلا الله
.. كلهم تحت قيادته وأمره ..
فلما رآهم .. بكى .. ثم قال :
يا من لا يزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه ..
ثم لم يزل يبكي حتى مات .. فلما مات ..
أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة ..
لم يصاحبه فيها وزراؤه .. ولم يساكنه ندماؤه ..
لم يدفنوا معه طعاماً .. ولم يفرشوا له فراشا
ما أغنى عنه ملكه وماله ..
سل الخليفة إذ وافت منيته * أين الجنود أين الخيل والخول
أين الكنوز التي كانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا
أن الجيوش التي أرصدتها عدداً* أين الحديد وأين البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان ..
فإنه لما نزل به الموت ..جعل يتغشاه الكرب .. ويضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ
غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دكانه ..
فبكى عبد الملك ثم قل : يا ليتني كنت غسالاً .. يا ليتني كنت نجاراً .. يا ليتني
كنت حمالاً ..(158/17)
يا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً .. ثم مات ..
عجباً ..
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
أين الرماة ألم تُمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل
أين الأحبة والجيران أجمعهم * أين الأطباء ما اغنوا ولا الحيل
ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا
ما بال ذكرك منسياً ومطرحاً * وكلهم باقتسام المال قد شغلوا
ما بال قبرك وحشاً لا أنيس به * يغشاك من جانبيه الروع والوهل
ما بال قبرك لا يأتي به أحد * ولا يمرّ به من بينهم رجل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالموا شيدوا دوراً لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
ـــــــــــــــــــ
نعم ..
انتقلوا .. إلى دور ليس فيها خدم يخدمون .. ولا أهل يكرمون .. ولا وزراء ينادمون ..
انتقلوا إلى دور .. تجالسهم فيها أعمالهم .. وتخاصمهم صحائفهم .. وما ربك بظلام
للعبيد ..
* * * * * * * * * *
وهناك فريق من الناس ..وسع الله عليهم في أرزاقهم .. وعافاهم في أبدانهم ..
فغفلوا عن الاستعداد للموت حتى باغتهم ..
فبدد شملهم .. وأخذهم على قبيح فعلهم .. فلما عاينوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا ..
لا لتجارة ولا مال .. ولا أهل ولا عيال .. ونما لإصلاح الأحوال .. وإرضاء القوي
المتعال ..
ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا يُرجعون ..
أولئك العصاة والمذنبون .. اللاهون المضيعون ..
غلب عليهم حبهم لدنياهم .. فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهويل .. وحيل بينهم وبين
الخالق الجليل ..
* * * * * * * * * *
ذكر(158/18)
القرطبي :
أن أحد المحتضرين .. ممّن بدنياه انشغل .. وغرّه طول الأمل .. لما نزل به الموت ..
واشتد عليه الكرب ..
اجتمع حوله أبناؤه .. يودعونه .. ويقولون :
قل لا إله إلا الله .. فأخذ يشهق .. ويصيح .. فأعادوها عليه ..
فصاح بهم وقال :
الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا .. والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا ..
والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا .. ثمّ لم يزل يردد ذلك حتى مات ..
نعم .. مات ..
وترك بستانه ودكانه .. يتمتع بهما ورثته .. وتدوم عليه حسرته ..
* * * * * * * * * *
وذكر ابن القيم :
أن أحد تجار العقار .. ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد :
هذه القطعة رخيصة .. وهذا مشترى جيّد .. وهذا كذا .. وهذا كذا .. حتى خرجت روحه ..
وهو على هذا الحال ..
ثم دفن تحت الثرى .. بعدما مشى عليه متكبراً ..
قد جمع الأموال .. وكثر العيال .. فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه ..
* * * * * * * * * *
قال ابن القيم :
واحتضر رجل ممن كان يجالس شراب الخمور .. فلما حضره نزعُ روحه ..
اقبل عليه رجل ممن حوله .. وقال : يا فلان .. يا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فتغير وجهه .. وتلبد لونه .. وثقل لسانه ..
فردد عليه صاحبه : يا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فالتفت إليه وصاح :
لا .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. اشرب أنت ثمّ اسقني ..
وما زال يردّدها .. حتى فاضت روحه إلى باريها ..
نعوذ بالله .. { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل} .
* * * * * * * * * *
وذكر الصفدي :
أن رجلاً كان يشرب الخمر ويجالس أهلها .. وكان إذا سكر ونام .. يمشي ولا يعقل ..
فكان ينام في السطح ويشد رجله بحبل كي لا يقع ..
فسكر ليلة ونام .. فقام يمشي .. وسقط من السطح .. فأمسكه الحبل .. فبقي معلقاً
منكساً .. حتى أصبح ميتاً ..
* * * * * * * * * *
وذكر في أنموذج الزمان :
أن محمد بن المغيث كان رجلاً فاسقاً .. مفتوناً بشرب الخمر .. ولا يكاد يخرج من(158/19)
بيت
الخمار ..
فلما مرض .. ونزل به الموت .. وخارت قواه ..
سأله رجل ممن حوله .. هل بقي في جسمك قوة ؟ هل تستطيع المشي ..؟
فقال : نعم .. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار ..
فقال صاحبه : أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد ؟
فبكى .. وقال :
غلب ذلك عليَّ لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد ..
* * * * * * * * * *
وقال ابن أبي رواد :
حضرت رجلاً عند الموت .. فجعل من حوله يلقّنونه لا إله إلا الله .. فحيل بينه
وبينها .. وثقلت عليه .. فجعلوا يعيدون عليه .. ويكررون .. ويذكرونه بالله .. وهو
في كرب شديد ..
فلما ضاق عليه النفس .. صاح بهم وقال : هو كافر بلا إله إلاّ الله .. ثم شهق ومات
..
قال : فلما دفناه .. سألت أهله عن حاله : فإذا هو مدمن للخمر ..
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ..
بل نعوذ بالله من أم الخبائث .. ورأس الفواحش ..
ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة .. ومن شرب الخمر في الدنيا كان حقاً
على الله أن يسقيه من طينة الخبال .. قيل : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟
قال : عصارة أهل النار ..
إلا أن يتوب قبل موته ..
* * * * * * * * * *
أما أهل المعازف والغناء .. فلهم عند الموت كربة وبلاء ..
ذكر ابن القيم :
أن رجلا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة .. فلما اشتدّ به نزع روحه ..
قيل له : قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد أبياتاً من الغناء ..
فأعادوا عليه التلقين ..: قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد الألحان ويقول : تنتنا
.. تنتنا ..
حتى خرجت روحه من جسده .. وهو إنمّا يلحّن ويغني ..
* * * * * * * * * *
أما أهل الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى ..
فهم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن ..
وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين ..
الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران ..
هم تاركو الصلاة .. وبين الرجل وبين الكفر أو الشرك .. ترك الصلاة ..
وحالهم عند الموت(158/20)
وبعده أدهى وأفظع ..
ذكر ابن القيم :
أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من
حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا
الله ..
وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال :
أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !!
ثمّ مات ..
* * * * * * * * * *
هذا هو الموت .. أول طريق الآخرة ..
وما بعده أفظع وأكبر ..
* * * * * * * * * *
أما أحوال أهل القبور .. فهي أدهى وأخطر ..
فكم من جسد صحيح .. ووجه صبيح .. ولسان فصيح .. هو اليوم في قبره يصيح ..
على أعماله نادم .. وعلى الله قادم ..
خرج عمر بن عبد العزيز .. في جنازة بعض أهله فلما أسلمه إلى الديدان .. ودسه في
التراب .. التفت إلى الناس فقال :
أيها الناس :
إن القبر ناداني من خلفي .. أفلا أخبركم بما قال لي ؟
قالوا : بلى ..
فقال : إن القبر قد ناداني فقال :
يا عمر بن عبد العزيز .. ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟
قلت : بلى .
قال : خرقت الأكفان .. ومزقت الأبدان .. ومصصت الدم .. وأكلت اللحم ..
ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟
قلت : بلى .
قال : نزعت الكفين من الذراعين .. والذراعين من العضدين .. والعضدين من الكتفين ..
والوركين من الفخدين .. والفخدين من الركبتين .. والركبتين من الساقين .. والساقين
من القدمين .
ثم بكى عمر فقال :
ألا إن الدنيا بقاؤها قليل .. وعزيزها ذليل ..
وشبابها يهرم .. وحيها يموت .. فالمغرور من اغترَّ بها ..
أين سكانها الذين بنوا مدائنها ..
ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟
والديدانُ بعظامهم وأوصالهم ؟
كانوا في الدنيا على أسرةٍ ممهدة .. وفرشٍ منضدة ..
بين خدم يخدمون .. وأهلٍ يكرمون ..
فإذا مررت فنادهم .. وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم ..
وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟
وسل فقيرَهم ما بقي من فقره ؟
سلهم(158/21)
.. عن الألسن .. التي كانوا بها يتكلمون .. وعن الأعين التي كانوا إلى اللذات
بها ينظرون ..
وسلهم عن الجلود الرقيقة .. والوجوه الحسنة .. والأجساد الناعمة ..
ما صنع بها الديدان ؟
محت الألوان .. وأكلت اللحمان .. وعفرت الوجوه .. ومحت المحاسن ..
وكسرت القفا .. وأبانت الأعضاء .. ومزقت الأشلاء ..
أين خدمهم وعبيدهم ..أين جمعهم ومكنوزهم ؟
والله ما زودوهم فَرْشا .. ولا وضعوا هناك متكئاً ..
أليسوا في منازل الخلوات .. وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟
قد حيل بينهم وبين العمل .. وفارقوا الأحبة والأهل ..
قد تزوجت نساؤهم .. وترددت في الطرق أبناؤهم ..
وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم ..
ومنهم والله الموسع له في قبره .. الغض الناضر فيه .. المتنعم بلذته ..
ثم بكى عمر وقال :
يا ساكن القبر غداً ..
ما الذي غرك من الدنيا ! ..
أين رقاق ثيابك .. أين طيبك .. أين بخورك ..
كيف أنت على خشونة الثرى ..
ليت شعري بأي خديك يبدأ الدود البِلى ..
ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما يأتيني به من
رسالة ربي ..ثم بكى بكاءً ..
ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .. ومات .. رحمه الله ..
* * * * * * * * * *
أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون ..
بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار ..
بل يا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك ..
لعل تحت قدميك الآن أقوام يُعذبون أو ينعمون ..
بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم ..
يعرضون على النار بكرة وعشياً ..
من يدري فالناس كثير .. والأرض قد تضيق عنهم ..
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأين القبور من عهد عاد
خفف الوَطْء ما أظن أديم الأرض * إلا من هذه الأجساد
رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على رفات دفين * من قديم الزمان والآماد
تعب كلها الحياة فلا(158/22)
أعجب * إلا من راغب في ازدياد
فأي عيش صفا وما كدّره الموت ؟
أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟
أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟
أما أرمل النسوان .. وأيتم الأولاد ؟
عزاءٌ فما يصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ
فدلى ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافعُ
يُسلِّم مهجته راغماً كما مدّ راحته البائعُ
ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع
وكيف يوقّى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع
* * * * * * * * * *
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
فإن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويل لعبد عن سبيل الله صد
* * * * * * * * * *
روى الإمام أحمد في مسنده :
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة .. فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم على القبر .. وجلسنا حوله .. كأن على رؤوسنا الطير .. وهو يلحد له ..
فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
ثم قال :
إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه ملائكة من السماء .. بيض الوجوه .. كأن وجوههم الشمس ..
معهم كفن من أكفان الجنة .. وحنوط من حنوط الجنة ..
حتى يجلسوا منه مد البصر ..
ثم يجئ ملك الموت عليه السلام .. حتى يجلس عند رأسه .. فيقول :
أيتها النفس الطيبة .. أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ..
فتخرج تسيل .. كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء .. فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم
يدعوها في يده طرفة عين .. حتى يأخذوها فيجعلوها .. في ذلك الكفن .. وفي ذلك الحنوط
.. ويخرج منها كأطيب نفحة(158/23)
مسك .. وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا يمرون على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الطيب ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ..
حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا .. فيستفتحون له .. فيفتح لهم .. فيشيعه من كل
سماء مقربوها .. إلى السماء التي تليها .. حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة ..
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين .. وأعيدوه إلى الأرض .. فإني منها
خلقتهم .. وفيها أعيدهم .. ومنها أخرجهم تارة أخرى ..
فتعاد روحه في جسده ..
فيأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : ربي الله ..
فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله .. فآمنت به .. وصدقت ..
فينادى مناد في السماء : أن صدق عبدي .. فافرشوه من الجنة .. وألبسوه من الجنة ..
وافتحوا له باباً إلى الجنة ..
فيأتيه من روحها .. وطيبها .. ويفسح له في قبره .. مَدَّ بصره ..
ويأتيه رجل حسنُ الوجه .. حسنُ الثياب .. طيب الريح ..
فيقول : أبشر بالذي يسرك .. هذا يومك الذي كنت توعد ..
فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير ..
فيقول : أنا عملك الصالح .. كنت والله سريعاً في طاعة الله .. بطيئاً عن معصية الله
.. فجزاك الله خيراً ..
نعم .. أيها الإخوة والأخوات ..
يقول له : أنا عملك الصالح ..
أنا صلاتك وصومك .. أنا برك وصدقتك ..
أنا بكاؤك وخشيتك .. أنا حجك وعمرتك ..
أنا قراءتك للقرآن .. وحبك للرحمن ..
أنا قيامك في الأسحار .. وصومك في النهار .. وخوفك من العزيز الجبار ..
أنا برك لوالديك ..أنا طلبك للعلم ..
أنا دعوتك إلى الله .. أنا جهادك في سبيل الله ..
فإذا رأى العبد المؤمن .. هذا الوجه الصبوح يبشره ..
والتفت حوله فرأى قبره قد أصبح(158/24)
واسعاً .. فيه فرش من الجنة .. ونظر إلى لباسه فإذا
هو من الجنة ..
علم أن هذا النعيم لا يساوي شيئاً بجانب ما ينتظره في الجنة .. فيدعوا ربه ويقول :
رب أقم الساعة .. حتى أرجع إلى أهلي ومالي ..
قال :
وإن العبد الكافر أو الفاسق .. إذا كان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه .. معهم المسوح ..
فيجلسون منه مد البصر .. ثم يجئ ملك الموت .. حتى يجلس عند رأسه .. فيقول :
يا أيتها النفس الخبيثة .. أخرجي إلى سخط من الله وغضب ..
فتفرق في جسده .. فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ..
فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض .. وكل ملك في السماء ..
فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم يدعوها في يده طرفة عين .. حتى يجعلوها في تلك المسوح
.. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الخبيث ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ..
حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا .. فيستفتح له .. فلا يفتح له .. ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في
سم الخياط } ..
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين .. في الأرض السفلى .. فتطرح روحه طرحاً
.. ثم قرأ : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } ..
فتعاد روحه في جسده .. ويأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..
فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..
فيقولان : لا دريت .. ولا تلوت ..
فينادى مناد من السماء : أن كذب .. فافرشوا له من النار .. وافتحوا له باباً إلى
النار .. فيأتيه من حرها ..(158/25)
وسمومها .. ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ..
ويأتيه رجل قبيح الوجه .. قبيح الثياب .. منتن الريح ..
فيقول : أبشر بالذي يسوءك .. هذا يومك الذي كنت توعد .. كنت بطيء عن طاعة الله
سريعا في معصية الله فجزاك الله شراً ..
فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر .. فيقول : أنا عملك الخبيث ..
نعم .. أنا عملك الخبيث ..
أنا وقوعك في الشرك .. أنا حلفك بغير الله .. أنا طوافك على القبور .. وشربك للخمور
..
بل .. أنا وقوعك في الزنا .. وأكلك للربا .. وسماعك للغناء ..
أنا تكبرك على الناصحين .. وجرأتك على رب العالمين ..
عندها يتحسر هذا العبد .. وهل تغني الحسرات ..!!
ويشتد ندمه .. وهل تنفعه العبرات ..!!
أين كان هذا البكاء .. وأنت تنظر إلى المحرمات ؟ وتواقع الفواحش والشهوات ؟
كم نُصحت بحفظ فرجك .. وصيانة سمعك وبصرك ..
فابكِ اليوم أو لا تبكِ .. فلن تنجو من العذاب ..
{ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } ..
عندها يوقن هذا العبد .. أن ما يلقاه بعد القبر أشد وأبقى ..
فيقول : رب لا تقم الساعة ..
ثم يقبض له أعمى .. أصم .. أبكم .. في يده مرزبة .. لو ضرب بها جبل كان تراباً ..
فيضربه ضربة .. حتى يصير تراباً .. ثم يعيده الله كما كان .. فيضربه ضربة أخرى ..
فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ..
* * * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
وقبل الختام .. أنبه على تسع مسائل هامة تتعلق بالجنائز والقبور ..
المسألة الأولى :
أن الموت إذا جاء فلا يؤخر لحظة واحدة .. ولا يقدم ..
قال الله : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } ..
ولا أحد يعلم متى يموت .. ولا أين سيموت ..
ذُكر أن وزيراً جليل القدر .. كان عند داود عليه السلام ..
فلما مات داود .. صار وزيراً عند سليمان بن داود ..
فكان سليمان عليه السلام يوماً .. جالساً في مجلسه في الضحى ..
وعنده هذا الوزير ..
فدخل عليه(158/26)
رجل يسلّم عليه ..
وجعل هذا الرجل يحادث سليمان .. ويحدّ النظر إلى هذا الوزير ..
ففزع الوزير منه ..
فلما خرج الرجل .. قام الوزير وسأل سليمان .. وقال :
يا نبي الله ! من هذا الرجل .. الذي خرج من عندك ؟ ..
قد والله أفزعني منظره ؟
فقال سليمان : هذا ملك الموت .. يتصور بصورة رجل .. ويدخل عليَّ ..
ففزع الوزير .. وبكى .. وقال :
يا نبي الله .. أسألك بالله .. أن تأمر الريح فتحملني إلى أبعد مكان .. إلى الهند
..
فأمر سليمان الريح فحملته ..
فلما كان من الغد .. دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل ..
فقال له سليمان : قد أفزعت صاحبي بالأمس .. فلماذا كنت تحد النظر إليه ؟
فقال ملك الموت : يا نبي الله .. إني دخلت عليك في الضحى .. وقد أمرني الله أن أقبض
روحه بعد الظهر في الهند فعجبت أنه عندك ..
قال سليمان : فماذا فعلت ؟
فقال ملك الموت : ذهبت إلى المكان الذي أمرني بقبض روحه فيه .. فوجدته ينتظرني ..
فقبضت روحه ..
{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } ..
ومن مات فإنه لا يرجع من موته .. ولا يخرج من قبره حتى ينفخ في الصور يوم القيامة
..
فمن ادعى أن أحداً من الأئمة أو الأولياء أو الأنبياء .. يرجع بعد موته .. فقد قال
بأعظم البهتان .. وصار من أنصار الشيطان ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }
.. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم
يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم
وغيره أنها متواترة(158/27)
.. وبين يدي أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
فمنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )
..
ومنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه في الصلاة : ( اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
أن عذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل .. والإيمان بالغيب من أهم صفات
المؤمنين .. كما قال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين *الذين يؤمنون بالغيب } ..
قال ابن القيم رحمه الله : ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ .. فكل
من مات وهو مستحق للعذاب .. ناله نصيبه منه .. قُبر .. أو لم يُقبر .. فلو أكلته
السباع .. أو أحرق حتى صار رماداً .. ونسف في الهواء .. أو صلب .. أو غرق في البحر
.. وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور ..
* * * * * * * * * *
المسألة الرابعة :
من المحرمات التي تقع من بعض الناس .. والنساء خاصة .. ما يقع من العويل والنياحة
والصراخ ..
ففي الصحيحين .. قال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من ضرب الخدود .. وشق الجيوب .. ودعا
بدعوى الجاهلية ..
وفيهما .. قال صلى الله عليه وسلم: ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها .. تقام يوم القيامة .. وعليها سربال من قطران .. ودرع من جرب ) ..
فعلى من أصيب بموت حبيب .. أن يصبر ويحتسب .. وليبشر بالأجر العظيم على صبره ..ففي
الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء .. إذا قبضت
صفيه من أهل الدنيا .. ثم احتسبه .. إلا الجنة ..
* * * * * * * * * *
المسألة الخامسة :
زيارة القبور مشروعة .. ويكون قصده من الزيارة الاعتبار والاتعاظ .. دون قصد التبرك
بالقبر .. أو بتربة القبر .. أو الانتفاع بالمقبور ..
ولا(158/28)
يجوز أن يخصص يوماً معيناً للزيارة .. لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خصص
أياماً للزيارة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وبعض الناس يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور.. وهذه من البدع .. إذ لم يثبت عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قرأ شيئاً من القرآن عند القبور .. بل كان يدعو للأموات ويستغفر لهم .
ولا يجوز السفر لزيارة قبر من القبور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) متفق عليه .
* * * * * * * * * *
المسألة السادسة :
من المخالفات والبدع في الجنائز :
• وضعُ الزهور على الجنازة أو القبر ، وهذا تشبه بالكفار في دينهم وشعائرهم ، وقد
قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم .. رواه أحمد .
• وكذلك الحداد على أرواح الشهداء أو غيرهم .. بالوقوفُ والصمت لمدة دقيقة ترحماً
عليهم .. فهذه بدعة منكرة .. وإنما يكتفى بالدعاء والاستغفار لهم ..
• وكذلك لا يجوز تعليقُ صورٍ لأموات بل ولا الأحياء ، للذكرى أو لغيرها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. رواه مسلم
.
ومن المخالفات :
• رفع الصوت أثناء تشييع الجنازة بالتهليل أو التكبير الجماعي .. والمشروع أن يدعو
المرء ويذكر الله مع نفسه .
• وكذلك الأذان في القبر .. أو بعد وضع الميت في قبره .. ولم يثبت ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ..
• وكذلك من البدع : الدعاء الجماعي بعد صلاة الجنازة .. أو بعد دفن الميت .. بل
المشروع أن يدعو كل واحد مع نفسه ..
• ومن المخالفات دفن الميت في تابوت .. والأصل أن يدفن الميت بكفنه في القبر .. من
غير تابوت .. إلا إذا دعت الحاجة إلى دفنه في تابوت كتقطع(158/29)
الجسم مثلاً ..أو كان
نظام الدولة يُلزم بدفنه بتابوت ولا يستطيع أصحاب الجنازة المخالفة .. فيدفن
بالتابوت .
* * * * * * * * * *
المسألة السابعة :
فعل القربات من الحي وإهداءُ ثوابها للميت جائز .. في حدود ما ورد الشرع بفعله
..كالدعاء له .. والحج .. والعمرة .. والصدقة .. والأضحية .. وصومِ الواجب عمن مات
وعليه صوم واجب .
أما قراءة القرآن أو الصلاة بنية أن يكون ثوابها للميت فلا تجوز ؛ لأنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك من البدع استئجار قارئ يقرأ القرآن للأموات في المآتم .
* * * * * * * * * *
المسألة الثامنة :
قبل توزيع التركة يجب إخراج تكاليف تجهيز الميت .. وسداد ديونه .. وتنفيذ وصيته ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
* * * * * * * * * *
المسألة الأخيرة :
وهي المسألة الكبرى .. والمصيبة العظمى ..
وهي الشرك الواقع عند القبور .. كمن يطوف على القبور .. أو يسأل أهلها الحاجات ..
واعتقاد أن الأولياء الموتى .. يقضون الحاجات ..
والله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
} ..
وبعض عُبَّاد القبور يطوفون بها .. ويستلمون أركانها .. ويتمسَّحون بها ..
ويقبِّلون أعتابها .. ويسجدون لها .. ويقفون أمامها خاشعين .. سائلين حاجاتهم .. من
شفاء مريض .. أو حصولِ ولد ..
وربما نادى الزائرُ صاحب القبر : يا سيدي ! جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني .. !!
والله يقول : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } ..
وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار ) ..
ولا تغتر بما يشاع أن فلاناً الفقير دعا عند القبر(158/30)
الفلاني فاغتنى .. أو فلاناً
المريض دعا فشفي .. أو رزق بولد ..
ويحرم بناء المساجد على القبور ..
بل لا تجوز الصلاة في المسجد إذا كان فيه أو في ساحته أو قبلته قبر .. لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : ( ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد .. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
بل يحرم البناء على القبور .. على أي شكل كان .. ففي صحيح مسلم : نهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه .. ، والمشروع أن يدفن الميت
ثم يعاد على القبر التراب الذي أخرج منه .. ولا يزيد ارتفاعه عن الشبر .
كما يحرم بناء القباب على القبور لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : لا تدع صورة إلا طمستها ،
ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. رواه مسلم .
وقال جابر رضي الله عنه : نهى النبي أن يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه
.. رواه مسلم .
ومن على القبر سراجاً أوقداً أو ابتنى على الضريح مسجداً
فإنه مجدد جهاراً لسنن اليهود والنصارى
كم حذر المختار عن ذا ولعن فاعله كما روى أهل السنن
بل قد نهى عن ارتفاع القبر وأن يزاد فيه فوق الشبر
وكل قبر مشرف فقد أمر بأن يسوى هكذا صح الخبر
فانظر إليهم قد غلو وزادوا ورفعوا بناءها وشادوا
بالشيد والآجرِّ والأحجارِ لا سيما في هذه الأعصارِ
وللقناديل عليها أوقدوا وكم لواء فوقها قد عقدوا
ونصبوا الأعلام والرايات وافتتنوا بالأعظم الرفاْت
بل نحروا في سوحها النحائرْ فعل أولي التسييب والبحائرْ
والتمسوا الحاجات من موتاهمْ واتخذوا إلههم هواهم
سبحان الله ..
{ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل(158/31)
يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } ..
* * * * * * * * * *
أسأل الله أن يخلص توحيدنا له وحده لا شريك له ..
وأن يهدي ضال المسلمين ..
اللهم اجعلنا بطاعتك عاملين .. وعلى ما يرضيك مقبلين ..
وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين ..
وآمنا من الفزع الأكبر يوم الدين ..(158/32)
ذكريات تائب
كتبه : الشيخ محمد بن عبد الرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكريات تائب
الحمد لله غافر الذنب .. وقابل التوب ..
شديد العقاب ذي الطول .. لا إله إلا هو إليه المصير ..
الحمد لله الذي يقول للشيء كن فيكون .. وبرحمته نجى موسى وقومه من فرعون ..
الحمد لله الذي كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
وسبحان من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ..
وما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه ذكريات .. ومشاعر وهمسات ..
أفضى بها التائبون .. واعتبر بها المذنبون ..
نعم .. هي ذكريات .. اعترف بها كهول هدهم مر السنوات ..
وشباب لعبت بهم الشهوات ..
وفتيات ولغن في الملذات ..
هي ذكريات .. مرت وانقضت .. وانتهت ونُسيت ..
لكنها سجلت وكتبت .. وأحصيت وعُدّت ..
* * * * * * * * *
نعم ..
هذه ذكريات تائب .. واعترافات منيب وراغب ..
في زمن كثرت فيه المغريات .. وتنوعت الشهوات ..
وزلت بكثير من الناس الأقدام .. فقارفوا المعاصي والآثام ..
فضعف إيمانهم .. وقوي عليهم شيطانهم ..
إنها ذكريات .. لمن يؤمن بقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ..
كما يؤمن بقوله : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ..
* * * * * * * * *
هذه أخبار أقوام أخبر ربهم .. أنه يفرح بتوبة التائبين إليه ..
مع غناه عنهم .. وشدة حاجتهم إليه ..
وكيف لا يفرح بتوبتهم .. وقد ناداهم بقوله :
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ..
وناداهم نبيهم بقوله :
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
أول هؤلاء التائبين ..
شيخ كبير ..(159/1)
نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
* * * * * * * * *
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
* * * * * * * * *
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه(159/2)
وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا(159/3)
يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدل على كعب بن(159/4)
مالك ..
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
* * * * * * * * *
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك(159/5)
..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت ..(159/6)
فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
* * * * * * * * *
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ(159/7)
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
* * * * * * * * *
ومن فرح الله بالتائبين إليه أنه لا يغفر سيئاتهم فقط .. كلا .. بل يبدل سيئاتهم حسنات .. قال عز وجل :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } .. وفي البخاري أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أي رسول الله .. أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية .. من صدقة أو .. عتِاقة .. أو صلة رحم .. أفيها أجر ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ..
الله أكبر ..
الذنوب تغفر .. والسيئات تبدل حسنات .. والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة .. فماذا بقي !
* * * * * * * * *
هو التواب الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيء ..
لكن رحمته قريبة من المحسنين .. الرجاعين التائبين ..
الذين إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذُكِّروا ذكروا ..
فليست المشكلة في وقوع الذنب .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
هي أن يألف المرء الذنب .. ثم يتساهل بخطره .. فلا يحدث منه توبة ..
والله رحيم بعباده ..
رحمته أسرع من غضبه ..
ومغفرته أعجل من عقوبته ..
هو والله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت(159/8)
النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..
* * * * * * * * *
نعم .. ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي ..(159/9)
حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
* * * * * * * * * *
وذكر ابن قدامة في التوابين ..
أن بني إسرائيل .. لحقهم قحط على عهد موسى عليه السلام .. فاجتمع الناس إليه ..
فقالوا : يا كليم الله .. ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث ..
فقام معهم .. وخرجوا إلى الصحراء .. وهم سبعون ألفاً أو يزيدون ..
فقال موسى عليه السلام : إلهي .. اسقنا غيثك .. وانشر علينا رحمتك .. وارحمنا بالأطفال الرضع .. والبهائم الرتع .. والمشايخ الركع ..
فما زادت السماء إلا تقشعاً .. والشمس إلا حرارة ..
فقال موسى : إلهي .. اسقنا ..
فقال الله : كيف أسقيكم ؟ وفيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة .. فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم .. فبه منعتكم ..
فصاح موسى في قومه : يا أيها العبد العاصي .. الذي يبارز الله منذ أربعين سنة .. اخرج من بين أظهرنا .. فبك منعنا المطر ..
فنظر العبد العاصي .. ذات اليمين وذات الشمال .. فلم ير أحداً(159/10)
خرج .. فعلم أنه المطلوب ..
فقال في نفسه : إن أنا خرجت من بين هذا الخلق .. افتضحت على رؤوس بني إسرائيل .. وإن قعدت معهم منعوا لأجلي .. فانكسرت نفسه .. ودمعت عينه ..
فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله .. وقال : إلهي .. وسيدي .. عصيتك أربعين سنة ..وأمهلتني .. وقد أتيتك طائعاً .. فاقبلني .. وأخذ يبتهل إلى خالقه ..
فلم يستتم الكلام .. حتى ارتفعت سحابة بيضاء ..فأمطرت كأفواه القرب ..
فعجب موسى وقال : إلهي .. سقيتنا .. وما خرج من بين أظهرنا أحد ..
فقال الله : يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم ..
فقال موسى : إلهي .. أرني هذا العبد الطائع ..
فقال : يا موسى .. إني لم أفضحه وهو يعصيني .. أأفضحه وهو يطيعني ..
* * * * * * * * * *
نعم .. غفر الله له ..
ولماذا لا يغفر له العزيز الرحيم وهو الذي قال :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً(159/11)
لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ! لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .. وصح عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى :
( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ..
يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي..
يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) ..
* * * * * * * * *
نعم يأتيه بقراب الأرض مغفرة ..
ومن رحمة الله تعالى .. أنه يرى عبده يعصيه .. فلا يعاجله بالعقوبة ..
بل قد يبتليه بالأمراض والأسقام .. والمصائب والآلام .. ليرده إليه .. ويطرحه بين يديه ..
فيقرع أبواب السماء بأنواع الدعاء .. طالباً كشف الضر ورفع البلاء ..
والعبد كلما كان خائفاً تواباً .. منيباً لربه أواباً ..
كانت رحمة الله أقرب إليه .. وفضل الله أوسع عليه ..
يستجيب الله دعاءه .. ويكشف عنه بلاءه ..
وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ..
ولا أنسى ذلك الشاب الذي عرفته أثناء دراسته الجامعية .. شاباً من أحسن من رأيت منظراً وقواماً .. يتفجر الشباب والصحة من جوانبه .. لكنه كان من عامة الشباب ..
انقطعت العلاقة بيننا بعد تخرجه ..
وذات يوم ..
اتصل بي وطلب مني زيارته وقال : أنا لا أستطيع زيارتك .. ولا تسألني لماذا ! إذا جئتني عرفت السبب ! قال هذه العبارات بصوت حزين ..
وصف لي طريق منزله .. طرقت الباب .. فتح لي أخوه الصغير .. ثم أدخلني إلى غرفة صاحبي ..
فإذا هو على سرير أبيض .. بجانبه عكاز ..وجهاز يُلبس في الرِّجل لأجل المشي .. ومجموعة من الأدوية .. أما هو فجسد متهالك .. ملقى على السرير .. حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام .. لكنه لم يستطع ..
جلست عند رأسه .. أدافع عبراتي ..
قلت له : عفواً لم(159/12)
أعلم بمرضك من قبل ، ولكن ماذا أصابك ؟ ألم تتخرج من الكلية ؟ ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج ، وتبني منزلاً .. وتشتري سيارة ..
قال : نعم ، ولكن حدث ما لم يكن في حسباني ..
تخرجت قبل أشهر معدودة ، وعملت في وظيفة مرموقة .. ومضت عليَّ الأيام .. لا يكدر صفوها إلا صداع ينتابني أحياناً ..
ثم بدأ الصداع يشتد .. ويصاحبه ضعف في النظر ..
حتى اشتدّ ذلك عليّ في أحد الأيام ، فذهبت إلى أحد المستشفيات .. فلما قابلني الطبيب ، عمل لي التحاليل .. ثم طلب إجراء أشعة دقيقة على الرأس ..
فلما أجريت الأشعة .. أخذ يقلب أوراقها بين يديه .. وهو يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم رفع سماعة الهاتف ، واستدعى مجموعة من كبار الأطباء ..
وبدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل .. ويتأملون صور الأشعة .. ويتحدثون باللغة الإنجليزية ، ويسارقونني النظر ..
مضت قرابة ساعة على هذا الحال .. وأنا في حال لا أُحسد عليه ..
وكنت أقول في نفسي .. المسألة حلّها سهل : حبة أو حبتان من مسكن الصداع مع قطرة للعين ، وينتهي كل شيء !!
وفجأة التفت إلي أحدهم وقال :
اسمع يا فلان .. التقارير والأشعة تدل ! على أنك مصاب بورم في رأسك ، حجمه يزداد بسرعة مُخيفة ، وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل ، وفي أي لحظة قد يزداد الضغط .. فتنفجر عروق العين .. فتصاب بالعمى .. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ .. ثم تموت !!..
صحت بأعلى صوتي ..
يا دكتور !!.. ماذا ؟ ..كيف ؟ ..متى ؟ ..كيف ورم ؟ .. وأنا في هذه السن ؟ ..أعوذ بالله !..سرطان ؟ .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
قال : نعم ، ورم .. ولا بدّ من علاجه بسرعة ؛ الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات اللازمة ، وفي الصباح نزيل جزءاً من عظم الجمجمة ونخرج الورم ثم نعيد العظم مرة أخرى ..
ثم مدّ إليَّ أوراق العملية ! لأوقّعها .. فرفضت توقيعها .. وخرجت ..
وأنا أدافع عبراتي .. وأتفكر .. أين أذهب ؟! إلى البيت ..أم(159/13)
أرجع إلى المستشفى ؟ .. وبعد تفكير سريع قررت أن أذهب إلى مستشفى آخر ..
وبعدما أجريت لي التحليلات والأشعة .. أجبرني الطبيب بما أخبرني به صاحبه .. وطلب المسارعة بإجراء العملية ..
فكانت الصدمة عليّ أهون .. اتصلت بوالدي .. فحضر إليَّ في المستشفى ..
شيخ كبير تجاوز السبعين .. فلما رآني فزع من وجوم وجهي ..
فقلت له : تعلم يا أبي أني أشكو من صداع دائم .. والفحوصات تدلُّ على وجود ورم في الرأس ولا بدّ من إجراء عملية عاجلة ..
سمع أبي هذه الكلمات فصاح :
لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم جلس على الأرض .. وهو يردد : إنا لله وإنا إليه راجعون .. إذاً نرسلك إلى أخيك في أمريكا ..
قال هذه الكلمات وهو يتذكر معاناته منذ سنة كاملة مع أخي الأكبر الذي يعالج منذ سنة من مرض السرطان .. كم رأيت أبي يبكي في الهاتف وهو يكلمه .. كم كان يدعو له آخر الليل ..
أخذت أنظر إلى أبي ودموعه تجري على خديه .. وهو يرى أولاده يموتون بين يديه .. فأخي خالد توفي قبل سنتين في حادث سيارة .. وأخي الأكبر يصارع الموت في أمريكا .. وأنا في أول طريق لا تعرف نهايته ..
سافرت إلى أمريكا ..
وصلنا إلى المستشفى .. عملوا لي الفحوصات بسرعة ..
وفي الصباح أدخلوني غرفة العمليات ..
حلق الطبيب شعر رأسي .. وبعد أن خدرني .. قطع فروة رأسي على هيئة دائرية .. ثم بدأ ينشر الجمجمة .. حتى نزع أعلاها .. ووضع العظم بجانبه .. ثم أخرج الورم ..
مضت ساعة وساعتان .. والعملية تسير على ما يرام ..
وفجأة .. اضطرب الدم في عروق الدماغ .. ثم توقف الدم في الشرايين وأصابتني جلطة في الدماغ .. فاضطرب الطبيب وحرّك - خطئاً – بعض أجزاء المخ .. فأصابني شلل نصفي في الجزء الأيسر من جسمي ..
فلما رأى الطبيب ذلك أنهى ما تبقى من العملية بسرعة .. وأعاد عظم الجمجمة إلى مكانه .. وغطى بالجلد فوقه .. وخيّط المكان ..
ثم حملوني إلى غرفة العناية المركزة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
مكثت بعد(159/14)
العملية في غيبوبة تامة لمدة خمس ساعات .. ثم أصابتني جلطة في الرجل اليسرى .. فحملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري وعالجوا الجلطة .. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
استقرّت حالتي أربع ساعات ثم أُصبت بنزيف شديد في الرئة ..!! .. حملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري مرة أخرى وعالجوا النزيف .. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
ضاق الطبيب بأمري ذرعاً .. أمراض متتابعة .. حالة متقلبة .. مفاجآت لا آخر لها ..
استقرّت حالتي أربعاً وعشرين ساعة .. أحس الطبيب بشيء من الانتعاش والسرور .. وفجأة بدأت درجة حرارة جسدي ترتفع بشكل مخيف .. أجرى الطبيب فحصاً سريعاً عليَّ .. فاكتشف أن العظم الذي استخرج الورم من تحته قد أصابه التهاب شديد ..!!
استدعى الطبيب فريق العمليات .. ثم حملوني كالجنازة .. وألقوني على سرير في غرفة العمليات ..
بدأت أنظر إليهم .. لا أملك من أمري شيئاً ..
رفعت بصري إلى السماء .. بكيت .. وأخذت أردد متضرعاً ..
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت :
يا أرحم الراحمين .. إن كانت هذه عقوبة .. فأسألك الرحمة والمغفرة .. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء وعظم لي الأجر والجزاء ..
ثم ذكرت هادم اللذات ..والله لقد عظمت كربتي .. وذهبت قوتي .. وغداً يصبح التراب فراشي ..
عكري محدود .. ونَفَسي معدود .. وجسمي عما قريب يأكله الدود ..
آه إذا زلت يوم القيامة القدم .. وارتفع البكاء وطال الندم ..
ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير ..
يوم تزل بالعصاة الأقدام .. وتكثر الآهات والآلام .. وتنقضي اللذات كأنها أحلام ..
ثم بكيت .. نعم بكيت .. وتمنيت البقاء في الدنيا .. لا لأجل التمتع بها .. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله ..
وفجأة .. أقبل الطبيب إليَّ .. وأمر بتخديري تخديراً عامّاً .. ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم .. وأخرج(159/15)
العظم ووضعه جانباً .. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم !! .. وبعد ساعات ..
أفقت من إغمائي .. تحسست رأسي فإذا هو ليّن .. أين العظم ؟! .. سألت الطبيب : أين بقية رأسي ؟!! فقال لي بكل برود : عظمك يبقى عندنا لتعقيمه .. وبعد ستة أشهر تعالَ إلينا لنعيده مكانه !! ..
مكثت في أمريكا شهراً واحداً ثم رجعت إلى الرياض .. وهاأنذا أنتظر انتهاء الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي !! ..
وقد كنت في غفلة عن حياتي .. منغمساً في أمر معاشي ..
ناسياً الموت والبلى .. حريصاً على الحياة الدنيا ..
لأما اليوم فقد ولدت من جديد ..
ومضت الأيام .. وشُفي من الشلل واستطاع المشي ..
وبعد سبعة أشهر جئته زائراً فإذا وجهه متهلل مسرور ..
وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه ..
وأعرفه اليوم من أحرص الناس على فعل الخير .. والدلالة عليه ..
والدعوة إليه .. والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها ..
بل وفي الإحسان إلى الضعفاء .. ونجدة الفقراء ..
إلى غير ذلك من وجوه الخير ..
ورُبَّ محنة في طيها منحة ..
* * * * * * * * *
التائبون .. هم من أحب الخلق إلى الله ..
والله أخبر أنه يحب التوابين ..
لكنه يبغض المعتدين الظالمين ..
وكم من عاصٍ يمسي ويصبح ضاحكاً ..
وربه من فوقه يلعنه .. والملائكة تبغضه ..
والصالحون يدعون عليه .. والنار تشتاق إليه ..
أتم الله له سمعه وبصره .. وسلم له عقله وفكره ..
فبارز ربه بالعصيان .. وصار من أنصار الشيطان ..
يعصي ولا يتوب .. ويتتبع الشهوات والذنوب ..
عجباً .. ينعم الله عليك وتعصيه بنعمه ..
هب أنك كنت مشلولاً مقعداً .. أو مريضاً مجهداً ..
أو مسلوب السمع والبصر .. فكيف يكون حالك ؟!
* * * * * * * * *
دخلت على مريض في المستشفى .. فلما أقبلت إليه .. فإذا رجل قد بلغ من العمر أربعين سنة .. من أنضر الناس وجهاً .. وأحسنهم قواماً ..
لكن جسده كله مشلولٌ لا يتحرك منه ذرة .. إلا رأسه وبعض رقبته ..
دخلت غرفته .. فإذا(159/16)
جرس الهاتف يرن .. فصاح بي وقال : يا شيخ أدرك الهاتف قبل أن ينقطع الاتصال ..
فرفعت سماعة الهاتف ثم قربتها إلى أذنه ووضعت مخدة تمسكها .. وانتظرت قليلاً حتى أنهى مكالمته .. ثم قال : يا شيخ .. أرجع السماعة مكانها ..
فأرجعتها مكانها .. ثم سألته : منذ متى وأنت على هذا الحال ؟
فقال : منذ عشرين سنة .. وأنا أسير على هذا السرير ..
* * * * * * * * *
وحدثني أحد الفضلاء أنه مر بغرفة في المستشفى .. فإذا فيها مريض يصيح بأعلى صوته .. ويئن أنيناً يقطع القلوب ..
قال صاحبي : فدخلت عليه .. فإذا هو جسده مشلولٌ كله ..
وهو يحاول الالتفات فلا يستطيع ..
فسألت الممرض عن سبب صياحه .. فقال :
هذا مصاب بشلل تام .. وتلف في الأمعاء .. وبعد كل وجبة غداء أو عشاء .. يصيبه عسر هضم ..
فقلت له : لا تطعموه طعاماً ثقيلاً .. جنبوه أكل اللحم .. والرز ..
فقال الممرض : أتدري ماذا نطعمه .. والله لا ندخل إلى بطنه إلا الحليب من خلال الأنابيب الموصلة بأنفه ..
وكل هذه الآلام .. ليهضم هذا الحليب ..
* * * * * * * * *
وحدثني ثالث أنه مرّ بغرفة مريض مشلول أيضاً .. لا يتحرك منه شيء أبداً ..
قال : فإذا المريض يصيح بالمارين .. فدخلت عليه ..
فرأيت أمامه لوح خشب عليه مصحف مفتوح .. وهذا المريض منذ ساعات .. كلما انتهى من قراءة الصفحتين أعادهما .. فإذا فرغ منهما أعادهما .. لأنه لا يستطيع أن يتحرك ليقلب الصفحة .. ولم يجد أحداً يساعده ..
فلما وقفت أمامه .. قال لي : لو سمحت .. اقلب الصفحة ..
فقلبتها .. فتهلل وجهه .. ثم وجّه نظره إلى المصحف وأخذ يقرأ ..
فانفجرت باكياً بين يديه .. متعجباً من حرصه وغفلتنا .. وشدة مرضه وحسن صحتنا ..
* * * * * * * * *
هذا حال أولئك المرضى ..
فأنت يا سليماً من الأمراض والأسقام .. يا معافىً من الأدواء والأورام ..
يا من تتقلب في النعم .. ولا تخشى النقم ..
ماذا فعل الله بك فقابلته بالعصيان .. بأي شيء آذاك ..(159/17)
أليست نعمه عليك تترى .. وأفضاله عليك لا تحصى ؟
أما تخاف .. أن توقف بين يدي الله غداً ..
فيقول لك .. يا عبدي ألم أصح لك في بدنك .. وأوسع عليك في رزقك ..
وأسلم لك سمعك وبصرك .. فتقول بلى .. فيسألك الجبار :
فلم عصيتني بنعمي .. وتعرضت لغضبي ونقمي ..
فعندها تنشر في الملأ عيوبك .. وتعرض عليك ذنوبك ..
فتباً للذنوب .. ما أشد شؤمها .. وأعظم خطرها ..
أولها عناء .. وأوسطها بلاء .. وآخرها فناء ..
وهل أخرج أبانا من الجنة إلا ذنب من الذنوب ..
وهل أغرق قوم نوح إلا الذنوب ..
وهل أهلك عاداً وثمود إلا الذنوب ..
وهل قلب على قوم لوط ديارهم .. وعجل لقوم شعيب عذابهم ..
وأمطر على أبرهة حجارة من سجيل .. وأنزل بفرعون العذاب الوبيل ..
إلا المعاصي والذنوب ..
قال الله : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ..
* * * * * * * * *
ولا تعجب .. إذا عُذبت بذنبك في الدنيا ..
فمرضت في بدنك .. أو ابتليت في ولدك ..
أو خسرت في تجارتك .. أو ضاق عليك رزقك ..
أو كثر عليك البلاء .. ولم يستجب منك الدعاء ..
فتتابعت عليك المصائب .. وأحاطت بك المتاعب ..
قال الله : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } ..
فبادر إلى التوبة من ذنوبك ..
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع
كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها
لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطى حثثتها في خزية(159/18)
أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعب ومرتع
وكم تجرأت على رب السماوات العلى
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم
قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع
واخضع خضوع المعترف ولُذ ملاذ المقترف
واعص هواك وانحرف عنه انحراف المقلع
فيا خسار من بغى ومن تعدى وطغى
وشب نيران الوغى لمطعم أو مطمع
* * * * * * * * *
ولقد كان الصالحون .. يصبّرون أنفسهم على الطاعات .. وينهونها عن المحرمات .. ويجعلون موعد الراحة الجنات ..
نعم .. يستطيعون أن يزنوا .. أتظنهم عاجزين عن ذلك ؟
ويستطيعون أن يمتعوا أعينهم بالنظر إلى المحرمات .. وأسماعهم بسماع الأغنيات .. ويكثروا أموالهم بالربا ..
يستطيعون ذلك كله .. فما الذي يمنعهم ..؟!
نعم ما الذي يمنعهم ؟!
إنهم يخشون أن يتجرعوا من الحميم .. ويقاسوا العذاب الأليم ..
يخشون من يوم تزيغ فيه الأبصار .. ويشتد غضب الجبار ..
يخافون يوماً كان شره مستطيراً ..
* * * * * * * * *
كان الإمام أحمد بن حنبل يكثر على نفسه التعبد .. والصلاة والقيام ..
فقال له ابنه عبد الله يوماً : يا أبتِ .. متى ترتاح ؟!
فقال : أبو عبد الله : أرتاح .. إذا وضعت أولى قدمي في الجنة ..
* * * * * * * * *
فاجمع قواك لما هناك وغمض * العينين واصبر ساعة لزمان
ما هاهنا والله ما يسوى قلا * مة ظفر واحدة ترى بجنان
يا غافلا عما خلقت له انتبه * جد الرحيل فلست باليقظان
سار الرفاق وخلفوك مع الألى * قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من ترى متخلفاً * فتبعتهم ورضيت بالحرمان
والله لا يرضى بهذا تائب * ذو همة طلباً لهذا الشان
والله ما ينجي الفتى من ربه * شيء سوى التقوى مع الإيمان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
* * * * * * * * *
وعلى التائب أن يصبر على ما قد يصيبه .. بعد التوبة من بلاء .. أو سخرية واستهزاء .. ويتحمل ذلك في ذات الله ..
فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون .. ثم الأمثل(159/19)
فالأمثل .. ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ..
ولا يغتر بكثرة الواقعين في المعاصي ..
ولا يلتفت إلى الهالكين في الشهوات ..
ممن استغواهم الشيطان .. فأصبح أكبر هم أحدهم شهوة فرجه ..
أو فمه وبطنه ..
والله يقول : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
* * * * * * * * *
أما الحياة بعد التوبة .. فهي الحياة التي خلقت لأجلها ..
وأوجدك الله لها ..
فأي لذة للحياة .. إذا كنت تشعر في كل لحظة منها .. أنك عدوٌ لله ..
متتبع للشهوات .. واقع في المحرمات ..
وربك الذي يطعمك ويسقيك .. وإذا مرضت فهو يشفيك .. وهو الذي يميتك ثم يحييك ..
بل .. كل شعرة من شعراتك .. وذرة من ذراتك ..
لا تتحرك إلا بإذنه ..
ومن صدق لله في توبته ..
تحول بعدها إلى جندي من جنود هذا الدين .. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
ويحمل همَّ الإسلام ..
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط أحدهم يده فيبايع محمداً صلى الله عليه وسلم ..
ثم يستشعر أنه بهذه البيعة أصبح جندياً يعمل لهذا الدين ..
ذكر ابن إسحاق وأصل القصة في البخاري ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم .. لما تمكن في المدينة ..
بدأ يبعث أصحابه إلى ما حوله من القرى والوديان .. يدعون الناس إلى الإسلام ..
فبعث أحد الصحابة إلى وادي نعمان قرب الطائف ..
فلما وصل ذلك الصحابي إليهم .. فإذا أعراب في بواديهم .. لا يعقلون من الحياة إلا إبلهم وغنمهم ..
فدعاهم إلى الله .. وأبان لهم الدين .. فأعرضوا ..
فانطلق رجل منهم إلى المدينة .. لينظر في خبر هذا النبي ..
انطلق الرجل على ناقته .. حتى وصل إلى المدينة ..
ثم دخلها .. وأقبل يصيح بين الناس : أين ابن عبد المطلب .. أين ابن عبد المطلب ..
فدله رجل على المسجد .. فتوجه إليه ..
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه يوماً .. إذ أقبل الأعرابي الجلد ..(159/20)
وقد جعل شعره جديلتين ..
فأناخ بعيره على باب المسجد .. فعقله .. ثم دخل المسجد .. وقال :
وصاح بالناس : أيكم ابن عبد المطلب ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \" أنا ابن عبد المطلب \" ..
فقال : محمد ؟
فقال :\" نعم \" ..
فقال : يا ابن عبد المطلب ! إني سائلك .. ومغلظ عليك في المسألة .. فلا تجدن في نفسك علي ..
فقال صلى الله عليه وسلم : \" لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك \" ..
فقال : من رفع السماء ؟ قال : الله ..
قال : فمن بسط الأرض ؟ قال : الله ..
قال : فمن نصب الجبال ؟ قال : الله ..
قال : فأسألك بالذي رفع السماء .. وبسط الأرض .. ونصب الجبال .. آلله بعثك إلينا رسولاً ؟
قال : \" اللهم نعم \" ..
قال : فأنشدك الله .. آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئاً .. وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \" اللهم نعم \" ..
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة .. فريضة :
آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات ؟
آلله أمرك أن نزكي أموالنا ؟
آلله أمرك أن نصوم ؟
ويعدد فرائض الإسلام .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم نعم ..
حتى إذا فرغ قال :
فأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني بكر بن سعد .. وإني أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وسأؤدي هذه الفرائض .. وأجتنب ما نهيتني عنه .. لا أزيد ولا أنقص ..
ثم انصرف خارجاً من المسجد .. راجعاً إلى بعيره ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى : \" إن يصدق ذو العقيصتين .. يدخل الجنة \"
ثم أتى بعيره .. فأطلق عقاله .. وانطلق عليه حتى قدم على قومه ..
فاجتمعوا عليه ..
فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى ..
فقالوا : مه يا ضمام .. اتق البرص .. والجنون .. والجذام ..
قال : ويلكم .. إنهما ما يضران ولا ينفعان .. إن الله قد بعث رسولاً .. وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه .. وإني أشهد أن لا إله إلا(159/21)
الله .. وأن محمداً عبده ورسوله .. وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ..
فما زال بقومه .. يدعوهم .. ويستنقذهم من النار ..
حتى ما غابت الشمس ذلك اليوم .. وفي قومه أحد كافر ..
* * * * * * * * *
فهل نجد عند التائبين اليوم .. مثل هذه الحماس .. في نشر الدين .. ومناصرة عن المؤمنين ..
كم من تائب كان في جاهليته رأساً في المنكرات .. والدعوة إلى الشهوات ..
لكنه بعد توبته .. وصلاحه واستقامته .. أصبح ذيلاً بعد أن كان رأساً .. راجلاً بعد أن كان فارساً ..
عجباً !! جبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟!!
لا ينفع الإسلام ولا المسلمين .. لا في دعوة .. ولا إصلاح ..ولا تعليم جاهل .. أو نصح غافل ..
* * * * * * * * *
ومن عظم قدر ربه في قلبه .. حاسب نفسه أشد المحاسبة ..
وعاتبها أعظم المعاتبة ..
قال زيد بن أرقم :
كان لأبي بكر الصديق مملوك .. يعمل .. ويشتري طعاماً كل يوم ..
فأتاه ليلة بطعام .. فتناول أبو بكر منه لقمة ..
فقال له المملوك : مالك كنت تسألني كل ليلة عن الطعام .. ولم تسألني الليلة ..
قال : حملني على ذلك الجوع .. فمن أين جئت بهذا ..؟
قال : مررت بقوم في الجاهلية .. فتكهنت لهم .. ولا أحسن كهانة ..
فوعدوني بأجرة .. فلما أن كان اليوم مررت بهم .. فإذا عرس لهم .. فأعطوني هذا الطعام ..
فقال أبو بكر : أف لك .. كدت تهلكني ..
فأدخل يده في حلقه .. فجعل يتقيأ .. وجعلت لا تخرج ..
فقيل له : إن هذه لا تخرج إلا بالماء ..
فدعا بطست ماء فجعل يشرب .. ويتقيأ ..
حتى رمى بها ..
فقيل له : يرحمك الله !! كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟!!
فقال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ..
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به )
فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة ..
* * * * * * * * *
أما شهيد المحراب .. العابد الأواب .. عمر بن الخطاب .. فله في محاسبة النفس شأن عجيب ..
ذكر صاحب(159/22)
الحلية :
أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتاً في قرب .. ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين ..
فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم ..
وكان كلما فرغت قربة من قرب الزيت .. قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه ..
وكان بجواره ابن صغير له .. فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان ..
ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة ..
فإذا شعر الصغير حسنٌ .. ووجهه حسن .. فقال : ادهنت ؟ قال : نعم .. قال : من أين ؟ قال : مما يبقى في هذه القرب ..
فقال عمر : إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوض .. لا والله لا يحاسبني الله على ذلك ..
ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه ..
خوفاً من قطرة وقطرتين ..
* * * * * * * * *
هذا حال المتقين .. الأوابين الخاشعين ..
أما المتهالكون في الشهوات ..
فهم في شقوة في حياتهم .. وحسرة عند مماتهم ..
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } ..
حدثني أحد الأطباء .. قال :
دخلت إلى غرفة العناية المركزة في المستشفى ، ولفت انتباهي شاب في الخامسة والعشرين من عمره مصاب بمرض ( الإيدز ) .. حالته خطرة جداً ..
كلمته برفق فأجاب بكلمات غير مفهومة .. اتصلت بأهله .. فحضرت أمه ..
سألتها عن حال ابنها ..؟
فقالت : كان حاله على ما يرام ، حتى تعرف على تلك الفتاة ..
قلت : هل كان يصلي ؟
قالت : لا .. لكنه كان ينوي أن يتوب ويحج في آخر عمره ( !! ) ..
اقتربتُ من الفتى المسكين .. فإذا هو يعالج سكرات الموت ..
اقتربت من أذنه وقلت : لا إله إلا الله .. قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يفيق وينظر إليّ .. المسكين يحاول بكلّ جوارحه .. الدموع تسيل من عينيه .. وجهه يتغير إلى السواد ..
وأنا أردد .. قل : لا إله إلا الله ..
بدأ(159/23)
يتكلم بصوت متقطع : آه .. آه .. ألم شديد .. آه .. أريد مسكناً للألم .. آه .. آه ..
بدأت أدافع عبراتي وأقول : قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يحرك شفتيه بصعوبة .. فرحت .. سينطقها الآن .. لكنه قال :
لا أستطيع .. لا أستطيع .. أريد صديقتي .. لا أستطيع ..
الأم تنظر وتبكي .. النبض يتناقص .. يتلاشى .. لم أتمالك نفسي .. أخذت أبكي بحرقة ..
أمسكت بيده .. عاودت المحاولة : أرجوك قل لا إله إلا الله ..
وهو يردد : .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. ثم بدأ يشهق .. ويشهق ..
توقّف النبض .. انقلب وجه الفتى أسوداً .. ثم مات .. انهارت الأم .. وارتمت على صدره .. تصرخ .. وتصرخ ..
وأنى ينفعه صراخها .. أو حزنها ونحيبها ..
نعم ..
قد مضى الفتى إلى ربه .. لم تنفعه شهواته .. ولا ملذاته .. طالما اغتر بشبابه .. وجمال سيارته وثيابه .. ثم هو اليوم تجالسه في قبره أعماله .. وتحيط به أفعاله .. ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ..
* * * * * * * * *
قارن حال هذا الشاب .. بذلك الشاب .. الذي بلغ من عمره ستة عشر عاماً .. كان في المسجد يتلو القرآن .. وينتظر إقامة صلاة الفجر ..
فلما أقيمت الصلاة .. رد المصحف إلى مكانه .. ثم نهض ليقف في الصف ..
فإذا به يقع على الأرض فجأة مغمى عليه ..
حمله بعض المصلين إلى المستشفى ..
فحدثني الدكتور الجبير الذي عاين حالته .. قال :
أُتي إلينا بهذا الشاب محمولاً كالجنازة .. فلما كشفت عليه فإذا هو مصاب بجلطة في القلب .. لو أصيب بها جمل لأردته ميتاً ..
نظرت إلى الشاب فإذا هو يصارع الموت .. ويودع أنفاس الحياة ..
سارعنا إلى نجدته .. وتنشيط قلبه ..
أوقفت عنده طبيب الإسعاف يراقب حالته .. وذهبت لإحضار بعض الأجهزة لمعالجته ..
فلما أقبلت إليه مسرعاً .. فإذا الشاب متعلق بيد طبيب الإسعاف ..
والطبيب قد الصق أذنه بفم الشاب .. والشاب يهمس في أذنه بكلمات.. فوقفت أنظر إليهما .. لحظات..
وفجأة أطلق الشاب يد الطبيب ..(159/24)
وحاول جاهداً أن يلتفت لجانبه الأيمن ..
ثم قال بلسان ثقيل : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وأخذ يكررها .. ونبضه يتلاشى .. وضربات القلب تختفي.. ونحن نحاول إنقاذه.. ولكن قضاء الله كان أقوى.. ومات الشاب..
عندها انفجر طبيب الإسعاف باكياً.. حتى لم يستطع الوقوف على قدميه..
فعجبنا وقلنا له : يا فلان .. ما لك تبكي.. ليست هذه أول مرة ترى فيها ميتاً.. لكن الطبيب استمر في بكائه ونحيبه..
فلما .. خف عنه البكاء سألناه : ماذا كان يقول لك الفتى ؟
فقال : لما رآك يا دكتور .. تذهب وتجيء .. وتأمر وتنهى.. علم أنك الطبيب المختص به .. فقال لي :
يا دكتور .. قل لصاحبك طبيب القلب.. لا يتعب نفسه.. لا يتعب.. أنا ميت لا محالة .. والله إني أرى مقعدي من الجنة الآن ..
الله أكبر ..
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } .. أسأل الله أن يختم لنا جميعاً بالصالحات ..
* * * * * * * * *
هذا هو الفرق بين المطيع والعاصي ..
والفرق الحقيقي يتبين .. { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } ..
* * * * * * * * *
أما الذين صبّروا أنفسهم عن الشهوات ..
ومنعوها من المحرمات .. فقد وَعَدَهم ربهم بجَنَّاتٍ تَجْرِي(159/25)
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..
* * * * * * * * *
تلك الجنة التي جعلها الله لعباده المؤمنين نزلاً ..
وأودعها ما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر ..
فواعجباً لها كيف نام طالبها ؟
وكيف قرت دونها أعين المشتاقين ؟
فيها الذي والله لا عين رأت*كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا* ل له تعالى الله ذو السلطان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخرى فضة نوعان مختلفان*
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان*
حصباؤها در وياقوت كذاك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
سكانها أهل القيام مع الصيا*م وطيب الكلمات والاحسان
وخيامها منصوبة برياضها*وشواطيء الأنهار ذي الجريان
أنهارها في غير أخدود جرت*سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمر ثم أنهار من الالبان
* * * * * * * * *
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم*ولحوم طير ناعم وسمان
لحم وخمر والنسا وفواكه*والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب يطوف عليهم*بأكف خدام من الولدان
لهم حياة ما بها موت وعافية بلا سقم ولا أحزان
* * * * * * * * *
وروى مسلم .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة .. فيصبغ في النار صبغة ..
ثم يقال : يا بن آدم .. هل رأيت خيراً قط ..؟؟ هل مر بك نعيم قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب ..
نعم .. هذا الرجل الذي ذاق من الدنيا أعظم نعمتها .. ومن الحياة غاية لذتها ..
أنساه كل نعيم الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في النار ..
فكيف به إذا تردى في دركاتها .. وصارع حياتها .. وتجرع من زقومها .. وغرق في حميمها ..
بل كيف به إذا استغاث فيها .. فقيل له : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } ..
