في همّنا المعاصر : أفكار وخواطر
إمضاء: عبد القادر عبار
مدخل:
" من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"
في سبيل تجاوز موقف الانبهار
لقد كان انبهار صاحبي بالآلة الدقيقة لضبط القبلة- التي أهديتها إياه عند رجوعي من العاصمة- لا يوصف حتى أني لم استطع تحديد مبعثه بالضبط ألاعتباره ذلك كسبا و فتحا في مجالات الدعوة التي تفتقر إلى مثل هذه الأدوات التقنية التي تسهل و تساعد على الأداء الصحيح و العلمي لكثير من المناسك...أم هو ذلك الموقف ألانبهاري العادي لإنسان العالم المتخلف أمام إبداعات العالم الغربي و تقنياته...
ولم يمهلني طويلا حتى بادرني قائلا وهو يقلب الآلة ظهرا لبطن يتأملها و يفحصها و أكاد أقول يقبلها.. إنجاز رائع حقا آلة في منتهى دقة التصميم. ثم همس كأنه يحدث نفسه.. باستطاعة الواحد منا الآن أن يتوغل في مدن الضباب و يسافر بعيدا في مجاهل الصحراء و لن يعيبه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام كلما كبر لصلاته حيثما كان.. ما دام يحمل معه هذه الآلة .
و كأنه لاحظ عدم اكتراثي و اهتمامي بما يقول..و لم يكشف في ملامحي أثرا لمثل ذلك الانبهار الذي انتابه فقد قال "ما لي أراك غير مكترث لكأن هذا الإنجاز عادي لديك" قلت لا يا صاحبي نعم الإنجاز هو .. ولكن.. أردفت كلامي بابتسامة ميكانيكية قال على أثرها و لكن ماذا؟.. أو ليس هذا كسبا للإسلام؟.. أو ليس هذا بعض أدوات النصر للدعوة في عصر العلم و التقنية؟.. أو ليس يعين على أداء الكثير من مناسكنا الدينية..؟
قلت نعم. نعم هو ما تقول فهنيئا لك هذا الإنجاز و هنيئا لك هذا الكسب.. و لكن الشيء الذي يؤرقني يا صديقي هو أن هذا الإنجاز رغم صغره- وأدوات كثيرة أخرى تهمنا في أمورنا الدنيوية و الدينية- لا يزال يقدم علينا من وراء البحر . أو لم تقرأ تلك العبارة أو
انه يا أخي .. في الحقيقة توقيع MADE IN JAPAN بالأصح ذلك التوقيع الحضاري
…يديننا نحن المسلمين..(1/1)
وهنا ارتبك صاحبي و غابت عن وجهه سحابة ذلك الانبهار وهمس" لم افهم قصدك بالضبط ..لو توضح رجاء"
واغتنمت فرصة سؤاله لأشرح له ما جهل من أمر مثل ذلك الإنجاز.. قلت.. اعني أن يظل العقل الآخر- ولنقل هنا العقل الغربي عموما و الياباني خصوصا- هو الذي يبتكر لنا وسائلنا و يصمم لنا أدواتنا التي نحتاجها في شؤون ديننا و دنيانا .. بينما يظل العقل المسلم- ولنقل هنا عقلي و عقلك- معطلا بطريقة أو بأخرى و بعيدا عن دائرة الضوء و الحركة فتلك هي الهزيمة و تلك هي المأساة.. إننا- أنا وأنت وهي والآخرون- معنيون قبل غيرنا- لو كنا نفقه- بالمبادأة بابتكار و تصميم أدواتنا التي تخصنا و تعنينا .
قاطعني معترضا " ولكن كيف السبيل إلى تحقيق ما تقول و نحن على ما تعلم من السقوط و التخلف..ثم ما ضر أن تكون مثل هذه الأدوات و الوسائل من مبتكراتنا أو من تصميم الآخرين ..إنها ليست أفكارا يستطيعون بها توجيهنا واختراقنا و احتواءنا إنها مجرد أدوات صامتة محايدة لا تضر الا بقدر ما نسيء نحن استعمالها..
أراد أن يسترسل اكثر في تبريراته واستشهاداته الا أني قاطعته لأضع بين يديه نقاطا على حروف كثيرا ما أسيئت قراءتها فقلت " أنا معك في ما تقول عن حياد الآلة..الا أني لا اقف معك عند هذا الحد بل أتعدى ذلك لأتحسس البعد الذي تمثله هذه الآلة ..فالعقل الغربي لن يكل عن ابتكار و تصميم الجليل و الحقير من أدواتنا و وسائلنا التي نحتاجها ما دمنا نسدد ثمنها ماديا و معنويا وحضاريا..و بقدر ما يزداد شرهنا و تتسع أفواهنا بقدر ما تتنوع بضاعته و تتوفر حتى يأتي اليوم الذي تصدا فيه حواسنا و تتعطل فيه عقولنا لطول ما الفت السكون والعطل..و نتحول في النهاية إلى أفواه ميكانيكية لا وظيفة لها غير القضم والابتلاع.
قال وقد بدا عليه بعض الاهتمام بما أقول "وهل بحثت عن السبب الذي يكمن وراء عطلنا العقلي و يحول دون مساهمتنا في حركة الإبداع الحضاري"..(1/2)
أقول لك بصراحة وبأسف في الوقت نفسه أن السبب بإيجاز هو غياب التفاعل و التعامل المنتج مع أبجديات إسلامنا..نعم فنحن- حتى الساعة- لم نحذق الصيغة الصحيحة الفاعلة في تعاملنا مع هذا الدين و ما يحمل من تعاليم فذة و إشارات راشدة ودافعة...وإلا لما انتظرنا حتى يشتغل العقل الياباني بتصميم مثل هذه الآلة ..
صحيح أن واقعنا العربي و الإسلامي المتخلف يحد من التطلع إلى آفاق الابتكار والإبداع وان مناخنا السياسي والاجتماعي و الثقافي- السائد- و المتسم في عمومه بالاضطراب والتوتر لا يشجع على الابتكار والتنافس والبحث..ولكن ليس هذا العقبة كلها..فلو أننا تفاعلنا بعمق و بصيرة ووعي منتج مع ركن الصلاة مثلا واتخذنا منه عامل دفع إلى البحث والابتكار..لكنا من المبرزين في تصميم آلات قياس الزمن وضبط الاتجاه و تعصير أدوات الطهارة..
وبالمناسبة هل بلغك أن ميضات بعض المساجد في أوروبا لها ((حنفيات)) تفتح وتغلق أوتوماتكيا وقد صممت خصيصا للوضوء وهي تهدف إلى قطع الطريق أمام أية محاولة للإسراف في الماء إذ لا تخرج منه الا بمقدار ما يكفي لوضوء لا سرف فيه.. وعندي أن هذا التصميم الهادف يمثل البعد التقني- أو بالأصح التفسير التقني- لحديث بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال له "ما هذا الإسراف يا سعد" فقال سعد "أو في الوضوء إسراف" قال" نعم ولو كنت على نهر جار"
فكأني بالقوم قرأوا هذا الحديث قراءة واعية منتجة هدتهم إلى تصميم ما يعين المسلم -المعاصر- على العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... بينما اكتفينا نحن بالقراءة الوعظية للحديث دون تمثل وتدبر بعده التقني.
فمتى نتجاوز موقف الانبهار إلى المبادأة والفعالية..
من جانب المحراب يبدأ سيرنا للمجد(1/3)
العنوان الذي اخترته لهذا التعقيب هو جزء من بيت شعري للشاعر الإسلامي "وليد الاعظمي" يقول فيه ?
من جانب المحراب يبدأ سعينا للمجد .. لا من ظلمة الماخور
وهو البيت الثلاثون من قصيدة "نور الشهادة" التي كتبها الشاعر ستة 1960. وكان قد ألقاها في المؤتمر الأول للحزب الإسلامي- فرع لواء الرمادي- كما نص على ذلك في ديوانه "الزوابع" ص78 وقد رايته مناسبا للتعقيب على تصريح سمعناه وقرأناه هذه الأيام لزعيم دولة عربية إفريقية ألقاه في حفل جامعي حضره طلبة التعليم العالي وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات والمعاهد العليا. وقد جاء فيه كما لخصته إحدى جرائدنا اليومية وبالتحديد جريدة "الصباح" في عددها 13483 ليوم الثلاثاء 26 من ذي القعدة بالصفحة الخامسة انه يستهجن قيام البعض بتشكيل أحزاب دينية في عدد من الأقطار العربية اعتقادا منهم بأن المشكلة في الوقت الراهن هي مشكلة إيمان. وقال إن مشكلة الإيمان لم تعد تحتل المركز الأول من اهتمامات الجماهير. فالمسلمون يعرفون أمور دينهم ولا يحتاجون إلى من يعلمهم دينا جديدا. أضاف إن الذين يشكلون أحزابا دينية ويريدون أن يحكموا باسم الله يعتقدون انه ليست هناك مشكلة إلا مشكلة الإيمان مؤكدا أن المشكلة في الوقت الراهن هي جملة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع. وأوضح انه إذا حكمت مجموعة باسم الله فذلك يعني أننا سنعود إلى الخلف ويسود التفريق بين الذكر والأنثى ولا يوجه إلينا النقد باعتبار أن السلطة الدينية سلطة مقدسة... ثم حرض الطلبة وهيئة التدريس على العمل و اختصار الوقت وتكثيف الجهود للوصول إلى الفضاء وتصنيع الذرة. وقال ? لسنا على استعداد لتضييع الوقت فأمامنا تحديات خطيرة..
هذا إذن مجمل الكلام وهو على قصره واختصاره مشحون- في رأيي- بكلمات لا بد من وضع النقاط عليها وتصحيحها وتوضيحها .
أ) مشكلة إيمان..(1/4)
"أزمتنا أزمة إيمان" هذا هتاف ردده الإسلاميون في الجزائر في إحدى مظاهراتهم السلمية الجماهيرية المشهودة ويبدو أن هذا الشعار قد استفز كثيرا من المنافقين والعلمانيين والمتسلطين. والذين يرددون بدهاء هذه الأيام بأن مشكلة الإيمان لم تعد تحتل المركز الأول من اهتمامات الجماهير بدعوى أن المسلمين يعرفون أمور دينهم ... قولهم مردود ومطعون ? ذلك أن رفع شعار "أزمتنا أزمة إيمان " الذي تبنته جماهير الصحوة الإسلامية لم يأت من فراغ ولا يمكن تصنيفه من باب المزايدات... بل جاء تعبيرا صادقا وصارخا عن معاناة وإحساس بأزمة الهوية في مناخ التخلف والانحطاط المعاصر في ظل تجارب وسياسات ما بعد الاستقلال حيث استيقظت الشعوب الإسلامية من غفوتها- كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار- لتجد نفسها تحت هيمنة سياسية لا تتبنى الهوية الإسلامية أصلا في مفهومها الأصولي وإنما تتبنى الهوية العلمانية في الغالب. فعزلت الهوية الإسلامية تماما عن أن تكون في موقع تستفيد فيه من يقظة العالم الإسلامي لتستعيد دور الفاعلية الاجتماعية بما يتولد منها من مشاريع عملية اقتصادية وثقافية وتربوية وغيرها وظلت هذه المشاريع تستنسخ من العالم الغربي.(1/5)
ومن هنا يتأكد لدينا أن مشكلة الإيمان /الهوية تظل في الصدارة وستبقى هما مركزيا نوويا لدى الجماهير الإسلامية حتى تستعيد عافيتها الحضارية وتسترد استقلالها النفسي والسياسي والثقافي والوطني. ذلك أن "الصلة بين طبيعة الهوية في الأمة وبين مستقبلها الحضاري هي صلة السبب بالمسبب والمقدمة بالنتيجة. فبحسب ما تكون عليه أية أمة في موقفها الوجودي وفي تقييمها للإنسان ودوره وفي تنظيمها لحياته وفي أسلوب تعاملها مع الكون .. يكون نمط حضارتها ومبلغ رقيها وتعميرها في الأرض . وذلك لأن هذه العناصر الأيديولوجية الثقافية -إيمان / هوية- هي المحرك الأساسي للفاعلية الحضارية فعلى قدرها تكون تلك الفاعلية وبالتالي على قدرها يكون الأداء الحضاري إيجابا وسلبا ".
ومن جانب آخر ننبه إلى كون الأحزاب الإسلامية عندما تتبنى هذا الشعار وهذا الطرح- إيمان / هوية- لا تدعي أنها تريد تعليم المسلمين دينا جديدا بل همها ? إحياء علوم الدين وتصحيح وترشيد الممارسة الدينية على مستوى الفرد والمجتمع وتثوير الوعي وتحريك السواكن والإرشاد إلى الحق والفضيلة ورفع الغبن عن الذات المسلمة ودفعها إلى الإبداع بدل العطالة والى الإنتاج بدل الاستهلاك والى المبادأة بدل الانبهار والتبعية تحقيقا لقول المولى سبحانه وتعالى في الآية الكريمة ? (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) الآية 104 من آل عمران.
ب) الدولة الدينية ? أم الدولة الإسلامية..
والقول بأنه "إذا حكمت مجموعة باسم الله فذلك أننا سنعود إلى الخلف ويسود التفريق بين الذكر والأنثى ولا يوجه إلينا النقد باعتبار أن السلطة الدينية سلطة مقدسة " ... يبدو- كما لا يخفى على وعي القارئ ولا يستند إلى دليل ولا برهان.(1/6)
يقول خالد محمد خالد في كتابه ? الدولة في الإسلام- الذي أعلن فيه توبته الثقافية? - إن تسمية الحكومة الإسلامية بالحكومة الدينية فيه تجن وخط آن . فالحكومة الدينية مؤسسة تاريخية نهضت على سلطان ديني بينما كانت أغراضها سياسية وأضلت الناس سعيرا بسوء تصرفاتها وتحكمها... (بينما) الإسلام حتى في فترات استغلاله من بعض الخلفاء والحكام فانه لم يمنح أيا منهم سلطة باباوية أو كهنوتية لأنه لا يتسع لأي كهنوت لا في تعاليمه ولا في تطبيقاته .... من اجل هذا كان تسمية الحكومات الإسلامية المنحرفة بالحكومات الدينية وتحميل الإسلام وزرها أمر مناف لكل صواب.
والادعاء بإلغاء وغياب النقد والمعارضة في ظل الحكم الإسلامي فيه تجن على الحقيقة ... ولا نراه ينطبق - حسب تجارب الامس واليوم- إلا على الأنظمة الثورية العربية التي تنتهج سياسة تكميم الأفواه واغتيال المعارضين وتحريم النقد والتجريح...(1/7)
بيتما الحكومة في الإسلام- التي تسعى الأحزاب الإسلامية إلى إقامتها كفريضة وضرورة- خاضعة للنقد النزيه والتوجيه والتقويم ورئيسها فرد عادي ليس له من الأمر شيء إلا القيام بمهام التنفيذ وإقامة العدل الكامل وحفظ الأمن ورعاية الصالح العام والمصالح الفردية على السواء. وهو مسؤول أمام الأمة صاحبة المصلحة الحقيقية بحكم كونه نائبا عنها في القيام على وظائف الدولة.... فضلا عن مسؤوليته أمام الله تعالى.نعم.. التشريع الهي في الحكومة الإسلامية ولكن الرئيس الأعلى للدولة منتخب عن طريق الشورى أو عقد البيعة الذي يوجب التزامات على كل من الحاكم والمحكوم طرفي العقد وكل منهما معرض للخطأ والصواب فيجب التناصح والتوجيه فالحكومة الإسلامية في آخر التحليل حكومة مدنية عادية غير إنها محكومة بشرع الله ومقيدة بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة ومنضبطة بالقواعد الأصولية الإسلامية فلا طاعة لها في معصية (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) (إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت أعينوني و إن أسأت فقوموني) وتقويم الحكومة الإسلامية حق للناس جميعا وواجب عليهم يستوي في ذلك الرجال والنساء وعلى الحكومة أن تستجيب للنصح والتقويم من أي مكان جاءها (أصابت امرأة وأخطأ عمر).
ج) الأحزاب الإسلامية ? حالة إنقاذ
إذا كان هناك شعور مشترك ومتقارب بالتحديات المعاصرة المتعددة التي تواجهنا كعرب وكمسلمين فإن هناك تباينا في كيفية المواجهة واختلافا في صيغ النهوض والتنمية. والذين يرون في البديل الإسلامي دعوة إلى التخلف وتضييعا للوقت الذي نحن بحاجة إليه- لمزيد بذل الجهد من اجل الوصول إلى الفضاء وتصنيع الذرة -واهمون ومتهمون من ناحيتين ?(1/8)
تماديهم في الإطناب في إظهار الهوة في ميزان القوى العسكرية بيننا وبين عدونا الصهيوني والقوى الإمبريالية التي تسانده- وتأكيدهم على وجود هوة قائمة بيننا وبين أولئك الأعداء في مجال العوم و التكنولوجيا والقوى المادية ثم اكتفائهم لردم الهوة بالتعبئة السياسية المرتكزة على المصلحة الاقتصادية لتحقيق تعبئة الشعب وتنظيمه والهاب حماسته بمزيد استهلاك الشعارات الثورية وهو ما يجعلهم يستهزلون بالمحتويات التي تحملها أخلاقنا وقيمنا... ويعتبرون مشكلة الإيمان مشكلة تجاوزتها اهتمامات الجماهير..
- ومن هنا كان الأولى بالذين يستهجنون قيام أحزاب إسلامية- في هذا المناخ العالمي- ويبغونها عوجا أن يعتبروا هذه الظاهرة بمثابة حالة إنقاذ للامة في صراعها الحضاري وصيغة فاعلة من صيغ نهضتها ومسيرتها الحقيقية نحو المجد... نحو الحضارة ..
الحركة الحضارية
وغياب المشاركة الإسلامية المعاصرة
لا جدال في أن قرننا الحالي شهد ولا يزال يشهد ازدهارا هائلا وتقدما ملحوظا في شتى مناحي الإبداعات الحضارية من فتوحات علمية متنوعة باهرة وتقنيات عصرية عالية مدهشة... لم يحفل بمثلها التاريخ البشري من قبل .. بصرف النظر عن مدى التوظيف السيئ والسلبي الذي استهدفت له كثير من الاختراعات والآليات والذي كانت له انعكاسات سيئة ونتائج وخيمة على الكون والإنسان ... والراجع أساسا- نعني ذلك التوظيف- إلى ضمور الوازع الديني والأخلاقي في الضمير الغربي.
أسباب تقدم الغرب والتفوق العلمي
ولا جدال كذلك في كون الغرب بجناحيه هو صاحب الريادة في ذلك والمتقدم قبل غيره في كثير بل في جل ميادين العلم والتقنية ? تطويرا واكتشافا وابتكارا .. نقولها بكل موضوعية بعيدا عن أي انفعال عاطفي..(1/9)
فقد استطاع العقل الغربي بما توفر له من أسباب العمل وبما تهيأ له من عوامل البحث والفعالية كالحريات والمصداقية والأمن الثقافي والفكري والعلمي والاجتماعي والتشجيع الأدبي والمادي والرعاية المستمرة والمتابعة الجادة والتخطيط والمنهج .... أن يقطع أشواطا عملاقة في مجالات الإبداع والابتكار والبحث مسجلا بذلك بصمات مشرقة وانتصارات جلية في مختلف مناحي الإبداع الحضاري .. تشهد بريادته وتفوقه.
إلا أن الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن الذهن ونحن نقر هذا الامتياز العلمي للغرب ونعترف له بهذه الريادة .. هي أن العقل الغربي لم ينطلق من فراغ ولا من لمسة سحرية ... ليسجل كل هذه الانتصارات والفتوحات وما كان له أن يصل بهذه الدرجة من السرعة إلى ما هو عليه اليوم من تفوق وسبق لو لم يجد بين يديه بدايات جادة ومقدمات متينة وأسسا راسية وجهودا سابقة اعتمدها كمرتكزات ومنطلقات لبداية مسيرته العلمية.. فقد انطلق هذا العقل من حيث انتهت خطوات سلفنا من علماء الإسلام في العصر القيادي للحضارة الإسلامية التي أضاءت للغرب الأوروبي في ظلمات عصوره الوسطى وقدمت له مع أجهزة الرصد الفلكي ذخيرة من علوم الطبيعة والملاحة والطب والرياضيات والفلك (1)... وهذه حقيقة يعترف بها علماء الغرب أنفسهم وكشفت عنها وسطرتها بكل موضوعية الكاتبة الألمانية " ايزفريت هونكا" في كتابها القيم " شمس الإسلام تسطع على الغرب " وافصح عنها "غوستاف لوبون" بقوله ? " إن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردا علميا سوى مؤلفاتهم (يقصد علماء المسلمين) وانهم الذين مدنوا أوروبا مادة وعقلا وأخلاقا وتأثير العرب عظيم في الغرب " (2)
غياب المشاركة العلمية الإسلامية:(1/10)
إلا أن الإضافات الغربية لهذه الأسس والجهود .. تتمثل في كون علماء الفرنجة عرفوا كيف يستفيدون منها وكيف يوظفونها ويجعلون منها مصادر دفع وفعالية ولم يجعلوا منها ترفا فكريا يتلهون به أو مادة متحفية ساكنة أو عروضا أثرية .. بل حرصوا على التزود منها وهضمها وتمثلها والاسترشاد بها واستفتائها فيما أشكل عليهم من أمور العلم .. وبذلك استطاعوا أن يكونوا فاعلين ورائدين في مجالات العلم والإبداع .. تتوالى خطواتهم حثيثة مكتشفة مجاهل الكون متنقلة من عصر البخار إلى عصر الكهرباء إلى عصر الذرة... ويظل الغرب كما أشرنا في البداية صاحب التاج والمبادرة دون منازع والمهيمن على الحركة العلمية والتقنية ...
بينما تظل المشاركة الإسلامية المعاصرة غائبة عن الميدان بشكل أو بآخر وهذا في الحقيقة واقع يؤسف له ويحز في قلب كل مسلم غيور يحس بانتمائه إلى الأمة الشاهدة- خير أمة أخرجت للناس- والتي من مستلزمات شهادتها وقيادتها أن تظل صاحبة السبق والامتياز لا أن تكتفي بالنظر والانبهار ? ذلك أننا نملك الطاقات وتتوفر لدينا مصادر الفاعلية كما أن لدينا تراثا علميا قيما شاهدا على نبوغ العقل المسلم وإبداعه .. وأبوة علمية ونسبا علميا عريقا يصلنا بأعلام البحث وأقطاب العلم وجهابذة المعرفة من ابن سينا إلى الرازي فالادريسي فالخوارزمي فابن الهيثم فابن خلدون .. والقائمة طويلة .
فلأي سبب إذن تظل مشاركة العقل المسلم المبدع معطلة ومغيبة عن الساحة ؟؟
أسباب وعوائق
في الحقيقة هناك شبكة من الأسباب الموضوعية القاهرة والمعيقة تكمن وراء هذا التغييب المقصود وتعمل جادة على إقصاء المساهمات الإسلامية أو في احسن الحالات تعتيمها وتقزيمها إن وجدت.
ومن هذه الأسباب ?(1/11)
(1) الفهم السلبي لحقيقة الكفاءة ? ففي عالمنا العربي والإسلامي يسود فهم خاطئ وسلبي للكفء باعتباره صاحب الشهادات العليا واللقب البارز الذي يؤهله لاعتلاء منابر التدريس في المعاهد العليا ويسمح له بتقلد المناصب الرسمية السامية وإدارة المؤسسات... دون أي اعتبار للتخصص والفاعلية والإخلاص والخلق.. وبهذا المقياس السطحي والفهم السلبي وجد كثير من أصحاب الكفاءات الحقة والتخصصات العالية والمهارات والفعالية والاستقامة.. أنفسهم مبعدين عن مصادر ومراكز التأثير والتنظير والتوجيه والتخطيط والبحث..
(2) الاعتماد على المؤسسات والجامعات الغربية في تكوين الإطارات وترشيد (؟) الطاقات العلمية المتخصصة -من جهة- وارتكاز كثير من المؤسسات العلمية والتقنية الموجودة- على استحياء- في بعض الأقطار العربية على أنماط مستوردة من الغرب .. أضف إلى ذلك الفوضى وانعدام التخطيط وغياب المنهج الذي أدى إلى تشتيت الجهود وتفتيتها ومن ثم تقلصت المساهمة واختفت المبادرات الطيبة الصالحة إذ لم تجد المحضن الفاعل ولم تتوفر لها المؤسسة الناجعة...(1/12)
(3) المناخ السياسي المضطرب السائد في عالمنا العربي والإسلامي والمتسم في عمومه بالاستبداد والحزبية الضيقة .. حيث توجد علاقة متشنجة مضطربة بين بنية السلطة وخصائصها وبين متطلبات التقدم العلمي والتكنولوجي . وهذا التشنج والاضطراب قد تعدى بدوره لينعكس على العلاقة القائمة بين الرموز السياسية وأصحاب الكفاءة ..حيث يصبح الكفء بحكم خبرته وتأهيله ونبوغه وفاعليته يمثل عنصر عدم استقرار وهاجس خوف بالنسبة للسلطة (3) .. وهذا ما دفع ولا يزال يدفع بكثير من الأنظمة إلى توخي سياسة التهجير ولو بطرق ذكية غير مباشرة كافتعال واختلاق عوامل دافعة إلى ذلك ? كعدم المبالاة وتقليص فرص العمل المناسب وخنق حرية التعبير والتفكير وعدم الاعتناء بمخابر البحث ومراكز التجارب بناءا وتجهيزا .. كل هذه العوامل وغيرها تولد بمرور الزمن لدى النابغين شعورا مريرا بالإحباط واليأس والقلق والانسحاب .. وهذه في الحقيقة ضريبة النبوغ في العالم المتخلف.
ولعل في كلمة أحد السياسيين العرب لمواطنه العالم الدكتور في علوم الذرة .. والذي يشهد له عالميا بنبوغه وتفوقه وفاعليته في ميدان تخصصه والذي فاز سنة 1969م برئاسة الوكالة الدولية للطاقة النووية ... خير دليل على تلك النظرة المجحفة للسلطة تجاه أهل الخبرات العلمية والكفاءة . فقد قال له بالحرف الواحد " سنعصرك مثل الليمونة ثم نرميك" ..
(4) حرص الغرب على إبقاء العالم الإسلامي في صفوف الدول المتخلفة أو بالعبارة المهذبة الخادعة ? الدول النامية.. وقد سلك لهذا الغرض سياسة تتسم بالعداء الصريح والمكر الحاد وهي تركز على ?
أ) محاربة الإسلام وإبعاده عن ساحة التأثير والفعل والحركة. حتى تتعطل المحركات الفاعلة والطاقات الإيجابية التي باستطاعتها استنهاض الأمة وتجديدها وبعثها من رقدة العطالة والتخلف والارتقاء بها إلى مراكز الريادة وقمم المجد.(1/13)
ب) إقصاء العلماء الصادقين والكفاءات العليا الفاعلة والمخلصة عن أية مشاركة أو مساهمة في تقرير شؤون الأمة .. التي ستجد نفسها في النهاية مشلولة ومعطلة لفقدانها القيادات القادرة على التدبير والتخطيط والتنظير والتعبئة.
ج) فرض التبعية الاقتصادية التي مهد لها الغرب عمليا بنسفه أسس الاقتصاد الذاتي للامة ... كالمحاولات التي استهدفت لها الصناعات المحلية والتقليدية والزراعة المحلية وغيرها. فقد عمد الغرب إلى تحطيمها وتشويهها وتخريبها... حتى يفر لبضاعته وإنتاجه سوقا رحيبة واسعة.. ويجعل من البلاد سلة استهلاك.
د) سد الطريق ورصد العراقيل أمام محاولات التقارب وأشكال التعاون والتضامن .. وإضعاف العلاقات الثقافية والتجارية والسياسية .. وذلك عن طريق فرض التجزئة التي لا تزال تمثل اكبر عائق أمام تطلع الأمة إلى استرداد قوتها وفاعليتها.
كل هذه الأسباب وغيرها.. كانت وراء غياب المشاركة الإسلامية في حركة الإبداع الحضاري وهي- ولله الحمد- ليست عوائق مزمنة أبدية وإذن لكان اليأس والقنوط وإنما هي في متناولنا متى شئنا إزالتها وإبعادها عن طريقنا.. شريطة العودة الواعية إلى الذات والتحقق العميق والفاعل لتعاليم إسلامنا وكتابنا في إطار من المنهج السليم والعمل الاستراتيجي المبرمج والمنضم والمتين.
هوامش?
(1) انظر? القرآن وقضايا الإنسان- الدكتورة بنت الشاطئ- ص 241.
(2) انظر? حول إعادة تشكيل العقل المسلم- الدكتور عماد الدين خليل- ص71.
(3) انظر مجلة العالم- العدد 23 -ص 65.
انهم يفلسفون قتل الإنسان
"... صدر قانون جديد في بريطانيا يقضي بالعمل على التخلص من الأطفال حديثي الولادة والذين يولدون مصابين بعاهات كالخلل العقلي. وصدر هذا القانون الجديد في أعقاب حالة مستعصية لطفلة ولدت ليلة 25 ديسمبر الماضي ولا تزال تعاني من أعراض إعاقات خطيرة وأجريت عليها عدة عمليات جراحية دون أمل في شفائها..."