بالله عليك .. هل يذكر في تلك الحال .. فاحشة ارتكبها ..؟ أو أغنية سمعها ..؟ أو خمر شربها ..؟ أو أموال جمعها ..؟
كلا .. بل(159/26)
يقال لهم : { اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ..
قال صلى الله عليه وسلم :
ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا .. من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة ..
فيقال له : يا بن آدم .. هل رأيت بؤساً قط ..؟؟ هل مر بك شدة قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب .. ما مرَّ بي بؤس قط .. ولا رأيت شدة قط ..
نعم .. أنساه كل بؤس الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في الجنة ..
فكيف به .. إذا شرب من أنهارها .. وتقلب في أحضان حورها ..
وسكن في قصورها .. وجالس أنبياءها ..
بل كيف به إذا نظر إليه ربه وهو فيها .. ثم قال لهم :
يا أهل الجنة .. هل رضيتم .. ثم ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله ..
هل يذكر شدة طاعة أداها .. أو حسرة شهوة تركها ..
كلا .. بل هو في نعيم دائم .. لا يفنى شبابه .. ولا تبلى ثيابه ..
قال الله : { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } ..
* * * * * * * * *
نعم .. ولدينا مزيد ..
روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ..
بالله ..
.. ما عذر امرئ هو مؤمن*حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتها بنفائس الأثمان*
جليت عليك عرائس والله لو*تجلى على صخر من الصوان
رقت حواشيه وعاد لوقته*ينهال مثل نقى من الكثبان
* * * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يرزقنا التوبة والإنابة في الأمور كلها ..
* * * * * * * * *
وقبل الختام .. هنا أربع مسائل مهمة تتعلق بالتوبة ..
المسألة الأولى :
أن المعاصي التي تجب التوبة منها تتفاوت ..
فأكبرها وأعظمها .. الشرك بالله ..
كمن يدعو غير الله في قضاء الحاجات .. ويستغيث بالأولياء في كشف الكربات .. أو يقف عند القبور سائلاً أهلها الحاجات ..
والله يقول : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ(159/27)
اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : تعليق التمائم الشركية .. في الأجساد أو على الأولاد .. أو في السيارات والبيوت .. لدفع العين أو غيرها ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد : ( من علَّق تميمة فقد أشرك ) ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : الحلف بغير الله تعالى :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام ..
وقد روى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : \"من حلف بغير الله فقد أشرك\" ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب ..
استعمال السحر والكهانة والعرافة ..
أما السحر فإنه من أكبر الكبائر .. وقد يصل إلى حد كفر ..
ولا يجوز الذهاب إلى السحرة ..
قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند : \"من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد\" صلى الله عليه وسلم..
وقال فيما رواه مسلم : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب بل من الكفر .. ترك الصلاة ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : \"بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة \" ..
وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه(159/28)
أحكام المرتدين ..
فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة ..
وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة ..
ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث ..
وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار ..
ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي ..
الزنا .. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك والقتل .. قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ..
وفي عصرنا فتحت كثير من أبواب الفاحشة .. ففشا التبرج والاختلاط ومجلات الخنا .. وأفلام الفحش ..
فنسألك اللهم رحمتك ولطفك .. وسترك وعصمة من عندك ..
طهر قلوبنا .. وتحصن فروجنا .. واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً .. وحجراً محجوراً ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي :
أكل أموال الناس .. أو أكل الربا .. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ..
وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء \" ..
وصح في مستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم \"..
وصح في مسند الإمام أحمد : ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية \" ..
فاتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : شرب المسكرات .. أو تعاطي المخدرات ..
قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : ( إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة(159/29)
الخبال \" قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : \" عرق أهل النار أو عصارة أهل النار \"..
وصح عند الطبراني .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن \" ..
وقد تنوعت المسكرات .. وتعددت أسماؤها .. فأطلقوا عليها البيرة والعرق والشمبانيا .. وغيرَ ذلك ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : سماع الغناء :
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري معلقاً :\" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... \"..
وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ .. وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف \" ..
ومما زاد البلاء في عصرنا دخولُ الموسيقى .. في أشياء كثيرة كالساعات .. والأجراس .. وألعاب الأطفال .. والكمبيوتر .. وأجهزة الهاتف .. والله المستعان .
وغير ذلك من المعاصي .. ويجب نصيحة أهلها .. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ..
* * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن بعض الناس إذا أراد أن يتوب من معصية سماع الحرام مثلاً .. قال له الشيطان .. لا يصح أن تتوب منها وأنت مقيم على معصية التدخين .. أو التساهل بالصلاة ..
فإما أم تتوب منها كلها .. أو لا تتعب نفسك ..
وهذا باطل .. فإن لكل ذنب توبة .. فيمكن أن تقبل التوبة من الزنا .. مع وجود معاص أخرى .. ولكن عليه أن يجتهد في التوبة من الذنوب كلها ..
واعلم أن الوقوع في الذنب مرة أخرى بعد التوبة منه .. لا يعني أن التوبة بطلت وأن العبد ييأس ويعود إلى المعاصي .. لا .. بل يسارع إلى توبة أخرى ..
وصح في السنن .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا(159/30)
أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) ..
* * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
شروط التوبة خمسة ..
أولها : الإقلاع عن الذنب فوراً ..
وثانيها : الندم على ما فات ..
وثالثها : العزم على عدم العودة ..
ورابعها : إرجاع حقوق من ظلمهم .. أو طلب البراءة منهم ..
أما الخامس فهو :
أن تكون التوبة في وقت المهلة .. فلا تقبل عند الموت .. ولا تأمن متى ينزل بك ..
ولا تقبل عند طلوع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
المسألة الأخيرة ..
من أهم عوامل الثبات على التوبة .. مفارقة مكان المنكر ..
بل ومفارقة الأصحاب الذين يذكرونك به .. أو يدعونك إليه ..
وفي الصحيحين :
قصة ذلك الرجل .. الذي تلطخ بالدماء .. وقتل الأبرياء .. حتى قتل تسعه وتسعين نفساً .. ثم بدا له أن يتوب .. فشك .. هل يقبل الله توبته .. وهو الذي يتم الأطفال .. ورمل النساء .. ومزق البيوت ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدل على رجل عابد راهب .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟
فرفع الراهب بصره إليه .. فإذا رجل قد ظلم العباد .. وأكثر الفساد .. حتى قسى قلبه .. وكبر ذنبه .. فقال الراهب : لا .. ليست له توبة ..
فغضب هذا الرجل .. وقتله .. فكمل به مائة ..
ومضى من بين يدي الراهب ..
ثم بدا له أن يتوب .. فسأل عن أعلم أهل الأرض ..
فدُلَّ على رجل عالم .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل مائة نفس .. فهل له من توبة ؟
فقال العالم : نعم .. نعم .. ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
ولكن .. انطلق إلى أرض كذا وكذا .. فإن بها أناساً يعبدون الله .. فاعبد الله معهم ..
ولا ترجع إلى أرضك .. فإنها أرض سوء ..
فانطلق الرجل التائب .. حتى إذا انتصف في الطريق .. نزلس به الموت .. فخر صريعاً ميتاً ..
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة .. وملائكة العذاب ..
فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً .. مقبلاً بقلبه إلى الله(159/31)
..
وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ..
فأتاهم ملك في صورة آدمي .. فجعلوه بينهم حكماً ..
فقال : قيسوا ما بين الأرضين .. فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ..
فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي .. وإلى هذه أن تقربي ..
فقاسوه .. فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ..
فقبضته ملائكة الرحمة ..
فانظر كيف قال له العالم : فارق بلدك .. واخرج من أرضك فإنها أرض سوء ..
وكذلك من كان يريد أن يتوب من الزنا .. لا بد أن يفارق أماكن الاختلاط .. ومن أراد أن يتوب من ترك الصلاة .. أو من سماع الغناء .. أو من أكل الربا .. أو يتوب من أنواع الشرك .. كل هؤلاء .. لا بد أن يفارقوا كل ما يعينهم على تلك المعاصي ..
أسأل الله بأسمائه الحسنى .. أن يقسم لنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين معصيته .. ومن طاعته ما يبلغنا به جنته .. وأن يغفر لنا ذنوبنا .. وإسرافنا في أمرنا .. وأن يغنينا بحلاله عن حرامه .. وبفضله عمن سواه .. وأن يتقبل توبتنا .. ويغسل حوبتنا .. إنه سميع مجيب .. وصلى وسلم على النبي الأمي محمد .. وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(159/32)
الإيمان والحياة
كتبه : الشيخ علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفا. اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته. اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته واهتدى بسيرته. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم أرنا الحق حقًا، والباطل باطلا. اللهم وفقنا لاتباع الحق، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ابتغاء وجهك، وطلب مرضاتك. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد .. أحبتي في الله؛ أشهد الله –الذي لا إله إلا هو- على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم(160/1)
أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله؛ وأنا أعلم بنفسي منكم ظن بي اخوتي ظنًا عظيمًا، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن وأجبتم، فخيرًا جُزبتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل <هَجَر>، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيرًا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرًا ليوم تتقلب منه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولا وأخرًا لله الواحد القهار.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني *** جمَّلت بالتوحيد نطق لساني
وهديتني سبل السلام تكرمًا **** ودفعتني للحمد والشكران
وغمرتني بالجود سيلا زاخرًا *** وأنا أقابل ذاك بالكفران
فلك المحامد والثناء جميعه *** والشكر من قلبي ومن وجدان
فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي *** لا يستطيع لشكره الثقلان
أنت الكريم وباب جودك لم يزل *** للبخيل تعطي سائر الأحيان
أنت الحليم بنا وحلمك واسع *** أنت الحليم على المسيء الجاني
أنت القوي وأنت قهار الورى *** لا تعجزنَّك قوة السلطان
أنت الذي آويتني وحبوتني *** وهديتني من حيرة الخذلان
ونشرت لي في العالمين محاسن *** وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي **** أبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي *** ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي *** وحلمت عن سقطي وعن طغياني
لبيك يا رب بكل جوارحي *** لبيك من روحي وملء جناني
اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي *** واقبل مقلَّ الجهد في التبيان
يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة *** تسري على البلدان والأكوانِ
أنت المضاعف للثواب فإن يكن *** مثقال خردلة على الميزان
تعطي المزيد من الثواب مضاعفًا *** من غير تحديد ولا(160/2)
حسبان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
أحبتي في الله؛ الإيمان والحياة، لسائل أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟
فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمرًا هامشيًا في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا، لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان. كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره. إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد. إنه لجنة أبدًا لصاحبه، والنار أبدًا لمن تنكبه، لذا كان لِزَامًا عليَّ وعلى كل مؤمن بالله، بل وعلى كل ذي عقل أن يفكر في حقيقة الإيمان، وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب، وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصًا ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى إن كثيرًا منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم، لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته. (ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميل تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟. الفرد –باختصار- بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة ،وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)
ومن هنا جاءت(160/3)
الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها. وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على إيمانها بالله- الذي لا إله إلا هو- فهنيئًا لكم الإيمان، وهنيئًا لكم القرآن، وهنيئًا لكم التوحيد، وهنيئًا لكم الإسلام، هنيئًا لكم يوم يغدو النصارى إياب إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النار، ويغدو المشركون إلى بيوت الأصنام، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيا أهل الإيمان؛ ما الإيمان؟ الإيمان، تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته. إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون. إنه من كل مسلم يتحسس قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له. الإيمان لينير به جوانب روحه. الإيمان ما الإيمان، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. الإيمان ما الإيمان، نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه. فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه(160/4)
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " متي نكون أهلا لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ.
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره.
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
الإيمان ما الإيمان ، شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأنس بالله، والطمأنينة بذكر الله (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الإيمان ما الإيمان، إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل، متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله. (وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه) –تبارك عز وجل- فسبحان من آمن له الكون أجمعه، وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه). موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك –أيها العبد- تسأل أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب، وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه، وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟ الله هو الغني، ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله -الذي لا إله إلا هو- (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ) في صحيح [مسلم] "إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى قيام الساعة". كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عمومًا، ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات،(160/5)
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث [أبي ذر] "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رؤوسكم التَّراب". أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع. أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون. خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم –سبحانه وبحمده- وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره (أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) هل جندت نفسك أخي في الله لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله؟ –أعني موكب المؤمنين-. إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يا من يحب الكنز، ويا من يحب الثروة؛ إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان، إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن الناس هل لهذا الكنز وهل لهذه الثروة من أثر على الحياة إن أثرها عظيم جد عظيم لمن كان له فلب فملأه(160/6)
بالإيمان إن من إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد لا بل على الأمة جميعا آثارا عظيما فهاك موجزها ولا بأس بعده من تفصيل .اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله يراقبه على الصغيرة والكبيرة (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات وخضع مستجيبا لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله لعلمه أن الملائكة معه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ترافقه وتراه ولا يراها تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه والذي جاء القرآن مهيمنا عليها ومطبقا بها والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيتخذهم أسوة وقدوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي.
بالشرق أو بالغرب لست بمقتض *** أنا قدوتي ما عشت شرع محمد
حاشى يثنيني سراب الخادع *** ومعي كتاب الله يستطع في يدي
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفا من نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها ولا ترجو ما سوى ربها لا تقنع إلا بالله ولا تلجأ(160/7)
إلا لله في الدنيا تزهد بالموت لا تبالي لا تخضع للطغيان بل تخضع للرحمن ولسان حالها
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص بعض الإفراد فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة فاسمعوا أيها الأحباب وافقهوا وبلغوا فرب مبلغ أوعى من سامع .
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، الثبات للمصاب عند مصيبته، الثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
هاهو –صلى الله عليه وسلم- يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ، فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ، ولا يصده صادٌ، ووقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش؛ لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلامًا حَدَثًا فيكم، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو –والله- بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو –والله- بساحر، قلتم: كاهن، ما هو –والله- بكاهن، يا معشر قريش؛ إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له، فاجتمع كبراؤها؛ صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوه في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه، قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلا منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل [أبي الوليد عتبة بن ربيعة]، فذهب عتبة إلي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان بليغًا، وكان فصيحًا، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد؛ أنت خير أم أبوك؟ فسكت –صلى الله(160/8)
عليه وسلم- قال: أنت خير أم جدُّك [عبد المطلب]؟ فسكت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كانوا خيرًا منك فقد عبدوا ما عبدوا، وإن كنت خيرًا منهم فقل، ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون. يا محمد إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا، يا محمد؛ ما رأينا شخصًا –قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض فنقتتل، يا محمد أخبرنا ما تريد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا [أبا الوليد]؟" ويا للأدب منه -صلى الله عليه وسلم-! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع -صلى الله عليه وسلم- يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: (حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) سمع كلامًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهًا مبهورًا بمَا يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت، أنشدك الله والرحم إلا صمت، خرج مذعورًا خائفًا راجعًا إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، لما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا(160/9)
الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية –يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)، فوضعت يديَّ على فمه خوفًا أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمدًا إذا حدث حديثًا لم يكذب. (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) جحدوا بذلك، هل استقاموا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- هل انتفعوا بالآيات؟ لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو، لا –والله- بل ناصبوه العداء، كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجذور على ظهره –صلى الله عليه وسلم- ثم لم يجد له مُعِينًا بعد الله إلا بنيته الصغيرة [فاطمة] –رضي الله عنها وأرضاها- ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من <مكة>، ودموعه على وجنتيه- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت". ومع ذلك فقد ثبت –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويأتي صحابته –رضوان الله عليهم- ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.
هاهو [خالد بن الوليد أبو سليمان] -رضوان الله عليه- يقارع الروم في أرضهم -كما روى [ابن كثير]- حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة <قنسرين>؛ مدينة محصنة من مدنهم بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم ، فماذا كان من [خالد]؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصارًا عامًا عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة قالها بثبات(160/10)
المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا قال: من خالد بن الوليد أبي سليمان إلي قائد الروم في بلدة <قنسرين> أما بعد فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده لو صعدتم إلي السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا كلمات الثقة بنصر الله -عز وجل- كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله. وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائسه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء. ما الذي ثبَّت خالدا إلا الإيمان؟ ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان؟ يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية. ليس هذا فحسب وليس صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب؛ فها هو [ابن تيميه] -عليه رحمة الله- ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن، وما استكان. لسان حاله :
فكيف تخاف من زيد وعمرو *** وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان الباب فيقول: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها جنة الإيمان واليقين .يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها *** ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصف مهجة تشتكي *** أذاها إلي غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضع وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ).(160/11)
لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله
الثبات للمريض في مرضه. يروي [ابن حجر] في الإصابة أن [عمران بن حصين]- رضى الله عنه- أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
[ أبي بن كعب] -رضي الله عنه- سيد القراء يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟ فيقول –صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث المتفق عليه "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه" فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتًا بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان. الثبات للمصاب في مصيبته لا يكون ذلك إلا للمؤمنين. يقول الحافظ [أبو نعيم]: لما توفي [ذر بن عمر الهمداني]، جاءه أبوه أو جاء أبوه، فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق، وما أريد غيرنا بما حصل لذر، ومالنا على الله من مأثم، ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي بارًا، وكنت لك راحمًا، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني –والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر –والله- لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت. يا ليت شعري ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه أخري باكيًا، اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت [لذر] إساءته فهب(160/12)
له إساءته فأنت أجود مني وأكرم ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك. ما الذي ثبت هذا الرجل إلا الإيمان؟ .
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات، علوا في الحياة وفي الممات. ومن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول [ابن أبي مليكة] كما في [البخاري]: أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل. المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق. يقول [أنس] كما في صحيح [البخاري]: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
من آثار الإيمان على الحياة زيادة الأمن في البلدان وعلي الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب. يقول المولى سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) سنَّة الله لا تتخلف، ووعد الله (لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
من أثار الإيمان نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة) لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد،(160/13)
بنيان واحد، أمة واحدة ، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة *** سمعت في المغرب تهليل المصلين.
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني *** على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكي مسلم في الهند أرَّقني *** وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجسي *** وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائية *** وأستريح إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ *** عددت ذلك الحمى من صُلْب أوطاني
شريعة الله لَمَّتْ شملنا *** وَبَنَتْ لنا معالم إحسان وإيمان
يقول -صلى الله عليه وسلم -كما روى [أبو داود] وحَسَّن محققُ جامع الأصول- "إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على قُرْبهم ومكانتهم من الله، قال صحابة رسول الله: تخبرنا من هم يا رسول الله؟ قال: هم أناس تحابوا بروح الله على غير أرحام فيما بينهم، ولا أموال يتعاطونها فيما بينهم، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
يقع يوم من الأيام بين [أبي ذر] -رضي الله عنه- [وبلال] -رضي الله عنه- خصومة، فيغضب [أبو ذر] وتفلت لسانه بكلمة يقول فيها لبلال: يا ابن السوداء فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام، ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشكو أبا ذر، ويستدعي النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر، فيقول -كما في الحديث المتفق علي صحته- يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بلال –رضي الله عنه- كما روي ويضع خده على التراب ويقول: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فتذرف عينا بلال(160/14)
-رضي الله عنه- الدموع، ويقول: يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد: إنك امرؤ فيك جاهلية.
ويأتي [سهيل بن عمرو]، ويأتي [أبو سفيان] -رضيَ الله عنه وأرضاه- إلي أين يأتون؟ يأتون إلي مجلس [عمر] –رضيَ الله عنه وأرضاه- الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقًا، فيستأذن أبو سفيان –وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد ألوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم –رضى الله عنه وأرضاه- بعد إسلامه. ويأتي سهيل بن عمرو–وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي [بلال] الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن له، ويأتي [صهيب]؛ صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي [سلمان] الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟ كان من أبي سفيان -رضى الله عنه- أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: والله ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي، فقال سهيل -وكان لبيبًا عاقلا- قال: والله ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة، ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلي الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن لا نحبس على أبواب الجنة، أو كما قال. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى *** وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمرو لا ترى *** جنسًا على جنس يفوق بمحددي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة *** ويدق تيجان العنيد الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه *** لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ
ورمي صهيب بكل مال للعداء *** ولغير ربح عقيدة لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها *** من ذرة أقوى وألف مهند
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها(160/15)
من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: (أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) هاهو –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من رواية [أنس]، وكما في رواية [ابن اسحق] عن [أبي سعيد الخدري]، عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ [سعد بن عبادة] إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويقول وينقل المقالة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما روى: ما أنت؟ يعني أين موقفك أنت، حدِّد موقفك، هل أنت منهم؟ فيقول: يا رسول الله ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون -ما يعرفون الخداع، وما يعرفون الالتواء، إنما صرحاء أتقياء أنقياء-. فقال -صلى الله عليه وسلم-: اجمعهم لي، فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار؛ ما حديث بلغني عنكم، ألم آتيكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون أنتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟(160/16)
فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا." لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر *** فقد أخذنا عنكم خير البشر
صلى الله عليه وسلم ، أرأيت كيف استلَّ -صلى الله عليه وسلم- ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لَمَ استلَّ ما في قلوبهم -رضوان الله عليهم جميعًا-. وهاهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح- بين أصحابه فيقول: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل تنفض لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به بعض صحابة رسول الله، وجلسوا معه أيامًا فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام، فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّشا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال-، إنه الإيمان. [الإمام الشافعي] -عليه رحمة الله- عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة [الإمام أحمد]، وهو أكبر منه سنًا، فقال ردًا على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته *** فلفضله فالفضل في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول : كمدًا من مات من غيره منهم له كفن إنه الإيمان وكفى. ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح-:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو(160/17)
مؤمن" إن المؤمن يا أيها الأحبة يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذ ائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده. ففي الأثر أن الله -سبحانه عز وجل- قال: "وعزتي وجلالي، ما من عبد آثر هواي على هواه - أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها - إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واستجرت له من وراء كل فاجر" الإيمان عصمة من الوقوع في المعاصي
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه [الربيع بن خُثَيْم]، يتمالى عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغًا من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خثيم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله؛ كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟ أم كيف بك إن شقيتي يوم تُرْمَين في الجحيم؟ فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة، وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع. ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل قلة شهوة؟ إنها الشهوة العظيمة وفي سن هو أوج الشهوة وعظمتها هو سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله –الذي لا إله إلا هو- .
فالإيمان –يا أيها الأحبة- كالجمرة متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات. هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب، طرق(160/18)
عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائمًا لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلانًا، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، ألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه، فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة أن ننتهك حرمة البيت الفلاني نريد أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة –كما يقول-، فما كان من هذا –وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج من نصف الليل، وكان نائمًا، خرج مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل، برجليهما يذهبان إلى الفاحشة، ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارسًا بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصى غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس؛ والذي كان نائمًا في نومته، فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل، يا لله ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضًا- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون ليبحثون عن الثاني، وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائمًا معهم في القرية الفولانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع. "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب(160/19)
الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ليس هذا فحسب، إليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ [سلمان العودة] في كتابه جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليبين لك أثر الإيمان في موت القلوب، أثر نقص الإيمان في موت القلوب، ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عامًا جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولودًا في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها، طلبوا منها بعد أيام من أيام الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مرًا مستمرًا حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء، فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟ وما الخطب؟ وما الحدث؟ وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم قالت: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ما أفظع الأمر! وما أفجعه! والله لو قيل إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفًا، ولم ينكروا منكرًا؟! لا تستبعد مثل هذا أخي المسلم؛ فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته. وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضًا، والسقوط شيئًا فشيئًا
ورحلة النيل تبدأ بخطوة واحدة *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
والإيمان هو الزمام والفيصل. ومن آثاره على الحياة سعادة البيوت والأسر، بيت يدخله الإيمان(160/20)
بيت سعيد لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛ استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم. سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالا؛ فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار. هذا بيت [الإمام أحمد] –عليه رحمة الله- يتربى على الإيمان، فاسمع إليه يوم يقول بعد أن توفيت زوجته [أم صالح] يقول: رافقتني أم صالح – يعني زوجته- ثلاثين عامًا، والله ما اختلفت معها في كلمة واحدة. إنه الإيمان يا أيها الأحبة، البيت المتربي على الإيمان ليس هذا فحسب، إن البيت المتربي على الإيمان يدرك الأطفال هذا الإيمان، فيدخل إلى قلوبهم السعادة ولو كانوا لم يحظوا من الدنيا بقليل ولا كثير. إن [الإمام أحمد] كان دخله في الشهر سبعة عشر درهمًا فيأتي أبناؤه ويقولون: يا أبتاه لا تكفينا، قال: أيام دون أيام، طعام دون طعام، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس حتى نلقى الله الواحد الأحد. حذاؤه تبقى في رجله ثمانية عشر عامًا –كما ذكر ابنه عبد اله]- كلما انخزمت خطفها، وأعادها إلى رجله؛ لأنه ركل زخارف الدنيا وهو يعلم أن مناديل [سعد بن معاذ] في الجنة خير من هذا.
البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل:
[عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله ورضوانه- في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال ويدخل الأطفال؛ أطفال الرعية فدخلوا في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة(160/21)
وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك ركل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان، يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة، طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير، والذي تربى على الإيمان: أبتاه ما الذي طأطأ بك رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة، فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله. ما الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً وأبناءً أو إخوانًا أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون.
(لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)
هاهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حققوا هذا الأثر، فظهر في تصرفاتهم، وظهر في كلماتهم ومقالاتهم. يقول [ابن عمر]: والله لو أنفقت أموالي كلها في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أنام، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة، وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي [وخبيب] -رضي الله عنه وأرضاه- يُقدَّم تضرب عنقه في ذات الله، فيقال له: أتحب أن محمدًا مكانك الآن، وأنك آمن في أهلك، فيقول -وقد والى الله-: والله ما أحب أن محمدًا يشاك بشوكة وأني آمن في أهلي.
وهكذا يفعل الإيمان. وإذا نقص منسوب الإيمان وإذا تدني منسوب الإيمان تدنى(160/22)
معه الشخص، تدنى إلى مرحلة البهيمية، فأصبح ولاء الإنسان تافهًا حقيرًا مهينًا. يذكر [ابن تيميه]- عليه رحمة الله- أن رجلا تعلق امرأة سوداء فأحبها حبًا جمًّا، فكان يقول يوم نقص منسوب الإيمان عنده:
عدو لمن عادت وسِلْم لأهلها *** ومن قرَّبت كان أحب وأقربَ
ليس هذا فحسب، بل قال مرة أخرى:
أحب لحبها السودان حتى *** أحب لحبها سود الكلاب.
صار الحب فيها، والبغض فيها، والولاء لها، والعداء لأعدائها، مع أن الأصل من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ولن ينال عبد طعم الإيمان وإن صلَّى وصام حتى يكون كذلك ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطأ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمنًا أعرابيًا مثل [ربعي بن عامر] حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام [رستم] في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به حتى إذا سأله رستم من أنتم وما الذي جاء بكم؟ حقق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان
أمَّة الصحراء يا شعب الخلود *** من سواكم حل أغلال الورى؟
أي داعي قبلكم في ذا الوجود *** صاح لا كسرى هنا لا قيصر؟
من سواكم في قديم أو حديث *** أطلع القرآن صبحًا للرشاد؟
هاتفًا في مسمع الكون العظيم *** ليس غير الله ربًا للعباد
فكِّروا في عصركم وانتبهوا *** طالما كنتم جَمَالا للعُصُر
وابعثوا الصحراء عزمًا وابعثوا *** مرة أخري بها روح عمر
هاهو أخر قد آمن بالله حقًا، فأكسبه ذلك الإيمان عزة،(160/23)
جعل يتكلم في [هشام بن عبد الملك] الخليفة كلامًا غليظًا جافيًا، فأمر هشام بإحضاره، فلما وقف بين يديه جعل يتكلم، فقال هشام له: وتتكلم أيضًا في مجلسي؟! فقال: يقول الله –جل وعلا-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) أفنجادل الله جدالا، ولا نكلمك يا هشام؟! فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشدًا، فقال ما شاء وانصرف راشدًا بعزة المؤمن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) إنها العزّة، أثر إيماني يظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحدًا، ليس هذا فحسب. هاكم مثلا آخر، ذلكم الشيخ [سعيد الحلبي] عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه مادًا رجله في مسجد من مساجد الشام، فدخل [إبراهيم] باشا ابن [محمد على] باشا والي مصر آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، بقي مادًّا رجله في حلقته يلقي قال الله، وقال رسوله- صلى الله عليه وسلم- فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا الشيخ، فقال في نفسه هذا: لأتينه من باب لطالما أوتي طلبة العلم من هذا الباب. فذهب وأضمر له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية –في وقت الشيخ قد لا يجد ليرة واحدة-، وقال لأحد جنوده: اذهب إلي الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا زال مادًّا رجله في حلقته يدرس قال الله، وقال رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ويكتسب العزة من خلال قال الله وقال رسوله، جاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية، فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده، إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه، أنا أقول ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة، لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا يكون(160/24)
المؤمنون. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) وإن نسيت أيها الأحبة فلا أنسى [سيدًا] -رحمه الله وتجاوز عني وعنه-، الذي اعتزَّ بإيمانه، فصدع بكلمة الحق بلا استحياء ولا خجل، فحكم عليه بالقتل، وطلبوا منه أن يقدم استرحامًا حتى يخفف عنه الحكم، ولكنه أبى -رحمه الله- وقال قولته الشهيرة: إن كنت حوكمت بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت حوكمت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية مرات في اليوم لترفض أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية. ماذا كان سيفعل سيد لولا الإيمان؟ يا للعزة! ويا للثبات!. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه. المؤمن –أيها الأحبة- لا يذهب منه ريال في شراء ما يغضب الله –جلا وعلا- لا يذهب منه ريال في شراء دخان، وما في حكم الدخان من الخبائث، لا يذهب منه ريال في شراء فيلم مفسد أو مجلة أو جريدة مفسدة؛ لأنه يعلم أنه مسؤول أمام الله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فيصون رزقه عن الربا وعن الغش وعن الحِيَل، وعن المكر والخداع، ويجند رزقه فيما يرضي الله –جل وعلا- فيرزقه الله ويبارك الله له. (وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ )
ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إلى الله -جل وعلا- والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله –جل وعلا- وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: (قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ(160/25)
الْمُؤْمِنُونَ) (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)
هاهو [خالد بن الوليد] المؤمن الحق بإذن الله يُقَدَّم له في يوم من الأيام سم، يُقَدَّم له سم من قِبَل طاغية من الطغاة، ويقول له هذا الكافر: إن كنتم صادقين في التوكل على الله -جل وعلا- واللجوء إليه، والثقة به، فاشرب هذه القارورة من السم، فما كان من خالد -رضي الله عنه- إلا أن أخذها وقال: بسم الله، توكلت على الله، ثقة بالله -سبحانه وتعالى- ثم شربه، فلم يصبه إلا العافية. (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون
ومن آثار الإيمان انشراح الصدر، وطمأنينة القلب (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ) المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره.
هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، والله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم. تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان فانشرحت صدورهم. والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف. والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه فحياته ضنك، وصدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى)
ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان(160/26)
نتيجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان. فالحياة كلها سفينة تنخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد. المجتمع كالسفينة يركب ظهرها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل، وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح، وذاك يحرف ويفتن، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح، يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه. ومن آثار الإيمان: حفظ الجوارح، وتذليلها لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله؛ حفظ القلب من الشهوات والشبهات. وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد. وحفظ السمع إلا من كتاب الله، وذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله. وحفظ البصر من إطلاقه فيما حرَّم الله؛ ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله. وحفظ البطن فلا يدخل له إلا ما أحله الله، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. ومن آثار الإيمان على الحياة آثاره على المجالس، حيث يجعلها رياضًا من رياض الجنة، ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى، ورب رحيم كريم يقول: انصرفوا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات، فيا لله ما أعظمها من مجالس! وما أعظم الأخوة! جالسيها -ومرتاديها جعلنا الله وإياكم من أهلها-
ومن أثاره على الحياة آثاره في تلك اللحظة الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصبية المريرة التي لا يثبت فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورؤوس(160/27)
الجبال؛ من شدة ما يلاقي من السكرات. اللحظة التي صورها من عناها بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم- يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات"، لحظة عاناها، وعاناها صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ووصفها أحدهم وهو [عمرو بن العاص] –رضي الله عنه وأرضاه- فقال وهو في اللحظات الأولى من لحظات السكرات، لا زال لسانه لم يعتقل، ولا زال جسمه لم يخدر: والله لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما. في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين، ومن" كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة "على ما كان. في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء، وآخر تعب، وآخر نَصَب، وآخر وصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)
هاهو [عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله- في سكرات الموت يقول: مرحبًا بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ليلقى الله -عز وجل- على ذلك.
وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغًا فيقولون له: قل: لا إله إلا الله، وهو من الصالحين، لا يزكى على الله، فكان يقول: (يَا لَيْتَ قَوْمِي(160/28)
يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ليلقى الله على تلك الحال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يشاء)
مؤذن لطالما رفع الآذان من على المنابر كل يوم خمس مرات، يختمها بلا إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة من حياته يغمى عليه إغماءة مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاءت وقت الصلاة قام وأذن حتى يقول: لا إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، ويقولها مرة من المرات، يفيق من إغمائه ويقول: يا بني، وابنه معه، أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر، الله أكبر حتى ختمها بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في تلك اللحظات، الذين لم تنضبط سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم، ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا بها حياتهم. فيا لها من سوء خاتمة. هاهو شاب في سكرات الموت، يقولون له: قل: لا إله إلا الله –ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخانًا، أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله علَّ أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخانًا، ليلقى الله على تلك الحال. نسأل الله حسن الخاتمة. وشاب أخر –كما ذكر الشيخ [سلمان]- يقول : كان صادًّا ونادًّا عن الله –جل وعلا- وحلَّت به سكرات الموت التي لابد أن تحل بي وبك، لا أدري أقريب أم بعيد؟ نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام، جاء جلاسه وقالوا: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكل كلمة ولا يقول لا إله إلا الله، ثم يقول في الأخيرة: أعطوني مصحفًا، ففرحوا(160/29)
واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله، فيختم بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده، وقال: أشهدكم أني قد كفرت برب هذا المصحف، ثم يلقى الله على ذلك. نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)
ومن أثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيدًا فريدًا لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهنًا بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسنًا تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئًا ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟، وأنت على هذه الحال –يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها. جعلنا الله وإياكم من سكانها. أحد الشباب يأتيني في يوم من الأيام، في يوم جمعة، ويأتي إليَّ ويقول: يا شيخ رأيت أخي الذي مات قبل فترة في المنام، وأحببت أن أذكِّرك بهذا لتذكِّر الناس بمثل هذه الرؤيا، قال: فقلت لأخي لما رأيته في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني فله الحمد والمنَّة أولا وأخرًا، وظاهرًا وباطنًا، قال: فبم توصينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، وألا تناموا ليلة من الليالي إلا وقد تعبت أقدامكم من الوقوف بين يدي الله، واحمرَّت أعينكم بكاءً من خشية الله؛ فو الله ما نفعنا هنا بعد رحمة الله إلا تلك الأعمال وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ(160/30)
أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله:" يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال يا ربي: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون". يومها يشيب الصغير وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان يوم تعرض السجلات سجلا سِجلا، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويومًا يومًا لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. يوم ينادى المؤمن على رؤوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وتظهر أثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) فإلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
فيا بائع هذا ببخس معجل *** كأنك لا تدري بلي سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة(160/31)
والدنيا معًا فالطريق الإيمان. عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عامًا أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز (ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى *** صريع الأماني عن قليل ستندم
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده *** سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى *** كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
فحيَّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيَّم
وحيَّ على روضاتها وخيامها *** وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيمانًا نجد حلاوته، وقلوبًا خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعينًا من خشيتك مدرارة. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء. اللهم انفعنا بما قلنا، اللهم انفعنا بما سمعنا، اللهم واجعله حجَّة لنا، اللَّهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا. اللهم أنت ملاذنا، اللهم أنت ملجؤنا، حسبنا فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت حسبنا ونعم الوكيل. اللهم كما جمعتني بأحبتي في هذه الروضة في هذه الليلة على ذكرك، فاجمعني بهم إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين.
هذي محاضرتي عليكم ألقيت *** فلعلها موقظة الوسنان
لم آتِ فيها من جديد مُحْدَثٍ *** غير اختيار اللفظ يا إخواني
فإذا أسأت فذاك من(160/32)
كسبي *** وإن أحسنت ذا فضل من المنان
أهدي صلاتي والسلام جميعه *** لأحب خلق الله بالأكوان
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
وأعتذر كذلك عن الإجابة على الأسئلة، ولعل في ما ذُكِر خير، وأسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بالقليل، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجمعنا بكم مرات ومرات ومرات، ثم يجمعنا في دار
قصورها ذهب والمسلك طينتها *** والزعفران حشيش نابت فيها(160/33)
عندما ينتحر العفاف
كتبه : الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على دربه وأتبع شريعته ودعا إلى ملته وسلم تسليما كثيرا
أما بعد:
أيها الأحبة/ عندما ينتحر العفاف !!
العفة والطهر والشرف والفضيلة سمات بارزة ومعاني ظاهرة وأصول متجذرة في نفسية المؤمن والمؤمنة، عمل على تأصيلها وتأسيسها وتثبيتها هذا الدين حتى كانت مظهرا حضاريا وسمة من سمات هذا الدين.
الله سبحانه وتعالى حمى الأعراض وحرم الفواحش وشرع أقسى العقوبات لمن يعتدي على حرمات الله ولا يكتفي بالحلال، فأمر أولا بغض الأبصار وقال في كتابه الكريم:
( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم ).
هذا كلام الله أيها الاخوة.
وكما أن الأمر موجه للرجال بغض الأبصار، أيضا موجه للمرأة بغض بصرها:
( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن ).
وغض البصر من أعظم العوامل الوقائية للحيلولة دون وقوع الفاحشة.
وأمر أيضا بعامل وقائي آخر وهو حجاب المرأة، لماذا ؟
لأنه قد يكون بالناس من لا يغض بصره، فإذا أطلق بصره هذا الفاجر لم يرى شيئا، يرى امرأة محجبة مستورة، ولذا كان الحجاب دينا تعبد المرأة ربها به، لأن أية الحجاب بالقرآن كآية الصلاة والصوم والحج.
فإذا لبست المرأة حجابها فكأنما وقفت في محرابها، ولذا فهي في عبادة منذ أن تلبس الحجاب حتى تخلعه وهي كأنها تصلي وتصوم.
الحجاب ليس عادة وليس موروث ولا تقليد.
الحجاب عقيدة،
الحجاب دين تعبد المرأة به ربها سبحانه وتعالى.
وهو حفظ لها وليس لتشكيك فيها أو لنزع الثقة منها.
فلو أن أحدا يعفى من الحجاب بوجود الثقة فيه لأعفي نساء النبي صلى الله عليه وسلم، أطهر خلق الله.
يقول الله في أمر الحجاب:(161/1)
( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما).
أيضا أمر المرأة بالقرار بالبيوت، لأنها إذا خرجت أصبحت عرضة للنظر، الرجل هو الذي يخرج، لأن الله وزع المسؤوليات على الناس، فجعل مسؤولية الرجل خارج البيوت مسؤولية المرأة داخل البيت كنوع من التنظيم الرباني.
وقال للنساء:
(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى).
خلاص، هذه شغلتك، أكبر وظيفة للمرأة أنها تقر في بيتها.
وحرم أيضا الخلوة بالرجل الأجنبي، وأخبر:
(أنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
حين يعيش الناس أيها الأخوة على هذه التعاليم الربانية يحيون حياة كريمة، وحياة فاضلة، أعراضهم مصونة، ونفوسهم مطمئنة، وقلوبهم مرتاحة، وهاماتهم ورؤوسهم مرتفعة.
أما حين يتجاهلون هذه التعاليم ويضيعون أمر الله فلا يغضون أبصارهم ولا يحجبون نسائهم، ويتركون للمرأة الحبل على الغارب، ولا يتابعونها ولا يراقبونها بتصرفاتها، هنالك يعرضون أنفسهم للهوان ويعرضون عارهم للسقوط والخسران، ثم يعرضون أنفسهم للعذاب والدمار في دار النكاد والبوار إن ماتوا على ذلك والعياذ بالله.
وإنه وللأسف الشديد أيها الأخوة فإن كثيرا من الناس لم يتقيد بهذه الأوامر ولم يأخذ بهذه الأسباب ولم يراعي هذه الاحتياطات فكان نتيجة ذلك حلول المصائب ووقوع المشاكل التي سوف نذكر منها طرفا في هذا المجلس على شكل أحداثا واقعة وقصص من عالم الواقع وقعة لكثير من الناس.
ونحن نسوقها للعبرة والعضة وأسلوب القصص أسلوب تربوي جاء في القرآن الكريم وجاءت به السنة المطهرة، والله يقول في القرآن:
(لقد كان في قصصهم عبرة).
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك).
وما تضمنته الأحاديث من القصص هو نوع من التربية من أجل أن يتخذ الإنسان الحيطة ويأخذ عبرة مما حدث ولا يكون هو للناس عبرة.(161/2)
وهذه القصص التي سوف نقرأها في هذه المحاضرة من عالم الواقع، وهي أحداث مؤلمة وقعت لأفراد من الأمة تساهلوا وفرطوا حتى وقعوا وندموا ولكن حين لا ينفع الندم.
ونحن نأخذ منها عظة حتى لا نقع في ما وقعوا فيه، وحتى لا نندم ولكن بعد فوات الأوان.
القصة الأولى:
يقول أحدهم كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه، وكان يروقني منظره، ويؤنسني محضره، قضيت في صحبته عهدا طويلا، ما أنكر من أمره ولا ينكر من أمري شيئا حتى سافرت وتراسلنا حينا ثم انقطعت بيننا العلاقات.
ورجعت وجعلت أكبر همي أن أراه لما بيني وبينه من صلة، وطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها أجدله أثرا، وذهبت إلى منزله فحدثني جيرانه أنه نقل منذ عهد بعيد.
ووقفت بين اليأس والرجاء بغالب ظني أني لن أراه بعد ذلك اليوم، وأني قد فقدت ذلك الرجل.
وبينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من الليالي دفعني جهلي بالطريق في الظلام إلى سلوك طريق موحش مهجور يخيل للناظر فيه أنه مسكن للجان إذ لا وجود للإنس فيه.
فشعرت كأني أخوض في بحر، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر، فما توسطت الشارع حتى سمعت في منزل من تلك المنازل أنة تتردد في جوف الليل، ثم تلتها أختها.
فأثر في نفس هذا الأنين وقلت في نفسي يا للعجب كم يكتم هذا الليل من أسرار؟
وكنت قد عاهدت الله أن لا أرى حزينا إلا وساعدته، فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل، وطرقت الباب طرقا خفيفا، ثم طرقته طرقا أكثر قوة، وإذا بالباب يفتح من قبل فتاة صغيرة.
فتأملتها وإذا في يدها مصباح، وعليها ثياب ممزقة، وقلت لها هل عندكم مريض ؟
فزفرت زفرة كادت تقطع نياط قلبها، قالت نعم، افزع فإن أبي يحتضر.
والدها، ثم مشت أمامي وتبعتها حتى وصلت إلى غرفت ذات باب قصير، ودخلتها فخيل إلى أني أدخل إلى قبر وليس إلى غرفة، وإلى ميت وليس إلى مريض.(161/3)
ودنوت منه حتى صرت بجانبه، فإذا قفص من العظام يتردد في نفس من الهواء، ووضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي، ثم فتح شفتيه وقال بصوت خافض:
أحمد الله لقد وجدتك يا صديقي.
فشعرت كأن قلبي يتمزق وعلمت أنني قد عثرت على ضالتي التي كنت أنشدها وإذا به رفيقي الذي كنت أعرفه، لكنني لم أعرفه من مرضه وشدة هزاله.
وقلت له قص علي قصتك، أخبرني ما خبرك.
فقال لي أسمع مني:
ثم ساق القصة فقال منذ سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتا، ويسكن بجوارنا رجل من أهل الثراء، وكان قصره يضم بين جنباته فتاة جميلة ألم بنفسي من الوجد والشوق إليها ما لم أستطع معه صبرا.
وما زلت أتابعها وأعالج أمرها حتى أوقعتها في شباكي، وأتى في قلبها ما أتى إلى قلبي، وعثرت عليها في لحظة من الغفلة عن الله بعد أن وعدتها بالزواج فاستجابت لي واسلست قيادها وسلبتها شرفها في يوم من الأيام.
وما هي إلا أيام حتى عرفت أن في بطنها جنينا يضطرب، فأسقط في يدي، وطفقت أبتعد عنها، وأقطع حبل ودها، وهجرت ذلك المنزل الذي كنت أزورها فيه، ولم يعد يهمني من أمرها شيء.
ومرت على الحادثة أعوام، وفي ذات يوم حمل إلي البريد رسالة مددتها وقرأت ما بداخلها وإذا بها تكتب إلي (هذه البنت) تقول:
لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهدا دارسا أو حبا قديما ما كتبت والله سطرا ولا خططت حرفا، لأنني أعتقد أن رجلا مثلك رجل غادر وود مثلك ودا كاذبا يستحق أن لا أحفل به وآسف على أن أطلب تجديده.
إنك عرفت كيف تتركني وبين جنبي نارا تضطرب وجنينا يضطرب.
تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف على المستقبل، فلم تبالي بي وفررت مني حتى لا تحمل نفسك مؤنة النظر إلى شقاء وعذاب أنت سببه، ولا تكلف يدك مسح دموعا أنت الذي أرسلتها.(161/4)
فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف ؟ لا والله بل لا أستطيع أن أتصور مجرد أنك إنسان، إنك ذئب بشري لأنك ما تركت خلة من الخلال في نفوس العجماوات وأوابد الوحوش إلا وجمعتها في نفسك.
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعهدك.
ونظرت في قلبك فقلت كيف تتزوج من امرأة مجرمة ؟ وما هذه الجريمة إلا صنعت يدك وجريرة نفسك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دافعتك جهدي حتى عييت في أمرك وسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير.
سرقت عفتي فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب، أستثقل الحياة وأستبطئ الأجل وأي لذة لعيش امرأة لا تستطيع أن تكون في مستقبل أيامها زوجة لرجل ولا أما لولد، بل لا أستطيع أن أعيش في مجمع من هذه المجتمعات إلا وأنا خافضة الرأس مسبلة الجفن، واضعة الخد على الكف ترتعد أوصالي وتذوب أحشائي خوفا من عبث العابثين وتهكم المتهكمين.
سلبتني راحتي وقضيت على حياتي، قتلتني وقتلت شرفي وعرضي بل قتلت أمي وأبي فقد مات أبي وأمي وما أظن موتهما إلا حزنا علي لفقدي.
لقد قتلتني لأن ذلك العيش المر الذي شربته من كأسك بلغ من جسمي ونفسي وأصبحت في فراش الموت كالذبابة تحترق وتتلاشى نفسا بعد نفس.
هربت من بيت والدي إذ لم يعد لي قدرة على مواجهة بيتي وأمي وأبي وذهبت إلى منزل مهجور وعشت فيه عيش الهوان، وتبت إلى الله وإني لأرجو أن يكون الله قد قبل توبتي واستجاب دعائي وينقلني من دار الموت والشقاء إلى دار الحياة والهناء.
وهاأنا أموت وأنت كاذب خادع ولص قاتل ولا أظن أن الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك.(161/5)
ما كتبت والله لأجدد بك عهدا أو أخطب لك ودا، فأنت أهون علي من ذلك، إنني قد أصبحت على باب القبر وفي موقف أودع فيه الحياة سعادتها وشقائها فلا أمل لي في ودها، ولا متسع لي في عهدها، وإنما كتبت لك لأني عندي وديعة لك هي أبنتك فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبلها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء مثل ما أدرك من أمها من قبل.
طبعا هي ماتت وتركت البنت في هذا المكان المهجور وليس لها عائل.
يقول هذا الرجل:
ما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت فرأيت مدامعه تنحدر من جفنيه ثم قال:
إنني والله ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أوصالي وخيل إلي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي فأسرعت إلى منزلها الذي تراني فيه الآن (هذا البيت الخرب).
ورأيتها في هذه الغرفة وهي تنام على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها، ورأيت هذه الطفلة التي تراها وهي في العاشرة من عمرها تبكي حزنا على أمها.
وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية هذا ينشب أظفاره وذاك يحدد أنيابه، فما أفقت حتى عاهدت الله أن لا أبرح هذه الغرفة التي سميتها غرفت الأحزان حتى أعيش عيشة تلك الفتاة وأموت كما ماتت.
وهاأنا ذا أموت راضيا اليوم مسرورا وقد تبت إلى الله وثقتي بربي أن الله عز وجل لا يخلف ما وعدني، ولعل ما قاسيت من العذاب والعناء وكابدت من الألم والشقاء كفارة لخطيئتي.
يقول: يا أقوياء القلوب من الرجال رفقا بضعاف النفوس من النساء.
إنكم لا تعلمون حين تخدعوهن في شرفهن أي قلب تفجعون، وأي دم تسفكون، وأي ضحية تفترسون وما النتائج المرة التي تترتب على فعلكم الشنيع.
ويا معشر النساء والبنات تنبهوا وانتبهوا ولا تنخدعوا بالشعارات الكاذبة والعبارات المعسولة التي تلوكها الذئاب البشرية المفترسة، وتذكروا عذاب ربكم وقيمة أعراضكم، وأعراض آبائكم وإخوانكم وأسرتكم وقبيلتكم.(161/6)
تذكروا الفضيحة في الدنيا، والعار والدمار والهوان في الآخرة.
هذه القصة من واقع الحياة ولكم أن تتصورون نتائجها المرة أيها الأخوة على هذه الفتاة وعلى أسرتها من أم وأب حينما فقدوا ابنتهم ولم يعرفوا أين ذهبت.
وعلى هذا الفتى حين فقد حياته وكان بالإمكان أن يسعد لو أنه سار في الطريق المشروع وخطب هذه الفتاة من أهلها وتزوج بها أو بغيرها وعاش حياة أسرية كاملة يعبد فيها ربه، ويريح فيها قلبه، ويسعد فيها بدنياه وأخرته.
القصة الثانية:
أشرقت شمس ذلك اليوم لتعلن عن ميلاد يوم جديد حمل مع شعاع شمسه نهاية مأساوية وقصة دموية تمادى أبطالها بالتمثيل حتى أسدل عليهم الستار وخلفه آلاف وآلاف من الآلام.
في صباح ذلك اليوم وصل بلاغ إلى قسم الحوادث في المرور عن وجود حادث مروري أدى إلى وفاة رجل وزوجته، وعلى الفور انتقل الضابط ومعه الجنود إلى مكان الحادث وعندما وصلوا إلى الموقع وجدوا الحادث في سفح أحد الجسور المرتفع عن مستوى الأرض ويصعب النزول إليه.
ولكن الضابط والفرقة تمكنوا من الوصول ولكن هالهم المفاجأة ، وجدوا امرأة في العشرين من عمرها وقد فارقت الحياة وهي على صورة شبه عارية.
تردي بنطالا ضيقا إلى نصف ساقها يسمونه (استرتش) يعني من هذه الملابس الضيقة التي تتمدد وتصف الجسد، وتلبس قميصا ضيقا يغطي نصف بطنها.
أما وجهها فقد اختلط جمالها مع الأصباغ التي وضعتها على وجهها، أختلط مع تراب سفح ذلك الجسر، وقد أخذت وضع القرفصاء وهي جامعة يديها إلى نحرها مبرزة أظافرها الحمراء وكأنها تصارع ملك الموت، فاغرة فاها.
وكانت الفاجعة أعظم عندما انبعث من ذلك الثغر رائحة الخمر، يا للهول! امرأة في العشرين تسكر؟ أجل والله.
وقد اختلط شعرها الطويل وقصتها الغريبة اختلط بدمها.
غطاها رجال الأمن وذهبوا إلى الرجل الذي كانوا يظنون أنه زوجها.
وإذا بالمصيبة أدهى وأمر!(161/7)
رجل في الخمسين من عمره قد خط الشيب في عارضه وقد فارق الحياة أيضا ورائحة المسكر تفوح من فمه، ووجه مشوه من هول الصدمة.
عاد رجال الأمن إلى سيارته وإذا بقارورة الخمر وبعض الأطعمة التي تعد للجلسات الحمراء، وإذا بجهاز التسجيل وهو يعطي شريطا غنائيا لأغنية ماجنة.
وإذ الحقيقة المرة الماثلة وهي أن الرجل أجنبيا عن هذه المرأة، ولا تمت له بصلة.
وبالرجوع إلى خلفيات القصة، اتضح أن هذا الذئب الذي بلغ من العمر عتيا قد أصطاد فريسته التي ظن الكثير من شبابنا وشيبنا أنها غنيمة.
لقد أخذ فريسته وذهب بها وفي إحدى الاستراحات ودارت رحى السهرة الحمراء، رقص وغناء وسكر وعربدة وما خفي كان أعظم، فما ظنكم باثنين الشيطان ثالثهما والخمر رابعهما والموسيقى والرقص خامسهما.
استمرا على ذلك جزء من الليل، وفي ساعة متأخرة قضى كل نهمه وعاد الذئب بفريسته ليوصلها إلى منزلها ولكنه أخطئ الطريق متأثرا بالسكر فسلك طريق آخر.
وفي الطريق ولأنه فاقدا لوعيه انحرفت سيارته بكل سرعتها لتصطدم بالسياج الحديدي من الجسر ويخترق السيارة من مقدمتها إلى مؤخرتها وتسقط في سفح ذلك الجبل ليلقى الله وهو سكران، ولتلقى الله وهي سكرانة في خلوة فاضحة وفي فضيحة مشينة ومن مات على شيء بعث عليه.
فنعوذ بالله من سوء الخاتمة.
إنه العار والشنار في الدنيا والآخرة، فبدل أن يترحم الأهل عليهما دعوا عليهما بالنار والعذاب جزاء ما قدموه، والرجل كانت الصدمة شديدة على أولاده الذين هم في سن الرجولة وكانوا يقولون فضحه الله كما فضحنا.
أولاده يقولون ( الله يفضحه كما فضحنا ).
أما المرأة فسارع أبوها إلى نفي التهمة عنها حينما قيل له راجع المستشفى قال:
ابنتي صالحة، ابنتي مصحفه في جيبها وسجدتها في شنطتها وأخذ يكيل لها من المديح الذي أضر بها.(161/8)
إنها الثقة المفرطة التي توضع أحيانا في غير محلها، والتي يوليها بعض الأباء لبناتهم، ولكنه اصطدم بالحقيقة المرة، فلا تسأل عن حاله بعد ذلك.
من البنات من تمكر وتخدع والدها وتكيد لأسرتها وتوهمهم أنها تذهب إلى المسجد وهي تذهب إلى البار، ومنهم من توهمهم أنها تذهب إلى الحرم وهي تذهب إلى الحرام.
ومنهم من تحمل حقيبتها المصحف وشريط المحاضرة وسجادة الصلاة لمخادعتهم فينخدعون ويثقون وهنا تحصل الكارثة.
ولكم أن تتصوروا أيها الأخوة أبناء لطخ والدهم عرضهم، وشوه سمعتهم وقضى على مستقبلهم، وأيضا تصوروا رجلا فقد ابنته في زهرة الشباب ومقتبل العمر في هذه النهاية البائسة التي أنتحر فيها العفاف.
من منا يحب أيها الأخوة أن تكون هذه نهايته؟
ومن منا يحب أن تكون هذه نهاية ابنته أو أخته؟
أجا لماذا التمادي ؟ أغرنا ستر الله علينا !
إن كل من سار على الدرب وصل، وإن لم يتبادر الإنسان نفسه ويتوب إلى اله من الخطأ وإلا فإن الله له بالمرصاد.
أما سمعتم قول الله عز وجل:
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
أما سمعتم قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
هذه قصة انتحر فيها العفاف،
ليست من نسج الخيال ولكنها من أرض الواقع ولعل في سوقها عضة وعبرة.
القصة الثالثة:
على فرس الرهان، قصر جميل هو حلم كثير من اللاهثين خلف بريق الدنيا.
يرن الهاتف قبل صلاة الفجر.
وتقوم الأم وهي مثقلة الخطى وترفع السماعة، مستغربة هذا المتصل في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
وإذا بالمتصل ضابط المرور يقول أبلغي والد ابنتك بمراجعتنا.
قالت من ؟ ابنتي فال الله ولا فالك، أنت أخطأت في الرقم، ابنتي نائمة في غرفتها، أخطأت في الرقم، وأقفلت السماعة في وجه رجل المرور.
وبع لحظة يعيد الاتصال وإذا به نفس الرجل وهنا يؤكد عليها ويقول:
أليس هذا البيت بيت فلان ؟، قالت نعم.(161/9)
قال أنا لم أخطئ، ابنتك عندنا في المستشفى فأبلغي والدها لمراجعتنا.
قالت العجوز:
يا بني إن ابنتي نائمة في غرفتها منذ البارحة.
أكد لها بإبلاغ والدها.
أقفلت السماعة وصعدت لغرفت ابنتها، وطرقت الباب بشدة وهي تنادي يا فلانه، وتصرخ وتضرب الباب بقدمها، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أيقظت والدها، طرقا الباب سويا ولكن بدون جدوى.
بحثا عن مفتاح احتياطي ووجداه بعد عناء، وفتحا الباب وإذا ليس بالغرفة أحد.
عندها سقطت الأم وخارت قواها ولم تحملها قدماها.
والأب يقول ما الخبر؟
قالت الأم لقد اتصل بنا…، وأخبرته الخبر.
ويسرع الأب إلى القسم وينزل من سيارته ويركض إلى الضابط المناوب ما الخبر؟
قال اهدأ قليلا.
قال قلت لك ما الخبر ؟ أخبرني.
قال إن لله ما أخذ وله ما أعط وكل شيء عنده بقدر.
قال الأب إن لله وإن إليه راجعون، كيف خرجت بنتي ؟ كيف ماتت ؟ أين ماتت، أخبرني ؟
قال له إنها قصة مأساوية اجتمع فيها نفر من الشباب في فلة والد أحدهم، وأخذ كل فارس (عفوا بل كل خائب نذل قذر)، أخذ كل واحد يحكي بطولاته مع الساذجات والمغفلات فهل تعي الجاهلات أن سرها ربما تصبح قصة تروى وحكاية تحكى وحديثا يقطع به الركبان سيرهم، ويستأنس به السمار في سمرهم.
جلس هؤلاء الأوغاد وعندها قال أحدهم:
أتحدى من يحضر لنا صديقته في هذا المجلس وأعطيه عشرة آلاف ريال.
فسارع أحدهم إلى الهاتف وأتصل بصديقته وأخبرها الخبر ولبت ندائه على الفور ليكون حبيبها فارس الرهان، وليفوز بالجائزة، فقد هامت به ولا تستطيع له رد أي طلب.
إنه فارس أحلامها الذي سوف يتزوج بها ورسمته في خيالها، وتصورت أنه سوف يأتيها على فرس أبيض ليرحل بها من عالم الواقع إلى دنيا السعادة.
أحلام وردية ينخدع بها كثير من الفتيات، وما علمت المسكينة أن المغازل ذئب يغري الفتاة بحيلة.
ولبست ملابسها وخرجت من غرفتها والتقت مع صديقها وكان الخروج الأخير الذي لم تعد من بعده ، وتسللت من باب البيت.(161/10)
وما هي إلا دقائق حتى جاء فارسها وأقبل عليها بسيارته الفخمة وانطلق بها كالرصاصة ليكون أول من يحضر صديقته، لأن فيه أناس قالوا نحن نحضر.
زملائه قالوا الذي يحضر الأول له عشرة آلاف، فكل واحد ذهب ليحضر صديقته طمعا في كسب الرهان.
وفي منتصف الطريق، ونظرا لسرعته العالية انحرفت السيارة لتصطدم بأحد الأعمدة الكهربائية وما هي إلا لحظات حتى سكن كل شيء إلا المسجل الذي كان يصدح بالأغاني، والفتاة التي امتلئ قلبها حنانا بالشاب المغامر ماتت ومات هو بجوارها.
وكانت النهاية المؤلمة والنهاية المحزنة.
أغمض عينيك يا أخي وعد إلى الوراء قليلا.
وأغمضي عينيك أيتها الفتاة.
وضع نفسك أيها الشاب، وضعي نفسك أيتها الفتاة في مثل هذه المأساة.
وانظري إلى الخاتمة السيئة، وإلى هول المفاجأة.
المفاجأة على الأب الذي كان يظن أن ابنته في فراشها وحينما جاء يوقظها لصلاة الفجر لم يجد في الغرفة أحد، فذهب إلى الشرطة يسأل ويبلغ عن أبنته.
وما إن دخل حتى قيل له هناك حوادث مرورية بالإمكان أن تتعرف على ابنتك.
وحينما دخل المستشفى وجد ابنته تحتل آخر موقع من ثلاجة المستشفى، ووجد بجوارها صاحبها وعشيقها وهو الذي ادخل قبلها في الثلاجة وهي بجواره.
وقال هذه ابنتي وتنكشف الفضيحة بعد ذلك.
فإن لله وإن إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من الناس، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلا.
انظر أخي، وانظري أختي إلى من نجى كيف نجى ؟
فأسلك وأسلكِ سبيله.
وتفكر في من هلك كيف هلك؟
وتجنب طريقه.
جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وحينها انتحر العفاف.
القصة الرابعة:
قالها الرجل وهو يتجرع ألم فاجعته، وقد ثار كالبركان تكاد الأرض تتزلزل من تحت قدميه، إن كل لغات الدنيا لا تستطيع أن تصف مصيبته.
قد تعجز الكلمات عن مدلولها…….وتموت في بحر الحروف معاني
قالها بصوت يسمعه الجميع:
ليس للمرأة إلا بيتها.(161/11)
وأخذ يكررها ولكن حين لات مندم وبعد فوات الأوان.
رمى بعمامته، ورجم بعقاله، وأخذ يركض ويقف، هل تعلم أخي ما القصة ؟
وما مصيبة الرجل؟
إذا اسمع حين ينتحر العفاف.
أعطني لحظة من وقتك أخي، لقد دقت الساعة السادسة صباحا في ذلك المنزل المكون من أم وأب وأولاد وبنات في عمر الزهور وفي مراحل دراسية مختلفة.
وقام الجميع واستعدوا للذهاب إلى المدارس عبر الروتين اليومي.
وأنطلق الرجل بسيارته، لم ينطلق من المسجد إلى البيت وإنما قام من الفراش إلى السيارة دون أن يمر على المسجد فهو ليس من أهل صلاة الفجر، ولم تنطلق الفتاة إلا من جوار قنوات الفضاء.
أنطلق الرجل بسيارته مسرعا في شوارع المدينة المكتظة، في مثل هذه اللحظات ساعة ذروة الحركة المرورية.
الوظيفة ، المدرسة، الجامعة الدنيا يتسارع إليها الناس وضجيج وانتظار عند إشارات المرور، سبحان الله!!!
قبل ساعة ونصف من هذا الوقت منادي الله ينادي حي على الصلاة فلا يجيب أحد.
ويرتفع المؤذن من على المئاذن الله أكبر فلا يستيقظ أحد.
وحينما تدق ساعة الوظيفة والدراسة يستيقظ الناس ويتزاحم الناس.
(بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى).
صراع وكبد من أجل ماذا ؟
أخذ هذا الرجل أبناءه، وهو ينظر إلى أكبر بناته طالبة في الجامعة على وشك التخرج.
وأخذ ينسج في نفسه قصصا من الخيال، يتصور هذه البنت وهي تتخرج من الجامعة، ويتصورها وهي موظفة تدر عليه لمال.
وهذا حال كثير من الأباء الذين جعلوا من بناتهم بقرة حلوبا تدر عليهم الأموال.
ثم تصورها وهي زوجة مع زوجها وأبنائها.
إنها الأحلام والمنى التي يحلم بها كل رب أسرة.
أنزل ابنته البالغة من العمر عشرين عاما، أنزلها بجوار بوابة الجامعة، وودعها ولم يدري أنه الوداع الأخير، ونزلت الفتاة وهي تحمل على عاتقها حقيبتها الجامعية.
أما ما تحمله في قلبها فهو الضياع والفضيحة والخيانة والفاحشة.
نزلت على موعد مع حبيبها، أي جامعة هذه التي تذهب إليها ؟(161/12)
وأي علم هذا الذي تريد تحصيله ؟
إن أيام الشباب محدودة وعما قريب تنقضي، ولذا بادرت هذه الجاهلة وهذه الحمقى لاستثمارها ولكن في الفضيحة والعار، ووقعة في أوحال الرذيلة والانحطاط.
لماذا كل هذه القيود؟
ولماذا لا نعيش في سعادة ؟
كلمات ترددت في صدر هذه المخدوعة ومن على شاكلتها من الفتيات.
وما إن تأكدت من ذهاب والدها ومغادرته للمكان، وما إن غابت سيارته عن عينها حتى عادت أدراجها وأسرعت إلى حيث الذئب البشري هناك في انتظارها، وقد عطر سيارته بالعطور الزاكية وشغل الموسيقى الصاخبة وركب معها، بل بعد أن فتح الباب لها.
وقالت له صباح الخير، فقال لها صباح الورد والفل وليسمين.
وسارت السيارة وهي تلقي على جامعتها نظرة الوداع، والوداع الأخير.
والذئب البشري يمطرها، ويرشها بألفاظ الإعجاب والهوى والحب والغرام، وكأنها زخات مطر تنزل على قلبها الميت والخالي من ذكر الله، والخالي من الإيمان بالله.
تنزل على قلبها فتجد هذه الكلمات أرضا سبخة تثمر المشاكل والمآسي، تثمر طلعا كأنه رؤوس الشياطين.
وذهب الذئب بفريسته وضمن أنها بين يديه، فهل تراه يطلقها أو يسبها أو يشتمها ؟
وفي أثناء الحديث طرح عليها فكرة وقال لها:
ما رأيك لو ذهبنا إلى مدينة أخرى من أجل أن نتفسح طويلا؟
فقالت لا بأس، وافقت على الفكرة.
وطار الذئب، أو كاد يطير من الفرحة، وأدار مقود السيارة ليسلك الطريق المؤدي إلى تلك المدينة، ويرن جرس الإنذار محذرا من السرعة.
ولكن السيارة الشبابية تتجاوز السرعة، والشاب الهائج لا يستمع إلى مؤشرها، وفي الطريق تلقي نظرة على من نحر عفتها وشرفها وسؤدد قبيلتها بعد أن عادت من قضاء غرضها وغرضه.
عاد بسرعة حتى يدرك الجامعة قبل أن يأتي والدها، وانفجر إطار السيارة وانقلبت عدت قلبات، صرخت بعدها ولكن بعد فوات الأوان، فقد انتهى كل شيء.
فات الأوان على الإيمان يا امرأة…. لو تاب قلبك بالإيمان واعترفا(161/13)
وإذا بذلك الشعر الطويل كأنه سنابل تُركت بلا حصاد يغطي وجهها، ولسان حالها يقول للذئب الذي شرب بنفس الكأس.
تقول له قتلك الله كما قتلتني.
سارع رجال الأمن إلى موقع الحادث واتضح كل شيء، هذه المرأة من هي ؟
وكيف توصلوا إلى أهلها ؟
فتحوا الحقيبة ووجدوا أسمها وعنوانها وأنها طالبة في الجامعة.
فورا أدير قرص الهاتف على عميدة الكلية وأخبرت الخبر، ونزلت العميدة بنفسها إلى البواب،
وقالت له:
إذا حضر فلان بعد صلاة الظهر (موعد حضوره طبعا) فأخبرني.
ووقفت مديرة الجامعة عند البوابة وهي تكفكف دمعها فقد بلغها الخبر، وتكتم غيظها.
وجاء الأب وحضر ليأخذ ابنته كالمعتاد.
ونادى المنادي فلان أبن فلان لو تكرمت.
وجاء وعميدة الكلية تنتظره عند البوابة، وهناك تحدثت إليه والنسيج يعلو صوتها.
وقالت يا أبو فلان راجع قسم الحوادث.
قال لماذا ؟ أجيبي.
قالت لا أعلم، عندنا بلاغ نخبرك أن تراجع قسم الحوادث.
قال لها، وابنتي ؟
قالت أبنتك ليست في الكلية، هي أمامك.
انطلق الرجل مسرعا والألم يعصف قلبه والأسى يقطع ضميره ويذهب به كل مذهب.
ماذا حدث؟ من الذي أخرج ابنتي من الجامعة؟ كيف وصلت إلى ذلك المكان في المدينة الأخرى ؟
أسئلة تترد ولا يعرف لها جوابا.
وصل الرجل إلى القسم وتلقى الخبر من الضابط.
عظم الله أجرك وأحسن عزائك.
خار الرجل، سقط على الأرض، لم تنقله قدماه، رمى غترته، شق ثوبه.
لكن ما الفائدة.
أخذ يردد بصوت يسمعه الجميع:
(ليس للمرأة إلا بيتها).
يا ليت الأباء المفرطين يسمعون صرخته.
ويا ليت الفتيات العابثات والشباب العابث يسمعون هذه القصة بعد ما صموا آذانهم عن قول الله عز وجل الأعلم بحال عبادة:
(وقرن في بيوتكن).
أخي الشاب، أختي الشابة
لو كشف ستار الغيب للضحيتين، هذا الشاب وتلك البنت وعلما أنها ستكون نهايتهما تلك النهاية المأساوية.
هل يقدمان على هذه الجريمة ؟
الإجابة معروفة……لا.
طيب هل تستطيع أيها الشاب أن تضمن نفسك ؟(161/14)
أليس من الواجب على الفتاة وعلى الفتى الذين أسكرتهم الشهوات أن يحذروا هذا المصير ؟
إن المريض إذا أغمي عليه يصعق بماس كهربائي ليعود له وعيه، كذلك أيها الأخوة إن هذه الأحداث تمثل صعقات كهربائية إيمانية تحي القلوب الغافلة.
(لقد كان في قصصهم عبرة).
إن هذا الأب صاحب القلب الحنون، هل كان يخطر في باله وهو يوصل بنته إلى الجامعة في كل يوم أنه إنما يوصلها إلى عشيقها وحبيبها ؟
هل كان يفكر ؟ …..لا.
لكن ما لذي جعله ؟
الثقة المفرطة، الغفلة، عدم التربية الإيمانية أوصلت إلى ما أوصلت.
أجل لماذا أيها الأخوة ؟ لماذا الثقة المفرطة ؟
هل هن ملائكة ؟
نحن لا نقول ننزع الثقة من البنات ولكن ندعو إلى التنبه والمراقبة والمتابعة والتربية الإيمانية وأعطيتها جزء من الثقة وتابعتها طيب.
إنما تتربى على البعد عن الله، تسهر طول الليل على الدش وتعطيها ثقة.
تضعها بجوار النار وتقول لا تشتعلي.
من المستحيل أيها الأخوة.
تذكروا أيها الأباء عظم المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.
الله تعالى يقول:
(وقفوهم إنهم مسؤولون).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع).
يا ترى من جلب لأبنائه الدش هل ضيع أم حفظ رعيته؟
هل ضيع الأمانة التي استودعه الله عز وجل إياها ؟ نعم والله.
من ترك أبناءه وبناته في تربية هذه الأفلام والمسلسلات، لقد ضيعها والله.
يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم:
(ما من مسلم يموت وقد استرعاه الله رعية، يموت حين يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة).
ويزيد الأمر خطورة حين تعلم أخي أن عالما من علماء المسلمين وصرحا من صروحهم وهو سماحة الوالد الشيخ محمد أبن عثيمين (رحمه الله) يقرر:
أن من يجلب الدش لإبناءه فقد غش رعيته وأنه يخشى أن يشمله الوعيد في هذا الحديث والعياذ بالله.
فكيف تفرط بالجنة وتعرض عنها بعرض زائل من الدنيا؟
القصة الخامسة:
يقول الشاعر:(161/15)
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا…..وحسب المنايا أو يكون أماني
يقول يكفي من عظم المصيبة أن ترى الموت هو الشفاء، وأن تكون المنية هي الأمنية.
نعم أيها الأخوة لقد تمناها ذلك الرجل المسكين الذي جاءه خبر وفاة ابنتيه وهما في عمر الزهور.
الأولى زواجها بعد أشهر، والثانية في الجامعة تنتظر فارس الأحلام.
أقبل ذلك الرجل وهو يصرخ بأعلى صوته ماتت! ماتت.
أما الأخرى فلا تزال في المستشفى، ويرفع الرجل يديه:
يارب، يارب، يارب!
أتدرون بماذا يدعُ ؟
هل تظن أنه يدع بشفاء ابنته بعد ما فجع بموت شقيقتها؟
لا… والله، إنه يدع على ابنته المصابة بالموت فاستجاب الله دعائه، وما هي إلا لحظات حتى وصله الخبر أنها ماتت فحمد الله.
ولكن ما القصة ؟
وما الذي جعل الوالد يدع على ابنتيه ؟
إنه العار، إنه الفضيحة التي لطخته بنزوة شيطانية من فتاة مراهقة لم تظن يوما أنها ستكون سببا في هذه الكارثة، ولكن النار من مستصغر الشرر.
وكم مثلها كثير هذه الفتاة التي جعلت أمنية والدها أن تموت هي.
وحسب المنايا أن يكون أماني.
تعرفت هذه الفتاة الكبيرة على شاب، وإن قلت فهو ذئب، ودارت علاقة شيطانية واتصالات هاتفية في ساعات متأخرة، وتبادلت العواطف وتداعبت المشاعر، وتأججت الشهوة عبر الأسلاك.
وكانت هذه هي الخطوات الأولى، مكالمات بعد مكالمات، ولكن هل بقي الأمر على المكالمات؟ كلا…فقد نقلهم الشيطان إلى الخطوة الأخرى.
لأن الشيطان يقود الإنسان خطوات:
(يا أيها الذين أمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
أنتقل هذا الهتاف، وهذا النداء، أنتقل إلى طلب موعد ولقاء، ولكن بدون أي شيء، مجرد رؤية ومجرد جلسة نزيهة.(161/16)
الثقة متوفرة، وأنا أحرص على عرضي، وأحرص على عرضك، كيف ونحن سنكون زوجين في المستقبل، لكن نجلس يرى بعضنا بعض، نحقق لنا شيء من الراحة، بهذه العبارات أغرى هذه المسكينة، وحدد لها موعدا زمانا ومكانا عبر الثقة التي تتوق إليها النفوس المريضة، ويخطط لها الأوغاد، حتى إذا وقعت الفريسة في الشباك أمسك بزمام الأمر وباع واشترى في العرض.
خرجا مرارا وتقابلا تكرارا، وفي المرة الأولى وهي تركب في السيارة مدت يده من باب الفضول عليه، فقال لها:
لا.. حرام عليك هذا لا يجوز… نحن الآن نستغفر الله عن هذه الجلسة.
فتزداد ثقة البنت وقالت هذا الذي أثق فيه.
وبعد ذلك أوقعها في شراكه ثم بدل أن تمد يدها هي أنزلها من السيارة وأدخلها في البيت ووقع معها في الفاحشة، اغتال بكارتها وأوقعها في حبائله، وصادف قلبها الخالي من ذكر الله فأحتله.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى……فصادف قلبا خاليا فتمكن.
وفي مغامرته مع أختها، أردت الأخت أن تستدرج الصغيرة، أن تعلمها لتطبق لها دروسا نظرية قد أعطتها في البيت، لتطبقها عمليا في عالم الواقع.
وركبت مع أختها مع العشيق وليتهما ما ركبا، فانطلقا بسيارته وأصبح لديه بدل الفريسة فريستين، وبدل العشيقة عشيقتين.
ولكن الله يمهل ولا يهمل، وفي الطريق والسيارة مسرعة يقع الحادث، وتموت الكبرى في الحال، وتنقل الأخرى إلى العناية المركزة، ويدعوا عليها الأب والأم والأهل قاطبة بأن لا يبقيها، وتلحق بأختها وتموت.
إنهم لا يستطيعون رأيتها أو معايشة من دنست عرضهم ونكست رؤوسهم في الرمال.
إن هذا الأمر مستحيل.
وأسدل الستار على مسرحية دامية فلا زواج بعد شهر، ولا فرح مدى الدهر، فقد راحت البنت ضحية والأسرة ضحية والشرف ضحية.
وحسب المنايا أن يكون أماني حين ينتحر العفاف.
القصة السادسة والأخيرة:(161/17)
خضراء الدمن، كان كل شيء طبيعي في البيت الصغير الهادئ الذي لم يمضي على إنشائه سوى عام والمكون من زوج في مقتبل العمر يكدح من الصباح إلى المساء، ويحلم أن يكون في مسائه في ظل زوجة حنون شريفة يقضي معها ليلا في سعادة وهناء، أحلام ولكنها أحلام اليقظة وإلا فمن أراد السعادة فليسلك مسالكها.
فإن السفينة لا تمشي على اليبس.
كان هذا البائس المسكين له امرأة جميلة المظهر خبيثة المخبر، وهي نتيجة لترك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال للشباب:
(فأظفر بذات الدين تربت يداك).
بعض الشباب إذا أراد أن يتزوج جعل تركيزه الأول والأخير على الجمال.
كيف طولها ؟ كيف عرضها؟ كيف لونها؟ كم وزنها؟ طول شعرها؟ بس!
لكن نية دينها لا يسأل، بل ربما أن بعض الشباب إذا قيل له أنها ذات دين قال لا أريدها، هذه معقدة، لا أريد واحدة معقدة، أريد واحدة مفلوتة.
هذا من هذا الطراز، الشاب هذا بحث عن واحدة جميلة (فأضفر بذات الدين تربت يداك)، وقد تربت يدا هذا حين لم يظفر بذات الدين، ولكن حين لا حياة لمن تنادي.
ظفر هذا الشاب بهذه المرأة الجميلة وهي طالبت في الجامعة، وأصبح هذا المسكين بمنزلة السائق لها.
روتين ممل، يستيقظ في الصباح فيوصلها إلى الجامعة، ويذهب إلى عمله ثم يعود إليها بعد الظهر ويأخذها من الجامعة، وهكذا دواليك.
وفي أحد الأيام أحضرها إلى الجامعة، وذهب إلى عمله، وبعد ساعة وهو على مكتبه، يرن الهاتف، وإذا على الطرف الآخر رجل الأمن:
أنت فلان؟ قال نعم.
قال فلانة قريبتك؟ قال نعم زوجتي.
قال أحظر إلى المستشفى كرما.
قال ماذا جرى؟
قال الأمر بسيط..أحظر وأسرع إلينا.
وضع السماعة، وخرج المسكين بسيارته، وتزاحمت الأفكار والخيالات في رأسه.
وما أن وصل إلى المستشفى، وترك سيارته في موقف غير نظامي.
ونزل منها وهو يركض كالمجنون، ودخل غرفة الطوارئ، ووجد رجال الأمن.
قال ما الخبر؟(161/18)
أخذوه إلى غرفت الإنعاش ويا للهول، لقد وجد زوجته التي أحضرها إلى الجامعة، وقد غطتها الدماء، وهي تأن تحت وطأة الآلام والجراحات المبرحة التي عمت جميع جسدها، ولكن ألم الفضيحة أدهى وأمر.
أخذ يصيح ويصرخ ويقول:
ماذا حدث ؟
قال له الضابط وقد أخبره الخبر.
هنا تلعثم لسانه، واضطربت به الأرض ودارت به الدنيا، وأخذ يجري ويصرخ ويتحرك اتجاه زوجته غير مصدق أنها خائنة، ووسط سيل منهمر من السباب والشتائم على هذا الوجه الخبيث الذي طعنه في كرامته.
قال لها أنت طالق، أنت طالق، ثم طالق، ثم أتبعها ببصقة في وجهها الدامي.
ومضى تاركا لها، كل هذا العار والهوان والضنك وكل هذه الآلام.
من يهن يسهل الهوان عليه…. ما لجرح بميت إلام
الآم وفضيحة وطلاق وموت.
مات عشيقها، وطلقها زوجها، وفضحت أهلها، وبقيت هي معوقة كسر ظهرها، وقطع النخاع الشوكي لها. وأصبحت مصابة بشلل رباعي.
تمنت أنها ماتت، وتمنى والدها وأمها أنها ماتت.
لم يذهبوا بها إلى البيت، وإنما وضعوها في غرفة المعاقين، وفي دار العجزة لتقضي حياتها في بئس وشقاء.
وصدق الله عز وجل:
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ).
ويسدل الستار أيها الأخوة على هذه القصص وغيرها كثير، ولكن ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.
اللهم أجعل لنا من الناس عبرة، ولا تجعلنا للناس عبرة.
( لقد كان في قصصهم عبرة) لكن لمن ؟
(لأولي الألباب ).
فالله الله أيها الأخوة، لابد أن نأخذ بالأسباب الشرعية من حماية أعراضنا، ومن صون شرفنا، ومن التمسك بطاعة ربنا، فنربي أبنائنا، وأسرنا وبناتنا على الفضيلة، ونلتزم بآداب الشريعة في الحجاب وفي غض البصر وفي تحريم الخلوة وفي تحريم الاختلاط.(161/19)
وأيضا نحيط أعراضنا بعناية ولا نمنحهم الثقة الكاملة، لا بأس بالثقة ولكن بحدود، أما أن تطلق العنان لمن هم تحت شرفك وإدارتك وولايتك وأنت تعرف أن المجتمع موبوء، وأن وسائل الفساد كثيرة، وأن المؤثرات والمغريات منتشرة، وأن قرينات السوء في المدرسة وفي الشارع وفي الجامعة كثير.
ثم بعد ذلك تثق الثقة العمياء…؟
هذا هو الذي سبب هذه الكوارث، وهذه القصص من عالم الواقع، وغيرها كثير والكثير هذا هو الذي طفئ على السطح وإلا الذي لا يُعلم عنه كثير.
لكن نسأل الله أن يسترنا بستره.
وأن يستر مجتمعنا، وأن يستر نساءنا وبناتنا ورجالنا وشبابنا بستر الإسلام.
وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وأن يوفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا وشبابنا وشاباتنا،أن يوفقهم لرعاية الفضيلة وحماية الدين، وحماية الأعراض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…………………………………………………….
إليك أختي المسلمة أروي حكايتي الحزينة
بالحروف المظلمة
فتأملي وتعقلي وتجنبي ما قد جنيت من الذئاب الآثمة
فقفي ولا تتعجلي وبهدي ربك فاحملي
قلبا وروحا عازمة
فلقد سقطت ذليلة أبكي على درب الهوى
لما ظننت بأنه حقا لحبي قد نوى
صدقت معسول الكلام وخدرتني في الليالي
كل همسات الغرام
فلا أنام..ولا أنام
يمشي ورائي في النهار وكل حين في الظلام
يرجو لقائي في الحلال كما ادعى لا في الحرام
ولأنني أحببته أصبحت أحلم أنني قاربت تحقيق المرام
وضعيفة صدقته، وخجولة رافقته
ولرحلة مشؤومة كل الحياء فقدته
وسقطت في درب الرذيلة … ابكي عفافي والفضيلة
وفقدت أغلى ما لدي…. وصرت أحياء كالقتيلة
شرفي تحطم فأحذرِ…. يا أخت كي لا تُكسري
شرف العفيفة كالزجاج….. وعرضها كالجوهر
أختاه هذي قصتي….قد سطرتها آهتي
والعفو من رب السماء…والصفح أضحى غايتي(161/20)
رحلة المشتاق
كتبه : الشيخ محمد بن عبد الرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
.. رِحْلَةُ المُشْتَاقِ ..
الحمد لله الذي سهل لعباده إلى مرضاته سبيلاً ..
وأوضح لهم الهداية وجعل الرسول عليها دليلاً ..
ورضي لهم نفسه رباً .. والإسلام ديناً .. ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً ..
أحمده حمد من لا رب له سواه ..
وأشكره على جزيل فضله وعطاياه ..
وأشهد أن الحلال ما أحلَّه .. والحرام ما حرمه .. والدين ما شرعه ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..
الملك الحق المبين .. الذي يأمر وينهى .. ويفعل ما يشاء ..
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى.. ونبيه المرتضى .. الذي لا ينطق عن الهوى ..
أرسله على حين فترة من الرسل .. فهدى به إلى أوضح السبل ..
أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها..وتألفت به القلوب بعد شتاتها ..
فصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه رحلة مع مشتاق .. نعم مشتاق إلى دخول الجنات .. ورؤية رب الأرض والسماوات ..
إنه حديث عن المشتاقين ..المعظمين للدين ..
الذين تعرض لهم الشهوات..وتحيط بهم الملذات..فلا يلتفتون إليها..
هم جبال راسيات .. وعزائم ماضيات .. عاهدوا ربهم على الثبات ..
قالوا ربنا الله ثم استقاموا ..
يرون الناس عن طريق الاستقامة يتراجعون .. وهم على طاعاتهم ثابتون ..
أعظم ما قربهم إلى ربهم .. ثباتهم على دينهم .. وسرعة توبتهم بعد ذنبهم ..
إنهم قوم .. إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذكروا ذكروا .. وإذا خوفوا من عذاب الله انزجروا ..
يتركون لذة الملك والسلطان .. والمنعة والمكان ..
في سبيل النجاة من النيران .. والفوز برضا الرحمن ..
{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا(162/1)
يعملون } ..
هم بشر من البشر .. ما تركوا اللذائذ عجزاً عنها .. ولا مللاً منها ..
بل لهم غرائز وشهوات .. ورغبة في الملذات ..
لكنهم قيدوها بقيد القوي الكريم..يخافون من ربهم عذاب يوم عظيم..
عاهدوا ربهم على الطاعة لما قال لهم : { اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .. فثبتوا على دينهم .. حتى ماتوا مسلمين ..
لم يفلح الشيطان في جرهم إلى خمر خمار .. ولا مخالطة فجار .. ولا سفر إلى بلاد الكفار ..
الناس يتساقطون في الحرام .. وهم ثابتون على الإسلام ..
فعجباً لهم ما أشجعهم .. وأقوى عزائمهم وأثبتهم ..
الكل يتمنى أن يعيش عيشهم .. إن لم يتمنى ذلك في الدنيا .. تمناه في الأخرى ..
* * * * * * * *
ومن تشبه بهم .. فأراد الهداية المرضية .. والسعادة الأبدية ..
فلا ينبغي أن يقعد على أريكته .. وينتظر أن تنزل عليه الهداية من السماء .. أو يشربها مع الماء .. كلا .. بل عليه أن يسعى إلى تحصيلها .. ويبحث عن سبل اتباعها .. ومن يخطب الحسناء لا يغله المهر ..
وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .. فأمر بطلبها .. وسلوك سبلها .. للفوز بها ..
* * * * * * * *
وانظر إلى ذاك الشاب النضر .. الذي نشأ في بيت عز وسلطان .. ومنعة ومكان ..
كان معظماً عند قومه .. مهيباً في بلده .. مقدماً بين أقرانه .. فريداً في زمانه ..
انظر إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ..
كان مجوسياً .. يعبد النار وكان أبوه سيدَ قومه ..
وكان يحبه حباً عظيماً .. وقد حبسه في بيته عند النار ..
ومع طول ملازمته للنار .. اجتهد في المجوسية .. حتى صار قاطن النار الذي يوقدها ..
وكان لأبيه بستان عظيم .. يذهب إليه كل يوم ..
فشغل الأب في بنيان له يوماً في داره .. فقال لسلمان :
فانطلق إلى ضيعتي فاصنع فيها كذا وكذا ..
ففرح سلمان وخرج من حبسه .. وتوجه إلى البستان .. فبينما هو في طريقه إذ مرَّ(162/2)
بكنيسة للنصارى .. فسمع صلاتهم فيها ..
فدخل عليهم ينظر ماذا يصنعون ..
وأعجبه ما رأى من صلاتهم .. ورغب في اتباعهم ..
وقال في نفسه : هذا خير من ديننا الذي نحن عليه ..
فسألهم : عن دينهم ..
فقالوا : أصله بالشام .. وأعلم الناس به هناك ..
فلم يزل عندهم .. حتى غابت الشمس ..
فلما رجع إليه .. قال أبوه : أي بني أين كنت ؟
قال : إني مررت على ناس يصلون في كنيسة لهم .. فأعجبني ما رأيت من أمرهم وصلاتهم .. ورأيت أن دينهم خير من ديننا ..
ففزع أبوه .. وقال : أي بني .. دينك ودين آبائك خير من دينهم ..
قال : كلا والله .. بل دينهم خير من ديننا ..
فخاف أبوه أن يخرج من دين المجوس .. فجعل في رجله قيداً .. ثم حبسه في البيت..
فلما رأى سلمان ذلك .. بعث إلى النصارى رسولاً من عنده .. يقول لهم : إني قد رضيت دينكم ورغبت فيه .. فإذا قدم عليكم ركب من الشام من النصارى .. فأخبروني بهم ..
فما مضى زمن حتى قدم عليهم ركب من الشام .. تجار من النصارى .. فبعثوا إلى سلمان فأخبروه ..
فقال للرسول : إذا قضى التجار حاجاتهم وأرادوا الرجوع إلى الشام فآذنوني ..
فلما أراد التجار الرجوع أرسلوا إليه .. وواعدوه في مكان .. فتحيل حتى فك القيد من قدميه ..
ثم خرج إليهم فانطلق معهم إلى الشام ..
فلما دخل الشام .. سألهم من أفضل أهل هذا الدين علماً ؟
قالوا : الأسقف في الكنيسة ..
فتوجه إلى الكنيسة .. فأخبر الأسقف خبره .. وقال له : إني قد رغبت في هذا الدين .. وأحب أن أكون معك .. أخدمك .. وأصلي معك .. وأتعلم منك ..
فقال له الأسقف : أقم معي ..
فمكث معه سلمان في الكنيسة ..
فكان سلمان يحرص على الخيرات .. والتعبد والصلوات ..
أما الأسقف فكان رجل سوء في دينه .. كان يأمر الناس بالصدقة ويرغبهم فيها ..
فإذا جمعوا إليه الأموال .. اكتنزها لنفسه .. ولم يعطها المساكين ..
فأبغضه سلمان بغضاً شديداً .. لكنه لا يستطيع أن يخبر أحداً بخبره .. فهو غريب ..(162/3)
قريب العهد بدينهم ..
فلم يلبث الأسقف أن مات ..
فحزن عليه قومه .. واجتمعوا ليدفنوه ..
فلما رأى سلمان حزنهم عليه قال : إن هذا كان رجل سوء .. يأمركم بالصدقة .. ويرغبكم فيها .. فإذا جئتموه بها .. اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً ..
قالوا فما علامة ذلك ؟ قال : أنا أدلكم على كنزه .. فمضى بهم حتى دلهم على موضع المال .. فحفروه .. فأخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وفضة ..
فقالوا : والله لا ندفنه أبداً .. ثم صلبوه على خشبة .. ورجموه بالحجارة ..
وجاءوا برجل آخر .. فجعلوه مكانه في الكنيسة ..
قال سلمان : فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس .. كان خيراً منه .. أعظم رغبة في الآخرة .. ولا أزهد في الدنيا .. ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه .. فأحببته حباً ما علمت أني أحببته شيئاً كان قبله ..
فلم يزل سلمان يخدمه .. حتى كبر وحضرته الوفاة ..
فحزن على فراقه .. وخاف أن لا يثبت على الدين بعده .. فقال له :
يا فلان .. قد حضرك ما ترى من أمر الله .. فإلى من توصي بي ؟
قال : أي بني .. والله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه .. لقد هلك الناس وبدلوا .. وتركوا كثيراً مما كانوا عليه ..
إلا رجلاً بالموصل وهو فلان .. وهو على ما كنت عليه فالحق به ..
فلما توفي الرجل العابد .. خرج سلمان من الشام إلى العراق ..
فأتى صاحب الموصل ..
فأقام عنده .. حتى حضرته الوفاة .. فأوصى سلمان لرجل بنصيبين ..
فشد رحاله إلى الشام مرة أخرى ..
حتى أتى نصيبين .. فأقام عند صاحبه طويلاً .. حتى نزل به الموت .. فأوصاه أن يصاحب رجلاً بعمورية بالشام ..
فذهب إلى عمورية ..
وأقام عند صاحبه .. واكتسب حتى كانت عنده بقرات وغنيمة .. ثم لم يلبث العابد أن مرض ونزل به الموت .. فحزن سلمان عليه .. وقال له مودعاً :
يا فلان إلى من توصي بي ؟ فقال الرجل الصالح :
يا سلمان .. والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه .. يعني لقد غير الناس(162/4)
وبدلوا ..
ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية .. يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ( أي جبلين أسودين ) بينهما نخل .. به علامات لا تخفى :
يأكل الهدية .. ولا يأكل الصدقة .. بين كتفيه خاتم النبوة ..
إذا رأيته عرفته .. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ..
ثم مات ودُفن فمكث سلمان بعمورية ما شاء الله .. أن يمكث ..
وهو يلتمس من يخرج به إلى أرض النبوة ..
فما زال كذلك .. حتى مرَّ به نفر من قبيلة كلب .. تجار .. فسألهم عن بلادهم .. فأخبروه أنهم من أرض العرب ..
فقال لهم : تحملونى إلى أرضكم .. وأعطيكم بقراتي وغنيمتي ؟
قالوا : نعم .. فأعطاهم إياها .. وحملوه معهم ..
حتى إذا قدموا به وادي القُرى .. طمعوا في المال .. فظلموه وادعوا أنه عبد مملوك لهم .. وباعوه لرجل من اليهود .. فلم يستطع سلمان أن يدفع عن نفسه ..
فصار عند هذا اليهودي يخدمه ..
حتى قدم على اليهودي يوماً ابن عم له من المدينة من يهود بنى قريظة .. فاشترى سلمان منه ..
فاحتمله إلى المدينة .. فلما رآها .. ورأى نخلها .. وحجارتها .. عرف أنها أرض النبوة التي وصفها له صاحبه .. فأقام بها .. وأخذ يترقب أخبار النبي المرسل ..
ومرت السنوات ..
وبعث الله رسوله عليه السلام فأقام بمكة ما أقام .. وسلمان لا يسمع له بذكر ..
لشدة ما هو فيه من الخدمة عند اليهودي ..
ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث بها .. وسلمان لا يدري عنه شيئاً ..
فبنما هو يوماً في رأس نخلة لسيده .. يعمل فيها .. وسيده جالس أسفل النخلة ..
إذ أقبل رجل يهودي من بني عمه .. حتى وقف عليه .. فقال :
أي فلان .. قاتل الله بني قيلة .. يعني الأوس والخزرج .. إنهم الآن لمجتمعون على رجل بقباء .. قدم من مكة يزعمون أنه نبي ..
فلما سمع سلمان ذلك .. انتفض جسده .. وطار فؤاده ..
ورجفت النخلة .. حتى كاد أن يسقط على صاحبه .. ثم نزل سريعاً وهو يصيح بالرجل : ماذا تقول ؟ ما(162/5)
هذا الخبر ؟
فغضب سيده .. ورفع يده فلطمه بها لطمة شديدة .. ثم قال :
ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك ..
فسكت سلمان .. وصعد نخلته يكمل عمله ..
وقلبه مشغول بخبر النبوة .. ويريد أن يتيقن من صفات هذا النبي .. التي وصفها صاحبه .. يأكل الهدية .. ولا يأكل الصدقة .. وبين كتفيه خاتم النبوة ..
فلما أقبل الليل .. جمع ما كان عنده من طعام .. ثم خرج حتى جاء إلى رسول الله .. وهو جالس بقُباء فدخل عليه .. فإذا حوله نفر من أصحابه .. فقال :
إنه بلغني أنكم أهل حاجة وغربة .. وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة .. فجئتكم به ..
ثم وضعه سلمان بين يدي النبي عليه السلام .. واعتزل ناحية ينظر إليه ماذا يفعل ؟
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام .. ثم التفت إلى أصحابه .. فقال :كلوا ..
وأمسك هو فلم يأكل ..
فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه : هذه والله واحدة .. لا يأكل الصدقة .. وبقي اثنتان ..
ثم رجع إلى سيده ..
وبعدها بأيام .. جمع طعاماً آخر .. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه .. ثم قال له : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة .. وهذه هدية أهديتها كرامة لك .. ليست بصدقة ..
ثم وضعها بين يديه صلى الله عليه وسلم ..فمد يده إليها .. فأكل وأكل أصحابه ..
فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه : هذه أخرى ..
وبقي واحدة .. أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم .. ولكن أنى له ذلك ..
رجع سلمان إلى خدمة سيده .. وقلبه مشغول بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فمكث أياماً .. ثم مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه .. فإذا هو في بقيع الغرقد .. قد تبع جنازة رجل من الأنصار .. فجاءه فإذا حوله أصحابه .. وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة .. مرتدياً بالأخرى .. كلباس الإحرام ..
فسلم عليه .. ثم استدار ينظر إلى ظهره .. هل يرى الخاتم الذي وصف له صاحبه !!
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم استدارته عرف أنه(162/6)
يستثبت في شيء وصف له ..
فحرك كتفيه .. فألقى رداءه عن ظهره .. فنظر سلمان إلى الخاتم .. فعرفه .. فانكب عليه يقبله ويبكى ..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تحول .. أي اجلس أمامي .. فاستدار حتى قابل وجه النبي عليه السلام ..
فسأله صلى الله عليه وسلم عن خبره .. فقص عليه قصته .. وأخبره أنه كان شاباً مترفاً .. ترك العز والسلطان .. طلباً للهداية والإيمان .. حتى تنقل بين الرهبان .. يخدمهم ويتعلم منهم ..
واستقر به المقام عبداً مملوكاً ليهودي في المدينة ..
ثم أخذ سلمان ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ودموعه تجري على خدية .. فرحاً وبشراً ..
ثم أسلم .. ونطق الشهادتين .. ومضى إلى سيده اليهودي .. فزاده اليهودي شغلاً وخدمة ..
فكان الصحابة يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم .. أما هو فقد شغله الرق .. عن مجالسته .. حتى فاتته معركة بدر ثم أحد ..
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له : كاتب يا سلمان .. أي اشتر نفسك من سيدك بمال تؤديه إليه ..
فسأل سلمان صاحبه أن يكاتبه .. فشدد عليه اليهودي ..
وأبى عليه إلا بأربعين أوقية من ورق ..
وثلاثِمائةِ نخلة .. يجمعها فسائل صغار .. ثم يغرسها .. واشترط عليه أن تحيا كلُّها ..
فلما أخبر سلمان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما اشترط عليه اليهودي .. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أعينوا أخاكم بالنخل ..
فأعانه المسلمون .. وجعل الرجل يمضي إلى بستانه فيأتيه بما يستطيع من فسيلة نخل .. فلما جمع النخل ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا سلمان .. اذهب ففقر لها - أي احفر لها - لغرسها .. فإذا أنت أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني ..
فبدأ سلمان يحفر لها .. وأعانه أصحابه .. حتى حفر ثلاثَمائة حفرة ..
ثم جاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم .. فخرج صلى الله عليه وسلم معه إليها .. فجعل الصحابة يقربون له فسيلة النخل .. ويضعه صلى الله عليه وسلم بيده في(162/7)
الحفر ..
قال سلمان : فوالذي نفس سلمان بيده..ما ماتت منها نخلة واحدة ..
فلما أدى النخل إلى اليهودي .. بقي عليه المال ..
فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بذهب من بعض المغازي ..
فالتفت إلى أصحابه وقال : ما فعل الفارسي المكاتب ..
فدعوه له .. فقال صلى الله عليه وسلم : خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان ..
فأخذها سلمان .. فأدى منها المال إلى اليهودي ..
وعتق .. ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ..
* * * * * * * *
هذا خبر سلمان الفارسي .. الذي ترك العيش الهني .. والوطن الرضي .. وأنواع الشهوات ..
وسافر في البلاد .. وتنقل بين ذل الخدمة .. ورق العبودية .. طلباً للهداية الأبدية ..
عظم الخالق في نفسه .. واستأنس بذكره وقربه .. وتنعم بمناجاته وحبه .. فصغر ما دونه في عينه ..
تعب أياماً قليلة .. أعقبته راحةً طويلة ..
إذا ذكرت له الجنات .. طارت نفسه شوقاً إليها ..
وتخيل لو أنه فيها ينعم .. ومن أشجارها يأكل .. وإلى خالقها ينظر ..
فينسى عند ذلك شدةَ العذاب .. وجليلَ المصاب ..
فلله ما أبهى ثباتهم له وقد حصلت تلك الجوائز تقسم
دعاهم فلبوه رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
ينادونه يا رب يا رب إننا عبيدك لا نبغي سواك وتعلم
ولو كان يرضي الله نحر نفوسهم لدانوا بها طوعاً ولله سلموا
كما بذلوا عند الجهاد نحورهم لأعدائه حتى جرى منهم الدم
ولله أكباد هنالك أودع الغرام بها فالنار فيها تضرم
ولله أنفاس يكاد بحرها يذوب المحب المستهام المتيم
ولله أفضال هناك ونعمة وبر وإحسان وجود ومرحم
ولله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين المحب بدمعها فينظر من بين الدموع ويسجم
فبالله ما عذر امرئ هو مؤمن بهذا ولا يسعى له ويقدم
ولكنما التوفيق بالله إنه يخص به من شاء فضلاً وينعم
* * * * * * * *
ومن الناس .. من يشتاق إلى الهداية .. ولكن يمنعه منها بغضه لبعض الصالحين .. أو مواقف وقعت له معهم ..(162/8)
فحمل في نفسه عليهم ..
أو تجده يعلق صلاحه واستقامته بأشخاص يعينونه على الدين .. فإذا فسدت أحوالهم .. أو فرق الدهر بينهم ..انتكس عن الدين .. وعصى رب العالمين ..
وهذا حال أولئك المرتدين .. الذين علقوا إسلامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم .. فما داموا يخالطونه .. ويحدثهم ويساكنونه .. فهم ثابتون على الدين .. بل قُوّام في الأسحار .. صُوّام في النهار ..
ولكن ما إن فارق سواده سوادهم .. حتى ارتدوا على أدبارهم ..وكفروا بعد إسلامهم ..
حتى قال لهم أبو بكر رضي الله عنه : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
نعم ..الله حي لا يموت..يسمع دعاء الداعين ..ويقبل توبة التائبين..
من لجأ إليه كفاه .. ومن فرَّ إليه قربه وأدناه ..
إن ذكره العبد في نفسه ذكره في نفسه .. وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأٍ خير منهم ..
من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً .. ومن تقرب إليه ذراعاً .. تقرب إليه باعاً ..
ومن استقر في قلبه الإيمان .. ثبت على عبادة الرحمن .. وإن اشتد البلاء ..
وانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى هناك ..
وادخل إلى المدينة ..
وانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام .. وقد جلس مع أصحابه الكرام ..
فحدثهم عن البيتِ الحرام .. وفضلِ العمرة والإحرام ..
فطارت أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام ..
فأمرهم بالتجهز للرحيل إليه .. وحثهم على التسابق عليه ..
فما لبثوا أن تجهزوا .. وحملوا سلاحهم وتحرزوا ..
فخرج صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه .. مهلين بالعمرة ملبين .. يتسابقون إلى البلد الأمين ..
فلما اقتربوا من جبال مكة ..
بركت القصواء - ناقة النبي عليه السلام - .. فحاول أن يبعثها لتسير .. فأبت عليه ..
فقال الناس : خلأت القصواء .. ( أي عصت ) فقال صلى الله عليه وسلم :
ما خلأت القصواء .. وما ذاك لها بخلق .. ولكن حبسها حابس الفيل ( يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع(162/9)
جيش من اليمن يريد هدم الكعبة فحبسهم الله عن ذلك ) ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله .. إلا أعطيتهم إياها ..
ثم زجرها فوثبت .. فتوجه إلى مكة .. حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة .. فتسامع به كفار قريش .. فخرج إليه كبارهم ليردوه عن مكة .. فأبى إلا أن يدخلها معتمراً ..
فما زالت البعوث بينه وبين قريش..حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو ..
فصالح النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعودوا إلى المدينة..ويعتمروا في العام القادم..
ثم كتبوا بينهم صلحاً عاماً .. وفيه :
اشترط سهيل : أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة .. إلا رُدَّ إلى مكة .. أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى الكفر .. فيُقبل في مكة ..
فقال المسلمون : سبحان الله !! من جاءنا مسلماً نرده إلى الكافرين !! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً ..
فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم .. شاب يسير على الرمضاء .. يرفل في قيوده .. وهو يصيح : يا رسول الله ..
فنظروا إليه .. فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو .. وكان قد أسلم فعذبه أبوه وحبسه .. فلما سمع بالمسلمين .. تفلت من الحبس وأقبل يجر قيوده .. تسيل جراحه دماً .. وتفيض عيونه دمعاً ..
ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..والمسلمون ينظرون إليه ..
فلما رآه سهيل .. غضب !! كيف تفلت هذا الفتى من حبسه .. ثم صاح بأعلى صوته : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ..
فقال : إنا لم نقض الكتاب بعد ..
قال : فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً ..
فقال : فأجزه لي .. قال : ما أنا بمجيزه لك .. قال : بلى فافعل .. قال : ما أنا بفاعل .. فسكت النبي ..
وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده .. وأبو جندل يصيح ويستغيث بالمسلمين .. يقول :
أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً .. ألا ترون ما قد(162/10)
لقيت من العذاب .. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم ..
والمسلمون تذوب أفئدتهم حزناً عليه .. فتى في ريعان الشباب .. يُشدد عليه العذاب ..
وينقل من العيش الرغيد .. إلى البلاء الشديد ..
وهو ابن سيد من السادات..طالما تنعم بالملذات..وتلذذ بالشهوات ..
ثم يجر أمام المسلمين بقيوده .. ليعاد إلى سجنه وحديده ..
وهم لا يملكون له شيئاً ..
مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً .. يسأل ربع الثبات على الدين .. والعصمة واليقين ..
أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. وهم في حنق شديد على الكافرين .. وحزن على المسلمين المستضعفين ..
ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة .. حتى لم يطيقوا له احتمالاً ..
فبدأ أبو جندل .. وصاحبه أبو بصير .. والمستضعفون في مكة .. يحاولون التفلت من قيودهم ..
حتى استطاع أبو بصير رضي الله عنه أن يهرب من حبسه .. فمضى من ساعته إلى المدينة .. يحمله الشوق .. ويحدوه الأمل .. في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..
مضى يطوي قفار الصحراء .. تحترق قدماه على الرمضاء ..
حتى وصل المدينة .. فتوجه إلى مسجدها ..
فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه .. إذ دخل عليهم أبو بصير .. عليه أثرُ العذاب .. ووعثاءُ السفر .. وهو أشعث أغبر ..
فما كاد يلتقط أنفاسه .. حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد .. فلما رآهما أبو بصير .. فزع واضطرب .. وعادت إليه صورة العذاب ..
فإذا هما يصيحان .. يا محمد .. رده إلينا .. العهدُ الذي جعلت لنا ..
فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة ..
فأشار إلى أبي بصير .. أن يخرج من المدينة ..
فخرج معهما أبو بصير .. فلما جاوزا المدينة .. نزلا لطعام .. وجلس أحدهما عند أبي بصير ..
وغاب الآخر ليقضي حاجته ..
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه .. ثم أخذ يهزه .. ويقول مستهزءاً بأبي بصير : لأضربن بسيفي هذا في(162/11)
الأوس والخزرج يوماً إلى الليل ..
فقال له أبو بصير : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً .. فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به .. ثم جربت ..
فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه .. فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه ..
فلما رجع الآخر من حاجته ..
رأى جسد صاحبه ممزقاً .. مجندلاً ممزقاً .. ففزع .. وفرَّ حتى أتى المدينة .. فدخل المسجد يعدو ..
فلما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلاً .. فزعاً .. قال : لقد رأى هذا ذعراً ..
فلما وقف بين يديه صلى الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع .. قال : قُتِل والله صاحبي .. وإني لمقتول ..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير .. تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يقطر دماً .. فقال :
يا نبي الله .. قد أوفى الله ذمتك .. قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم .. فضمني إليكم .. قال : لا ..
فصاح أبو بصير بأعلى صوته .. قال : أو .. يا رسول الله .. أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : ويل أمه مسعِّر حرب لو كان معه رجال..ثم تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة ..
فسمع أبو بصير وأطاع ..
نعم .. وما حمل في نفسه على الدين .. ولا انقلب عدواً للمسلمين ..
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم .. من الثواب العظيم .. الذي من أجله ترك أهله .. وفارق ولده .. وأتعب نفسه .. وعذب جسده ..
خرج أبو بصير من المدينة .. فاحتار أين يذهب .. ففي مكة عذاب وقيود .. وفي المدينة مواثيق وعهود ..
فمضى إلى سيف البحر في شمال جدة .. فنزل هناك .. في صحراء قاحلة .. لا أنيس فيها ولا جليس ..
فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة .. فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم .. فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم .. والكفار في مكة يعذبونهم ..
فتفلت أبو جندل من قيوده .. فلحق بأبي بصير .. ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه .. حتى كثر(162/12)
عددهم .. واشتدت قوتهم ..
فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش .. إلا اعترضوا لها ..
فلما كثر ذلك على قريش ..
أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله أن يضمهم إليه .. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يأتوا المدينة ؟
فلما وصل إليهم الكتاب .. استبشروا وفرحوا ..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت .. وهو يردد قائلاً : ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر ..
فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بسكنى المدينة .. وأن غربتهم انتهت .. وحاجتهم قضيت .. ونفوسهم أمنت ..
فاستبشر أبو بصير .. ثم قال وهو يصارع الموت : أروني كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فناولوه إياه ..
فأخذه فقبله .. ثم جعله على صدره .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات ..
نعم .. مات أبو بصير .. ولم يذق من لذة الدنيا شيئاً ..
مات .. وهو قد خدم الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
مات .. لكنه استراح من عناء هذه الدار .. ويرجى أن يكون في دار القرار ..
ينظر فيها إلى وجه رب الأرض والسماء .. الذي سفك من أجله الدماء .. ومات مشرداً في الصحراء ..
* * * * * * * *
ولإن غلقت دونه أبواب الأرض .. فلعله فتحت له أبواب السماء ..
قال الله : { هذا ذكر وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } ..
فطوبى لأبي بصير .. من يثبت اليوم مثل ثباته ..
شابٌ أسعده الله بطاعته .. وحفظه برعايته .. وتولاه بعنايته ..
همه في الجد والطلب .. وبدنه في الصلاة والقُرَب(162/13)
..
فلو رأيت بكاءه في الخلوات .. وعند تلاوة السور والآيات ..
لسمعت لصدره أنات .. ورأيت في وجهه حسرات ..
أذاقه الله طعم محبته .. ونعمه بمناجاته ..
فقطعه ذلك عن الشهوات .. وجانب اللذات ..
فهو راضٍ كل الرضا .. وإن اشتد عليه البلا ..
وأنت يا من لم تبتلى ببلائه .. ولم تُضَرَّ بضرائه ..
يا من تتقلب في النعم .. ولا تخشى النقم ..
يا من تنادى في الليل والنهار .. لطاعة العزيز الغفار ..
أنت يا من ملت منك الشهوات .. وتتابعت الزلات وعظمت السيئات .. أما آن لك أن تتوب .. وتترك الذنوب وتئوب ..
وربك ينظر إليك ويرقب .. ويسخط ويغضب .. والملائكة تسجل وتكتب .. وتحصي وتحسب ..
وأنت سادر في غفلاتك ..
أفلا تصبر على فراق لذة لراحة عظيمة .. وجنات كريمة ..
فاصبر قليلاً إنما هي ساعة فإذا أصبت ففي رضى الرحمن
فالقوم كانوا يألمون ويصبرو * ن وصبرهم في طاعة الرحمن
فاتعب قليل حياتك الدنيا تجد * راحاتِها وسرورَها بجنان
بالله ما عذر أمريء هو مؤمن * حقا بهذا ليس باليقظان
بل قلبه في رقدة فإذا استفا * ق فلبسه هو حلة الكسلان
كانوا يطيعون الله .. ويقدمون لأجله أرواحهم .. ويبذلون أموالهم .. وأبدانهم ..ولا يمنون عليه ذلك .. فهم المؤمنون حقاً ..
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ..
* * *(162/14)
* * * * * *
ومهما اشتد البلاء .. فهو قليل ما دام أن الجنة هي الجزاء ..
يستشعر العبد وقت بلائه .. أن الله قريب مجيب .. يسمع أناته .. ويجيب دعواته ..
يعظم له أجرَه .. ويضع عنه وزرَه .. والله لا يضيع أجر المحسنين ..
فمن تصبر على مفارقة الشهوات .. وغض بصره عن المحرمات .. وحفظ سمعه عن الأغنيات ..
وعف فرجه عن الفواحش والآثام ..ويده ورجله عن مواقعة الحرام..
بل من حاسب نفسه بما نظرت إليه عيناه .. أو سمعته أذناه ..
أو مشت إليه رجلاه .. أو لمسته يداه ..
من كان يعلم أن الله للعباد بالمرصاد .. يناقشهم الحساب ..
يراقب النظرات واللحظات .. والكلمات والهمسات ..
يحاسبهم على مثاقيل الذر .. ويراهم في البر والبحر ..
فمن كان هذا حاله ..خف في القيامة حسابه .. وحضر عند السؤال جوابه .. وحسن منقلبه ومآبه ..
وليبشر بالنعيم المقيم .. بجوار الحليم الكريم .. الذي يهون معه كل عذاب وبلاء ..
في السنة العاشرة من الهجرة ..
خرج مسيلمة الكذاب في اليمامة .. في نجد من الجزيرة العربية ..
فادعى النبوة .. وأنه رسول أنزل عليه قرآن ..
ومن قرآنه أنه كان يقول : والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ..
ويهذي هذياناً .. يسميه قرآناً .. فاستخف قومه فأطاعوه ..
فاتبعه سفهاء رعاع .. حتى صار له جند وأتباع ..
فاغتر بقوته .. وتطاول بسطوته .. فأرسل بكتاب إلى النبي .. يقول فيه : ( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله .. سلام عليك .. أما بعد فاني قد أشركت في الأمر معك .. وإن لنا نصفَ الأرض .. ولقريشٍ نصفَ الأرض .. ولكن قريشاً قوم يعتدون ) ..
فلما قرئ الكتاب على النبي عليه السلام .. عجب من جرأة مسيلمة على الملك العلام .. فكتب إليه ..
( بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد رسول الله .. إلى مسيلمة الكذاب .. السلام على من اتبع الهدى .. أما بعد فان الأرض لله يورثها من يشاء من(162/15)
عباده والعاقبة للمتقين ) ..
ثم تلفت رسول الله J حوله .. ينظر في وجوه أصحابه .. يلتمس منهم رجلاً فطناً جريئاً يحمل هذا الكتاب .. إلى مسيلمة الكذاب .. فابتدر حبيب بن زيد رضي الله عنه ..
شاب ما أسرته عن خدمة الدين شهوة .. ولا انشغل عن ربه بلذة ..
امتلأ قلبه تصديقاً وإيماناً .. وقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ..
أخذ الكتاب من يد النبي الأواب ..
ومضى به .. من المدينة إلى اليمامة .. فسار أكثر من ألف كيل .. حتى وصل إلى مسيلمة ..
فلما دخل على مسيلمة الكذاب .. ناوله الكتاب ..
فنظر مسيلمة في الكتاب .. فغضب وأزبد وأرعد ..
ثم جمع قومه حوله ..
وأوقف حبيب بن زيد بين يديه .. وسأله عن هذا الكتاب ..
فقال حبيب : هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقال مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
قال حبيب : نعم .. أشهد أن محمداً رسول الله ..
قال : وتشهد أني رسول الله ؟
فقال له حبيب مستهزئاً : إن في أذني صمماً عما تقول .. يعني أنت أقل وأذل .. من أن يُسمع كلامك ..
فأعاد عليه مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
قال حبيب : نعم .. أشهد أن محمداً رسول الله ..
قال : وتشهد أني رسول الله ؟ فقال حبيب : إني لا أسمع شيئاً !!
فأعاد عليه السؤال .. فكرر حبيب الجواب ..
فغضب مسيلمة .. ودعا السياف ..
وأمره أن يطعن بالسيف في جسد هذا الفتى .. وهو يكرر عليه السؤال .. ولا يسمع إلا جواباً واحداً .. لا يزيده إلا غيظاً وحقداً ..
فأمر مسيلمة السياف أن يفتح فم حبيب ويقطع لسانه ..
فأمسك به الجنود وفتحوا فمه .. حتى قطع السياف لسانه الذاكر .. ثم أوقفوه بين يدي مسيلمة الفاجر .. والدماء تسيل من فمه الطاهر ..
فصاح به مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
فأشار حبيب برأسه : نعم .. قال : وتشهد أني رسول الله ؟
فأشار برأسه : لا .. فأمر مسيلمة سيافه ..
فقطع يده .. ثم قطع رجله .. وجدع أنفه .. واحتزّ أذنه ..
وراح يقطع جسده قطعة(162/16)
قطعة .. ولحمه يتساقط .. ودماؤه تسيل .. وهو ينتفض على الأرض .. ويئن من الألم .. حتى مات رضي الله عنه ..
نعم .. قطع لسانه .. ومزق جسده .. وكسّرت عظامه .. في سبيل رضا الرحمن جل جلاله ..
حتى إذا أوقف بين يديه يوم القيامة .. فسأله ربه : يا عبدي لم قُطع لسانك .. وجدع أنفك .. وبترت يدك .. وسفك دمك ..
قال : في رضاك يا رب العالمين .. وما لجرح إذا أرضاكم ألم ..
نعم .. من أجلكم يا ربِّ .. تنقلب الآلام إلى غرام .. والأنات إلى لذات .. والبكاء إلى حداء .. والدماء إلى مسك وفيحاء ..
ولئن عذبت يا رب في الأرض .. فبيض وجهي يوم العرض ..
عندها يفرح ربه بلقائه .. ويبدل ألمه بنعمائه .. يرفع درجته .. ويغفر زلته .. ولعله يناجيه ربه فيقول : يا عبدي تقلب في النعيم كما تشاء..
فاليوم أنعمك نعيماً لا شقاء معه أبداً .. وأعطيك مُلكاً لا تشارك فيه أحداً ..
الملائكة يدخلون عليك من كل باب .. والنعيم بين يديك يأخذ بالألباب ..
ولدينا مزيد وزيادة .. وفرحة وسعادة ..
فآهٍ .. ما أحسن تلك المحاضرة .. مع ملِكِ الدنيا والآخرة ..
{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } ..
نعم هو رب رحيم .. حياة القلوب في محبته .. وأنس النفوس في معرفته ..
وراحة الأبدان في طاعته .. ولذة الأرواح في خدمته ..
وكمال الألسن بالثناء عليه وذكره .. وعزها بالتعبد له وشكره ..
فأهل ذكره هم أهل مجالسته .. وأهل طاعته هم أهل كرامته ..
أما أهل معصيته فلم يقنطهم من رحمته .. فإن تابوا فهو حبيبهم .. وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم .. يبتليهم بأنواع المصائب .. لييغفر لهم المعائب ..
{ ألم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا(162/17)
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ *وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } ..
* * * * * * * * *
وبعض الناس .. تشتاق نفسه إلى الهداية ..
لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين ..
نعم يتكبر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين .. وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين .. فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه ..
وبعض النساء كذلك .. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب .. حرصاً على تكميل زينتها .. وحسن بزتها .. أو تعصي ربها بنتف حاجبها .. أو تضييق لباسها .. وإذا نصحت استكبرت وطغت ..
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية ..
كان جبلة بن الأيهم ..
ملكاً من ملوك غسان .. دخل إلى قلبه الإيمان ..
فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه .. يستأذنه في القدوم عليه ..
فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً ..
وكتب إليه عمر : أن اقدم إلينا .. ولك مالنا وعليك ما علينا ..
فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه ..
فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب .. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر ..
وألبس جنوده ثياباً فاخرة ..
ثم دخل المدينة .. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ..
فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ..
فلما دخل موسم الحج حج عمر .. وخرج معه جبلة ..
فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ..
فالتفت(162/18)
إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه ..
فغضب الفزاري .. واشتكاه إلى عمر بن الخطاب ..
فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف .. فهشمت أنفه !
فقال : إنه وطئ إزاري ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ..
فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت .. فإما أن ترضيه .. وإلا اقتص منك .. ولطمك على وجهك ..
قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة !
قال عمر : يا جبلة .. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه .. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى ..
قال جبلة : إذن أتنصر ..
قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه .. فإن تنصرت ضربت عنقك ..
فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ..
قال : لك ذلك .. فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة .. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ..
فلما مضى عليه زمان هناك .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات .. فتذكر أيام إسلامه .. ولذة صلاته وصيامه ..
فندم على ترك الدين .. والشرك برب العالمين ..
فجعل يبكي ويقول :
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات .. نعم .. مات على الكفر لأنه تكبر عن الذلة لشرع رب العالمين ..
* * * * * * * *
فمن أراد السعادة الأبدية .. فليلزم عتبة العبودية ..
وليكن لربه أكثرَ تواضعاً وذلاً .. يسجد بين يديه .. ويتقرب إليه ..
مستجيباً لأمره .. منتهياً عن نهيه وزجره ..
قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ(162/19)
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
* * * * * * * *
وقد يرغب المرء في الهداية .. ويستقيم عليها زماناً .. ثم يغرى بمتع الدنيا .. إما بجاه .. أو وظيفة .. أو مال .. أو صداقة .. فيترك دينه لأجلها ..
أو يلتف عليه أقران يزينون له الشهوات .. ويدعونه إلى الملذات .. فيشاركهم في منكرهم .. ويسكت عن معصيتهم ..
فينتقل من عز الطاعة إلى ذل المعصية .. فيرتد على عقبيه بعد إذ هداه الله ..
وفي الصحيحين : أن رجلاً كان قارئاً كاتباً .. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي .. وقد كان حفظ البقرة وآل عمران ..
وكان الرجل إذا حفظ البقرة .. وآل عمران ارتفع قدره عند الصحابة ..
فأغراه بعض المشركين .. بدنيا .. ومال .. ونساء .. فارتد عن الإسلام ولحق بعباد الأصنام .. طلباً لهذه المتع ..
وأخذ يستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ويقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له ..
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبره .. فقال :
اللهم اجعله آية .. فلم يلبث أن مات .. نعم مات .. وانقطعت اللذات ..
وبقيت الحسرات .. وعظمت السيئات ..
فلما مات .. حفروا له فدفنوه ..
فلما أصبحوا .. مروا بقبره .. فإذا الأرض قد نبذته فوقها .. وإذا جثته ملقاة على التراب .. فعجبوا !! كيف أخرج من قبره !!
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا أكثر ما استطاعوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا ليس من فعل البشر ..
فتركوه منبوذاً .. على الأرض تمر به الكلاب فتفتح رجليها فوقه .. وتبول على وجهه ..والثعالب تنهش من لحمه..والغربان تأكل من جسده ..
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ..
* * * * * * *(162/20)
*
ومن الناس .. من يستقيم زماناً على الطاعات .. ويأنس برب الأرض والسموات ..
يتلذذ بمناجاته .. ويحي قلبه بمحبته .. وتأنس نفسه بمعرفته ..
لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات .. فيشتاق أن يجرب عيشهم .. ويتمتعَ متعهم .. يظن أنهم سعداء .. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم..وكان حصناً منيعاً..فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ..
قال الله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ..
* * * * * * * *
هذا خبر ابن عبد الرحيم .. أغري بفتنة النساء .. فأشرك برب الأرض والسماء ..
وقد يغرى المرء بالمال .. فيكفر بالكريم المتعال ..
وانظر إلى الأعشى بن قيس ..
فكان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في دخول الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات(162/21)
السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حَفىً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
قالوا : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. قال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام .. قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
قال : أما المال .. فنعم .. فجمعوها له .. فارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً .. فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ )(162/22)
..
* * * * * * * *
وإذا أردت أن تتيقن .. بعاقبة مخالطة الفساق وأهل الفساد ..
فانظر إلى عبيد الله بن جحش .. كان مجالساً للنبي صلى الله عليه وسلم ..
بل كان ممن أوذي في دينه وضيق عليه في مكة .. فهاجر مع المسلمين إلى الحبشة .. ترك أهله وبلده .. وماله وبيته .. في سبيل الله ..
وكانت معه زوجته أم حبيبة ..
فكثرت مخالطته للنصارى .. وابتعد عن المسلمين ..
فما زال حاله يتردى .. حتى أصبح يوماً فقال لزوجته أم حبيبة :
إني نظرت في الأديان فلم أر ديناً خيراً من النصرانية ..
ففزعت .. وقالت : والله ما هو خير لك .. واتق الله ..
فلم يلتفت إليها .. بل كفر بربه .. وعلق الصليب على صدره .. وأكب على الخمر يشربها .. ويخالط النصارى .. حتى مات ..
نسأل الله الثبات على دينه حتى الممات ..
ولعظيم أثر الصحبة في الثبات ..
أمر الله المؤمنين والمؤمنات .. بلزوم الصالحين والصالحات ..