تقنين "العاصفة":(1/14)
هذا الخبر المفزع الذي أوردته إحدى الصحف اليومية (1) في صفحة (صدى المحاكم) المخصص عادة لنقل وتتبع الجرائم التي يرتكبها- المواطن- نحو المجتمع والسلطة.... ذكرني بمسرحية "العاصفة" (2) للكاتب الإنكليزي- صومرت موم- والتي عالج فيها مشكلة من أعوص المشاكل الاجتماعية الناجمة عن الحضارة المادية في الغرب والمعبر عنها لدى الغربيين ب" الاوتانازي" بمعنى هل يسمح لأي كان بأن يقضي على حياة شخص عزيز عليه إذا أصيب ذلك الشخص بمرض لا رجاء في شفائه منه أو في أي حالة من الحالات التي لا سبيل لإخراجه منها ...والمؤلف يبين لنا من سياق المسرحية وخصوصا في خاتمتها أن السيدة تابرت أم الضحية .. قامت بعمل إنساني بطولي (؟) أملاه عليها عطفها على ولدها العاجز.. فقد جاء في الحوار الأخير الذي يسدل على إثره ستار المسرحية ?
-السيدة تابرت ? -(في هدوء كامل ).. كنت قد وعدت- موريس- اثر الحادث بأنني سأمكنه من التخلص من الحياة إذا أصبحت الحياة لا تطاق بالنسبة إليه...فقلت له ? إذا أصبحت آلامك مبرحة وإذا طلبت إلي أن أريحك فإنني لن أتأخر أمام مسؤولية إعطائك السم مهما كان لتضع حدا لحياتك الأليمة..
الممرضة ? هل أنت مستعد للتوقيع على شهادة الوفاة يا دكتور ؟
الطبيب ? على أتم الاستعداد يا آنسة
الممرضة ? وقع عليها إذن.. وإذا وجه لي سؤال فأنا مستعدة لان اقسم بأنني تركت جعبة الأقراص على المنضدة قرب فراش- موريس- ( ترتمي على قدمي الأم القاتلة وتعانقها) ... عفوا عفوا سيدتي انك كنت تحبينه اكثر مني... ( صفحات 154 و 156)(1/15)
* عندما عالج (صومرت موم ) هذه المشكلة أدبيا .. لم يكن يتصور أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه" وجهة نظره" إلى قانون تتبناه الدولة ويمسي ساري المفعول يطبق في وضح النهار باسم السلطة تحت يافطة "الرحمة" و"الشفقة" و"الإنسانية" و"الحضارة" ....وينتقل تمثيلها من ركح المسارح إلى واقع الناس وركح الحياة اليومية ... وتتخلى" الأم السيدة تابرت" عن دورها في المسرحية .. إلى الأم السيدة "السلطة" في الواقع... ويتخلى "الطبيب" المستعد دائما للتوقيع .. عن دوره للبرلمان.. وتتخلى الممرضة من جهتها عن دورها .. للإعلام... انه تقنين "العاصفة"...
الرحمة... على الطريقة النمساوية
وأما الخبر العاصف الثاني فبإمضاء نمساوي وقد تناقلته الصحف الغربية وخلاصته أن أربع ممرضات بمستشفى "لينز" اكبر مستشفى نمساوي بالعاصمة ( فيانا) ... قتلن 44 مريضا في 4 سنوات بدعوى انهم كانوا مزعجين وثقيلي الظل .. مما دفع بالسيد "قوتر بوجي" رئيس شرطة فيانا إلى القول بأنها" اكبر سلسلة قتل تعرفها أوروبا" وقد جاء في اعترافات المتهمة الرئيسية ( ولتراود فاقنر) - 30 سنة- عزباء- قولها? نعم أحدثنا الموت لعدد من المرضى ولكن كان ذلك بدافع الشفقة .. كانوا عجائز أو في حالة ميؤوس منها... وتضيف قائلة ? كانت البداية سنة 1984 مع عجوز في الرابعة والتسعين من عمرها... كنت اقتل واحدا كل ثلاثة اشهر ولكن هذا لم يكن كافيا ... فأصبحت اقتل ثلاثة كل أربعة اشهر...
الإنسان ? قيمة أم سعر ؟؟
إن هذه الجرائم الحضارية القذرة .. النظري منها كالقانون البريطاني الجاهلي الذي أشرنا إليه في بداية هذا المقال أو التطبيقي كالممارسة النمساوية ناجم في الحقيقة عن خلفية فكرية فلسفية متخلفة مسكونة في (الباطن الغربي) والتي تلخص وجهة النظر الغربية "للإنسان" الذي هو عندها مجرد "سعر" لا "قيمة" ومجرد "رقم" لا "ذات".(1/16)
والإنسان عندها أيضا ليس اكثر من " زر" في ماكينة الإنتاج الغربي فإذا أصابه عطب ما وصار غير مساهم في دفع الماكينة ... استغني عنه وأحيل على الإهمال..
والمعاقون وأصحاب العاهات- العقلية منها خاصة -... يبدو انهم غير مرشحين للمساهمة في دفع ماكينة الإنتاج الغربي .. وبالتالي فهم " قطع غيار" غير مرغوب فيها وغير مطلوبة .. وليس لها مكان في " المصنع الحضاري" ولهذا تراهم يفلسفون للتخلص منها نهائيا ولو على حساب الرحمة والشفقة ... ذلك إن الالتزام بمبدأ "البقاء للأصلح" وعقدة "السوبرمان " لا يمكن التنازل عنه أو التفريط فيه..
إنسانية الإنسان في حضارة الأزمة:
لقد كان الفيلسوف الأمريكي " جون ديوي" محقا في استنتاجه الذي لخص فيه وجهة نظره النقدية للمسار الانتحاري الذي تنتهجه الحضارة الغربية- حضارة الأزمة- والذي يقول فيه? "... إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة ... تدمر نفسها بنفسها"
ذلك أن الجانب الأخلاقي بالمقارنة إلى الجانب المادي في واقع النشاط الحضاري الغربي - في أوروبا كما في أمريكا-.... اصبح متخلفا كثيرا- على حد تعبير الدكتور عبد الصبور شاهين (4) - إلى درجة أن أحدا لم يعد يتصور أن من الممكن تحقيق أدنى تقدم في سبيل إصلاحه... لقد أصبحت الحياة أرقاما وعلاقات حسابية خلوا من أية قيمة أخلاقية ... ومن الممكن قطعا أن نسلم بأن حجم المشكلة الأخلاقية على محور الحضارة الغربية قد اصبح اكبر من طاقة مصلحيه وقدرتهم على مواجهته ربما لأن واقع الحضارة الغربية مادي في جوهره ومن العسير أن تجد الأخلاق لها مكانا في عالم يقيس كل شيء بمعيار مادي ..(1/17)
وهذا ما دفع " رينيه دوبو" الحائز على جائزة نوبل للعلوم لعام 1976 وجائزة بولتزر لعام 1969 إلى القول بصراحة تشوبها مرارة وحسرة ? "... نحن نشكو تجريد الإنسان من إنسانيته ويخبرنا علم الأجناس (أنثروبولوجي) أن الإنسان يكتسب مشاعره الإنسانية من خلال صلاته الحميمة بالأحياء الآخرين من حوله و أن كل أطوار نموه متكيفة دائما بالإثارات الاجتماعية التي يتلقاها خلال فترة حياته . فعلينا أن ننشئ الآن علما للرجل المعاصر لا يعتبر الإنسان مادة وعلينا أن ندرس علاقة الإنسان بالأناس الآخرين في حالات انفعالاته العاطفية العميقة خلال لقاءاته الفردية وصلاته الاجتماعية العادية..." (5)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين?
إن هذه الشواهد المؤسفة التي سقناها ضمن هذا المقال وغيرها كثير وأنكى ... لدليل شؤم على المصير المدمر والمفزع الذي يتربص بالبشرية في حال إسلام قيادها إلى المنهج الغربي الوضعي واستكبارها عن إسلام الوجه لخالقها والدخول في السلم كافة. وتبني المشروع النبوي للإصلاح والتحضر على مستوى الفرد والجماعة .
ذلك أن الوصفات الغربية المرصودة لوضع حل لمشاكل البشرية وهمومها والتخفيف من حدة المعاناة التي يكابدها الإنسان- ذكرا وأنثى- على اكثر من مستوى وفي اكثر من مجال لا تحمل في عمقها إلا السم والدمار ... رغم الأسماء اللماعة التي توقعها والألوان البراقة التي تجملها والأطر المصطنعة التي تظهر فيها... وأخبار الليل والنهار التي تزكمنا بروائح الحروب والمجاعات والاعتداءات والانتهاكات والتدمير والإفساد ... لخير دليل على ذلك.
وهذا ما يجعلنا ننادي بدعوة الغرب إلى الاستقالة ورفع يده عن قيادة البشرية وسحب مشروعه الفاشل.. وإفساح المجال أمام الصحوة الإسلامية المباركة حتى تنزل برنامجها الواعد الذي وصفه المولى سبحانه بأنه " رحمة للعالمين ".
هوامش ?
(1) جريدة الصباح التونسية.(1/18)
(2) العاصفة للكاتب البريطاني صومرت موم- تعريب حسن الزمرلي- الدار التونسية للنشر
(3) جريدة " الصباح الأسبوعي" الاثنين 17/4/1989 صفحة " مجتمع وقضايا"
(4) انظر المقدمة الرائعة التي صدر بها كتاب "دستور الأخلاق في القرآن " للدكتور عبد الله دراز- ص (كح) مؤسسة الرسالة.
(5) انظر كتاب " إنسانية الإنسان "- رينيه دوبو- تعريب دكتور نبيل صبحي الطويل- عن مؤسسة الرسالة- ص 60
الطاهر بن جلون...
يسبّ الدين في "ليلة القدر"
قرأت أخيرا رواية- ليلة القدر- للكاتب المغربي المستغرب "الطاهر بن جلون" في طبعتها العربية .. بعيدا عن طقس الدعاية والإشهار.
وما إن وصلت إلى نقطة النهاية فيها حتى همست لصاحبي الذي جاء يستعيرها مني " لقد نجح هذا الفرنكفوني في رصد مساحة لا بأس بها من روايته هذه لسب الدين " متمثلا قول الشاعر" و إن كنت لا تدري فتلك مصيبة و إن كنت تدري فالمصيبة اعظم.. وعلينا أن ندري. بل يجب ويتحتم... ولنبدأ من الأول
*التكريم الفرنسي... ليس نظيفا..
قال لي مرة الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود مفلح" عندما طلبت منه تعليقا على جائزة نوبل التي منحت هذا العام لنجيب محفوظ.. "..إن الأيدي التي منحت الجائزة لهؤلاء.... ليست نظيفة. وأنا بصراحة لا اطمئن كثيرا للهدايا التي تأتينا من الغرب".. وعليه فإننا لا نغالي إذا قلنا بأن اختيار بن جلون لأكبر جائزة أدبية فرنسية ليس نظيفا و أن التكريم الفرنسي- والغربي عموما- لا يمكن أن يكون أبدا مجانيا ولا إنسانيا .. ذلك انه جاء تنفيذا ذكيا وماكرا للصيحة التي أطلقها الرئيس- ميتران- في آذان المهتمين بأمر "اللغة الفرنسية" وقال فيها بالحرف الواحد " إن أحدا لن يستمع إلى شعب بدأ يفقد مفرداته ".(1/19)
ذلك أن الفرنسية بدأ استعمالها عالميا يشهد تقهقرا وانحسارا أمام الإنجليزية وهذا ارق أولي الأمر في فرنسا ورأوا فيه صفعة حضارية لا يمكن تأجيل ردها وتصحيحها .. مما دفع بهم إلى استنفار الغيورين لعقد -كومنولث- لغوي لتدارس الأمر بحزم وجد ... (و دعك من الحزم العربي...)
وكان ابرز المهتمين والمهمومين "الرئيس ميتران" الذي دأب على متابعة إحصائيات تعلم اللغة الفرنسية ومدى انتشارها في العالم و الذي خصص جزءا من كتاب صدر له عن السياسة الخارجية للهجوم على الدبلوماسيين الفرنسيين الذين يتحدثون بالإنجليزية في الخارج مهملين لغة بلادهم (1) .. ومن هنا نفهم لماذا كان إسناد هذه الجائزة- جائزة جونكورد- لمواطن من العالم الثالث يكتب بالفرنسية ويتكلمها.. انه الطعم في راس صنارة الدعاية الفرنسية والغربية لمزيد الترغيب ومزيد الجلب للمتفرنسين والمستغربين من أبناء العالم الثالث- والعربي خصوصا- وهي طريقة جديدة قديمة دأب عليها الغرب في صناعة المفكر المستغرب.
لماذا " ليلة القدر"؟?
و أما لماذا كان اختيار "ليلة القدر" بالذات لتكون موضوع الجائزة فهذه حكاية أخرى يجهلها الكثير من أبناء جلدتنا الذين صفقوا طويلا للبادرة الفرنسية و اكبروا الشهامة الغربية .. ويعلمها الدين ينفقون طوعا من خزائنهم لخدمة لغتهم ونشر مبادئهم... ويعلمها أيضا كل من يتصفح هذه الرواية بعيدا عن طقس الدعاية والإشهار.(1/20)
إن وقفة واعية وتنقلا يقظا بين تضاريسها كفيلان بفضح الوجه النكد لصاحبها وتعرية مواقفه التقدمية(؟؟) تجاه الدين عموما والصحوة الإسلامية خصوصا. وقبل أن نبدأ تصفح الرواية نرى من الضروري الوقوف قليلا حول ظاهرة "الإيمان الجديد" الذي بدأ يرفعه المستغربون من مثقفينا كشعار عقائدي بديل لينفوا عن أنفسهم ظاهريا أمام الجمهور والرأي العام المسلم تهمة الإلحاد والكفر بضغط من المناخ الإيماني الذي أشاعته الصحوة الإيمانية والتي أعادت فيه الاعتبار إلى "الدين".
عقائد المثقفين:
أ) فقد جاء على لسان مدير مجلة أسبوعية عند تنصيبه لمشرف جديد على الركن الثقافي بالمجلة قوله "... فكرت برهة في الردود التي ربما قد توجه إلينا من قبل قرائنا ذوي الحساسية الإسلامية وذلك لما اشتهر به غلطا وخطأ وبهتانا- فلان- من معاداة الإسلام ... بينما هو حسب رأيي شاعر رباني ولم اقل إسلامي... لأن- فلان- اختزل مرحلة التدين و الأديان ليسعى إلى الالتقاء بالمطلق مباشرة عن طريق الإبداع .. عن طريق الإلهام .. عن طريق الحب... هو ليس ملحدا. هو رباني." (2).
ب) وجاء في الحوار حول عقيدة الشاعر المنتحر- خليل حاوي- مع أحد معارفه هذا السؤال ? ما هي حقيقة موقفه الديني إذ أن البعض يؤكد إيمانه والبعض الآخر يلمح إلى إلحاده ؟
أجاب صديقه المقرب ?.... كان مؤمنا ولكن إيمانه كان خاصا غير معهود ولا مألوف ولذلك يصح القولان فبه فلا يمكن تقريب إيمانه من أي من المعتقدات الشائعة وخاصة من أي المؤسسات الدينية القائمة بيد انه كان مضطرا للتعبير عنه بالأدوات المتاحة المتداولة وحسب معرفتي لم يكن ضد الإيمان بإله قد لا تكون له أية علاقة بالله الذي تقول به الأديان الموحدة المعروفة ولم يكن يدعو إليه..." (3)(1/21)
ج) وأما عن عقيدة صاحبنا موضوع الحال فقد صرح بها لأحد الصحافيين بقوله.." أطالب أن يبقى الإسلام كعقيدة وكإيمان لكن في حدود الضمير الشخصي ولكل مسلم أن يمارس إسلامه بدون أن يجعل من تلك الممارسة تعله لكي يرغم الآخرين أن يقوموا بنفس الأعمال ... ولهذا أقول بكيفية واضحة انه احتراما للدين الإسلامي يجب أن نجعل هذا الدين في مستوى عال ولا نستعمله لا أيديولوجيا ولا سياسيا وهذا ما أنادي به كمسلم وكانسان مؤمن بحرية التعبير وحرية السلوك والتفكير واحترام الرأي الآخر.. " (4).
وهذا الرأي "التقدمي الحضاري المتفتح المهزوم" نراه معروضا ومسرودا ضمن مواقف مختلفة بين صفحات رواية ليلة القدر وموزعا على إحدى عشر موضعا من الكتاب بتفاوت في اللهجة والمساحة والصيغة ونستطيع أن نلمح في ذلك ?
*سوء الأدب ... مع الله ?(1/22)
ويبدو دلك جليا في تعليق الأب المحتضر على صوت المؤذن بقوله " ... وكانت صيحاتهم تختلط بصوت المؤذن الذي كان يستعمل- ميكروفونا- لكي يسمعه الله على نحو افضل " ويعلق الراوي ? "... ابتسم أبي كما لو كان يقول بأن ذلك المؤذن لم يكن سوى رجل بئيس " صفحة 17 وبتشنج حانق وحقد صارخ يواصل الأب ? " أسدلي الستائر قد ينخفض صوت هذا الغبي الذي ينهق..." ص19 فهو يقارن الآذان الذي يحتوي على افضل واشمل صيغ التوحيد بالنهيق الذي يجب أن ينتهي والذي يرى في الإبقاء عليه وجها من وجوه التلوث الذي يفسد صفاء النفس ويلطخ مناخ المدينة .. في الوقت الذي يقول عنه الفيلسوف الفرنسي المسلم " إن عبارة- الله اكبر- التي يطلقها المسلم( المؤذن) للتعبير عن عقيدته تجعل من كل سلطان ومن كل ملك وفي كل علم أمرا نسبيا .. إن هذا النداء هو تعبير عن الحرية الحقيقية لأنه تأكيد للبعد المتسامي للإنسان أي تأكيد لقدرته على الخروج من حتمية طبيعته وغرائزه وعاداته وتجاوزها جميعا. وهذه القدرة على التسامي هي المبدأ الأساسي لكل مجموعة إنسانية حقيقية" (5). (نعتذر للطاهر بن جلون عن تعليمه هذا البعد الفلسفي للآذان)(1/23)
وعندما يتحدث عن المدينة الفاضلة يبدو إعجابه بها و بسكانها كبيرا عندما يكتشف خصوصياتها التي تنفرد بها عن "الواقع" يقول على لسان البطلة الوجودية ? ".. كان يقطنها حوالي مائة طفل ذكورا وإناثا كانوا يعيشون هناك في اكتفاء ذاتي بعيدا عن المدينة.. بعيدا عن الطرق وبعيدا عن الله نفسه" ص33 . ويتوسع اكثر في هذا المنحى في سوء توقير المولى سبحانه عندما يتكلف ذلك الدعاء الجنسي السخيف على لسان رجل الغابة وهو يلهث وراء المتعة الحرام ?" ... بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على آخر الأنبياء سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. بسم الله الأعلى. الحمد لله الذي جعل المتعة العارمة للرجل تكمن في الداخل الدافئ للمرأة . الحمد لله الذي جعل في طريقي هذا الجسد البالغ الذي يتقدم وفق ما تبتغي شهوتي هذا دليل على نعمته ووجوده ورحمته. الحمد لله." ص 47.
إن هذا الإخلال بأدنى توقير وإجلال وتعظيم للمولى تعالى لا ينم إلا عن نفس وجودية لئيمة وهل مخبوءة لا كما جاء في الرواية بين جنبي "رجل الغابة " وإنما هي قابعة بين جنبي"بن جلون" ذاته .
*نظرته للقرآن الكريم?
لقد كان موقف "قريش" من القران الكريم اكثر تقدمية وصدقا واصدق واقعية من نظرة بن جلون للقران. إذ كان موقفهم مستمدا من علمهم وتذوقهم وحذقهم للغة والبلاغة أما بن جلون الفرنكفوني المستغرب فعلى أي اعتبار يبني نظرته للقرآن من انه شعر رائع.. فقد جاء على لسان شخصية الأعمى قوله "لا بد أن اذهب فالأطفال رهيبون إنني أحاول تعليمهم القرآن مثلما كنت سأفعل بشعر رائع" ص59. وعلى لسان البطلة الوجودية برأس الصفحة الموالية 60 "لقد سبق أن فكرت في هذا ولكن كما ترى أنا مثلك احب القرآن كشعر رائع " وهو قول سخيف ورأي رجعي متخلف لم يعد يطرحه حتى من يحترم عقله .(1/24)
ويبدو أن بن جلون تنقصه النزاهة والموضوعية والشجاعة في مثل هذه المواقف وإلا كيف يطرح نظرته السخيفة هذه ولا يخجل من إبداء هذا الرأي المتعفّن "الجاهلي " أما الآراء والمواقف الموضوعية الصريحة التي أخذ "علماء الغرب وعقلاؤه " يصدعون بها يوما بعد يوم أمام الرأي العام : ويكفي أن نذكّره بما استنتجه الدكتور : موريس بوكاي الطبيب الفرنسي في كتابه "الإنجيل والقرآن والعلم" وصدع به امام الأكاديمية الفرنسية إذ قال لقد دهشت لما ورد في القرآن من نظريات علمية. وإنه من المستحيل أن يكتب إنسان في القرن السابع ميلاديا كل هذه الحقائق المجهولة آنذاك .. وإن صحّة المعطيات الفيزيولوجية والجنينية في القرآن , ومعطيات علمية غيرها لا يمكن حصرها ... لدليل واضح على أن القرآن كتاب منزّل .
(وبالمناسبة نذكر بن جلون بأن الدكتور بوكاي تعلم اللغة العربية ودرسها وهو في الخمسين من عمره ... ولم يقرأه من خلال الترجمات الغربية)..
موقفه من الدين ... ومن الصحوة :
يتلخص موقف بن جلّون من الدين في جملة أوردها على لسان الأب المحتضر بالصفحة 19 : " يجب أن يعايش الدين في صمت وتأمل , وليس في هذه الجلبة التي تكدّر صفو ملائكة القدر"
ومن ثم فهو يمقت ويبغض ويعادي أبناء الحركة الإسلامية , لأنهم حريصون على نسف هذه المقولة الجامدة , لوعيهم بخطورتها ودورها الإنهزامي السلبي على مستوى النفس والمجتمع ووعيهم أيضا بنية وقصد وهدف المروّجين لها من أبناء أمتنا خاصة. وبالتالي فهم يسعون إلى تفجير التعاليم والمبادئ الدينية وتحريكها في الساحة , والخروج بها من دائرة الضمير إلى دائرة السوق والشارع والمعمل والسلطة. وبكلمة : إلى دائرة المجتمع لإصلاحه وتحريره وتنميته وتغييره.(1/25)
وهذا الإخراج الإجتماعي الحركي للدين الذي تعمل الصحوة على تعميقه وترشيده وتوسيعه , يؤرق "العملاء" ويقلق "المستغربين" فقد جاء بالصفحة 60 : ".... وأمقت الذين يستغلّونه في تشويشات ويحدّون من حريّة التفكير .. إنهم منافقون....مؤنون متعصّبون أو منافقون , لا يهم إنهم يتشابهون وليست لي أي رغبة في معاشرتهم أنا أعرفهم جيّدا. لقد تعاملت معهم من قبل إنهم يستندون إلى الدين للسحق والهيمنة وأنا أستند حاليا إلى الحق في حرية التفكير وحرية الإعتقاد أو عدمه. هذا لا يعني سوى ضميري.."
وبالصفحة 135 يتحدث عن المراة المسلمة الملتزمة المتحررة من أفكار الهدم والفساد بقوله : "... كن جميعا دميمات وينبعث منهن الضيق : طائفة من الأخوات المسلمات المتعصبات الشرسات كن قد أتين لتنفيذ مخطط واضح جدا يتلخص في إيذائي وربما تشويهي أو تهديدي و تخويفي "
ولا ينسى أن يقدّم خدمة مجانية لأسياده , وذلك بتحريضهم ضد الحركة الإسلامية , بإثارته للنعرة الصليبية عندما يلفت نظرهم إلى موقف القرآن , والمسلمين من النصارى: ".... لا بد أن أذهب فالأطفال رهيبون ... لكنهم يطرحون أسئلة مربكة من قبيل : " هل حقا سيدخل جميع النصارى النار؟" ص95
ويفضح إلحاده وفسوقه ونفاقه بما جاء بالصفحة " بما أن الإسلام هو أفضل الأديان فلماذا انتظر الله طويلا لكي ينشره" و"لماذا وصل الإسلام متأخرا جدا؟؟"
خاتمة:
وبعد, لقد توسّع بن جلّون في سبّ الإسلام وأهله , ولم يخجل من فضح مواقفه التقدّمية المهزومة من الألوهية والقرآن والدين , وبالتالي يكون قد ظلم نفسه وخان أمته , ولن تنقذه الجائزة يوم التغابن , ولن ينصره الغرب يوم الحسرة.(1/26)
ومن جهتنا, لا يكاد يمر يوم ,إلا ونزداد يقينا من أن الغرب الصليبي يعرف كيف ينتقس عملاؤه ويصطفي أجراءه من أبناء جلدتنا ويعرف أن يضع جوائزه وأمواله خارج حدوده , ومتى يوسّم ومن يوسّم , ةومن هم الجديرون بالتكريم والتتويج وأي الأعمال تستحق الشهرة والتلميع ... ومن ثم يصبح عاديا جدا أن تحتوي القائمة على أسماء : سلمان رشدي ونجيب محفوظ وطاهر بن جلّون .... وغيرهم كثير.
فسبّ الدين , واستنقاص مبادئه وتعاليمه , والطعن في رجالات الإصلاح والدعوة والتشكيك في القيم والمثل ... أصبح علامة مميزة وبارزة لاستحقاق التوسيم الغربي , وتأشيرة الانتماء والولاء لمعسكرات
العداء الصليبي والصهيوني للإسلام والمسلمين.
على هامش هجرة اليهود السوفيات إلى فلسطين :
صورة اليهودي في الأدب الروسي:
من خلال كتاب " ذكريات دار الموتى" ل"دوستوفسكي"
هجرة اليهود السوفيات إلى فلسطين عبر بوابة - البوستوريكا- منذ مطلع هذا العام - 1990- أثارت الكثير من ردود الأفعال وفجّرت الكثير من الأشجان والأحزان العربية...
وإذا كان ولا يزال ردّ الفعل الرسمي العربي لم يتجاوز - كما عوّدنا- الشّجب الخطابي والتنديد اللفظي والاستياء المكبوت ... فإنّ ردّ فعل النخبة الثقافية لم يرتق - بدوره- إلى مستوى مسؤولياتها التاريخية والحضارية .. ولعل أحدث دليل على ما نقول خلوّ البيان الختامي للمؤتمر العالم السابع عشر للإتحاد العالم للأدباء والكتاب العرب الذي انعقد أخيرا بتونس, من أي إشارة تنديد بهجرة اليهود وخطرها على مستقبل القضية .. والمنطقة.. لا تلميحا ولا تصريحا , ما عدا جملة باهتة اقتضاها سياق الكلام والتي ثقول : " ... كما يواصل - أي الإحتلال الإسرائيلي- بناء المستوطنات , ويخطّط لإسرائيل الكبرى مستغلا هجرة اليهود السوفيات والدّعم المالي والعسكري الأمريكي."(1/27)
وفي سياق متابعة ومعايشة الحدث/ المؤامرة, وفي إطار المساهمة الثقافية أرى - من موقعي- أن أستعرض بعض ملامح صورة "اليهودي" في الأدب الرّوسي. وأختار نموذجا لشخصية يهودية سجّلها الأديب الرّوسي الشهير : دوستوفسكي في كتابه الوثيقة الصادر عن دار بودليرعام 1966 تحت عنوان " ذكريات دار الموتى" والذي سجّل فيه صاحبه : مشاهداته وانطباعاته , تأمّلاته وحواراته ... وحياته التي عاشها في معتقل -سيبيريا- محكوما عليه بالأشغال الشاقة أيام حكم القيصر نيكولا.
* فكيف رسم دوستوفسكي هذه الصورة لزميله في الزنزانة واليهودي الوحيد في المعتقل : عيسى فوميتش؟؟
* وما هي ملامح الصورة النفسية والإجتماعية والدينية التي تنطوي عليها شخصية يهودي " ذكريات دار الموتى " ؟؟
وقبل أن نستعرض هذه الملامح ونتوغّل مع الكاتب في أغوار هذه الشخصية , ثمّة ملاحظة نودّ لفت النظر إليها وهي : أن الصورة التي سنتعرّف عليها ليست من خيال الأديب ذلك أن الكتاب/ المصدر يدخل فيإطار السّيرة الذاتيّة : حيث أن الشخصيات والعناصر حقيقية قد عايشها الكاتب عن قرب , ثم رسمها وسجّل ملامحها كما رآها وشاهدها , لا كما تخيّلها وتصوّرها .. ولهذا نجد ملامح صورة هذا اليهودي في هذا العمل الأدبي لدوشتوفسكي, قد جاءت مطابقة ومصدقة لحقيقة الصورة التاريخية المعروفة عن اليهود بألوانها وتضاريسها وخصوصياتها النفسية والفسيولوجية والدينية والإجتماعية , ناطقة بشجعها وصلفها ودمامتها وماديّتها وتعصّبها وانتهازيّتها... إلى آخر قائمة الأوصاف والسّمات التي تنفر بها الشخصية اليهودية عبر التاريخ...