وحذرهم من حال غيرهم ..
فقال الله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ..
* * * * * * * *
ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه .. وثباتاً عليه .. أن يحمل هم الدين ..
أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم ..
ينصح هذا .. ويعظ ذاك .. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
يدعو بالشريط النافع .. والكتاب المؤثر .. والنصيحة الصادقة .. ليزداد إيماناً مع إيمانه .. وقوة في استقامته ..
وانظر إلى الجبال الراسيات .. والخطى الثابتات ..
انظر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
انظر إلى أبي بكر رضي الله(162/23)
عنه .. وتأمل في حرصه على الدعوة إلى الله .. واعجب من قوة ثباته على الدين ..
أخرج ابن سعد في الطبقات .. والطبري في الرياض النضرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة سراً .. وكان المسلمون يختفون بدينهم ..
فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً ..
ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم .. إلى المسجد .. وخرج المسلمون معه..وتفرقوا في نواحي المسجد..كل رجل في عشيرته..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. فكان أول خطيب دعا إلى الله .. فلما رأى المشركون من يسفه آلهتهم .. ويتنقص دينهم ..
ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين ..
فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
وأبو بكر يجهر بالدين .. فأحاط به جمع منهم ..
فضربوه .. حتى وقع على الأرض .. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة ..
ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. وجعل يطأ على بطنه وصدره .. ويضربه بنعلين مخصوفين .. ويحرفهما على وجهه .. حتى مزق لحم وجهه .. وجعلت دماؤه تسيل .. حتى ما يعرف وجهه من أنفه .. وأبو بكر مغمى عليه ..
فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون .. ودفعوا المشركين عنه ..
وحملوه في ثوب .. ولا يشكون في موته .. حتى أدخلوه منزله ..
وقعد أبوه وقومه عند رأسه .. يكلمونه فلا يجيب ..
حتى إذا كان آخر النهار .. أفاق .. وفتح عينيه .. فكان أول كلمة تكلم بها ان قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
فغضب أبوه وسبه .. ثم خرج من عنده ..
فقعدت أمه عند رأسه .. تجتهد أن تطعميه أو تسقيه .. وتلحّ عليه ..
وهو يردد : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه .. وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها(162/24)
..
فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت :
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟
فقالت أم جميل : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمداً .. ولكن إن أحببت مضيت معك إلى ابنك ..
قالت : نعم .. فمضت معها ..
فلما دخلت على أبي بكر .. وجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. ودماؤه تسيل ..
فبكت وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
فالتفت إليها أبو بكر .. وما يكاد يطيق .. فقال : يا أم جميل .. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : هذه أمك تسمع .. قال : فلا شيء عليك منها ..
قالت : سالمٌ صالحٌ .. قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد عرفت خبر صاحبك .. فكل واشرب الآن ..
فقال : لا .. إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأراه بعيني ..
فأمهلتاه .. حتى إذا أظلم الليل .. وهدأ الناس ..
حاول أن يقوم .. فلم يستطع .. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما .. حتى ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكب عليه يقبله ..
وأكبَّ عليه المسلمون .. ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ..
وأبو بكر يقول : بأبي وأمي أنت يا رسول الله .. ليس بي من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بولدها .. وأنت رجل مبارك .. فادعها إلى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعاها إلى الله .. فأسلمت ..
فهذا الحرص العظيم .. من أبي بكر ..
كان أول ثمراته أن ثبته الله على الدين ..
فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. شكك بعض الناس في موته ..
وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته ..
فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات .. ويفصل النزاع بقوله :
من كان(162/25)
يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
ثم ترتد قبائل حول مكة .. فيقف لهم أبو بكر .. ثابتاً راسياً .. حتى أعاد قوة الإسلام ..
بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
* * * * * * * *
وينبغي على الفتى والفتاة .. بل على المسلمين والمسلمات ..
إذا عرضت لأحدهم شهوة .. أو شعر في قلبه بقسوة ..
أو أحس بفتور عن الطاعات .. ورغبة في المحرمات ..
أن يشكو همه إلى أخٍ ناصح أمين ..
وقد كان بعض السلف يقول لبعض : تعال بنا نؤمن ساعة ..
وروى الترمذي والنسائي بسند حسن ..
أن مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه .. كان يخرج من المدينة .. إلى مكة مختفياً .. ويذهب إلى البيوت التي يحبس فيها أسرى المسلمين فيطلقهم من قيودهم .. ويحملهم إلى المدينة ..
فدخل مكة ليلة من الليالي .. وواعد أحد الأسرى في موضع منها ..
فبينما هو يمشي إليه .. إذ مرَّ بامرأة بغي بمكة .. يقال لها عناق ..
وكانت صديقة له في الجاهلية ..
فلما رآها اختبأ في ظل جدار فرأته .. فأقبلت إليه ..
فلما نظرت إلى وجهه عرفته .. فقالت : مرثد ؟ قال : مرثد ..
قالت : مرحباً وأهلاً .. هلم فبت عندنا الليلة ..
فقال : يا عناق حرم الله الزنا ..
فقالت : لتفعلن أو لأفضحن .. قال : لا ..
فصاحت : يا أهل الخيام .. هذا الرجل يحمل أسراكم ..
ففزع مرثد .. وهرب .. فتبعه ثمانية منهم .. فدخل حديقة ..
واختبأ في غار فيها ..
فدخلوا وراءه فأعماهم الله عنه ..
فرجعوا إلى رحالهم ..
فلبث في مخبئه يسيراً .. ثم خرج إلى موضع صاحبه ..
فحمله معه حتى خرج به من مكة .. ففك عنه قيوده .. حتى أتيا المدينة ..
نعم .. وصلا المدينة .. لكن قلبه لا زال يتذكر تلك المرأة ..فلم يطق صبراً ..
فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. أنكِحُ عناقاً .. أتزوجها ..؟
فأعرض عنه .. فأعاد(162/26)
عليه : يا رسول الله .. أنكح عناقاً ..
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. حتى أنزل الله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } ..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام .. فقال له : " يا مرثد : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة .. والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .. فلا تنكحها ".
فرضي الله عن مرثد .. تأمل كيف تدارك نفسه رضي الله عنه .. بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى ذهب ما وسوس به الشيطان له ..
* * * * * * * *
وذكر أبو نعيم في الحلية :
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال :
بعدما كبر أبي وذهب بصره .. قال لي : هلم بنا إلى الحسن البصري ..
فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري .. فلما دخلنا على الحسن قال له أبي :
يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة .. فاستلن لي منه ..
فقرأ الحسن { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ..
فبكى أبي .. حتى سقط .. وأخذ يضرب برجله الأرض ..
كما تضرب الشاة المذبوحة ..
وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب ..
فجاءت الجارية .. فقالت : قد أتعبتم الشيخ .. قوموا تفرقوا ..
فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة .. ثم قال : يا بني .. لقد قرأ علينا آيات .. لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً .. أي جروحاً ..
نعم ..
لا بد من شكوى إلى ذي مروءة * يناجيك أو يسليك أو يتوجع ..
* * * * * * * *
ومن أعظم وسائل الثبات على الدين ..أن يكون المرء طائعاً لله في سره وعلنه ..
صح عند ابن ماجة وغيره .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء .. فيجعلها الله هباء منثوراً .. قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا .. جلهم لنا .. لا نكون منهم ونحن لا نعلم ..
قال : أما إنهم إخوانكم .. ومن جلدتكم(162/27)
.. ويأخذون من الليل كما تأخذون .. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ..
خلت امرأة برجل يوماً .. فكان الشيطان ثالثهما .. فدعته إلى الفاحشة .. فقال : إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض .. بلذة فانية .. لمجنون ..
وقد كان الصالحون .. يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح .. بينه وبين ربه لا يعلمها أحد .. من صدقة في السر .. أو نصيحة لمقصر .. أو كفالة يتيم .. أو أرملة ومسكين .. أو قيام في الأسحار .. وصيام في النهار .. ودعاء واستغفار ..
أو ختم للقرآن .. وذكر دائم للرحمن ..
والله لا يضيع أجر المحسنين ..
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء .. فاحتبس فيها شيئاً يسيراً .. ثم عاد إلى المدينة ..
فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه .. فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر ..
فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء .. فاختبأ له عمر خلف صخرة ..
فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً .. ثم خرج ..
فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة .. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء .. وعندها صبية صغار ..
فسألها عمر : من هذا الذي يأتيكم ..
فقالت : لا أعرفه .. هذا رجل من المسلمين .. يأتينا كل صباح .. منذ كذا وكذا ..
قال فماذا يفعل : قالت : يكنس بيتنا .. ويعجن عجيننا .. ويحلب داجننا .. ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر .. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ..
* * * * * * * *
ولم يكن عمر رضي الله عنه بعيداً في تعبده وإخلاصه عن أبي بكر ..
فقد خرج مرة رضي الله عنه إلى ضواحي المدينة .. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق .. وقد نصب خيمة قديمة .. وقعد عند بابها .. مضطربَ الحال .. فسأله عمر : من الرجل ؟
قال : من أهل البادية .. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة .. فسأله عنه ؟
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك(162/28)
..
قال عمر : هذا من حاجتي ..
فقال : امرأتي في الطلق - يعني تلد - وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد ..
فرجع عمر إلى بيته سريعاً .. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت : وما ذاك .. فأخبرها بخبر الرجل .. فحملت امرأته معها متاعاً .. وحمل هو جراباً فيه طعام .. وقدراً وحطباً .. ومضى إلى الرجل ..
ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها ..
وقعد هو عند الرجل .. فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب .. ويصنع الطعام .. والدخان يتخلل لحيته .. والرجل قاعد ينظر إليه ..
فبينما هو على ذلك .. إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة .. يا أمير المؤمنين .. بشر صاحبك بغلام ..
فلما سمع الرجل .. أمير المؤمنين .. فزع وقال : أنت عمر بن الخطاب .. قال : نعم .. فاضطرب الرجل .. وجعل يتنحى عن عمر.. فقال له عمر : مكانك ..
ثم حمل عمر القدر .. وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته .. أشبعيها ..
فأكلت المرأة من الطعام .. ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة ..
فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل .. وقال له : كل .. فإنك قد سهرت من الليل ..
ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه ..
فقال للرجل : إذا كان من الغد .. فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
* * * * * * * *
وهكذا كان من بعدهم ..
فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت(162/29)
الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون حقاً .. وأولياء الله صدقاً .. والله يقول : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا } ..
فطوبى لقلوب ملأتها خشيته .. واستولت عليها محبته ..
أصبحت الطاعة لهم عادة .. والحركات والسكنات لهم عبادة ..
والله لو جالست نفسك خاليا * وبحثتها بحثا بلا روغان
لوجدت خير العيش عيشهم فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان
فالحق شمس والعيون نواظر * لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثلما تعمى * وأعظم هذه العينان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن
فإذا تخلى منه أصبح حائراً ويعود في ذا الكون ذا خسران
* * * * * * * *
وعلى من وفقه الله للاستقامة على هذا الدين .. أن لا يغتر بطول استقامته .. ولا كثرةِ صلاته وعبادته ..
بل يسأل ربه الثباتَ على الدين .. والعصمةَ واليقين ..
وانظر إلى محطم الأصنام..وباني البيت الحرام..إبراهيمَ عليه السلام..
يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول:واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ..
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..
وقالت عائشة رضي الله عنها .. كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور..يعني من الضلال بعد الهدى..
ومن أقوى وسائل الثبات .. الاشتغال بميراث الأنبياء .. من طلب العلم النافع .. وحضور مجالسه .. ومخالطة أهله .. وقراءة كتبه ..
والعالم أشد على الشيطان من ألف عابد .. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ..
* * * * * * * *
وختاماً .. فإن من وسائل الثبات على الدين ..
أن يتصور العبد عاقبة صبره على الطاعات .. ومجانبة(162/30)
المحرمات ..
فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ..ولا خطر على قلب بشر
بعيش زائل كأنه أحلام ..
كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات .. بسجن مليء بالبليات ..
ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار .. بأعطان آخرها الخراب والبوار ..
وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان .. بقذرات دنسات مسافحات ..
وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين .. بشراب مفسد للدنيا والدين ..
وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم .. بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم ..
وسماعُ الخطاب من الرحمن .. بسماع المعازف والألحان ..
وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد .. بالجلوس مع كل شيطان مريد ..
نعم .. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده .. وجعلها مقراً لأحبابه ..
ووصف دخولها بالفوز العظيم .. وملكَها بالملك الكبير ..
فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران ..
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن ..
وحصباؤها لؤلؤ وجوهر .. وبناؤها فضة وذهب ..
وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل ..
وإن سألت عن ورقها فألين الحلل ..
أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين ..وأنهار من عسل مصفى ..
وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيرون..ولحمُ طير مما يشتهون ..
ولباس أهلها الحرير والذهب .. وفرشها بطائن في أعلى الرتب ..
وخدمهم ولدان مخلدون .. كأنهم لؤلؤ مكنون ..
* * * * * * * * *
فهم في روضاتها يتقلبون .. وعلى أسرتها يتكئون ..
ومن ثمارها يتفكهون .. ويطوف عليهم ولدان مخلدون ..
يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً..ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً ..
فواعجباً لها كيف نام طلابها ؟ وكيف لم يتسابق إليها عشاقها !
وربهم يناديهم بقوله :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ(162/31)
عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } ..
* * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
هذه وسائل الثبات .. لمن أراد السلامة والنجاة ..
ونحن في زمن كثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
فتن تفتن الأبصار .. وأخرى تفتن الأسماع .. وثالثة تسهل الفاحشة .. ورابعة تدعوا إلى المال الحرام ..
حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان .. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما : ( فإن وراءكم أيام الصبر .. الصبر فيهن كقبض على الجمر .. للعامل فيهن أجر خمسين منكم .. يعمل مثل عمله ..
قالوا : يا رسول الله .. أو منهم .. قال : بل منكم .. ) .. حديث حسن ..
وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : بدأ الإسلام غريباً .. وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء .. نعم طوبى للغرباء ..
وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان .. لأنه لا يكاد يجد على الخير أعواناً .. فهو غريب بين العصاة .. نعم غريب بينهم ..
يأكلون الربا ولا يأكل .. ويسمعون الغناء ولا يسمع .. وينظرون إلى المحرمات ولا ينظر .. بل ويقعون في السحر والشرك .. وهو على التوحيد ..
وعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم ..
وأخرج البزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين .. ولا أجمع له أمنين .. إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة .. وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ..
نعم .. من كان خائفاً في الدنيا .. معظماً لجلال الله .. أمن يوم القيامة .. وفرح بلقاء الله .. وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم(162/32)
:
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ..
أما من كان مقبلاً على المعاصي .. همه شهوة بطنه وفرجه .. آمناً من عذاب الله .. فهو في خوف وفزع في الآخرة ..
قال الله : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ } ..
فتوكل على الله إنك على الحق المبين ..
ولا تغتر بكثرةِ المتساقطين .. ولا ندرةِ الثابتين ..
ولا تستوحش من قلة السالكين ..
يا معرضا عما يراد به وقد * جد المسير فمنتهاه داني
جذلان يضحك آمنا متبختراً * وكأنه قد نال عقد أمان
خلع السرور عليه أو في حله * طردت جميع الهم والأحزان
يختال في حلل المسرة ناسياً * ما بعدها من حلة الأكفان
ما سعيه إلا لطيب العيش في الدنيا ولو أفضى إلى النيران
قد باع طيب العيش في دار النعيم بذا الحطام المضمحل الفاني
* * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات .. وترك المنكرات ..
وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ..
وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..(162/33)
ذو القرنين ويأجوج ومأجوج
كتبه : الشيخ محمد حسان
ملخص الخطبة
1- جدد إيمانك 2- قسوة القلب وقلة الخوف من علاّم الغيوب 3- أين المصير يوم القيامة 4- صفة النار 5- دعوة للتوبة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فحياكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعا من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله:
في رحاب الدار الآخرة:
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهدف منها:
تذكير الناس بحقيقة الدنيا للإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
وهذا هو لقاءنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أُسَيد الغفاري قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال المصطفى : ((ما تذاكرون))؟ فقالوا: نذكر الساعة، قال المصطفى: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم))([1]).
تكلمنا عن الدجال ونزول عيسى عليه السلام وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن يأجوج ومأجوج.
وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم اليوم عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية:
أولاً: تأصيل لغوى شرعي مختصر.(163/1)
ثانياً: بعث النار.
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج.
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة.
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .
أولاً: تأصيل لغوى وشرعي مختصر:
أيها الأحبة: لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!!
وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير، لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات.
أُخِذَت من غير المصادر اليقينية أي القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا يجوز لأحدٍ بحال أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فلسنا في حاجة على الإطلاق لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين ،وإنما يجب علينا جميعا أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا وفي سنة الحبيب نبينا ففيه الغنى.
يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام يتميزان عن بقية البشر بالاجتياح المروع والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل.
وقال المحققون من أهل اللغة نقلا عن ابن منظور في لسان العرب وغيره قالوا :
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة .
فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض .(163/2)
هذا هو التأصيل اللغوي الذي لابد منه بداية حتى لا نطلق لخيالنا العنان لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام .
لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء:
ثانياً: بعث النار:
ففي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((يقول الله يوم القيامة: يا آدم فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول الله جل وعلا: أَخْرِج بعث النار فيقول آدم عليه السلام: وما بعث النار يا رب؟، فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم، وواحد إلى الجنة)) فشق ذلك على أصحاب النبي المختار، وفي رواية ((فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة))، وفي رواية ((فبكى أصحاب الرسول وقالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد))؟ فقال المصطفى :((أبشروا! أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد)) ثم قال المصطفى : ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فكبرنا. قال: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فكبرنا . فقال المصطفى في الثالثة: ((والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)).
أمة النبي أمة مرحومة.. أمة النبي أمة ميمونة .
و كدت بأخمصي أطأ الثُّريا
ومما زادني فخرا وتيها
وأن أرسلت أحمد لي نبيا
دخولي تحت قولك يا عبادي
اسجد له شكراً أنك من أمة الحبيب محمد ، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها وأثنى عليها نبيها .
قال الله لها: كُنتُم خَيرَ أُمَّةِ أُخرِجتْ لِلنَّاسِ .
قال الله لها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وفى الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه بسند حسن قال المصطفى : ((أنتم موفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا))([2]).(163/3)
أنتم خير الأمم.. أنتم أكرم الأمم على الله جل وعلا .
بل وفي صحيح البخاري من حديث أبى سعيد الخدري أن الحبيب النبي قال: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم يا رب. فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقول قوم نوح: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الحق جل وعلا: وهو أعلم، من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أدعى فأشهد عليكم ))([3]).
وذلك قول الله جل وعلا : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .
بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبين فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي أتى المقبرة يوما فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)) ثم قال الحبيب 0: ((وددت أنَّا قد رأينا إخواننا)) فقال الصحابة: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال : ((أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد)) فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال المصطفى : ((أرأيت لو أن رجلا له خيلُُ غُرُّ مُحَجَّلَة بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ (أي سود) ألا يعرف خيله))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال المصطفى : ((فأنهم يأتون غُراً محجلين من الوضوء ))([4]).
أحبتي في الله:
أقف الآن وحضراتكم مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز .
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج:(163/4)
لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن ألا وهي سورة الكهف قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:83-98].(163/5)
هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج وأقول لك أن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً.
لا يجوز لأحد يحترم علمه وعقله أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات لننسج حول شخصية ذى القرنين الأساطير والخرافات والأوهام .
والآن أدعوك لنتجول سوياً لنتعرف على قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج بالنص القرآني والتفسير اليسير.
ذو القرنين عبد صالح اختلف أهل التفسير في نبوته لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك.
والقصة تبدأ بسؤال المشركين للنبي المصطفى ويأتي الجواب من الله جل وعلا: "قل" يا محمد، وكلمة "قل" يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة قل التلقينيه أي القصة ليست من عند رسول الله بل هي وحي من عند الله جل وعلا: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا : كلمة " منه " التبعيضية: أي سأتلوا عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا فلنقف عند ما ورد في القرآن وما ثبت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض : تدبر ... فمن الذي مَكَّنَ لذي القرنين؟
فالتمكين إن نقبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصل في القلوب قاعدة إيمانية .
فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعا أن نعلق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب فهذا من حقيقة التوكل على الله .
لا تسود أمة إلا بإذن الله ولا تزول أمة إلا بإذن الله .(163/6)
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا . أخذ بهذه الأسباب والوسائل للتمكين والنصر والفتح والظهور .
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ [الحج:41].
فهناك من الأمم من يمكن الله لها فتأخذ بأسباب التمكين فيزيدها الله ثباتا وتمكينا فإن فرطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الناس من إذا مكن الله له أخذ بوسائل التمكين فزاده الله رفعة ونصرا فإن فرط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله عز وجل بزاوله وهلاكه .
وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . أعطاه من الأسباب ما يستطيع أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقا وغربا .
يبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا .
ومن المعلوم أنه ليس للشمس مشرقاً واحداً ولا مغرباً واحداً بل لها عدة مشارق ومغارب .
قال الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40].
فالشمس لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب المكان، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب .
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا .(163/7)
فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم، فقال كما ذكر في كتاب ربنا: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا .
وأما من ظلم نفسه بالشرك وعدم اتباعي فسوف أعذبه وله عند الله العذاب العظيم، أما من اتبعني وآمن بما جئت به ووحد الله واستقام على منهج الله فله الحسنى وهى الجنة، أما من ناحيتي فسنقول له يسرا .
ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية :
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا . لا يحمى هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا : أي علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.
وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ والسدين: الجبلين العظيمين .
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا .
لا يعرفون لغة ذي القرنين أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا إلى أشد الهجمات وأعنف الضربات على يدي يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل توسلوا إليه وانطلقوا وقوفا بين يديه وقالوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا .
هؤلاء القوم يقولون لذي القرنين هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد على أن تبنى لنا سدا منيعا يحمينا من يأجوج ومأجوج .
فرد عليهم بزهد وورع وقال: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ .(163/8)
لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغنانى به عن مالكم ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم ولكن!
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . أي قال بلغة العصر: التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد ولإقامة هذا المشروع، سنتكفل نحن بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال، في حاجة إلى عمالة يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا .
وبدأ ذو القرنين المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون .
أمر بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع .
ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ : أي اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد حتى ساوت قمة الجبلين قال: انفخوا النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، اشتعلت النيران تحت هذا الحديد بين السدين في مكان ضيق، يريد أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها .
فأشعل النيران حتى انصهر الحديد وذاب بين السدين أي بين الجبلين، فأمر ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر .
فلما انصهر النحاس أمرهم بصب النحاس على الحديد فتخلل النحاس الحديد فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً ليزداد صلابة وقوة فلا تستطع يدى يأجوج ومأجوج أن تتسلقه أو أن تنقبه .
وبذلك يكون ذو القرنين قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس فلما ساوى بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس ليبين لنا سمات القيادة الفذة الناجحة التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط .(163/9)
التي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.
ذو القرنين يبين لنا سمات القيادة الناجحة، وما أحوج الأمة إلى هذه القيادة الفذة، فلما نظر إلى هذا السد العظيم لم تسكره نشوة القوة والعلم، لم يقل فن الإدارة!!
لم يقل: إنما أوتيته على علم عندي!! وإنما نسب الفضل لصاحب الفضل جل وعلا فقال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
درس عظيم .. هذا رحمة من ربي ثم بين للحضور معتقده الصافي في الإيمان بالبعث والإيمان بيوم القيامة فقال لهم إن الذي أمر ببناء هذا السد هو الله، وأن الذي أمر بحجز يأجوج ومأجوج هو الله، وأن الذي سيأذن لهم بالخروج هو الله، وحتما سيأتي يوم على هذا السد المنيع ليجعله الله عز وجل دكاء أي ليسويه بالأرض وذلك لا يكون إلا بين يدي الساعة كما سيسوى جبال الأرض كلها بالأرض .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا .
هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم القيامة وعلامته الكبرى حين يأذن الحق تبارك وتعالى ليأجوج ومأجوج في الخروج حينئذ يستطيعون أن ينفذوا هذا السد ويخرجوا وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء:
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة:
في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي دخل عليها يوما فزعا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعه السبابة والإبهام فقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله أَنهلِكُ وفينا الصالحون فقال المصطفى:((نعم إذا كَثُرَ الخبث))(4).
يهلك الصالح والطالح ويبعث الله الصالحين والطالحين على نياتهم .(163/10)
وتدبر معي هذا الحديث: الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين وأقر الحاكمَ الذهبيُ والألبانيُ في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة أن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى قال: ((إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قالوا: ارجعوا فستحفرونه غداً فيرجعون فيعيد الله السد أشد مما كان، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم خرجوا يحفرون السد فقال الذي عليهم إذا ما رأوا شعاع الشمس: ارجعوا وستحفروه غدا إن شاء الله تعالى فيعودون فيرون السد كهيئته التي تركوه عليها فيحفرونه ويخرجون))(5)
وفي رواية مسلم في حديث النواس بن سمعان ((فيمرون على بحيرة طبرية فإذا مَرَّ أوائل يأجوج ومأجوج شربوا ماء البحيرة كله فإذا مر آخرهم قال: لقد كان في هذه البحيره ماء)).
فيخرجون فيخاف الناس ويتحصنون منهم في الحصون، يتركون لهم الشوارع والطرقات لا قدرة لأحد بقتالهم كما سأذكر في رواية النواس بن سمعان قال المصطفى : ((أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى إني قد بعثت قوما (أي يأجوج ومأجوج) لا يدان لأحد بقتالهم (أي لا طاقة لأحد بقتالهم) فحرز عبادي إلى الطور أي اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور في سيناء)). ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيقول يأجوج ومأجوج: لقد قتلنا أهل الأرض تعالوا لنقتل أهل السماء.
انظر إلى الفجور!! وبهذه العبارة فقط تستطيع أن تتصور حجم الفساد في الأرض إذ تجرأ هؤلاء وفكروا في أن يقاتلوا أهل السماء وبالفعل يوجهون النشاب (أي السهام) إلى السماء فيريد الملك أن يبتليهم فيرد الله عليهم نشابهم ملطخة دماً فتنة من الله تعالى فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. في الوقت الذي تبتلى فيه الأرض بهذه الفتنة تكون فتنة أخرى عصفت بأهل الأرض عصفاً ألا وهى فتنة الدجال فينزل عيسى عليه السلام وهذا ما سنتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.(163/11)
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
---
([1]) سبق تخريجه .
([2]) رواه البخارى رقم (4478) فى التفسير ، باب قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطاً والترمذى رقم (2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة ، وهو فى صحيح الجامع رقم (8034) .
([3]) رواه البخارى رقم (3339) فى أحاديث الأنبياء ، باب قول الله عز وجل ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ورواه الترمذى ، والنسائى ، وابن ماجة ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند رقم (11222) .
([4]) رواه البخارى رقم (136) فى الوضوء ، باب فضل الوضوء والغر المحجلون ، ومسلم رقم (249) فى الطهارة ، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء ، والموطأ (1/28-30) والنسائى (1/93/95) فى الطهارة .
(4) رواه البخارى رقم (3346) فى أحاديث الأنبياء ، باب قصة يأجوج ومأجوج ، ومسلم رقم (2880) فى الفتن ، باب اقتراب الفتن ، والترمذى رقم (2188) فى الفتن .
(5) رواه ابن ماجة رقم (4080) والحاكم وهو فى صحيح ابن حبان (1908) .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين .
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب:
يُنزل الله تعالى عيسى عليه السلام كما في حديث النَّواس بن سمعان الذي رواه مسلم قال المصطفى: ((فبينما هو كذلك (أي الدجال) إذ أنزل الله عز وجل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين (أى ثوبين مصبوغين) واضعاً كَفَّيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ)) إذا رفع نبي الله عيسى رأسه تقطر منها الماء كحبات اللؤلؤ الأبيض .(163/12)
يقول المصطفى : ((فيطلب عيسى بن مريم الدجال حتى يدركه بباب لُدّ (مدينة بفلسطين) )). فيقتل عيسى بن مريم الدجال عليه لعنة الله: ((ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله: إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور)) (أي لا طاقة ولا قدرة لأحد بقتالهم) يقول المصطفى : ((ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون)). ينتشرون، يغطون وجه الأرض من فوق المرتفعات والجبال.
فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مَّرةً ماءُُ ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه أن يتضرعوا إلى الله عز وجل أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله دعاء عيسى وأصحابه من أمة النبي محمد .
اسمع ماذا قال المصطفى : ((فيرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف)) النغف: هو الدود الصغير.
تدبر قدرة الملك وعظمة الملك، والله ما أحوج الأمة إلى أن تمتلئ قلوبها يقينا بقدرة الملك جل جلاله.
ما أحوجنا إلى أن نتعرف على عظمة الله وعلى جلال الله، وعلى قوة الله، وعلى قدرة الله، فإن أمر الله بين الكاف والنون .(163/13)
فيرسل الله عليهم النغف أى الدود الصغير في رقابهم فيهلكهم الحق جل وعلا فيقول المصطفى : ((فيصبحون فرسى (أي قتلى) كموت نفس واحدة)) في رواية ((يطلب نبى الله عيسى واحداً من هؤلاء المتحصنين الخائفين أن يخرج وأن يبذل نفسه ليرى ماذا فعل يأجوج ومأجوج في الأرض فيخرج وهو مستعد للقتل والهلاك فيرى هذه الكرامة والمعجزة والآية فيرجع لنبي الله عيسى وينادي عليه وعلى أصحابه: أبشروا لقد أهلك الله يأجوج ومأجوج )). يقول المصطفى : ((ثم يهبط نبي الله عيسى مع أصحابه فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم (الزهم: الدهن والشحم) لا يقوى الناس على هذه الرائحة الكريهة النتنة. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله أن يطهر الأرض من هذه النتن، فيرسل الله عز وجل طيراً كأعناق البخت (أي كرقاب الإبل) فتحملهم فتطرحهم حيثما شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة (أي تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها) وحينئذ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردِّى بركتك)). يقول المصطفى : ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة تأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض هذه الريح روح كل مؤمن ومسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون في الأرض تهارج الحمر (أي الحمير) وعليهم تقوم الساعة)).
وبذلك يكون قد أنهيت الحديث عن يأجوج ومأجوج من المصادر اليقينية من كتاب الله والسنة الصحيحة، وأنصح أحبابي أن لا يقفوا بعد ذلك وراء الأساطير والأوهام والإسرائيليات التي وردت في ذلك.
أحبتي في الله..
هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أكون جسرا تعبرون عليه إلى الجنة ويُلقى به في جهنم ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقم الصلاة.(163/14)
كشف الكربة عند فقد الأحبة
كتبه : الشيخ علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
كشف الكربة عند فقد الأحبة
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر , الواحد الأحد ذي العزة والستر , لا ندّ له فيبارى , ولا شريك له فيدارى , كتب الفناء على أهل هذه الدار , وجعل الجنة عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار , قدر مقادير الخلائق وأقسامها , وبعث أمراضها وأسقامها , وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً , جعل للمحسنين الدرجات , وللمسيئين الدركات.
فحمداً لك اللهم مفرج الهموم ومنفس الكروب ومبدد الأشجان والأحزان والغموم , جعل بعد الشدة فرجاً وبعد الضر والضيق سعة ومخرجاً لم يُخلِ محنة من منحة ولا نقمة من نعمة ولا نكبة ورزية من هبة وعطية , نحمده على حلو القضاء ومرّه , ونعوذ به من سطواته ومكره , ونشكره على ما أنفذ من أمره , وعلى كل حال نحمده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة الصابرين وسلوان المصابين , الكريم الشكور , الرحيم الغفور , المنزه عن أن يظلم أو يجور , الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير , يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه أعرف الخلق به , وأقومهم بخشيته , وأنصحهم لأمته وأصبرهم لحكمه وأشكرهم على نعمه , أعلاهم عند الله منزلة وأعظمهم عند الله جاهاً , بعثه للإيمان منادياً , وفي مرضاته ساعياً , وبالمعروف آمراً وعن المنكر ناهياً , بلغ رسالة ربه وصدع بأمره , وتحمل ما لك يتحمله بشر سواه , وقام لله بالصبر حتى بلّغه رضاه , دعانا إلى الجنة وأرشدنا إلى إتباع السنة , وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً , من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً , وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً(164/1)
أثراً.
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأزواجه وذرياته الأخيار وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار.
{ يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتّقوا الله حقَّ تُقاتِهِ ولا تموتُنّ إلا وأَنتُم مسْلِمُونَ }
أما بعد : فإن الله جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان فلا مفر لأحد ولا أمان , كل من عليها فان , ساوى فيه بين الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و الحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت , والمسلم من استسلم للقضاء والقدر , والمؤمن من تيقن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.
أيها الأحبة ، كرب الزمان وفقد الأحبة خطب مؤلم , وحدث موجع , وأمر مهول مزعج , بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان نار تستعر , وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد إذ هو الريحانة للفؤاد والزينة بين العباد , لكن مع هذا نقول:
فلرب أمر محزن لك في عواقبه الرضا ***** ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
كم مغبوط بنعمة هي داؤه , ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه , كم من خير منشور وشر مستور , ورب محبوب في مكروه , ومكروه في محبوب:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
لا تكره المكروه عند حلوله ****** إن العواقب لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها ***** لله في طي المكاره كامنة
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور , ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي(164/2)
مشوبة بكدر , فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب , وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب , والعجب كل العجب في من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع ؟!
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع ..
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها ........ صفواً من الأقذار والأكدارِ
إنها على ذا وضعت , لا تخلو من بلية , ولا تصفو من محنة ورزية , لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم , والكبير إلا الهرم , والموجود إلا العدم ..
وعلى ذا مضى الناس , اجتماع وفرقة ....... وميت ومولود , وبشر وأحزان
والمرء رهن مصائب ما تنقضي ........ حتى يُوسّد جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في غيره .......... ومعجّل يلقى الردى في نفسه
هل رأيتم .. بل هل سمعتم بإنسانٍ على وجه هذه الأرض لم يصب بمصيبة دقت أو جلت ؟
الجواب معلوم : لا وألف لا , ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس.
كما قال أحد السلف ..
ثمانية لا بد منها على الفتى ........ ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم , واجتماع وفرقة ......... وعسر ويسر , ثم سقم وعافية
لهذا كله أحببت أن أجمع هذه الكلماتٍ لطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة , عنونتها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو "كشف الكربة عند فقد الأحبة".
راجياً من الملك الديان أن ينفعني بها وسائر الأخوان , ويجعلها تذكرة لأولي الألباب , وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب , تشرح صدره وتجلب صبره , وتهون خطبه وتخفف أمره ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره , والله تعالى هو المسؤول أن يجعل لي ولها القبول لا رب غيره ولا إله سواه هو المأمول , وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي , وأن لا يحرمني ثواب هذه الكلمات , فالمصاب حقاً من حرم الثواب , نفع الله بها وأثاب , إنه الكريم الوهاب , اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً , وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .
أولاً : مما يكشف الكربة عند(164/3)
فقد الأحبة :-
التأمل والتملّي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , ففيهما ما تقر به الأعين , وتسكن به القلوب وتطمئن له تبعاً لذلك الجوارح مما منحه الله , ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل , فلو قارن المكروب ما أخذ منه بما أعطى لا شك سيجد ما أعطي من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجل .. وكل ذلك عنده بحكمة وكل شيء عنده بمقدار
فلنقف أيها الأحبة مع آية في كتاب الله جل وعلا وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا وكفى بها واعظاً وكفى بها مسليةًً وكفى بها كاشفةًً للكروب..
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
"إنا لله وإنا إليه راجعون" علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة , بل إنه أبلغ علاج وأنفعه للعبد في آجله وعاجله فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل قد جعلها عنده عارية فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير فهل في ذلك ضير؟؟
لا .. والذي رفع السماء بلا عمد , ثم إن ما يؤخذ منك أيها العبد المصاب المبتلى محفوف بعدمين , عدم قبله فلم يكن شيئاً في يوم من الأيام , وعدم بعده فكان ثم لم يكن , فملكك له متعة مستودعة في زمن يسير ثم تعود إلى موجدها ومعيرها الحقيقي سبحانه وبحمده:
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق , لا بد أن يخلف الدنيا(164/4)
وراء ظهره يوماً ما , ويأتي ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال .. ولكن بالحسنات والسيئات نسأله حسن المآل .. هل علمت هذا أخي المصاب المكروب ؟
إن علمت حقاً فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أياً كان ؟ ثم كيف الأسى على أي مفقود أياً كان ؟
يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍ وغمٍ وكرب ومعها "إنا لله وإنا إليه راجعون" فهي الصلاة والرحمة والهدى ونعم العدلان ونعمت العلاوة , فهِم ذلك السلف حق الفهم رضي الله عنهم فاسمع ..
عبدالله بن مطرف لما مات ولده قال :
"والله لو أن الدنيا وما فيها لي فأخذها الله عز وجل مني ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً , فكيف بالصلاة والرحمة والهدى ؟
إذا مالقيت الله عني راضياً ........ فإن شفاء النفس فيما هنالك
ثم اسمع معي لبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان إن وعيتها كشِف الكرب وكأنه ما كان ... روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها , إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها " قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم عزم الله علي فقلتها .. فما الخلف؟ .. قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله)
صلى الله عليه الله جل جلاله ....... ما لاح نور في البروق اللمّعِ
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همٍ ولا حزن ولا أذىً ولا غم , حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه ).
وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه(164/5)
قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاءً؟ قال:
( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل , يبتلى الناس على قدر دينهم , فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه , ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه , وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة )
وفي سنن الترمذي :
(ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله , حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة )
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) يشير إلى قوله تعالى:
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
( أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبيٍ لها فقالت : يا رسول الله ادعُ الله له فلقد دفنت ثلاثةً قبله , فقال صلى الله عليه وسلم : " دفنت ثلاثة ؟ " مستعظماً أمرها ... قالت : نعم .. قال : " لقد احتضرتِ بحضارٍ شديدٍ من النار).
أي لقد احتميتِ بحمىً عظيمٍ من النار فما أعظم الأجر وما أكمل الثواب وما أجدر أن يُستعذب العذاب في طلب هذا الثواب.
وجاء في الحديث الصحيح كما في السلسلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته : "أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم .. فيقول وهو أعلم : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .. فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع،فيقول الله جل وعلا : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
يالها من بشارة بالموت على الإيمان لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد من عبيده لابد لذلك العبد من سكنى هذا البيت في يومٍ من الأيام ... وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه:
( أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه(164/6)
وسلم ومعه ابن له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتحبه ؟ " فقال : يا رسول الله , أحبك الله كما أحبه .. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما فعل ابن فلان؟ فقالوا : يا رسول الله مات , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه : " أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك ؟ " فقال رجل : يا رسول الله , أله خاصة أم لكلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل لكلكم ).
أيها الأحبة فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم ذلك فهماً عميقاً فتمنوا أن يقدموا أولادهم وأحبتهم ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول : لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته , حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه الله تعالى مني .. أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وكان للمحدث إبراهيم الحربيّ عليه رحمة الله ابن له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقّنه من الفقه جانباً كبيراً , ثم مات الولد , قال محمد بن خلف : جئت أعزيه فقال :
الحمد لله والله لقد كنت على حبي له أشتهي موته .. قلت له : يا أبا إسحاق , أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبيٍ قد حفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه ؟ قال : نعم , أو يخفى عليك أجر تقديمه ؟
ثم قال : وفوق ذلك , فلقد رأيت في منامي وكأن القيامة قامت وكأن صبياناً في أيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم وكان اليوم حاراً شديد حرّه.
قال فقلت لأحدهم : أسقني من هذا الماء .. قال : فنظر إلي وقال : لست أبي .. قال قلت : من أنتم ؟ قال : نحن الصبية الذين متنا واحتسبنا آباؤنا .. ننتظرهم لنستقبلهم فنسقيهم الماء , قال : فلذلك اشتهيت موته والحمد لله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( يقول الله عز وجل : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم(164/7)
احتسبه إلا الجنة).
ياله من جزاءٍ فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا وأنت حسبنا ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أخي المصاب , أخي المكروب .. هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدمت بين يديك فلعل فيها لك سلوى , ولعلها كشف لكربتك , ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك فاحمد الله وأحسن نيتك واحتسب مصيبتك وارضَ بما قسمه الله لك فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعملٍ .. فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما يبتليك حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت من الله , فاحمد الله , فحمداً لله حمداً , وشكراً لله شكراً ورضاً بقضائه رضاً , ولهجاً بإنا لله وإنا إليه راجعون .. فهي الصلاة والرحمة والهدى ..
يا صاحب الكرب إن الكرب منفرج ...أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً ... بصاحبه.........لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يحدث بعد الكرب ميسرة..........لا تجزعن فإن الكاشف الله
إذا بليت فثق بالله وارضَ به ..........إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله مالك غير الله من أحدٍ........... فحسبك الله , في كلٍ لك الله
ثانياً : ومن وسائل كشف الكربة :-
تذكر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكل مصيبةٍ دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون , فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى القيامة وبموته انقطعت النبوات وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين فهو أول انقطاع عرى الدين أو نقصانه.
وفيه غاية التسلية عن كل مصيبةٍ تصيب العبد أو تحل بأمة الإسلام جمعاء ... وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب , فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسة :
(إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب).
إي والله ! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو(164/8)
صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم , فهل شعرنا بهذا ونحن نستشعر موت النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ما ذا لو فقد الرجل أسرته كلها وقد احترق فؤاده وأدمي قلبه وأنبتت دموعه الأسى ثم تزوج بعد فترة ثم رزق بأبناء وعقب سنة مات أحد أبنائه , فكيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول ؟
أليس الخطب أهون ؟ أليست المصيبة أقل ؟ بلى ! فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها يخاطبنا فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجه :
(يا أيها الناس , أيما أحد من الناس –أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري , فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
ولو تأملنا كلمة "فليتعزى" لوجدنا فيها العلاج والدواء إنها حروف يستطب بها الفؤاد وتربّ بها الأكباد , ماذا لو فقد إنسان أبويه في حادث سيارة ؟ أفلا يظل أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر ؟ إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ومسلم:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون : لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين .. فأين هذا الإحساس وأين بربكم هذا الشعور ؟
إن فقد النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين وإن أي إنسانٍ فقدته ليهون أمام فقد النبي صلى الله عليه وسلم .. يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد ؟ كلا ما إليه من سبيلُ.
هل فقدت أمك يوماً ما ؟ وهل تذكرت عند موتها وأنت تتألم لموتها أنها بإذن الله أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا ورعتك وربتك.
فهل تنسى في خضم ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد(164/9)
صلى الله عليه وسلم من ظلمات الظلالة إلى نور الهدى والتوحيد؟ وهذا بإذن الله إنقاذ لك من الخلود في النار , فهل بحنان أمك وعطفها ورعايتها تنقذ من الخلود في النار ؟ لا والله .. فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمه وعطفها ومتن في يوم واحد ما ينبغي أن يحزن عليهن أكثر من حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقدت ابنك , فإذا فقدت حبيبك , فإذا فقدت صديقك فتألمت وبكيت ثم زاد ألمك وزاد بكاؤك وزادت لوعتك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبره وصلته , فاعلم والذي لا إله إلا هو أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدى ونور تدخلك بعون الله جنات عرضها السموات والأرض لتخلد فيها وتنعم.
نعم , نمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر.
أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه ؟ ونتعزى به عن فراق من سواه ونذكره فنتمسك بسنته , ونمضي على شرعته , لننعم بعدها بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. ولعل من فقدته في ركبهم وعندها يجمع الله الشتيتين.
أيها المصاب تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم فتهون مصيبتك.
ثم تساءل : ماذا لولا ما حباك الله به من هديه وسنته ؟ ماذا لو دخلت النار أجارك الله ؟ ماذا لو حرمت الجنة أعاذك الله ؟ ماذا لو عُذّبت في القبر حماك الله؟ من الذي ينفعك ؟ ومن الذي ينقذك ؟ الأحباب ؟ الأصحاب ؟ الأبناء ؟ الأحفاد ؟ لا والله .. إلا الإخلاص في إتباع هديه صلى الله عليه وسلم ..
فاصبر لكل مصيبةٍ وتجلّد......... واعلم بأن المرء غير مخلّدِ
واصبر كما صبر الكرام فإنها...... نوبٌ تنوب اليوم , تُكشف في غدِ
أو ما ترى أن المصائب جمة ؟..... وترى المنية للعباد بمرصدِ
من لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ ؟ ... هذا سبيلٌ لست عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت مصيبةً ومصابها ....... فاذكر مصابك بالنبي(164/10)
محمدِ
ثالثاً : من وسائل كشف الكربة :-
أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاءً وتبديداً لجميع الكرب والأدواء:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). كم من عليلٍ قد تخطاه الردى ....... فنجا ومات طبيبه والعوّدُ
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله .. ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المصاب.. هذه إحدى المكروبات المصابات تقول عند مصيبتها بأحد أبنائها :
(الحمد لله على السراء والضراء والعافية والبلاء والله ما أحب تأخير ما عجّل الله , ولا تعجيل ما أخّر الله , وكل ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
فما أبرم الله لم ينتقض ...... وما نقض الله لم يبرمِ
ومات ابنٌ لأنس رضي الله عنه فقال أنس عند قبره :
(الحمد لله .. اللهم عبدك وابن عبدك وقد ردّ إليك , فارأف به وارحمه وجافِِ الأرض عن بدنه , وافتح أبواب السماء لروحه , وتقبله بقبول حسن " ثم انصرف , فأكل وشرب وادّهن وأصاب من أهله) و لسان حاله : ( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد , فقيل له:
( إنك امرؤٌ لا يبقى لك ولد .. فقال : الحمد لله كل ذلك في كتاب الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ويدّخرهم في دار البقاء) .. أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه ..
وتموت ابنة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكان راكباً في طريقه لمكة ويأتيه الخبر فنزل عن دابته وصلى(164/11)
ركعتين , ثم رفع رأسه للسماء وقال:
(الحمد لله وإنا لله , عورة سترها الله , ومؤونة كفاها الله , وأجر ساقه الله) ... ثم ركب ومضى في رعاية الله .. والله يفعل ما يشاء , فكِلِ الأمور إلى القضاء ..
ومات لعبدالله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد والأمر كما تعلمون مهول ومزعج وفظيع , فكيف استقبله هذا الرجل ؟ قال: الحمد لله , إني مسلم مُسلّم ...
يمضي الصغير إذا انقضت أيامه ........ إثر الكبير , ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم .............كالزرع منه قائمٌ وحصيدٌ
وفي سلوة الحزين يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت:
(يا أبتي , إن في الله عوضاً عن فقدك , وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة .. ثم قالت : ربي لك الحمد , اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد , مخشوشن المهاد , غنياً عما في أيدي العباد , فقيراً إلى ما في يدك يا جواد , وأنت يا ربي خير من نزل بك المرملون , واستغنى بفضلك المقلون , وولج في سعة رحمتك المذنبون , اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك , ومهاده جنتك)
ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة ..
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها ....... صبر الكريم فإن ذلك أسلمُ
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها ...... ثوب السكوت فإن ذلك أسلمُ
لا تشكون إلى العباد فإنما ......... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعدما دفنه فيقول:
(كل ذلك في كتاب , الحمد لله وإنا لله وإنا إليه راجعون , اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه , اللهم فحقق رجائي فيه , وآمن خوفي عليه) ... وحاله :
أبكيه ثم أقول معتذراً له ......... وفِّقت حين تركت ألأم دارِ
جاورت أعدائي وجاور ربه ...... شتان بين جواره وجواري
يا كوكباً ما كان أقصر عمره ....... وكذاك عمر كواكب الأسحار
درّت عليك من الغمام مراضع ....... وتكنفتك من النجوم جواري
فيا أيها المصاب , يا أيها المكروب ,(164/12)
المصيبة واقعة فوطّن نفسك على أن كل مصيبة تأتي فهي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره , فسلم الأمر لله , فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ أو يضروك بشيء , لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتِب لك أو عليك .. ولو كان لرجل مثل أحُدٍ ذهباً ينفقه في سبيل الله , لم يقبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره , ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .. وإن مات على غير هذا أدخل النار والعياذ بالله.
ما قد قُضِي يا نفس فاصطبري له ..... ولكِ الأمان من الذي لم يُقدرِ
ثم اعلمي أن المقدّر كائن ............ حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري
رابعاً : ومما يكشف الكربة :-
الاستعانة بالله والاتكال عليه والرضا بقضائه والتسليم لقدره , روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري ؟ قالوا : بلى .. قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فضحك ثم قال : " أتدرون ممّ ضحكت ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم .. قال صلى الله عليه وسلم : " عجبت للمؤمن , إن الله عز وجل لا يقضي قضاء إلا كان خيراً له).
فليعلم المكروب أن حظه من المصيبة ما يحدث له , فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط , من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر , ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله , فقضاء الله نافذ كالسيف وأمره واقع لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه , ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه وسخطه , جعلنا الله من الراضين بقضائه وقدره.
ولنعش أيها الأحبة مع الراضين دقائق غالية قليلة، لنتخذهم أسوة وقدوة ومثلاً من باب:
سيروا كما ساروا لتجنوا ما جنوا ....... وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
قال أبو الحسن المدائني عليه رحمة الله:
دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك في مرضه رحمهم الله(164/13)
جميعاً فقال : يا بني كيف تجدك ؟
قال : تجدني أبتاه في الموت.
قال : يا بني , لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك.
فقال الابن : يا أبتي , والله لأن يكون ما تحبه أحب إلي من أن يكون ما أحبه.
ثم مات عليه رحمة الله.
ويروي الإمام أحمد في الزهد عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر رحمه الله حين دفن عبد الملك ابنه , قد استوى قائماً عند القبر وأحاط به الناس فقال:
والله يا بني , لقد كنت باراً بأبيك , والله ما زلت مسروراً بك مذ وهبك الله لي إلى أن استودعك الله في المنزل الذي صيّرك الله إليه , فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك بأحسن عملك , ورحم كل شافعٍ يشفع لك بخير شاهد أو غائبٍ , رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمر الله والحمد لله رب العالمين , وإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انصرف ورجع إلى مجلسه.
وكان قبل وفاة عبد الملك قد هلك أخوه سهل وهو من أحب أخوته , وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه , كل ذلك في أوقات متتابعة , فلما استوى في مجلسه جاء الربيع بن ثبرة عليه رحمة الله فقال:
عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين , ما رأيت أحداً أصيب بأعظم من مصيبتك , ما رأيت مثل ابنك ابناً , ولا مثل أخيك أخاً , ولا مثل مولاك مولىً قط.
فطأطأ رأسه عمر رحمه الله، فقال أحد الحاضرين : لقد هيّجت عليه.
فقال : كيف قلت يا ربيع ؟ أعد.
قال : فأعدت عليه , فقال : لا والذي قضى عليهم الموت , ما أحب أن شيئاً كان من ذلك لم يكن.
فيا أيها الكون منه استمع ........ ويا أذن الدهر عنه افهمي
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له يحيى، فلما نزل بقبره قال له رجل:
والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه.
فقال والده : وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟.
فلله ما أحسن فهمهم , ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم .. وثقتهم بما أعطى الله عز وجل من ثواب للصابرين ... ولا ينُسى إن(164/14)
نُسِي أمر يوم وقع الطاعون بأرض الشام كما في السير للذهبي فخطب الناس عمرو رضي الله عنه فقال:
إن هذا الطاعون رجز ففروا منه بالأودية والشعاب.
فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه فغضب وجاء يجر ثوبه ونعلاه في يده قائلاً : لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا , الطاعون رحمة ربكم ودعوة نبيكم , يستشهد الله به أنفسكم ويزكي أعمالكم.
فبلغ ذلك معاذاً رضي الله عنه وهو يتوق للشهادة فقال :
اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه.
لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد, فتصاب ابنتاه الاثنتان وتموتان فدفنهما بقبرٍ واحد وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن وهو من أعز أبنائه.
فقال معاذا لابنه: كيف تجدك؟
قال : أبتاه , الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
فقال معاذ رضي الله عنه : ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ثم توفي رحمه الله ,ثم أصاب الطاعون كف معاذ رضي الله عنه وأرضاه , فجعل يقبلها ويقول:
لهيَ أحب إليّ من حمر النعم , ثم يغشى عليه , فإذا أسري عنه قال:
يارب غم غمك واخنق خنقك فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك.
ثم لقي الله عز وجل بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً فماكان إلا الرضا والتسليم بقضائه وقدره.
وقبل ذلك لمعاذ يروى عن المعافى بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غن قال:
دخلنا على معاذ رضي الله عنه وهو قاعد عند رأس ابنه وهو يجود بنفسه فما ملكنا أنفسنا إلا أن ذرفت أعيننا وانتحب بعضنا فزجره معاذ وقال:
صَه, فو الله لأن يعلم الله برضاي بهذا أحب إلي من كل غزاةٍ غزوتها, من كان عليه عزيزاً وبه ضنيناً فصبر على مصيبته واحتسبه أبدل الله الميت داراً خيراً من داره وقراراً خيراً من قراره , وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان.
قال : فما برحنا حتى قضى الغلام فقام وغسله وحنّطه و كفنه وصلينا عليه ثم نزل في قبره ووضعه وسوّى عليه التراب ثم رجع إلى مجلسه فدعى بدهن فادّهن وبكحل فاكتحل(164/15)
وببردة جميلة فلبسها , وأكثر من التبسم ينوي ما ينوي, ثم قال:
إنا لله وإنا إليه راجعون , في الله خلف من كل هالك , وعزاءٌ من كل مصيبة , ولله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولسان حاله :
كل ما كان من قضاء فيحلو ....... بفؤادي نزوله ويطيبُ
أيها الأحبة , لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء , نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.
يقول أبو علي رحمه الله :
صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً إلا يوم مات ولده علي رحمه الله , فقلت : ما هذا ؟ قال : إن الله سبحانه أحب أمراً فأحببت أن أحب ما أحب الله , وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وضحك أحد السلف يوم مات ابنه فقيل:
أتضحك في مثل هذا الحال ؟ قال : نعم , أردت أن أرغم الشيطان , وقضى الله القضاء فأحب أن أرضى بقضائه فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ويشتكي ابن لعبد الله بن عمر رضي الله عنهم فيشتد وجده عليه , حتى قال بعض القوم:
لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث , وشاء الله فمات هذا الغلام فخرج عمر في جنازته , وما أبدى رجل سروراً إلا ابن عمر , فقيل:
ما هذا ؟ قد خشينا عليك يابن عمر, قال: إنما تلك كانت رحمة به , فلما وقع أمر الله رضينا به.
لا تعجبوا ولا تدهشوا , إنه ابن عمر بن الخطاب والفرع للأصل ينسب رضي الله عن الجميع الذي قال يوماً ما : ما من أهلٍ ولا مالٍ ولا ولدٍ إلا وأنا أحب أن أقول عليه إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبدالله بن عمر فإني أرجو أن يطول في عمره.
وذلك لعلمه بمنفعته للناس والأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى.
ويروى أن شريحاً القاضي مات له صبي فجهزه وغسله ودفنه بالليل ولم يشعر به أحد ولما جلس للقضاء من غدٍ جاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه فقال:
الحمد لله , الآن فقد الأنين والوجع، ففرح الناس وظنوا أنه قد عوفي من مرضه.
فقال وهو يضحك: احتسبناه في جنب الله , وإنا لله وإنا إليه(164/16)
راجعون.
ويذكر ابن الجزي عليه رحمة الله في عيون الحكايات قال الأصمعي:
خرجت أنا وصديقٍ لي إلى البادية فظللنا الطريق فإذا نحن بخيمةٍ عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا فإذا عجوز ترد السلام ثم قالت : من أنتم ؟
قلنا : قوم ضللنا الطريق وأنسنا بكم وقوم جياع.
فقالت : ولوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا وجلسنا على فراشٍ ألقته لنا وإذا ببعير مقبل عليه راكب وإذا بها تقول:
أسأل الله بركة المقبل , أما البعير فبعير ولدي وأما راكبه فليس بولدي.
وجاء الراكب فقال : السلام عليك يا أم عقيل , أعظم الله أجرك في عقيل.
فقالت : ويحك , أو قد مات عقيل ؟
قال : نعم .. قالت : ما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر.
فقالت له : انزل .. ودفعت له كبشاً ونحن مندهشون، فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام فجعلنا نتعجب من صبرها فلما فرغنا قالت:
هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً؟
قلنا : نعم .. قالت : فاقرؤوا علي آياتٍ أتعزى بها عن ابني.
فقلت : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * )أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). قالت : ءآلله إنها لفي كتاب الله ؟ قلت : والله إنها لفي كتاب الله.
قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون , صبراً جميلاً وعند الله أحتسب عقيلاً اللهم إني فعلت ما أمرتن بي به فأنجز لي ما وعدتني , ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
قال : فخرجنا ونحن نقول : ما أكمل منها ولا أجزل لما علمت أن الموت لا دافع له و لا محيص عنه , وإن الجزع لا يجدي نفعاً وأن البكاء لا يرد هالكاً , رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم و احتسبت ابنها عند الله عز وجل ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.
فما أجمل الرضى بقضاء الله في كشف محن(164/17)
المصاب وكرباته , هذه سجايا السلف صبر واحتساب وتجلد وتحمل ورضى واسترجاع وبعد عن التسخط والجزع والتذمر عند المصاب ..
لهم قدرهم باعتبار الرجال ........ وسمعتهم في ذرى الأنجم ِ
أنتم كهم ومن يشابه أباه فما ظلم .
ولنعلم أن البكاء الذي لا صوت معه ولا تسخط لا يعارض الرضا , فأشد الناس حرصاً على رضا مولاهم هم الأنبياء , وأرضى الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه إبراهيم رأفة ورحمة منه للولد ورقة عليه وقلبه ممتلئ بالرضا ولسانه مشتغل بحمد الله وذكره وهذا أكمل هديٍ وأتمه , فإنه صلى الله عليه وسلم حملته الرحمة بالطفل على البكاء , ومحبة الله على الرضا وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان، قال عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله ؟
قال عليه الصلاة والسلام: يابن عوف , إنها رحمة , إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم).
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت نفسه تقعقع , ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد:ما هذا يا رسول الله؟
قال:هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده , وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
أيها الأحبة , الله يقضي , فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط , فمن استعان بالله وشكره في السراء والضراء ورضي بقدر الله انكشف كربه ورضيت نفسه فهو بحياة طيبة على كل حال , إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له , وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له:
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو(164/18)
حَظٍّ عَظِيمٍ).
خامساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها , فالجازع يزيد مصيبته ويشمت أعداءه ويسوء أصدقاءه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه , أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه , هذا هو الثبات في الأمر نسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.
يقول بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام , ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوّ البهائم، و إنما الصبر عند الصدمة الأولى..:
إذا أنت لم تسلُ اصطباراً و حسبة ....... سلوت على الأيام مثل البهائم
وكل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره , فإما باختيار وإما باضطرار , فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بعاقبة الصبر وإنه يحمد عليه ويذم في المقابل على الجزع ويعلم أنه إذا لم يصبر لم يُعد عليه الجزع فائتاً ولم ينتزع منه مكروهاً والمقدور لا حيلة في دفعه وما لم يكتب لا حيلة في تحصيله.
فالجزع ضره أقرب من نفعه فما دام أن آخر الأمر الصبر والعبد معه غير محمود , فما أحسن أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه كاشف لكربه لو تأمل ذلك.
روي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج فيوفون أجورهم بالموازين , فيؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب الأجر عليه صباً بغير حساب فقرأ قوله تعالى :
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وفي الترمذي مرفوعاً: ( يود أناس لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء).
فسبحان من يرحم ببلائه :
قد يُنعِم الله(164/19)
بالبلوى وإن عظمت .... ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ
هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها فجاؤوا يعزونها ويقولون:
يا أمة الله , اتقي الله واصبري.
فقالت : الحمد لله و إنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
والجزع وإن بلغ غايته فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب , فإنه استسلم للقدر رغم أنفه وهذا ليس من الصبر.
يذكر أن أعرابياً مات له ولد فبكى عليه بكاءً عظيماً وجزع عليه جزعاً شديداً فلما همّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر فقال :
إن أفق من حزنٍ هاج حزن ......... ففؤادي ما له اليوم سكن
فكما تبلى وجوه في الثرى ...........فكذا يبلى عليهن الحزن
فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.
سادساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت , وإنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً , فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً , ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره , ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسُن عزاؤه عند نزول البلاء: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
سابعاً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بتفاوت المصائب , فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين فهي هينة سهلة يسيرة , لأن المصيبة في الدين هي أعظم مصيبة , ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت , فإذا حصّلت الأدنى من المصائب فتسلّ بذلك عما هو أعلى وأعظم واحمد الله على ذلك.
قال السفاريني عليه رحمة الله : المصائب تتفاوت , فأعظمها مصيبة الدين، نعوذ بالله من ذلك فإنها أعظم مصيبة, والمسلوب من سُلِب دينه.
وكل كسرٍ لعل الله جابره ......... وما لكسر قناة الدين جبرانُ
فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب و الخطايا ومن فوات الجمعة والجماعة(164/20)
وأوقات الطاعة وولوغٍ في المحرمات ومن انتهاكٍ للحرمات , وانتهاك لحدود الله وتجاوز لها فاعلم أنه المصاب حقاً , ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يحس بألم المصيبة ولا يشعر:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ). وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس ثم في الأهل ثم في المال , وكلها تتفاوت وتتدرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وهذا في غاية الخسة كما تعلمون.
ولذا يقول شريح عليه رحمة الله: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات , أحمده إذ لم يجعلها أعظم مما هي عليه وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب , وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب , وأحمده أن لم يجعلها في ديني فإن من كل شيءٍ عوضاً إلا الدين).
من كل شيءٍ إذا ضيّعته عوض ......... وما من الدين إن ضيعت من عوضِ
ثامناً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بأن الدنيا فانية زائلة , وكل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول , لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق , إنها ألم يخفيه أمل , وأمل يحققه بإذن الله عمل , وعمل يقطعه الأجل , وعندها يجزى كل امرئٍ بما فعل , إنها الدنيا إن حلت أوحَلت , وكست أوكست , ودنت أودنت , وكم من ملكٍ رفعت له علامات , فلما علا مات.