(1)
أما حديث الكاتب عن "عيسى فوميتش" وهو اسم هذا اليهودي , موضوع الحال , فقد جاء في موضعين من الكتاب : فقد(1/28)
ذكره في الفصل الرابع الذي يحمل عنوان :" انطباعات أوليّة - تابع- " ثم ذكره بأكثر توسّع وتفصيل وتركيز في الفصل التاسع حيث خصّه بستّ صفحات ابتداءا من الصفحة 184 إلى الصفحة 190 من الطبعة الفرنسية للنسخة التي بين يدي الآن .
يبدأ دوستوفسكي حديثه عن هذه الشخصية في الفصل الرابع بقوله : "... كان البولونيّون من نزلاء معسكرنا لا يحبّون من بين كل الزملاء إلا ذلك اليهودي ... ربّما لأنه كان الوحيد القادر على تسليتهم ومداعبتهم كما ان يهوديّنا الظريف هذا كان في الوقت نفسه محبوبا من طرف كل السجناء وموضع سخريّة الجميع... إنه اليهودي الوحيد في المعتقل ..وأنا الآن لا أستطيع أن أتذكره دون أن انفجر ضاحكا ..."
ثم يأخذ الكاتب في رسم وعرض ملامح صورة ذلك اليهودي بكل دقّة وأمانة. وبإمكاننا اختصارها وتقسيمها كالآتي:
(2)
* الملامح الفسيولوجيّة : وهي تبدو كاريكاتوريّة إلى حدّ بعيد .. يقول دوستوفسكي في وصف عيسى فوميتش : " عيسى فوميتش هو اسم هذا اليهودي .. إنه يشبه فرّوجا أصلع . لم يكن صغيرا بل يبدو أنه على عتبة الخمسين من عمره... كان هزيلا , متجعّد الوجه , وما تزال جبهته ووجنتاه تحمل آثار السّياط .. وإنّي لمتعجّب من أمره حتى أنني لا أستطيع أن أفهم كيف استطاع هذا الهزيل النحيل تحمّل الستّين جلدة...
* الملامح النّفسية : فهذا الرجل - يقول دوستوفسكي- يجمع خليطا مضحكا من السّذاجة والمكر , ومن الطيبة والكبرياء, ومن العجرفة والغطرسة ومن التبجّح والحياء... فهو شديد المكر والحمق في الوقت نفسه, ومع عجرفته وصلفه فقد كان جبانا إلى أبعد حدّ..ومن الغريب بالنسبة لي - يواصل الكاتب- أن السّجناء لا يذكرونه في شئ إلا استدراجا لمداعبته والتندّر به وقد اشتهر في المعتقل وأصبح حديث السجناء جميعا حتى أنهم كانوا يردّدون : " نحن لا نملك إلا عيسى فوميتش واحدا فلاتؤذوه..."(1/29)
وهكذا هم دائما اليهود عبر التاريخ : يخلقون من حولهم دائرة اهتمام وجعلون من أنفسهم محلاّ لعطف الآخرين وعنصرا ضروريا لتوازن الواقع رغم فسادهم وإفسادهم... وخبث طوّيتهم..
* الملامح الإجتماعية : في هذا الجانب يقول الكاتب : من بين جميع المعتقلين كان اليهودي "عيسى فوميتش" هو الوحيد الذي ظلّ يلازمه المرح.. كانت مهنته كصائغ تدرّ عليه ثروة معتبرة تعفيه في الغالب من السّخرة...كان يعيش- بيننا- متنعّما له غلاّيته الخاصة للشاي , وحاشية لفراشه, وماعون كثير متنوّع.. وكان يهود المدينة لا يبخلون عليه بمساعدتهم وزياراتهم... وباختصار نستطيع القول أنه كان الوحيد الذي يعيش في رخاء وهناء... هذا الوضع المادي الممتاز رشّحه ليكون قطب السّلف والرّهن داخل المعتقل يقصده السّجناء لرهن حوائجهم مقابل المال والقرض الربوي.."
وهكذا نجد أن اليهود يشكّلون دائما نشازا في مناخ الحياة العامة في البيئة التي يحلّون بها ... ولو كانت هذه البيئة سجنا.. ففي الوقت الذي يكون الناس فيه محاصرين بالجوع والفقر والخصاصة ترى اليهود وحدهم يتنعّمون.. وفي الوقت الذي يغتمّ فيه الناس ويحزنون , تراهم وحدهم كذلك , فرحين مسرورين شامتين.. وهذا النّشاز يعطيهم فرصة للإنتهازية والإستغلال والإقطاع والتسلّط..(1/30)
* الملامح الدينية : وهي أكثر بروزا من سواها في صورة هذا اليهودي حيث يظهر من خلالها شديد التعصّب والتزمّت متعلّقا بالطقوس والشعائر: " فقد كان يذهب كل سبت , تحت الحراسة, إلى المعبد ... وفي مساء كل يوم جمعة يتوافد كل سجناء المعتقل إلى زنزانتنا قصدا ليشاهدوا كيف يقيم - عيسى فوميتش - قدّاسه الديني , وكان تطفّلهم هذا مما يزيد في اطرائه وزهوه وحماسه.. فبمنتهى الحذلقة يأخذ عيسى فوميتش مكانه أمام طاولته الصغيرة وقد لبس عباءته الصوفية الخاصة التي يحتفظ بها في درجه ثم يفتح كتابه ويوقد شمعتين .. ويبدأ يهمهم ويدندن في دعاء وتضرّع غامض .. وهكذا يكون قد دخل في صلاته : يرتلها وهو يدندن تارة ويصيح تارة .. وفي الأثناء تراه يبصق ويدور ويقوم بحركات وإشارات غريبة مضحكة ... ثم فجأة تراه يغطي رأسه براحتيه ويشرع في البكاء والشهيق حتى يفقد وعيه ويسقط رأسه فوق كتابه... ثم وهو في قمّة بكائه ونحيبه ... ينفلب ضاحكا ومترنّما " يقول دوستوفسكي : وذات يوم سألت عيسى فوميتش عن معنى ذلك البكاء ومعنى ذلك الفرح في قدّاسه فأخبرني بلطف قائلا : ان البكاء هو تعبير عن فقدان "القدس" وأما الفرح فسببه ومصدره يقينا بعودة اليهود - حسب ما جاء في توراتنا - إلى أرض الأجداد أرض الميعاد وتشييد مملكة إسرائيل..
ولنا هنا تعليقان :
-أ- المدهش في السلوك الديني لليهود - وعيسى فوميتش مثالا- أنهم لا يخجلون ولا يشعرون بعقدة النقص وهم يمارسون إلتزامهم الديني , ولا يتقاعسون - مهما كان الظرف- على إظهار تمسّكهم وإخلاصهم لطقوسهم وقدّاسهم وشعائرهم. فبالرغم من الإخراج الكاريكاتوري الذي ظهر فيه عيسى فوميتش وهو يمارس طقوسه أمام المسجونين , فإنه يبدو مقتنعا بما يفعل وشاعرا بواجبه الدّيني الدعوي..(1/31)
وهذه ميزة يحسد عليها اليهود : فالبعد الديني - على زيفه وبطلانه- يظلّ من الملامح الثابتة والبارزة في الشخصيّة اليهودية على مستوى السّلوك والمعاملات وهو لا يخضع للمساومة أو التنازل أو أي نوع من التعطيل مهما كان ضغط الواقع ومهما كانت حساسيّة المرحلة ... وحدّة اللحظة التاريخية..
-ب- أما التعليق الثاني فهو يخصّ ما جاء في تفسير " عيسى فوميتش" لحالة البكاء والفرح في قدّاسه الدّيني .. وما يمكن أن يشكّله من خلفيّة لهذه الهجرة المتدفّقة لليهود السوفيات إلى فلسطين ..
فعيسى فوميتش ما هو إلا أحد جذور هذه الظاهرة المهاجرة.. وما هو إلا أحد آباء وأجداد هذه الوفود المزدحمة من اليهود الرّوس على بوّابة فلسطين وهذا الجيل المهاجر من الأحفاد لا بدّ أن يكون قد أشرب ولقّن تلك التأويلات والتفسيرات والنبوءات الكاذبة على أيدي " عيسى فوميتش" ومعاصريه من اليهود السوفيات .. والقائلين بالعودة إلى أرض الأجداد , أرض الميعاد ... واسترجاع بيت المقدس.. وجاءت البروسترويكا لتمنحهم فرصة العمر لتحقيق الحلم وتنفيذ الرغبة ...
(3)
وبعد..
- هل أكون قد وفّقت في تجلية ملامح صورة اليهودي في الأدب الرّوسي من خلال هذا العرض المتواضع والسّريع لأثر من آثار أحد أهم مشاهير الأدباء الرّوس؟؟
على كل حال ما هذه إلا محاولة بكر اجتهدت في تقديمها حسب طاقتي وأدواتي المتواضعة ... وهي ابتداء , مساهمة تنتظر بقية مساهمات أخرى قد تكون أعمق وأشمل وأصوب , بإمكان الآخرين من الأدباء والمثقفين تقديمها ليبرهنوا على حضورهم الواعي والفاعل في دائرة الصراع .. ويثبتوا مساندتهم الجادة للقضيّة..
هامش :
Fédor Dostoïevski : Souvenirs de la maison de morts
Editions BAUDELAIRE 49 AV. BOSQUET. PARIS année 1966
من ذاكرة الأيام
من "جون" إلى " حسين"
رحلة عذاب(1/32)
.. بصراحة أقول لكم أني لم أتردد يوما في الكتابة كما تردّدت بخصوص كتابة هذه الواقعة / القصة... التي التقطتها أجهزتي الخاصة مباشرة ذات يوم من فم بطلها : جون/ حسين..
إذ كانت تمرّ عليّ فترات أجدني فيها منشرحا لتدوين حالة جون/ حسين وإخراجها للناس حتى يتبيّنوا ... وتأتي علي فترات أخرى ضاغطة تزهّدني في تدوين مثل هذه الواقعة / الشاهدة : ربما بحجة أنها لن تضيف جديدا على صور المعاناة التي يزخر بها ملف الدعوة وهي ليست في النهاية إلا نتسخة مكرّرة عبر الأيام لما يلاقيه أنصار الإسلام وأتباع الحق من الاضطهاد العالمي المرصود .. تارة بإمضاء صليبي وطورا بإمضاء يهودي .. أو بإمضائهما معا إذا اقتضى الأمر . ثم بدا لي ذات يوم أن أنسف ترددّي هذا وأحسم الأمر لصالح الكتابة ليقيني بضرورة اطلاع الرأي العام عليها ووضعها في دائرة الضوء حتى يزداد الذين آمنوا إيمانا ..ويغصّ الظالمون بغيظهم... وأيضا للاعتبارات التالية:
-أ- كونها أمانة حمّلني إياها الأخ "حسين" ( جون سابقا) ..وخصّني بخبرها وتفاصيل وقائعها متحمّلا أتعاب مسافة أربع مائة كيلومتر قطعها على خط شمال/ جنوب .. وكما تعلمون : لا بدّ من أداء الأمانة .
-ب- كونها" شاهد حيّ وواقعي " للحقد الصليبي المكبوت في صدور النصارى تجاه أتباع الحركة الإسلامية والقابل للإنفجار والتنفيذ متى سنحت الفرصة... ولوعلى حساب الأبوّة والرّحم...
-ج- لطرافة مسرحها وحساسية العلاقة التي تجمع بين عناصرها : إذ تدور أحداثها بين الوالد وما ولد .. على الركح الداخلي للعائلة..
-د- لما تمثله في بعض أبعادها كنتيجة لجاذبية الإسلام واستعلاء الإيمان وفعاليّة اليقين.
...وكان بطلها شاب كان يدعى سابقا "جون" ثم محاه وأسّس لنفسه إمضاءا إسلاميّا جديدا هو "حسين"
كيف كان ذلك ؟
* اللهم إلا طارقا يطرق بخير ... يا رحمان..(1/33)
...ذات ظهيرة من أيام الصيف الماضي ..(1988) ..وأنا أمني النفس بقيلولة هادئة, إذ رنّ جرس البيت , فتنافست أنا وولدي الصغير على فتح الباب واستطلاع الأمر.. وأنا أهتف في داخلي : اللهم إلا طارقا يطرق بخير ... يا رحمان..
اصطدم بصري بشابين يقفان على استحياء على بعد متر أو مترين من الباب أسرع كبيرهما إلى تحيّتي ومعانقتي مع وابل من الأسئلة عن الحال والأحوال... وكأنه يريد أن يظهر لمرافقه بأنه يتمتع بصلة قديمة معي وعلاقة حميمة وفعلا : فهو من روّاد مسجد السّلام بقابس الذي كنت الإمام الخطيب فيه قبل اعتقالي إبّان فتنة 1987 ومن العناصر التي لا تغيب عن درس التفسير والإملاء القرآني ... وأتذكّر أنه كان كثير الاستفتاء والاستفهام..
ولم يمهلني طويلا حتى قدّم لي صاحبة قائلا : - هذا الأخ "حسين" قدم قبل ساعة من العاصمة... كان مسيحيّا باسم "جون" ثم هداه الله إلى الإسلام جاء ليسلّم عليك ويستفسرك في بعض الأمور.
فاجأتني المقدمة ووجدتني مدفوعا إلى معاتفة الضيف "جون" بحرارة مهنئا ومبشّرا ومكبّرا فيه بطولته ومعظّما نعمة الله عليه بالهداية وبإماءة عفوية أذنت لهما بالدخول.
* باختصار قال صاحبه:
استقر جون/ حسين وصاحبه على الأريكة في قاعة الجلوس , واختصرت بدوري مجاملات الضيافة بتقديم مشروب مثلج وبعض المستطيلات من البسكويت "الوطني" وألححت على الضيفين بالقبول(1/34)
وبعد أن رشف صاحب حسين جرعة من كأسه وقضم نصف مستطيل من بسكويته افتتح الجلسة بقوله : -باختصار يا شيخ (بصراحة لم أرض أن يخصّني بهذا اللقب أمام الضيف) أخونا " حسين " هذا التقيته قبل قليل بمسجدنا بالمدينة وأعلمني بأنه قادم من الشمال وأنه قد ترك بيت أبويه منذ شهرين هربا من الكفر ومن الموت الذي توّعده به أبوه عندما علم بإسلامه وانسلاخه عن دين أجداده من المسيحيين وبعد أن فشلت المحاولات المتعددة التي بذلها- الأب- لإقناع جون بضرورة التمسّك بمسيحيّة آبائه والإبتعاد عن دين "المتطرّفين" وهو قد جاء يسأل ويستفتي -" هل هروبه من بيت أهله- في هذه الحالة- جائز أم لا ؟؟ إنه مستعد - كما قال لي - في صورة عدم جواز ذلك إلى الرجوع إلى بيت والديه ولوكان في ذلك موته "
ازداد ضغط المفاجأة علي وقلت في نقسي : - يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها .. كما يقال وأن الأمر أعقد وأعمق مما أراد صاحب حسين اختصاره في هذا الكلام المشحون بالعقد والغموض .. وقررت أن أسمع القصة كاملة طريّة من فم "جون" الذي ظل طوال الوقت مركّزا بصره إلى أسفل .. وبدا لي وكأن الزائر الغريب يعيش حقا قصة عذاب ويختزن في أعماقه شحنة نوويّة من المعاناة والهموم أكبر من سنّه وأقوى من بدنه..
* القصّة طريّة من فم "حسين" :(1/35)
التفت إلى - حسين- وأبديت له رغبتي في سماع القصة كاملة بتوقيعه فأمضى على الموافقة بابتسامة خجولة .. وابتدر بسرد قصته بلغة فرنسية ممزوجة برافد من الألفاظ العربية .. وكأنه شاعر يلقي قصيدا ينعى فيه نفسه... قال: كان اسمي "جون" ولدت بتونس العاصمة من أسرة مسيحيّة أصلنا من- قبرص - أبي جاء بالعائلة قبل ولادتي إلى تونس ليعمل بالشركة التونسية للكهرباء والغاز اضطرته ظروف العمل إلى الاستقرار بالعاصمة ... كانت نشأتي وطفولتي ربيعيّة حالمة عشتها في رخاء ورفاه , وكنت ناجحا في دراستي الإبتدائية , وقد رشّحني تفوّقي إلى الالتحاق بالمعهد النموذجي ب"أريانة" حيث التقيت بنوابغ المستقبل وصفوة الأذكياء من التلاميذ (وللعلم فإن هذا المعهد لا يلتحق به إلا أصحاب المعدّلات العالية في مناظرة الدخول إلى التعليم الثانوي , وهو يمتاز بإطار خاص من المدرّسين , ومعدّات خاصة , وتجهيزات حديثة)
... وخلال الدراسة توطّدت الصداقة بيني وبين بعض التلاميذ ذوي الميولات الإسلامية حيث انبهرت بسلوكهم وشخصيتهم وثقافتهم وسرى تأثيرهم عليّ إلى درجة أني جاريتهم في الكثير من الأمور وقد أقنعوني ببطلان الأفكار الدينية التي ربّيت عليها وجذبوني بالتي هي أحسن إلى الإسلام فتعلّمت الوضوء والصلاة وحفّظوني الفاتحة ولقّنوني الشهادتين .. وبذلك صرت عضوا منهم وجزءا من فصيلتهم.. وصرت أتردّد معهم على المسجد.
* عندما علم أبي بإسلامي...
ولاحظ أبي مع مرور الأيام كثرة خروجي في الصباح الباكر على غير العادة وغيابي عن المنزل في أوقات محدّدة ... كما لاحظ في الوقت نفسه عزوفي وفتوري عن ممارسة الطقوس المسيحيّة التي ربّيت عليها ... فارتاب وأخذ يتجسّس ويتحسّس ويتربّص بي.. حتى استنتج في النهاية أني انحزت على "جوقة المتطرّفين" عل حدّ زعمه.(1/36)
فعاتبني في أول الأمر على هذا الطيش (؟؟) والعقوق (؟؟) بلغة الواعظ وحذّرني ناصحا بالإلتزام بالمسيحية الدين الحق (؟؟) وحثّني على الإبتعاد عن المتطرّفين(؟؟) حتى لا أصاب بالعدوى الإسلامية...
وعندما واجهته ببعض القناعات التي اكتسبتها من خلال مناقشاتي مع زملائي بالمعهد وكونها تمثّل في نظري حقائق تدحض بسهولة ترّهات معتقده وتناقضات دين الآباء والأجداد ... تمعّر وجهه ونزع عنه رداء الابّوة وتأبّط شرّه... وتهدّدني بأغلظ العقاب في حال إصراري على الإلتزام بالإسلام...
قلت ل"جون" -وهل تتصور أن أباك كان جادّا حقّا في عقابك وتعنيفك ؟- حاصرني بنظرة عميقة وقال : - انظر إلى عيني هاتين , كيف تراهما؟ وقبل أن ينتظر تعليقي تابع:- ألا تراهما حمراوين ذابلتين ؟ لقد كحّلهما أبي بالبوتاس , بهدف إعدامهما حتى لا أستبين طريقي إلى المسجد, وأظلّ حبيس البيت , كما استعمل معي الوخز الكهربائي ( وأراني بعض الآثار الواضحة في يده اليسرى : انكماش في بطن إبهامه..) كما أنه -عندما أعيته الحيلة واستنفذ تقنياته- ذهب إلى أحد مراكز الشرطة وحرّضهم على اخذي إلى السجن مع جملة اللمتطرّفين ( مستغلا ساعتها الحملة الكبيرة التي قام بها النظام البورقيبي ضد الإسلاميين عام 1987).. وفعلا جاء "البوليس" إلى منزلنا ولكنّي تظاهرت أمامهم بطقوسي النصرانية القديمة... فتركوني وعاتبوا أبي على مغالطته تلك وأفهموه : أن الأوامر لديهم لا تنصّ إلا على اعتقال "الإخوانجيّة"... وابنك هذا ليس منهم ...إنه نصراني ملتزم..
قلت ل"جون" - وكأني لا اصدّق ما أسمعه منه:- طيّب وأمك أين هي؟؟ ما كان موقفها على هذا الركح؟(1/37)
تبسّم ابتسامة ميكانيكية وقال: - وماذا عساها أن تفعل المسكينة ... وهي التي لم تفلح يوما في معارضته , لما تعرف من انغلاقه وغلظته... ثم ساد بيننا صمت لبعض الثواني.. وأقسم أنّي لم أكن أتصوّر نفسي ساعتها في يقظة, وأن هذا الشاب العادي النحيف مشحون بكل هذه التجربة ومثقل بكل هذه المعاناة...
وأسرعت إلى قطع الصمت بقولي ل"جون" مداعبا ومسلّيا: حقا أنت بطل يا "جون" ..:
وبتواضع أسرع إلى نفي تعليقي بقوله : كلاّ كلاّ.. Vraiment, tu est un héros
* الهروب:
وأردت أن أعرف بقية القصة فدغدغته بسؤال استطرادي قائلا: - طيّب وكيف وصلت إلى هنا؟
استأنف سرده السابق مجيبا : عندما علمت حرص أبي على صدّي بكل وسائله المتاحة عن إسلامي, خاصّة عندا هدّدني ذات يوم بكلّ حنقه وغلظته وتعصّبه قائلا :
وترجمتها" أقسم أني قاتلك يوما ما"..Je te jure qu'un jour je vais te tuer..
وهنا جحظت عيناي استغرابا وقاطعته بدهشة : - أبوك يتهدّدك بالقتل ؟؟... لا يا جون لا بدّ أنه كان مازحا ليرهبك حتى ترجع...
قطّب ما بين حاجبيه وقذفني بنظرة بعيدة وكأنه يعاتبني على شكّي وارتيابي فيما يقول ... وهمس : - نعم ياسيدي .. صدّق أو لا تصدّق ولكن أبي قالها مرارا على مسمع من أمي وأختي " مرقريت" وأنا أعرف صدق وعيده وحزمه في التنفيذ ... لذا قرّرت الهروب ذات صباح من البيت لأحافظ على ديني الجديد...
- ولكن إلى أين ؟
- فررت باتجاه الساحل "سوسة" بعيدا عن العاصمة أقضى النهار متجوّلا في الشوارع وآوي في الليل إلى المساجد ...وأقتات من المال الذي أخذته من درج أمّي ... أنا على هذه الحال منذ شهرين يا سيّدي ...
قلت وبعض الشرود يحاصرني : لابدّ أن أباك نادم الآن على أفعاله التي كانت وراء فرارك من البيت , وهو الآن - بلا شك- جادّ في البحث عنك ... وقد يكون أعلم "البوليس" بغيابك ونشر إعلانا عن ضياعك...(1/38)
ردّ بثقة :- نعم.. ومن أجل ذلك أتلفت كل أوراق هوّيتي حتى لا أعطي الفرصة لإيقافي وردّي إلى قبضة أبي.
قلت : ولماذا جئت إلى قابس إذن ؟
قال : لأغيّر مسرح اختفائي
قلت : وهل أنت الآن , بعد هذه المدة الطويلة من الغياب عن الأهل نادم على فعلتك ؟؟ ألا تكون قد سبّبت لأمّك وأختك وربّما لأبيك بعض التعب والهمّ بهروبك دون سابق إعلان... لا تنسى أنك في النهاية ولدهم... رغم كل ما حصل..
وهنا تدّخل صاحب حسين ليقول : ... نعم . وهو كذلك يا شيخ ... ومن أجل هذا جئت به إليك ... لأنه طلب مني إيصاله إلى رجل ثقة ليبيّن له الحدّ الفاصل بين الجائز والممنوع فيما فعل ... ودعّم - حسين- قول صاحبه بإيمائة خفيفة من رأسه.
قلت : وفي نيّتي أن لا أتعجّل الحسم أمامهما , بالصّورة التي ربّما كانا ينتظرانها مني : - جميل أن يفرّ المرء بدينه . وينقذ نفسه من ضغط وحصار البيئة الكافرة حتى يمارس عباداته في أمن وسعة ويناجي ربّه في حريّة ولكن حالتك - يا حسين- أراها أكبر من السؤال... وعندي أرى أن تذهب إلى جهة رسمية موثوقة لأنك متنقّل من هوية إلى أخري .. ومهاجر من ضلال إلى هدى , ومن نصرانية إلى إسلام .. : كأن تذهب إلى المفتي أو إلى المجلس الإسلامي الأعلى , أو إدارة الشعائر الدينية... أو أي جهة دينية معروفة وموثوقة .. فتعرض حالتك جملة وتفصيلا.. وتعلن إسلامك .. حتى تتمّ في صالحك إتمام الإجراءات اللازمة..
وأما بخصوص الوالدين فسأسوق إليك قول الله سبحانه في سورة لقمان حيث يوصى المؤمنين في مثل حالتك بقوله "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى.."
وفيما كنت اتكلّم كان حسين يوقّع على ما أقول بإيماءات خفيفة من رأسه ..
* وغادرني حسين مودّعا :(1/39)
ثم لم يلبث حسين وصاحبه بعد ذلك إلا قليلا حتى استأذنا في الإنصراف ولم أشأ أن أترك حسين ينصرف من عندي دون تذكار يذكّرني به... فأهديته نسخة من المصحف الشريف في طباعة جيّدة تفبّلها بحرارة ولم يمهلني حتى فتح في المصحف وأخذ يقرأ على مسمعي سورة الفاتحة مع تعتعة خفيفة... كانت خير خاتم لجلستنا التي لم تدم اكثر من ساعة ونصف الساعة.
وعند الباب ودّعته وأنا أقول أسأل الله لك التوفيق والثبات ... وأسأله سبحانه أن ييسّرك لليسرى في أمر الدين والدنيا ... وأن يهدي والديك ليكتمل شمل الإيمان عندكم ...
.. ثم همست فيما بيني وبين نفسي : - من كان يصدّق أن يكون هذا الفتى النحيف مشحونا بكلّ هذه المعاناة..
- حقّا لقد كانت رحلته من "جون" إلى "حسين" رحلة عذاب..
الأسرة المسلمة?
الطفولة
بين
شراسة الهدامين
ورحمة الإسلام
الأطفال هم جيل الغد ورجاله .. وهم في غد الأمة قادتها في السلم والحرب ومؤدبو نشئها ومفكروها وواضعو برامجها ومنفذو اطروحاتها واختياراتها... بجدهم ووعيهم وإيمانهم وصدقهم يرقى المجتمع ويزهر.. وبفتورهم وتقصيرهم وتميعهم ينهار المجتمع وتدك أركانه ويأخذ مكانه وفق السنن المتداولة في سقوط الأمم في ذيل القافلة الحضارية إن لم يكن بالرضا وبالاختيار فبالقوة والجبر.. كما يعبر العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى...
ولأجل ما للطفولة والشباب من تأثير في مستقبل الأمم والحضارات بادرت جل الحركات الهدامة في العالم على اختلافها إلى السيطرة على الأطفال والشباب متأولة في ذلك أنها بسيطرتها تلك على هذه الكتلة الطرية من المجتمع .. تكون قد أمسكت من مكان حساس وقيادي لتلك الأمة ولتلك الشعوب...(1/40)
إذ الانطباعات الأولى لا تنسى وهي المؤثرة والموجهة لمختلف مراحل حياة الناشئة ولهذا السبب أو ذاك نجحت تلك الحركات رغم خبث اطروحاتها في إخضاع الأمم لأفكارها وأهوائها وسوقها إلى المصير النكد الذي خططته لها من قبل وهذا واقع ملموس يحسه كل دارس حصيف لواقع المجتمعات الحاضرة.. فمثلا الواقع المزري الذي تتخبط فيه المجتمعات العربية والإسلامية .. كيف تم الإعداد له ؟
عندما خطط الغرب الماكر لإسقاط الأمة العربية والإسلامية عمد إلى الاستحواذ على شبابها فغرس فيهم أفكاره الهدامة.. ميعهم ونفرهم من دينهم وحجب عن أعينهم رؤية السماء ودربهم على شتى أنواع الاستبداد والبغي والظلم... حتى إذا صاروا قادة أممهم ورواد قومهم من ساسة ومفكرين وأدباء وفنانين افرغوا ما في أمعائهم .. وساقوهم إلى ما نرى اليوم من انحلال منيت العلاقات الأسرية به وعصيان وتمرد على القيم ومروق عن الدين..
وسنعرض فيما يلي بعض بنود هذه الحركات -الشيطانية- الخاصة باحتضان وافتراس الطفولة..**
الماسونية والأطفال:
تقول الماسونية- وهي حركة صهيونية سرية عالمية من اخطر وامكر الحركات الهدامة في العالم- في أحد بنودها?
"إن حرية الآباء- أي في تربية أبنائهم- لا تتفق مع مصالحنا وغاياتنا أبدا ... لذا يجب تربية الأطفال وفق منهاج مقرر موضوع من قبل الدولة وان الذين يريدون تربية أطفالهم وتعليمهم بصورة خاصة في البيوت يجب أن يخضعوا لتدريس المعلمين الذين تعينهم الدولة..." (1)(1/41)
والدولة هنا- كما يجب أن نفهم- هي من وضع الماسونية تنفذ تعاليمها وأوامرها التي تستقطب هدم الدين أساسا وتقويض الأخلاق والقيم وجاء في بند آخر.."إن السيطرة على الشبيبة من أولى غاياتنا وأهدافنا..." (2) وتقول في موضع ثالث أيضا.." دعوا الشيوخ والكهول جانبا وتفرغوا للشباب بل تفرغوا حتى للأطفال... إن الانطباعات الأولى لا تنسى وعليه يجب أن نبني هذه الانطباعات على أساس أفكارنا ولابد من تربية الأطفال بعيدا عن الدين.." (3).