هي الأيام لا يبقى عزيز ......... وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليك نجم ...... وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً , وإن سرّت يوماً أحزنت شهوراً , وإن متعت كثيراً منعت طويلاً , لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور .
اليوم عندك دلّها وحديثها ....... وغداً لغيرك كفها والمعصمُ
قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ(164/21)
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). ما أدق التعبير القرآني ! عندما يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم توزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً , لكنها حين تقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل لعبة أطفال.
ثم تأتي الصورة القرآنية لتصور الدنيا كزرع أعجب الزارع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد , فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً وينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية.
وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن ؟ يستحق شأنها أن يحسب حسابه وينظر إليه ويستعد له , وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا وهي لا تنتهي إلى حطامٍ كالنبات البالغ أجله , بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) فإنما يستمد قوامه من الغرور الخادع يلهي وينسي وينتهي بأهله إلى غرور خادع , فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على الغرور الخادع ليحقق عقيدته ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها , فما هي إلا حطام أو كظل وسراب.
روى الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن قال : قال صلى الله عليه وسلم:
(مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).
أحلام نوم , أو كظلٍ زائلِ ....... إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ
يقول بعض أهل العلم: (لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه فيما بسط لنا منها , ذلك لم يرضَ الله لنبيه بالدنيا , فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبه له أحب إلي من أكون كما كره له وسخط).
وأجمل بقول ابن القيم من قول يوم قال يشبه الدنيا(164/22)
يقول: (أشبه الأشياء بالدنيا الظل , تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلصٍ وانقباض , تتبعه لتدركه فلا تلحقه , وأشبه الأشياء بالدنيا السراب): (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره , فإذا استيقظ علم ذلك أن لا حقيقة له.
ترجو البقاء بدارٍ لا ثبات لها ......... فهل سمعت بظلٍ غير منتقل ؟
حياتها رصد وشربها كدر ............ وعيشها نكدٌ وملكها دولُ
من ذا الذي قد نال راحة فكره ؟ ..... في عسره من عمره أو يسره ؟
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى ........ أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قلّه ............. ويظل هذا ناصباً في كثره
سُن البلا ولكل شملٍ فرقة ............ يُرمى بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ ........ حكم القضاء بحلوّه وبمرّه
أوَ ما ترى الرجل العزيز بجنده ....... رهن الهموم على جلالة قدره ؟
فيسرّه خيرٌ وفي أعقابه............... همٌ تضيق به جوانب صدره
وأخو التجارة لاهث متفكّر .......... مما يلاقي في خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الر .... جل الوحيد كمينة في صدره
ولرب طالب راحة في نومه ......... جاءته أحلام فهامَ بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى ....... غصص الفطام تروعه في صغره
ولقد خبرت الطير في أوكارها ....... فوجدت منها ما يُصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في برّه ......... والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميت ............. فاستخرجته من قرارة قبره
تالله لو عاش الفتى في دهره ........... ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذة ............. متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله .......... كلا ولا(164/23)
تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله في أن يفي ......... بمبيتِ أول ليلة في قبره
كيف الفعال أيا أخي في ما ترى ؟ .... صبراً على حلو القضاء ومرّه
صبراً ! فغمسة في الجنة تنسي كل شقاء وهم وبلاء , وغمسة في النار والعياذ بالله تنسي كل لذة ونعيم.
لكل شيء إذا ما تم نقصان ....... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ..... من سرّه زمن ساءته أزمان
كم من مؤمل أدركه الموت قبل تحقيق أمله , وكم من زرع عاش , ومات زارعه.
لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي رحمه الله وضع رأسه في حجر أخيه ثم أغمي عليه فقطرت دمعة من دموع أخيه على خده فأفاق من غشيته متمثلاً بقول الشاعر:
يؤمل دنيا لتبقى له ............ فمات المؤمل قبل الأمل
وبات يروّي أصول النخيل ..... فعاش النخيل ومات الرجل
ثم قال لأخيه :
أخيّين كنا فرق الله بيننا ...... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهر ؟
ثم لقي الله عز وجل.
هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.
إنما الدنيا هبات ...... وعوارٍ مستردّة
شدة بعد رخاءٍ ........ورخاءٌ بعد شدة
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
تذكر ما في البلاء من لطائف وفوائد , منها على سبيل المثال:
أولاً: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب إلى الله عز وجل , فالتوبة لله تعالى أعظم عزاء له من كل شيء.
يقول بعض السلف : إن العبد ليصاب بالمصيبة فيذكر ذنوبه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب دمعاً من خشية الله فيغفر الله عز وجل له.
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل وذلك ملاحظ في المصائب , وذلك والله خير من كثيرٍ من طاعات الطائعين فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة له والدعاء وهذا من أعظم فوائد البلاء، فببعض الأثر : إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه ودعاءه.
رابعاً: البلاء يقطع(164/24)
قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ,ويوجب له الإقبال على الخالق الذي لا شريك له، فالمشركون وهم مشركون حكى الله عنهم إخلاص الدعاء عند الشدائد: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فكيف بالمؤمنين ؟
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رق قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم .
وأخيرا: معرفة قيمة وقدر العافية , فإن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدها , فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها , وبضدها تتميز الأشياء , فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به وانشرح صدره وانفرج همه بإذن ربه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :
لطيف التعزية عند فقد الأعزة , فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله , ويغدو صبره عليها سهلاً يسيراً فإن المؤمن كما تعلمون قليل بنفسه كثير بإخوانه ضعيف بنفسه قوي بإخوانه شديد بأعوانه فإذا وجد هذا يعزيه وهذا يسليه سهلت عليه الأمور العظام وكشف ما به بإذن الله رب السماء والأرض.
ولذا فإن الشارع بحكمته البالغة شرع التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف وللميت بالرحمة والمغفرة.
فعزاء الله الذي نتعزى به دائماً : إنا لله وإنا إليه راجعون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة عزى أصحابه عند نزول المصائب وواساهم , كما في السنة الصحيحة , والسلف الصالح اقتدوا به في ذلك , فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة و أقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، فخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم:
وكل خيرٍ باتباع من سلف ....... وكل شرٍ في ابتداع من خلف
في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
دخل رسول الله صلى الله على أبي سلمة وقد شهق بصره فأغمضه ثم قال:
إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله فقال:
لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير, فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم(164/25)
قال - واسمعوا إلى العزاء -:
اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين و اغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونوّر له فيه.
فدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة .
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
(أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام تدعوه وتخبره أن لها صبياً في الموت , فقال: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى , فلتصبر ولتحتسب).
وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة).
وروي عن علي رضي الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب:
(إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور , وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور).
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً فبعث إليه الشافعي يقول له:
(يا أخي عزّ نفسك بما تعزي به غيرك , واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك , واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور وحرمان أجر , فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ ألهمك الله عند المصائب صبراً , وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً , ثم أنشد قائلاً:
إني معزيك لا إني على ثقةٍ ........من الحياة ولكن سنة الدينِ
فلا المعزَّى بباقٍ بعد ميته ......... ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حينِ
ويشاء الله عز وجل فيموت بعدها ابن للشافعي رحمه الله تعالى , الذي كان يعزِّي أصبح يعزَّى , جاءوا يعزونه فأنشد قائلاً :
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ......... رزية مالٍ أو فراق حبيب
ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يسمع بمثله , فجلس وجاء الناس يعزونه فأمر ألا يحجب منه أحد , فأكثر الناس في التعازي واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة ثم أجمعوا بعد(164/26)
ذلك أنهم لم يروا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية ابن شبة رحمه الله يوم قال:
أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً وأعقبك خيراً و لا أجهد بلاءك بنقمة ولا نزع منك نعمة , ثواب الله خير لك منها , ورحمة الله خير لها منك , أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية .
ويقول أحد المعزين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ توفيت أمه , قال له:
إن كانت وفاته عظة لك فأعظم الله أجرك على موتها , وإن لم تكن لك عظة , فأعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال : أيها القاضي , أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة ولم يرد عليك أحد حكماً, فكيف بحكم واحد عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به ؟، فسري عنه وكشف ما به وقال : تعزيت تعزيت.
وعزى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابن له مات فقال:
أيسرك وهو بلية وفتنة ؟ ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى ؟
يشير إلى قول الله عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
ويشير بالثانية إلى قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
فلله ما أعطى ولله ما حوى .......... وليس لأيام الرزية كالصبرِ
فحسبك منهم موحشاً فقد برهم .... وحسبك منهم مسلياً طلب الأجرِ
وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لعمر بن عبد العزيز ورجاء:
إني لأجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة.
فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر فهو أقرب وسيلة إلى الله , وليس الجزع بمحيٍ من مات وبالله العصمة فلا تحبطن أجرك، قال فنظر إلى رجاء.
فقال رجاء: اقضها يا أمير المؤمنين فما بذاك من بأس فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ولم يقل ما يسخط ربه , فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع.
فقال عمر(164/27)
لرجاء معاتباً: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين.
فقال: دعه يا عمر يقضي من بكائه وطراً , فلو لم يخرج من صدره ما ترى لخفت عليه.
ثم دعا بماء وغسل وجهه ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي، ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزاه فقال: عليكم نزل الكتاب وأنتم أعرف به منا , وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا, ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه ولا نذكرك شيئاً قد تنساه لكن نعزيك ونواسيك ثم أنشد:
وهون ما ألقى من الوجد أنني ...... أجاوره في قبره اليوم أو غداً
قال: أعد فأعاد فقال: يا غلام هات الغداء، فأكل وشرب وحمد الله وسري عنه.
ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس وقد توفي له ولد اسمه العباس فعزاه ثم قال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما ........ صبر الرعية عند صبر الرأسِ
خير من العباس أجرك بعده ........ والله خير منك للعباسِ
ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة فجزع فجاء أخ له فقال : عظم الله أجرك وأحسن الله عزاءك، ثم أنشد:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى ........ كأنك لا تظن الموت حقاً ؟
ألا يابن الذين مضوا وبادوا .......... أما والله ما ذهبوا لتبقى
فكشف ما به.
ومات لرجل من السلف ولد فعزاه سفيان بن عيينة رحمه الله وهو في كرب شديد وعزاه آخرون فلم يكشف ما به, حتى جاء الفضيل فقال:
يا هذا , أرأيت لو كنت وابنك في سجن فأفرج عن ابنك قبلك أو ما كنت تفرح؟ قال: بلى.
قال : فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك.
قال : فسري عن الرجل وانكشف همه وقال : تعزيت.
وأخيراً فإن من ألطف وقوي ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة رضوان الله عليهم ما قاله ابن سناء الملك وقد مات لأحد أقاربه ميت فجزع عليه جزعاً شديداً فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله, إلى متى هذا الجزع الصبياني و الهلع النسواني؟
إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك بل يميت دينك ويسلب هدوءك(164/28)
ويشمت فيك عدوك , أما على هذا مضى الزمان ؟ وعلى هذا درج الثقلان وللخراب بني العمران وللانتقال سكن السكان وللموت ولد
المولود وللعدم خلق الوجود أتحب أن تبقى ويبقى من تحب ؟ فذا خلود.
إنا لله وإنا إليه راجعون أفضل قول الصابر وفي سبيل الله وإلى رحمة الله من حسب في أهل المقابر , أجزل الله أجرك وأحيا على دفينك صبرك , ووسع لهذه النازلة صدرك , وأنزل على قلبك السكينة ربك , وخفف عن قلبك وطيئة كربك , لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب , وجمع الله عليك النعمتين , نعمة الجلد ونعمة الاحتساب.
إني والله لشريكك في المصاب ونصيبي منه لأكثر ودمع عيني لأغزر ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته , ولكنني في ساحة الصبر أجمل.
أخي المصاب , لعل في ما سمعته عزاء لك , فلست أول ولا آخر مصاب , جعل الله التعزية لك لا عنك , والخلف عليك لا منك , في الله عزاء من كل هالك , وخلف من كل فائت , وعوض من كل مصيبة , وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها:
لا بد من فقدٍ ومن فاقدِ ........ هيهات ما في الناس من خالدِ
ولا يفوت هنا أن أنبه في هذا لما يلي :
أولاً:- ينبغي تجنب الجلوس عند أهل الميت للتعزية ؛ لأن في ذلك تجديدأً للحزن وتكليفاً للمعزى ومخالفة لهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم , ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال:
كنا نعد الاجتماع لأهل الميت بعد دفنه من النياحة.
فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شغلهم وحوائجهم فمن صادفهم عزاهم في المسجد , في العمل , في الشارع , في السوق، وهكذا.
ثانياً:- إن ما يفعل اليوم في التعزية من نصب الخيام للجلوس فيها للقيل والقال وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للشرع , يقول ابن القيم عليه رحمة الله:
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة.
ثالثاً:- ألا يحدّ على ميتٍ فوق ثلاثة(164/29)
أيام كما يفعل كثير من النساء , إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً , فليعلم كما في الصحيح: عليكم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم , ومنهاج قرآنه المحكم، رزقنا الله إتباع السنة , ورحم الله موتانا بكرمه ومنه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
برد التأسي بأهل المصائب فبذلك إطفاء لنار المصيبة ولنعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت , من أصيب مرة ومنهم من أصيب مراراً وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب سيصاب يوماً بنفسه أسوة بأمثاله ممن تقدمه , فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة ويسرة إلا حسرة.
ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال:
حدثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً , فعلم أنه مرض الموت وأشفق على نفسه فكتب لأمه معزياً في ذكاء قائلاً:
يا أماه , إذا جاءك كتابي فاصنعي طعاماً واجمعي من قدرت من الناس ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة واعلمي هل وجدت لشيءٍ قراراً أني لأرجو أن الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه.
فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة.
فلم يتقدم أحد من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها فقالت: بني , من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حياً وميتا.
فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره، قيل لرجل:
كم لك من الولد ؟ قال: تسعة.
فقيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً، قال: الحمد لله, كان لي عشرة فقدمت تسعة أحتسبهم عند الباري الرحيم وبقي لي واحد , لا أدري أهو لي أم أنا له ؟
لكل اجتماع من خليلين فرقة ....... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ....... دليل على أن لا يدوم خليل
وهاهي أعرابية اسمها أم غسان كما في عيون الأخبار , فقدت جميع أبنائها وفوق ذاك كف بصرها, مصيبة وأي مصيبة ؟! كانت تعيش(164/30)
بمغزلها وتقول:
الحمد لله على ما قضى , رضيت من الله ما رضي لي , وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء.
ثم تصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثها أشجانها وأحزانها, فيقال لها : أين فلانة؟
فتقول: الحمد لله على قضاء الله والرجعة لله:
تقسم جاراتها بيتها ..... وصارت إلى بيتها الأدلجِ
وفي العاقبة للأشبيلي:
يروى أن امرأة من الأعراب حجت ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق ومات فدفنته بمساعدة الركب الذين كانوا معها , ثم وقفت بعد دفنه فقالت:
يا بني , والله لقد غذوتك رضيعاً وفقدتك سريعاً وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذ فيها بعيشك وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك.
ثم قالت : اللهم منك العدل ومن خلقك الجور , اللهم وهبتني قرة عين فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر , فصدّقت وعدك ورضيت قضاءك فلك الحمد في السراء والضراء , اللهم ارحم غربته واستر عورته يوم تكشف العورات وتظهر السوءات , رحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى.
ثم لما أرادت الانصراف قالت : أي بني لقد تزودت لسفري فياليت شعري ما زادك لسفرك ويوم معادك ؟ اللهم إني أسألك الرضا عنه برضاي عنه , استودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء , ومن يجازي من صبر في السراء والضراء.
من شاء بعدك فليمت ..... فعليك كنت أحاذرُ
كنت السواد لناظري ..... فعمى عليك الناظر
ليت المنازل والديار ....... حفائر ومقابر
إني وغيري لا محالة ....... حيث صرت لصائرُ
وأخرج ابن أبي الدنيا في الاعتبار عن الكندي قال:
كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد , دخلت بهم يوماً غاراً ثم خرجت لحاجة لها وتركتهم في الغار ولما رجعت سقط الغار عليهم وانطبق فجعلت تسمع أنينهم وتتلظى بجحيم عويلهم , لا تملك لهم حولاً ولا طولاً , تئن وتزفر زفرات قطعت أحشاءها , حتى فقدت أنينهم فلم تسمع لهم أنيناً فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت(164/31)
الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم , فكانت تردد وتقول:
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا ....... أفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ
وكل أم وإن سرت بما ولدت ....... يوماً ستفقد من ربت من الولدِ
وأخيراً فقد حدثني من أثق به من الصالحين كما أحسبه والله حسيبه , أنه كان هناك رجل له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وسعادة وأمان وسكينة واطمئنان , وذات يوم جاءهم أضياف فقام الأب وذبح لهم كبشاً والأولاد ينتظرون, ودخل للجلوس مع أضيافه بانتظار الطعام وقامت الأم بتغسيل أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء, فأخذ أكبرهم السكين يقلد أباه في ذبح الشاة وقام على أخيه الأوسط فأضجعه ثم ذبحه ذبح الشياه, وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في وعاء الماء فغرق الصغير في الوعاء, ثم خرجت للأوسط وهو يتشحط في دمه, وهرب أكبرهم للشارع اعترضته سيارة فدهسته, ذهلت الأم و ثكلت جميع أبنائها , فجاء الأب فإذا بها تترنح وتخبره الخبر ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة, وإنا لله وإنا إليه راجعون: صُبت عليها مصائب لو أنها ......... صُبت على الأيام عُدنَ لياليا
أما الأب فحمد الله واسترجع, ثم دخل إلى أضيافه وطلب منهم أن يحفروا قبوراً , وأخبرهم الخبر فياله من خبر ويالها من ضيافة ! حفروا القبور وصلوا على الجميع ودعوا للميت والحي , واستعد كل منهم أن يقدم ابنته زوجة لهذا الرجل الصابر فاختار ابنة أحدهم فتزوجها , ويذكر من نقل هذا أن له ثلاثة عشر ولداً من هذه الزوجة.
حدث عظيم، وخطب أليم , فهلا نظرت إلى هذا أيها المصاب ؟ فما مصابك مع مثل هذا المصاب ؟ ستهون عليك مصيبتك بلا شك , واعلم أنه هناك من هو أعظم من مصابك , فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش هذا العالم كله , لم يرَ إلا مبتلى بفوات محبوب أو بحصول مكروب , سري عنه , فسرور الدنيا أحلام إن أضحكت أبكت وإن سرت ساءت , وما حصل لشخص يوماً سرور إلا أعقبه شرور , فلكل فرحة ترحة , وما(164/32)
كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء , فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين أيها المصاب فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب , وقطرة في بحار الكروب.
تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى .......... مضوا ولهم ذكر جميل مخلدُ
فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى .. لما مات خير الأنبياء محمدُ
وأخيراً : فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
الدعاء والتضرع , واللجوء لله سبحانه وتعالى رب الأرض والسماء , كاشف الضراء , وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء، وفي السنة النبوية الغراء من الأحاديث الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء , ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ما أصاب عبداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك اللهم بكل اسم هم لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت في علم الغيب عندك أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي , إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً).
فالدعاء الدعاء فإن الله عز وجل قال:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
يا أيها المكروب خاصة , يا أيها الناس عامة , ادعوا ربكم تضرعاً وخفية , ففيه المطمع وإليه المفزع , لا إله إلا هو من لكم غيره يجبر كسركم ؟
من لكم غيره يبدد أحزانكم ؟
من لكم غيره يؤنسكم في وحشتكم ؟
من لكم إذا دفعتم عن الأبواب إلا بابه ؟
من لكم غيره أعز مطلوب وأشرف مرغوب ؟
لا إله إلا هو ... أيها المصابون عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات وكظمتم من الأنات جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات , وأمنكم من الفزع يوم تنشر السجلات , وتقبل الله منا ومنكم وكتب لنا السعادة في الحياة والممات.
وآخر ما يكشف الكرب :-
اعلم أن الذي قدر عليك الأقدار حكيم(164/33)
خبير لا يفعل شيئاً عبثاً ولا يقدّر شيئاً سدىً بل هو رحيم تنوعت رحمته سبحانه وبحمده , يرحم العبد فيعطيه , ثم يرحمه فيوفقه للشكر , ثم يرحمه فيبتليه , ثم يرحمه فيوفقه للصبر ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه , ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته , ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها , ويهون مشقتها ثم يتمم أجرها , فرحمته متقدمة على التدابير السارة والضارة ومتأخرة عنها , ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
أحبتي في الله , هذه الكلمات جمعتها من كتيبات وكتب وصغتها لكم صياغة فقط , بعون من الله وتوفيق منه وتسديد , إن أكن أصبت فذلك الذي أردت , وإن تكن الأخرى فحسبي أن ذلك وسعي وجهدي وحسب معرفتي وقدرتي , عظم الله أجر الجميع وجبر كسرهم وعوضهم خيري الدنيا والآخرة فيما فقدوا وجعل هذه الكلمات في صحائف الحسنات يوم تعز الحسنات خالصة لوجه رب السموات والأرض.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم , يا بديع السموات والأرض , يا فالق الحب والنوى , يا ذا الجلال والإكرام يا عظيم العفو , يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة , نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام , يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين , يا من عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب , وخشعت له الأصوات وفاضت له العبرات , ورغمت له الأنوف , انقطع الرجاء إلا منك , وخابت الظنون إلا فيك , وضعف الاعتماد إلا عليك , نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما أغمنا وأن تجبر كسرنا , وأن تعظم أجرنا وأن تعيذنا من شرور أنفسنا , وأن ترحم موتانا وأن تلطف بمبتلانا , وأن ترحم غربتنا في الدنيا ومصرعنا عند الموت , ووقوفنا بين يديك وأن تقينا من ميتة السوء ومن يوم السوء وساعة السوء ,وليلة السوء وجار السوء وصاحب السوء , وأن تعيذنا من النفاق وسوء(164/34)
الأخلاق.
اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه , اللهم اكشف كروبنا ونفّس همومنا واقضِ حاجاتنا , اللهم هبنا عطاءك ولا تكشف عنا غطاءك , ورضنا بقضائك , اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين , اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً.
اللهم إنهم عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك , احتاجوا لرحمتك وأنت غني عن عذابهم , اللهم زد في حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم , فأنت أرحم بهم من أمهاتهم , لا إله غيرك , ولا معبود سواك , لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(164/35)
قوة الإرادة وعلو الهمة
كتبه : الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .إخواني السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ... فيطيب لي في هذه الليلة إن أتحدث إليكم في هذا المجلس الذي أسال الله – سبحانه وتعالى – أن يجعله مجلسا خالصا لوجهه وان يجعلنا فيه من عتقائه من النار الذين تجالسوا في الله وتذاكروا في الله وتحابوا في الله واجتمعوا على طلب العلم . أيها الاخوة موضوعنا في هذه الليلة بعنوان قوة الإرادة وعلو الهمة ، قوة الإرادة وعلو الهمة موضوعان مترابطان وهذان الموضوعان في غاية الأهمية من جهة الحاجة إليهما لانه لا يقوم بدين الله إلا من كانت له إرادة قوية وهمة عالية فان هذا الدين دين قويم ودين عظيم والله – سبحانه وتعالى – أنزله وامتحن به الناس ليرى من الذي يقوم به ممن لا يقوم من الذي يتحرك لنصرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن الذي يتخاذل عن ذلك ويركن إلى الدنيا والى الدعة والكسل . وهذان الموضوعان أيضا في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي وان العودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى إرادة قوية وهمة عالية . وحال الأفراد الذين يقولون عندنا معاصي لا نستطيع أن نفارقها وشهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها وعندنا ضياع أوقات من مشكلاتنا وندخل في مشاريع فلا نكملها وتنقطع بنا السبل ونعيش في فوضى وحياتنا ليست مرتبه على حسب الشريعة لا شك أن علاج كل هذه المشكلات وعلاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام من هذه الأوقات الضائعة والالتزام الناقص ومظاهر نقص الاستقامة لاشك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية وهمة عالية ونحن نتلفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء والشهداء الذين قضوا نحبهم وهم مقيمون على طاعة الله أولئك(165/1)
الذين وصفهم الله – تعالى – بقوله أولئك الذين اخبر الله – سبحانه وتعالى – عنهم بأنهم ( صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) أولئك أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية والارادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع وأيضا فان هذا الموضوع مهم في العبادة والجهاد وطلب العلم والدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – لان هذه الأمور الشرعية المطلوبة لا يمكن تحقيقها إلا بذلك. ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة ، أما الإرادة فان الإرادة الكاملة التامة هي لله – سبحانه وتعالى – الذي قال ووصف نفسه بأنه ( فعال لما يريد ) لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته ولو شاء عدم وقوعها لم تقع فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لابد من وقوعها كما قال الله – عز وجل – ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) وقال (وإذا أردنا أن نهلك قرية امرنا مترفيها ) ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له ) فمشيئته – سبحانه وتعالى – نافذة إرادته نافذة هذه الإرادة الكونية القدرية . الإرادة الثانية هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله – تعالى – فيها (والله يريد أن يتوب عليكم ) ، ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم ، وقال الله ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وهذه أيضا من الإرادة الدينية الشرعية فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لأحد منا عسر أبدا .والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد الخالط المهالك وقد ضل أناس في هذه الإرادة فجعلوها شيئا واحدا وصار بعض الناس يقولون إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا وبعض الناس يقولون : أن كل شيء نفعله فالله يريده يعني يحبه فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال قالوا : إن الله يحب هذا(165/2)
واحتجوا بأنه وقع وان الله أراده وبعض الناس ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا : أن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم وهؤلاء الضلال هم الذين انحرفوا في مفهوم الإرادة إرادة الله – سبحانه وتعالى – فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية والذي يخلط بينهما ولاشك فانه يضل فهؤلاء الذين قالوا : إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك اكثر من خالق بل أن الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال ولاشك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا ( والله خلقكم وما تعملون ) و أما الذين قالوا إن العباد ليس لهم إرادة وانهم مقصورون ومجبرون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها بل انهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب العاصي مثل تعذيب الطويل لما لم يكن قصيرا والقصير لما لم يكن طويلا بل انهم مجبورون وقال قائلهم في البيت المشهور : ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا هو أو هذا بيت من عقيدة الجبرية الذي قاله جبري يقول أن الإنسان مجبور وان الله – سبحانه وتعالى – امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له بل أن بعض هؤلاء القدرية الضلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله ( وزين لهم الشيطان أعمالهم )فقال أحدهم : كان الهدهد قدريا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان وكل ذلك من فعل الله ونحن نعتقد أن الله – سبحانه وتعالى – أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة ولكن لا يقع إلا ما يريد الله لم يسلبنا الله الإرادة ولا القدرة بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئا فان له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه لعلم الشيء بالرغم منه بالرغم من انه لا يريد ذلك أبدا وليس العبد مجبور على أفعاله مطلقا وكم كانت هذه العقيدة الضالة سببا في صد بعض الناس عن دين الله – سبحانه وتعالى – وهذا مثال على ذلك قال بعض السلف : خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري(165/3)
ومجوسي فقال القدري للمجوسي : اسلم قال المجوسي : حتى يريد الله ، هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم التزموا بدين الله عودوا إلى الله اتركوا المعاصي قالوا : حتى يريد الله ، قال المجوسي : حتى يريد الله فقال القدري : أن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد فقال المجوسي : أراد الله و أراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان ، هذا شيطان قوي وفي رواية قال : فأنا مع الأقوى منهما !! وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية . الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة و أراد منا أن نعبده – سبحانه وتعالى – وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما اخبر الله – سبحانه وتعالى – به في عدد من المواضع في كتابه كقوله – عز وجل – ( فلما أن ارادى أن يبطش بالذي هو عدو لهما )(فأردت أن أعيبها ) (وانك لتعلم ما نريد ) (وما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ) فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله لا يمكن أن نخرج عن إرادة الله ولكن لنا إرادة لسنا مجبورين على أفعالنا وبالمناسبة فان عددا من الذين يتكلمون في موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة وهي انهم يقولون في كلامهم أن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد وان الإنسان إذا صمم على شيء فلابد أن يفعله فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله – سبحانه وتعالى – ومشيئته و إرادته وأننا تحت قهرة وسلطانه ونفوذه – عز وجل - . فالله – سبحانه وتعالى – خلق فينا الإرادة وخلق فينا غرائز و أهواء وجعل فينا غرائز و أهواء وشهوات فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته وبمقدار انحرافه واتباعه لاهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته لان(165/4)
الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقا إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم و إرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما فان أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل بالحكمة فان التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والى التباطؤ في العمل ويجعل غالب وقته في الهزل ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه أو علة في نفسه أو عند الشعور أن العمل لا يوافق هواه وهكذا وهؤلاء ضعاف الإرادة متبعين لاهوائهم ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلا وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة قد تكون إرادتهم قوية جدا لكن بسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقوهم إلى الهلكة وهذا من الغلو في هذا الموضوع والإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله ما نريده إرادة وجه الله – سبحانه وتعالى – فان بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا فأرادوها وسعوا من اجلها فمن اجل الدنيا يعيشون ومن اجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصلوا إلى غنى أو شهرة أو منصب أو شهادة ونحو ذلك وهذا حال كثير من الناس اليوم بعضهم عنده ارادات قوية لكن في أي شيء سخرها ؟ لجمع الأموال .. فتح الشركات .. متابعة الأعمال ..(165/5)
كله في الدنيا أو دراسة تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية يفرط في أمور الشريعة وفي أمور الدين وجاعل إرادته هذه كلها منصبه في قضايا الدنيا هذا الذي قال الله – عز وجل – فيه (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) يعني قد تحصل له وقد لا تحصل فان بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم ارادات ولكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فؤلئك كان سعيهم مشكورا ) . الذين لا يريدون وجه الله ما عندهم إرادة لوجه الله هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة ، الله – عز وجل – يثبطهم عقوبة لهم انهم ما أرادوا وجهه ولا فعلوا موجبات الإرادة إذا كان الإنسان يريد فعلا الدين يريد نصرة دين الله يريد العمل لدين الله لكان قام بالأعمال لأدى لصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله كما قال الله – سبحانه وتعالى – ( الذين في قلوبهم مرض ولو أرادوا الخروج – لو أرادوا ذلك – لاعدوا له عدة – لقاموا بالعمل جهزوا أنفسهم لاعدوا له عدة المتيسر – ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) وهذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها مغريات خضرة حلوة تجذب بما فيها من الزينة والأموال واللهو واللعب ولذلك يحتاج المسلم إلى قوة إرادة للوقوف أمام شهواتها واغراءاتها وجاذبيتها . نحتاج إلى قوة الإرادة لأي شيء ؟ في الثبات ضد هذه المغريات قوة إرادة للثبات أمام عوامل الانحراف قوة إرادة للثبات أمام عوامل التثبيط والفتور سواء التي تأتي من داخل أنفسنا الأمارة بالسوء أو التي تأتي من الخارج من كيد الأعداء والشيطان ونحو ذلك وهو يسير ويجري من ابن آدم مجرى الدم . نحتاج إلى قوة الإرادة لمواجهة الوساوس التي يلقيها الشيطان حتى هؤلاء(165/6)
الناس الذين عندهم وساوس في الطهارة فيعيدون الوضوء عشرات المرات ويمكثون في مكان قضاء الحاجة والحمامات الساعات الطوال ويعيدون الصلوات بل ربما من شدة الوسوسة جعل بجانبه شخصا يحسب له عدد الركعات !! ما هو علاج الوسوسة ؟ إذ تفكرت ونظرت لوجدت انه قوة الإرادة المانعة من تكرار الفعل مثلا فلو توضأ بشكل صحيح موافق للسنة غسل الأعضاء وصل الماء للبشرة كما أمره الله فجاءه الوسواس ربما لم تغسل ربما لم تمسح شعرك ربما لم تفعل كذا وكذا وهو يعلم إذا وضع يده على شعره وجد البلل إذا نظر إلى مرفقيه وجد الماء فما الذي يثنيه وما الذي يرد الوسواس عنه ؟ الإرادة القوية المبنية على التوكل والعلم الشرعي الذي ينبئك بان إعادة العبادة محرم لا يجوز حرام لو أعدت الوضوء تأثم . نحتاج إلى الإرادة القوية لمواجهة الفتن ، فتنة الزوجة التي تجر الإنسان إلى المعاصي إلا من رحم الله من الزوجات الصالحات فتأمر الزوج بالمعصية أو تحببه إليها أو تقول لماذا لا نذهب إلى المكان الفلاني وفيه مالا برضي الله أو لماذا لا نشتري الشيء الفلاني وهو محرم لا يرضي الله ؟ ولماذا لا ندخل في بيتنا الآلة الفلانية وهي لا ترضي الله ؟ وهكذا مما تأمر به الزوجة إذا لم تكن طائعة لله . فتنة الأولاد ( الولد مجبنة مبخلة محزنة مجهلة ) مجهلة يصرف الإنسان عن طلب العلم مبخلة يصرف الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله وعن الخوض في المعركة في سبيل الله ، مبخلة يصرفه عن الإنفاق ، مجبنة يصرفه عن القتال مجهلة يصرفه عن طلب العلم محزنة إذا مرض وغير ذلك . و الأولاد فتنة ( أن من أزواجكم وأولادكم عدو لكم فاحذروهم ) فالصمود أمام هؤلاء يحتاج إلى إرادة قوية . قوة الإرادة مهمة في مقاومة ميل النفس إلى الدعة والراحة ، النفس بطبيعتها تميل إلى الدعة تميل إلى الكسل إلى الفوضى والإرادة القوية هي التي تحمل النفس على العمل وترغبها على عدم الانجرار وراء ساعات النوم الكثيرة ويرغمها(165/7)
على التنظيم المقاوم للفوضى وهكذا . قوة الإرادة هي التي تصد الشيطان عن إلقاء المخاوف وعن الاستجابة لها ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياؤه فلا تخافوهم وخافوني ) يخوف أولياءه يعني يجعل أولياءه أعداء الإسلام يظهرون في أعينكم وفي أنفسكم قوة لها رهبة وخوف (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) يخوفكم يا أيها المؤمنون بأوليائه ( فلا تخافوهم وخافوني ) . الإنسان يتعرض إلى مصائب موت .. مرض .. فقر .ز هذه الإرادة القوية هي التي تجعل الإنسان صامدا أمام المصيبة صابرا محتسبا على وقوع قضاء الله وقدره . والإرادة القوية هي التي تحمي الشخص والفرد المسلم عن الانسياق وراء الجموع الضالة التي تهيم على غير هدى من الله (وان تطع اكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) والإنسان من طبيعته انه يحب موافقة الكثرة والاختلاف عنهم ومفارقتهم صعبه على النفس ولذلك تجد كثيرا من الناس لو سألته عن سبب معصية أو عمل خطأ أو بدعة يفعلها قال لك : كل الناس يفعلون ذلك !! ما عنده إرادة قوية تعصمه عن الانسياق وراء الكثرة الضالة التي تتبع الهوى والجهل والعادات والتقاليد وكذلك الأئمة المضلون الذين يسوقون الناس بالضلال ويلبسون عليهم والطاعة العمياء للغوغاء . الإرادة القوية تقوم حائلا بين الإنسان المسلم وبين مجاراة الجمهور فيما يريدونه إذا كان من معصية الله. ما هي وسائل تقوية الإرادة ؟ أولا : الإيمان بالله – عز وجل – الإيمان بالله و أسمائه وصفاته وقضائه وقدره والتوكل عليه وحسن الظن به والثقة بالله – سبحانه – لاحظ الفرق بيننا وبين مفهوم الطرح ، طرح قضية الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب علم النفس يقولون : أنت تستطيع أن تفعل أي شيء تستطيع أن تفعل كل شيء ردد وقل أريد أريد أريد وستفعل ذلك مهما كان ونحن نقول : لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك لكن لابد أن نتوكل على الله ونفوض امرنا إلى الله مع العمل (اعقلها وتوكل ) أما(165/8)
الكفار يعقلون ولا يتوكلون هذا هو الفرق بيننا وبينهم ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم انهار انتهى انتحر أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية لكن المسلم يعمل متوكل على الله فلو ما وصل إلى مرامه ولا نجح فإنها مصيبة يصبر على قضاء الله – سبحانه وتعالى - . ثانيا : التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات وتربية الإرادة في نفسه التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى من أول مواجهه ينهار لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها نعم لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو قد لا يصمد إلى النهاية ويسقط لكم مع النصيحة مع المتابعة مع التوجيه مع شد الأزر مع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات . ثم من وسائل تقوية الإرادة تحديث النفس بالشيء من طاعة الله أو الانتهاء عن معصية الله تحدث نفسك به باستمرار وتتذكره بينك وبين نفسك تأمل في حديث ( من مات ومن لم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو ) هذا الذي يموت على شعبه من النفاق ، الإنسان إذا كان يحدث نفسه بالغزو دائما صدق لو انه قام قائم الجهاد ونادى المنادي للنفير فانه سيكون مع الخارجين في سبيل الله لأنه دائما يحدث نفسه بهذا الشيء ويذكر نفسه بهذا الشيء ويردد على نفسه تلك الآيات والأحاديث المرغبة في هذا العمل وكذلك لو انه يريد أن تكون عنده إرادة في مقاومة شهوة من الشهوات يردد على نفسه ويتذكر دائما وباستمرار هاجسه الذي يقلقه والشيء الذي يتردد في نفسه حرمه هذه المعصية وعقوبة العاصي عند الله والعزم على عدم القدرة والندم على الفعل هذا في النهاية سيوصله إلى إرادة قوية تمنعه من الوقوع في هذه المعصية . ومن عوامل تقوية الإرادة ممارسة العبادات وعلى رأسها ذكر الله – عز وجل – وقد ثبت بالدليل الصحيح أن ذكر الله – تعالى – يقوي القلب ويقوي البدن وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم(165/9)
في أحوج ما كانوا إليها وانتصر عليهم أولئك النفر المؤمنون الذين لم يكونوا مثلهم في قوة الأجساد ولا في العدة والعتاد . إذا الذاكرون الله كثيرا والذاكرات هؤلاء من المزايا التي أعطاهم الله إياها هذه القوة قوة الإرادة قوة الإيمان والقوة في القلب والقوة في البدن . ثم من العبادات التي تقوي الإرادة الصيام فلاشك أن الصيام يقوي الإرادة إرادة الصبر على الجوع والعطش والشهوة لأجل الله – سبحانه وتعالى – فهناك عبادات واضح أثرها في تقوية الإرادة . ثم من الأمور المهمة أيضا عدم التردد والتحير والتلكؤ إذا ظهر لك رجحان الأمر شرعا وانه من طاعة الله بل ينبغي عليك الإقدام والإسراع ( الذين يسارعون في الخيرات ) ينبغي عليك أن تأخذ بجانب الحزم والعزم ، قال النبي – عليه الصلاة والسلام – ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ) في غزوة أحد استشار القوم فاشار بعضهم بأمر و أشار الآخرون بأمر آخر في الخروج وعدم الخروج فمال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قول الذين قالوا بالخروج من المدينة لملاقاة العدو ولبس لأمته فكأن بعضهم وجد في نفسه أو ندم قالوا : ربما اكرهنا النبي – عليه الصلاة والسلام – فراجعوه إذا كان يريد أن يقعد ما عندهم مانع في ذلك وهم يؤيدونه لكن النبي – عليه الصلاة والسلام – مادام اتخذ القرار ورأى فيه المصلحة الشرعية بعدما شاور ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) فقال ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ) وهذا درس في مسألة رد التحير والاضطراب والتردد ونبذ هذا الكلام والإقدام على الأمر بالحزم والعزم . ثم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علمنا هذا المفهوم في حديث مهم فقال – عليه الصلاة والسلام – (المؤمن القوي خير واحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) طبعا القوي في كل شيء في إرادته في دينه في إيمانه في بدنه مهاراته قدراته ( المؤمن القوي خير واحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير )(165/10)
احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، لا تعجز يعني اقدم لا تتردد لا تتحير لا تتخاذل لا تتكاسل واستعن بالله ولا تعجز احرص على ما ينفعك مادام رأيت فيه المصلحة الشرعية واستعن بالله ولا تعجز وان أصابك شيء بعد كل هذه الإجراءات لو أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فان لو تفتح عمل الشيطان فإذا الإرادة القوية تقتضي حزم وإقدام وجرأة وشروع في العمل ولا للتردد والحيرة والاضطراب وهذا الحديث رواه احمد ومسلم . وهذه اللفتة أيضا موجودة في حديث مسلم لما أعطى النبي – صلى الله عليه وسلم – الراية وجاء في حديثه قوله – عليه الصلاة والسلام – (لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ) قال عمر – رضى الله عنه - : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ بأي سبب؟ بسبب هذا الوصف ( يحب الله ورسوله ) هذا من ورع عمر – رضى الله عنه – ما كان يتطلع إلى الإمارة إلا في هذا الموقف فتساورت لها رجاء أن ادعى إليها قال أبو هريرة : فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبى طالب – رضى الله عنه – فأعطاه إياها وقال (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟ قال ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . ومن صفات القائد المسلم الذي يقود في المعركة أو في أي مجال آخر من المجالات انه لا يتردد ولا يتباطأ لأن عامل الحسم عامل مهم في القيادة إذا كان الكفار يتكلمون عنه في كثير من الأمور العسكرية والإدارية وغيرها فنحن أولى وأحرى بهذا بل هو من ديننا بل عرفناه قبلهم من هذا الدين وعدم التكاسل والتردد حتى في العبادة حتى في الصلاة في السهو إذا غلب على ظنه يفعل ما ترجح لديه وإذا لم يغلب على ظنه شيء شك يبني على اليقين لا ينصرف(165/11)
عن صلاته وهو شاك فيها ما أن ينصرف عن يقين أو غلب الظن ويسجد للسهو وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( قال الله – تعالى - : يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفيك آخره ) هذه مثل صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار تسبب الوقاية من الأحداث السيئة والأعراض والأمراض ونحو ذلك من الحوادث والأعراض السيئة . ويحتاج الإنسان في هذا إلى التحلي بالصبر وان يكون جادا وان يعقل قلبه على الشيء وان يعزم ، العزم مهم والعزم هذا من مرادفات قوة الإرادة العزم قال الله – عز وجل – ( فان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور ) هناك أفعال واضح أنها تحتاج إلى عزيمة تحتاج إلى قوة ( ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور ) وليس كل الناس يستطيعون أن يصبروا ويتسامحوا ، يسامحوا الآخرين ( يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انهى عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) فليس كل الناس يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يترتب على ذلك مع أقام الصلاة . وتأمل حال أولى العزم من الرسل لماذا سموا بأولي العزم ؟ هؤلاء الخمسة المقدمون عند الله – عز وجل – كانت لهم ارادات تنفيذية على مستوى رفيع فاصبر كما صبر أولي العزم ولذلك نحن نعزم ونتوكل على الله وننفذ ولا نكن كالعاجز الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني . والإنسان المتعرض للشهوات ينبغي عليه أن يتدبر قول الله – عز وجل – ( فأما من طغى واثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى ) فقوة الإرادة عند الشهوة أن تحضر قلبك وتحضر علمك وعزيمتك للوقوف أمام الشهوة . (قالت هيت لك قال معاذ الله انه ربي احسن مثواي )(ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال أني أخاف الله رب العالمين ) فهذا الرجل الذي قال أني أخاف الله رب العالمين أمام هذا الإغراء ذات منصب وجمال منصب ترغمه(165/12)
ربما وتسجنه وتذيقه الأذى إذا ما استجاب وجمال مغري فاجتمعت المسالة من جوانبها ترغيب وترهيب وهو يقول أني أخاف الله رب العالمين هذا صاحب إرادة قوية . ومن عوامل تقوية الإرادة أيها الاخوة المبادرة بالأعمال قبل الأعراض كما قال النبي – عليه الصلاة والسلام – (بادروا في الأعمال ) قد يأتيك فقر ينسي قد يأتيك غنى يطغي قد يأتيك مرض يقعد قد يأتيك الموت بادروا بالأعمال الآن الآن اشرع بها قبل فوات الأوان قبل أن تجتمع عليك الحوادث أو يأتي مالا تحتسب أو يأتي مالا تظن ومالا تفكر فيه . وكذلك من عوامل تقوية الإرادة أن يحافظ الإنسان على العمل وان قل فتشرع فيه قم تحافظ عليه تشرع في الأعمال ثم تحافظ عليه وان قلت فان احب الأعمال إلى الله ادومها وان قلت . وكذلك إذا فرغت من عمل فابدأ بعمل آخر ورائه مباشرة هذا من الأمور المهمة في متابعة أمور قوة الإرادة والدليل على ذلك قول الله – عز وجل – (فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب ) إذا فرغت من الصلاة فانصب إلى الذكر بعدها بذكر الله فليس إذا انتهى إنسان من عمل يذهب ويلعب انتهى من الصلاة يذهب ويطلق الهوى لنفسه يقول : الحمد لله نصلي صلينا الصلوات صليناها أدينا الفروض ممكن نذهب نتفرج على مسلسلات نلعب ورق يعني .. فما مفهوم ( إذا فرغت فانصب ) غير موجود عند هؤلاء لذلك تكون اراداتهم ضعيفة وصحيح انه يحافظ على بعض الأعمال الدينية كالصلاة مثلا أو الزكاة أو الصيام لكن في بقية أعمال الخير كسول متردد مسوف . وكذلك من الأمور التي تؤثر في الإرادة التفاؤل وعدم التشاؤم فان بعض الناس الذين عندهم نفسيات متشائمة ليست عندهم ارادات قوية لانه بمجرد ما يرى شيئا يجلب إلى نفسه التشاؤم يترك العمل تنتهي الإرادة تفتر تنتهي تتلاشى كما لو انه يذهب بعضهم إذا ذهب فتح دكان فرأى رجل اعور تشاءم وقال هذا يوم سوء سنخسر اقفل الدكان ورجع وإذا خرج له رقم المقعد 13 قال هذا رقم سوء هذا رقم شؤم هذا شؤم(165/13)
أكيد سيكون في حادث ألغى السفر ورجع وهكذا بعض الناس يتشاءمون ربما لو طنت أذنه اليسرى قال هذا العمل لابد من عدم الإقدام عليه وهكذا . والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يحب التفاؤل كان يتفاءل ويحب التفاؤل وقال ( الطيرة شرك ) لا يجوز التشاؤم والتشاؤم يبطيء الهمة ويشتت القلب ويميت روح الإقدام وعلى المسلم أن يتحامل على نفسه رغم الصعاب هذا من الأشياء التي تقوي الرادة كما قال الله – عز وجل – (ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) في غزوة أحد أراد المسلمون النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يلحق بالمشركين وفي المسلمين جراحات وتعب شديد من المعركة ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون ) مثلكم لكن الفرق أنكم ( ترجون من الله ما لا يرجون ) وهذا فرق أساسي مهم جدا ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون ) تحملوا تجلدوا تصبروا إن تكونوا تألمون فهم يألمون أيضا لكنكم انتم يا أيها المؤمنون ( ترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ). ثم على المسلم أن يتقلى الأحداث بالصبر وعدم الجزع عند المصيبة أو الحزن على ما فات وهذا ولا شك نابع من الإيمان بالقضاء والقدر والله – سبحانه – قال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) من قبل أن نخلقها ونوجدها في الواقع هي مكتوبة في كتاب (إن ذلك على الله يسيرا ) فائدة الإيمان بهذا المفهوم ذكر ه الله – تعالى – فقال ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) . وبعد هذا العرض في موضوع قوة الإرادة لننتقل الآن إلى الشق الثاني من موضوع هذه الليلة وهو علو الهمة . علو الهمة أيها الاخوة شيء لا يحسنه ولا يتوفر إلا لأكابر الناس الذين جعل الله التوفيق حليفهم وعلو الهمة التطلع إلى الأعلى وهو رضى الله – سبحانه وتعالى – ابتغاء وجه الله ، ما هي همتنا ؟ ينبغي(165/14)
أن تكون موجهه إلى أي شيء ؟ ابتغاء وجه الله ، الجنة وان لا نبتغي فوق ذلك مظهرا ، هب لي الهمة العالية و ليست إلا لمن وفقه الله لها وعلو الهمة مركب من عدة عناصر منها الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية لان بعض الناس يطمحون إلى وظائف مناصب مستويات مادية شرف دنيوي مدح ثناء فهذا ليس علوا في الهمة هذا دنو في الهمة لانه صار ينظر إلى الدنيا لماذا سميت الدنيا ؟ لأنها دنية سافلة لا يوصف الذي يتطلع إلى منصب والى وظيفة انه عنده علو همة .. لا .. هذا همة في الدنيا وذكرنا انه قد يكون عنده من قوة الإرادة الشخصية ما يحقق له الغرض الذي يريده لكن ليس له عند الله من خلاق . فإذا قصد بها وجه الله صارت قضية شرعية كمن قصد أن يحصل على الشهادة لكي يوظفه ذلك في طاعة الله أو قصد التجارة لينفق على نفسه و أهله بالمعروف وان يتصدق وان يدعم القضايا الإسلامية ونحو ذلك فهذا ممن يبتغي وجه الله همته إرادته وجه الله ما تاجر إلا لوجه الله ما اكتسب إلا لوجه الله ما درس إلا لوجه الله فهذا عنده علو همة فعلو الهمة هو الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية وكلما عظم الهدف وسمت النفس إليه ارتفعت الهمة ووصف صاحبها بأنه عالي الهمة وكلما هبط الهدف ودنى نزلت الهمة وحصلت الدنائه ورضى المرء بالصغائر والتوافه . علو الهمة يقتضي أمور أمورا منها : الجدية في العمل وعدم التواني والكسل إذا دعا الداعي من الله – عز وجل – إلى عمل تسابقوا إليه ، حي على الصلاة علو الهمة إن كانت مطرقته رفعها ألقاها خلف ظهره ولا يطرق بها و إنما يذهب إلى الصلاة مباشرة . إذا أراد أن يبيع فأذن المؤذن لم يبع ولم يكمل التفاوض ولا المساومة وترك ذلك للصلاة . هذا علو همة من يوم ما يستطيع الحج يحج هذا علو الهمة لا يسوف ولا يؤخر إذا قال الله انفروا خفافا وثقالا قاموا إليه رجالا(165/15)
وركبانا ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات – أي جماعات – وانفروا جميعا – نفير عام الجيش كله – وان منكم لمن ليبطئن) ما عندهم علو همة وعندهم ضعف إرادة فهم يثبطون . وقلنا أن علو الهمة وقوة الإرادة أمران مترابطان غاية الترابط وبينهما علاقة وثيقة جدا.أصحاب الهمة الدنية لا يقومون إلى ما يرضى الله وإذا دعا الداعي إلى شيء من الطاعات أحجموا وسوفوا وتكاسلوا كما وصف الله المنافقين بقوله (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) فالتكاسل والتقاعس هذا مما ينافي علو الهمة وعكسه الجد وعدم التواني والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يتعوذ بالله من العجز والكسل يقول (اللهم اني أعوذ بك من العجز والكسل ) كما جاء في الحديث الصحيح ( اللهم اني أعوذ بك من العجز والكسل ) وهذا دعاء مهم جدا . والإسلام يدفع المسلم إلى ابتغاء الكمالات إلى التطلع إلى الآخرة التطلع إلى المعاني إلى الأشياء العظيمة ويصرف الإسلام يصرف المسلم عن أن ينزل ببصره إلى الدنايا والتوافه والصغائر والأمور الحقيرة خذ مثلا على ذلك في أن الله – عز وجل – يريد أن يرتفع المسلم بنفسه عن هذه الأرض وجواذبها ودناياها ليتطلع إلى الأمر العظيم الهمة العالية تتطلع إلى الأمر العظيم طاعة الله – عز وجل – العبادة ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمه ربه ) فهو يريد إن تكون همة العباد إلى هذا الشيء إلى قيام الليل ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) وقال الله – عز وجل – ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) لا يستوون هؤلاء ( والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة وكل وعد الله الحسنى ) فضل الله المجاهدين على القاعدين بعذر درجة ثم قال (وفضل الله المجاهدين على(165/16)
القاعدين – يعني بغير عذر – أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) هذا المنادي من الله يدعو العباد إلى التطلع إلى هذه المعاني ويقارن لهم بين الشيء العالي والشيء الدنيء الواطئ لا يستوي منكم . وكذلك حتى الأشياء العالية متفاوتة فيقول التمسوا الأعلى ( لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) . والإسلام كما انه يحث على الارتفاع والتطلع إلى معالي الأمور وطاعة الله العبادة والجهاد الصدقة الصلاة قيام الليل فانه يصرف المسلم عن أن ينظر ببصره أو يتطلع يهفو قلبه ينصرف يميل يركن إلى سفاسف الأمور والدنايا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها ) وجاء الحديث هذا بألفاظ أخرى و السفساف هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء ( إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها ) ومن الأمثلة على ذلك ذم السؤال في الإسلام الشحاذة السؤال طلب الناس يقول النبي – عليه الصلاة والسلام – ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) فسرها الحديث الآخر ( اليد العليا هي المنفقة و السفلى هي السائلة ) ما يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شحاذين وسؤال ويمدون أيديهم و إنما يكونوا عاملين بل يأكل الإنسان من عمل يده حتى الطعام اشرف طعام يدخل جوفك ما صنعته بيدك هذه سنة داود – عليه السلام - . وذم النبي – عليه الصلاة والسلام – السؤال عن حاجة ، المكثرين من السؤال ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله – تعالى – وليس في وجهه مُزعة لحم ) وقال ( من سال الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل وما الغنى يا رسول الله ؟ - كيف يعني وله ما يغنيه – قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ) فإذا كان له ما يغنيه وسال جاءت المسألة يوم القيامة في وجهه هذه الندب والآثار . والنبي – عليه الصلاة والسلام –(165/17)
لفت نظر أصحابه لترك سؤال الناس بالكلية وقال (من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا و أتكفل له بالجنة ؟ فقال ثوبان : أنا ) فكان بعد ذلك لا يسأل أحدا من الناس شيئا . وصار الصحابة – رضوان الله عليهم – إذا سقط السوط من يد أحدهم لا يسأل أحدا من الناس أن يناوله إياه . وقضية علو الهمة والتطلع إلى الآخرة والتطلع إلى طاعة الله حتى في الدعاء الإنسان همته عالية في الدعاء (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ) طيب واحد يقول أنا مقصر وأنا مذنب وأنا عارف نفسي ما أستاهل الفردوس نقول لكن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة ) الله كريم ولا يعجزه شيء – سبحانه وتعالى – وهو المنان فاسأل وماذا يضرك ؟! حتى علو الهمة في الدعاء يتطلع إلى الفردوس ، المسلم يسال الفردوس وربما بعض الناس يقول في نفسه دعني فالأسأل عن باب الجنة فقط نقول لأ ، يقول عندي معاصي نقول لأ فاسأل الله الفردوس .حتى في الجنة أسال المراتب العليا أدعو الله فربما يجيبك فتكون من الفائزين بهذه الدرجات العلا والنعيم المقيم . والذي يدفع المسلم إلى علو الهمة هو الزهد في الدنيا لأنه إذا عرف حقيقة الدنيا أنها فانية أنها زائلة أنها ملعونة أنها كالعصف المأكول أنها تكون كهذا الذي تذروه الرياح فإذا عرف قيمة الدنيا وتفاهتها وحقارتها وزوالها وفناءها فانه في هذه الحالة يزهد فيها ويتطلع همته إلى الأمور العليا إلى الآخرة والى الجنان وما اعد الله فيها . ومن الأمور المعينة على أن تكون الهمة عالية اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه فانه إذا انشغل بما يعنيه معنى يعنيه يعني يعنيه شرعيا شرعا يعنيه شرعا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعنيه الدعوة إلى الله تعنيه كسبك لأجل أولادك وزوجتك و إنفاقك على نفسك يعنيك كل هذا يعنيك معرفة أوقات الصلوات تعنيك ومالا يعنيك كل ما يضرك وما لا مصلحة لك فيه(165/18)
شرعا . انظر إلى هؤلاء الناس الذين عندهم هوايات عجيبة التصوير وجمع الطوابع والرياضات البحرية وساعات يعني تقضى فيها ساعات وصيد الجرابيع.. ايش هذا ؟!! وان يصعد بسيارته على تل من رمل هذه رياضاتهم هذه هممهم في هذه الأشياء الألعاب ، واحد يجلس عن الكمبيوتر في العاب الكمبيوتر عشر ساعات واللعبة تأخذ كل يوم مرحلة مراحل ساعات طويلة !! (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) فينبغي ترك هذه الأشياء لا نقول لا تروح عن نفسك ولا تتريض الرياضة المباحة لا هذا مما يعنيك لكن الإغراق في هذه الأشياء وإضاعة الساعات الطويلة فيها هذا لا شك انه منافي لعلو الهمة . وترك فضول الكلام ومجالس إضاعة الوقت والناس الثرثارين هذا مهم من أجل أن يحفظ الإنسان وقته فالشخص الذي عنده علو همة ينصرف لمراعاة وقته .وكل ما هو من مدعاة الكسل والخمول فالإنسان يترفع عنه حتى التثاؤب انظر كيف أُمِرنا برد التثاؤب وتغطية الفم في الصلاة إذا تثاءبنا حتى لا يدخل الشيطان لان التثاؤب من الشيطان والتثاؤب عنوان الكسل والخمول ، حتى التثاؤب الذي هو عملية طبيعية تكون في الجسم ومع ذلك نرده ونكضمه أُمرنا بذلك شرعا . وبعد هذه النقاط في مقتضيات علو الهمة وبعض الأسباب التي تؤدي إلى علو الهمة لننتقل إلى تطبيقات عملية من واقع السلف في بعض الجوانب فيما يتعلق بعلو الهمة ومن ذلك : 1. الهمة في العبادة . 2. الهمة في البحث عن الحق . 3. الهمة في الدعوة إلى الله . 4. الهمة في الجهاد . 5. والهمة في طلب العلم . وتحت كل فرع من هذه الفروع نضرب أمثله ونستلهم المعاني من قصص اولئكم النفر الكرام من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين . 1. أما الهمة في العبادة فان الله – سبحانه وتعالى – قد رغبنا في ذلك وذكر لنا حال أصحاب الهمم العالية في العبادة مثال (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين )(165/19)
.وهذا النبي – صلى الله عليه وسلم – أعلى الأمة قاطبة بل هو أعلى الناس . الهمة في العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ضرب لنا مثل همة عالية في العبادة قال ابن مسعود : صليت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء ، قيل : وما هممت به ؟ قال : هممت أن اجلس وادعه ، اكمل الصلاة قاعد . وروى مسلم عن حذيفة قال : صليت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى – همة عالية – فقلت : يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مسترسلا إذا مر في آيه فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم ،فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ،ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى ،فكان سجوده قريبا من قيامه . والأمثلة كثيرة ومن الصحابة والتابعين ذكرنا طرفا صالحا من هذا في محاضرة بعنوان اجتهاد السلف في العبادة فلا نطيل في ذلك ولكن لنعلم أيها الاخوة إن الشيطان يثبط الإنسان أن تكون له همة في العبادة وهو الشيطان يقعد على قافية رأس أحدنا ثلاث عقد حتى لا يقوم الليل فإذا قام وذكر الله انحلت عقده توضأ انحلت صلى انحلت كل العقد .ولما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – رجل نام حتى أصبح قال (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ). 2. أما بالنسبة للهمة في البحث عن الحق فان النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يسال الله أن يوفقه إلى الحق ويدعو ربه ويناجي في الليل وهو يصلي ويدعو وهو يقوم الليل (اهدني إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنك ) والإنسان مطالب بالوصول إلى الحق أن يحاول ذلك سواء أكان في مسائل الاعتقاد أو العبادات ومعرفة الصواب والحق و الحق فيها ينبغي أن يبذل جهده في ذلك . ولنأخذ(165/20)
مثلا واحدا يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق انه سلمان الفارسي – رضى الله عنه – أبوه من عباد النار من المجوس كان مع أبيه يحش النار فحصلت له حادثه أرسله أبوه في أمر فمر على دير للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فاخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل فأرسل إلى أولئك النصارى عن أصل هذا الدين قالوا هو بالشام فقال لهم أو أرسل إليهم يقول إذا صار هناك ناس سيتركون يسافرون إلى الشام أعلموني فلما علم حل القيد فهرب وخرج إلى الشام وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه يبحث عن الحق عبادة النار هذه لا تجدي ولا تنفع ولا تصلح فلما أوشك الرجل على الموت إذا به رجل سوء أكتشفه أنه يأخذ صدقات الناس ويخزنها فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه وجعلوا واحدا بدلا منه رجلا صالحا على دين التوحيد يعني ملة عيسى – عليه السلام – فلازمه سلمان – رضى الله عنه – يخدمه ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال : لمن توصي بي من بعدك أوصني فأوصاه إلى رجل بالموصل ، ذهب إليه يتعلم منه لما نوله به الموت أوصاه إلى رجل بنصيبين فلما حضرته الوفاة أوصاه إلى رجل بعمورية وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد فلما نزل الموت بصاحب عمورية قال : أي بني ،لما سأله سلمان : تدلني على من ؟ أي بني والله ما اعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم من الحرم مهاجرة بين حرتين إلى أارض سبخة ذات نخل وإن فيه علامات لا تخفى بين كتفيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فلما واراه دفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار العرب ليحملوه إلى أرض العرب لكن ظلموه وباعوه عبدا لرجل من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة فجيء به إلى المدينة عبد ، فأقام في الرق وبعث الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بمكة وسلمان لا يدري عنه شيئا يعمل في النخل عبد حتى قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة فجاء ابن(165/21)
عم لليهودي يخبره بقدوم النبي – صلى الله عليه وسلم – وسلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال : فأخذتني العُرَواء يعني الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ، ونزلت أقول ما هذا الخبر فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال: مالك ولهذا ، يهودي ولكن سلمان عند المساء أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بطعام قال هو صدقة فلم يأكل منه النبي – صلى الله عليه وسلم – فجاء مرة أخرى بطعام قال هو هدية فأكل منه النبي – صلى الله عليه وسلم – وسلمان يقول هذه واحدة هذه الثانية فدار سلمان حول ظهر النبي – عليه الصلاة والسلام – فعرف النبي – عليه الصلاة والسلام – أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان : فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي . يعني بعد هذه السنوات الطويلة جدا وصل سلمان إلى هدفه وعرف الحق ترك أباه و أهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – وظلم وبيع عبدا واشتغل في الرق سنوات طويلة جدا حتى وصل إلى الهدف وعرف الحق وصل إليه وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد. 3. أما الهمة في الدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – فهذه قضية ينبغي أن تكون مغروسة في أنفسنا لأننا أيها الاخوة مطالبون بأمر الهي (إدعو إلى سبيل ربك ) يجب علينا أن ندعو ، إنقاذ الأمة من الهَلَكَة الأمة الآن تعيش في أحط أوضاعها واسفل ما هو مر بها في تاريخها ولتأملنا صعوبة مهمة الداعية لو تأمل الداعية صعوبة مهمة الداعية لعرف انه لا بد أن يكون صاحب إرادة قوية وهمة عالية لأن هناك جهد كبير ينبغي أن يبذل تصحيح الانحرافات الموجودة ليس أمرا سهلا والأمر أعظم مما قال عمر بن عبد العزيز لما قال : أني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره(165/22)
. هذه أمة الآن غارقة في المصائب غارقة في المعاصي غارقة في الكفر والشرك على راس ذلك أنها المحاربة من قبل الأعداء يحاربون المساجد بالمراقص والزوجات بالمومسات والعقيدة بالفكر المنحرف والفلسفة والقوة باللذة يحاربوننا بان يجعلوا همتنا دنية في اللقمة والجنس . والداعية إلى الله إذا رأى أهل الباطل وعملهم في دعواتهم الباطلة وسعيهم إلى نشرها حتى لربما كانت عجوزا شمطاء في المجاهل والأدغال مع ضعفها وقلة حيلتها تعمل لأجل الصليب أو غير ذلك من الأفكار المنحرفة ويسهرون الليل وينفقون الأموال فالخجل أو فالعيب الكبير في الداعية إلى الله أو الشخص أن يتقاعس عن الدعوة وهو ينظر إلى أولئك القوم . والدعوة إلى الله الداعية يعلم انه منصور وان لم يكن منصورا بالسنان فهو منصور بالحجة والبيان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) . وتأمل في قوة إرادة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلو همته في الدعوة لما بعث ولم يكن في الأرض في ذلك الوقت إلا هذه البشرية المنحرفة تأمل حال رجل واحد يراد ومطلوب منه التبليغ وحمل الناس على الدين و إقامة الإسلام في الأرض واحد أمام هذا الكم الهائل من ركام البشرية المنحرفة التائهة الغارقة في الشرك والوثنية واحد !! كم تكون المهمة صعبة والحمل ثقيل رجع يقول (زملوني زملوني ) من هول ما القي عليه من هذه التبعات العظيمة. لا يقام بهذه المسؤولية إلا من قبل رجال صدّقوا بالله وآمنوا آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين أصحاب همم عالية و إرادات قوية والدعوة إلى الله طبيعتها الابتلاء والفتن والمحن ولابد من صبر الدعوة تحتاج إلى بذل أوقات وهذا نوح قعد يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما . الدعوة إلى الله تحتاج لصاحب همة عالية يدعو إلى الله سرا وجهارا ليلا ونهارا في جميع الأحوال والظروف وينوع الوسائل . والداعية إلى الله يرحل ويتجول في أي مكان سافر والى أي مكان ارتحل(165/23)
ويدعو ، تأمل حال الأعرابي الذي جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، لاحظ أتانا رسولك هؤلاء رسل النبي – عليه الصلاة والسلام – يجولون القفار والصحاري وينتقلون بين القبائل لتبليغ الدعوة ، أسفار مشاق صرف أموال تعب لكن هذه حال الدعوة والداعية وقف لله – تعالى – لا يصلح أن يترك هذه المهمة أو يقول أدعو سنة و أنام سنة كلا .. وقد تكلمنا في بعض المحاضرات الماضية عن أساليب الدعوة ووسائل الدعوة وبعض الصفات الداعية فلا نطيل بهذا ولكن قضية تذكير بان المهمة في عصرنا صعبة ولكنها واجبة ولابد أن نكون أصحاب إرادات كبيرة وهمم عليا لنقوم بهذه الدعوة. 4. أما الجهاد في سبيل الله فان النبي – صلى الله عليه وسلم – حكى لنا حال رجل مثله به بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (من خير معاش الناس له رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه ) هذا الرجل على أهبة الاستعداد دائما مستعد ممسك بعنان فرسه أي وقت فزعة أو هيعة أو منادي الجهاد طار لم يمشي مشيا طار على الفرس يبتغي مظان الموت وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك .حديث صحيح رواه مسلم . وكان النبي – عليه الصلاة والسلام – يقاتل و يحتمي به أصحابه وتمنى أن لا يتخلف عن سرية قط لكن لأجل بعض المصالح ومع ذلك قاد عددا كبيرا من الجيوش والسرايا و أصحابه ساروا على منهاجه . انظر إلى همة انس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه ما عرفته أخته إلا بشامة أو ببنانه سبعين موضع في جسمه طعن وضرب . وحمزة في أحد قال الراوي مثل الجمل الاورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء يقول : يا ابن أم انمار يا مقطعة البذور اتحاد الله ورسوله يضربه فكان كاس الذاهب . ولعل من اعجب الأمثلة و أروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب(165/24)
همة عالية في الجهاد الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف عن أفعاله إلا القليل خالد بن الوليد – رضى الله عنه – هذا الرجل العجيب والعجيب فعلا فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال أسلم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد حين ولكن سخّر قوته ومواهبه لله ورسوله وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة ولما مات النبي – صلى الله عليه وسلم – بعدما أرسله وبعثه أيضا بعوثا إرتدت العرب وكانت مهمةً عظيمةً ملقاة على أبي بكر الصديق – رضى الله عنه – فعرف من ينتقي سيف من سوف الله فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلةً شديدةً خالد يقود الجيش حتى أظفرهم الله على المرتدين وبرغم قساوة وشراسة تلك المعارك معارك الردة التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمين معارك الردة التي ينبغي أن تدرس بعناية لان فيها أمور كثيرة مما ينطبق في زماننا لم يقعد خالد و إنما وجهه أبو بكر لغزو فارس بادئا بثغر أهل الهند والسند و أرسل معه أناس فقام خالد – رضى الله عنه – قسم الجيش إلى ثلاث فرق واعدهم عند الحفير وراسل هرمز يدعوه للإسلام أو الجزية أو القتال وجاء هرمز بجيشه ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء وكلموا خالدا فقال حطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين واكرم الجندين وربط الفرس بعضهم بالسلاسل ودعا خالد هرمز للمبارزة أو هرمز دعا خالد للمبارزة يريد الخديعة حتى جعل خطة بحيث أن هناك أناس من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبها فحمل عليهم فقتل خالد هرمز وانهزم الفرس و أرسلت الغنائم إلى أبي بكر ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لازدشير يستمده فأمده بقائد منهم فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان فنهض خالد لقتالهم على التعبئة وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت للمسلمين(165/25)
فيهم مقتله عظيمة ، ثم موقعة الوجلة التي أرسلت الفرس فيها جيشا كبير العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش ثم انتقل إلى وقعه أليس جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل عبؤوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان في مقتله عظيمة ونذر خالد أن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم وهزم الله الفرس و أمر المسلمون كثيرا منهم ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم فسمي نهر الدم وكان خالد يقول : ما لقيت من أهل فارس قوما كاهل ألِيس وقسم الغنائم و أرسل الخمس إلى الخليفة ثم واقعة أنغيشيا التي اكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء ما أن اقترب خالد هربوا وتركوا كل شيء غنيمة .ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفن الفرات ولكن الفرس عملوا مكيدة بان يفجروا انهارا فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالها وفعلا وقفت سفن المسلمين بأحمالها لكن خالد لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل و إنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل ابن المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم قائمون على انهار فرعية و أجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحمل سفن المسلمين ودخل الحيرة وفتحها واعمل القتل فيها وخيرهم خالد خيّر قساوستها فاختاروا الجزية فأرسل إلى أبي بكر الصديق ثم انتقل إلى الانبار وهكذا من معركة إلى أخرى ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس والحصيد وهي وقعة أخرى ثم ينتقل خالد من مكان إلى مكان إلى واقعة الغراب التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب بجيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين وفتحها الله ثم معركة اليرموك المشهورة و أنتم تعلمون ما فيها وظهرت العبقرية العجيبة لخالد بن الوليد حينما أراد أن(165/26)
يفاجئ الروم من مكان لا يحسب له حسابا فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء التي تقطع الآن بالسيارات في عشرين ساعة مع الراحات أتى خالد بدليل يدل الطريق و أمر بحمل الماء واخذ عشرين جزورا سمانا عظاما فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء حتى رويت فقطع مشافرها و عكمها حتى لا تجتر وكان كل يوم لهم منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الآخر فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كان جيش خالد بن الوليد الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم انتظرونا فإذا سمعتمونا كبّرنا فاقتحموا فصعد هو معهم الأسوار ونزلوا على الروم في الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبّروا فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق وكان بعض أهلها من الطرف الآخر صالحوا المسلمين من الجهة الأخرى فصار بعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحا . وهكذا يستمر خالد بن الوليد وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش فلمح خالد ثغرة فترك جيشه وانطلق إلى القائد انطلق من مكانه إلى القائد المشرك الكافر فأخذ به فاحتضنه ورجع به أسيرا فانهزم جيشه تصور انقض على القائد انقض عليه فأخذه وسرقه ورجع به . وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصنا فقال بعض المسلمين لخالد أن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن نحن نريد أن يخرجوا نقاتلهم فخرج خالد نهارا وهم يرونه مبتعدا ثم دخل ليلا في الجيش مرة أخرى في الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالد خرج خرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا – رضى الله تعالى عنه - . ويستمر حتى يُطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – بعد حين برجوعه إلى المدينة ويكون عنده حتى وافاه الأجل – رضى الله عنه – في إحدى(165/27)
الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرسانا وذهب إلى الحج قطع المسافة إلى عرفه مباشرة حج ورجع فلما رأوه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج . 5. و أخيرا من الأمثلة العالية الهمم العالية في طلب العلم كثيرة جدا وننتقي بعض المقاطع عن ابن عباس قال :لما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت لرجل من الأنصار هلم نسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانهم اليوم كثير فقال : واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – من ترى فترك ذلك و أقبلت على المسألة . يسأل ابن عباس فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل – القيلولة – فأتوسد ردائي على بابه فتسقي الريح على التراب فيخرج فيراني فيقول :يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك، فأقول : أنا أحق أن آتيك فأسألك فبقي الرجل حتى راني واجتمع الناس علي فقال هذا الفتى أعقل مني .الهمة العالية يتوسد عند الباب في الظهيرة هذا الرجل نائم وابن عباس عند الباب والريح تأتى بالتراب ينتظر المسألة العلمية . وعروة بن الزبير عن هشام عن أبيه انه كان يقول لنا ونحن شباب مالكم لا تتعلمون أن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم وما خير الشيخ أن يكون شيخا وهو جاهل ، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه و أجده قد قال فاجلس على بابه ثم أساله عنه . وكان عامر بن قيس التميمي مُقرئ يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن ثم يقوم فيصلي إلى الظهر من الصباح يقرئ إلى الظهر ثم يصلي العصر ثم يقرئ الناس إلى المغرب ثم يصلي ما بين العشائين فينصرف إلى منزله فيأكل رغيفا وينام نومة خفيفة ثم يقوم لصلاته ثم يتسحر رغيفا ويخرج، قيام وصيام و إقراء قرآن من الصباح إلى الليل . أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال : كنت أجلس(165/28)
بالغدوات إلى ابن أبي مالك و أجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحول . و أما القعنبي قال أبو حاتم : ثقة حجة لم أرى اخشع منه كان إذا مر بمجلس القوم قالوا لا اله إلا الله ذكروا الله – عز وجل – ، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ فقال: تعالوا بالغداة ، فقلنا :لنا مجلس عند الحجاج بن منهال ،قال : فإذا فرغتم منه ، قلنا : فنأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم ، قال : فإذا فرغتم ، قلنا : نأتي أبا حذيفة المهدي ، قال : فبعد العصر ، قلنا : نأتي عالما أبا النعمان ، قال : فبعد المغرب ، فكان يأتينا باللبل فيخرج علينا وعليه كبل ما تحته شيء في الصيف فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ .هذا يدل على كيف كان أبو حاتم – رحمه الله – و أقرانه يطلبون العلم مجالس متواصلة . وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء قال عن ابن حبان يحدث عن نفسه قال : لعلنا قد كتبنا عن اكثر من ألفي شيخ قال الذهبي : كذا فلتكن الهمم . هذا ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف – رحمه الله - . وقال محمد بن علي السلمي قمت ليلة سحرا آخذ النوبة على ابن الاخرم فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئا لم تدركني النوبة إلا العصر .إلى العصر ورى بعض يجلسون سرى عند الشيخ . وابن الاخرم كان له حلقه عظيمة بجامع دمشق يقرؤون عليه من بعد الفجر إلى الظهر . والطبري قال لأصحابه : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا : كم قدره ؟ قال : نحو ثلاثين ألف ورقه فقالوا : هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ، قال : إنا لله قد ماتت الهمم ، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة . و أما السمعاني فانه – رحمه الله – طوف البلاد واخذ عن مشايخ لا يعدون وذهب إلى أبي ورد و إسرائيل و الانبار و بخارى و بسطام والبصرة و بلخ و ترمذ و برجام و حمام و حمص و حلب و خسر و جرد و الري و سرخس و سمرقند و همذان و هرات و الحرمين و الكوفة و واسط و الموصل و(165/29)
نهاوند والمدائن ، ما في طائرات ولا سيارات ولا قطارات ، المشي على الأرجل وعلى الدواب حتى دخل بيت المقدس والخليل وهما بأيدي الفرنج تحين وخاطر ودخل رغم انه تحت احتلال النصارى . السِّلَفي الذي ذهب يطلب العلم وهو اقل من عشرين سنة ارتحل ونسخ من أجزاء مالا يحصى وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاما . وابن طاهر قال : بلت الدم في طلب الحديث مرتين مرة ببغداد وأخرى بمكة كنت أمشي حافيا في الحر فلحقني ذلك وكنت أحمل كتبي على ظهري وما سالت في الطلب أحد ما مددت يدي لأحد ، قيل انه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخ والفرسخ تقريبا خمس كيلو . وروى عن سليم الرازي قال : كان أبو حامد الاسفراييني في أول أمره يحرس في درب لكن كان له همة عالية ولو كان يحرس في درب وكان يطالع على زيت الحرس يقرأ على مشاعل الحرس و أفتى وهو ابن سبعة عشرة سنة . عطاء بن أبي رباح كان فراشه في المسجد عشرين سنة . الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى اصبح وعدد من السلف فعلوا كذلك . الإمام مالك قل ما صلى الصبح إلا بوضوء العشاء تسعة و أربعين سنة . وكيع بن الجراح و الإمام احمد تذاكرى الحديث من العشاء إلى آخر الليل . أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن الحسن الشيباني يتلقى منه الحديث وكان ينثر في وجهه الماء ينضح لكي يصحو لكي يبقى منتبها في الدرس . واحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوء مكانه وكان يقول : مع المحبرة إلى المقبرة . والبخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له يوقد السراج في كل مرة ويطفئه . هذه الهمم العالية هذا الحفظ هذا العلم هذه الرحلة هذا التأليف والتصنيف هذه المجالس هذا الحرص على الحضور هذه أيها الاخوة نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيهم . فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا وان يقينا شر أنفسنا وأن يقوي إراداتنا في طاعته وأن(165/30)
يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين والله تعالى اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد(165/31)
صدقوا ما عاهدوا
...