نعم.. هكذا بكل خبث وجرأة وتبجح تحرض الماسونية الكافرة أنصارها وجنودها على الاستحواذ على الأجيال الطرية والتي ما تزال على صفائها وفطرتها... وحشرها في إسطبل الماسونية العفنة حتى يكون أول ما ينطبع في ذهن الطفل الضحية-والذي لا يميز بعد بين الطيب والقبيح-أفكارها المسمومة... فيشب وينمو بعيدا عن الدين متمردا على كل خلق سليم رافضا لكل القيم.
فيأخذ بتحدي تعاليم دينه وكسر أواصر الأسرة والبروز في مظهر المائع الماجن المتهور .. لا يعبأ بمثل ولا يحترم تقاليد وطبعا فإن هذا السلوك العابث سينعكس عليه إن كان مربيا في غده أو مفكرا أو زعيما... ومن ثم يتولى-في إطار وظيفته-الدعوة إلى قناعاته وأفكاره التي يحملها وتربى عليها وحققها في سلوكياته .. فإن كان معلما ميع تلاميذه ودس في دروسهم سموم الفسق وتعاليم التفسخ ووزع أدوار البلبلة والتمرد... و إن كان زعيما-وهو ألأنكى-ساق شعبه وفق الهوى والشهوة إلى الظلم والاستبداد والاستعباد والذبح والفقر .. حيث الذلة والتبعية والانهزام الحضاري...
الشيوعية... والأطفال...
إن الشيوعيين الكفرة يرفضون بكل مكر ودهاء نمط العائلة المتعارف عليه بين الناس من قديم ... كذلك هم يسعون بكل جد وحزم إلى تفتيت وتذويب المشاعر والعلاقات الرابطة والمؤلفة بين الوالد وأبنائه مع شديد حرصهم عل هدم مقومات الأسرة وزرع كل ما هو آثم ودنيء بين الذكر والأنثى.(1/42)
وقد جاء في أبجدية الشيوعية لماركس .."حين يقول الوالدان هذا ابني وتلك ابنتي لا تعني هذه الكلمات وجود آصرة أبوية فحسب بل توحي بأن للأبوين حقا في تربية أولادهم من وجهة نظرهم كما يريدون.. والاشتراكية تأبى الإقرار بهذا الحق للآباء لأن الفرد ليس ملك نفسه ولكنه ملك للجماعة بل هو ملك للبشرية كلها... ولهذا يجب أن ينتمي الطفل للمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه والذي جاء إلى الحياة بفضله.." (4)
وكلام ماركس الكافر في سلخ الأولاد عن التأثير المادي والأدبي للبيت وتمكين الدولة من مد رواقها عليهم هو جزء من فكرته المطلقة في فرض الشيوعية على الحاضر والمستقبل وتذليل كل عائق أمام هذا الهدف.(5)
والاستعمار...
إن الملاحظ المنصف لجل البلاد العربية الإسلامية التي عشعش فيها الاستعمار الغربي ردحا من الزمن .. يرى بعين اليقين أن جملة ما في هذه الأقطار من مدارس وخاصة الابتدائية منها.. إنما تكلف ببنائها المستعمرون الماكرون.. لماذا ؟ اهو الإحسان ؟ أهي النوايا الطيبة؟ كلا.. إنما فعل ذلك حتى يتسنى له الإشراف على اخطر جهاز اجتماعي واشدها تأثيرا وحساسية ألا وهو الجهاز التربوي ومن ذلك تولى تربية وتخريج أجيال-ضحاياه-وفق برامجه واختباراته وأفكاره حتى أفرزت هذه الخطة التربوية نشءا مغتربا منبتا عن أصالته لا يحمل في دماغه إلا ما سكبته فيه تلك المدارس من إهمال للإسلام وانفلات من التقاليد ونبذ لمقومات الشخصية العربية الإسلامية فكان-للأسف-جيلا مذبذبا? عربي الصورة إسلامي النسب ...غربي الفكر والاتجاه..
الطفل في الغرب التائه..(1/43)
لقد ضاع الطفل بحق في الغرب المغتر بماديته التائه في حضارته. فقد تحول إلى بطل في الإجرام والى محترف مائع في الانحرافات الجنسية الخسيسة وبلغ في العقوق أقصى الحدود? حتى مجه المجتمع ووصلت موضة التيه برجال الحضارة العليلة إلى تعذيب الأحداث وفتح سوق لبيع الأطفال في إيطاليا بؤرة الإرهاب الأحمر..ولا غرابة فالقوم قد استعبدهم الدولار ولم تعد أنفسهم تتحمل تبعة وأمانة الكفالة والحضانة.. ومآسي الطفولة في هذا الغرب المتحضر كثيرة وانتكاسات الشباب هناك مفزعة وسنعرض ما تمكنا من الحصول عليه في السياق.
*شاب أوروبي يصفع أباه لأنه عارضه في أمر ما.
*في لقاء أجرته إحدى الجرائد مع شاب سويسري قال .." نحن أناس ضائعون في هذا المجتمع الاصطناعي فكل شيء هنا مهم ما عدا الإنسان ... أنا هنا في الشارع أتظاهر لأني أريد أن أحس باني إنسان " (6).
وفي الأول من يولية (تموز) سنة 1980 وهو يوم العطلة الوطنية في سويسرا تظاهر الشباب في الشوارع وهم عراة ثم رموا أنفسهم في بحيرة زيورخ.
* تعرفت شرطة اطلنطا الأمريكية على جثة طفل اسود عثر عليها قرب نهر في جنوب المدينة وأعلنت الشرطة أنها جثة طفل يبلغ من العمر خمسة عشر عاما كان قد اختفى.. وبذلك يرتفع عدد الأطفال السود الذين اغتيلوا في ظرف واحد وعشرين شهرا في مدينة اطلنطا أربعا وعشرين طفلا (7).
* في تقرير لمجلة "باري ماتش الفرنسية" عن تعذيب الأطفال في الغرب جاء ? لقد ازدادت نسبة هؤلاء الأطفال المعذبين بنسبة 18 بالمائة عن الستة الماضية ففي العام المنصرم تم تعذيب 45000 طفل جسديا وروحيا في فرنسا وحدها .. نعم 45000 طفل عذبوا وضربوا بل إن بعضهم قد تم تعذيبه حتى الموت . هذا هو الرقم الرهيب لأطفال ورضع عذبوا لمدة طويلة ودون أن يدري أحد بذلك ابشع أنواع التعذيب والعقوبات الجسدية والعجيب أن جلاديهم كانوا المسؤولين عن رعايتهم وتربيتهم وهم آباؤهم أو أقرباؤهم. (8).
الإسلام... والطفولة...(1/44)
إذا كان الأطفال بالنسبة للماسونية وسيلة للهدم وقناة لنشر الفساد والشر وعند الشيوعية يعدون من متاع المجتمع يتصرف فيهم كما يتصرف في أي معدن من معادن الأرض وهم عند رجال الحضارة محل نقمة وتعذيب.... فهم بالنسبة للمسلم وسيلة من جملة الوسائل التي يحاول به جاهدا كسب رضوان الخالق عز وجل والفوز بنعيم جناته ومرافقة رسول الرحمة هنالك... وتكثير عدد المسلمين ونصرة الدين ونشر الصلاح والخير في الأرض مع الحرص كل الحرص على جعلهم من أهل الصلاح والاستقامة والتقوى وهو أمر يتطلب جدية في السهر على تربيتهم تربية إسلامية أصيلة مع غرس مبادئ الدين السمحاء في نفوس النشء والسهر الواعي الحازم على حمايتهم من أي انحراف إلى بؤر الفساد والضياع ... حتى يشبوا على الاستقامة المطلوبة ويكونوا خلفا صالحا قادرا بحق على حمل الأمانة وأدائها حق الأداء ... وحتى لا يتردى أبناؤنا إلى الحالة الأسيفة التي اصبح فيها الطفل في الغرب المائع.
وجملة دعائم هذه التربية السامية تبدو جلية واضحة في موعظة لقمان لابنه ?
(( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )) (لقمان 13) إلى أن يقول ? (( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيتك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)) (لقمان 16-19).
والإسلام عندما يولي هذه العناية للأطفال إنما يرمي من وراء ذلك إلى الإصلاح الشامل الدائم وإقامة العدل وإفشاء الخير والسعي بالفرد نحو الكمال الإنساني.
والتعاليم الإسلامية الخاصة بالنشء هي خير دستور لتكوين وبناء الرجال الصالحين الذين لا يسعون في الأرض إلا بالحق والخير والعدل .(1/45)
فمن هذه التعاليم الراقية أن أول ما يسمع المولود صيغة الآذان المبارك وما يحويه من توحيد ونداء إلى الصلاح والفلاح .. ثم هو يتدرج ويعيش في محيط تملؤه الربانية والحياء والصدق والأدب والوقار? لا مجال فيه للكذب والظلم والفحشاء .. هذا طبعا له آثاره وثماره الطيبة في تحصين المجتمع ومناعته وإصلاحه.
ووصايا رسول الرحمة والإنسانية صلى الله عليه وسلم للطفولة كثيرة وقيمة ومما يحضرني منها على سبيل المثال لا الحصر ?
أدبوا أولادكم على حب نبيكم و آل بيته وتلاوة القرآن. ?
ما نحل والد من نحل افضل من أدب حسن.?
يا غلام سمً الله وكل بيمينك وكل مما يليك ... الخ ?
فمتى يحقق المسلمون وصايا القرآن الكريم وتعاليم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في أبنائهم وأنفسهم وأهليهم كي ينتشر الحب والفلاح وتسعد الإنسانية جمعاء في ظلال هذا الدين الرباني القويم.... وبذلك نقطع على العابثين والهدامين كل سبل يسلكونه لنشر الدمار والخراب ونضيع عليهم كل فرصة يقتنصونها للنيل من مقومات الإنسانية وتدنيس القيم والأخلاق.
هوامش ?
(1..2..3) أسرار الماسونية - الجنرال جواد رفعت اتلخان.
(4..5) الإسلام في وجه الزحف الأحمر- الشيخ محمد الغزالي.
(6..7) جريدة الصباح التونسية- يولية( تموز) 1980 م
(8) منار الإسلام- العدد 3- السنة 7- ص 57.
الأسرة المسلمة?
أطفالنا
وسيئات المجتمع
إن النظام الوضعي- أيا كان وحيثما كان- له أثره وانعكاساته السيئة وانتكاساته النكدة .. على جميع خلايا المجتمع بما أنها تتحرك في ظله ووفق برامجه وتوجيهاته وبما أن الأنظمة الوضعية عفنة مائعة في مجملها فمن الضروري أن تأخذ هذه الخلايا نصيبها من الانحلال والتعفن والميوعة .(1/46)
ومن هنا يفهم وضع الأسرة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم ... هذا الوضع المزري الذي تردت فيه. ولا جرم فالقوم ابتعدوا عن إسلامهم باتباعهم المنهاج الوضعي الخاطئ وحبسوه "مصحفا" في الخزائن تاركين تعاليمه نابذين لخلقه متقاعسين عن تحقيق مواصفات المسلم الصادق.
فالتقاليد في البيت والشارع لا تلتفت لحلاله وحرامه ولا تكترث بفرائضه أو نوافله ...
والإسلام -كما جاء- عقيدة في القلب وقانون في الحكم وقواعد في الأخلاق ونظام في البيت والشارع ويستغرق العمر كله من المهد إلى اللحد.
ولعل من ابرز صور هذا التردي في ظل النظم الوضعية المهترئة ما يظهر في تفريط الآباء والأمهات في إنفاذ وصية كفالة الأبناء وتربيتهم على الوجه الشرعي المطلوب ومراعاة لأمانة الحضانة الشرعية لفلذات الأكباد وما توجبه هذه الحضانة من سهر واع وحزم جدي في تحصين الطفل من كل انحراف في السلوك والمعتقد.
الطفل والبيت
إن البيت له أثره الأول في سبك "منهجية" الطفل في رحلة عمره وسيئاته- أي البيت- عميقة الأثر في سلوكه وخلقه وعقيدته.
إذ هو بمثابة الإعداد المسرحي الأول الذي ينقل فيه الطفل خطواته التدريبية ويتحرك فوقه وفق منهاج خاص- خاطئا كان أو صائبا- فالطفل لا يخرج إلى الشارع ومنه إلى المجتمع العام إلا وقد اكمل تدريباته نطقا وحركة ... زيادة على أن البيت يمثل مرضع هذا الناشئ الصغير الذي يجرع منه لبنه كما يأخذ عنه سلوكه العفوي الذي سيؤثر عليه شابا و كهلا.(1/47)
فمن أين تتأتى هذه السيئات؟ مأتاها الأساسي- طبعا- هي تلك الأرضية الرخوة التي تقوم عليها أرجاء البيت.. المجتمع الصغير.. الأب والأم و الإخوة... وهي أرضية هاربة لاحقة.. هاربة من ذاتيتها وأصالتها الإسلامية العربية وأخلاقياتها السامية وتقاليدها السمحة ومنهاجها الحياتي الخاص حيث لباس الأم المحتشم الساتر وعفة الأخت ووداعة الأولاد وقوامة الأب وحيث الجو الأسرى الهادئ والفياض بالحب والاحترام والبر والأدب .. ولاحقة بكل سراب غربي براق في مظهره الخادع خبيث في باطنه القذر فهذه الأرضية بهذا الوجه النكد الكالح هي ابلغ وأنكى في ازلاق الطفل وتمييعه.
فقد بات البيت العائلي في معظم الجهات واغلب الأحيان يشكو من انفصال تلك العلاقة المقدسة بين الأرض والسماء.. تلك العلاقة الربانية التي يقوم عليها البيت المسلم والتي تمثل العامل القوي في تماسكه وصلاحه وعفته ودوامه والتي متى انقطعت اجتثت أركانه وزلزلت أرضيته فتختل علاقة الوالد بولده والأم بابنتها ويذبل سلطان الأب على الأهل وفي غيبة كل هذا تجد الذرية مجالا مفتوحا للتمرد والمروق والعصيان وتطغى الزوجة وتسود الفوضى . فقد طالعتنا إحدى الصحف اليومية بخبر مزعج مفاده أن شابا نشا بينه وبين والده -الشيخ- خلاف فعمد إلى إضرام النار في المنزل حتى أتت على كل ما فيه.(1/48)
ثم إن نزع الآباء والأمهات لحالة العبودية الحقة لله تعالى ومن ثم تكاسلهم عن تحقيق تعاليم الدين وإقامة شرائعه التعبدية مع تعرية النفس من الرادع الأخلاقي لأمر خطير جدا.. فجل الأمهات تاركات للصلاة مضيعات لحقوق رب العالمين متبرجات بزينة فاضحة كذا الآباء في اغلبهم متقاعسون عن أداء الواجبات الدينية على الوجه المطلوب ... مشغولون بالكسب من حلاله وحرامه ملهوفون على الدنيا... كل هذا- طبعا- قد ضيع على الطفل- الضحية- كثيرا من فرص الاستقامة في حين نشطت وسائل أخرى خطيرة حتى بهتت شيم الحياء والعفة وذبلت مقومات الرجولة وركضت مكانها خصال ذميمة ملأت البر والبحر فسادا.. فاصبح ملء سمع الطفل خليط من شتم وفحش وقذف وملء بصره عري وتهتك وتخنث وملء فكره غموض وضباب ..يمزق أيامه بين ثغاء التلفزيون وخوار المذياع وجنون "البيك آب" حتى نما النشء المسكين في فراغ مفزع من الروحانية الحقة مما جعل القلوب تقسو والسلوك ينحرف والأخلاق تنهار.
الطفل والإعلام
إن الإعلام بوسائله وخاصة- التلفزيون- له جنون ذو فنون في دنيا الأطفال فقد اصبح هذا الجهاز المشاهد بمثابة المدرسة الأم الملقنة والموجهة.. المرغبة والمحذرة الآمرة والناهية... يأخذ الصغار منها اغلب تصرفاتهم وسلوكهم ويكيفون وفق تعاليمها حركاتهم وسكناتهم وينسجون على مثالها لباسهم الاجتماعي? جدهم وهزلهم..قفزهم وجريهم..بسماتهم وضحكاتهم.. حتى اصبح هذا الطفل -غواري- اللهجة وذاك الطفل -كلثومي- النغمة وهذا الثالث- شارلي- الحركات والقفزات وهذا الرابع- كلايي- اللكمات.(1/49)
وبمرور الأيام وكما غرس التلفاز الأمريكي في الأجيال الأمريكية الأخيرة حب الجريمة وكما غرس التلفاز الأوروبي في نفوس مشاهديه من الأطفال والشباب الرذيلة والميوعة والتمرد وذلك بما يبثه في الحصص المتتابعة من مسلسلات وأفلام خليعة وحمراء في القتل والاغتصاب والتهور... فستدور الدائرة على النشء العربي المسلم إن دام الحال على ما هو...
فقد أجرى أحد الكتاب بعد محاولة اغتيال- ريجان- إحصائية ظهر منها أن الولايات المتحدة يقتل فيها بالرصاص فقط حوالي عشرة آلاف شخص في السنة الواحدة أي بمعدل ثلاثين جريمة قتل في اليوم الواحد والأغرب من هذا أن الكاتب نفسه وجد إحصائية أخرى تقول إن الشخص الأمريكي حين يبلغ السادسة عشرة من عمره يكون قد شاهد خمسة عشر ألف ساعة من أفلام القتل والعنف في السينما وبرامج التلفزة أي أن الشاب الأمريكي يبلغ سن المراهقة وقد رأى من الأفلام عن القتل والعنف والنسف والاغتصاب والاعتداء كمية تكفيه لأن يصبح متشبعا وربما مغريا ومثيرا.
ولقد بدأت انعكاسات البث المائع والمسلسلات الخليعة والأفلام الإجرامية تؤتي أكلها في نفسيات وسلوكيات هذا الجيل ونظرة منصفة في الصحف اليومية وما تنشره على صفحاتها الخاصة من القضايا والمحاكمات تبين لنا مدى هذا الارتكاس النكد ? مراودات في الشارع والحدائق والمحطات.. سرقات متقنة ومختلفة حسب الموضة المبثوثة على الشاشة.
وبعد....
هل نقف مكتوفي الأيدي تجاه كل هذا ؟؟؟
ما هي التدابير الناجعة التي يلزمنا اتخاذها كي ننقذ الطفولة البريئة من الانحلال والتفسخ الحضاري والتردي السلوكي والخلقي؟
أرى من الضروري التعجيل بتنفيذ الآتي ?(1/50)
أولا ? تحصين الأسرة من "التغريب" مع رفض كل ما يفضي إلى سلوك مرتاب وخلق ذميم ومظهر مزر وإرجاع البيت إلى إطاره الإسلامي وإحياء التعاليم الإسلامية السامية حيث الأمومة الدافئة الصادقة بحنانها الفطري الشامل ورحمتها الحانية الشفيقة ولبنها الشافي المغذي وحيث الأبوة الواعية النصوحة المجاهدة والمغذية بالدرهم الحلال.
ثانيا ? تحقيق تعاليم الدين والخلق السامي من طرف الآباء والأمهات والأبناء حتى يشم الطفل أريج الربانية فينمو على الإيمان ويحيا على العبودية لله تعالى.
ثالثا ? إظهار القدوات الحسنة في البيت والشارع والمدرسة لكي يتأسى الطفل بالصالحين ويقتفي آثارهم وينسج على منوالهم.
رابعا ? إصلاح الإعلام جملة وتنقية ما يبث وينشر ويكتب ويشاهد ....
خامسا ? تدريب الطفل على تعلم الشعائر الدينية وحثه على تطبيقها فيؤمر بالصلاة والتدريب على الصيام والرياضات المناسبة ? السباحة وركوب الخيل واستعمال الأدوات النظيفة في اللعب.
عندئذ نستطيع أن نخرج جيلا طلائعيا رائدا كتلك النماذج السامية من أبناء الصحابة والصالحين.
قراءة في واقع العالم الإسلامي
شبابنا في وجه الإعصار الغربي
مدخل:
تجمع جل التقارير المرفوعة من داخل البلدان العربية والإسلامية إلى أجهزة الرصد الغربي للعالم الإسلامي... على تنامي عنصر الشباب في هذه البلدان والقوى العالمية الغاضبة والحاقدة في أعماقها على الإسلام والمسلمين يفزعها هذا التنامي ويرعبها أن ترى هذا العالم- المتخلف- يزخر- بمثل هذه الطاقات البشرية الشابة وذلك لما ترى فيها من الخطر المستقبلي على استراتيجيتها المهيمنة وسيادتها الاستعمارية ما لم تسارع جادة وحازمة بسد جميع المنافذ أمام هذا التدفق البشري وتجميع كل الوسائل المادية والأدبية المؤثرة ورصدها لخنق هذه الطاقات وتقليص فاعليتها وتهميش حركتها.(1/51)
ولهذا تراها على اختلاف مشاربها شرقية كانت أم غربية شيوعية أم رأسمالية من أقصى اليمين أم من أقصى اليسار.. تحشد كل ما لديها من فكر ومكر وتقنية في إطار تخطيط محكم ودراسة دقيقة وشاملة حتى تتمكن من تدجين هذه الشبيبة الإسلامية وتوجيهها إلى غير صالح مجتمعاتها ورسالتها الحضارية والإنسانية .
الواقع الممهد?
ولقد مهد الواقع الموضوعي السياسي والثقافي والفكري والتربوي والاجتماعي المتردي في عمومه والمحتضن لهذه الشبيبة ... مهد للغرب وللقوى المتربصة سبل التنفيذ ومنح الأعداء فرصا مجانية لتمرير الخطط العدوانية المستهدفة أساسا ضرب الإسلام وتحطيم المسلمين.. وهذا ما عبر عنه المفكر المسلم مالك بن نبي رحمه الله بالقابلية للاستعمار... وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى ما يسميه المهندس حسن فتحي ب"الاستعمار الذاتي"
ذلك ?" أن المتمعن في دراسة أحوال المجتمعات الإسلامية على اختلاف أمكنتها وأقطارها يلاحظ ما تعانيه هذه المجتمعات من مشاكل ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية عديدة وهو إذا ما أطال التمعن والتفكير في هذه المشاكل فانه يجد أنها- على الرغم من تعددها وتنوعها- ترجع إلى أسباب أولية رئيسية قليلة نسبيا. يأتي في مقدمتها- في نظرنا- تخلي المسلمين عن التطبيق الكامل السليم لتعاليم دينهم وأحكامه في شؤون حياتهم كافة وتخلفهم الفكري والتربوي في حاضر حياتهم.(1).
ملامح الواقع الفكري والثقافي :
يكاد يجمع المهتمون بقضايا الشباب ومشكلاته في عالمنا الإسلامي- والعالم العربي جزء منه- على أن السواد الهائل من هذا الشباب يعيش أزمة توجيه فكري وثقافي ويعاني من درن الموارد التثقيفية ومن تلوث المادة التعليمية واضطرابها.(1/52)
والأمة التي يعيش دماغها الاجتماعي ? اعني شبابها الواعي الطموح .مثل هذه الأزمة الحادة ويرزح تحت حملات التمييع الأدبي والتضليل الإعلامي والتشويه التاريخي... لن تستطيع إثبات ذاتيتها في خضم المعترك الحضاري ولن تقوى بالتالي على الصمود أمام إعصار القوى المضادة وما أكثرها وأشرسها على أمة الإسلام..
وهذا له أثره البالغ- خاصة- على أمة أنيطت بها أمانة القيادة والشهادة على العالم. (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ...)) (البقرة 143) وتقديم الأسوة المبدعة والنموذج المشرق في شتى المجالات الحياتية والحضارية.. ((كنتم خير أمة أخرجت للناس ...)) (آل عمران 109) وهي تعيش في عصر تعددت فيه الثقافات والفكريات والأدبيات مستوى الترف والزيف و(الفولكلور) لترتقي إلى مستوى التخصصات العالية والتخطيط المحكم والمنهجية الهادفة .
والمتأمل في الواقع الثقافي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يجد أن الوضع جد قلق ? إذ ما تزال الثقافة في مجتمعاتنا كما يقول الدكتور علي الراعي تقبع في وضع قلق و ذليل . وتتوالى عليها المواقف الضارة واحدا بعد آخر .. بعضهم ينظر إليها على أنها ترف وتزيد يمكن الاستغناء عنهما .وبعضهم يراها سلعة بائتة لا تغل إيرادا لقاء ما يبذل لها من مال .. وبعضهم يعرفها على حقيقتها? صانعة للروح ومبدعة للعقل وحافزة إلى الرغبة في التغيير فيقفون منها موقفا عدائيا ويحاربون أصحابها بشتى السبل.. أحيانا تحت شعار "عقد المثقفين" أحيانا أخرى بحجة أن أبناء الوطن العربي المعاصر يحتاجون إلى الأمن قبل الرأي وثم ارتفع شعار "أهل الثقة وليس أهل الخبرة" الذي حجب عن المجتمع العربي خيرة العقول ودفع بها إلى الهجرة حيث تخدم غيره بكفاءة وتميز(2) . ومن ثم فسح المجال أمام القيادة الهشة والمستغربة لتتصدر منابر التوجيه والتلقين وتمسك بمقاليد التنظير والتثقيف.(1/53)
وتأزم الواقع الثقافي ناتج في الحقيقة- عندي على الأقل- من أن المؤسسات الثقافية والإعلامية المهيمنة على الساحة والتي بيدها التوجيه والتخطيط والإرشاد تفتقر إلى فلسفة خاصة . أي تفتقر إلى مبادئ ومعتقدات وأسس واهتمامات ومثل وقيم نابعة من أصالتنا الإسلامية وانتمائنا الحضاري الإسلامي وتستهدف ترشيد الحركة الثقافية والفكرية وتوجيهها وجهة حضارية توحيدية .. تتناغم وطموحات الواقع الإسلامي.
وفي غياب مثل هذه الفلسفة من الطبيعي أن يتردى الوضع الثقافي ويضطرب المناخ الفكري ويمسي عالة على غيره متلهفا إلى التقاط نفايات الثقافات الأجنبية واصطياد بل واحتضان الوافد الفكري والفلسفي كيف ما كان ومن حيث جاء.
و إذا انتقلنا إلى تأمل الواقع التعليمي في العالم العربي والإسلامي وجدنا أن السياسة التعليمية والتربوية هنالك ليست بأحسن حظا من السياسة الثقافية فهي تمتاز بتناقضات في المضامين واضطراب في الأهداف واغتراب في المنهج والشكل . ولن اخذ على ذلك مثلا غياب وحدة الهدف من السياسات التعليمية والتربوية في البلدان العربية .. فبيتما نجد الهدف الاجتماعي الذي يرمي إلى تربية المواطن وإعداده لكي يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات ويحترم الحقوق العامة والحريات ويتفاعل بروح إيجابية مع الآخرين.. يحتل 18 نقطة من جملة أهداف التربية في الأردن و 16 في الكويت نجده يقتصر على نقطة واحدة في المغرب وعلى 4 نقاط في تونس..
و إذا انتقلنا إلى الهدف الديني الرامي إلى إعداد الفرد ليكون مؤمنا وصالحا والى تحقيق الخلق القرآني في المسلم وتنمية الفكر الإسلامي المنهجي وتمكين العقيدة الإسلامية وترسيخها في نفسه ... فإننا نجد هذا الهدف ملغى من قائمة أهداف التربية والتعليم في بعض البلاد العربية بينما نجده يحتل 19 نقطة في بعضها الآخر.
وقس على ذلك جملة من الأهداف التربوية الأخرى كالهدف الوطني والهدف الجهادي والقومي والأيديولوجي...(1/54)
فهذا الاضطراب في الأهداف لن يفرز إلا نماذج بشرية متنافرة لا تربط بينها غاية موحدة . وأنماطا من الإنسان العربي المسلم لا تجمع بينها إلا سمرة البشرة وتقارب الأسماء.
و إذا كان بعضهم ينفي- مجاملة أو مكرا- حصول مثل هذا الاضطراب وواقع هذا التردي في حياتنا الثقافية والتعليمية ومن ثم تراه يسعى حثيثا لطرح كل ما من شانه أن يضفي نوعا من الحياة والحركة والديناميكية على هذا الواقع فإن الغرب وهو- ذكي وماكر كما اعتقد ويقظ إلى ابعد حد- لا يخدع نفسه ومؤسساته بتجاهل هذا السقوط بل هو يعلم كل التفاصيل ويعد لكل ثغرة فيه ما يلائمها لصالحه طبعا ومن ثم راهن على تصدبر مذهبياته الهدامة وعقائده الملحدة ونفاياته الثقافية المائعة موقنا بأنها من أنجع الوسائل التي يجب أن يعتمدها في تنفيذ أغراضه الاستعمارية وتكميل أدواره العدوانية المتمثلة أساسا في إجهاض العالم الإسلامي وذلك بتذويب الذاتية الإسلامية وتمييع علاقة المسلمين بكتابهم ومن ثم وهذا هو الهدف الأكبر إقصاء الإسلام عن ساحة التوجيه والفعل والحركة...
وهذا التوجه الغربي الجديد نحو استعمار العقول بعد استعمار الأراضي وطمس ذاكرة الأمة بعد استلاب كنوزها وامتصاص عرق رجالاتها .. هذا التوجه لم يأت صدفة ولم يكن ارتجاليا بل جاء نتيجة دراسة وتحليل واستقراء للوضع العربي والإسلامي- المتخلف- وكان المستشرقون حداة القوم في هذا الأمر فهم الذين اخذوا على عاتقهم أو بالأصح وجدوا ليقوموا بدور الممهد للولوج إلى العقل المسلم.(1/55)
فقد كانوا يدلون قومهم من خلال ما يدرسون ويبحثون ويكتبون عن كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين عقيدة وتاريخا وثقافة وتراثا... على نقاط الضعف لدى المسلمين قصد الاعتماد عليها والولوج من خلالها إلى الحياة الإسلامية لتمييع مقوماتها وزلزلة بنيانها . ولعل اخطر ما تمخض عنه الفكر الاستشراقي في هذا المجال هو اقتراح المستشرق الهولندي "ستوك هوروغونجي" فقد اقترح هذا الأخير تشكيل تيارين رئيسيين هما التيار القومي والتيار الماركسي وطرحهما في ديار المسلمين لضرب قوتهم وتذويب فاعليتهم وتفتيت وحدتهم زاعما بأن التيار القومي كفيلا بإضعاف الحركة الإسلامية وأما التيار الماركسي فهو على حد تعبيره كفيل بنشر الفساد والإلحاد.
وجولة استقرائية لحياتنا المعاصرة وواقعنا الحاضر على طول عالمنا العربي والإسلامي تريك محصول هذا الاقتراح الخبيث.
ولعله من المناسب أن نعرج قليلا لتوضيح طبيعة المعركة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي في العقود الأخيرة من هذا القرن .. يقول الأستاذ "محمود محمد شاكر" (..لم تكن المعركة في ميدان واحد بل كانت معركة في ميدانين .. ميدان الحرب وميدان الثقافة . ولم يلبث العالم الإسلامي أن ألقى السلاح في ميدان الحرب لأسباب معروفة أما ميدان الثقافة فقد بقيت المعركة فيه متتابعة ... وكانت هذه المعركة اخطر المعركتين أبعدهما أثرا أشدهما تقويضا للحياة الإسلامية والعقل الإسلامي .. وكان عدونا يعلم ما لا نعلم.. كان يعلم أن هذه المعركة هي معركته الفاصلة بيننا وبينه...) (4).(1/56)
ولو عدنا قليلا إلى التاريخ محاولين تفهم الأساس السيكولوجي لأقدم العلاقات بين العالمين الغربي والإسلامي لوجدنا أن ما يفكر الغربيون فيه ويشعرون به نحو الإسلام اليوم متأصل-على حد تعبير محمد أسد-في انفعالات وتأثيرات إنما ولدت في إبان الحروب الصليبية.. إن الأذى الذي جلبته الحروب الصليبية لم يقتصر على اصطدام استعملت فيه الأسلحة بل كان أولا وقبل كل شيء أذى عقليا نتج عنه تسمم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي ... وقد يبدو من مفارقات التاريخ أي يظل هذا الحقد الغربي القديم ضد الإسلام قائما بطريقة لا شعورية في ومن خسر فيه الدين القسم الأكبر من تأثيره في مخيلة الغربي..
وتستغل الصهيونية الحاقدة هذا الوضع بين العالمين الغربي والإسلامي لتنفيذ استراتيجياتها العدوانية وترسيخ أقدامها هنا وهناك. ويأتي اقتراح "ستوك" تلبية مباشرة أو غير مباشرة لنداء حكماء صهيون في بروتوكولاتهم السامة التي يرمون من ورائها إلى تدمير العالم وإخضاع الامميين لسيطرتهم العنصرية وذلك بنسف الإيمان في النفوس ونشر المجون والفساد .." يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان و أن تكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إثمار ملحدين."
ونحن نعلم انه منذ مؤتمر بازل بسويسرا ومفكرون يهود يسعون بكل جدهم وجهدهم ومكرهم وحيلهم لهدم الأديان ونسف العقائد الصالحة وذلك عن طريق الترويج المدروس والمخطط للمذاهب الاجتماعية والسياسية والفكرية والبيولوجية .."يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل كمان لتسهل سيطرتنا.. إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى شيء مقدس في نظر الشباب ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية ... لقد رتبنا نجاح داروين وماركس وفرويد بالترويج لهم وان الأثر الهدام للأخلاق الذي تحدثه علومهم في الفكر غير اليهودي واضح لنا بكل تأكيد .."(1/57)
وعليه فقد سارع الغرب بوضع المقترح " الستوكي -الصهيوني" موضع التنفيذ الجازم والمدروس فبادر بتصدير نفاياته الفكرية الهادمة وقشور ثقافته الهابطة وترهات فلسفاته الملحدة إلى ديار المسلمين ... بعد أن تركهم عند جلائه العسكري على درجة كبيرة من الأمية العقلية والاجتماعية وعلى درجة اكبر من الأمية التاريخية والدينية. ولقد مرر الغرب حطته عبر قنوات ثلاث?
*احتواء المناهج التعليمية
*تعكير الموارد التثقيفية
*صناعة مفكرين مستغربين
وسنتحدث عن هذه الوسائل الخطيرة التي اعتمدها الغرب بشيء من التفصيل.
أولا.. المناهج التعليمية
فأما عن احتواء الغرب لمناهج التعليم فلنجاعتها وعمق تأثيرها وديمومة فاعليتها ذلك أن التعليم كما جاء على لسان أحد رؤساء الجامعات قد برهن على انه من اثمن الوسائل التي استطاع المنصرون أن يلجأوا إليها في سعيهم للتنصير إذ تمتد آثاره إلى السلوكيات والآداب والعلاقات واثر الكلمة اعمق من اثر الرصاصة.
وقد أدرك اليهود منذ مؤتمرهم المشؤوم عام 1898 م أهمية مسك الجهاز التعليمي ومدى قدرته على التأثير والتغيير ومن ثم راهنوا على كسبه وافتكاكه بأي ثمن ليمرروا من خلاله ما يريدون إيصاله إلى عقول الآخرين من أفكار مزيفة وعقائد هادمة يحدوهم اليقين في حصول الغاية من ذلك لأن عقل المثقف يتكون يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة وهو يتقبل بالتربية والتعليم والاجتماع أشياء يستسلم لها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل وبالمكر الخفي وبالجدل المضلل وبالمراء المتلون وبالهوى المتقلب...
ثانيا .. تعكير الموارد الثقافية
وأما عن تعكير الموارد الثقافية من صحافة وإعلام أدب وفنون فذلك راجع إلى الدور الخطير والحساس الذي تؤديه في الوقت الحاضر.. إنها تقوم-كما صرح بذلك حكماء صهيون في البروتوكول الثاني عشر-بتهييج العاطف الجياشة في الناس وإثارة المجادلات الحزبية الأنانية التي تكون في معظمها فارغة ظالمة زائفة...(1/58)
وراجع كذلك أيضا إلى كون هذه الموارد باستطاعتها توجيه الرأي العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة والشعارات المزيفة التي يمكن أن تكون تقدمية أو تحررية.. وذك بما تنشره وتبثه من الأدب المريض القذر والفنون الهابطة والبحوث الكاذبة ... وكلها تحت غطاء من ادعاء التجديد والتقدمية والإبداع والموضوعية..
ثالثا.. صناعة المفكر المستغرب
وأما عن صناعة المفكر المستغرب فلأهمية قيامه بدور دليل الطريق للاستعمار ولعل في اعتراف الفيلسوف الوجودي الفرنسي" جان بول سارتر" توضيحا اشمل وتحليلا أوسع وهي في ذات الوقت شهادة من أهلها.. يشير سارتر في مقدمة صدر بها كتاب المفكر الإفريقي "فرانس فانون" (المعذبون في الأرض) ... إلى أسلوب صناعة المفكر الشرقي في الغرب ومجال استخدامه فيقول " كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من إفريقيا واسيا ونطوف بهم بضعة أيام في امستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس فتتغير ملابسهم ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو ... ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجات أوروبية ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية ... كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا ثم نرسلهم إلى بلادهم.. وأي بلاد؟؟ .. بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا ولم نكن نجد منفذا إليها.. كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا .. ولكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم كنا نصيح من امستردام أو برلين أو باريس " الإخاء البشري" فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي افر يقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي إفريقيا ... كنا نقول " ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة " وكانوا يرددون .. هذه أصواتنا من أفواههم وحين نصمت يصمتون إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في(1/59)
أفواههم..
... هذا إذن بإجمال عن أهمية هذه القنوات التي اعتمدها الغرب في تصدير إعصاره العقيدي والثقافي إلى العالم الإسلامي مستهدفا بذلك تشويه الحياة الإسلامية وتمييع العقل المسلم وتقليص فاعلية الشباب الإسلامي.
....وبعد ..
من المسلّم به لدى أولي الألباب أن الغرب لن يتخلى يوما عن ترصد العالم الإسلامي ومعاداته وحشد كل مؤثرات الضعف وعوامل التهميش فيه... مهما تغيرت رموزه السياسية ومهما تبدلت العوامل الضاغطة لديه .. ذلك أن ضرب العالم الإسلامي كان ولا يزال بندا ثابتا يتصدر سلم الأولويات في الاستراتيجية الغربية .
وهذا يستوجب من أهل الذكر في عالمنا الإسلامي البحث الجاد عن صيغ فاعلة وسليمة لكسر جليد هذا الحقد الغربي وتخطي عقبة التحدي الحضاري.
و أن في الرجوع الواعي إلى الإسلام وتحقيق أبجدياته وتعاليمه عموديا وأفقيا في واقعنا المعاصر ليغني عن أي حل مستورد مهما كان مصدره خاصة و أن التجارب الماضية قد أثبتت فشل الحلول على كثرتها وتنوعها وعلمتنا أيضا أن الجسد الإسلامي يلفظ كل صيغة غريبة عن ذاته وجنسه.
هوامش
(1) من أسس التربية الإسلامية ص 17 للدكتور عمر محمد التومي الشيباني.
(2) المجلة العربية للثقافة ص 43 مقال الإنتاج الثقافي العربي المعاصر .. للدكتور علي الراعي .. السنة 3
(3) انظر الجدول المفصل لذلك بمجلة شؤون عربية 14. ص139.
(4) انظر المقدمة الرائعة التي صدر بها الأستاذ محمود محمد شاكر كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ص10.
الشباب الإسلامي
الفاعلية والعوائق(1/60)
إذا سلمنا بأن العنصر البشري هو المرتكز الرئيس لكل صرح حضاري و المحرك الأول لكل تغيير اجتماعي و اللبنة الصالحة والمتينة لكل بناء و رقي و إذا اعتبرنا أن الشباب يمثل العصب الحي والقوي لذلك المرتكز والنبض الدافع لذلك المحرك والمادة المتجددة لتلك اللبنة فإننا نستطيع القول بان العالم الإسلامي يملك اكثر من فرصة لانطلاقة حضارية رائدة وشاملة إذ هو يزخر بقوافل هائلة من الشباب الذي يمثل النسبة العالية والكثيفة في الهرم الإحصائي للسكان . وهي ثروة يحسد عليها ولا يمكن تعويضها بأي حال خاصة إذا عرف كيف يرعاها و يوجهها و ينميها و يستغلها الاستغلال اللائق...
غير أن جل الدراسات الميدانية للحالة الاجتماعية في العالم الإسلامي تفيد- للأسف- بأن هذه الثروة الشبابية تعاني من مشكلات متعددة ومتفاوتة التعقد تعرقل فاعليتها و تحد من طموحاتها و إبداعاتها في شتى الميادين .
و إذا وصف الشباب بأنه "شعبة من الجنون" وهو وصف يبدو في ظاهره قاسيا إلى حد ما فانه لا يعني بذلك أدنى إشارة إلى المس من مداره العقلية كما يشم عادة من ظاهر الجنون إذا أضيف إلى شيء ما... إنما المراد من هذه الصيغة في- تقديري- هو التعبير عن حماسة الاندفاع وروح المبادرة وقوة الجرأة لدى الشباب عامة. و الشباب الإسلامي خاصة -بحكم عقيدته الحية والموجهة وبحكم مثله العليا الثابتة-هو من أثرى شباب العالم طموحا ومن أحكمه مبادرة و اندفاعا- نحو كل ما هو صالح- و أشده حيوية ومن أقدره- إذا فسح له المجال- على الفاعلية ومن أحسنه آثارا وأشرقه بصمات في الإبداع... و في التاريخ شواهد صادقة على كل ذلك ليس هنا مجال ذكرها .
فمن أين يستمد الشباب الإسلامي فاعليته أو بالأحرى ما هي أهم مصادر فاعلية هذا الشباب..
مصادر فاعلية الشباب الإسلامي(1/61)
(أ) إن المثل العليا و الثابتة التي يتبناها الشباب المسلم- في إطار معتقده و دينه الحنيف الرباني- لا تسمح له بالقعود و الركود ولا بالخمول أو الكسل ولا تمنحه فرصة للتقاعس أو التقاعد عن العمل الصالح.. بل هي تدعوه ملحة و جادة.. مرغبة ومرهبة إلى الكدح المتواصل والإبداع اللامحدود و إلى التسابق والتنافس النظيف و المخلص في كل مجالات الخلق و التجديد والابتكار. و الشواهد القرآنية و الحديثية كثيرة و متنوعة..
قال الله تعالى " و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون " (التوبة 105) و قال أيضا " سارعوا إلى مغفرة من ربكم عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين " (آل عمران 133) وقال سبحانه " سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت للذين آمنوا بالله و رسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " ( الحديد 21) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم " بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا و يمسي كافرا و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا " ( رواه مسلم عن أبي هريرة) و قال صلى الله عليه وسلم أيضا " اغتنم خمسا قبل خمس.. حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك و شبابك قبل هرمك و غناك قبل فقرك " (رواه احمد عن ابن عباس) .
و قال الله تعالى " يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق 5).
و الإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه .. و الكدح هنا بمعنى السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة- لأن هذا السير ليس سيرا عاديا اعتياديا بل هو سير ارتقائي.. هو تصاعد وتكامل.. هو سير تسلق.. و الإنسانية حينما تكدح نحو الله سبحانه فإنما هي تتسلق إلى قمم كمالها و تكاملها و تطورها إلى الأفضل باستمرار- (مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن 148)(1/62)
ذلك أن الطبيعة الإنسانية إذا أهملت رعايتها الجدية و تركت للهوى و الشيطان مالت إلى الانحدار و السقوط ومن هنا ندرك مدى الحاجة الماسة إلى العقيدة الصحيحة و المثل العليا السامية والى الدين القيم لحفظ الإنسانية من السقوط والتردي و حملها في الوقت نفسه على الارتقاء والصعود إذ النفس الإنسانية لا ترنو إلى القمة ولا تواظب على سيرها نحو الكمال إلا بالردع الدائم والجاد والتوجيه الواعي الخالص.. الذي يمثله الدين الحنيف بتعاليمه وشعائره.
(ب) ثم إن عقيدة التوحيد الخالصة التي يلتزم بها الشباب الإسلامي و يحيا على نورها و توجيهاتها ... تعلمه التعامل الصحيح و التفاعل الهادف مع صفات الله تعالى وما أمر به من خلق كريم باعتبارها هدفا ساميا و رائدا عمليا في طريق رحلة الكدح والجهاد نحو الله سبحانه.
(ج) ثم يأتي دور الأسوة الحسنة و المتمثلة في القيادة النبوية المعصومة وهي مصدر واقعي ملموس و حي لفاعلية شبابنا الإسلامي فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة العملية والرائدة لكل أعمالنا و أفعالنا و أقوالنا... لم يسترح يوما من الكد و الجد ولم يتخل لحظة عن حث المسلمين على الإبداع والتفكير و العمل الصالح والجاد...
فتلك القيادة النبوية المشرقة.. الواقفة في الصفوف الأمامية من ساحة الجهاد والمتحملة لأتعاب الهجرة وظمأ النفير والمشاركة في كل نشاطات المجتمع.. لهي خير مثال و خير رائد وأمتن مصدر لفاعلية هذا الشباب الرباني.
إلا أن كل تلك المصادر التي ذكرنا لن تؤتي أكلا ولن تحرك ساكنا و لن تغير شيئا ما لم يتشبث الشباب بتعاليم قيادته المؤمنة و يلتزم الالتزام الصادق المستمر بأوامر دينه و توجيهات عقيدته وما لم يتبع آثار رسوله صلى الله عليه و سلم ويسير على سنته ومنهاجه.(1/63)
فإذا حقق ذلك فانه يصبح- كما تحقق في أسلافه الصالحين- قوة فاعلة ومؤثرة وروحا حية خلاقة ويدا محركة وفكرا مبدعا. ذلك أن الشباب المسلم يملك الطموح ويملك الطاقات وهذان شرطان رئيسان لتحقيق الفاعلية على ارض الواقع . فالفاعلية لا تنطلق من فراغ و لا تقوم على الخمول والكسل.. لا بد من طاقة تزودها و تغذيها و تحفظ توازنها ولا بد أيضا من طموح يقودها ويدفعها ويحدوها. وههنا يتبادر سؤال ملح وصريح .. إذا كان الشباب يملك الشرطين الأساسيين للفاعلية أي لديه الطموح والطاقة فأين أثر هذه الفاعلية في الواقع المعاش..
الحقيقة أن فاعلية الإسلاميين في عصرنا الحاضر تقف أمام تحققها عوائق متعددة من أهمها..
(أ) الاستبداد السياسي الذي يوفر مناخا مختنقا توصد فيه أبواب الحريات وتكمم فيه أفواه الصادعين والمنادين بالحق والخير ذلك " أن الاستبداد على مر التاريخ حينما يتحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان يستهدف تمزيق طاقات المجتمع و تشتيت فئاته و بعثرة إمكاناته ومن الواضح أن تشتيتا وتفتيتا وتجزئة من هذا القبيل ...لا يمكن لأفراد المجتمع أن يحشدوا قواهم الحقيقية لتسخير الطبيعة " (مقدمات في التفسير الموضوعي-190-)
(ب) غياب العدالة الاجتماعية وتقلص بل اضمحلال ظل الأمن والضمان الاجتماعي مما يضطر الفرد إلى حشد اهتماماته الكبرى في توفير ما يسد الرمق ويحفظ الكرامة والعرض ولا يجد الوقت ولا الدافع لاستغلال واستخدام مواهبه في الإبداع والابتكار. وللشيخ الغزالي كلام صريح وواقعي في هذا الصدد "...لنعلم أن الرجل مع مواهبه كالقائد مع جيشه. إذا اضطر إلى الحرب في جبهات عديدة أخطأه التوفيق في أكثرها أو في جميعها .ومواهب الرجال عندما توزع على غير ميدان من ميادين الحياة المتشعبة فهي لا تعطى فرصة الانسجام التي تعينها على هضم الحياة والابتكار فيها وإجادة العظيم المنتج من فنونها " (الإسلام والمناهج الاشتراكية).(1/64)
(ج) السياسات التعليمية والطرق الغوغائية (البيداغوجية) المتبعة في التربية والتعليم بمدارسنا والتي تغفل التوجيه الجاد والهادف وتهمل اكتشاف المواهب وصقلها و رعاية الطاقات ولا تشجع على الإبداع إلا في حدود ضيقة جدا.. فكم من طاقة تذوي أمام المدرس ولا يعيرها اهتماما خاصا وكم من إبداعات تطفو على الساحة الاجتماعية ثم تذوي وتموت لأنها لا تجد الرعاية الحانية والتوجيه الصالح.
(د) والعائق الرابع في وجه فاعلية الشباب هو غياب القيادات المعاصرة المبدعة في الوقت نفسه.. المتواضعة في علاقاتها الاجتماعية..
فالشباب كما يقول الدكتور محمد البهي رحمه الله " لديه فراغ كبير في القيادة الإسلامية .. وفقدان الشباب القيادة الإسلامية الواعية يحمل هذا الشباب على أن يستهلك طاقته الإيمانية وطاقته في الدراسة والاطلاع في مسائل هامشية لا خير فيها لإنسان مسلم.. لا في إيمانه ولا في الدفاع عن عقيدته.." (الأمة العدد28 ص54).
فلو قدر لهذه العوائق أن تزول يوما ما من طريق الإسلاميين لرأينا إذن من إبداعات شبابنا وابتكاراته وفاعليته ما تقر به العين ويسر به القلب ويصلح به الحرث والنسل وتسعد به الإنسانية جمعاء.
وقفة مع?
اعترافات طالبة ماركسية تائبة
*عندما تغيب الوقاية يحصل المحظور... هذه قاعدة ثابتة..
*وعندما يتساهل الأولياء في مراقبة الأبناء... وتتقاعس الأسرة عن القيام بدورها في حراسة النشء وتحصينه وتحرص بدل ذلك على تضخيم وجبة النمو الجسماني على حساب وجبة النمو الروحاني....تحصل الكارثة.. وتجد الشياطين فرصتها سانحة ومهيأة لممارسة الإقطاع والتضليل على الطفولة والشباب.
*وعندما يفرض- الاختلاط- كصيغة واقعية لا تنازل عنها في مؤسساتنا التربوية والتعليمية ويفلسف بكونه ضرورة اجتماعية ونمطا حضاريا .. يصبح البكاء على الشرف المهدور والأخلاق المذبوحة متهما.. وضربا من الحرث في البحر..(1/65)
*وقضية الحال التي سنتوقف عند بعض تضاريسها ... شاهد من أهله على صحة ما نقول فهي نتيجة حتمية لغياب عامل الوقاية النفسية والاجتماعية من مخاطر التلوث البيئي فكريا وثقافيا وأخلاقيا..
وثمرة من ثمرات القصور الأسرى في المراقبة والتربية.. ومن جانب ثالث ما هي إلا إفراز طبيعي من إفرازات الاختلاط المفتوح الذي ينعق به المغرضون..
...فإلى هذه الاعترافات..
.. حتى لا تتكرر المأساة..
"صحيح أني لم اعد فتاة تستحق الاحترام.. ولكن مازال في قلبي شيء من الشجاعة يدفعني إلى كشف الحقائق المخفية وفضح النفاق السياسي الماركسي حتى لا تغتر فتاة غيري... فتتكرر المأساة وحتى يراقب الأولياء بناتهم في الجامعة لكي لا ينزلقن في الماخور السياسي وينخدعن بفكر الرذيلة".
بهذه الشحنة من الحسرة والندم وقعت طالبة جامعية وصفت نفسها بالتائبة على صفحة من صفحات إحدى جرائدنا الأسبوعية* ضمنتها اعترافات جريئة وشجاعة عن رحلة الضياع والضلال التي عاشتها في نفق الماركسية وعن ممارسات الوأد والاستغلال والإقطاع التي تعرضت لها من طرف صعاليك الدرب ورفاق المرحلة بعد نجاح عملية الغسل الماكر لدماغها وتنفيذ أدوار الترغيب والتغرير لاستقطابها واحتوائها.
وغايتها من نشر غسيلها على حبل الصحافة ووضع تجربتها المريرة عارية بين يدي القراء هي كما تقول " رغبتي في تحذير كل فتاة على أبواب الجامعة من الوقوع في الخطيئة التي مازلت أعاني من آثارها وتنبيه الأولياء لكي يحموا بناتهم من الوقوع بين يدي النخاسين في أسواق السياسة... فقد كنت ضحية شذوذ الفكر الماركسي بالجامعة وأساليبه السياسية الرخيصة".
الجامعة... وسراب المدينة الفاضلة..(1/66)
التجربة التي عاشتها الفتاة صاحبة الاعترافات كان مسرحها إذن الجامعة. والجامعة كما هو معلوم هي أهم المؤسسات التربوية والتعليمية العليا التي تمثل ملاذ طلاب العلم وعشاق البحث والتخصص... ولكن من جانب آخر ما يزال ركح الجامعات يمثل لكثير من مراهقي ومراهقات المرحلة الثانوية الحالمين منهم بالطيش والتسيب .... مجالا رومانسيا ومدينة فاضلة تبيح لهم تمثيل وتقمص أدوار مختلفة ومتفاوتة لتفريغ الكبت النفسي والاجتماعي المزعوم بعيدا عن رقابة الأهل والمجتمع. وصاحبة الاعترافات كانت واحدة من هذه النماذج المخدوعة. فهي تقر بقولها " أنا طالبة وقد كنت وأنا في المرحلة النهائية من التعليم الثانوي احلم بدخول الجامعة حتى أتحرر من قيود العائلة والمجتمع أعيش في جنة الحرية التي طالما بشرنا بها- التمركسون- من الأساتذة وفي سنتي الأولى من الجامعة كنت على موعد مع سفينة التحرر التي ستقلني إلى- المدينة الفاضلة- فركبتها بلا جواز سفر ولا تذكرة ... وكان ما كان.."
الجامعة... وبضاعة المفسدين..(1/67)
"من يملك الجامعة يملك المستقبل" انطلاقا من هذه المقولة تحرص الشرائع الأيديولوجية على توظيف المجال الجامعي الخصب واستغلال المرحلة الجامعية لنشر طروحاتها وترويج شعاراتها باتباع ممارسات وأساليب تختلف من فريق إلى آخر وتتنوع من فترة إلى أخرى ... من اجل استقطاب أوسع واحتواء اكبر للعناصر المراهقة الجديدة القادمة من الثانوي والباحثة في اغلبها عن انتماء. والتي سيتم استدراجها واحتواؤها غالبا عبر نقاط الضعف فيها والتي بدورها تختلف من فرد إلى آخر. تقول الطالبة المعترفة " لم يمض علي شهر بالجامعة حتى كان اللقاء الأول مع- المهدي المنتظر- الذي أرسله إلى الفريق الماركسي المكلف بمهمة الاحتواء للطلبة الجدد وخاصة- الفتيات الجميلات-.... لقد كان الرفيق متسلحا بوسامة الوجه وطلاقة اللسان ... وسرعان ما شرع في سرد محفوظه السياسي وشعاراته الثورية وحماسته العنترية. فانبهرت بما يقول و-تمركست- على يديه وأنا الفتاة التائهة الباحثة عن مبدأ في الحياة لأثبت به وجودي ". ثم تضيف متحدثة عن الخطوة الثانية قائلة "وبعدها بدأ- الرسول- يعلمني أبجدية الماركسية وهي أن أتخلص من كل ما تربيت عليه من أخلاق وما ورثته من قيم لتتحرر نفسي من العقد وينعتق جسدي من الحرمان "
ولكن هذه الخطوات التمهيدية التنظيرية لا تكفي.. هكذا يعتقد الرفاق أئمة الكفر والفساد فلا بد من التطبيق وإخضاع الفريسة للتجربة الواقعية لاختبار استيعاب المعلومات والأوامر ...ومنح العلامة المسجلة.. تقول صاحبة الاعترافات "ولما أيقن الرفيق المعلم أني أصبحت ثمرة ناضجة حتى انتقل من مرحلة الانتظار والتنظير إلى مرحلة الإنجاز والفعل الماركسي فنهش الثمرة بأنياب الجوع الجنسي ثم ألقى بما تبقى منها إلى بقية الرفاق ".(1/68)
... وبانتهاء الوليمة القذرة تتخلص الضحية من عقدها الجسدية والنفسية ومن قيود العفة والشرف والأخلاق .. وتؤخذ على إثرها إلى بيت العمليات حيث تخضع للدمغجة وغسل الدماغ والتعميد الأيديولوجي ... وتتدرب على مضغ الشعارات الجاهزة ... وترتيل مزامير ماركس وانجلز ولينين ... وبقية فحول القطيع الغبي انه- حسب عرف الرفاق- دور التثقيف الأيديولوجي .... فما هي محاور الدرس؟
محاور الدرس
تقتصر صاحبة هذه الاعترافات في هذا المضمار على ذكر خمس نقاط حساسة هي( المرأة- الأسرة- الشعب- المنهجية والوسيلة).. فماذا تقول..
أ) المرأة
جاء على لسان الطالبة قولها " قالوا لي -عن المرأة- أنها مساوية للرجل ويقصدون من ذلك بأن تتصرف في جسدها بكل حرية فلا تلتزم بأخلاق ولا قيم. ومن حقها أن ترفض الارتباط بزوج واحد. لأن الزواج بمفهومه التقليدي صورة مصغرة لمجتمع الإقطاع والملكية الفردية.... فعليها إذن والحالة تلك أن تؤمن( بالمشاعة الجنسية) أي البغاء الماركسي فالمرأة عندهم جسد يلتهم وأداة تسخر لخدمة الأهداف التكتيكية والاستراتيجية للفكر الماركسي.