كتبه : الشيخ علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
صدقوا ما عاهدوا
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، لا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه، إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عُمِل أثاب، لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد اللهم لك، لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك، اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك. الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، "سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته" ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته. سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها والنجوم والجبال والشجر والدواب والأتان والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله -تعالى- رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار،(166/1)
وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد وهي حق الله على جميع العباد. إنها كلمة الإسلام، مفتاح دار السلام، لن تزول قدم عبد بين يدي الله حتى يسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلمًا وزورًا من دون الله. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين. بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد وقمع أهل الزيغ والفساد فتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أحبتي في الله؛ أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله- صلى وسلم عليه الله- (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح. فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا(166/2)
شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيي الله هذه الوجوه، حيي الله وجوهًا أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله، وهنيئًا لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله. هنيئًا لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. هنيئًا لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله. هنيئًا لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله. هنيئًا لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم. هنيئًا لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل، فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله.
لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ
لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ
ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ *** ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ
فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأبًا *** لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتَ
ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافًا *** بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى
وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها *** وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتَ
ولازم بابه قرعًا عساهُ *** سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتَ
ونفسَك ذُمَّ لا تذمُمْ سِواها *** بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتَ
فلو بكت الدما عيناك خوفًا *** لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَ
وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ *** أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتَ
ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى *** بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتَ
فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهوًا *** فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتَ
ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ *** وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتَ
تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا *** وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتًا
وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ *** ألا يا(166/3)
صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتَ
أحبتي في الله أوصيكم جميعًا ونفسي بتقوى الله وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) يقول [أبو الدرداء] -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ الرجل بها قومًا فيقومون وقد نفعهم الله -عز وجل- بها. والكلمة الطيبة صدقة كما أخبر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح. فالكلمة الطيبة مِعْطَاءَ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس، جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى، طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله، وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة بإذن الله عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها اللئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخرًا له بعد الممات، ورصيدًا له في الحياة. كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله. أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن تجعلها للجميع ذخرًا في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه(166/4)
ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) أما بعد، أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزًا وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوِّون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد. رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج من الأمة أمثالهم. إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب الاستيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.
إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا *** تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ
ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا لنصل كما وصلوا. ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) غابت شخوصهم، فلنسمع ولنعي أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:
فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي *** فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي
لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما(166/5)
عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال.
رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: آمنا (ربنا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وضعوا أيديهم في يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هان عليهم بعد ذلك أبناءهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه. رجال وأي رجال (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات
القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ *** والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ
منحوا الحياة جمالا، ومعنى، ومغزى في جميل مبنى
كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ *** منهم ظواهر أو بطاح
أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ *** عند ذلكَ والسَّماحُ
وقفة أقفها معكم إزاء هذه الصفوة المختارة ممن صدقوا ما عاهدوا، ما هي إلا قطوف من أشجار، وقطرات من بحار، ورحلة في أكثر من أربعة عشر قرنًا في بساتين الصادقين اليانعة للوقوف على ثمار مجتناه، وزهور منتقاه، وإني لأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله من وصف حال أولئك مع ضعف الاتصاف مني بصفاتهم، بل والله ما شممنا رائحتهم، ولكنها محبة القوم(166/6)
تحملنا على التعرف على منزلتهم، وقراءة سيرهم، وإن لم نلحق فعسى همَّة منا أن تنهض إلى التشبث بسابق القوم ولو من بعيد (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى) (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا" صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرج، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله -جل وعلا-؛ فـ[سلمان] يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزَّّب الأحزاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حفر الخندق، وأَنْعِمْ به من اقتراح. و[الخباب] يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون، ويوم يُعاد [أبو جندل] وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين؛ أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسليه ويعزيه ويقول: اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، وإذا بعمر –وما عمر!عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر- ينفعل مع الموقف، ويمشي بجنب [أبي جندل]، ويقرب سيفه من أبي جندل؛ طمعًا في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية، لكن أبا جندل لم يفعل. فأعيدوا وانظر إلى الصديق، وما الصديق! يوم يتولى الخلافة فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى ما أصبحت تقام الجمعة إلا في بعض الأمصار؛ <كمكة> <والمدينة>، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره ما شعاره؟! ولو خالفتني(166/7)
يميني لجاهدتها بشمالي. شعاره شعار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم يقول: "لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي". [وأبو بصير]، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن نقد بنود صلح الحديبية، إذ جاء مسلمًا فارًّا بدينه من قريش بعد صلح الحديبية، وبعد توقيع المعاهدة إلى <المدينة>، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفاءً بالعهد إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: قد والله أوفى الله ذمتك يا رسول الله، فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في [البخاري]: "ويل أمِّه؛ مسعِّر حرب لو كان معه أحد، مسعِّر حرب لو كان معه رجال" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكانوا أذكياء فهموا أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من <مكة> إلى أبي بصير، وكان على رأسهم أبو جندل، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-. اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن. تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كأبي بصير وأبي جندل، فأرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجا يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من(166/8)
المبادئ؛ ألا وهو قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة. كل ذلك في حكمة، وأي حكمة إذ كان ذلك بإشارة من النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتشجيع من النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم وصف أبو بصير بأنه مسعِّر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبو بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. وهذا [خالد بن الوليد] يستلم الراية يوم مؤتة يوم سقط القوَّاد الثلاثة بلا تأمير فرضي الله عن الجميع، وفي <القادسية> تنفر خيل المسلمين من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليضع فيلا من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله للمسلمين. ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، يعيشون لعقيدتهم. وهذا [عبد الرحمن بن عوف] يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره.
مَضَوْا في الدُّنَا شرقًا فأسلمَ فُرسُها *** وصَاروا بِها غَربًا فسلَمَ رُومُها
[زيد] يجمع القرآن، [وابن عمر] يدوِّن الحديث، [وابن عباس] يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس. ويتحاور ويتناقش [سلمان] [وأبو الدرداء] حول قيام الليل، وحقوق العيال. تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون. علموا أن الإيجابية إعزارا إلى الله من التقصير، فأدوا واجبهم قدر الإمكان، ولم ينتظروا النتائج، على مبدأ:
بِذرُ الحبِّ لا قَطْفُ الجَنَى *** واللهُ للساعين خيرُ مُعينِ
علموا أن التكليف فردي، وكل سيحاسب يوم القيامة فردًا (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ) (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) فكان كل فرد منهم أمة يوم تربوا على منهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فصدقوا ما(166/9)
عاهدوا، صدقوا ما عاهدوا. وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله <بمكة> فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. رأوه وهو يقف على <الصفا> وحيدًا فريدًا قد اجتمعوا حوله وهو يقول: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكبارًا، وقال عمه: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه، لم يتراجع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم ييأس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في <عكاظ> <ومَجَنَّه> في المواسم، يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى أن الرجل ليخرج من <اليمن> أو من مضر فيأتيه قومه فيحذرونه غلام قريش لا يفتنهم. حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان.
والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددُ *** والسيفُ ما فَقَدَ المُضِاءَ وما نَبَا
كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذي كما أوذوا في سبيل الله فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا بل صابروا وهاجروا فرارًا بدينهم هجرتين إلى <الحبشة> ثم إلى <المدينة> رضوان الله عليهم أجمعين عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار آووه وصدقوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم كيف وهم يرونهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم مراضع الطفولة(166/10)
وحياتهم كلها ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم –صلى الله عليه وسلم- يقف أمامهم يخاطب <مكة> بالحزورة قائلا:" والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت" دموعه تهطل على لحيته –صلى الله عليه وسلم- فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟ أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها. كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضع عشر رجلا في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفًا يكفرون بالله قد خرجوا بطرًا ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله.
ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ *** ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ
تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً *** فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ
كيف لا يصدقون وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية وقد بلغوا ألفًا وأربع مائة وأكثر من ذلك فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى <مكة> التي(166/11)
أخرجوه منها فاتحين، قائدهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خشع شاكرًا لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجئ الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله. وإذ بالذين أخرجوه نكست رؤوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم، فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريمًا، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ *** زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم
كيف لا يصدقون وهم ضمن ثلاثين ألفًا يقودهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى <تبوك> ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية، وكان له ذلك. كيف لا يصدقون وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه على الصفا، يكبر ويقول: "خذوا عني مناسككم" في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه –صلى الله عليه وسلم- عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين. فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألف، إلى مائة ألف. ما قاتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عدوًا بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هم الأقل (كَم من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) صدقوا ما عاهدوا صدقوا الله في تلقيهم للقرآن فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألأ الكواكب في صفحات السماء ملئوا الجوانح بكلام الله فظهر أثر(166/12)
ذلك على الجوارح، رتَّلوا القرآن ترتيلا ينمُّ عن التأثر بما يتلون، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرؤون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا يا أيها الذين آمنوا إلا صاخوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم. يأتي أحدهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم هلعًا، فزعًا، جزعًا، ترتعد فرائسه، فيقال: ما بك؟ قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله، قال- صلى الله عليه وسلم- ولِمَ ؟ قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو. فمازال –صلى الله عليه وسلم- يهدئ من روعه حتى قال: " [يا ثابت بن قيس]؛ ألا ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى، بلى يا رسول الله، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك". ثم تتنزل آية الحجرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) وكان رجلا جهير الصوت، يلازم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: من يأتيني بخبر [ثابت]، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد، قال: شر والله، قال: ما ذاك؟ قال: تعلم أني رجل جهير الصوت، وكثيرًا ما يعلو صوتي صوت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل(166/13)
النار، يرجع الرجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله، كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا، قال: ارجع إليه فقل له: لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت. فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال! وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيصاب كما أصيب المسلمون. ويرتد العرب فيكون في جند من يردون المرتدين إلى الواحد القهار، يوم جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رؤوس المسلمين يقول: يا معشر المسلمين، والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه [البراء] [وزيد] [وسالم] فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وسارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعًا على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه. قف أخرى معي وتأمل: يوم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة <ذات الرقاع> ونزل المسلمون شعبًا من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يحرسنا الليلة؟ فقام [عباد بن بشر]، [وعمار بن ياسر]، وقد آخى بينهما رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله، خرجا إلى فم الشعب، فقال عبادُ لعمار: أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار: بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد، وبقي عباد يحرس جند رسول الله، أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي(166/14)
القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات، ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله –صلى الله عليه وسلم على نبينا محمد- فوتر قوسه وتناول سهمًا من كنانته ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلا: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. ولَّى المشرك هاربًا، وأمَّا عمار فنظر –ويا للهول- أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به، فقال عباد واسمعوا إلى ما يقول: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وأيم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها. لا نامت أعين الجبناء، لا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين.
يا ابنَ الهُدَى *** يا فَتَى القرآنِ
دعكَ مِنَ الأوْهَامِ *** جلجَلَ أمرُ الله أنْ أَفِقِ
تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئًا. عبر أحدهم عن تلك اللذة يوم قال: والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه الدنيا. ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طربًا بذكر الله، حتى أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم وعبر الآخر عن لذته بمناجاة الله بقوله: والله لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟ قال: لذة مناجاة الله في الخلوات. هذه حالهم يا(166/15)
متأمل، هذه حالهم يا متبصر، فما حالنا؟
كُثُرٌ لكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ *** جمعٌ لكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ
شككتْ نفسي مهانتكم *** أنكمُ يا قومِ منْ مُضَرٍ
خَبِّرُونِي أين حِسِّكُمُ *** لأزْيَدِ الوَخْزِ بالإبرِ
نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان
وكانَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ *** فصارَ البرُّ نُطقًا بالكلامِ
إنهم لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعًا عمليًا لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى [أبا طلحة] الأنصاري وهو يسمع قول الله: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وزخرها عند الله، ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً) فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني. يا لله شيخ كبير لاف على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- وصرت شيخًا كبيرًا، فدعنا نغزوا عنك، قال: والله ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ الشبان، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازًا لدين الله، فيشاء الله يوم علم صدق نيته أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفًا، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضًا شديدًا يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟ ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته وهو مسجى بينهم لم يتغير فيه شئ كالنائم تمامًا، وفي وسط البحر بعيدًا عن الأهل والوطن نائيًا عن العشيرة والسكن دفن [أبو طلحة]، وما يضره أن يدفن بعيدًا عن الناس ما دام قريبًا من الله -عز وجل-، ماذا يضره(166/16)
أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة. لا نامت أعين الجبناء
ويلٌ لكم هل سِوَى الأكفانِ حُجَّتُكُم *** وهلْ يكونُ سوى الأكفانِ حَظَّكُمُ
هيَّا اسلبُوها من الأجْداثِ باليةً *** ثم البسوها وقُولُوا الإرثُ إرثُكُمُ
صدقوا ما عاهدوا فكان القرآن فيصلا في المواقف التي يحار فيها أولو الألباب، ما كانوا يرجعون إلا إلى كتاب الله؛ ففي يوم موت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصيب المسلمون وفجعوا، وفقد بعض الصحابة الصواب، حتى قال: والله ما مات، فإذا بأبي بكر تربية القرآن، إذا به يتلو ويقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) فعلموا بذلك أنه مات، حتى أن بعضهم سقط ما كادت تحمله رجلاه، وحق له ذلك، ويختلف المسلمون بعد ذلك فيمن يخلف رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال المهاجرون: نحن أولى بخلافة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال بعض الأنصار: نحن أولى بها، وقال بعضهم: بل تكون فينا وفيكم؛ منَّا أمير ومنكم أمير، وكادت تحدث الفتنة ونبي الله لا زال بين ظهرانيهم ولم يدفن بعد، وإذا بأهل القرآن بكلماتهم الناصعة التي تئد الفتنة في مهدها ينطقون، إذا [بزيد بن ثابت] –رضي الله عنه- تربية القرآن يقول: يا معشر الأنصار: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين، فخليفته مهاجر مثله، وكنا أنصارًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فنكون أنصارًا لخليفته، ثم بسط يده إلى أبي بكر –رضي الله عنه- وقال: هذا خليفتكم فبايعوه، فبايعوه فبايعوه ووئدت الفتنة في مهدها. هذا صدقهم مع كتاب الله، أصلحوا سرائرهم ففاح عبير فضلهم، وعبقت القلوب بنشر طيبهم. فالله الله في كتاب الله قراءة وتدبرًا وعملا؛ لأننا جعلناه –ومع الأسف- للمآتم صوتًا ومحدثًا، قبلناه وأكثرنا تقبيله، وما قبلناه ولم(166/17)
يلامس شغاف قلوبنا، ادَّعينا حب من أُنزل عليه القرآن، ثم أحدثنا ما أحدثنا، وكل محدث ضلال، ومن عمل عملا ليس عليه أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو أحدث في أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما ليس منه فهو رَدٌّ. فالله الله في القرآن، والله الله في السرائر والأعمال وفق شرع الرحمن وعلى طريقة خير الأنام؛ فإنه لا ينفع مع فساد السرائر وتنكُّب الأتباع صلاح ظاهر (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) صدقوا ما عاهدوا، صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به "ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" "وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه" فإذا براعي الغنم في باديته رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعيا. اجتمعوا يومًا من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة، فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم. يقول [عقبة] وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحدًا تلو الآخر وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس. طفقوا واحدًا بعد الآخر يذهبون ويرجعون فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا. يقول عقبة: ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس، من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأخذ عنه مشافهة بلا(166/18)
واسطة، والله لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة فيلزم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيرًا ما أردفه –صلى الله عليه وسلم- على دابته، وربما نزل –صلى الله عليه وسلم- عن بغلته ليركب عقبة. جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- العذبة حتى غدا مقرئا محدِّثًا فقيها فَرَضِيًا أديبًا فصيحًا شاعرًا، بل كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله –عز وجل- ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله –جل وعلا- حتى كان يدعوه عمر –رضي الله عنه- ويقول: اعرض عليَّ شيئًا من كتاب الله، فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل الدموع لحيته. قاد الجيوش فكان قدوة قائدة، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفًا تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟ إنها بضع وسبعون قوسًا، أوصى أن تكون في سبيل الله. فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن. صدقوا حتى قيل لأحدهم وقد استغرق طلب العلم وكتابته وتبليغه وقته، قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ إلى متى وأنت تكتب في تلك العلوم؟ فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد. ما يدري المرء متى يقول الكلمة فيهدي الله بها خلقًا كثيرًا، ما يدري المرء متى يقول الكلمة أو يكتب الكلمة الصادقة فتنجيه بين يدي الله. صدقوا حتى إن أحدهم لتعاتبه زوجته على كثرة شراء الكتب فيقول هو رادًّا عليها:
وقائلةٌ أنفقتَ في الكتبِ *** ما حَوَتْ يمينُك من مالِ
فقلتُ دعيني لعلِّي أَرَى فيه *** كتابًا يَدُلني لأخذِ كتابِي آمنًا بيميني
صدقوا حتى قيل لأحدهم: بم كنت عالمًا من بين أقرانك وأترابك؟ قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لأدرس العلم في الكتب مثلما أنفقوا في شرب(166/19)
الخمور، وفرق بين رهط بالعلم قد زكاها، وأُخَرُ بالمعازف ورنات الكؤوس والغفلة قد دساها و(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) صدقوا ما عاهدوا، صدقوا فضَحُّوا بالنَّفس والنفيس في سبيل الله. صدقوا فتحمَّلوا الجوع والعطش والبرد والأذى؛ لخدمة هذا الدين. صبروا على الامتحان وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فتركوا أموالهم وعشيرتهم وأوطانهم وهاجروا فارين بدينهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم. استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان، فإذا بأحدهم؛ وهو [عبادة]- رضي الله عنه- يقول للمقوقس: وما منا رجل إلا ويدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا. بذلوا أرواحهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فنحن كذلك؟ اللهم اجعلنا جميعًا كذلك، آمين يا رب العالمين. أحبتي في الله؛ لم يكن طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان معبَّدًا، مفروشًا بالزهور والورود، بل كان محفوفًا بالأخطار، وكان الدخول فيها امتحانًا شاقًّا لا يجتازه إلا الهمم الشامخة، والرؤوس العالية التي حازت الإيمان والإخلاص والمجاهدة والجهاد.
سَلُوا بلالا وعمارًا ووالدَه *** عنِ السلاسلِ والرَّمْضاءِ والأَلَمِ
مر رجل [بالمقداد بن الأسود] -رضي الله عنه- فقال له: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله لوددنا أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فقال المقداد: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضرًا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله لقد حضر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنم؛ إذ لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ(166/20)
أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم وقد كفيتم البلاء بغيركم. والله لقد بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق به بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافرًا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه وقريبه في النار، وإنها للتي قال الله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لقد كان معظم الصحابة فقراء ومن لم يكن فقيرًا فقد ترك ماله يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، وكانت الدولة الناشئة في المدينة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله، في نيل المال أو الجاه أو أي عرض من أعراض الدنيا. ومن طريف الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرج [البخاري] في صحيحه عن [سهل بن سعد] –رضي الله عنه- قال: كانت منَّا امرأة تجعل لها في مزرعة لها سلقًا –نوع من الخضار- فكان إذا جاء يوم الجمعة تنزع أصول السلقة، وتجعله في قدر، ثم تجعل معه قبضة من شعير تطحنه، قال سهل: فكنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرب لنا ذلك الطعام، والله إنا كنا لنتمنى يوم الجمعة من أجل ذلك الطعام، ونفرح بيوم الجمعة لأجله مع أنه طعام لا شحم فيه ولا وَدَك، وما عند الله خير وأبقى. ثم تجيل نظرك فإذا أنت [بصهيب] قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسعه أن يبق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عينًا الليلة، أسلموا أعينهم للكَرَى(166/21)
مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ إلا قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم –رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته –وهم يعرفون صهيب جيدًا- وبرى قوسه، وقال: يا معشر قريش، تعلمون أني من أرمى الناس، والله لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلا، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شئ، فقال قائلهم: والله لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فاغتنيت وبلغت ما بلغت ،ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي، قالوا: نعم، فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فارًا بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله. يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ قباء رآه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهشَّ له وبشَّ وقال: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى". الله، لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي ربح البيع أبا يحيى، علت الفرحة وجه صهيب، وحقًا والله ربح البيع (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) ثم انظر أخرى فإذا أنت بآخر، إنه [حكيم]، يسلم إسلامًا يملك عليه لبَّه، ويؤمن إيمانًا يخالط دمه، ويمازج قلبه، وهو يقطع على نفسه عهدًا أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأضعاف أضعافها، وقد بَرَّ في قَسَمِه، وصدق فيما عاهد، فإذا بك تتخيل وتنظر فإذا حكيم قد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلا الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم،(166/22)
فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم، فقال: يا بني؛ ذهبت المكارم كلها، ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني أن أشتري بها دارًا في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله، وربح البيع، ثم أنظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك، فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقربًا إلى الله تعالى، ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات ومعه مائة من عبيده قد جعل في عنق كل واحد منهم طوقًا من فضة، نقش عليه عتقاء لله -عز وجل- ثم يعتقهم جميعًا على عرفات، ويسأل الله -عز وجل- أن يعتق رقبته من النار، ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّبًا لله -عز وجل- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
يا ناعمَ العَيشِ والأموالُ بائدةٌ *** أين التبرعُ لا ضَاقتْ بكَ النِّعَمُ
كان المال في أيديهم لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله
لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ سُرَّتهم *** لكِنْ يمرُّ عليها وهو يستبقُ
كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره باحتسابه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ويقول: أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك ليلقى الله. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه، ورحم الله أولئك الرجال، طلبوا الدنيا على قدر مكثهم فيها، وطلبوا الآخرة على قدر حاجتهم إليها. لم يضحوا بأموالهم فحسب، بل ضحوا بدمائهم في سبيل الله؛ رجاء ما عند الله، وما عند الله خير للأبرار (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ) وصدقوا فإذا أنت بشاب ناضر الشباب مؤمن بالله اسمه [حبيب] يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى [مسيلمة الكذاب]، يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد،(166/23)
ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد حتى يبلغ أعالي <نجد>، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة، فلما قرأها انتفخت أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه. أمر بحبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة الحبيب –صلى الله عليه وسلم- لما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر بحبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف بإيمانه، التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، أشهد أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله –وخسئ-؟ فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمم عن سماع ما تقول، فيتغير لون وجهه، وترتجف شفتاه غيظًا وحنقًا ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض، ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم -صلى الله عليه وسلم- قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمم عن سماع ما تقول، فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخصت الناس بأبصارها مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ إنه الثبات من الله، مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، حتى صار قطعًا منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، محمد رسول الله، محمد رسول الله.
إن عذَّبوا الجسمَ فالإيمانُ معتصمٌ *** بالقلبِ مثلَ اعتصامِ اللَّيثِ بالأَجَمِ
ثم يأتي الخبر لأمه -ويا لهول الخبر جدير بأمهات المسلمين وبأمهات الشباب والشابات أن يقفن مع هذه الأم لندرس سيرتها يوم جاءها خبر ابنها الذي قطع إربًا إربًا وهو يقول: محمد رسول الله، اسمع إلى ذلك المحضر الخالد لذلك الرجل- ما زادت –والله- يوم جاءها الخبر على أن قالت: من أجل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة(166/24)
العقبة صغيرًا، ووفَّى له اليوم كبيرًا، فحمدت الله -سبحانه وتعالى- كثيرًا
فلو كانَ النساءُ كمنْ ذكرنا *** لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٍ *** ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
هل وقفت عاجزة تبكي ابنها وتندب حظها؟ لا، بل في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف كاللبؤة الثائرة تنادي: أين عدو الله مسيلمة؟ فوجدته مجندلا على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت نفسًا، وقرَّت عينًا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) مضى حبيب ومسيلمة مضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير. رضي الله عنهم؛ ضحوا بكل شئ، وصدقوا الله فصدقهم الله، وأقر أعينهم بنصرة دينه وإعلاء كلمته. مواكب تتلوها مواكب من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
مواكبُ الله سارَتْ لا يُزَعْزِعُهَا *** عاتٍ منَ البحرِ أو عالٍ من الأطم
لا يهتفونَ لمخلوقٍ فقدْ علمُوا *** أنَّ الخلائقَ والدنيا إلَى العَدَمِ
فإذا أنت ترى أحدهم وهو [عقبة بن نافع] على أطراف غابة <القيروان> ينادي يخاطب السباع والهوام ويقول: نحن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئنا لننشر دين الله في الأرض فأخلي لنا المكان، فتخرج السباع والهوام، تخرج حاملة أولادها على ظهورها؛ لتخلي المكان لجند الله؛ كرامة من الله، أطاعوا الله فطوع الله لهم كل شئ؛ ليبني مدينة <القيروان> في تلك الغابة، لا ليركن إليها ويجلس فيها ويتنعم بها، بل ينطلق بعد ذلك فاتحًا في الأرض حتى يقف بقوائم فرسه في أطراف المحيط الأطلسي ليقول كلمته الخالدة وقوائم فرسه قد ابتلت بمياه المحيط الأطلسي يقول: والله لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضًا وأقوامًا لخضته في سبيل الله؛ لأنشر دين الله. وإذا [بقتيبة] في الجانب الآخر في شرق الكرة الأرضية ذاك في غربها وهذا(166/25)
في شرقها يفتح المدن والقلوب، حتى يقف على أطراف مملكة <الصين> ويقسم بالله ليطأن بأقدام فرسه تلك المملكة، ويسمع ملكها فيهلع ويخاف ويجزع، ويعلم أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا، فيرسل صِحَافًا من ذهب مملوءة بتربة أرض الصين؛ ليبرَّ قسم قتيبة، وتطأ خيل قتيبة تلك التربة، وتكون الصحاف مقدمة الجزية، وأربعة من أبنائه يوضع عليهم وسام المسلمين فيا لله!
مهلا حماةَ الضَيْمِ إنَّ لِلَيلِنا *** فجرًا سيطْوِي الضَيمُ في أطمارهِ
وإذا بكم بعد فترة تتخيلون وتقرؤون، خليفة المسلمين يخاطب السحابة وهو على كرسيه، ويقول: أمطري أنَّى شئت؛ فسوف يأتيني خراجك. صارت الكرة الأرضية ما بين مسلم حقًا وكافر يدفعُ الجزيةَ عنْ يدٍ وهو صَاغِرٌ.
للهدى كانوا أذلاء وللعدلِ *** وللمَعروفِ كانُوا خُلفاءَ
ولو دعاهم صارخٌ لانتفضوا *** مِن بطونِ الأرضِ يرمونَ السماءَ
تركُوا المنزلَ معمورًا لنا *** ثُمَّ جِئنا فتركناهُ خَلاء
ضربُوا العِزَّ لنا أخبيةً *** فنقضنَاها خَبَاءً فخَباء
ومع هذا
يا أمتي إنْ طالَ ليلُك عابثًا فتَرَقَبي *** بسمات فجرٍ في الظَّلام جَديدِ
ما نامَ جفنُ الحقِّ عنك وإنمَّا *** هيَ هدأةُ الرِّئبالِ قبلَ نفارِهِ
لعلها هدأة الأسد قبل نفاره. صدقوا ما عاهدوا، صدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم من الله، وأنعم به من تطلع لا يعدله شئ من تكريم الدنيا. "صح أن أعرابيًا قسم له النبي- صلى الله عليه وسلم- في <خيبر> من الغنيمة وكان غائبًا، فلما حضر أعطوه ما قُسِم له، فجاء الأعرابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأدخل الجنة، وأشار إلى حلقه، فقال -صلى الله عليه وسلم- إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا، ثم نهضوا لقتال العدو، وكان له ما أراد، إذ أوتي به يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله(166/26)
فصدقه الله، ثم كفنه النبي –صلى الله عليه وسلم- بجبته وصلى عليه، ودعا له، ثم قال: اللهم هذا عبدك، خرج مجاهدًا في سبيلك، قتل شهيدًا وأنا عليه شهيد". أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال قائلهم؛ وهو [جابر بن عبد الله]: والذي لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل <القادسية> أنه يريد الدنيا مع الآخرة . وهاهو [أبو الحسن عليّ] –رضي الله عنه- يوم الخندق يرى [عمرو بن ودٍّ]؛ فارس العرب بلا منازع وهو يجتاز الخندق، ويندب المسلمين للمبارزة، فيتقدم عليٌّ لمبارزته، فيندب الثانية وقد استصغر [علي] فيخرج له علي، فيندب الثالثة للمبارزة فما لها إلا علي، فيقول النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما روى عنه أخرج إليه منصورًا، فكان اللقاء وما هو إلا قليل وهما يصطرعان وإذ بعلي يعلوه بالسيف، ويوم علاه بالسيف بصق عمرو في وجهه، فيتركه علي دون أن يقتله، فقال له عمرو: عجبًا لأمرك مُكٍّنْتَ مني بشيء لم تحلم به العرب، ثم تتركني فقال علي: كنت أريد قتلك لوجه الله يا عدو الله، فلما بصقت في وجهي ثارت نفسي وطالبتني بالثأر، فخشيت أن يكون قتلك لنفسي، ووالله ما أريده إلا لله. ما أبلغه من كلام! ما أعظمه من تفكير! ما أحلاه من خلق أصيل! ترفع عن حظوظ النفس، وسفاسف الأمور، ولا غرابة، فأين تربَّى علي؟ تربى في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ربيب الإخلاص والتجرد والصدق.
والأمرُ من معدنِهِ لا يُستغربُ *** والفرعُ للأصلِ حتمًا يُنسبُ
صدقوا ما عاهدوا فاتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو. ركلوا العُجْب والكبر والغرور فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء. في حضور يقال لأحدهم: يا مراءٍ، فيقول: متى عرفت اسمي؟ ويقال لآخر وقد ازدحم الحجاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء، فيقول: ما عرفني إلا أنت، ما عرفني إلا(166/27)
أنت. ويؤتى بالثالث يقف يوم عرفة آخر النهار متذللا خاضعًا خاشعًا قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -ويا لها من ذنوب صغار، وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم قلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي، اللهم لا تردهم من أجلي.
ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطْلقهُمْ *** مِنْ عُقَالٍ وبقينًا أُسَرَاء
ما لنا نحنُ عَجِبنَا واغْتَرَرْنَا *** أوَ لسْنَا كُلُنَا طينًا ومَاء
لو تبعنا الهدى آثارهم *** لانطلقنا وسمونا للعلاء
صدقوا ما عاهدوا فعفوا وصفحوا. وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، كل ذلك يرجون ما عند ربهم. يقال لأحدهم: إن فلانا من الناس يقع فيك فيقول: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول:" اصبروا حتى تلقوني على الحوض". يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. ويقال للثالث: إن فلانًا يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟ من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، ما ينفعك إن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ لكن تعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك. أيها الأحبة؛ إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج. وبعضنا -ويا للأسف- يتخذ أخاه(166/28)
هدفًا ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح ويعدل ويشي .
وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى *** ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى
اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة ولأولئك. وا أسفاه يوم يسود عرف التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح ليس المنزلة -والله- بأن تنال لقبًا بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزًا، أن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلانا. صدقوا ولم نصدق، قلوب امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل –والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛ يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة. يمر [أبو الدرداء] بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم ولو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) صدقوا في حبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحرصوا على رؤيته وصحبته، وقد كان فَقْد صحبته ورؤيته -صلى الله عليه وسلم- أشد عليهم من كل شئ، أحبوه، بذلوا المال والنفس والنفيس دونه -صلى الله عليه وسلم- أحبوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، أحبوه فنصروا سنته، وذبُّوا عن شريعته، وما أحدثوا في حبه ما لم يشرع. فليحذر الذين ادعوا حبه ولم يتبعوه واتبعوا أهواءهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. لقد سد الله(166/29)
-سبحانه وتعالى- دون جنته الطرق فلن تفتح الجنة لأحد إلا من طريقه (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أحبوه حتى جاء أحدهم إليه يفكر فيما بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله؛ إنك لأحب إلى من نفسي ومن ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، فإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنا إن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يجبه- صلى الله عليه وسلم- ليتنزل الجواب قرآنا يتلى (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم منَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشهداء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ويقول –صلى الله عليه وسلم- [لربيعة الأسلمي]: سل شيئًا يا ربيعة، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال –صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك، قال: ما هو إلا ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. كان الناس يسألون ما يملأ بطونهم، ويواري جلودهم مما هم فيه، أما المحب فلا يريد إلا مرافقة حبيبه في الدنيا والآخرة. وبعد عام من وفاته –صلى الله عليه وسلم- بعد عام يقف أبو بكر –رضي الله عنه- على المنبر ويقول: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف من عامي الأول، ثم استعبر أبو بكر وبكى، ثم قال أخرى: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلم يملك أن خنقته العبرة فبكى، ثم قال ثالثة فخنقته العبرة فبكى، ثم قال: لا يسمع صوته من نشيجه، قال: صلى الله عليه وسلم، لم تؤتوا شيئًا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فسلوا الله العافية. نسأل الله العافية. أما [سعد بن الربيع] فهو في آخر رمق يجده [زيد] بين القتلى، وإذا به يقول: بلِّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه(166/30)
وسلم- وفيكم شِفْر يطرف. والآخر يقول يوم أحد وقد كان يقوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجالد فيقول: لا تشرف يصبك سهم، نحري دون نحرك يا رسول الله. أحبوا فامتثلوا أوامره. فبينما بعضهم يصلي صلاة العصر إذ حولت القبلة إلى الكعبة، فمرَّ رجل صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم – عليهم، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في الصلاة، في صلاة العصر تأسيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. نزل تحريم الخمر (فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ) فأريقت الخمر حتى جرت بها سكك المدينة ولسان حالهم ومقالهم: انتهينا انتهينا. خلع -صلى الله عليه وسلم- نعليه وهو يصلي فألقوا نعالهم وراءه، فسألهم لم فعلتم ذلك؟ قالوا: رأيناك ألقيت فألقينا، فأخبرهم أن جبريل أتاه فأخبره أن فيهما قذرًا. يقول يومًا [وابن رواحة] قادم إلى المسجد يريد الدخول: اجلسوا عباد الله، أو كما قال –صلى الله عليه وسلم- فيجلس ابن رواحة خارج المسجد، ما وسعه إلا الاستجابة لأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. أبو بكر –رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يتتبع أفعال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيفعلها حبًّا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-. الحب اتباع لا ابتداع. يقول: وبعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول لعمر: انطلق بنا إلى [أم أيمن] نزورها كما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزورها، قال: فلما انتهينا إليها ورأتنا بكت، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، ولكن أبكي لأن الوحي انقطع من السماء بموته -صلى الله عليه وسلم- ثم انفجرت تبكي -رضي الله عنها- فهيجتهم على البكاء، فجعلا يبكيان معها إيه يا أم أيمن.
يا أم أيمن قد بكيتِ وإنَّنا *** نلهُو ونمجنُ دونَ معرفةَ الأدبِ
لم تبصري وضع(166/31)
الحديثِ ولا الكذبِ *** لم تبصري وضع المعازفِ والطربِ
لم تشهدي شرب الخَمور أو الزنا *** لم تلْحَظِي ما قدْ أتانا من عطَبِ
لم تلحظي بدعَ الضلالةَ والهوى *** لولا مماتُك قدْ رأيتِ بنا العَجَبِ
لم تعلمي فعل العدو وصحبِهم *** ها نحن نجْثُو لليهودِ على الرُّكَبِ
واحرَّ قلبي من تَمَزُّقِ جَمعِنا *** أضحتْ أمورُك أمتي مثلَ اللعب
تالله ما عَرفَ البكاءُ صراخَنا *** ومع التباكي لا وشائجَ أو نَسَبِ
كيف لا يحبونه وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربه، فكان لهم قائدًا و مربيًا وأبًا ورسولا نبيًا، وسراجًا منيرًا، ولن يؤمن أحد حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ماله وولده وأهله ونفسه والناس أجمعين (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) وذلك هو الحب أيها الأحبة. إن هذا الحب العميق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع شدته، ومع مفاداتهم له بالنفس والنفيس فإن عقائد المسلمين استقامت بفضل الله لم يتجاوزوا صفة النبوة، ولم ينسبوا إلى نبيهم -صلى الله عليه وسلم- صفة الألوهية، ولم يعبدوه من دون الله، بل كان صوته يجلجل في عقولهم ويرددونه "أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة" القرآن يذكِّر ببشريته (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) والقرآن يذكر أنه يصيبه ما يصيب البشر(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فالاتباع خير لو كانوا يعلمون. صدقوا الله حتى في أمنياتهم وهممهم، وهمم أهل الدين يجب أن تكون أعلى وأسمى. هكذا كانت مطالب الصحابة -رضوان الله عليهم- وأمانيهم اجتمعوا يومًا من الأيام فقال قائلهم: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل-. وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف. وأما خالد(166/32)
فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد يصبِّح منها العدو ليجاهد في سبيل الله. وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل [أبي عبيدة]؛ أستعملهم في طاعة الله. رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله، يا أيها الأحبة يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم. فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال! كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة. كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كأبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير. كم هي حاجة الأمة لأمين كأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، تداعت علينا الأمم، وتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة والله، ولكن غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا الموت، فكان ما كان. كأني والله بقدوة من أولئك الصادقين يقول بلسان حاله وهو مرابط في قبره: وا أسفاه، وا أسفاه، أأنتم أحفادنا؟ أأنتم من قرأتم القرآن؟ أأنتم من درستم سيرة المختار؟ وا أسفاه نقشتم وصايا المختار على الجدران والأحجار، وكان الأحرى أن تنقشوها على الجنان ، وا أسفاه، أما قلت لكم: أقيموا الصلاة؟ فما بالكم تركتم الصلاة، وغادرتم المساجد لتعمروا المسارح والملاعب والملاهي. وا أسفاه ، أما قلت لكم صوموا رمضان، وقوموه إيمانا واحتسابًا ؟ فما بالكم تجعلونه شهر الطعام والفوازير والسهر على الحرام مع ضياع الأوقات؟ وا أسفاه ألم أقل لكم تصدقوا؟ فما بالكم بخلتم فما تنفقون درهمًا إلى على أقدام راقصة أو لاعب أو صاحب مزمار أو آلة دمار وعار، عار وأي عار! وا أسفاه ألم أقل لكم حجوا واعتمروا؟ فما بالكم جُبْتُم أقطار الدنيا، وبيت الله(166/33)
منكم على مرمى حجر يهجر، أأنتم بشر؟ وا أسفاه، تغرقون في أزقة الغرب ومواخيرها، ولا تعرفون الخندق ولا بدرًا ولا أحدًا ولا الحديبية، لا تعرفون المقام ولا الحطيم ولا زمزم وتعرفون أزقة باريس وما أشبهها. ألم أقل لكم انصحوا والدين النصيحة؟ فما بالكم اتقنتم صفة النفاق تَغُشُّون وتُغَشُّون، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، واأسفاه يا رجال الحق!
يا رجال الحق قد جل الأسى *** أرجال منْ أرى أمْ لا أَرَى؟
ضاعت الأمةُ فِي غفلاتِكم *** وتَحَيَّزْنا لأمرٍ حيَّر
الجوى ينخر في أحشائِكم *** والهوَى بَينَ خوافِيكُم سَرَى
اسألوا عن كلِّ نصرٍ خالدا *** واسألوا عن كلِّ عدلٍ عمرا
يا رجالَ الحق قدْ طالَ الجوَى *** بلغَ السيلُ الذُّبا وانحدرا
أنتم القدوة والناسُ بكم *** تقَتدي فَخرًا وتَزْهُو مَفخَرَا
وحِّدُوا أشتاتكم واتحدوا *** واربطُوا أحلامَكم ربطَ العُرَى
واصبروا إن عَظُمَ الخطبُ فما *** يدرك النصرَ سِوى مَنْ صبرا
وانصروا الله يَهبْكُم نَصرَهُ *** واشكروه يُعطي من قد شَكَرَا
صدقوا ما عاهدوا فكانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون. إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين. رضي الله عنهم أجمعين. أحبتي في الله: هذه بعض الصفات للصادقين الغر الميامين نوجه الجميع للنظر فيها (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) والاقتداء المطلق كما تعلمون بنبي الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو قدوتهم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، ثم يكون الاقتداء بالصالحين الصادقين في الجانب الذي تميز كل واحد فيه بما ينطبق مع أحكام الشرع ومقاصده، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.(166/34)
وأخيرا وبعد هذه الجولة في رياضهم فإني أدعو الجميع من خلال ما سمعتم إلى أمور وأسأل الله –عز وجل- ألا نكون من الذين إذا نزلوا بقوم ما خرجوا من عندهم حتى يدعون الله –عز وجل- أن يفرج عنهم. اسمعوا إلى هذه الأمور: هذه أمور من خلال ما ذكر أريد أن أنبه إليها ولعلها خلاصة.
أولا: لا تستقلوا قليلا، ولا تستكثروا كثيرًا، وأحسنوا النية؛ فربَّ صغير تعظِّمه النية، ورب عظيم صغرته النية. والقليل أولى من القعود، حتى لو كان حديثًا لأهل، أو كلام لطفل، أو مسحًا لرأس يتيم، أو تبسمًا لجار، أو نصحًا لرفيق في عمل، أو استماع كلمة أو محاضرة أو قراءة قرآن، حتى لو كان ذلك في السيارة. وداوم فأحب العمل أدومه وإن قل وكل ذلك يكسب الأجر ويلحق بالركب (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(166/35)
ثانيًا: إذا فرغت فانصب، إذا فرغت من طاعة فانصب في طاعة أخرى، ألحق العمل بالعمل، والتعب بالنَصَب، ولا تغتر بالرأي؛ فالحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى بها. ما ضرك أيها المؤمن؟ بدلا من صرف الوقت فيما لا ينفع أن تتناول كتابًا لتقرأه وتلخصه، أو تستمع لمحاضرة، أو تطالع في سير الصحابة، وما أكثر الأعمال! ، بل والله أين الأوقات. زيارة تكسب فيها صديقًا، أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، تعرفًا على تاجر يعين أنشطة الدعوة الإسلامية بماله، بحثا عن شيخ يؤثر في مستمعيه، درسًا للزوجة والأطفال ولو بالقراءة من كتاب، زيارة للمقابر، ذكرًا وتذكرًا للآخرة، حضور الجنائز، كثرة السنن، قيام الليل، صيام التطوع، صدقة السر، كل ذلك يكون في غير توان ولا بطالة؛ فإن التواني والبطالة -والله- لا يولدان إلا الخزي والندامة على حد قول القائل:
تزوجت البطالة بالتوانِي *** فأولَدَهَا غُلامًا مع غُلامَة
فأمَّا الابن سَمَوْهُ بفقرٍ *** وأما البنتُ سّموْهَا النَّدَامَة
إن تيار الحياة محدود، وفرصة العيش بها قصيرة، فسددوا وقاربوا ولا تجهدوا أنفسكم فتملوا وتتركوا، ولكم كما قيل: يمشي الهوينا ويجيء في الأول.
ثالثا: لا تستعجلوا؛ فإن الاستعجال يقود إلى الفشل فتضطر إلى تكرار العمل، فلو جمعت الوقت الأول مع وقت الإعادة لكان أطول من وقت واحد. أقول هذا لبعض المتعجلين الذين يتهمون أهل الأناة بالتباطؤ؛ لأنهم هم يستعجلون، وليتهم يفلحون ويعملون، لكن لا حاجة يدركون ولا أرضًا يقطعون، ولا ظهرًا يبقون، ولا لسانًا يكفون، وفي ذلك يستعجلون
منا الأناةُ وبعضُ القومِ يحسبُنَا *** أنا بطاءٌ وفي إبطائِنَا سرع
رابعا: إياكم والفراغ؛ فإن من مقت الإنسان أن يكون فارغًا ليس في عمل دنيا ولا آخرة، والوقت هو الحياة، فلا يضيع، وما هذا المخيم إلا مساهمة في استغلال الوقت
دقات قلب المرء قائلة له *** إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ(166/36)
خامسًا: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه ذلك الباب
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون
سادسًا: إن حياة بعض الأخيار لا تخلو من ذنوب تضخم أحيانا لحاجة في نفس، ولكني أقول للأخيار: ووالله ما أظن من حضر إلا أخيارًا. إن التوبة تعدل ذلك كله ولا ضير، فصاحب التوبة بكل حال في خير، وكل منصف يعلم أن الكثير من أبناء الأمة غثاء غفلات وشهوات شطط وفساد وعدوان وعداوات، فيهم كل منخنقة وموقودة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع، فيهم من لوَّثه الربا، وأذهله الخمر، والأخيار -وما أنتم إلا جزء من الأخيار- رغم كل شيء هم أهل المناقب والصدق والعفة، ولا ننزِّه أحدًا، ولا نزكِّي أحدًا؛ فكلنا ذوو خطأ. من لم يلحظ هذا فهو عن ميزان العدل ناكب، يليق بكم –يا أيها الأخيار- أن تثقوا بأنفسكم أنكم أمثل من على الساحة، وأنكم أهل للإصلاح، وأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أهل لأن تأخذوا الزمام، فلا تلتفتوا إلى وسوسة شيطان أو أكاذيب ملا، أو تخذيل مخذِّل، ولكن اعملوا ومن أخطأ فليتب. ووالله، ثم والله، ثم والله لا يسعكم القعود، ابرؤوا ممن إذا أقدمتم أحْجَم، وإذا أعربتم أعجم، ألحقوا العمل بالعمل؛ فالعمل يدفع إلى العمل، والحسنة تقود إلى الحسنة، والحركة تولِّد الحركة، والطاعة تجلب الطاعة، وليكن لسان حال الواحد منا:
أغارُ عَلَى أمَّتِي أنْ تَتِيهَ *** بِهَوْجِ العَوَاصِفِ فِي العيلَمِ
وتقْعُدُ صَمَّاءَ مَضْرُورَةً *** وتطربُها لغةُ الأَبكَمِ
وتَشْغَلُهَا سَفْسفَاتُِ الأمورِ *** عن الفَرض والواجبِ الأقدَمِ
وتدْفِنَ آمَالَهَا بالضُّحَى *** وتُمسِي وتُصْبِحُ فِي مَأْتَمِ
تُناشِدُ أبْنَاءَهَا عروةً *** مِنَ الدِّينِ والحَقِّ لَمْ تُفْصَمِ
وتَرْجُو لِعِلاتِها مَرْهَمًا *** وَلَيْسَ سِوَى الدِّينِ مِنْ مَرْهَمِ
أخِي لا تَلِنْ فالأُلى قُدوة *** لِمِثْلِي ومِثْلِكَ في المَأزَمِ
لهم قدرهم(166/37)
باعتبارِ الرِّجالِ *** وسُمْعَتُهُم فِي ذُرَا الأْنجُمِ
تقَدَّمْ فَأنْتَ الأَبِيُّ الشُّجَاعُ *** ولا تتهَيَّبْ وَلا تَحْجَمِ
علَيْكَ بِهَدْي الرَّسُولِ الكَرِيمِ *** ومنهاجُ قرآنك المُحْكَمِ
تحرَّكْ فَأَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ *** ولو أثَّرَ القيدُ فِي المِعْصِمِ
فلا تَتَنَازَلْ ولا تَنْحَرِفْ *** ولا تتشاءَمْ ولا تَسْأَمِ
ولا تكُ مِنْ معشرٍ تافهٍ *** يَقِيسُ السَّعَادَةَ بالدِّرْهَمِ
يعيشُ وليسَ لهُ غايةٌ *** سِوَى مشرب وسوى مطعم
سابعًا: ليكن لكل واحد منا خبيئة من عمل لا يعلم بها إلا علام الغيوب؛ فلعلها الباقية النافعة.