ب) الأسرة(1/69)
وتأتي اعترافات الضحية في هذا المجال مشحونة بحرقة الأسى ولوعة الندم حيث أنها برهنت للرفاق الماكرين على حماستها للتطبيق الفعلي أظهرت لهم تفاعلها الجاد والمطلق مع الفكرة والمبدأ ... ولو كان ذلك على حساب أبيها وأمها اللذين غذياها وكبراها وسهرا من اجلها ... ولم تصمد عندها الرابطة الأسرية أمام ولائها للمذهب... ولم تراعي في أهلها الا ّ ولا ذمة حتى لا تتهم بالضعف والردة.. تقول المسكينة " علموني في المدرسة الماركسية أن الأسرة هي نموذج المجتمع البورجوازي المستبد لذا يجب الثورة على نظام الأسرة والقضاء عليه وعصيان الوالدين وهذا ما طبقته بحذافيره مع أمي المسكينة وأبي الشيخ العليل ولقد نالا مني ما يكرهان وياللاسف والحسرة.. مات أبي منذ سنتين وما لبثت أمي أن لحقت به بعد ستة اشهر.. رحلا وهما يحملان في قلبيهما أسى ولوعة على ابنتهما العاقة والمنحرفة ... وتركا لي اخوة مازالوا في سن الدراسة. فآه ثم آه ثم آه "
ج) الشعب
وهو قميص عثمان- كما تقول الضحية- الذي يتكلمون باسمه ويعنفون غيرهم باسمه ويرتكبون كل الموبقات باسمه فهم يرفعون شعار- البروليتاليا- ويمارسون في حياتهم الخاصة سلوكا برجوازيا. فما رأيت مرة قط ولو واحدا منهم يواسي فقيرا أو يتواضع لعامل أو يشارك في عمل اجتماعي مفيد... فكلهم يسعى إلى إشباع غرائزه الحيوانية والى البحث عن الشهرة بواسطة رفع الشعارات الكاذبة "
ولعل من سوء حظ بعض الشعوب في التاريخ المعاصر أن تبتلى بقيادات ونخب من مثل هؤلاء الصعاليك الذين يتخلقون في رحم الماركسية المتعفن يحتكرون مواقع الضغط في أهم مؤسسات مجتمعاتهم ويتحكمون في سياساتها المصيرية وتذوق الشعوب تحت سيطرتهم الأمرين ظاهرا وباطنا ... باسم الثورة والتغيير والتقدمية... والتنمية.. وما ربيع- بيكين- منا ببعيد..
د) منهج النضال وأسلوبه(1/70)
ويعتمد الشعار الميكيافيلي المعروف الغاية تبرر الوسيلة- لذلك- تقول الطالبة التائبة " اصدر ذيول الماركسية تعليمات صارمة تحثنا على التلون بكل لون والاندماج في كل التنظيمات والأحزاب المعادية والعمل على تقويضها من الداخل. وقد شجعونا حتى على الاندساس في - الحزب الدستوري - عندما نتخرج ونتوظف ثم العمل على الوصول إلى مراكز السلطة والمسؤولية فيه.
وأما الوسيلة لتحقيق ذلك وأدوات النضال : فهي الجنس والإغراء : لذلك تقول الضحية : كثيرا ما يسخروننا نحن الفتيات الجميلات لربط علاقات خنائية مع عناصر معادية للحصول على الأسرار أو لكسبها لصفنا...
النتيجة:
وتختم هذه الطالبة اعترافاتها بقولها : ها أنا بعد هذه التجربة المريرة في ماخور المجتمع الماركسي أعود بالغربة والعار وبسكاكين الندم تقطع نياط قلبي وبعين تذرف الندم على شرف مهدور ووالديم ماتا حسرة وكمدا... صحيح أني أصبحت فتاة لا تستحق الإحترام ولكن مازال في قلبي شيء من الشجاعة يدفعني إلى كشف الحقائق المخفية وفضح النفاق السياسي الماركسي حتى لا تغتر فتاة غيري... فتتكرر المأساة وحتى يراقب الأولياء بناتهم في الجامعة لكي لا ينزلقن في الماخور السياسي وينخدعن بفكر الرذيلة".
فهل تجد هذه الكلمات من يفقهها من الأولياء والفتيات حتى لا يتكرر الخداع للذين آمنوا ؟
وهل يكف الناعقون بضرورة الإختلاط في مؤسساتنا التربوية والتعليمية ...بعد ما حصل ما حصل من جرائم قوّضت البيوت ولوّثت المجتمع .. وأفسدت الأخلاق؟
وهل يعي أولو الأمر في مجتمعاتنا الإسلامية خطورة التساهل والتسامح في منح التأشيرة القانونية لأحزاب الهدم والإلحاد ؟؟
...إن في قضية الحال أكثر من عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد...
الأسرة المسلمة
من قضايا الأسرة ?
الفتاة المسلمة
ومعاناة الالتزام
في
مجتمع التغريب(1/71)
لقد بدأ قرننا الحالي يشهد منذ عقوده الأخيرة خاصة ظاهرة مباركة أخذت في التنامي يوما بعد يوم على طول خارطة الوجود الإسلامي والتي تتمثل في العودة الجادة للفتاة المسلمة إلى الالتزام بالإسلام وتجديد الانتماء لهذا الدين الحنيف... والني غذتها الصحوة الإسلامية..
وإذا كانت هذه العودة للإسلام انتماء والتزاما وحركة تعني عندنا- نحن الإسلاميين- بداية النصر ودليلا آخر على إثبات حضورنا الحضاري ... إلا أن القراءة الغربية لصورة هذا الانتماء الواعي وصورة هذا الالتزام الجاد الذي ظلت تمارسه الأخت المسلمة عقيدة وسمتا وحركة وكذلك أدبا وعلما وثقافة وفكرا بعد عهود الجمود ومحاولات التغريب التي تعرضت لها وبعد تجارب التيه التي دفعت إليها ... القراءة الغربية لهذا الالتزام ترى فيه شيئا آخر ? انه يعني بالنسبة لها بداية النهاية لعهود التبعية والتغريب التي ظلت تمارسها القوى الغربية على اختلافها (وأمريكا تابع غربي) ... في ديار المسلمين... كما انه يعني إعلان التحدي الواقعي للغطرسة الغربية والاستعباد الاستعماري .. ورفع علامة " قف" أمام الزحف الإمبريالي المستكبر.. كيف ذلك ؟؟
المرأة المسلمة ومخططات الهدم
ذلك أن الغرب (وأمريكا ملحق غربي ) بصيغه المتنوعة الصليبية منها والماسونية والصهيونية والشيوعية .. كان قد حدد منذ المراحل الأولى لتنفيذ هجومه العدواني الشرس على العالم الإسلامي... المنافذ الفاعلة والمؤثرة للولوج إلى عمق الحياة الإسلامية والميسرة اكثر من غيرها لعملية الهدم والتحطيم والتغريب للمجتمع المسلم.(1/72)
وكانت المرأة المسلمة هي المنفذ الرئيسي الذي ركز عليه الغرب وأولاه اهتماما خاصا واطمئن إليه نظرا للدور الذي يمكن أن تؤديه المرأة في عملية الهدم وتجارب التغريب... وبذلك غدا موضوع المرأة وكل ما يتصل به هو أول ما يستفتحون به معارك الهدم في كيان هذه الأمة " فقد علموا ما نعلمه نحن اليوم من أن الشبهات العقلية لا يمكنها أن تفعل في نفوس المسلمين عشر ما يمكن أن تفعله في نفوسهم الإثارات الجنسية وإذا كان لا بد من شبه فكرية يطرحونها فلا مناص من أن يكون بين يدي ذلك ومن خلفه دوافع أو آثار شهوانية تجند لها المرأة فمن اجل ذلك يقوم الغزو الفكري للمسلمين- مهما تنوعت مظاهره- على عنصر هام لا بديل عنه هو ?" المرأة بكل ما يمكن أن يستغل فيها من عوامل الفتنة والتأثير والإغراء ومن أسباب الإقصاء بها عن رعاية النشء والأسرة.." (1) .
بناتنا.. في مدارسهم
وكان التعليم عموما ومدارس البنات خصوصا الميدان الخصب المرشح اكثر من غيره لتنفيذ الخطة وتمرير الاختيار وممارسة الدور المطلوب نظرا لفاعليته وتأثيره المستمر.. وقد كانت عيون التنصير ولا تزال تولي هذا الميدان وهذا المجال عناية خاصة ويستأثر باهتمامها?
تقول المنصرة "آنا ميلجان" عن كلية البنات الخاصة " في كلية البنات بنات آباؤهن (باشوات وبكوات) وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ النصراني وليس ثمة طريق إلى دحض الإسلام اقصر من هذه المدرسة "
ويقول زميل لها في التنصير موضحا هذا الاهتمام وهذه العناية " إن مدارس البنات في البلاد العربية هو بؤبؤ عيني لقد شعرت دائما بأن مستقبلنا في- سورية- إنما هو بتعليم بناتها ونسائها. لقد بدأنا نشاطنا في ذلك على ضعف ولكن ها هي ذي- المرأة- قد أثارت اليوم اهتماما شديدا في أوساط الجمعيات التنصيرية.." (2)(1/73)
ولقد أدرك هذه الحقيقة الضخمة قطب التنصير الصليبي القس" زويمر" إذ سمع بعض زملائه من العاملين في الدعوة إلى النصرانية يشكو استعصاء المسلم على مكرهم وعجز جهودهم عن التأثير في قلبه وأكد في تعقيبه عليه ? إن ليس غرض التنصير هو مجرد التنصير ولكن أقصى ما يجب على المنصر عمله هو تفريغ القلب المسلم من الإيمان بالله ونقله من جو الإسلام إلى جو الحياة الصليبية ثم قرر أن اقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع المسلم وسلخه من مقومات دينه.." (4)
ويعلق الشيخ محمد المجذوب على فلسفة "زويمر" قائلا ? " ولا جرم أن" زويمر" القس الصليبي الحقود كان على خبرة كبيرة بمنزلة المرأة في حضارة الإسلام إذ أدرك بحق أن مجرد انتزاعها من أحضان هذا الدين كاف لضعضعة الكيان الإسلامي . والمؤسف أن فلسفة "زويمر" قد شقت الطريق إلى التنفيذ لا على أيدي قسسه ومدارسهم فحسب بل عن طريق أذنابهم من بعض حكام المسلمين وخريجي أفكارهم المسمومة.." (5).
اليهود.... ومسألةالعفاف في الحياة الإسلامية
وأما اليهود فقد ركزوا من جانبهم على مسألة العفاف كثغرة من الثغور الحساسة التي حاولوا اختراقها والولوج من خلالها في عملية التمزيق العقيدي والاجتماعي الذي مارسوه في صراعهم وحربهم للإسلام . وذلك ليقينهم بقداسة هذه المسألة ومكانتها في الحياة الإسلامية وما يمكن أن يحدثه أي خدش فيها من انعكاسات وخيمة ومعاناة حادة على مستوى النفس والمجتمع وعلى مستوى الفرد والدعوة.
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ رفاعي سرور " لقد كان أعداء الحركة الإسلامية يدركون ارتباط الدعوة بمبدأ العفاف فكانوا في خط التضاد مع الحركة الإسلامية يحاولون الانحراف بالحركة عن هذا المبدأ.(1/74)
ومن هنا كانت حادثة اليهودي الذي حاول أن يكشف ستر امرأة مسلمة فكان ذلك سبب جلاء اليهود- يهود بني قينقاع- من المدينة . ولعل هذا الحادث بالذات هو الذي يكشف لنا خطورة الأمر إذ أن السبب في ظاهره بسيط ولكن اليهود يعلمون ما وراء هذا الحادث.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ما يريد اليهود فيقرر جلائهم.." (6) .
الغرب والاستنفار المضاد
وعليه فان أية محاولة للعودة الصحيحة الواعية إلى هذا الدين وأي التزام صادق بأبجدياته- من طرف المرأة المسلمة خاصة - وأية ممارسة من جانبها- مهما صغرت- تشي بالتخلق الجدي الصحيح بآدابه وتعاليمه وأمره ونهيه .. تعني بالنسبة للغرب وللأعداء التاريخيين والمعاصرين لهذه الأمة بمثابة وضع السيف على رقابهم ورفع المعول على جدران مشاريعهم الاستعمارية وإضرام النار في أوراقهم وبرامجهم التضليلية التي صممت ووضعت قصدا لتخريب الحياة الإسلامية وتقويض كيان الأمة وهو ما لا يرضيهم أبدا ولا يستطيعون السكوت عنه .. لذا نرى الغرب منذ لاحت في أفق القرن بوادر عودة الوعي الديني إلى المسلمين وملامح الالتزام الصحيح والانتماء الحضاري للإسلام .. في حالة استنفار قصوى وحركة متوترة لافتعال العراقيل وقطع الطريق بكل ما تيسر لديه من فكر ومكر وتقنية أمام هذه الظاهرة الحضارية التي تقض مضجعه وتفجير التناقضات لديها ما استطاع إلى ذلك سبيلا قصد الحد من نموها وإلهائها وتفتيت جهودها الأمر الذي ولد أشكالا من الضغوط والتحديات وصورا من المعاناة النفسية والاجتماعية والمادية... في طريق الإسلاميين عموما والفتاة المسلمة الملتزمة خصوصا.
من صور هذه المعاناة(1/75)
فقد وجدت الفتاة المسلمة نفسها أمام صور متجددة من المعاناة النفسية والاجتماعية في ظلال مجتمع التغريب نتيجة التزامها وانتمائها الواعي لدين الله الحق الذي لم تنجح معه صيغ الإقصاء والإفناء والتدمير التي مورست عليه منذ شع بنوره على العالم ومد جذوره في أعماق الفطرة والكون ونتيجة تصميمها وعزمها على العيش في ظلال الإسلام وإصرارها على السير في طريق الهدى والنور معلنة بذلك رفضها الواعي للانسياق وراء ركب التفسخ والتغريب .. ومحتسبة في سبيل ذلك معاناتها وعذاباتها وآلامها.
ولعل من ابرز صور هذه المعاناة ما تلقاه المسلمة الملتزمة هنا وهناك من ضغوط اجتماعية وتحديات عائلية ... بسبب التزامها الحجاب ( ؟؟)
الحجاب ....في المعركة
إن الحجاب هو سمت المرأة المؤمنة المسلمة وشارة عزتها وكرامتها وحريتها ودليل واضح على صدق التزامها أمر المولى تبارك وتعالى ? (( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن...)) (النور 31).
وبما أن الحاقدين التاريخيين والجدد على الإسلام والمسلمين يرعبهم أن تعود المسلمة إلى حظيرة الإسلام. ومنابع الإيمان وتلوذ بحصونه وتغرف من معينه.. فتسترد بذلك ذاتيتها وكرامتها وحريتها الحقيقية وتتبوأ مكانتها اللائقة -وبذلك تقطع الطريق أمام مهندسي الهدم والتغريب وتفسد عليهم خططتهم وبرامجهم وتبخر أحلامهم وأمانيهم- من اجل ذلك تراهم يعمدون إلى الغمز واللمز والتجريح والتشويه وإثارة الشبهات واختلاق الأراجيف والترهات حول مسألة الحجاب خاصة وذلك لما يرون من فاعلية دوره في التميز والتغيير ... وهم قد سلكوا في ذلك سبلا شتى ?
أ) على المستوى الثقافي(1/76)
فإذا فلسفوا تخلفنا الحضاري وسطروا أسبابه... كان هذا الانتماء وهذا الالتزام هو المتهم زعما منهم " بأن حجاب المرأة عائق عن مشاركتها الرجل في نهضته الفكرية والثقافية والاجتماعية .. و أن أولى الخطوات إلى أي نشاط فكري أو اجتماعي أن تسفر المرأة عن وجهها وتحطم ما بينها وبين الرجل من حواجز واعتبارات. كما أن أول السبل للقضاء على ملكاتها واستعداداتها الفكرية والاجتماعية المختلفة أن تحبس نفسها في قفص هذا الحجاب وتضع بينها وبين الرجل حاجزا مما تسميه الستر والآداب." (7)
أو بمثل قولهم " إن الحجاب ينقل المسلمة إلى التنكر الأشمل فالمسلمة تعني العيش مجهولة ولذلك لم يبق أمام المجتمع العربي سوى مصادرة النوع الأنثوي فالبيت العربي لن يكون سوى حجاب حجري مشتمل على حجاب القطن أو الصوف.." (8).
ويمتد الهمز واللمز والطعن والتجريح إلى القول " بأن الثقافة السلفية انخفضت إلى رمزين لقهر المرأة العربية?
* ختان النساء وغايته القضاء على الشهوة الجنسية النسائية (؟؟)
* وفرض الحجاب لتحقيق عدة أغراض متنافرة ?
- أداة لإخفاء المغامرات الجنسية ؟؟؟
- وسيلة الفقراء للدفاع عن القيم السلفية ؟؟
- قناع لبؤس المرأة ورمز لمتاعبها ؟؟ (9)
إلى آخر هذا العواء والنقيق الذي تتفجر به قلوب حاقدة مريضة وتنعق به صباح مساء قصد مزيد التشويه لصورة المرأة المسلمة والطعن في التزامها .. وإبرازها في صورة (فلكلورية) منفرة.
ب) على المستوى الرسمي
وإذا أضفنا إلى هذه الصورة القاتمة من الطعن والتجريح الذي تولى كبره شرذمة من المستغربين المحسوبين زورا على العلم والفكر والثقافة .. صورة أخرى من الطعن التآمري المقصود ولكن على المستوى الرسمي ... لتبين لنا حجم المعاناة التي تعيشها أخواتنا المسلمات مقابل احترامهن لأنفسهن وكرامتهن بانتهاجهن سبل الطهر والرشاد ووضع أقدامهن في آثار خديجة وعائشة وأسماء..(1/77)
فقد وصل الأمر بإحدى الدول المحسوبة على الإسلام إلى اعتبار اللباس الإسلامي زيا طائفيا تجب مقاومته.
ولم يعد خافيا على أحد ما تعانيه الفتاة المسلمة في معاهد التعليم وما يمارس ضدها من أشكال المصادرة والمضايقات التي بلغت حد المحاكمة. وقصة العالمة المسلمة "نباهت قورو" خبيرة الطاقة الشمسية والمحاضرة بجامعة "ايج" بأزمير .. والتي ذهب مستقبلها الباهر واختصاصها العلمي أدراج الرياح بسبب التزامها الحجاب .. ليست عنا ببعيد . وكذلك قصة الطالبة "عائشة ترومان" ( سادسة طب) والتي خيرت وهي التي لم يبق على تخرجها سوى خمسة اشهر بين أن تخلع الحجاب أو تغادر الجامعة والتي لم تتردد في اختيار مغادرة الكلية واعتبارها القرار الآخر قرارا مستحيلا..
ج) على المستوى العائلي
ولا تقف المعاناة والمضايقات عند هذا الحد بل يبلغ الأمر مداه عندما نعلم بأن أسًرا كثيرة ممن تنتسب إلى الإسلام شكلا ولا تمارس من التزاماته شيئا يذكر .. تساهم بدورها في محاصرة الفتاة الملتزمة وإيذائها نفسيا واجتماعيا وتتولى بعض الأمهات - ضحايا الأمية الدينية والتلوث التغريبي - كبر هذه الممارسات فتقف عائقا في وجه أية محاولة للالتزام الديني تبدو من بناتها مستغلة في ذلك سلطتها الأدبية عليهم فتنبري في تجريح فتاة الحجاب وطعنها واستفزازها واتهامها... حد تعقيدها...
وبعد..
هذا بإيجاز بعض صور وأشكال المعاناة النفسية والاجتماعية التي تعيشها أخواتنا المؤمنات المسلمات الملتزمات بدينهن في مجتمع التغريب نتيجة إصرارهن الواعي على انتهاج صراط الله المستقيم ورفضهن الانصياع في ركب التميع والتغريب ... والتي لا تعدو أن تكون غير شكل من أشكال الابتلاء الذي لا مناص منه لإثبات الوجود الحضاري وفرض الذاتية الإسلامية ... ودفع التحدي.. (( ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخياركم )) ( محمد 31).
هوامش?(1/78)
(1) الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي- إلى كل فتاة تؤمن بالله- ص 25 و26- دار الراية للنشر- تونس.
(2) الدكتور يوسف القرضاوي- الحلول المستوردة- ص 22.
(3) التبشير والاستعمار لمصطفى الخالدي وعمر فروخ 87 نقلا عن البوطي? إلى كل فتاة ص26
(4)الشيخ محمد المجذوب? كلمات من القلب- ص 126- طبعة ثانية 1977 م- مكتبة الرياض الحديثة
(5) المصدر السابق نفسه ص 164
(6) رفاعي سرور- بيت الدعوة- ص 20 و21 -دار لقمان للنشر والتوزيع - تونس
(7) الدكتور البوطي- إلى كل فتاة تؤمن بالله - ص 102
) نقلا عن خليل احمد خليل- المرأة العربية وقضايا la sexualité en islam(8) عبد الوهاب بو حديبة (
التغيير ص 96.
(9) خليل احمد خليل- المرأة العربية وقضايا التغيير- ص 96.
(10) انظر الرسالة التي بعثتها إحدى الأخوات إلى مجلة الأمة- عدد 55 ص 81.
" الإسلاميون و المرأة .. مشروع الاضطهاد "
دراسة موضوعية أم سفاهة يسارية
مدخل:
إن هدف هذا العمل هو في كلمة.."الدفاع عن حق المرأة في الحياة " لان الدعوة السلفية الجديدة لا تعني بالنسبة لها سوى الموت... ذلك أن مشروع اضطهاد المرأة ما هو إلا جزء من مشروع الإسلاميين الاوتقراطي العام.. هذا يعني أن أول أولويات برنامج الإسلاميين متمثلة في العمل على إلغاء كل التشريعات الوضعية التي مكنت المرأة من بعض الحقوق و في استبدالها بتطبيق أطروحاتهم المتخلفة والمتمحورة أساسا حول إرجاع المرأة إلى سجن البيت المؤبد... إنها إذن المهمة المركزية التي يسعى الإسلاميون إلى تحقيقها مستقبلا..."
بهذه الجمل التحريضية الفضفاضة يستفز الكاتب القراء ويستنفرهم بإلحاح لمطالعة كتابه الذي اختار له عنوانا إشهار يا وتشهيريا في نفس الوقت وهو "الإسلاميون والمرأة ...مشروع الاضطهاد "
فهل هو حقا بحث موضوعي نزيه لموقف الصحوة الإسلامية من المرأة ..(1/79)
أم هو فصل جديد من فصول- السفه اليساري- المفتعل إزاء مكتسبات الحركة الإسلامية في المجال الاجتماعي و الذي يأتي على رأسه مشروع إنقاذ المرأة من مخالب الاستغلال والتفسخ وانتشالها من ظاهرة- الوأد الحضاري- المعاصر الذي تستهدف له تحت لافتات وشعارات فقدت مصداقيتها..
إن قراءة هادفة وواعية بعيدة عن طقس التوتر والانفعال كفيلة بان توقفنا على الحقيقة.
الكتاب.. ظاهره بنفسجي ...وباطنه؟؟..
الكتاب / البحث من تأليف "شكري لطيف" من الرفاق الحمر وهو في طبعته الثانية من إصدار "بيرم المنشر" بتونس مارس 1988 ويحتوي على 135صفحة من الحجم الصغير يحتضنها غلاف بنفسجي تتوسطه صورة موحية لثلاث فتيات محتجبات واقفات خلف شبكة من القضبان الغليظة يوزعن نظرات احتجاجية حادة ترنو إلى الخارج وينتظرن حالة إنقاذ.
وقد قسم الكاتب بحثه كالآتي ..مقدمة تصديرية تقريظية تولى زخرفها وتلميعها أحد الرفاق والتي ختمها بقول فيه الكثير من الغرور "...وسوف يكون هذا الكتاب الذي نعده دون مبالغة .. الثاني في تونس بعد كتاب الطاهر الحداد الشهير- امرأتنا في الشريعة والمجتمع- إسهامه في هذا المسار." ص10 ثم- توطئة بعنوان "ضد السلفية"
.- مدخل عام .
-المقدمات الثلاث للموقف العام.
- سبعة محاور تشكل جوهر البحث وهي ( المساواة -الأسرة- الاختلاط- الحجاب- التعليم- العمل- العمل السياسي. )
- - ثم خاتمة استنتاجية وقائمة بأهم مصادر البحث ومراجعه.(1/80)
- ولم ينس الكاتب أن يوسم الطبعة الثانية بمقدمة" نرجسية" يسطر فيها صدق نبوءاته التي طرحها في بحثه عند تقديم طبعته الأولى فيقول " لا يفوتني في خاتمة هذا التقديم أن اقدم بالشكر على الصدى الطيب الذي لقيه عملي المتواضع هذا لدى العديد من القراء.. الأمر الذي جعل طبعته الأولى تنفذ من السوق في ظرف شهور قليلة بيد انه من الضروري التأكيد على أن هذا العمل هو لبنة أولى لا ادعي فيه الشمولية والنموذجية بل أضعه بين يدي القراء للإثراء وكدعوة للتفكير وحث على فتح مجالات مقاومة ارحب." صفحة منصوص عليها بالحرف "ط".
- وإهداء الكتاب كان من نصيب "شهيد" تحرير المرأة.. الطاهر الحداد..
ضد السلفية..
يدرج الكتاب بحثه ضمن محور "الرد على السلفية" ضمن سلسلة أعمال أخرى سيتولى إصدارها كلما اقتضت الضرورة نيابة عن الرفاق والرفيقات. وهو يقصد بالسلفية- "الحركة الإسلامية المعاصرة"- عموما و- الإسلاميون- بتونس- نموذجا.. يقول في التوطئة " يأتي هذا العمل كجزء أول من سلسلة أعمال مندرجة ضمن مشروع عام يستهدف الرد على السلفية..."ص11
وأما لماذا حرص على أن يفتتح مشروعه هذا بموضوع المرأة فذلك راجع كما يدعي إلى "أن خطر الردة المؤدلجة والكليانية التي تشهدها الساحة العربية- ومن ضمنها بلادنا- تحت غطاء ما يحلو للبعض تسميته "بالصحوة الإسلامية" يهدد من ناحية بتصفية هامش المكتسبات / الثغرات التي تحققت للمرأة في "جدار التخلف العربي" ويهدد من ناحية أخرى بنسف الجسور المؤدية إلى انعتاقها الكلي والنهائي" ص13.
وبالتالي فهو يرجو منا بإلحاح أن نعتبر عمله هذا "امتدادا لعمل أولئك الرواد..(الطاهر الحداد- قاسم أمين الطهطاوي- سلامة موسى..)ومواصلة لجهودهم ونضالهم ضد التزمت والسلفية في أشكالها الجديدة التي تحاول هي أيضا الربط مع تراثها ومنظريها الذين جابهوا الرواد" ص13 .(1/81)
من خلال هذه الشواهد- الأولية- يتضح لنا أن البحث متهم في نزاهته و موضوعيته و-علميته إن صح التعبير- ما دام صاحبه قد أسسه على رد فعل هستيري متوتر وعدواني- على مواقف مغايرة لأصحابها الحق في إبدائها وتبنيها والدعوة إليها وليس لأحد حق النقض والمقاومة ما لم يكره عليها.
القشة التي قصمت ظهر اليسار..
انطلاقا من شعورهم بعقدة- العزلة- والشذوذ -والانبتات- في فضاءات مجتمعاتنا العربية والإسلامية يصعق اليساريون ويفزعون كلما سمعوا دعوة إلى استفتاء شعبي حول تركة من تركات التغريب والاستعمار لها مساس بقضايانا الاجتماعية ليقينهم بأنهم هم الخاسرون في النهاية إذ علمتهم التجارب بان نتائج مثل هذه الاستفتاءات تأتي دائما مخيبة لآمالهم ومعارضة لتطلعاتهم ومشاريعهم التي لا تجد لها هوى في نفوس الجماهير الواعية.
وعليه فقد أقاموا الدنيا... وافتعلوا ضجة إعلامية تشهيرية عندما اقترح الإسلاميون- في تونس- إجراء استفتاء شعبي حول مجلة( الأحوال الشخصية) التي كانت ولا تزال وراء الشروخ الحادة التي أصابت الأسرة التونسية والتي يعتبرها اليسار إنجازا حضاريا ومكسبا تقدميا للمرأة لا يمكن بحال التنازل عن ابسط بند فيه بل ارتقى عندهم إلى مستوى (المقدس) الوطني .
والكتاب الذي بين أيدينا وهو موضوع الحال يندرج في إطار هذه الضجة التحريضية المفتعلة واذكر انه أقيمت له ندوات للمناقشة والتلميع فور صدوره نتج عن بعضها صدامات بين الفريقين انحدرت إلى مستوى الركل والتراشق بالكراسي..
فما هي المآخذ التي يركز عليها الرفاق في نقدهم للإسلاميين في موضوع المرأة حسب الكتاب ..
المقدمات المحورية
يرى صاحب الكتاب بان الموقف العام للإسلاميين أو السلفية الجديدة- كما يحلوا له أن ينعتهم- من المرأة مؤسس على مقدمات محورية ثلاث وهي اعتبار
1- تحرر المرأة مؤامرة استعمارية..
2- المرأة رمز للعنة والخطيئة..
3- المرأة رمز للذة والفتنة..(1/82)
ويأتي تحليله لهذه المرتكزات فضفاضا ومهزوزا رغم حرصه على حشوه بالاستشهادات المنتقاة والمبسترة تدعيما لوجهة نظره وإيهاما للقارئ بسعة اطلاعه. فحول المقدمة الأولى يقول "...فحقوق المرأة المكتسبة حاليا أو تلك التي مازالت تطمح إلى تحقيقها لا تعدو أن تكون في تصور الإسلاميين سوى بدعة استعمارية تستهدف مسخ ضمير الأمة" ص17 ويستشهد على ذلك بجملة للسيد عبد الله علوان تقول "...ومن الأمور التي يجب أن تعلموها جيدا أيها الآباء أن مخططات الاستعمار والصهيونية والماسونية والمذاهب المادية الإلحادية تهدف إلى إفساد الأسرة المسلمة وانفصام عراها وهذا لا يتم إلا بتمزيق القيم الأخلاقية و إطلاق عنان الغرائز والشهوات وإشاعة الانحلال والميوعة في المجتمع فالمرأة عند هؤلاء هي أول الأهداف في هذه الدعوة".. ص19.
ولو أن- الرفيق- كلف نفسه قراءة وثائق التاريخ لما استهجن مقولة الإسلاميين بكون هذه الدعوة مؤامرة استعمارية . ويكفي أن نحيله إلى توصيات المؤتمر التبشيري المنعقد بالقاهرة سنة 1906 والتي جاء من بينها هذا النداء " إن عدد النساء المسلمات عظيم جدا لا يقل عن مائة مليون.. فكل نشاط مجد للوصول إليهن يجب أن يكون أوسع مما بذل إلى الآن ..نحن لا نقترح إيجاد منظمات جديدة ولكن نطلب من كل هيئة تبشيرية أن تحمل فرعها النسائي على العمل واضعة نصب عينيها هدفا جديدا هو الوصول إلى نساء العالم المسلمات كلهن في هذا الجيل ..."
وأما بخصوص المقدمة الثانية فيقول الكاتب " إن المرأة بالنسبة إلى الإسلاميين تمثل اللعنة وترمز إلى الخطيئة فهي التي كانت السبب في التحدي الآدمي للخالق وهي بالتالي السبب في حرماننا- بصورة أو بأخرى- من نعيم الفردوس الأبدي بطرد آدم منه إنها حليفة الشيطان الذي لم يتمكن من نسج مؤامرته بالاعتماد على آدم- الرجل- فوجد ضالته في حواء- المرأة- التي تمكنت بفضل كيدها- وهو عظيم- من غوايته مستغلة طيبته وبراءته.." ص30.(1/83)
ونحن نذكر- الرفيق الكاتب- بأن هذا الكلام الخرافي الأسطوري البدائي لم يعد يردده حتى البسطاء و الأميون من الناس وقد امحى من ذاكرة الرأي العام تماما لتفاهته ولم يعد يستشهد به من يحترم عقله وقلمه وقرآءه ... فكيف يرضى الإسلاميون بتبنيه وهم كما يعلم الكاتب نفسه يمثلون العقل الواعي في المجتمع ويتقدمون قافلة الرفاق في العلم و المعرفة والوعي.
SIGRID HUNK ونرى بالمناسبة أن نلفت نظر الكاتب إلى هذه الشهادة التي ساقتها الدكتورة
في كتابها " شمس الله تسطع على العرب" بالصفحة 470 "... لقد كانت خديجة نموذجا لشريفات العرب أجاز لها الرسول أن تستزيد من العلم والمعرفة كالرجل تماما وسار الركب وشاهد الناس سيدات يدرسن القانون والشرع ويلقين المحاضرات في المساجد ويفسرن أحكام الدين فكانت السيدة تنهي دراستها على يدي كبار العلماء ثم تنال منهم تصريحا لتدرس هي بنفسها ما تعلمته فتصبح الأستاذة الشيخة كما لمعت من بينهن أديبات وشاعرات والناس لا ترى في ذلك غضاضة أو خروجا عن التقاليد..."
والسؤال الذي نتحدى به الرفيق- هل يتناسب هذا الوضع الذي عاشته المرأة لو كانت معتبرة عند المسلمين "لعنة وخطيئة"..
ونأتي إلى المقدمة الثالثة حيث يقول الكاتب "....ولكن هذه اللعنة بالنسبة للإسلاميين لا تنفي عنها أنها امرأة أي أنها جمال وزينة وجاذبية أي أنها جسد أي أنها جنس لذلك كله- فهي تشكل موضوع افتتان بالنسبة للإسلاميين كما يتجلى أن هاجسهم الدفين هو الهاجس الجنسي الذي يسهل إبرازه للسطح بمجرد تفكيك نظامهم الرمزي الأخلاقي المزيف." ص 34.
-إن هذا الاتهام الفضفاض الحاقد كان أولى بالكاتب الرفيق- لو كانت فيه بقية من شهامة أدبية ورجولة- أن يقذف به الذين يلهثون وراء تعرية المرأة وتمييعها ويمدحون تبرجها وتحللها ويسوقونها إلى شطوط الضياع ويخدرونها في علب الليل ويقيمون لها عكاظا جنسيا لتتويج أوسمهن وافتنهن.(1/84)
-ويكون من التجني والافتراء أن يلصقه بالذين يدافعون عن عفتها وسترها وشرفها ويحترمون إنسانيتها فيبرونها أما ويكرمونها زوجة ويحترمونها أختا ومواطنة ويرعونها بنتا... ويحسنون إليها جارة وخالة وعمة.. وبعد هذه المقدمات الثلاث التي اخفق في تحليلها الكاتب وتعرى فيها تحامله الحاقد على السلفيين يأخذ - في الصفحات الموالية استعراض مواقفهم في المجالات المتصلة بقضية تحرير المرأة. فماذا يقول..
أ) المساواة
"إن مفهوم الإسلاميين للمساواة قد أدى بنا إذن إلى أن المرأة- بالنسبة للرجل- كائن دوني قاصر يجب حمايته... ولكن وبالرغم من ذلك فإن الإسلاميين لا يتحرجون من الحديث عن المساواة..بل الأغرب من ذلك أن نجدهم لا يتحرجون من الادعاء بأن المرأة نفسها هي التي تطلب تلك الحماية من الرجل.. وتدعو لمنزلتها الدونية إزاءه وهي لن تشعر بالراحة والاطمئنان- حسب زعمهم- إلا متى كان الرجل قواما عليها" ص31.
إن هذا التحليل- الرومانسي- الأجوف والهلامي لا يقف أمام التحليل العلمي الموضوعي لقضية المساواة هذا الوتر الذي يعزف عليه صباحا مساء دعاة التحرير بل التغرير بالمرأة. وليسمح الرفيق "شكري لطيف" بقراءة واحترام ما كتبه الدكتور "الكسيس كارل" الحائز على جائزة نوبل للعلم في كتابه المشهور (الإنسان ذلك المجهول ) " إن الأمور التي تفرق بين الرجل والمرأة لا تتحدد في الأشكال الخاصة بأعضائهما الجنسية(1/85)
والرحم والحمل وهي لا تتحدد أيضا في اختلاف طرق تعليمها بل إن هذه الفوارق هي ذات طبيعة أساسية. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف بالرجل يجهلون هذه الفوارق الأساسية . فيدعون انه لا بد أن يكون لهما نوع واحد من التعليم والمسؤوليات والوظائف . ولكن المرأة في الواقع تختلف عن الرجل كل الاختلاف فكل خلية في جسمها تحمل طابعا أنثويا.. إن قوانين وظائف الأعضاء محدودة ومنضبطة كقوانين الفلك. حيث لا يمكن إحداث أدنى تغيير فيهما بمجرد الأمنيات البشرية وعلينا أن نسلم بها كما هي. دون أن نسعى إلى ما هو غير طبيعي وعلى النساء أن يقمن بتنمية مواهبهن بناء على طبيعتهن الفطرية وان يبتعدن عن تقليد الرجال "(2)
ونذكر الكاتب بأننا نحترم العلم ورجاله رغم اتهامه ورفاقه إيانا بالرجعية والظلامية والتخلف...وهذه الشواهد العلمية المعاصرة من عالم في مستوى "الكسيس كاريل" نتبناها ونتحداه أن يطعن فيها برأي أصوب منها..
وبودنا لو يطلعنا الرفاق على جانب من سيرتهم الذاتية ولنعرف مدى تطابق القول مع الممارسة اليومية لديهم في هذا المجال ومدى جديتهم في التفاعل مع طرحهم بخصوص المساواة التي ينعقون بها وكيف يقتسمون بالتساوي مع زوجاتهم أو قل خليلاتهم دورات الحيض والنفاس..
"إن المنهج الإسلامي الذي قام على مساواة الرجل والمرأة في الإنسانية وتكاملهما في وظائف الحياة يرفض مساواة (تماثل الندية ) التي سادت الدعوة إليها في إطار الحضارة الغربية وفي فكر وواقع التغريب ببلادنا الإسلامية فلا الرجل السوي يسعده تساويه بالمرأة الأنثى ولا المرأة السوية يسعدها مساواتها بالرجل... فمع التساوي في الإنسانية تتمايز الطبيعة من حيث الأنوثة والذكورة تمايز وظيفة ودرجة لا تمايز سيطرة واستبداد وخضوع "(3)
ب ) الأسرة(1/86)
" إن أهم استنتاج نستخلصه في هذه المسالة هو أن تصور الإسلاميين للعائلة سواء في هيكلنها وعلاقاتها الداخلية أو في غائيتها وبعدها الاجتماعي إنما هو تأكيد واضح وجلي للفكرة القائلة بان مؤسسة العائلة تمثل بالفعل إحدى الدعائم الثلاث التي يقوم عليها اضطهاد المجتمع الطبقي.." ص 5.
هذا الاستنتاج الساذج والمسقط هو ترديد بليد للمحفوظات الشيوعية حول الأسرة حيث يرفض الشيوعيون نمط العائلة المتعارف عليه بين الناس من قديم. ويسعون إلى تفتيت وتذويب المشاعر والعلاقات الأسرية الرابطة والمؤلفة بين الوالد وأبنائه من خلال تزيين ظاهرة العصيان العائلي في نفوس الناشئة. ليس هذا ادعاء مجانيا ولكنها الحقيقة كما تعلنها- أبجدية الشيوعية- حيث يقول ماركس " حين يقول الوالدان هذا ابني وتلك ابنتي لا تعني هذه الكلمات وجود آصرة أبوية فحسب بل توحي بان للأبوين حقا في تربية أبنائهم من وجهة نظرهم كما يريدون والاشتراكية تأبى الإقرار بهذا الحق للآباء لان الفرد ليس ملك نفسه ولكنه ملك للجماعة.. بل هو ملك للبشرية كلها.. ولهذا يجب أن ينتمي الطفل للمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه و الذي جاء إلى الحياة بفضله.."(4) و إذا انتقلنا إلى التحليل الذي يورده الكاتب حول غائية الأسرة كما يراه الإسلاميون فإننا سنصطدم بكلام سخيف متهافت و-تخريجات- تستبله القارئ إذ يتهم الكاتب الإسلاميين بالتسيس للأسرة ورصدها لأهداف تطرفية لا تخدم الصالح العام وهو بذلك يغمز عين السلطة بطريقة ماكرة وخفية لكي تأخذ حذرها من "هؤلاء " الذين يجعلون من العائلة خلايا تنظيمية وثكنات خاصة متسترة لإعداد عناصر الردع والتشويش عند المواجهة..(1/87)
يقول في الصفحة 53 " فالغاية من تكوين الأسرة ومن الإنجاب ومن تربية النشء ستكون بالنسبة للإسلاميين غاية سياسية بحتة..ضمن مخطط سياسي و هيكلة تنظيمية متكاملة..فتصبح الأسرة إذن خلية من خلايات الحركة الإسلامية وحلقة من حلقات عملها السياسي والتنظيمي المهيكل على شاكلة التنظيمات الهتلرية والفاشية ضاربة حسب هذا التصور عرض الحائط بحق الأطفال في بناء حياتهم المستقلة المتحررة من كافة أشكال الضغط والتوجيه ألإكراهي القمعي وذلك إضافة لجملة الاختلالات والاهتزازات النفسية الأكيدة التي ستصيب الأطفال وسط أجواء العائلة -السعيدة- على الطريقة الإسلامية "
أرأيتم اسفه من هذا الكلام الذي يدعي صاحبه الموضوعية ويقرظه المادحون من الرفاق بقولهم " أهم ما يميز هذه الدراسة -القيمة- هو تتبع صاحبها و إحاطته بمعظم ما كتبه الإسلاميون في تونس وفي عدد من البلدان العربية الأخرى حول قضية المرأة وإحالته القارئ على مصادره بدقة وهنا يكمن الفارق الجوهري بين هذا العمل وكتابات الإسلاميين التي تستبله القارئ وتستغل جهله " ص6
فأي المراجع والمصادر الإسلامية التي تصرح بهذا الكلام الذي استند إليه الكاتب في تحليله لغائية الأسرة المسلمة..
ولكنه- التحليل التآمري - الحاقد الذي لا يجد له سندا في الواقع والدي لا يجرؤ على افترائه إلا- السفهاء- الذين لا عقل لهم ولا مروءة.. ولا يمكن أن ينطلي على الذين يحترمون أنفسهم وعقولهم.
والعجيب في الأمر أن يظهر الكاتب متقمصا دور الغيور على (حقوق الإنسان) من خلال انشغاله واهتمامه بمضير الطفل الذي سيكون مسكونا بالمعاناة والتمزق النفسي والكبت والظلم والقمع في خلال "الحياة الإسلامية" ومناخ البيت المسلم..(1/88)
وليته اظهر هذه الغيرة وهذا الاهتمام الإنساني تجاه أطفال أفغانستان والذين اختطفتهم أيدي سادته من الرفاق الكبار في موسكو وحالت ببربرية لم يشهد لما التاريخ مثيلا بينهم وبين أهاليهم وصادرت حقهم في الأبوة والأمومة... ورصدتهم لعمليات غسل الدماغ التشويه العقائد والتحلل الأخلاقي.. انه إقطاع على الطريقة الشيوعية لا يؤرق الرفاق ولا يستدر عطفهم واهتمامهم..
ج ) الاختلاط
وحول موقف الإسلاميين من الاختلاط تنتفخ أوداج الكاتب بقوله " يقيم الإسلاميون الدنيا ولا يقعدونها أثناء تعرضهم لمسالة الاختلاط بين الرجال والنساء في الحياة العامة في المدرسة..في المصنع.. في الإدارات.. في الطرقات وأيضا في الحياة الخاصة أي داخل البيت.. والمطعن الأساسي الذي يقدمونه هو أن الاختلاط يؤدي إلى فساد الأخلاق وانهيار القيم وبالتالي إلى عرقلة إقامة مجتمع سليم ناهض" ص 57.
وبما أن الكاتب- وهو تقدمي حتى النخاع- يعيب هذا الموقف للسلفية الجديدة ويرى فيها تزمتا وتخلفا وتحريضا على الكبت والتفرقة. مستشهدا في ذلك بحشد من- الشواهد الواقعية- التي عاينتها الدكتورة "المعقدة" ورائدة( التحرير النسائي ) "نوال السعداوي" التي عرفت بتحاملها الحاقد على الإسلاميات فإننا ستسوق إليه شواهد اصدق علمية و اكثر موضوعية صدرت من لدن "عقلاء" الغرب بخصوص "العواقب المدمرة التي جناها الاختلاط على الغرب المتحضر "قدوة المستغربين".(1/89)
أ- فهذا الفيلسوف البريطاني "برتراند رسل" يقول في كتابه "الاختلاف والزواج" (( هناك شرط مهم يساعد في دعم الحياة الزوجية .. ذلك هو خلو الحياة الاجتماعية من النظم التي تسمح بالمصادقة والمخالطة بين المتزوجين من الرجال والنساء .. سواء في العمل أو في المناسبات والحفلات وما شاكلها. إن العلاقات العاطفية بين المتزوجين من رجال ونساء خارج دائرة الحياة الزوجية هي سبب شقاء الأزواج وكثرة حوادث الطلاق وليس عسيرا أن نجمع أمثلة كثيرة عن البيوت التي انهارت بسبب اتصال الأزواج والزوجات بغير شركائهم في الحياة الزوجية سواء في العمل أو في الحياة الاجتماعية..))
ب- ولقد نشرت الطبيبة "مايرن هيليارد" مقالا عنيفا ضد الاختلاط الحر فقالت "إنني لا أستطيع أن اسلم- كطبيبة- بأن العلاقات الطاهرة ممكنة بين رجل وامرأة ينفردان برضاهما وقتا طويلا .. ولست على هذه الدرجة من الغباء حتى انصح الشبان والفتيات أن يمتنعوا عن التقبيل ولكن أكثرية الأمهات لا تخبرن أولادهن أن القبلة لا تبرد العواطف وإنما تلهبها "(5).
ج- وأعربت مجموعة من الطالبات في بريطانيا عن خوفهن من التعرض للاغتصاب داخل أروقة الجامعات والمعاهد التي يدرسن فيها وطالبن بتامين حماية اكبر لهن وقد اتخذ الاتحاد الوطني لمؤتمر الطلبة في- بلاكبول- إجراءات خاصة بتوفير الأمن و طالب بتوفير أجراس إنذار و حراس أمن وتوفير مساكن آمنة للطالبات.
وتتساءل الآنسة "جو وايت" (20 سنة ) طالبة من جامعة بريستول " كيف تقولون أن المرأة حصلت على حريتها بينما هي تفكر مليا قبل الخروج في المساء (خوفا من الاغتصاب).
د) الحجاب(1/90)
"فالإسلاميون لا يتركون أية فرصة يقع فيها التعرض لمدلولات الحجاب إلا وأكدوا انه يمثل الدليل الذي ما بعده دليل على شدة- احترامهم- للمرأة وعلى عمق تمسكهم بصيانة كرامتها وعفتها- وعلى انه- أي الحجاب- يمثل في آخر الأمر بديلهم- الفاضل- للااخلاقية الغرب المادية المهينة للمرأة " ص 72.
هذه الحقيقة يتهمها الكاتب بالمغالطة والمراوغة والخدعة... وحسب زعمه فإن الإسلاميون يهدفون- في الحقيقة- من وراء ذلك إلى " إخفاء ذلك الهوس الجنسي المجنون الكامن في أعماقهم. فهم لا يتمثلون المرأة إلا كموضوع جنسي وكلذة " ص 74
وغاب عن صاحبنا- أن الإسلام وضع القوانين التي تمنع استغلال المرأة كوسيلة أو سلعة.. من هذه القوانين التركيز على عفتها واعتبارها شرف المجتمع بحيث لا يجوز استخدامها للأغراض السياسية أو الاستفادة منها أو من جمالها وأنوثتها في المشاريع الاقتصادية... ويأتي الحجاب في هذا الإطار صيغة وقائية إلى جانب صيغ أخرى مدعمة ومكملة (غض البصر- الحياء) تحول بين المتربصين المتاجرين وبين المرأة عن تحقيق أي استغلال سياسي أو اقتصادي على حساب كرامتها وإنسانيتها.
والمنافقون المعاصرون عندما رأوا أنفسهم محاصرين بتيار الصحوة الإسلامية أفزعهم تنامي ظاهرة الحجاب في المدن والأرياف راحوا يفلسفون الأمر ويعطونه أبعادا هلامية في محاولة منهم للتضليل والتشكيك مع التلويح بصورة كاريكاتورية تبعث على السخرية. من مثل قول زعيم ثوري وهو يخطب من منبر مجلس النواب "إن أمنا حواء هبطت عارية إلى الأرض مكشوفة الشعر"وأكد أن الحجاب هو مسالة معنوية وليست مادية وان الحجاب الحقيقي للمرأة هو العلم و المعرفة والتدريب على السلاح...(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )
ه) التعليم(1/91)
يأتي كلام الكاتب وتحليله في هذا المجال لموقف الإسلاميين من تعليم المرأة خارج الواقع عندما يقول "موقف الإسلاميين المبدئي هو حرمان المرأة من حق التعليم وتحريمه عليها وهو موقف ينسجم تمام الانسجام مع حكمهم على المرأة بالدونية ونقصان العقل والرمز للعنة من ناحية ومع تصورهم لها كمتعة وجسد من ناحية أخرى .." ص 77
انه اتهام لا نقبله حتى لو كان منسحبا على قرون الانحطاط التي اكتنفت الحياة الإسلامية فكيف نرضى أن ترمى به الصحوة الإسلامية ويغمز به الإسلاميون.. والواقع التعليمي يشهد بالحضور المكثف والفاعل للعنصر الإسلامي النسائي في ساحات المعاهد ومدارج الجامعات على اختلاف اختصاصاتها وتشهد الإحصائيات بقوة على تفوقهن وتقدمهن على" الرفيقات" و"الرفاق أيضا".
و الذي يجب أن يعلمه- الكاتب ورفاقه -هو أن الإسلاميين لهم وجهة نظرهم في هذا المجال ولهم فلسفتهم المتميزة في التعليم عموما وتعليم المرأة خصوصا في إطار مشروعهم التغيري والحضاري- الذي- و يعبر عنه احسن تعبير فقيد الدعوة الإسلامية الشيخ الجاهد سعيد حوى رحمه الله بقوله" إن صناعة الرجال اكرم من كنس الطريق واكرم من صنع القنبلة الذرية ونحن نريد المرأة التي تحسن صناعة الرجال أولا وقبل كل شيء ولن يوجد هذه المرأة إلا تعليم صالح ومنهاج صالح ونظام صالح ومعلمات صالحات ولا يكون هذا إلا بإحداث تغيير كامل في أسلوب تعليم المرأة وفي طريقته وفي حدوده"(6).
و) العمل
وبخصوص موقف الإسلاميين من عمل المرأة يورد الكاتب تحليله الواهم بقوله " فمنع المرأة من العمل محدد هنا بتصور الإسلاميين لها كعورة..كجسد يجب ستره وفصله عن بقية المجتمع وكموضوع لذة لا يمكن أن يقع التعامل معه إلا على أساس جنسي لا غير " ص91.(1/92)
انه ادعاء أجوف لا يتوهم صدقه إلا- الرفاق أعداء الإنسانية- ولا يجد له هوى إلا في نفوس المنافقين ودون أن نضيع الوقت و الحبر في تفنيده ومناقشته نريد أن نبين للناس بأن " تحديدنا لعمل المرأة جدير بالاعتبار. فمن المعلوم أن المرأة الأوروبية كانت ضحية هذا الاعتبار لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى أتون المصانع والى المكتب وقال لها عليك أن تأكلي من عرق جبينك في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها وتركها في حرية مشؤومة ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع. ففقدت -وهي مخزن العواطف الإنساني- الشعور بالعاطفة نحو الأسرة. وأصبحت بما القي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل دون أن تبقى امرأة... وهكذا حرم المجتمع من هذا العنصر في بناء الأسرة وهو العنصر الأساسي فيها... و جنت أوروبا ثمار هذه الأسرة المنحلة مشكلات من نوع جديد(7) - والرأي عندنا- كما يقول الدكتور صالح كركر" انه في سياسة تشغيل المرأة يجب أن نضع دائما أمامنا ما اعتبره الشارع من مقاصد في أحكام المحافظة على فطرة المرأة ومراعاة ما يسرها واختصها الله به من رعاية النشء والحفاظ على جو الأسرة ذلك هو مجال عملها"(8) دون إغفال ما تقتضيه الضرورة الظرفية من الخروج للعمل عند الحاجة- كفقدان العائل- تحسين مستوى المعيشة- سد شواغر في الاختصاصات النسائية التي يحتاجها المجتمع...(التطبيب- الإرشاد- التعليم..) وفي خاتمة كتابه يخلص الكاتب إلى القول بأن "نزعة الإسلاميين الاحتقارية والتشيئية للمرأة هي القاعدة الثابتة المحددة لآليات نظام تفكيرهم"(1/93)
وعليه فهو يرى أننا سنرتد قرونا إلى الوراء لو تحققت دعوة الإسلاميين هذه وهو ما دعاه إلى استنفار القوى التقدمية والثورية حتى تقف حزبا واحدا في وجه الصحوة الإسلامية وترميها عن قوس واحدة مما حدى بزعيم ثوري عربي إلى إلقاء خطاب بمناسبة يوم المرأة العالمي حذر فيه الدول العربية من خطورة البدع والحركات التي تتستر بالدين في تشويه صورة المرأة العربية وقال فيه بوضوح " إن هذه الحركات الرجعية المرتبطة بالصهاينة والمخابرات الأمريكية إذا ما تمكنت من الوصول إلى السلطة فإن المرأة ستكون أولى ضحاياها وسيعد ذلك انتكاسة تاريخية خطيرة لقضية المرأة "(9)
..و بعد..
فإن هذا الرجس من الكتابات اليسارية المشحونة بالدس والكذب والتهويل ليس بالجديد ولا بالطارئ المستحدث على الساحة .. وبالتالي فلن يوهن منا العزم ولن يوقفنا على مواصلة الدعوة إلى البديل الصالح ضمن المشروع الإسلامي لإنقاذ الإنسان /المواطن ذكرا وأنثى والارتقاء به إلى دائرة الطهر والفضيلة والخير والإحسان.
وما هذه الكتابات إلا محاولات فاشلة ولكنها دائبة ومتجددة لتشويه صورة البديل الصالح الذي تمثله الصحوة الإسلامية ..من جهة ودفاع عن الحرام والرذيلة من جهة ثانية. وكيد ماكر ضال للحيلولة بين المرأة وبين الممارسة النظيفة الطاهرة للحياة وإبعادها عن الاستقرار في دائرة الفضيلة والحلال.
وكم كنت أود لو تولت إحدى الأخوات الرد على هذا الكتيب بنفسها من خلال ممارستها وتجربتها في ظل الصحوة الإسلامية حتى تكون " خير شاهد من أهلها " وبالمناسبة فإني أهيب بكل مسلمة تأنس في نفسها القدرة على التعبير وتمتلك أدوات الكتابة أن تكتب عن تجربنها الإسلامية عن مكتسبات الإيمان والالتزام عن النقلة التي تحدثها الممارسة الدينية في كيان المرأة عن واقع المرأة في مناخ الصحوة...عن...عن.. حتى تفند دعاوى المشككين والحاقدين وحتى يرى الناس الصورة على حقيقتها في إخراجها الأصلي الصحيح.(1/94)
وتحضرني هنا أسماء للكثيرات ممن أثق في كفاءتهن وعمق تجربتهن وصدق ممارستهن للحياة الإسلامية .. مثل الداعية المجاهدة زينب الغزالي والعالمة التركية الدكتورة نباهت فورو- حميدة قطب -حرم الامام المودودي- حرم الشهيد حسن البنا... والقائمة طويلة.
و إني لعلى يقين من أن الناس في حاجة ملحة إلى معرفة تجاربهن والأخذ من معينهن حتى تحصل القدوة الحسنة ويتبدد كيد الحاقدين.
هوامش
(1) التبشير والاستعمار- الدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي ص 304 -المكتبة العصرية -بيروت.
(2) الإسلام يتحدى -وحيد الدين خان ص 169- دار المختار الإسلامي.
(3) مقال المرأة ند للرجل أم مكمل له- الدكتور محمد عمارة- مجلة العربي ص63 عدد 364.
(4) مقال الطفولة بين شراسة الهدامين ورحمة الإسلام- عبد القادر عبار- مجلة الأمة ص69 شعبان1405 .
(5)الإسلام يتحدى- وحيد الدين خان- ص170 دار المختار الإسلامي.
(6) انظر- الإسلام- الشيخ سعيد حوى- ص540- دار الكتب العلمية- بيروت.
(7) انظر كتاب- مالك بن نبي مفكر اجتماعي- الدكتور اسعد السحمراني- ص231- دار النفائس.
(8) انظر كتاب- نظرية القيمية- الدكتور صالح كرك- ص 263- الطبعة الأولى.
(9) جريدة الأيام التونسية- العدد 199- السنة الخامسة- ص 8.
.
ردا على تصريح رئيسة جمعية تحرر المرأة في الجزائر
أدلت رئيسة "جمعية تحرر المرأة في الجزائر"بحديث صحفي- تآمري- إلى جريدة" الصدى " التونسية بتاريخ 3 أبريل 1990 بمناسبة زيارتها لتونس على راس وفد للمشاركة في الندوة التي دعت إليها "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" تحت عنوان "تضامن نسائي مغاربي " وهو حديث مشحون بالمغالطات والطعن والاتهامات في حق الاتجاه الإسلامي بالجزائر.(1/95)
وبما أن الدفاع عن عرض المؤمن بظهر الغيب واجب ديني ومسؤولية إيمانية ... رأيت من موقعي أن انبه إلى مواطن الإفك والطعن في حديث رئيسة جمعية تحرر المرأة في الجزائر حتى يتبين الحد الفاصل بين الحق و الباطل والجرح والتعديل في حق صورة الواقع الإسلامي بالجزائر. مع الملاحظة وان المعطيات التي سأثبتها في هذا العرض الدفاعي مستقاة من أهلها وجاءت على ألسنتهم.
العلمانيات يطعن في مكتسبات الاتجاه الإسلامي في الجزائر
تنسيق الجمعيات النسائية العلمانية ضد الحركة الإسلامية
قبل بداية هذا العرض لا بد للقارئ الكريم أن يعلم
* أن هناك ما يقارب العشرين جمعية نسائية في الجزائر علمانية الاتجاه نخبوية التنظيم تدعي الدفاع عن حقوق المرأة وتنادي بالمساواة بين الجنسين وترفع شعارا فضفاضا يقول " لا ديمقراطية بدون حقوق نساء ".
*أن هناك تنسيقا نسائيا مغاربيا على مستوى الجمعيات النسائية- العلمانية- المعترف بها يستهدف مواجهة "الاتجاهات الإسلامية المتنامية بدول المغرب العربي ويعمل على ترشيح نفسه للعمل على خط التضاد مع طروحات الحركات الإسلامية ... و في هذا الإطار تأتى الندوة التي نظمتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات تحت شعار (تضامن نسائي مغاربي) ... في الأسبوع الأول من أبريل 1990 واستنفرت لها جمعيات نسائية من كافة بلاد الاتحاد المغاربي.