أخيرا: عليكم بمدارسة القرآن، ومدارسة السنة، ومدارسة السيرة، واقتدوا بجيل الصحابة، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ما أقوله للرجال أقوله للنساء، ما يقال لهم يقال لهن، ولا أريد أن أزيد على ذلك وقد أطلت.
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجمعنا وإياكم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم يا ذا العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل. حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم وامكر لهم ولا تمكر بهم وانصرهم على من بغى عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم اللهم فكَّ أسرهم اللهم قوِّ شوكتهم، واجعل الدائرة على عدوهم. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(166/38)
دعوة للتأمل
كتبه : الشيخ علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
دعوة للتأمل
(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذا هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عين آنية، أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علمًا بالذي *** في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده *** في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني *** مع القاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غدًا وما *** قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف *** يكون موجودًا لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر *** فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى *** ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة *** السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان(167/1)
ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها *** إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد فكل حمدٍ واقع *** أو كان مفروضًا على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما *** يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلا والأرض *** والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله *** حمدًا بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات *** والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد *** ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه *** وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعًا والأُلَى *** تبعوهم من بعد بالإحسان
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ)
أما بعد، أحبتي في الله، إنها دعوة، دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة، العابدة، الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون، إلى أولي الألباب، إلى أولي الأبصار، إلى أولي الأحلام والنُّهَى، إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ) ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وكذلك يفعلون. وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون. إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى إلاّ ليعبدون. إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرؤوه. إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها(167/2)
معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون. (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علمًا يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وهي أيضًا دعوى لتعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين؛ الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز، والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلق الله، وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، كيف والكون كتاب مفتوح، يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زادًا من الحق إن أراد التطلع إلى الحق، إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب، يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم، يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان لا له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب، يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة(167/3)
من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلا بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان. وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم، لعلهم يذكَّرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتَّقون، لعلهم يرجعون، كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون، أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر *** لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة *** فهما لقطع لجاجهم سيفان
فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين، متدبِّرين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلا.
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في(167/4)
الميدان
السماء بغير عمدٍ ترونها من رفعها؟ بالكواكب من زيَّنها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها وذلَّلها وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) الطبيب من أرداه، وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟. المريض وقد يُئِس منه، من عافاه؟ الصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ من يرعاه؟ الوليد من أبكاه؟ الثعبان من أحياه، والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد من حلاَّه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء من أرْبَاه؟ البدر من أتمَّه وأسراه؟ النخل من شقَّ نواه؟ الجبل من أرساه؟ الصخر من فجَّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ البحر من أطغاه؟ الليل من حاك دُجَاه؟ الصُّبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم من جعله وفاة؟ واليقظة منه بعثًا وحياة؟!! العقل من منحه وأعطاه؟ النحل من هداه؟ الطير في جو السماء من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطَّر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الفقير من يغنيه؟. أنت، أنت مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؟ ولو اختفت لاختلفت وظائف فمك. من هداك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه. لا إله إلا هو. أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)(167/5)
لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى *** من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاك؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيى وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت *** شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان *** بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟
وإذا رأيت الحي يخرج من *** حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟
قل للهواء تحثُّه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك؟
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ *** ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء *** يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا *** أنواره فاسأله من أسْرَاك؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟
قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شقَّ نواك؟
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها *** فاسأل لهيب النار من أوراك؟
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا *** قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساك؟
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه *** فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال *** جرى فسَلْه من الذي أجراك؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج *** طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟
وإذا رأيت(167/6)
الليل يغشى داجيًا *** فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا *** فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك؟
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى يا مجري الأنهار عاذبة الندى ما خاب يومًا من دعا ورَجَاك يا أيها الإنسان مهلا ما الذي بالله جل جلاله أغراك؟
أحبتي في الله، الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)
وتحسب أنك جِرْم صغير *** وفيك انطوى عالم أكبر
تأمل –أخي- مدى معرفة الناس بالجنين قبل حوالي ثلاثين عامًا، لقد كان كائنًا حيًا لا يُعْلَم عنه إلا حركاته التي يصدرها داخل بطن أمه، ومع تطور وسائل الملاحظة والمشاهدة، ووصولها إلى بطن الجسم الإنساني -وكل ذلك بإذن الله – كالتصوير والتسجيل الضوئي والصوتي، علم أن للجنين نفسية لا ينفصل فيها عن أمه تمامًا، فتراه في حالات انكماش واكتئاب مرة، وحالات انشراح وانبساط أخرى، بل يبدي الانزعاج لبعض مخالفات أمه؛ كالتدخين مثلًا، عافانا الله وإياكم والمسلمين عمومًا.
يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس كانت تعتاد التدخين أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة؛ لفافة سيجارة –عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعًا لاضطراب قلب أمه. فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه(167/7)
أمه تبعًا، وإن لم تشعر أمه بذلك. أمكنهم أن يروه مضطربًا حينما تقع أمه في أزمة انفعال حادة؛ كغضب وخجل، أو في تأثر جسدي كوقوع على الأرض، أو اصطدام بشيء تبعًا لتأثر أمه بذلك. ثم أمكن الأطباء أن يروه هادئًا عندما تنصت أمه لسماع ما تستريح إليه من قرآن وأناشيد وغيرها. وحينما تسمع صوت أبيه، فتنصت له، رأوه كالمنصت له تبعًا لأمه. أما بعد الولادة، في أسبوعه الأول وجدوه أنه يأنس ويتبسم لصوت أبيه دون سائر الأصوات، إنها أمور مذهلة ، بل آيات بيِّنة بالغة، دالَّة على عظمة الله -سبحانه وتعالى- وعلى أحقِّيَّته بالتَّفرُّد في العبادة لا شريك له. أيضًا رأوا أنه حين ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجًا، وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها. ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين! وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشًا، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح إسقاطا فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأ للعناد، والرفض، والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته.
يذكر صاحب سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين، ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟. ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أيامًا على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حوارًا مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على(167/8)
كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته، فسبحان الله رب العالمين! إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئًا بنص قول الله -جل وعلا-: (وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئًا مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجيًا، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه –سبحانه وبحمده-. طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبُحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في <دمشق> كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن –بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظًا وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين! موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفًا بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالبًا، لسان حاله: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) فيا أيها العبد العاصي، ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟ (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَه) تحتَجُّ على مولاك وقد هداك، وتحيد عن(167/9)
الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد سها ولهى ونسيَ المبدأ والمنتهى. بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى. السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟ وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ عند الله لعصمك من المعاصي.
يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك *** ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه *** ومن الكروب جميعها نجَّاك؟
ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت *** ومن الذي بالعقل قد حلاَّك؟
ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا *** ومن الذي تنسى ولا ينساك
(أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) النوم، ما النوم ؟ هل تأملته يومًا من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله، وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش (وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: (اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) والله -جل وعلا- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه،" حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" كما في صحيح [مسلم].
حي وقيوم فلا ينام *** وجلَّ أن يشبه الأنام
لا تأخذه سنه ولا نوم، لا إله إلاّ هو. هل تأملت ما يجري لإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن(167/10)
أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكرى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم. في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالا، يتوقف البصر –أولا- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة. الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع. فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضًا: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) وتحقيقًا لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله- تعالى- السَّمع عنهم. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل ترددًا، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم . هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما. ألم(167/11)
يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفًا بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)
يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة *** فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ
واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا *** مع النبيين والأبرار في الخُلْد
هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟! يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصًا نهض من فراشه نائمًا، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئًا مما حدث له. لقد كان يتحرك وهو نائم بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوة ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه. من الذي قاد خطاه؟! إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت والنوم والانتباه هو الإله المتصرف فيهم جميعًا؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ) (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة *** أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذًا منحتكها ربي مهذبة *** شكرًا على صنع ما أوليت من حسن
اللهم لك الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا. إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إن هناك مَا هو أعظم وأكبر(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ(167/12)
خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) تأمل السماء ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، دورانها، وطلوعها، وغروبها، واختلاف ألوانها وكثرتها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور ولا تغير في سيرها، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها. تأمل تجد أنه ما من كوكب إلا ولله من خَلْقِه حِكْمَة، في مقداره، في شكله، في لونه، في موضعه في السماء، في قربه من وسطها وبُعْدِه، في قربه من الكواكب التي تليه وبعده، على صفحة سماوات ترونها أُمْسِكت مع عِظَمِها وَعِظَم ما فيها، فثبتت بلا علائق من فوقها، ولا عُمُدٍ من تحتها. (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) والإنسان العاقل أمام بديع صنع الله في سماواته يتوقف طويلا أمام أصغر جسم، وأعظم جسم، يرى فيها فتثبت له أدلة الإيمان، بعظمة الخالق في ملكوته، فما يملك إلا أن تخشع جوارحه، وتخضع، وتذل، وتستجيب، فتَقْدُر الله حقَّ قَدْرِه، وتفرده بالعبادة وحده لا شريك له.
فسبحان الله لا يَقْدُر الخَلْقَ قَدْرِه *** ومن هو فوق العرش فردٌ موحَّد
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نظر أحد علماء الفلك الكفار إلى السماء من خلال منظار بَنَاه بنفسه، فرأى ما أذهله في هذا الكون، فقال: إن الإنسانية لن تنتهي من سَبْر أغوار الكون، ولن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه من نقطة ماء في محيط عظيم. فهل آمن مع ذلك وصدَّق؟ لا، وصدق الله (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وقال آخر أيضًا: إن وضع الأجرام السماوية ليس مجرد مصادفة وعشوائية، بل هي موضوعة في الفضاء بدقَّة وإتقان؛ إذ أن القمر لو اقترب من الأرض بمقدار(167/13)
ربع المسافة التي تفصلنا عنه لأغرق مدّ البحر الأرض كلها، وما علاقة القمر بالبحر؟! الله يعلمها الذي قال وصدق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ولا يزال علماء الفلك يكتشفون من خلال تجاربهم ومراصدهم ومناظيرهم كل يوم ما يشْدَهُ ويدهش العقول في هذا الكون الفسيح، حتى قال مكتشف الجاذبية معبرًا عن اكتشافه وضآلة ما اكتشفه بجانب ذلك الخلق العظيم، يقول: لست أدري كيف أبدو في نظر العالم، ولكني في نظر نفسي، وأنا أبحث في هذا الكون أبدو كما لو كنت غلامًا يلعب على شاطئ البحر، ويلهو بين حين وآخر بالعثور على حَجَر أملس، أو محارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره، نعم (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا) لقد رأى البروج الصغيرة وهي تتألف من عشرة ملايين نجم قد عُرِف منها ما عُرِف، ورأى العملاقة وقد وصل عدد نجومها المعروفة لنا إلى عشرة آلاف مليار نجم يرتبط بعضها ببعض في غاية دقة وإحكام.
الله أحكم خلق ذلك كله *** صنعًا وأتقن أيما إتقان
نعم، لقد رأى مجموعة النظام الشمسي، وقد تألَّفت من مائة مليار نجم، قد عُرِف وعرف منها الشمس، وتبدو هذه المجموعة كقرص قطره تسعون ألف سنة ضوئية، وسمكه خمسة آلاف سنة ضوئية، ومع هذا البعد الشاسع فإن ضوء الشمس يصلنا في لحظات، وكذلك نور القمر. بل قد رأى هناك مجموعات تكبرها بعشرات المرات، أحصى منها مائة مليار مجموعة تجري، كلها في نظام دقيق بسرعة هائلة، كل في مساره الخاص دون اصطدام، كل يجري لأجل (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) هذا الذي رآه، وما لم يره أكثر، فقد قال الله -عز وجل-: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ)
ويقول أحد كبار علماء الفلك – وهو يهودي –: أريد أن أعرف(167/14)
كيف خلق الله الكون، أريد أن أعرف أفكاره. الله بارع حاذق ليس بشرِّير، الله لا يلعب بالنرد مع الكون، تعالى الله، وجلَّ الله (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ) كيف لو اطَّلع على ما جاء في القرآن، لربما كان من المؤمنين حقًا. نعم، الله لا يلعب مع الكون، عز وجل، وتبارك وتعالى وتقدس هو القائل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أحبتي في الله؛ ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء الربع الخالي تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم، والكواكب المنتشرة في الكون. أما إننا لو علمنا ذلك يقينًا لاعترانا رهبة وخشوع يقود إلى امتثال لأمر الله في غاية حب وذل، وعندها نزكو ونفلح، يوم يفلح مَن نفسَه زكَّاها. إن السماء وتناثر الكواكب فيها أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه أبدًا، ولهذا أخي المسلم فإني أدعوك إلى أن تطلع على شيء من علم الفلك، ثم اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، وغاب قمره، ثم تأمل عالم النجوم ، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من مائة مليار مجموعة قد عرفت، وكثير منها لم يعرف، كل منها في مسارها يسير، لا يختلط بغيره. وأنت تتأمل انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله؛ راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه إلى قيام الساعة. "أطَّت السماء وحقَّ لها أن تئط" كما جاء في الصحيح. ثم انقل نفسك أخرى وتجاوز تفكيرك إلى بصيرة يسير قلبك بها إلى عرش الرحمن، وقد علمت بالنقل(167/15)
سعته وعظمته ورفعته، عندها تعلم أن السماوات بملائكتها، ونجومها، ومجرَّاتها، ومجموعاتها، والأرضين بجبالها، وبحارها، وما بينهما بالنسبة للعرش كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة. فلا إله إلا الله! وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون، ويحمدون، ويقدسون، ويكبرون، والأمر يتنزل من الله بتدبير الممالك التي لا يعلمها إلا الله. يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، وردّ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، وإغاثة ملهوف، وإعانة عاجز، وانتقام من ظالم، وكف عدوان من معتدٍ. مراسيم تدور بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ أقطار العالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو! ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين. عندها حق للقلب والجوارح أن تسجد مطرقة لهيبته، عانية لعزَّته، سجدة لا يرفع الرأس منها إلى يوم المزيد، يلْهَج صاحبها مرددًا (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارَ) هل تأملت اختلاف الألسنة واللغات وتباينها من عربية وعجمية؛ كرومية وفارسية وتركية، وغيرها من اللغات، لا لغة تشبه لغة، ولا صوت يشبه صوتًا إِنَّ في ذلك لآَية ثم هل تأملت اختلاف الألوان من بيض وسود، وحمر وصفر وخضر، لا لون يشبه لونًا، حتى صار كل واحدٍ متميزًا بينكم لا يلتبس هذا بذاك. بل في كل فرد ما يميزه عن غيره، مع أن الجميع أولاد رجل واحد، وامرأة واحدة؛ آدم وحواء –عليهما السلام-. إن في هذا من بديع قدرة الله ما يستحق أن يفرد معه بالعبودية، وما(167/16)
يعقله إلا العَالِمُون، ولا يفهمه إلا المتفكرون. (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ) تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وتفاوت الليل عن النهار، وكلا عن مثله، فلا ليل يشبه ليلا، ولا نهار يشبه نهارًا مذ خلق الله الخلق وحتى قيام الساعة، إن ذلك من أعجب وأبدع آيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته وحكمته (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلا بلا نهار، أو نهارًا بلا ليل، كيف تكون الحياة؟ (قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك. (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول رائد الفضاء السوفيتي الملحد عندما أصبح حول الأرض، ونظر من كُوَّة مركبته فرأى بديع خلق الله في السماوات والأرض، فقال: ماذا أرى؟! أنا في حلم(167/17)
أم سُحِرَت عيناي، ثم يقول: في الفضاء يحل الليل بصورة مفاجئة، وبسرعة تقطع الأنفاس، وتعمي العيون بلا تدرج كما هو الحال على الأرض، وليل الفضاء الخارجي من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي، يقول: ثم تظهر الشمس فجأة، وتلمع كأنها ضوء صاعقة مبدّدة خلال ثوانٍ في وسط الليل الحالك، فلا تدرج في الفضاء، بل ثوان وأنت في ليل مظلم في أَحْلَك الظلمات، وثوان أخرى وأنت في نهار ساطع النور وهاج يبدد الظلمات. فيا لها من نعمة، نعمة الشروق والغروب، والليل والنهار، التي أقسم الله –عز وجل- بها في عدة آيات فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) وقال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ولك أن تتأمل أخرى، في قائل هذه الكلمات الشيوعي الملحد؛ فالبرَّغم من بديع ما رأى خلال دورانه حول الأرض إلاّ أنه لم يَرِد على لسانه سوى الإعجاب بما صنعه الإنسان، والذُّهول أمام عظمة الكون، ثم السكوت المطلق عن خالق الكون ومبدعه، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، فسبحان الله! (ومَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تأمل كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا؟ يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، وإلى أوكارها الطير والحشرات، تستجمُّ فيه النفوس، ومن كَدِّ السعي والنَّصَب فيه تستريح، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها وتطلَّعت إلى معاشها جاء فالق الإصباح –سبحانه- بالنهار يقدُمه بشير الصباح، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون. فينتشر الحيوان، وتخرج الطير من أوْكارِها لتطلب معاشها ومصالحها. فيا له من معادٍ ونشأة(167/18)
دالة على قدرة الله على المعاد الأكبر. (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) ويا سبحان الله كيف يُعْمِي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها، ولا يبصرها؛ كمن هو واقف في الماء إلى حَلْقِه وهو يستغيث من شدة العطش وينكر وجود الماء. يهدي الله من يشاء، ويضل من يشاء، يحكم لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو، له الحكم وإليه ترجعون. ثم تأمل هذه الأرض بينما هي هادئة ساكنة وادعة؛ مهاد وفراش، قرار وذلول، خاشعة، إذا بها تهتز، تتحرك، تثور، تتفجر، تدمّر، تبتلع، تتصدع، زلازل، خَسْف، براكين، تجدها آية من آيات الله، وكم لله من آية يخوف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون!، وهي مع ذلك جزاء لمن حقَّ عليه القول. وهي –أيضًا- تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون. يذكر صاحب علوم الأرض القرآنية أنه قبل حوالي خمسة قرون ضرب زلزال شمال الصين عشر ثوان فقط، هلك بسببه أربعمائة ألف وثلاثون ألف ألف شخص، وقبل ثلاثة قرون ضرب زلزال مدينة <لشبونة> في <البرتغال> لعدة ثوان، هلك فيه ستمائة ألف، وشعر الناس برعب وهَلَع وجزع إثر ارتجاج الأرض تحت أقدامهم على مساحة ملايين الأميال، فنعوذ بالله أن نُغْتَال من تحتنا.
وانفجرت جزيرة <كاراكات> في المحيط الهندي قبل قرن، فسُمِع الانفجار إلى مسافة خمسة آلاف كيلو متر، وسجلته آلات الرصد في العالم، وتحولت معه في ثوان جزيرة حجمها عشرون كيلو مترًا مربعًا إلى قطع نثرها الانفجار على مساحة مليون كيلو متر مربع، وارتفعت أعمدة الدخان والرَّماد إلى خمسة وثلاثين كيلو متر في الفضاء، وأظلمت السماء على مساحة مئات الكيلو مترات حاجبة نور الشمس لمدة سنتين، وارتفعت أمواج البحر إلى علوّ ثلاثين مترًا، فأغرقت ستة وثلاثين ألف نسمة من سكان <جاوا> و <سمطرا> (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو) (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ(167/19)
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)
(قتل الإنسان ما أكفره) يسمع ويرى آيات الله من زلازل وبراكين وأعاصير وأوبئة تحصد الآلاف في ثوانٍ فلا يتأمل ولا يتدبر ولا يرعوي ولا يقدر الله حق قدره بل يعيد ذلك أحياناً إلى الطبيعة في بلادة وبلاهة لا مثيل لها (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) لا يملك المسلم إزاء هذه البلاهة والبلادة إلا أن يقول بقول الله (ولا يظلم ربك أحدا)( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكذبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) فإلى أولي الألباب(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير) تأمل الهواء تجده آية من آيات الله الباهرة وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى ، جعله الله ملكاً للجميع ولو أمكن الإنسان التسلط عليه لباعه واشتراه وتقاتل مع غيره عليه كما فعل في أكثر الأشياء التي سخرها المولى له وجعلها أمانة بين يديه ، والله بحكمته جعل الهواء يجري بين السماء والأرض ، الطير فيه محلقة سابحة كما تسبح حيوانات البحر في مائه ، ويضطرب عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر عند هيجانها يحركه الله بأمره فيجعله رياحاً رخاءً وبشرى بين يدي رحمته فبين مبشرات ولواقح وذاريات ومرسلات ويحركه فيجعله عذابا عاصفاً قاصفاً في البحر وعقيماً صرصراً في البر (وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) تتوزع على سطح الأرض تحت نظام محكم فتلقح الأزهار والسحاب فتبارك من جعلها سائقة للسحاب تذروه إلى حيث الله شاء فهل تأملت يوماً من الأيام سحاباً مظلماً قد اجتمع في جوٍ صافٍ لا كدر فيه وهو لينٌ رخو حامل(167/20)
للماء الثقيل بين السماء والأرض حتى إذا أذن له خالقه أرسل الريح تلقحه وتسوقه فينزل قطرة قطرة ، لا تختلط قطرة بأخرى ، ولا تدرك قطرة صاحبتها فتمتزج بها ، بل كل واحدة في طريق مرسوم لها حتى تصيب الأرض التي عينت لها لا تتعداها إلى غيرها ، لا قطرة إلا وينزل نحوها ملك إلى الآكام والقيعان ، هل تأملت ذلك؟ أحسب أنك تقول نعم ومعها لا إله إلا الله ، أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون ، تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله وعجائب مصنوعاته وكم لله من آية ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض فما الأرض بجبالها ومدنها وسهولها وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب وطبعها العلو ولولا إمساك الرب ، سبحانه وبحمده له بقدرته ومشيئته لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها ، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين ، ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا ، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء ، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر [ابن القيم] ذلك في مفتاح دار السعادة ثم قال بعد ذلك ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلا ، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر و المرجان فسبحان الخالق الرحيم الرحمن ، ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه ، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها ، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها ، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء ، فذاك قول الله ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن(167/21)
الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) نعم ، سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده ، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء ، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته ، فلك الحمد ربنا ، ولك الأمر من قبل ومن بعد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، صنع الإنجليز باخرة عظيمة ، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم ، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم ، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها الباخرة التي لا تقهر ، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته : حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب ، جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،يحيي ويميت ، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صناعها وركابها تصطدم بجبل جليدي عائم فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً ، وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر ـ كما زعموا ـ في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربع ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن ، (فكلاً أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا) (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ، تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها ، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان ، (إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى) في <إيران> أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها(167/22)
، ونهر<الأمازون> يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي ، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ، وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف ، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود ، فتبارك الذي (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة ، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر ، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور ، نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف شيئا وجاء بشيء فيه إبداع فقال في دهشة بعد ترجمة الآية : إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء ، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته وأمواجه وشعبه ، إن هذا من عند عليم خبير ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين الله ،(167/23)
نعم لا يملك إلا ذلك ، من واصف الظلمات في قعر البحار سوى الله العليم الباري ، سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان ، لا إله إلا الله كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله ، أإله مع الله ، تعالى الله سأل رجل أحد السلف عن الله ، قال له :ألم تركب البحر؟ ، قال : بلى ، قال فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة قال نعم ، قال وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ، قال نعم ، قال فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء ، قال نعم ، قال فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ، (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموت من كل مكان وظنوا أنه أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) ومن عجائب البحر التي تدل على إدراكه وعبوديته لله جل وعلا أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله عز وجل مع حلم الله عليه فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك عصاة بني آدم بل ويستأذن ربه في ذلك ، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من ليلة إلا والبحر يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم ـ أي على العصاة ـ فيكفه الله بمنه وكرمه "، فلا إله إلا الله ، البحر يتمعر ، ويتمنى إغراق العصاة ، ويستطيع لكنه مأمور ، ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكنا ، تُنْتَهَك حرمات الله ، وتُتَجَاوز حدوده ، وتُضَيَّع فرائضه ، ويعادى أولياؤه ، ثم لا تتمعر الوجوه ، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟ إن في ذلك لآية وكم لله من آية ، فتأملوا يا أولي الألباب ، تأمل تلك النملة الضعيفة ، وما(167/24)
أعطيت من فطنة وحيلة في جمع القوت وادخاره ، وحفظه ودفع الآفة عنه ، ترى عبراً وآيات باهرات تنطق بقدرة رب الأرض والسماوات وتقول : (أإله مع الله قليلاً ما تذكرون) ، انظر إليها تخرج من أسرابها طالبة أقواتها ، فإذا ظفرت بها شرعت في نقلها على فرقتين اثنتين ، فرقة تحملها إلى بيوتها ذاهبة ، وأخرى خارجة من بيوتها إلى القوت ، لا تخالط فرقة أخرى كخيطين أو جماعتين من الناس ، الذاهبون في طريق والراجعون في أخرى في تناسق عجيب ، ثم إذا ثقل عليها حمل شيء ، استغاثت بأخواتها فتعاونت معها على حملها ، ثم خلوا بينها وبينه ، وبلا أجرة ، تنقل الحب إلى مساكنها ثم تكسره اثنتين أو أربعة ، لئلا ينبت إذا أصابه بلل ، وإذا خافت عليه العفن ، أخرجته إلى الشمس حتى يجف ، ثم ترده إلى بيوتها ، ولعلك قد مررت يوماً عليها ، وعلى أبواب مساكنها حب مكسر ، ثم تعود من قريب فلا ترى منه حبة واحدة ، والنمل مع ذلك يعتني بالزراعة وفلاحة الأرض ، فقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما فيها أرز قصير من نوع بري مساحة القطعة خمسة أقدام في ثلاثة ، ويترائى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أن أحداً لا بد أن يعتني بها ، الطينة مشققة ، والأعشاب مستأصلة والغريب أنه ليس هناك مناطق أرز حول ذلك المكان ، ولاحظ ذلك العالم أن طوائفاً من النمل تأتي إلى هذه المزرعة الصغيرة وتذهب ، فانبطح على الأرض ذات يوم ليراقب ماذا يصنع النمل ، فإذا به يفاجأ أن النمل هو صاحب المزرعة ، وإنه اتخذ الزراعة مهنة تشغل كل وقته فبعضه يشق الأرض ويحرث ، والبعض يزيل الأعشاب الضارة وينظف ، وطال الأرز واستوى ونضج ، وبدأ موسم الحصاد ، وهذا لا زال بمناظيره يراقب ، فانظر ، يشاهد صفاً من النمل وهو في وقت الحصاد وهو متسلقاً شجر الأرز ، إلى أن يصل إلى الحبوب فتنزع كل نملة حبة من تلك الحبوب ، ثم تهبط سريعاً إلى الأرض ، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض لتخزنها(167/25)
ثم تعود ، وطائفة أخرى اعجب من ذلك تتسلق مجموعة كبيرة منها أعواد الأرز ، فتلقط الحب وتلقي به فبينما هي كذلك ، إذ بمجموعة أخرى تحتها تتلقى هذا الحب وتذهب به إلى المخازن ويعيش النمل هناك عيشة مدنية في بيوت بل في شقق وأدوار أجزاء منها تحت الأرض وأجزاء أخرى فوقها ، له حراس وخدم وعبيد وهناك ممرضات تعنى بالمرضى ليلاً ونهاراً ، وقسم آخر يرفع جثث الموتى ويشيعها ليدفنها ، كل هذا يتم بغريزة أودعها الله في هذا القلب ، فتبارك الله (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) ، عالم النمل عالم عجيب ، من تأمله ازداد إيماناً ويقيناً بأن وراء ذلك التنظيم المحكم حكيما خبيرا ، بإفراد العبادة له جدير ، لا شريك له ، إنها تعرف ربها ، وتعرف أنه فوق سماواته مستوٍ على عرشه ، بيده كل شيء يوم ضل من ضل ، روى الإمام أحمد في الزهد من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يرفعه قال : "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون ، فإذا هم بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تدعو ربها ، فقال ارجعوا فقد سقيتم بغيركم "، للنمل مدافن جماعية يدفن فيها موتاه كالإنسان ، والنمل ذكي ، جد ذكي ، ويصطاد بطريقة ذكية ، يأتي إلى شجرة فينقسم إلى قسمين ، قسم يرابط تحت الشجرة قرب جذعها ، وآخر يتسلق جذعها لمهاجمة الحشرات التي تكون عليها ، وبذلك يحكم الطوق على كل حشرة لا تطير ، فتسقط التي تنجو من النمل المتسلق فتقع في شباك النمل المتربص بها عند قاعدتها ، من هداها؟ ، من هيأ لها رزقها؟ إنه القائل ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ألا له الخلق والأمر لا إله إلا هو وحده لا شريك له) ، وقفة ولعلها استراحة مع عجائب الأحياء ، يذكر صاحب من الثوابت العلمية في القرآن من بعض التصرفات الذكية الألمعية عند الحيوان ، ما يلقي الضوء على معنى قول الله (ربنا الذي أعطى كل شيء خَلْقَهُ(167/26)
ثُمَّ هَدَى) ، يُذْكَرُ أن طبيباً وجد في طريقه كلباً كسرت إحدى قوائمه ، فأخذه إلى عيادته واهتم بها وقومها وجبرها واعتنى به حتى شفي تماماً ، ثم أطلق سراحه ، وبعد ذلك بزمن سمع الطبيب قرعاً لطيفاً على باب عيادته فوجد الكلب نفسه مصطحباً معه كلباً آخر مكسور الرجل ، جاء به إلى المعاينة والعلاج ، فسبحان الله ولا إله إلا الله ، هذه عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها *** ، والأعجب من ذلك قصة هرٍ اعتاد أن يجد طعامه اليومي أمام بيت أحد المهتمين به فيأكله وفي أحد الأيام لاحظ رب البيت أن الهر لم يعد يكتفي بالقليل مما كان يقدم له من قبل ، أصبح يسرق غير ذلك فقام رب البيت يرصده ويراقبه فوجده يذهب بالطعام إلى هرٍ أعمى فيضع الطعام أمامه ، فتبارك الله (ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) ، ويذكر أيضاً صاحب عجائب الأحياء أن فرساً صغيراً ماتت أمه عنه ، فقام صاحبها الأعرابي واسمه [الزعتري]الذي يسكن مصر برعاية الفرس اليتيم رعاية بلغت حد التدليل ، فكان يقدم له الشعير مخلوطاً بالسكر ، وإذا مرض استدعى له الطبيب البيطري لفحصه إذا أصابه ما أصابه ، ولا غرابة في ذلك الاهتمام أيها الأحبة ، إذا علمتم ما ثبت في صحيح الجامع عن أبي ذر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس من فرس عربي إلا ويؤذن له مع كل فجر فيدعو بدعوة فيقول اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه " فالفرس العربي يتجه بالدعاء إلى من يستحق الدعاء ، والله عز وجل يجيبه فيجعله من أحب أهل ومال الإنسان إليه والواقع يشهد بذلك ، ولا عجب فإن جذع النخلة وهو جماد بكى وأن وتألم وحزن وخار وتصدع لفراق الذكر حتى مسحه صلى الله عليه وسلم ، فسكن أحسن ما يكون السكون ، حن جذع إليه وهو جماد فعجيب أن تجمد الأحياء ، ويمرض الأعرابي الزعتري فيفقد(167/27)
الفرس شهيته ويترك حظيرته ليرابط أمام خيمة صاحبه وظل كذلك أياماً ثم مات الزعتري وحمل المشيعون جنازته فسار الفرس خلفهم حزيناً منكس الرأس حتى دُفِنَ صاحبه العزيز عليه في التراب ، ولما هم المشيعون بالرجوع انطلق الفرس المفجوع كالبرق وظل منطلقا حتى وصل إلى تلٍ عالٍ فصعده ثم ألقى بنفسه من قمته ليلقى حتفه وسط دهشة الجميع ، فسبحان من رزقه تلك الأحاسيس والمشاعر ومن سلبها كثيراً ممن كرمه الله من بني آدم ، ومن عجيب أمر القردة ما ذكره البخاري في صحيحه عن [عمرو بن ميمون] ، قال : رأيت في الجاهلية قرداً وقردةً زنيا فاجتمع عليهم القرود فرجموهما حتى ماتا ، عجباً لها من قرود ، تقيم الحدود حين عطلها بعض بني آدم ، إن هدايتها فوق هداية أكثر الناس (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) ومن عجيب أمر الفأر ما ذكره صاحب العقيدة في الله أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة ينقص ويعز عليها الوصول إليه في أسفل الجرة فتذهب وتحمل في أفواهها الماء ثم تصبه في الجرة حتى يرتفع الزيت ويقترب منها ثم تشربه ، من علمها ذلك ، إنه الله أحق مَن عُبِدَ وصُلِّيَ لَهُ وسُجِد ، سبحان من يجري الأمور بحكمة في الخلق بالإرزاق والحرمان ، من علم الذئب إذا نام أن يناوب بين عينيه فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام وفتح بها الثانية ،
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
من علم الطاووس أن يلقي ريشه في الخريف إذا ألقى الشجر ورقه ، فإذا اكتسى الشجر اكتسى أيضاً ، بإذن من؟ ، بإذن من؟ ، من علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث؟ فلا يسمعها عصفور حولها حتى يجيء فيطير الجميع حول الفرخ ويحركونه ويحدثون له همة وقوة وحركة حتى يطير معهم ، ذاكم هو الله القائل (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) واستطراداً فما أجمل قول [سفيان بن عيينة] رحمه الله حول قول(167/28)
الله (إلا أمم أمثالكم) يوم قال : فما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من البهائم فمنهم من **** الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يختال كالطاووس ، ومنهم من يشبه الخنازير التي إذا ألقي إليها أطيب الطعام عافته ، فإذا قام الرجل عن غائطه ولغت فيه ، فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها ـ رحم الله سفيان ـ نَعَم ، وإن أخطأ أخوه حفظ ذلك الخطأ وشنع عليه بلا هدى تحت طيش الهوى وحب الغلبة ورغبة الاستعلاء ، وإرادة *** الغير ، تحريش غامض ، وتصنيف ساقط بلا برهان ولا بينة ، كفى أخي ثم كفى ، إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله فطمتك على غير السداد سداد ، أحبتي في الله إن فيما أودع الله في مخلوقاته ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ويملأ القلوب إجلالاً من معرفة حكمته وقدرته وما به يعلم العاقل أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك سُدى ، فلله في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهان قاطع يدل على أنه المنفرد بكل كمال وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ، قد خلق الخلق ليعبدوه ، وبالإله *** ، هل تأملت النحل وأحواله وأعماله وما فيها من العبر والآيات الباهرات ، ألم ترى أقراص شمعها السداسية في دقتها الحسابية وإتقان بنائها وإحكام صنعها ، الذي أدهش وما زال يدهش علماء النحل والحساب ، ماهي آلات الحساب والمقاييس التي سمحت لهذا المخلوق بالوصول إلى هذا العمل الهندسي الدقيق ، هل هذا بواسطة قرنين استشعار والفكين الذين يدعي علماء الأحياء أن الطبيعة زودتها بهما ، سبحان الله ، وتبارك الله ، عجيب وغريب منطق هؤلاء ، يتسترون وراء كلمات جوفاء كالطبيعة والتطور والصدفة ، كلما وقفوا أمام بديع صنع الله وإعجازه في الخلق فأنى يؤفكون وجحدوا بها واستيقنتها
أفتستر الشمس المضيئة بالسها *** أم هل يقاس البحر بالخلجان
سبحان الله ، لله في كل شيءٍ آية ، وتعمى عنها عيون أو تتعامى ،
فقل للعيون(167/29)
الرمد إياكي أن تري *** سنا الشمس واستغشي ظلام اللياليا
خفافيش أغشاها النهار بضو *** ئه ولائمها قِطْعٌ من الليل باديا
فجالت وصالت فيه حتى إذا *** النهار بدا استخفت وأعطت تواريا
فيا محنة الحسناء تُهْدى *** إلى امرئٍ ضريرٍ وعِنِّين من الورد خاليا
النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافاً لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء ، وتعجب أنها لا تأكل من التبغ فلا تأكل إلا الطيبات فهل يعتبر بذلك أهل الغفلات ، زودها الله بقرنين استشعار وجعل فيهم شعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفاً تشكل حاسة الشم والسمع واللمس ، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية ، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها ، للنحلة عيون كثيرة ، في حافتي الرأس عينان ، وعينان أخريان في أعلى الرأس وتحتهما عين ثالثة ، مما جعل لها سعة أفق في النظر ، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد ، علماً بأن عيونها لا تتحرك ، ولذا فالنحل يعيش في أماكن يعيش فيها السحاب معظم شهور السنة مع أن رؤية الشمس كما هو معلوم ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي فيها غذاء النحل ، وهنا تكمن الحكمة في قوة رؤية النحل ، فبإمكانها رؤية الشمس من خلال السحب ، كل ذلك لئلا يموت جوعاً في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام ، كما هو في بعض البلدان ، إنها لحقيقة مذهلة ، تدل على حكمة الله ، وقدرة الله ، ووحدانية الله ، وكمال تدبيره فتبارك الله أحسن الخالقين ، أما فم النحلة فمن أعاجيب خلق الله في خلقه ، إذ هو مزود بما يمكنه من أداء جميع الوظائف الحيوية فهو يقضم ويلحس ، ويمضغ ويمتص ، وهو مع هذا شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبيعياً ، ولا يتحرج من المواد المرة ، إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه فسبحانه وبحمده لا شريك له ، أما سمع النحل فدقيق جداً ، يتأثر بأصوات وذبذبات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان ، فسبحان من زوده بها ، وتحمل مع ذلك(167/30)
النحلة ضعفي وزنها ، وبسرعة أربعمائة خفقة جناح في الثانية الواحدة ، فسبحان الله ، سبحان من خلق فسوى وقدر فهدى ، عُبِدَ وَوُحِّدَ وصُلِّيَ له وسُجِدَ له ، هناك من النحل مرشدات ، عندما تجد مصدراً للغذاء تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية الجانيات للرحيق ، وعندما ينضب وينتهي الرحيق تفرز عليه المرشدات مواد منفرة منه ، حتى لا يضيع الوقت في البحث فيه ، ثم تنتقل إلى مصدر آخر ، من علمها وأرشدها؟ إنه الله ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فلا إله إلا هو ، تستطيع العاملة خارج الخلية الرجوع إلى خليتها والتعرف عليها من بين عشرات الخلايا ، بلا عناء ولا تعب ، ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال ، ولذا يقول أحد علماء الأحياء الكفار ، وقد رصد النحل بمناظيره فترة طويلة ، يقول: يا عجباً لها تنطلق آلاف الأميال من شجرة إلى ثمرة إلى زهرة ، ثم تعود ولا تخطئ طريقها ، ربما أن لها ذبذبات مع الخلية ، أو أنها تحمل لاسلكياً يربطها بالخلية ، ربما ، ربما ، ثم يقف حائراً بليداً تائهاً ، أما نحن فلا ، إنا نوقن أن الله ألهمها ذلك ، وأوحى إليها ، وعندنا سورة في كتاب الله تسمى سورة النحل ، (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) ، تأمل قدرة الله بخلقه يوم جعل من النحل حراساً للخلية يستطيعون أن يميزوا كل غريب ودخيل عليهم من النحل ، فيطرحوه خارجاً أو يقتلوه ، علماً أن تعداد الخلية يصل إلى ثمانين ألف نحلة أو أكثر فسبحان من ألهمه ، سبحان من ألهمه معرفة صاحبه من غيره ، سبحان ربك رب العِزِّ مِنْ مَلِكٍ ، من اهتدى بهدى رب العباد هُدِي ، الكل في النحل يعمل في الخلية لأجل الكل ، لا حياة لفرد عند النحل بدون جماعة ، ولذلك أذهل ذلك علماء النحل (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما(167/31)
تفعلون) والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه وأنظفه ، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها ، بل تطير ثم تلقيها بعيداً عنها ، وتأبى النتن والروائح الكريهة ، تأبى القذارة ، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية ، وقف على باب الخلية بواب منها ، ومعه أعوان كثر ، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد فيها رائحة منكرة ، أو رأى بها قَذَراً منعها من الدخول وعزلها إلى أن يدخل النحل كله ، ثم يرجع إلى الممنوعات المعزولات فيتبين ويتثبت ، ويتفقدها مرة أخرى ، فمن وجدها وقعت على شيء نجس أو منتن ، قدها وقطعها نصفين ومن كانت جنايتها خفيفة ، بها رائحة وليس عليها قَذَر ، تركها خارج الخلية حتى يزول ما بها ثم يسمح لها بالدخول ، وهذا دأب وطريقة البواب كل يوم في كل عشية ، فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها ، لا تضل عنها تسيح سهلاً وجبلاً خماصاً ، فتأكل من على رؤوس الأشجار والأزهار ، فتجني أطيب ما فيها ثم تعود إلى بيوتها بطاناً ، فتصب فيها شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية ، أما ملكتها أو ملكها فلا يكثر الخروج ، بل لا يخرج إلا نادراً ، إذا اشتهى التنزه خرج بحاشيته وخدمه ليطوف المروج والبساتين والرياض ساعة بالنهار ثم يعود إلى خليته ، ومن عجيب أمره أنه إذا لحقه أذى من صاحب الخلية غضب وغضبه يعرفه أصحاب النحل ، ثم يخرج من الخلية ، فيتبعه جميع النحل حتى تبقى الخلية خالية ، يذهب حتى يحط رحاله على رؤوس الشجر المرتفع ، ويجتمع عليه النحل كله حتى يصير كالعنقود ، عندها يضطر صاحب الخلية إلى الاحتيال عليه لاسترجاعه وطلب مرضاته ، فيأخذ عصاً طويلة ويضع عليها حزمة من نبات طيب الرائحة ، ويدنيه من هذا الكبير لها ، من ملكها على الشجرة فلا يزال يحركه ويستجديه ويستعطفه إلى أن يرضى ، فينزل على حزمة النبات الطيب الرائحة ، فيحمله صاحب الخلية إلى الخلية ، فينزل ويدخلها مع جنوده ، ثم يتبعه جميع النحل(167/32)
عائداً إلى الخلية ، تأمل نتاجها تجد عجبا ، تنطلق إلى البساتين ، فتأخذ تلك الأجزاء الصافية من على ورق الزهر والورد ، فتمصه لتكون مادة العسل ، ثم تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها ثم تذهب لتملأ بها المسدسات الفارغة ، ثم يقوم يعثوبها على بيته فينفخ فيه ، ثم يطوف على تلك البيوت بيتاً بيتاً وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بأمر الله بعد حين فتخرج طيوراً صغاراً ، نحلاً صغاراً بإذن الله ، وتلك آية قلما يتفطن الخلق لها كما قال ابن القيم رحمه الله ، كل هذا من ثمرة الوحي الإلهي ، تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه ، سبحان من ذلت له الأشراف ، أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَى ومن يُخَاف ، جعل الله لكل مخلوق قوة وقدرة يدافع بها عن نفسه ، ومن تلك المخلوقات النحل ، كيف يدافع عن نفسه وعن نتاجه ، يذكر أن ألد أعداء النحل هو الفأر ، يهاجم الخلية فيأكل العسل ويلوث أجواء الخلية ، فماذا تفعل تلك النحلة الصغيرة أمام هذا الفأر الذي هو لها كجبل عظيم ، إنها تطلق عليه مجموعة من العاملات فتلدغه حتى يموت ، كيف تخرجه ، إن بقي أفسد العسل ، ولوث أجواء الخلية ، ولو اجتمع نحل الدنيا كله لإخراجه ما استطاع ، فماذا يفعل ، جعل الله عز وجل له مادة شمعية يفرزها ويغلف بها ذلك الفأر فلا ينتن ولا يتغير ولو بقي ألف عام ، حتى يأتي صاحب الخلية فيخرجه ، فسبحان من قدر فهدى وخلق فسوى ، إن في ذلك لآية ، وكم لله من آية مما يبصره العباد وما لا يبصرونه ، وتفنى الأعمار دون الإحاطة بجميع تفاصيلها ، ولكن أكثر الناس لا يفقهون ، أإله مع الله قليلاً ما تشكرون ، ومن عجائب النبات ، ما ذكره صاحب كتاب نوادر الكتب من أن شجرة غريبة في جنوب الصين ، تكون أوراقها في الأحوال الجوية العادية خضراء كأوراق الأشجار ، وقبل حدوث الفيضانات أو هطول الأمطار تتغير فتصبح حمراء ، فأصبحت عند سكان تلك المنطقة كمراقبة للأحوال الجوية ،(167/33)
وبلا تعليق إنها بلسان حالها تقول (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ، عجباً ، عجباً ، عجب ، لا ينقضي العجب ولو كنا في شهر رجب ، كل الكون بكائناته يوحد ويسلم ويستسلم وينقاد لله رب العالمين ثم يبقى هذا الإنسان في هذا الكون ، إنه لظلوم مبين ، أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ، الكون كله بكائناته يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتدهش وتعجب لكثير من الإنس والجن يوم تعمى أبصارهم عن الحق فيكذبون بالرسالة والرسول صلوات الله وسلامه عليه ، في قمة بلاهة وبلادة ، فهم نشاز في هذا الكون ، ثبت في الصحيحة عن جابر رضي الله عنه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا إلى حائط في بني النجار ، فإذا فيه جَمَل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال هاتوا خطاماً فخطمه ودفعه إلى صاحبه ، ثم التفت فقال ، واسمعوا إلى ما قال صلوات الله وسلامه عليه قال: "إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا ويعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس" ، فسبحان من هدى هذه الكائنات للإيمان يوم ضل بعض بني الإنسان والجان ، لا إله إلا الله ، كم من مركوب هو خير من راكبه ، يا قوم هذا صراط الله فاتبعوا لا تسلكوا سبلاً تفضي إلى النار ، الكون بكائناته جميعاً يسبح الله ويثني على الله ، ويمجد الله تسبحاً وثناءً لا نفهمه ، الله سبحانه وتعالى يعلمه ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، سبحت الكائنات بحمده فملأ الكون تحميده ، سبحه النبات جمعه وفريده ، والشجر عتيقه وجديده ، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ، سبحته الحيتان في البحار(167/34)
الزاخرات ، سبحته الوحوش في الفلاوات ، تسبحه نغمات الطيور ، يسبحه الظل تحت الشجر ، يسبحه النبع بين المروج ، يسبحه النَور بين الغصون ، وسحر المساء وضوء القمر ، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما تستقل الشمس ، فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده ، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم ،وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غباء وأي غباء أن يسخر الله لك كل ما حولك بمنه وكرمه ، ثم يسبحه كل مسخر لك وأنت غافل غبي أخرس أحمق
سل الواحة الخضراء والماء جاريا *** وهذه الصحاري والجبال الرواسي
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى *** سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما *** وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا
فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً *** فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
سبحان الله وبحمده ، وسبحان الله العظيم ، ليس شيءٍ إلا وهو أضرع لله من بني آدم ، الكون كله بكائناته يسجد لله ويخضع ويذل وتبقى فئة من الناس صادةٌ نادةٌ نشازٌ في هذا الكون لا تستحق الحياة ، فانظر إلى تلك الحشود كما يقول [سَيِّدْ] رحمه الله :حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك ، وحشد من الأفلاك مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم ، حشد من الملائكة ، حشد من الجبال والشجر والدواب ، حشد من خلق الله كلها في موكب خاشع ذليل تسجد لله وتتجه إليه لا إلى سواه في تناسق ونظام عجيب إلا هذا الإنسان يتفرق فجزء منه يتنكب الموكب نشاز لا يستحق الحياة ، ألم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) ، فانظر إلى قهره وانظر إلى ذل خلقه ، كل ما في الكون يأتي خاضعاً ذليلاً ساجداً لله يدين له النجم في أفقه ، يدين له الفلك(167/35)
الدائر ، يدين له الفرخ في عشه ، ونسر السما الجارح الكاسر ، تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر، تدين له الأُسْدُ في غابها وظبي الفلا الشارد النافر ، يدين له *** في سعيه ، يدين له الزاحف والناشر ، تدين النجاد ، تدين الوهاد ، يدين له البَرُّ والفاجر ، يدين الجلي ، يدين الخفي ، يدين له الجهر والخاطر ، تدين الحياة ، يدين الوجود ، يدين المقدر والحاضر ، وكل العباد إليه رجوع وفوق العباد هو القاهر ، الشجر والحجر والمدر ، يلبي ويوحد الله مع الحاج الملبي ، ثبت في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما من ملبٍ يلبي إلا لبى مع عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر ، حتى تنقطع الأرض منها هنا ومنها هنا ، تفاعل الكون كله مع توحيد الله عز وجل، كل كنى عن شوقه بلغاته ، ولربما أبكى الفصيح الأعجم ، بل إن الشجر ليشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى الدارمي بإسنادٍ صحيح كما قال صاحب المشكاة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأقبل أعرابيٌ فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، قال ومن يشهد على ما تقول ، قال هذه السلمة ـ حِجرة السلمة ـ فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في شاطئ الوادي فأقبلت تهز الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها صلى الله عليه وسلم فشهدت ثلاثاً ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، ثم رجعت إلى منبتها ، إن في ذلك لآية ، وروى الترمذي أيضاً كما في الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :" جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد بما أعرف أنك نبي ، بما أعرف أنك نبي ، قال صلى الله عليه وسلم إن دعوت هذا العذق شهد أني رسول الله ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل العذق من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،(167/36)
ثم شهد ثم قال صلى الله عليه وسلم له ارجع ، فرجع إلى مكانه ، فقال الأعرابي وأنا أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ودخل في دين الله "، ألم يمر بذهنك وأنت تعلم عبودية الشجر لله ما روى البخاري عن[ سهل بن سعد] ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها ، فاشتاقت نفسك لظل هذه الشجرة فأحسنت التعامل مع الله لتكون من أهلها بإذن الله ، وأرجو الله أن نكون جميعاً من أهلها ، الجبال والحجارة تخشى الله ، فأين الخشية والخوف من الله ، وإن منها لما يهبط من خشية الله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) ، يا عجباً من مضغة لحمٍ أقسى من هذه الجبال ، تسمع آيات الله تتلى فلا تلين ولا تخشع ، من حكمة الله أن جعل لها ناراً إذا لم تلن بذكره ومواعظه فبها تلين ، فمن لم يلن قلبه في هذه الدار ولم يتب إلى الله ويخشه فليتمتع قليلاً ، فإن المرد إلى عالم الغيب والشهادة ، فنشكو إلى الله القلوب التي قست وران عليها كسب تلك المآثمِ ، من خشية المولى هوى الجبل الذي في الطور ، لانت قسوة الأحجار ، أو لم يئن وقت الخشوع فلا تغرن الحياة سوى مغرار ، الطير تصلي صلاةً لا ركوع فيها ولا سجود ، الله يعلمها ونحن لا نعلمها (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ، ما ميزان الصلاة عند الإنسان ، إنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ختم بها حياته ، ومع ذلك فرط فيها من فرط ، وضاع فيها من ضاع ، وذل بتركها من ذل بعد العز ، فاسمع إلى ما يقول صاحب وحي الواقع ، بعد مجزرة الأقصى في رمضان المشهود التي راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى ، تقابل مسلم ويهودي ، فقال المسلم: مهما طال بكم الزمن يا أحفاد القردة والخنازير لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون ، وسيكون معنا الشجر والحجر في حربكم ، قال اليهودي نعم(167/37)
وهذا صحيح نقرأه في كتبنا ويعلمه عالمنا وجاهلنا ولكن لستم أنتم ، قال المسلم فمن هم قال هم الذين يكون عدد مصليهم في الفجر بقرد عدد المصلين في صلاة الظهر ، وصدق فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وضيعها ، إن الصلاة لتدعو الله لحافظها حفظك الله كما حفظتني ، وعلى مضيعها ضيعك الله كما ضيعتني ، فلا إله إلا الله كم من ضائع ساقط لا قيمة له في تضييع الصلاة ودعاءها عليه ، إن الديك ليوقظ للصلاة ويدعو لها ويؤذن ، بل أمرنا إذا سمعنا صوته أن نسأل الله من فضله لأنه رأى ملكا ، فلا إله إلا الله ، كم من ديك هو خير من إنسان عند الله ، وهو يأكله ، فكم من مأكول هو خير من آكله ، وأنت تعلم هذا ، أقبل ببصيرتك لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح الجامع يوم قال : إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول : سبحانك ما أعظمك ، سبحانك ما أعظمك ، فهل عظمت الله وقدرته حق قدره فانقدت واستسلمت وأخلصت وأنبت وانسجمت مع هذا الكون صغير وكبيره فكان حالك ومقالك : سبحانك ما أعظمك ، سبحان من لو سجدنا بالعيون له على شبا الشوك والمحمى من الإبر ، لم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشراً من العشر ، أحبتي في الله ، الأدلة على وحدانية الله ،وأنه المستحق للعبادة لا شريك له كثيرة لا تعد ولا تحصى ولعل فيما تقدم ما يكفي لأولي الأحلام والنهى ، حمداً لك اللهم أقولها في البؤس والإيسار والإعسار، وعلى الرسول الهاشمي وآله ليلي أصلي دائباً ونهاري ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(167/38)
نزول المسيح في آخر الزمان
كتبه : الشيخ محمد حسان
ملخص الخطبة
1- ميلاد المسيح المُعجِز 2- رفع المسيح إلى السماء 3- نزول المسيح في آخر الزمان
الخطبة الأولى
أحبتي في الله:
في رحاب الدار الآخرة
هذا هو لقاءنا الخامس مع السلسة الكريمة ولا زلنا مع حديث حذيفة بن أسيد الغفاري:
اطلع علينا النبي ونحن نتذاكر فقال النبي : ((ما تذاكرون؟)) فقالوا: نذكر الساعة فقال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر، الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم))([1]).
وها نحن الآن على موعد مع إحدى هذه العلامات الكبرى ألا وهي نزول عيسى عليه السلام.
أيها الحبيب الكريم: أعرني قلبك وسمعك وعقلك فإن الموضوع من الأهمية بمكان، وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من بين أيدينا فسوف أركز الموضوع في العناصر التالية:
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.
ثانياً: بل رفعه الله إليه.
ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز(168/1)
أخي في الله لن أجد لك بداية أرحب ولا أجمل أبدأ بها حديثي معك الآن أجل من هذه الكلمات الجميلة في قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ آل عمران:35 -37 ].
وقبل أن نتجول سويا في بستان هذه الكلمات الرقيقة الرقراقة أقول لك إنه لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل منذ أن خلق الله آدم من تراب ينسب نبي لأُمِه.
مريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها الله من بين النساء قاطبةً ليودعها سره الأكبر في أصفى حمل وأعجز ميلاد، فمريم هي الفتاة العذراء النقية التقية التي اصطفاها الله جل في علاه من بين نساء العالمين فنفخ فيها من روحه ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة من بين أمهات الدنيا جمعاء.(168/2)
فأمها حنة بنت فاقود وصلت إلى سن اليأس، فتمنت على الله أن يرزقها الولد، والله على كل شىء قدير فاستجاب الله دعاءها وابتهالها إليه، فتحرك الحمل في أحشائها بقدرة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السموات بقدرة من يقول للشيء كن فيكون. فلما تحرك الحمل في أحشائها أحبت أن تشكر الله على هذه النعمة فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم .
نَذَرَتْ ما في بطنها لله جل وعلا "أي لخدمة بيت المقدس"، جزاء على ما رزقها هذه النعمة. بعد ما وصلت لهذه السن.. وبعد مرور أشهر الحمل وضعت بنتا جميلة رقيقة طيبة، فنظرت إليها بحزن وقالت رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
فقالت حنة: رباه إني وضعتها أنثى وأنت أعلم مني بما وضعت أي: أنت الذي رزقتني وقدرت لي ذلك، فليس الذكر كالأنثى في القوة والجلد وخدمة الأقصى وإني يا رب أعيذها بك من شر الشيطان وذريتها - وهو ولدها عيسى بن مريم فاستجاب الله لها.
قال رسول الله : ((ما من مولود يولد، إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه))([2]).(168/3)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إنه تقبل نذر أمها حنة وجعل شكلها مليحاً وأعطى لها منظراً بهيجاً ويسر لها أسباب القبول وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وما ذلك إلا لأنها كانت يتيمة ويقال أنها كانت سَنَةَ جَدْبٍ فكفلها زوج خالتها لكي تكون تحت رعاية خالتها وحنانها ولا منافاة بين القولين، وقيل أنه زوج أختها وقد ذكر القرآن لنا أيضا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آل عمران: 44 ].
أي ما كنت معهم يا محمد لتخبرهم عن معاينة ما جرى، بل أطلعك الله عليه كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم لما اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفل هذه الطاهرة التقية الورعة ليكن له الأجر، فحين خرجت بها حنة إلى بني الكاهن بن هارون أخى موسى عليهما السلام. وقالت هي نذيرة، ولا يدخل المسجد حائض، ولكني نذرتها، وأنا لا أردها إلى بيتي. فقال زكريا: ادفعوها لي فخالتها تحتي، فقالوا: بذلك تطيب أنفسنا لأنها ابنة إمامنا. وقالوا: نقترع وبالفعل اقترعوا ،فما هي القرعة؟!
أن يرموا الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة في نهر الأردن وقالوا أي قلم يثبت ولا يجري مع التيار بل يعاكسه هو كافلها وبالفعل حدث ووقع ذلك على قلم واحد ،... ترى من صاحب هذا القلم؟!
إنه زكريا عليه السلام... وذلك لحكمة يعلمها الله... ويعلمها لنا ألا وهي لتتعلم مريم وتقتبس من النبي الزكي زكريا عليه السلام العلم والفقه وكان إمامهم وكبيرهم وسيدهم وعالمهم ونبيهم حين ذاك.
قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا(168/4)
تعجب زكريا من هذا الطهر والزهد والعفاف والتوحيد الذي وصلت به مريم البتول إلى مكانة عالية عند الله عز وجل فكلما دخل عليها وجد عندها رزقا.
ثم قال لها زكريا عليه السلام: يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أي من أين لك هذا الرزق؟!
قالت البتول الطاهرة: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ أي ذلك لا دخل للمخلوق فيه بل هو من الخالق، وهو يرزق من يريد بغير حدود تحده.
وهكذا أيها الأحبة الكرام
اصطفى الله مريم في بستان الورع بين أزهار التقى والنقاء والعفاف والصلاح، هذه هي الزهرة والنبتة الطيبة، نشأت مريم في هذا المكان وهذا الجو الإيماني الطاهر العفيف فاصطفاها الله وبشرها بهذه البشارة التي انفردت بها دون نساء العالمين ويالها من بشارة يالها من خصوصية اختص الله بها الطاهرة..
إيه يا مريم.... إيه بماذا اختصك ربك؟!
يقول الملك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43].
يا لها من مكانة آثرك بها الله دون نساء الدنيا يا مريم!
فلم تتوان مريم عن عبادة الرب فظلت البتول ساجدة وراكعة حتى أراد الله عز وجل أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة من بين أمهات الدنيا(168/5)
قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:16-21].
وفي يوم من الأيام خلت مريم لنفسها لقضاء شأن من شئون العذراء الخاصة... وفجأه انحبس صوتها وشخص بصرها ،إنها مفاجأة مذهلة تأخذ بالعقول بل وتصدع الأفئدة، بشر سوي في خلوة العذراء البتول الطاهرة. وسرعان ما استغاثت برب الأرض والسموات ولجأت إليه بشدة وقالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا .
انظر إلى الفطنة والذكاء والورع! لم تقل أعوذ بالجبار منك ولم تقل أعوذ بالغفار منك وإنما استجاشت الرحمة في قلبه بذكر الرحمن فقالت أعوذ بالرحمن منك، أي ارحم ضعفي! ارحم أنوثتي! ارحم خلوتي!!(168/6)
ولكن قدر الله لها مفاجأة أعظم. أن أنطق هذا البشر السوي في خلوة البتول الطاهرة ليقول لها: لا تخافي ولا تحزني فأنا رسول ربك إليك لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا لم أكنْ أبداً صاحبة فاحشة، فهي لم تتصور مطلقا وسيلة للإنجاب غير وسيلة التقاء الرجل بالمرأة وهي لم تتزوج بعد، ولم تفكر أيضا ألبته في الرذيلة، وهنا يأتي الرد القاطع الحاسم فيقول الملك والرسول الكريم قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا .
فهنا يقول المولى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ [ الأنبياء:91 ].
فهنا حدث أمر غير مألوف ما اعتادت عليه الخليقة فَنَفَخنَا فِيهَا مّن رُوحِنَا لتنجب عيسى عليه السلام، أي نفخ الملك جبريل في أعلى القميص بأمر من الله عز وجل وهذا ليبين للخلق طلاقة قدرة الخالق، إنها قدرة لا تحدها حدود، إن من يحاول أن يصل بعقله القاصر إلى حدود قدرة الله كمن يحاول أن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر وما هي بناقلته إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ].
فلا تفكر بعقلك القاصر البتة لتصل إلى منتهى قدرة الملك.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آل عمران:59 ].
فالله لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماوات، فمن الذي خلق السماء بغير عمد ترونها؟!.
من الذي خلق الأرض وشق فيها الأنهار والبحار وزينها بالأشجار؟
من الذي خلق سنبلةَ القمح وغلفها بهذه الأغلفة الحصينة المكينة؟
وجعل فوق كل حبة شوكة؟؟ ولم جعلها هكذا؟!(168/7)
لأن الله قدر أن تكون هذه الحبة قوتاً لك أيها الإنسان دون الطيور أو غير ذلك !!
من الذي خلق كوز الذرة ورصَّ على قولحته هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء بهذا الجمال والإبداع؟!!
ومن الذي خلق الإنسان بهذا والجمال والإبداع؟!
هو الله.... !!! هو الله... !!! هو الله...!!!
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:22-23].
قل للطبيب تخطفته يد الردى ياشافي الأمراض من أرداك ؟
قل للمريض نجى وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح مات لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاك ؟
بل سل الأعمى خطاً وسط الزحام بلا صدام من ياأعمى يقود خطاك؟
بل سل البصير كان يحذر حفرةً فهوى بها من ذا الذي أهواك ؟
وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ولا مرعى من ذا الذي يرعاك ؟
وسل الوليد أجهش بالبكاء لدى الولادة من الذي أبكاك ؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من يا ثعبان بالسموم حشاك ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك ؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك ؟
إنه الله.. إنه الله.
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
انتهى الأمر وقدره الله عز وجل.
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ(168/8)
هو الذي خلق الخلق.. خلق آدم يوم خلقه بلا أب أو أم!! وكذلك خلق عيسى من أم بلا أب!! ليكون للناس دليلا على طلاقة قدرة الخالق.
قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].
ولقد ظهر الحمل.. والراجح من أقوال المفسرين أن الحمل بعيسى كان حملا عاديا تسعة أشهر وأنه لا ريب أن الله جلا وعلا كان قادراً ولا زال سبحانه على أن تحمل مريم بعيسى وتضعه في لحظة واحدة، ولكن أراد الله بها أن يختبر مدى صبرها ومدى تحملها على هذا الابتلاء العظيم التي لا تستطيع أن تقدر عليه إلا مريم ابنة عمران العذراء البتول، فهذا من تمام الابتلاء.
وبدأت بوادر الحمل تظهر على الطاهرة المطهرة، وهنا نظر يوسف النجار - ذلك الرجل الذي كان يخدم بيت المقدس - إلى بطن الطاهرة تعلو يوما بعد يوم ويتعجب ولكن كثيراً ما كان يدفع أي خالجة تمر بذهنه لعلمه بطهر البتول، ولكن ها هي جبلية البشرية قد غلبته، وما استطاع أن يكتم هذه الخوالج عن لبه فقال لها: يا مريم إني سائلك عن شيء ولكن لا تعجلي علي، فقالت الطاهرة العذراء: سل ما شئت يا يوسف وقل قولاً جميلاً. فقال لها يوسف: هل ينبت زرع بلا بذر؟! وهل ينبت شجر بلا غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟!!! فقالت مريم: نعم يا يوسف هو كذلك. قال: وكيف يكون ذلك يا مريم؟!! قالت: ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم أنبته من غير بذر!! وأنبت الشجر يوم خلقه بغير غيث أو مطر، وخلق آدم يوم خلقه بغير أب أو أم!!قال يوسف: أعلم أن الله على كل شيء قدير! الله أكبر..(168/9)
قال الله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَموتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاُ [مريم:22- 33].
هكذا قال عيسى الذي ما زال في المهد لا حول له ولا قوة له إلا بالله أنا عبد الله، وأعطاني الإنجيل وجعلني نبياً، وأمرني بالصلاة، والزكاة ما دامت بي حياة، ومحسناً إلى العذراء أمي، ولم يجعلني من الجبارين في الأرض ولا من الأشقياء.(168/10)
ويكمل لنا القرآن قصة عيسى عليه السلام ويقول: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:34 - 36].
تعالى الله عما قاله النصارى فالكمال صفة من صفاته! أيحق له أن يتخذ ولداً؟!
ولِمَ يتخذ ولد وهو الغني عن خلقه ولن تغنى الخليقة عنه؟!!
فالله هو الغني عن الولد والصاحب والزوج.
فيا عباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه
إذا مات الإلهُ بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ؟!
ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غزاه
وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله ؟!
تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه
وصدق الله إذا يقول قل هو الله أحد يا من تشركون بالله... فالله لا ند له.. ولا كفء له.. ولا شبيه له.. ولا زوج له... ولا ولد له ولا والد له لَيسَ كَمثْلِه شَيءٌ وَهُو السَّمِيعُ البَصِير [الشورى:11].
---
([1]) رواه مسلم رقم (2901) في الفتن ، باب مايكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال ، وأبو داود رقم (4311) في الملاحم ، باب أمارات الساعة ، والترمذى رقم (2184) في الفتن ، باب ماجاء في الخسف .
([2]) رواه أحمد رقم (7182) ومسلم رقم (2366) في الفضائل ، باب فضل عيسى بن مريم وهو في صحيح الجامع رقم (5785).
الخطبة الثانية(168/11)
أحبتي في الله: أرى أنه من الجمال أن أختم هذا العنصر بهذا الحوار المبارك الجميل الذي برىء به ربنا ساحة نبيه عيسى عليه السلام.
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116 - 118].
ثانياً: بل رفعه الله إليه
زعم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة أنهم قتلوا عيسى بن مريم وصلبوه، وزعم النصارى بجهل وغباء أن عيسى صلب وقتل ودفن وخرج من قبره بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه، وهو ينتظر إلى يوم الخلاص ليقضى بين الأحياء والأموات!! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا(168/12)
فبين الله الحق وكذب اليهود والنصارى فقال سبحانه وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:157 - 159].
قال أهل التفسير: إن الله عز وجل لما أراد أن يرفع نبيه عيسى إلى السماء بعد ما انطلق اليهود لقتله ألقى الله شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الخائن الذي أخذ اليهود ليدلهم على مكان عيسى فابتلاه الله فألقى عليه شبه عيسى فأخذه اليهود فقتلوه وصلبوه وهذا قول.
والقول الآخر: ثبت عن ابن عباس بسند صحيح كما روى ابن أبي حاتم والنسائي بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لما أراد الله أن يرفع عيسى خرج إلى بيت فيه إثنى عشر رجلا من الحوارين فقال: نبي الله عيسى: إن منكم من سيكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال لهم: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهى ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة فقام شاب أحدثهم سناً (أصغر الجالسين) فقال له: أنا، فقال: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى القول مرة ثانية فقام نفس الشاب فقال له: اجلس فجلس، ثم أعاد عيسى قوله للمرة الثالثة فقام نفس الشاب فقال عيسى هو أنت فألقى الله على هذا الشاب شبه عيسى ورفع الله عيسى إلى السماء".
وجاء الطلب من اليهود أي الذين يطلبون عيسى لقتله فأخذوا هذا الشاب فقتلوه فصلبوه فكفر بعض أتباع عيسى ممن آمنوا به كما ذكر لهم قبل قليل.
ثم ينزل الله عز وجل عيسى بعد ذلك لحكم عديدة خذوا منها:(168/13)
أن الله تبارك وتعالى سينزل عيسى عليه السلام ليكذب اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، وليكذب النصارى الذين جهلوا هذه الحقيقة، وليبين للناس جميعا أن محمدا وأن الموحدين معه من أمته أولى الناس بعيسى عليه السلام لأنه سيحكم العالم كله بكتاب الله وبشريعة محمد رسول الله .
سينزل عيسى ليموت في الأرض فما قولك إذاً في قول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران: 55].
والجواب كما قال جمهور المفسرين :
أن الوفاة في الآية معناها الوفاة الصغرى وهي النوم كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60].
وكما في قوله: اللَّهُ يَتَوفَّىالأنْفسَ حِينَ مَوتِهَا [الزمر:42].
أي في منامها كما في قول المصطفى إذا استيقظ من منامه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور))([1]).
إنى متوفيك أى ألقى الله عليه سِنَةً من النوم، وهذه هي الوفاة الصغرى باتفاق ثم رفعه الله عز وجل ثم ينزله الله تبارك وتعالى في الوقت الذي يشاء.
ثالثاً: نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.(168/14)
بين الله جل وعلا أنه رفع عيسى إليه إلى يوم الوقت المعلوم الذي سينزل فيه إلى الأرض مرة أخرى ليكون علامة كبرى من العلامات الدالة على قيام الساعة فقال في قرآنه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرض يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 57-61].
انتبه جيدا ففي قراءة ابن عباس ومجاهد وإنه لعلم للساعة أي نزول عيسى أمارة وعلامة على قيام الساعة.
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة، وقال الله تعالى في الآية التي ذكرت آنفا وَإِنَّ مِّن أَهلِ الكِتَابِ إِلا لَيُؤمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوتِهِ أى قبل موت عيسى عليه السلام.
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد))([2]).(168/15)
وانظر ماذا قال الحبيب في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله عليه وسلم: ((ليس نبى بينى وبين عيسى بن مريم وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، إنه رجل مربوع ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالسمين ولا بالنحيف مائل إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر ماء من غير بلل))([3]).
وفى رواية النواس بن سمعان في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين)) في الرواية الأولى التي ذكرت آنفا ((بين ممصرتين)) أي ثوبين مصبوغين بصفرة خفيفة يسيرة ((واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ)). يتوجه نبى الله عيسى من دمشق إلى بيت المقدس وقد أقيمت الصلاة فإذا رأى الإمام الفطن الذكى اللبق نبى الله عيسى عرفه وتقهقر للخلف ليتقدم نبى الله عيسى فيقول له نبى الله: لك أقيمت فإن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأمة فيصلى نبى الله عيسى خلف إمام المسلمين فإذا انتهوا من الصلاة انطلق نبى الله عيسى إلى باب بيت المقدس وأمرهم أن يفتحوا الباب فإذا فتحوا الباب رأوا الدجال خلف الباب ومعه سبعون ألف من اليهود بالسيوف فإذا نظر الدجال إلى نبى الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء فيريد الدجال أن يهرب فيتبعه نبى الله عيسى ويدركه عند باب لد مدينة معروفة الآن بفلسطين فيقتله، ويريح الناس من شره.
قال المصطفى قولاً عجيباً كما في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وصحح السند الحافظ ابن حجر من حديث أبى هريرة رضى الله عنه وفيه أن رسول الله قال: ((فيهلك في زمان عيسى الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله المسيح الدجال، وتنزل الأمنة في الأرض حتى ترعى الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم))([4]).(168/16)
استحلفك بالله أن تنظر لبداية الحديث يقول الرسول تهلك كل الملل إلا الإسلام...
سبحان الله..!! والله أكبر!!
أبشر أيها الموحد.. أبشر يا من تحب " لا إله إلا الله ".
نعم والله ستهلك كل الأديان إلا الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلام [آل عمران:19].
وانظر مرة أخرى ومحص النظر.
ترعى الأسود مع الإبل...!! والنمار مع البقر...!!
والذئاب مع الغنم...!!
وفي رواية أبي أمامة وسندها صحيح قال المصطفى : ((فيكون الذئب مع الغنم كأنه كلبها ويمر الوليد على الأسد فلا يضره وتمر الوليدة على الحية فلا تضرها، رفع الظلم واستقر الأمن والأمان والرخاء وزادت البركة حتى تنزل الأمنة في الأرض)).
بل في رواية النواس بن سمعان قال : ((فيقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل (اللبن) حتى أن اللقحة (الوليدة التي وضعت ولدها) من الإبل لتكفي الفئام من الناس (الجماعة) واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفَخِذَ من الناس.... ))([5]) سبحان الله..!!
وهكذا تعيش الأرض حالة لا نسيج لها في التاريخ كله، حتى قال المصطفى في الحديث الذي رواه الديلمي والضياء المقدسي وصححه في الصحيحة الألباني من حديث أبي هريرة أن الحبيب النبي قال: ((طوبى لعيش بعد المسيح، طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر ويؤذن للأرض في النبات حتى إذا بذرت حبك على الصفا لنبت ولا تشاحن ولا تحاسد، ولا تباغض، حتى يمر الرجل على الأسد ولا يضره ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض))([6]).
---
([1]) رواه البخارى رقم (6312) في الدعوات باب ما يقول إذا نام ، والترمذى رقم (3413) في الدعوات باب ما يدعو به عند النوم ، وأبو داود رقم (5049) في الأدب باب ما يقال عند النوم .(168/17)
([2]) رواه البخاري رقم (2222) في البيوع ، باب قتل الخنزير ، ومسلم رقم (155) في الإيمان ، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبو داود رقم (4324) في الملاحم باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2234) في الفتن ، باب ما جاء في نزول عيسى عليه السلام .
([3]) رواه أبو داود رقم (4324) في الملاحم ، باب خروج الدجال ، وصححه الألبانى في الصحيحة (2182) وهو في صحيح الجامع رقم (5389) .
([4]) مسند أحمد رقم (8902) .
([5]) رواه مسلم رقم (2937) في الفتن وأشراط الساعة ، باب ذكر الدجال .
([6]) صححه شيخنا الألبانى ، في الصحيحة حديث رقم (1926) .(168/18)
ما الهم الذي تحمله ؟
كتبه : الشيخ ناصر سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما كثيرا.
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ).
أما بعد فأيها الأخوة المؤمنون، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، هذا الموضوع موضوع يهم الجميع رجالا ونساء شبابا وكهولا وشيبا.
هذا الموضوع أيها الأحبة الذي يحمل هذا السؤال:
ما الهم الذي تحمله ؟
ما سبب هذا الموضوع أيها الأخوة ؟
سبب هذا الموضوع، هناك سببان رئيسان :
السبب الأول ما رأيته من هذه الصحوة المباركة:
التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين، فعندما تذهب إلى مسجد من المساجد تجده مليئا بالمصلين وبالمتعلمين، بالراكعين وبالساجدين، عندما نلتقي في مناسبة كُثر، في المحاضرات ودروس العلم نجد أولئك الذين يقبلون على هذه المحاضرات وعلى هذه الدروس وهم بعشرات الآلاف، عندما نذهب لبلد من البلدان سواء داخل هذه البلاد أو خارجها ماذا نجد؟
نجد كما قلت مئات الألوف، لا أعني أننا لا بد أن نلقاهم ولكننا نسمع عنهم رجالا ونساء.
عندما رأيت هذا العدد لهائل ورأيت هذه الملايين كما قلت، ورأيت هذه اليقظة المباركة، ونظرت إلى الأعمال التي تؤدى، ونظرت إلى النتائج التي نرجو، فإذا هي لا تتناسب أبدا مع هذا العدد الهائل الذي أشرت إليه.
هذه الملايين التي تمثل هذه الصحوة المباركة من الرجال والنساء، نتائج أعمالها لا تمثل هذا الواقع التي تعيشه الصحوة فتساءلت ما السر في ذلك ؟(169/1)
لماذا لا نرى أعمالا تتناسب مع هذه الطاقات ومع هذه المواهب ومع هذه الأعداد.
فجلست أتأمل وأفكر في هذه القضية.
السبب الثاني ما رأيته من أعداء الله:
من حرص ومن دأب ومن نشاط ومن عمل ضد الإسلام، هذا العمل الدؤوب الذي نسمع آثاره وأخباره في كل يوم.
أسألكم أيها الأحبة، هل استمعتم في يوم من الأيام ومنذ عدة سنين إلى نشرة من نشرات الأخبار ولم تسمعوا في هذه النشرة خبرا أو أكثر من خبر من آثار أعداء الله ومن مؤامرتهم على الأمة الإسلامية ؟
لا أظننا منذ سنوات نستمع إلى نشرة من نشرات الأخبار من أي إذاعة كانت إلا ونجد خبرا رئيسا أو أكثر من خبر يدل ويمثل ما عليه أعداء الله جل وعلا وما يقوم به أعداء الله.
أقول أيها الأخوة، الذي يرى ويستمع إلى جهود أعداء الله يتعجب، وهم على الباطل، وهم على الكفر يرى والله عجبا، يرى جهودا متواصلة، ويرى أيضا ثمارا لهذه الجهود، ولا أذهب بكم بعيدا، إننا نرى جهود أعداء الله جل وعلا في بلادنا بلاد التوحيد.
خروج النساء إلى الأسواق كاسيات عاريات أثر من جهود عظيمة عملها أعداء الله.
ما يسمى بالبث المباشر هذه البلية التي بلينا بها أخيرا أو ما سمى بالدُش، أتعلمون منذ كم بدء؟ منذ عام ألف وأربعمائة هجرية أي منذ قرابة خمسة عشر عاما وأعداء الله على قدم وساق نشاطهم من أجل الوصول إلى النتيجة التي وصلوا إليها بعد سنوات.
وأذكر أن أحد وزراء الإعلام وهو زير الإعلام السابق ذكر في محاضرة ألقاها في كلية الشرعية في حدود عام 1400/1401هـ أنه بعد سبع أو ثمان سنوات سيأتي ما يسمى بالبث المباشر، وإذا نحن فعلا نراه بعد عشر سنوات.
بنوك الربا وانتشارها ثمرة عملية – أيها الأحبة- لنشاط أعداء الله ولدأبهم ولحرصهم.
هذان السببان جعلني أتسأل هذا السؤال وهو موجه إلى كل واحد منكم، موجه إلى الرجال وإلى النساء، موجه إلى الكهول وإلى الشباب وإلى الصغار:
ما الهم الذي تحمله ؟؟(169/2)
لماذا ؟ لأن الذي يهتم لشيء لا بد أن يُرى أثر هذا الهم.
ولأني أريد أن أشرح لكم الموضوع وأن ابسطه تبسيطا، لنأخذ مثلا عمليا.
جلست أتأمل وأقول يا تُرى لو قمت بتوزيع استمارة على الأخوة الموجودين أمامي الآن وقلت لكل واحد منهم خذ القلم والورقة وأجب على هذا السؤال:
ما الهم الذي تحمله ؟؟
وأنا أقصد بهذا السؤال أن تضع جميع همومك مرتبة حسب الأولويات لأنه لا يمكن لأي واحد منا إلا أنه يحمل عدة هموم، وأنا هنا لا أعني الهم الذي يصطلح عليه العامة عندما يقولون: فلانا مهموم أي مريض أو نحو ذلك.
لا، بل أقصد الهم الذي يهمك ويشغل بالك وتجري وتسرع وتتحرك في نطاق هذا الهم.
تُرى لو أن كل واحد منكم كتب ما يهمه، كتبها مرتبة، وأريد من كتابته أن يكون صادقا مع الله جل وعلا، فمن السهل جدا أن تأتي ورقة كل واحد منكم وفيها:
أنني أحمل هم الإسلام.
لكنني لا أريد هذا الجواب بهذه الطريقة.
أريد أن تتأمل، ولا مانع أن تأخذ الورقة معك إلى بيتك ولتنفرد بنفسك في غرفة ليس عندك أحد، وتتقي الله جل وعلا وتنظر فعلا:
ما الذي يهمك ؟
ما الهم الذي يشغلُك ؟
ثم تكتب لي اهتماماتك، فهل أجد أن الذي يهمك، وأن الهم رقم واحد هو:
همُ الإسلام ! همُ هذه الأمة! همُ هذا الدين ! هم هذه العقيدة ؟؟
أو أنني سأفاجئ بأن الهموم تشعبت واختلفت.
وكما قلت لكم أريد الإجابة بصراحة وبصدق، لا يهمني أسم من كتبها وإنما يهمني أن اصل إلى نتيجة عملية.
إنني أتوقع أنني سأجد عددا كبيرا يكتب لي أن همه هم الإسلام، وأسأل الله أن تكونوا منهم. سيكتب لي أن همه هم هذه الدعوة، لا أشك في ذلك.
ولكنني على قناعة أنني سأجد عددا كبيرا أيضا منهم من يكتب لي:
أن همي هو هم الوظيفة.
وآخر يكتب أن همي الحقيقي هو هم السعي في طلب الرزق.
وثالث يقول لي إن همي الذي يسيطر على كياني هو هم الزواج.(169/3)
ورابع يقول لي إن همي الذي يسيطر علي هو هم الأولاد وتأمين مستقبلهم ومعيشتهم.
وخامس يقول لي إن همي أن أبني بيتا.
وهكذا نجد الهموم قد تفرعت. لا أشك أن هم الإسلام سيأتي، ولكن قد يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة.
هكذا إذا كنا صادقين في الإجابة – أيها الأخوة -.
ما الهم الذي يشغلُك ؟
هذا سؤال – أيها الأحبة – هو القضية التي نناقشها هذه الليلة، ولذلك أذكر لكم في بداية حديثي قول المصطفى في الحديث الذي رواه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم يقول :
( من جعل الهموم هما واحدا، هم أخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالي الله في أي أوديتها هلك ) صححه الألباني
هذه حقيقة أيها الأخوة، وهذه قضية يجب أن نقف معها وأن نكون صرحاء.
هذا هو السؤال هذا اليوم : ما الهم الذي تحمله ؟
قف مع نفسك وقفة مصارحة لأنني فعلا لن أطلب منك إجابة، ولن أقدم لك ورقة، ولكني أوجه لك سؤال ستسأل عنه يوم القيامة يوم تلقى الله جل وعلا.
ما الهم الذي يشغلُك أيها الأخ الكريم ؟
هل هو هم هذه الأمة المستباحة ؟
هل هو هم هذه الأمة المضطهدة ؟
هل هو هم هذا الدين الذي توجه له أعداء الله عن قوس واحدة ؟
هل هو هم هذه العقيدة التي تهاجم الآن في بلاد التوحيد ؟
الرافضة أصبح لهم مكانة في بلاد التوحيد، الصوفية أصبح لهم مكانة في بلاد التوحيد، اليهود والنصارى وأعداء الله، غيرهم وغيرهم
يسعون بجد واجتهاد لهدم عقيدة التوحيد في بلاد التوحيد.
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون).
هذه هي الحقيقة يا أخي الكريم.
فتعال معي نتساءل سؤال حقيقيا إيمانيا قبل فوات الأوان ما الهم الذي تحمله ؟
هل أنت تحمل هم الوظيفة كما يفعل كثير من الناس ؟(169/4)
هل أنت تحمل هم طلب الرزق في الحياة، وتجعل هم الإسلام درجة ثانية وثالثة ؟
هل أنت تحمل هم أولادك ، وتقول من لأولادي من بعدي؟
لا من أجل الدين ولكن من أجل الدنيا، هناك من يسعى جادا وحريصا يواصل ليله ونهاره من أجل أولاده، من أجل دنياهم لا من أجل دينهم.
هنا تأتي القضية التي تحتاج إلى سؤال ومصارحة ما الهم الذي تحمله ؟
يا أخي الكريم، انظر في النتيجة التي تصل إليها.
فإن توصلت إلى أنك تحمل هم الإسلام، وتحمل هم هذه الدعوة، وتحمل هم هذه الأمة فهنيئا لك. أقول لك والله هنيئا لك وهنيئا لك.
لأنه كما استمعنا في الحديث:
( من جعل الهموم هما واحدا، هم أخرته، كفاه الله هم دنياه).
إذا كنت تحمل هم الدعوة، وتحمل هم الإسلام، وتحمل هم هذا الدين فهنيئا لك لأن الله سيكفيك بقية الهموم.
وإن كنت توصلت إلى أن الهم الذي يسيطر عليك، وأن الأمر الذي تسعى إليه في حياتك هو هم وظيفة أم هم طلب رزق أم أي هم من هموم الدنيا.
فأقول لك البدار البدارَ قبل أن يصدق عليك حديث المصطفى :
(ومن تشعبت به الهموم في أحوال) من وظيفة وزواج وطلب رزق وبناء بيت.
(ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالي الله في أي أوديتها هلك ).
أخي الكريم تسألني وتقول لي :
كيف أعرف أني أحمل هم الإسلام ؟
وأنا أسألك مرة أخرى عن أي شيء تفكر ؟
أسألك بالله عندما تضع رأسك على الوسادة ما هو الذي يسيطر على تفكيرك ؟
عندما تستيقظ من النوم ما الذي يشغل بالك ؟
عندما تسير في السيارة والأفكار تدور في خاطرك، ما هي هذه الأفكار ؟
بل أقول وأنت تصلي ما الذي يشغلك ؟ هل هي الصلاة وما فيها من آيات؟
أسألك هذا اليوم وقد استمعت إلى هذه الآيات العظيمة من سورة المائدة ، هل أنت معها متأملا متفكرا ؟ أم أنك لا تدرك إلا ركوعها وسجودها ولم تعقل منها شيء ؟
لماذا ؟ لأن الدنيا قد شغلت بالك، لأن هموما أخرى من هموم الدنيا قد أرقتك.(169/5)
يا أخي الكريم إذا كنت عندما تضع رأسك على الوسادة تفكر في حال هذه الأمة.
إذا كنت يا أخي الكريم عندما تستيقظ تفكر في واقع هذه الأمة.
يا أخي الكريم عندما تسير في الطريق لا تفكر إلا في أحوال المسلمين .
عندما تجلس مع إخوانك حديثكم عن الإسلام وعن أحوال المسلمين.
عندما تتحدث مع أولادك تتحدث عن تربيتهم وإعدادهم لأجيال قادمة ليقفوا أمام أعداء الله جل وعلا. إذا كنت كذلك فأنت فعلا تحمل هم الإسلام.
قالت زينب (رضي الله عنه) للرسول :
( يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثُر الخبث).
ولا أزكيكم على الله – لا أشك في طيبة كل واحد منكم، ولكن الطيبة وحدها لا تكفي.
الصلاح وحده لا يكفي، انظر ما الذي يحدثك الآن؟
ما الذي يشغل بالك الآن ؟
الناس يختلفون في هذه القضية:
هناك الكثيرون يسيطر على كيانهم أمور الدنيا كما ذكرت من طلب رزق، ومن وظيفة أو أولاد أو منصب أو دراسة أو طلب شهادة أو طلب جاه أو طلب سمعة.
الناس شتى (كل يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها).
فيا أخي الكريم هذا هو السؤال.
ويكفينا لو أنهيت المحاضرة على حد هذا السؤال لكفانا لقاء هذا اليوم لأهمية هذا الموضوع.
وهنا قلت لك أخي الكريم أنت أحد رجلين وأسأل الله أن تكون الأول، أن تكون ممن يحمل هم هذا الدين حقيقة وصدقا وواقعا.
أو – وأعيذك بالله من ذلك- أن الهم الذي تحمله هو هم أي هدف من أهداف الدنيا أو غاية من غايات الدنيا.
بعد ذلك يأتي سؤال لا بد منه وهو:
هل يعنى هذا أن لا نحمل هم وظيفة ؟
ولا نحمل هم طلب الرزق ؟
ولا نحمل هم الزواج ؟
أخشى أن يتعجل متعجل من الحماس ومن الخير وقد يكون الآن يعد العدة للزواج بعد رمضان فيقول مادام هذا يصادم الهم الأول إذا أنا لن أتزوج.
ويأتي أخر فيقول أنا اليوم أدرس والحمد لله وأريد الشهادة، إذا هذا يتصادم مع حمل هم الإسلام، إذا لا أريد الشهادة وينسحب من جامعته ومن دراسته.(169/6)
وثالث أخشى أن يقدم استقالته من وظيفته.
فالسؤال الذي لا بد منه هل يعني هذا أنه لا يجوز لنا أن نحمل هم هذه الهموم ؟
وأقول لا، ليست هذه هي القضية.
قلت لكم ما الهم الذي تحمله ؟ أي ما الهم رقم واحد ؟ ومعنى ذلك أن هناك عدة هموم.
ليست المشكلة – أخي الكريم – أن تحمل هم الزواج، أو أن تحمل هم بناء البيت أو أن تحمل هم طلب الرزق، أو أن تحمل هم طلب الوظيفة.
كل هذا يكون مشروعا في حالة واحدة فقط، إذا كان همك الأول هو هم هذا الدين، وهم هذه الأمة، وهم هذه العقيدة فكل الهموم التي تأتي بعد ذلك لا حرج عليك ولا تأثيم عليك – أخي الكريم -، لماذا ؟
لأنه ثبت علميا – انتبهوا لهذه القضية-
ثبت علميا وثبت من حيث الواقع ومن حيث التجارب أن الهم رقم واحد يسيطر على بقية الهموم.
فإن كنت تحمل الهم رقم واحد هو هم هذا الدين فإنه سيسيطر ويوجه هم الوظيفة وهم الزواج وهم طلب الرزق وهم بناء البيت إلى غير ذلك.
أما إن كان الهم رقم واحد من هموم الدنيا فإنه سيؤثر على هم الدين حتى لو كنت تحمل هم هذا الدين ولكن جاء بالمرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.
والأمثلة توضح هذه الحقيقة:
لنأخذ المثال عن رجلين، رجل يحمل هم هذا الدين ومع ذلك يحمل هم الوظيفة، يحمل هم طلب الرزق، يحمل هم الزواج، يحمل هم بناء البيت فكيف تكون النتيجة ؟
إذا كان يحمل هم هذا الدين فهو قطعا سيبحث عن الوظيفة التي تخدم دينه، ولو عرض عليه مثلا وظيفة مدرس وخّير بين مدرستان:
إحداهما قريبة من البيت ومريحة وسيعطى من الحصص قليلا ولكن ليس فيها مجال للدعوة إلى الله جل وعلا.
والأخرى بعيدة وتحتاج منه مشقة وقد يكون نصابه أكثر، ولكنه يجد أنها مجالا خصبا لتربية الأولاد، لتربية الأبناء، أو لتربية البنات إن كانت مدرّسة، وتحتاج منه إلى جهد وجهاد.
إن الذي يحمل هم هذا الدين سيختار المدرسة الثانية.(169/7)
عند قضية الزواج مثلا، فالذي يحمل هم هذا الدين سيبحث عن الفتاة الملتزمة، الفتاة الصالحة، ولو جاءته أمه وقالت يا بني إني وجدت لك فتاة جميلة ومن عائلة كريمة ووضعها المادي مناسب ولكنها لم تلتزم بعد، سيقول:
لا يا أمي لأن المصطفى يقول : (فأضفر بذات الدين تربت يداك).
وتعرض عليه الثانية والثالثة والرابعة ولا يقبل إلا بذات الدين، حتى لو قالت له أمه في يوم من الأيام يا بني إني وجدت لك فتاة ملتزمة صالحة، ولكن قد لا تكون ذات نصيب كبير من الجمال، سيقول:
ليس الجمال مشكلة يا أمي فالذي يهمني هو هذا الدين فسيتزوجها.
أما الأخر الذي لا يحمل هم الدين فيريد في المرأة إما جمالا أو مالا أو حسبا أو نسبا، كما قال المصطفى :
(تنكح المرأة لأربع، لمالها ولجمالها، ولحسبها ، ولدينها فأضفر بذات الدين تربت يداك ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
انظروا للذين تشعبت بهم الهموم حول هذا المثال.
نحن عرفنا أن الذي يحمل هم هذا الدين لن يتزوج إلا امرأة صالحة حتى ولو نقصت الأمور الأخرى، حتى ولو كانت قليلة المال، حتى ولو كان جمالها ليس بذاك الجمال لكن يهمه منه أمر الدين.
أما الأخر فلننظر:
هناك من الشباب من يبحث عن الجمال فقط، فتأتيه أمه أو يأتيه أبوه أو إخوانه فيقولون وجدنا لك فتاة ثرية وذات دين وحسب ولكن جمالها قليل، أي ليست قبيحة ولكنها ليست جميلة جدا، فيقول لا أريدها.
ثم يعرض عليه ويعرض عليه حتى يأتي يوم من الأيام فيقال له:
وجدنا لك فتاة جميلة جدا، ولكنها فتاة مغرورة، ولكنها فتاة قليلة الدين غير ملتزمة فيقول هذه التي أريد وتلتزم إن شاء الله فيما بعد. هذا أن كان يعنيه أمر الالتزام.
ارأيتم الفرق بين الاثنين؟
وثالث يبحث عن امرأة موظفة فيعرض عليه من النساء من فيها من الجمال وفيها من الحسب وفيها من الدين لكنها ليست موظفة فيقول لا أريدها.(169/8)
حتى إذا وجدوا له امرأة موظفة كما يريد حتى لو كانت قليلة الالتزام بالدين فيقبل بها.
لماذا لأن هدفه الأول ، ولأن همه الأول من هموم الدنيا ولم يكن هم هذا الدين.
حتى في قضية شراء البيت فالذي لا يهمه أمر دينه فتجده يركز على الأرض وعلى موقعها وعلى مساحتها وهل هي على شارعين أو على ثالثة أو على واحد ثم يشتريها.
أما الذي يهمه أمر هذا الدين فيسأل عن الجار، ويسأل عن الحارة، ويسأل عن الموقع، فإذا وجدها مناسبة اشتراها.
إذا أيها الأخوة، وصلنا إلى حقيقة معينة أنه ليست القضية وليست المشكلة أن تحمل هم الوظيفة ولا أن تحمل هم الزواج، بل يجب أن تحمل هم الزواج لأن الرسول يقول :
(يا معشر الشباب من استطاع منكم البائة فليتزوج).
ولكن القضية ما هو الهم الذي يسيرك ؟
ما هو الهم الذي يسيطر على كيانك ؟
ما هو الهم الذي يؤرقك ليلا ونهار ؟
هذا هو السؤال وهذا هو الجواب.
ففتش عن نفسك، وتأمل في حالك وبادر قبل فوات الأوان.
هنا يأتي سؤال آخر.
تأتي هموم أخرى طارئة تسيطر على همنا كمن يصاب بمصيبة مثلا، أو يصاب بمرض، أو يكون عليه من الديون ما يثقله فيقول لي يا أخي الكريم:
الذي يؤرقني الآن هو هم هذا الدين، فهل أنا على طريق خاطئ ؟
أقول له يا أخي الكريم إن الهموم الطارئة لا تتعارض مع الهم الأول، فمن الطبيعي جدا إذا أصيب الإنسان بمصيبة أن يبقى زمنا يسيرا تشغله هذه المصيبة.
فالذي عليه دين اثقل كاهله لا شك أن الدين سيؤرقه حتى يقضي هذا الدين، ولكنه مرة أخرى يعود خيرا مما كان.
هذه قضايا أيها الأحباب تبين لنا بصفاء وبجلاء هذه الحقيقة :
ما الهم الذي تحمله ؟
وهنا مرة أخرى أعود إلى قضية أشرت إليها، ولكن قبل ذلك أذكر حديثا للمصطفى يقول فيه:
(من أراد أن يعلم ما له عند الله، فلينظر ما لله عنده).
تريد أن تعرف موقعك عند الله، وأن تعرف مكانك في الآخرة، أنظر ما لله عندك.(169/9)
أنظر ما لهذا الدين في قلبك، اجر الحسابات.
هل الذي في قلبك هو حب هذا الدين والعمل لهذا الدين والغيرة على هذا الدين.
أو أنك فعلا تحب هذا الدين ولكن الذي في قلبك للدنيا أكثر بهمومها وشعابها.
(من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).
هذه قضية لا بد أن نقف معها أيها الأحبة، هنا السؤال الجوهري في هذه المحاضرة:
ماذا يعني أن يكون همي الأول هذا الدين ؟ وكيف يكون ذلك؟
أقول لك أن هذا يعني:
أولا أن تفكر دائما وأبدا في دينك وفي أمتك وفي الواقع الذي تعيشه الأمة الآن.
ثانيا العمل الدؤوب الجاد، انظر يا أخي الكريم كم مضى من عمرك ،ماذا قدمت للإسلام.
انظر كم عمرك الآن ثلاثين سنة ، أو خمس وعشرين سنة، أو أربعين سنة، أو خمسين سنة ، أو ستين سنة ؟
اجلس مع نفسك جلسة مصارحة واسأل ماذا قدمت للإسلام ؟
ماذا قدمت لدينك؟ أنظر إلى هذه النعم التي أعطاك الله جل وعلا وهذه المواهب كيف استخدمتها ؟
هل استخدمتها لأمور الدنيا، أو استخدمها لأمور دينك ؟
إذا العمل الجاد الدؤوب ، ومحاسبة النفس .هل أنت تحاسب نفسك ؟
تريدون أن أوجه لكم سؤال آخر فأقول:
كم مرة جلست مع نفسك لمدة ساعتين أو ثلاث وليس لك هم ولا غرض ولا مأرب ولا حاجة إلا أن تحاسب نفسك على ماذا قدمت لدينك ؟
سؤال صريح أيها الأخوة، لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولله أن الوقت أن نحاسب أنفسنا الآن خير لنا من أن نحاسبها أو تُحاسب يوم القيامة.
يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:
(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر على الله جل وعلا).
هل جلست لمدة ساعة واحدة في المسجد، أو في بيتك وغفلت عن أولادك ؟
هل جلسَت هذه الأخت جلست صدق مع نفسها وصارحت نفسها، وصارحت نفسك:
ماذا قدمت للإسلام في ما مضى من عمرك ؟(169/10)
الذي أخشاه، بل الذي أتوقعه أن الكثير منا لم يجلس مع نفسه، ويمر عليه الشهران والثلاثة والسنة ولم يجلس جلست صدق ومصارحة .
أيها الأخوة، الخلوة الشرعية مع النفس ومحاسبة النفس لا بد منها، فهل نحن نفعل ذلك؟
إذا كنت تفعل ذلك فأقول لك نعم إنك تحمل هم الإسلام.
أما إذا كانت أمور الدنيا تتوالى عليك ولم تجلس يوما واحدا مع نفسك جلست صدق ومصارحة ومحاسبة فتدارك نفسك.
أن تحمل هم الإسلام يعني الإبداع، أين الإبداع ؟
لماذا نرى أن الإبداع وكأنه حكر على الكافرين ؟، وكأنه حكر على أعداء الله ؟
أين ما أبدع المسلمون ؟
أسألك أنت ماذا أبدعت ؟
ماذا أبدعت من مشاريع ؟ ماذا أبدعت من عمل ؟
لا أريد أن أكثر الأمثلة ولكن أضرب لكم مثلا واحدا:
طفل عمره في حدود عشر سنوات:
وقف عند ماكينة البيع الذاتي للمرطبات وهي كما تعلمون منتشرة في الأسواق.
نظر إليها وقال إنني أتمنى ؟؟؟؟؟
ماذا يتمنى هذا الطفل ؟ أيتمنى أن هذه الماكينة له ليكسب من وراءها الأموال .
أيتمنى أن هذه الماكينة وفيها مما لذ وطاب من المرطبات له ليشرب على راحته وكما ينبغي لا، قال إنني أتمنى أن توجد ماكينة مثلها نضع فيها الأشرطة:
فندخل فيها عدة ريالات فيخرج لي شريط للشيخ عبد العزيز ابن باز (رحمه الله).
ثم اضغط زرا آخر فيخرج لي شريط للشيخ محمد ابن عثيمين (رحمه الله).
واضغط زرا رابعا فيخرج لي شريط للشيخ سفر الحوالي، وزرا خامسا للشيخ سلمان العودة، وسادسا وسابعا.
هذا طفل، ارأيتم التفكير، هذا يحمل هم الإسلام لأن عنده الإبداع، لأن عنده تفكير، لأن عند إنتاج حتى ولو كان مثلا يسيرا.
أنت ماذا أبدعت ؟ أنت ماذا فكرت؟ أنت ماذا قدمت ؟
ماذا يعني أن يكون همك رقم واحد هو هم الإسلام؟
هي الانطلاقة المؤصلة على هدي المصطفى الملتزمة بالكتاب والسنة، لماذا ؟
لأن الذين يسيرون إلى الله كُثر، ولكن كثيرا منهم على الخطئ وبعضهم على الانحراف.(169/11)
يقول المصطفى عندما نزل قوله تعالى :
(هل أتاك حديث الغاشية).
قال نعم أتاني حديث الغاشية، نعم أيها الأخوة.
(عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية).
فيا أخي الكريم الانطلاقة المؤصلة أن تنظر في عملك ؟
وهل وقفت مرة واحدة أيها الداعية، ويا طالب العلم مع نفسك وتأملت في طريقتك ومسيرتك إلى الله هل هي على هدي المصطفى ؟
هل هي على منهج أهل السنة والجماعة ؟
هل لك منطلق وأصل في سلف هذه الأمة أو لا؟
وأخيرا مما أشير إليه هنا أيها الأحباب، أين المشاريع التي نقدمها ؟
لا ننكر ولا نغفل حق العاملين، وأنه يوجد في بلادنا مشاريع خيرة.
ولكن صدقوني المشاريع التي توجد في بلادنا في بلاد التوحيد، في بلاد الحرمين من مشاريع إسلامية لا تتناسب أبدا مع مكانة هذه البلاد، ومع أهل هذه البلاد.
تريدون مثلا ، خذوا مثلا واحدا فقط:
كم يوجد في هذه البلاد من جريدة إسلامية ؟
لا شيء .
كم يوجد في هذه البلاد من مجلة إسلامية ؟
واحدة، ولكن كم توزع ؟ من أضعف المجلات توزيعا.
أيتناسب مع بلاد الحرمين أن لا يوجد فيها جريدة يومية إسلامية، وفيها عدد من الصحف والجرائد، التي لا تمثل الإسلام بل إنها تنشر ما يهدم الإسلام.
أيليق ببلاد الحرمين ، وبأهل الحرمين ، وبالمنتسبين لبلاد التوحيد أن لا يوجدوا مجلة إسلامية توزع مئات الآلاف .
كم يتألم قلبي وأنا أرى هذه المجلات الوافدة توزع أسبوعيا بين سبعين إلى ثمانين إلى تسعين إلى مائة ألف نسخة.
ومجلة إسلامية أسبوعية في بلادنا قد لا توزع إلا بضعة آلاف.
أين المشاريع الإسلامية ؟ أليس عيبا أن يحدث هذا ؟
أليس عيبا أن يحدث هذا ؟ أليس عيبا والله أن يقع هذا في بلادنا ؟
أليس من الخلل والخطئ والخطل أن لا يوجد في بلادنا من هذه المشاريع التي أشرت إليها ؟
نعم توجد بعض المشاريع ، ولكن لا تتناسب أبدا والله .(169/12)
وما رأيكم لو أن تاجرا يملك مئات الملايين ، ثم جاء الناس يتحدثون أن هذا الرجل بخيل لا ينفق في سبيل الله ولا يتبنى المشاريع الإسلامية.
ثم جاء رجل وقال لقد جنيتم على هذا الرجل ، ولقد كذبتم في حقه، ولقد ظلمتموه، والله لقد رأيته مرة تبرع بعشرة ريالات. وقام آخر وقال لقد رأيته يوما تبرع بمائة ريال.
سبحان الله يملك مئات الملايين ويتبرع بعشرة ريالات وبمائة ريال.
هذا دليل والله على بخله. جزاك الله خيرا فقد أفدتنا.
كذلك في بلاد الحرمين، في بلاد التوحيد لا نجد مثل هذه المشاريع العملاقة التي تخدم الإسلام في الجوانب الإعلامية.
بينما ننظر في الجانب الآخر كم يدخل في بلادنا من الصحف والمجلات ؟
أقول لكم إنه يدخل شهريا ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة من المجلات والصحف أكثرها لا تمثل الإسلام، بل إنها والله حرب على الإسلام والمسلمين.
هذه حقائق، فأين الهم الذي نحمله ؟
إذا كان همك الإسلام يا أخي الكريم، إذا كان همك هذا الدين فأتقي الله، أين الاستمرار ؟
لماذا بدأ الفتور يدب في أوصالنا ؟
منذ ثلاث سنوات، ومنذ سنتين كن نجد الكثير من الدروس فيها العشرات بل المئات بل الآلاف، ولكن بدأنا نسمع التكاسل والتواكل والتراخي والفتور .
هل رأيتم تاجرا يفتر ؟
ذُكر لي عن بعض التجار الذين يقادون الآن بالعربات، أعمارهم فوق الثمانين ومع ذلك يعملون أكثر من عشر ساعات يوميا من أجل دنياهم.
أبدا، قل أن نجد تاجرا يقول أنا بلغت الستين سأتوقف عن طلب الدنيا، ما رأينا هذا إلا نادرا والنادر لا حكم له.
ولكن في سبيل الله ، في الدعوة إلى الله ، في العمل ، سنة وسنتين وثلاث ثم يبدأ الفتور .
هل هذا فعلا يحمل هم الإسلام ؟
كيف يكون الذي يحمل هم الدنيا أفضل منا وأقوى منا ؟
وهنا أختم هذه النقطة وأنتقل للنقطة قبل الأخيرة، وهي نقطة مهمة جدا :
مثل حي:(169/13)
لماذا لأن ضرب المثل أكثر الله منه في القرآن لقوة تأثيره، فسأضرب لكم مثلا واحدا ممن يحمل هم الإسلام.
لن أضرب لكم مثلا بمن سلف وكلنا يعلم أن المصطفى منذ بعثه الله إلى أن لقي الله يحمل هم هذا الدين.
هذه قضية بديهية في أذهاننا جميعا، لن أتكلم عن الصحابة ، وعن عمر رضي الله عنه الذي يحمل هم هذا الدين حتى أنه وهو في صلاته يجهز الجيوش، حتى أنه وهو يخطب الخطبة قلبه وتفكيره مع الجيش الذي ذهب يغزو حتى قال:
(يا سارية الجبل، يا سارية الجبل).
وهو يخطب على المنبر في مسجد المصطفى فسمعه المجاهدون كرامة من الله وهم في جهادهم، وقد كانوا في مأزق شديد، وكانوا في ضنك ، وأحاط بهم الأعداء، ولا يعلمون أين يذهبون، فإذا هم يسمعون صوت عمر يا سارية الجبل يا سارية الجبل.
سبحان الله- الله أكبر، مع أنه في منبر المصطفى كرامة من الله جل وعلا، لماذا ؟
لأنه يحمل هم هذا الدين .
لن أحدثكم عن هؤلاء فأنتم تعرفونهم أولا.
وأخشى من الشيطان وهو متحفز دائما أن يقول لكم هؤلاء ذهبوا، ظروفهم تختلف عن ظروفنا، أزمانهم تختلف عن أزماننا.
سأحدثكم عن رجل واحد (كان) يعيش بيننا أضرب به مثلا من أجل شحذ الهمم والعزائم، وأريد أن أقول عندما أحدثكم عن هذا العلم وعن هذا القدوة، فسأتحدث عن جانب واحد فقط وهو جانب حمله لهم الإسلام حتى يكون لنا عبرة وقدوة، ألا وهو:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله).
أيها الأخوة، لو تحدثت وتحدثت لما وفيته حقه، ولكني سأقتصر على الجزء الذي أشرت إليه والذي يتعلق بحمله لهم الإسلام، وسأذكر لكم حقائق ووقائع تؤكد هذه الحقيقة وتبينها لعله يكون دافعا لنا، خذوا هذه الحقائق، خذوا هذه الدرر:
منذ عرفت الشيخ منذ أكثر من عشرين سنة لا أعرف أنه أخذ إجازة:(169/14)
لا شهر في السنة ولا يوم أبدا، وكنت أتحدث في هذا الكلام في عدة مجالس أنني منذ عرفته في بداية التسعينات، أي التقيت معه لا أعرف أنه أخذ إجازة يوما واحد.
واذكر لكم حقيقة تبين هذا الأمر حيث ذهبت في عام 1391هـ إلى المدينة من أجل لقاء مع سماحته وكان معي أحد المشايخ.
ذهبنا بتوصية من أحد مشايخنا في الرياض بارك الله في الجميع وفيكم، فجئنا إلى الشيخ بعد أن وصلنا المدينة ليلة الجمعة كهذه الليلة.
ثم بعد صلاة الفجر في المسجد النبوي خرجنا ننتظر خروج الشيخ، فلما خرج قلنا يا سماحة الشيخ نحن جئنا من الرياض ومعنا لك رسالة ونريد أن نلتقي معك.
فقال لنا يا أبنائي هذا اليوم يوم الجمعة وهو مخصص للأولاد ، فلعلكم تأتون غدا إلى الجامعة الإسلامية (عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية).
فقال له صاحبي يا فضيلة الشيخ نحن مسافرون وورائنا أعمال ودراسة، (وقد كنا طلاب في كلية الشريعة وقته) ، فلعلك تستقبلنا هذا اليوم.
فقال إذا ائتوني ضحى في بيتي وسأحاول أن أقضي حاجتكم.
فقلت لأخي الشيخ الذي معي لا يليق أن نذهب إلى الشيخ هذا اليوم وقد خصصه لأولاده ، فهو اليوم جالس مع أولاده ومع زوجاته وهو يوم جمعة.
فلو انتظرنا إلى الغد ونحن على خير، نصلي في المسجد النبوي والحمد لله والصلاة فيه بألف صلاة لعلنا ننتظر إلى الغد. قال لا نذهب استثمارا للوقت.
ذهبنا وكنت أقدم رجلا وأخر أخرى وأتصور أن الشيخ سيكون بين أولاده وننتزعه من بينهم، فلما وصلنا إلى بيته، طرقنا الباب وكان مفتوحا.
وكنت أنا الطارق حيث كان صاحبي ورفيقي كفيف البصر لا كفيف البصيرة، بل أنار الله بصيرته بكتاب الله جل وعلا.
كنت أطرق الباب فجاءنا رجل أعرابي من أهل المدينة وقال تطرقون بيت من ؟
فخشيت أنني أخطأت، فقلت أليس هذا بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز، فقال وهل بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز يطرق ؟ أدخلوا ودخل أمامنا.(169/15)
فدخلنا فإذا الشيخ في مجلسه وإذا المجلس مكتظ بالناس.
سبحان الله، سبحان الله.
قدمنا للشيخ الكتاب فقال إذا تتغذون معنا، فقلنا خيرا إن شاء الله.
فلما صلينا قال لي صاحبي مرة أخرى لنذهب إلى الشيخ.
فقلت له يا أخي الكريم أخذنا عليه الضحى ولا نريد أن نأخذ عليه وقت الغذاء وعلى الأقل يتغداء مع أولاده.
قال سنذهب واختلفنا والخلاف شر. ولذلك تأخرنا على الشيخ وذهبنا في النهاية، فدخلنا المجلس ولم يشعر الشيخ بنا، وجلسنا وإذا المجلس مليء بالناس.
فإذا الشيخ يقول هل حظر فلان وفلان (يسمينا بأسمائنا)؟
قالوا نعم، قال أعطونا الغذاء.
إذا يا أحبتي الكرام هذا اليوم الذي قال لنا سماحة الشيخ أنه مخصص لأولاده، هكذا قضاه.
قبل رمضان كنت جالسا مع أحد الملازمين للشيخ فتحدثنا في هذه القضايا فإذا هو يقول لي إنني سمعت بأذني سماحة الشيخ يقول منذ أيام لأحد المشايخ:
منذ ثمان وخمسين سنة لم أخذ إجازة يوم واحد.
هذا يحمل هم ماذا ؟ هم الدنيا ؟!!
والله أنني منذ عرفت الشيخ وجلست معه ما سمعته يوما يتكلم بأمر من أمور الدنيا:
التي تتعلق بالبيع والشراء والتجارة أبدا، أبدا إلا إذا كانت في صالح المسلمين، أما أن يتكلم عن أسعار الأراضي، أو السيارات، أو البيوت، أو الوظائف لا يعرف فيها شيء.
أقول لكم منذ عشرين سنة لم أسمعه يوما واحدا يتكلم إلا في ما يخص أمور المسلمين، ويرضي ربه جل وعلا من ذكر وتسبيحا وقراءة قرآن وكلمات طيبة وحل مشاكل المسلمين.
هذا يحمل هم ماذا أيها الأخوة ؟
سماحة الشيخ عبد العزيز (رحمه الله) وعمره فوق الثمانين سنة:
وكان لا ينام إلا بحدود أربع إلى خمس ساعات فقط.، والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته وقضاء حوائج المسلمين، قال لنا أكثر من مرة أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عاما بكامل الراتب ، ولكن والله ما بقيت إلا من أجل أن أخدم المسلمين.(169/16)
نعم أيها الأخوة هذه حقائق. حقائق أيها المسلمون.
قلت لكم هذا الرجل (كان) يعيش بيننا هذا همه ومع ذلك هل هو يفتر في عبادته؟
الذي أعرفه عن سماحة الشيخ أنه (لم يكن) يترك ورده من القرآن يوميا أبدا وخذوا هذه القصص:
يقول أحد كتّاب الشيخ، ذهبت أنا وإياه إلى مكة وجلست أقرأ عليه المعاملات بعد العشاء إلى حدود الساعة الحادية عشر ليلا.
فقال سماحة الشيخ بأدبه وتواضعه يبدو أننا تعبنا، الشيخ ما تعب ولكن الذي تعب هو الموظف، فالشيخ بأدبه ما أراد أن يقول للموظف هل تعبت، فقال يبدو أننا تعبنا.
يقول الموظف فقلت له نعم يا شيخ.
قال إذا ننام، يقول فوضعت المعاملات وقام الشيخ يصلي.
يقول قمت فصليت ما كتب الله لي ثم نمت.
فاستيقظت بعد الثانية عشرة فإذا الشيخ يصلي، ثم استيقظت قبل الفجر فإذا الشيخ يصلي.
ويقول أحد إخوانه الذين جاءوا معه من الطائف إلى الرياض عن طريق البر، ولم صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية ليلا تقريبا قال الشيخ لمرافقيه:
يبدو أننا تعبنا وسهرنا، قفوا لننام في الطريق.
يقول فوقفنا فما لمست أقدامنا الأرض إلا ونمنا والجيد منا من استطاع أن يصلي ركعة أو ثلاث ركعات، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا الشيخ يصلي.
يحدثني أحد الملازمين للشيخ قبل أسبوعين فيقول ما ترك الشيخ كلمة بعد صلاة العصر إذا صلى في أي مسجد إلا وألقى كلمة حتى يوم الجمعة، ما تركها أبدا.
ندوة الجامع الكبير، إذا كان الشيخ في الرياض لا يترك حضور ندوة الجامع الكبير أبدا إلا لعارض صحي.
إذا يا أخوان، هذه حقائق ممن يحمل هم الإسلام .
وأختم الحديث عن حياته بقصة حدثني فيها أحد الموظفين بدار الإفتاء منذ عدة سنوات فيقول:
جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ:
فإذا فيه امرأة تقول أن زوجي مسلم أخذوه النصارى فألقوه في بئر، فأصبح أطفالي يتامى، وأصبحت أرملة وليس لي أحد بعد الله جل وعلا.(169/17)
وسألت من يمكن أن اكتب له في الأرض ؟
قالوا لا يوجد إلا الشيخ عبد العزيز أبن باز، فآمل أن تساعدني.
كتب عليها الشيخ للجهات المسؤولة في دار الإفتاء لمساعدتها، فجاءته إجابة أن يا سماحة الشيخ لا يوجد بند من البنود عندنا لمساعدة امرأة وضع زوجها في البئر، فالبنود المالية محددة، فيقول الشيخ لكاتبه، أكتب مع التحية لأمين الصندوق أن أخصم من راتبي عشرة لآلاف ريال وأرسله إلى هذه المرأة.
معذرة فالحديث عنه لا يمل، بقول لي أحد الزملاء في الجامعة:
وقد ذهب في دورة إلى دولة أفريقية، يقول جاءتنا عجوزا في وسط أفريقيا ثم سألتنا عبر المترجم من أين أنتم؟
قالوا لها إنهم من السعودية، فقالت بلغوا سلامي الشيخ عبد العزيز ابن باز.
عجوز في وسط أفريقيا، كيف عرفت الشيخ عبد العزيز أبن باز ؟
لأنه يحمل همها.
هذه حقائق يا أحبابي الكرام، هذه نماذج واقعية، هذا قضايا.
كيف أحدثكم أيها الأحباب، ماذا أقول لكم:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم……إذا جمعتنا يا جليس المجامع.
أتني بهؤلاء، هذه النماذج الحية.
وبعد ذلك أقول أيها الأخوة الكرام عودوا إلى السؤال:
مالهم الذي تحمله ؟
حاسب نفسك يا أخي الكريم.
حاسبي نفسك يا أختي الكريمة.
واحملوا هم هذا الدين، وبادروا قبل فوات الأوان، وقبل أن تتمنوا أن الذي كان ما كان.
أيها الأخوة الكرام، أيها الأخوات الكريمات:
القافلة تسير، دين الله منتصر لا نشك في ذلك أبدا أيها الأخوة.
أعداء الله رمونا عن قوس واحدة ، اجتمع الكفر، اجتمع اليهود والنصارى والوثنيون والملحدون على شيء واحد الآن هو حرب الإسلام.
إذا كانوا كذلك أيها الأخوة:
أيليق بنا والحقيقة تلك أن نحمل هما غير هم الإسلام؟
كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الإسلام وبلاد المسلمين كما ترى ؟
كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الدين والقدس تحت الاحتلال اليهودي؟
وإخواننا هناك يسامون سوء العذاب.(169/18)
كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الإسلام وإخواننا الدعاة وشباب الإسلام سجناء في السجون يعذبون ويبتلون ويؤذون بما تعلمون وتسمعون.
أيليق بنا يا أحبتي الكرام أن تهتم بأمور الدنيا، أن نهتم في أمور الوظيفة وأمور المعاش وأمور الرزق ودين الله جل وعلا تنتهك حرماته ؟
أيليق بنا يا أحبتي الكرام وأعداء الله جل وعلا لا أقول من اليهود والنصارى فقط بل من أذنابهم ممن يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا يخدمون الأعداء ليل نهار، ويحاربون دين الله جل وعلا.
لقد اطلعت هذا اليوم على جزء مما يعمله هؤلاء في بلاد التوحيد، على جزء مما يتآمر به العلمانيون، ما يتآمر به المنافقون على عقيدتنا وعلى بلادنا.
في بلاد التوحيد الرافضة ، العلمانيون، المنافقون، الصوفية كلهم الآن يعملون ليل نهار لشيء واحد ضد هذا الدين .
أيليق بنا أن يسيطر علينا هم غير هم هذا الدين ؟
أتق الله يا أخي الكريم.
أختي الكريمة كيف تهتمين بالتوافه ، كيف تهتمين بما يجب أن تترفعي عنه ، وأخواتك المسلمات تنتهك أعراضهن ، ويبتلين في دينهن، أيليق هذا يا أخواتي الكريمات ؟
عباد الله أخوتي الكرام.
الله اللهَ، عودة صادقة إلى الله جل وعلا، حاسبوا أنفسكم فلا يزال معنا فسحة، ولا ندري متى نلقى الله، علينا أن نجدد إيماننا علينا أن ننظر مرة أخرى إلى واقعنا حتى لا يحل بنا غضب الله جل وعلا.
وجهت هذا السؤال لبعض طلبتي فجاءتني الإجابة من بعضهم اقرأ عليكم جزء من رسالة وصلتني من أحد الأخوة جزاه الله خيرا يقول فيها إجابة على السؤال:
وبعد أن طرحت هذا السؤال فإن اهتماماتي تنحصر في ما يلي:
أحمل هم العالم الذي حجب علمه عن الأمة حتى لا يضيء لها طريق النجاة.
أحمل هم العالم الذي جعل علمه وسيلة لغير نصر هذا الدين.
أحمل هم الداعية المودع في السجن ،أو المفصول عن وظيفته لا ذنب اقترفَه إلا أنه يدع إلى دين الله جل وعلا.(169/19)
أحمل هم رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يتعرضون للأذى من كثير من الناس، ويتعرضون للأقاويل والوشايات.
أحمل هم بنت الإسلام التي يريد العلمانيون إخراجها من خدرها والزج بها في معترك العمل مع الرجال خلافا لما تقتضيه فطرتها الإسلامية.
أحمل هم أخي المسلم في فلسطين الذي يعيش في خيمة بالية لا تظله من شمس ولا تحميه من مطر من عدة سنوات.
أحمل هم خمسمائة مليون دولار معظمها من أموال المسلمين ترصد كميزانية سنوية لمشروع تنصير أبناء المسلمين.
أحمل هم معاناة كل مسلم في كشمير وبورما والفلبين وأسيا الوسطى وكل بلد إسلامي.
أحمل هم كل مسلمة انتهك الصليبيون عرضها في البوسنة وفي أريتيريا وفي كل بلاد.
وأخيرا وليس آخرا أحمل هم مليار ومائة وخمسين مليون مسلم يمثلون خمس العالم ولكنهم غثاء كغثاء السيل لا وزن لهم ولا قيمة لهم في معادلات الإستراتيجية الدولية.
يا أخي الكريم هذه هي همومي باختصار كما شئت أن تعرف، فجزاك الله خير.
وأقول له جزاك الله خير.
إذا أيها الأخوة لتكون اهتماماتنا عالية ولنحذر أن يصدق علينا قول الباري جل وعل كما في هذه الآية:
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية).
نعوذ بالله أن تهمنا أنفسنا عن دين الله جل وعلا، ولذلك أحدثكم واكرر مرة أخرى ما بدأت به من أحاديث المصطفى :
عن عبدالله أبن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم يقول:
(من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هموم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبالي الله في أي أوديتها هلك).
ويقول :
(من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا).
وقال : (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة).
فيا أحبتي الكرام بادروا بالأعمال سبعا، البدار البدارَ لإصلاح أوضاعنا.(169/20)
وليكن همكم لا أقول من هذه الليلة ، إنني واثق أن همكم قبل هذه الليلة هو هم هذا الدين هو هم هذا الإسلام، هو هم هذه العقيدة، هو هم هذه الأمة.
ليكن همك يا أخي الكريم تربية الأجيال.
ليكن همك يا أخي الكريم إعداد الأمة إعدادا لملاقاة أعداء الله .
قد هيئوك لأمر لو فطنت له……. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وإذا كانت النفوس كبارا….تعبت في مرادها الأجسام
وأحذر أن تكون:
من يهن يسهل الهوان عليه….ما لجرح بميتٍ إيلام
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(169/21)
شبهات حول المرأة
كتبه : موقع المنبر
أولاً: الحجاب:
الشبهة الأولى: الحجاب تزمّت والدين يسر:
يدّعي بعض دعاة التبرج والسفور بأنّ الحجاب تزمّت في الدين، والدين يسر لا تزمّتَ فيه ولا تشدّد، وإباحة السفور مصلحةٌ تقتضيها مشقّة التزام الحجاب في عصرنا[1].
الجواب:
1- إن تعاليم الدين الإسلامي وتكاليفَه الشرعية جميعها يسر لا عسرَ فيها، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:232]. فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في أحكام الشرع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا))[2]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: ((بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا))[3].
فالشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلَّفين أو تكليفهم بما لا تطيقه أنفسهم، فكلّ ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخلٌ في مقدورهم وطاقتهم[4].
2- ثم لا بد من معرفة أن للمصلحة الشرعية ضوابط يجب مراعاتها وهي:
أ- أن تكون هذه المصلحة مندرجة في مقاصد الشرع، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكلّ ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوّت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ولا شك أن الحجاب مما يحفظ هذه الكليات وأن التبرج والسفور يؤدي بها إلى الفساد.(170/1)
ب- أن لا تعارض هذه المصلحة النقل الصحيح، فلا تعارض القرآن الكريم؛ لأن معرفة المقاصد الشرعية إنما تمّ استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية، والأدلة كلّها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتابَ الله لاستلزم ذلك أن يعارض المدلولُ دليله، وهو باطل. وكذلك بالنسبة للسنة، فإن المصلحة المزعومة إذا عارضتها اعتُبرت رأيًا مذمومًا. ولا يخفى مناقضة هذه المصلحة المزعومة لنصوص الكتاب والسنة.
ج- أن لا تعارض هذه المصلحة القياس الصحيح.
د- أن لا تفوِّت هذه المصلحة مصلحة أهمّ منها أو مساوية لها.
3- قاعدة: "المشقّة تجلب التيسير" معناها: أنّ المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجه ما.
لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجهٍ يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلا بد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتابٍ ولا سنّة ولا قياس صحيح ولا مصلحة راجحة.
ومن المصالح ما نصّ على حُكمة الكتاب والسنة كالعبادات والعقود والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نصّ الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم من أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه. فالصلاة مثلا شرِعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسّرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس. والصوم أيضا شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصةُ الفطر بالسفر والمرض. والطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو عما يشقّ الاحتراز منه. وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجابَ على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى الأجنبية، ورخّص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخِطبة والعلاج، والتقاضي والإشهاد.(170/2)