ادعاءات باطلة
بعد هذا القوس نأتي إلى الحديث الصحفي موضوع الحال لنقف على تضاريس الطعن والإفك فيه(1/96)
... في جوابها على سؤال حول اعتراف السلطة من جهة بالتيار الإسلامي ومن جهة أخرى بالعديد من الجمعيات النسائية المناهضة للتيار الإسلامي ألا تخشين من استعمال الجمعيات النسائية في الصراع ضد التيار الإسلامي.. قالت "إن الجمعيات النسائية واعية بهذا الحساب السياسي للسلطة ولن تقبل باستعمالها لهذا التيار السلفي بل أن أغلبية الجمعيات تتصدى لهذا التيار لان برنامجه الاجتماعي والسياسي يهدف إلى تهديد حقوق المرأة. وتصدينا لهذا التيار ينطلق من تحليل واع للوضع ولا يخضع لحسابات السلطة "
وفي هذا مغالطة تاريخية أخرى واقعية..
مغالطة تاريخية
أما المغالطة التاريخية فنأخذ تصحيحها من فم الشيخ عباس مدني رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في حوار له مع مجلة- الحوار- اللبنانية الصادرة بباريس في عددها الخامس والعشرين بتاريخ كانون الثاني- يناير- 1990- السنة الثالثة.. يقول السيد عباس في رده على سؤال يتعلق بهدف التظاهرة الضخمة التي انتظمت يوم الخميس 21 ديسمبر 1989 أمام المجلس الوطني والتي ضمت ما يقارب المليون امرأة من النساء المسلمات يقول الشيخ " أولا.. المرأة الجزائرية المسلمة أحرجتنا .. دائما تقول دعوني اظهر أشارك. فمن حقها أن تشارك. ثانيا.. رد صريح على هذه الكمشة من النساء اللائى يمثلن نموذج مد موزيل "صيد قارة" .
مد موزيل- صيد قارة- هذه في الوقت الذي كان فيه أمثالها حركي البندقية كانت حركية الثقافة. أول فتاة أو امرأة جاءت إلى- ساحة الفوروم- جاءت بعدما كانت ملتحفة فنزعت اللحاف فأحرقته في حضور الصحافة الفرنسية. مد موزيل- صيد قارة- عملية قام بها الجنرال- ماسو -..السياسة تاريخ يا سيدي . كثيرون يظنون أن القضية جديدة.. أبدا ما هذا إلا حصاد- ليزور- كان زرعها - ماسو- (مدام ماسو كانت قائدة الحركة لتحرير النساء)- صفحة- 18 وجاء الصفحة 22 قوله أيضا ..
قضية مفتعلة(1/97)
" الحقيقة أن قضية المرأة لا يراد بها إلا توريطها لكي تدخل في خطتهم- ( الغرب- الاستعمار) -لأنها محل فتنة وقد استعملت في الغرب في هدم أسرة وقد هدمت... وهي الآن وسيلة إشهار ووسيلة اتجار. إنها ذات قيمة مادية أما عندنا فالمرأة شريفة تبلغ من القيم مبلغا لا يجعلها موضوع مساومة ولا موضوع اتجار ولا موضوع احتكار. المرأة عندنا إذا كان الإنسان في إنسانيته قد كرمه الله فإن المرأة زادت تكريما حتى اعتبر شأنها شرفا لأخيها الرجل ... إن هذا البعد القدسي.. هذا البعد الإنساني.. هذا البعد الحضاري ..هذا البعد الرسالي الذي تتمتع به المرأة المسلمة في الأمة الإسلامية... لا نكاد نجده... عودوا إلى تاريخ أوروبا .كيف تجدون أن النساء إذا شاركن.. شاركن في المؤامرات..شاركن فيما كان موضوع فتنة وموضوع حروب واشكالات."
ثم يخلص إلى القول بأن "قضية المرأة هذه قضية مفتعلة. أرادوا بها ما أرادوا.
الشيوعيون يستغلون قضية المرأة
فبالنسبة للشيوعيين اليوم وغيرهم هؤلاء الذين فقدوا مبرر وجودهم في روسيا ويوغسلافيا و تشيكوسلوفاكيا.. أرادوا أن يجدوا مبرر وجودهم هنا بتبني هذه القضايا ظنا منهم لما لاحظوا أغلبية النساء على نسبة الرجال قالوا " يمكن لنا وقد مال الرجال إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ ... لم لا نستميل المرأة نحن..."
نحن بنات فاطمة لا جان دارك
وأما المغالطة الواقعية فنأخذ تصحيحها من أفواه النساء اللائى شاركن في التظاهرة الضخمة التي حصلت يوم 31/12/1989 والتي جاءت كرد ساحق وكاسح على كل التجمعات السابقة التي قام بها العلمانيون واليساريون المتباكون على مصير الجزائر التي ينمو فيها المد الإسلامي بصورة سريعة جدا- على حد تعبير مراسل المجتمع في عددها 953- وكانت الشعارات المرفوعة فيها ( احكمونا الإسلام -لا للغزو الثقافي- لا للائكية- لا للانحلال -لا للعنف- النساء شقائق الرجال- نحن بنات فاطمة ..ولسنا بنات جان دارك.)(1/98)
فقد جاء على لسان إحدى خريجات معهد علم الاجتماع قولها " أن الأسرة بوصفها نواة المجتمع تتعرض لأخطار تريد إزالة قداستها و تعرية وجودها..أخطار ترجع إلى تلك المحولات التي قامت بها مدرسة العلوم الاجتماعية والماركسية لهدم الأسرة. أضف إلى ذلك الدعوات المثارة بهدف تبرير العلاقات غير الشرعية بين الرجل والمرأة واعتبار الزواج مجرد رابطة عقدية مدنية لتحريرها من السند الديني والعقيدي الذي يحميها من عواطف الانحلال و التهور ولتعلم أن هدف التغريب و الاستعمار والماركسية والصهيونية العالمية هو تقويض المجتمع المسلم بتحطيم المرأة المسلمة..."
وجاء على لسان- مربية- شاركت في المظاهرة قولها "إننا واعيات بما يحاك ضدنا وحولنا وباسمنا ولسنا مغفلات بل كيسات وفطنات وندرك أن الهجوم على الإسلام من خلال موضوع المرأة ليس إلا خطوة كتلك الخطوات التي تعيشها الأحزاب اللائكية المعادية للثوابت المقدسة للشعب "
تعليل يدحضه الواقع
وفي جوابها على سؤال حول تنامي التيار الأصولي والأسباب التي كانت وراء بروزه وازدهاره وتوسعه قالت رئيسة جمعية تحرر المرأة "....أما عن تنامي التيار الأصولي في الساحة الجزائرية فانه جاء نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادنا ومن الصمت السياسي و تهميش الثقافة بما ساهم في تعميم الجهل والقهر الفكري وبعد الإصلاحات السياسية برز هذا التيار لأن له تواجد في المجتمع ولأن له خاصة إمكانيات مالية مهولة فمساندوه من كبار التجار إلى جانب تمتع هذا التيار بوسائل الإعلام الوطنية وأساسا التلفزة و الإذاعة والصحف..."(1/99)
وهذا -كما لا يخفى على فطنة القارئ- تحليل رجعي مهزوز وممجوج لا يصمد أمام الحقائق الموضوعية التي يعلنها الدكتور عباس مدني عندما يتحدث عن الأسباب الحقيقية لبروز التيار الإسلامي في الساحة الجزائرية ويضع النقاط على الحروف فيما يخص الإعلام الجزائري الذي تدعي- رئيسة الجمعية النسائية- انحيازه وتدعيمه للإسلاميين..
الإسلام درع الشعب
أ) قال الشيخ عباس في جوابه على سؤال "المجتمع" حول المبررات التي كانت وراء تأسيس الجبهة الإسلامية.."الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تؤسس كجمعية على موائد السهرات وبمناسبة فرص اللقاءات وإنما هي بنت الحدث.. إن الجزائر بلد مسلم وكان الإسلام درع هذا الشعب.. تأزمت الأوضاع فاحتلت الجزائر ولكن الشعب الجزائري لم يستسلم وكان محتلوا الجزائر كفرة... فكان الشعب الجزائري يواجه ذلك ب لا اله إلا الله محمد رسول الله بحركته الإصلاحية التي قام بها العلماء المسلمون الجزائريون...وتأزمت الأوضاع ومثلت الأحزاب السياسية على اختلاف غاياتها ومناهجها وطرقها في العمل السياسي عندئذ تفجرت الثورة أول نوفمبر1954 ووزعت الثورة بيانا في مطلعه إننا حملنا السلاح ولن نضعه بإذن الله إلا بإقامة دولة جزائرية حرة مستقلة على أساس المبادئ الإسلامية. لكن الثورة كانت عنيفة .... ووضعت في مؤتمر طرابلس وثيقة أيديولوجية للمرحلة الانتقالية على أساس علماني اشتراكي ومنذ ذلك العهد وعلى الرغم من أننا خرجنا متعبين من ثورة عميقة قاسية فقد استأنفنا عملنا الإسلامي وعلى الرغم من اتصالاتنا المباشرة بالمسؤولين أيام بن بلا وبومدين وفي العهد الحالي أيضا كلما جاء مسؤول اتصلنا به وبينا له أن البلاد لا يمكن أن تنهض إلا بالإسلام.... لكنهم لم يقبلوا النصيحة وكانت النتيجة في النهاية أن انتهت إلى الأزمة الاقتصادية التي برهنت على فشل النظام السياسي في كل مراحله".
الإعلام مسخر للأهداف الاستعمارية(1/100)
ب) وأما بخصوص الإعلام فيقول الدكتور عباس في حواره مع رئيس تحرير مجلة- الحوار- " بالنسبة إلى الإعلام الجزائري فإنني لا اعتبره إعلاما وطنيا والدليل انه مسير من الخارج مسخر لكل أهداف السياسة الاستعمارية بما في ذلك سياسة الغزو الفكري. لا شك أنكم تفرقون بين الجرائد التي ظهرت أيام النهضة السياسية في الثلاثينات والجرائد التي كونتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين -(الجزائر الحرة- الشهاب- المنار...) انظروا إلى هذه الصحافة كيف كانت تواجه الشعب الجزائري وكيف كانت وفية للوطن. بينما أجهزة اليوم تراها على عكس ذلك بدليل أنها تواجه هذه الحركات اليوم تواجهها لتحطمها ولا تعمل من اجل إذكاء عبقرية أصحابها ... تواجهها لكي تجرها إلى الخطة الاستعمارية التي تريد السياسة الاستعمارية أن ينجروا إليها... فقضية العنف أو شبهة العنف- مثلا - التي يوصف بها الاتجاه الإسلامي عامة وتوصف بها الجبهة الإسلامية خاصة ليبرروا عدم استحقاقه للقانونية.. متى أثيرت هذه القضايا؟ عندما أرادوا أن يزرعوا التوتر في البلاد."
فأنى لإعلام بهذا الوجه وبهذه التبعية أن يخدم قضايا الإسلاميين ويفسح لهم مجالا في منابره لتبليغ طروحاتهم وترويج بضاعتهم...كما تزعم رئيسة جمعية تحرر المرأة .. هذه الجمعية التي نحتوها وقننوها لتكون حجر عثرة في طريق الصحوة الإسلامية في الجزائر..
ولكن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى .. إذا لم تستح فاصنع ما شئت ... أو فقل ما شئت..
.
هل تلطخ الرحلات الفضائية بالممارسة الجنسية..(1/101)
ألفان وأربعمائة يوم (2400) أي ست سنوات وسبعة اشهر بليلها ونهارها وفصولها الأربعة... أو بحساب الساعات ما يعادل 57600 ساعة قضاها الإنسان خارج الجاذبية الأرضية متنزها في أرجاء الفضاء العميق الشاسع عبر رحلات علمية دراسية واستطلاعية منذ أول رحلة فضائية قام بها يوري فافارين عام 1961 ومرورا بالرحلة الكبرى التي أتيح فيها للإنسان عام 1969 أن تلامس أقدامه ارض القمر...إلى اليوم..
وباختصار فإن اكثر من مائتي شخص من قوميات مختلفة بمن فيهم مواطنان عربيان انطلقوا إلى الفضاء الخارجي في إطار هذه الرحلات.
السيد ليفين... غاضب..
ولكن رغم هذا الحشد الهائل من الإنجازات التي أصبحت علامة القرن العشرين ومفخرة الإنسان المعاصر.. فإن السيد روي ليفين- المستشار في معهد الأبحاث الطبية البيولوجية الفضائية بجامعة شفيلد يبدو غاضبا إلى حد ما ومتوترا بعض الشيء ومن يدري فلربما يترجم احتجاجه عبر إضراب جوع مفتوح في صورة مواصلة زملائه التسويف في تنفيذ رغبته- فماذا يريد السيد ليفين..
تصدير الممارسة الجنسية إلى الفضاء..
فقد اعلم العالم البريطاني عن قلقه لنقص الأبحاث عن ممارسة الجنس في الفضاء... وطالب بإجراء مزيد من التجارب في هذا الصدد .. وقال- روي ليفين-" المستشار في معهد الأبحاث الطبية البيولوجية بجامعة- شفيلد- لصحيفة "صنداي اكسبريس" يجب أن نخطط من الآن للإقامة في الفضاء لفترات طويلة ومن اجل ذلك يجب أن نحيط إحاطة تامة بمسالة الحياة الجنسية للبشر في الفضاء ..ويريد- ليفين- أن تجري البعثة البريطانية السوفيتية المشتركة التي ستنطلق إلى الفضاء عام 1991 اختبارات على إحصاء عدد الحيوانات المنوية وتأثير السفر في الفضاء على الأداء الجنسي.(1/102)
وقال ليفين في ورقة بحث نشرتها إحدى الصحف المتخصصة انه رغم قضاء رواد الفضاء الأمريكان والسوفيات نحو 2400 يوم في الفضاء منذ أول رحلة فضائية قام بها السوفيتي فافارين عام 1961 فإن المعلومات المتاحة عن تأثير السفر في الفضاء على الجهاز التناسلي و على الممارسة الجنسية للبشر قليلة جدا وتكاد تكون معدومة..
الخطأ والصواب في دعوة ليفين
هذا الاقتراح الذي افصح عنه السيد ليفين بقوة وحماس نابع أساسا من اختصاصه و بالتالي فهو يشكل لديه هما مهنيا بدرجة أولى وهذا من حقه طبعا.. إلا انه ليس هما إنسانيا عاجلا يستبيح تأييدنا وتشجيعنا..
وواضح من كلام السيد ليفين انه يتهم مبرمجي الرحلات الفضائية السابقة في إغفالهم لهذه المسالة الحساسة والهامة حسب زعمه.. وهو إن كان يعذرهم لا محالة فيما سلف من ماضي الرحلات فانه لن يتسامح معهم في ضرورة جدولتها مستقبلا باعتبار أن الإقامة قد تطول بالرواد في الفضاء الخارجي ومن حقهم التمتع بمواصلة حياتهم الجنسية كما هو الشان لزملائهم في الأرض. وعليه فمن الضروري أن تسبق ذلك تجارب جادة ومتنوعة لتوفير معلومات ومعطيات دقيقة وشاملة في هذا المجال.(1/103)
وعندما نبسط القول- دون التوغل في محاكمة النوايا واتهام المقصد- نرى أن السيد- ليفين- يطلب من رواد الفضاء أن يمارسوا الجنس ممارسة صريحة وعادية.. -مع من.... ليس هذا قضية من وجهة النظر الغربية المهم أن تتوفر معلومات عن طعم "الرذيلة" خارج الجاذبية الأرضية وعن طعم "الجنس" خارج الإطار الأرضي المألوف .. ما لونه.. ما ذوقه ..ما درجة انخفاضه وارتفاعه.. ما درجة حرارته وبرودته... حتى يتجمع لدى القوم البوم من الصور الملونة والأفلام الحية الناطقة تكون في النهاية مادة فريدة وغريبة في نفس الوقت كافية لعملية اشهارية مغرية حول رحلات فضائية جنسية بعيدة عن الرقابة الأرضية ومغايرة للنمط الأرضي المألوف.. يسيل لها لعاب الزبائن وتفتح شهيتهم النووية للرذيلة والشذوذ ... وتساهم في النهاية في توسيع دائرة الانخراط في الفساد والإفساد ...
... ومن التجارب ما قتل..(1/104)
وهنا قد ينفعل أحد المتحمسين فيقول معترضا "الاقتراح بريء والرجل عالم ويعرف ما يقول... فما الداعي إلى تهويل الأمر بمثل هذا التحليل التآمري والاتهام المتخلف.. دعوا القوم يقترحون ويعملون .. انهم هم السادة .. هم الذين ابتداوا هذا الأمر- غزو الفضاء- وملكوا ناصيته ورسموا خرائطه وصنعوا أدواته وبذلوا من اجله الكثير ... واكتفوا انتم إن شئتم بالمشاهدة والاستهلاك.. فقط المشاهدة والاستهلاك.." وينسى أمثال هؤلاء المعترضين في غمرة حماسهم أن التجارب علمتنا أن كثيرا من المقترحات والنظريات والإنجازات تولد بريئة... ولكن حصيلتها في النهاية دمار وفجائع وفساد.. بما أن العقلية التي تحتكر إنجازها وتنفيذها والبيئة التي تحتضنها وتتبناها ... لا تولي اهتماما للقيم والأخلاق ولا تمتلك رؤية واضحة وصالحة للحد الفاصل بين الحلال والحرام والطيب والخبيث.. وهي تصر على النظر بعين واحدة عين المتعة والمصلحة... والغاية عندها تبرر الوسيلة... وليست مستعدة أن تبسط خارج ذاتها غير يد واحدة يد الاستغلال والاستكبار وشواهد الأمس واليوم على ذلك اكثر من أن تحصى . ودعونا نذكر في هذا المجال بقول العالم "اوتوهان" حينما علم أن تلاميذه استغلوا الطاقة الذرية في صناعة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما و ناغازاكي " إنها غلطتي.. لقد علمتهم العلم ولم أعلمهم الأخلاق" والخطأ في اقتراح- ليفين- انه نظر إلى الجانب العلمي وأهمل الجانب القيمي الأخلاقي الإنساني..
مصيبة البشرية المعاصرة(1/105)
ولعل من سوء حظ البشرية في عالمنا المعاصر أن الذين يمسكون بقيادتها ويتحكمون في مناطق الضغط فيها ويحتكرون أزرار النفع والضر وإشارات الحرب والسلم ... لا يعترفون بصيغ الحلال والحرام في الفعل والسلوك... ولا يعتمدون المعيار الأخلاقي فيما ينظرون ويطبقون وفيما يخترعون وينجزون.... ومن ثم تتالت الويلات والمصائب وتنوع التدمير والفساد واتسعت خريطة المعاناة الإنسانية لتشمل تضاريسها الجوع والحرب والاستعمار ... صحيح أننا نعيش في عصر العلم إلا أن الحقيقة- كما يقول رينود بو "هي أن الميدان العلمي كما يدار الآن ليس فيه توازن يسمح للعلم بان يكون ذا فائدة تذكر في إدارة أمور الإنسان . لقد جمعنا كما هائلا من المعلومات حول المادة وتقنية قوية لضبط واستغلال العالم الخارجي ومع ذلك لا يزال جهلنا فاضحا بالآثار التي قد تنتج عن اللعب بمهاراتنا هذه ... ونتصرف غالبا وكأننا آخر جيل يعيش على الأرض " أو كما نقل عن رئيس بلدية -كليفلند- قوله" إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ على أساس أننا الجيل الذي رفع انسانا إلى القمر ... بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات .."
و بعد هذا يؤسفنا أن يفكر العلماء في تلطيخ الفضاء بممارسات الرذيلة..
بعد نصف عام من تركيز القناة الفرنسية بتونس?
الاستفزاز الجنسي مستمر والعلمانيون يفلسفون الضرورة(1/106)
مع انتهاء شهر نوفمبر للعام المنصرم انقضت نصف سنة على تركيز القناة الثانية الفرنسية المباشرة بتونس باعتبار أن البث ابتدأ يوم 2 يونيو 1989 و للتذكير فانه منذ بداية بثها المباشر المشحون غالبا بمفاجآت الرذيلة والميوعة والمنكر... كانت ردود الفعل تتتالى وتتنوع مدا وجزرا بخصوص مشاهد الجنس الفاضحة التي صدمت ومازالت تصدم ضمير الرأي العام التونسي المسلم واستفزت ومازالت تستفز المواطن في عقيدته و قيمه وأخلاقه وسلوكه وهو في عقر داره وفي عمق وطنه.. ولكن بما أن الأمر خيار رسمي سياسي و ثقافي تتبناه السلطة.. فان صوت الاحتجاج الشعبي ظل- كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف- فقد ضاع وتلاشى واغتيل في زحمة التبرير المضاد الذي تولى كبره وما يزال العلمانيون على اختلاف أسمائهم عبر صفحات جرائدهم ومجلاتهم وتحقيقاتهم المشبوهة..
وفي هذا المقال سنقف على مثال من هذه التحقيقات المغرضة لنرى كيف يفلسف العلمانيون ضرورة عرض مشاهد الممارسات الجنسية على الطريقة الفرنسية عبر طبعات القناة الثانية ..
تسويق الضلال..
ففي صفحة- حياة الناس- بجريدة الصدى الأسبوعية الصادرة يوم 6 ربيع الأول 1410هجري الموافق 17 أكتوبر 1989 تصطدم بتحقيق تحت عنوان " انتان 3 الا1 " موقع بإمضاء مستعار هو- صابرة- و مرفق بصورة جنسية ماخودة من مشاهد إحدى العروض بهذه القناة.
وقد استجوبت فيه صاحبته كما تقول "بعض النماذج من أجيالنا الصاعدة لأخذ رأيهم فيما يرونه من مشاهد (المجون والخلاعة) في التلفزة بما أن آبائنا و أجدادنا وأمهاتنا وجداتنا قد فصلوا القول ورفضوا الجدال في مثل هذه الضلال.."(1/107)
وغير خاف على فراسة المؤمن ووعي المسلم أن التحقيق- موضوع الحال- يندرج ضمن التحقيقات التآمرية المتهمة التي يحاول من خلالها القائمون عليها غسل دماغ القارئ المستهلك بفرض لوجهة نظر أحادية ملمعة ومضخمة في موضوع حساس كهذا ... وتوجيه الرأي العام من خلال تسويق الآراء التبيرية والمواقف المتحمسة والمؤيدة مع تهميش وتعتيم وغمز الرأي الآخر المناهض و المعارض ...ودعني أسوق لكم في هذا المضمار ديباجة المحققة حيث تقول "... لم تكن مهمتنا عسيرة عند قيامنا بهذا التحقيق كما أن الموضوع وقعت الإشارة إليه من قبل بل إن الأغلبية أظهرت اهتماما كبيرا بالموضوع أجابت بكل صراحة وعفوية مفسرة و معللة في اكثر الحالات . وكانت الابتسامة تسبق الإجابة عن السؤال." ثم تضيف قولها عن الطرف الآخر "ومن المؤيدين لمشاهد القراء وتبادل القبلات نمر إلى الساخطين والداعين إلى حذف مشاهد (المسخرة وقلة الدين ) وهؤلاء في الواقع لم يكن عددهم هاما..ولكنهم مصرون على ما ذهبوا إليه وقد وردت على ألسنتهم تقريبا نفس الحجة..(حراسة) أخلاق أبنائنا وبناتنا من الفساد و الحفاظ على الحياء و الحشمة"..
فما هو التفسير المعلل المزعوم الذي تنقله المحققة عن المؤيدين لمشاهد العراء و الممارسات الجنسية بهذه القناة /اللعينة..
أ- الواقعية الجنسية..
يعلل جانب من المستجوبين والمستجوبات المسالة بالواقعية الجنسية العادية التي يجب عرضها واستهلاكها كما هي بلا خلفيات ولا احتراز ولا فلسفة...وبالتالي فلا داعي لإخفائها وتجاهلها وإحاطتها بهالة من الألغاز..
تقول إحدى المستجوبات وهي طالبة بكلية الآداب "نحن نعيش على مشارف القرن الواحد والعشرين ولا نزال في أمر "فبلة"في التلفزة..نراها أم لا نراها..الأمر حسب اعتقادي ابسط من البساطة نفسها لان كل ما يحدث بين امرأة ورجل هو شيء طبيعي ولا أرى داعيا لإحاطته بهالة من- الألغاز-.."(1/108)
وتعلق المحققة بحماس على كلام الطالبة بقولها " موقف واضح وصريح لا يتطلب تعليقا ولا تعريجا بل انه يجد العديد من المساندين.."
وأما المستجوبة الثانية وهي موظفة بإحدى وكالات السفر فتقول بكل صفاقة " إني أدعو إلى الإطالة في مثل هذه المشاهد فهي تنعش الروح..فليس أحلى و ألذ من الحب والمحبين واعتبر أن كل من يرفض هذه المشاهد بدعوى أنها تمس بالأخلاق 'هو إنسان مريض ومعقد' فالذي نراه على الشاشة هو أمر طبيعي وهو تصوير لطبيعة العلاقة بين كل رجل و امرأة في الواقع لذا لا أرى أي مبرر للخجل والاضطراب أثناء رؤية مثل هذه المشاهد..كما انه لا داعي إلى إخفاء أمور حياتية كهذه أو تجاهلها.."
ومن المستجوبين أستاذ يقول " إن رفض إدراج بعض المشاهد المثيرة في التلفزة والتصدي لكل برنامج بسبب قبلة طائشة أو امرأة عارية هو من قبيل الجهل.. كما يعتبر رفضا لطبيعته كانسان لذا يرى انه كل ما هو طبيعي لا يدعو إلى الخجل والى التحرج.... ومن جهته فهو لا يرى مانعا من رؤية مثل هذه المشاهد صحبة ابنته..
ب- فرصة للتثقيف الجنسي..(1/109)
وأما القسم الثاني من المستجوبين الذين اختارتهم المحققة فيبررون ضرورة عرض واستهلاك مشاهد العراء والممارسات الجنسية التي يتكرم بها الغرب علينا عبر القناة الفرنسية بأنها فرصة مجانية مناسبة للتثقيف والتربية الجنسية وتدريب المشاهد على نسيان عقده وتفريغ كبته.. من ذلك ما جاء على لسان أستاذ في إجابته على سؤال المحققة إذ قال "نحن لم نتلق تربية جنسية واضحة ولم نتوصل إلى حد الآن للقضاء على عقدنا ولا أود أن يكبر أطفالي وهم يحملون نفس هذه العقد .. لذا فأنا اعتبر أن عرض مثل هذه المشاهد في تلفزتنا يعطي الأطفال فكرة عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في سن مبكرة وهذا من شأنه أن يجعلهم يعتبرون الجنس شيئا عاديا .أقول هذا عن دراية وتجربة فقد أصبحت ابنتي التي لم تبلغ بعد الأربع سنوات تتعامل مع هذه المشاهد بكل تلقائية بل تعودت رؤيتها فلم تعد تصدمها أو تخجل عند مشاهدتها وهذا هام جدا لتوازنها النفسي.."
وتقول ربة أسرة في هذا المضمار " لا أرى أي حرج في رؤية هذه المشاهد صحبة أطفالي بل بالعكس اعتبرها مفيدة لتربيتهم إذ تجعلهم ينظرون إلى الجنس على انه جزء أساسي في الحياة بل و ضروري لتوازن الإنسان و بهذه الطريقة يمكن كسر جدار الكبت و القضاء على العقد التي تكبل مجتمعنا وخلق جيل سليم ومتزن.."
وتضيف أم أخرى قولها "أنا ضد الشذوذ وضد مشاهد العنف إذ يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية على تربية أطفالنا أما كل ما له علاقة بالجنس فهو طبيعي وكل ما هو طبيعي جميل ولا يحرج في شيء ..ثم إن هذه المشاهد التي يسميها البعض- خليعة- لها مزاياها ومن أهمها أنها تعفيني من تفسير أشياء قد لا احسن تفسيرها لأطفالي ..."
....وبعد(1/110)
هذه إذن نماذج من الأجوبة- التفسيرية المعللة -التي انتزعتها صاحبة التحقيق من عناصر يسارية وعلمانية مقصودة ... أرادت من خلالها استدراج القارئ المستهلك إلى وهم التسليم بضرورة إباحة وقبول هذه المشاهد ..مشاهد العراء و القبلات .. و كسر حاجز التردد و عقدة الخجل أما الأجوبة الأخرى المنددة و المعارضة لهوى المحققة فتوردها في آخر التحقيق بصيغة كاريكاتورية واصفة إياها بالبساطة والجهل والتزمت..فمن قال أن الفرنسيين كانوا مبالغين حين اعتبروا أن أهم حدث في زيارة -ميتران- لتونس يوم 6يونيو1989 كان هو الإعلان عن اتفاقية حول بث قناة تلفزية فرنسية مباشرة نحو تونس...
الفهرس العام للموضوعات :
في سبيل تجاوز موقف الإنبهار
من جانب المحراب يبدأ سيرنا للمجد
الحركة الحضارية وغياب المشاركة الإسلامية المعاصرة
إنهم يفلسفون قتل الإنسان
الطاهر بن جلون يسب الدين في ليلة القدر
صورة اليهودي في الأدب الروسي
من "جون "إلى "حسين" رحلة عذاب
الطفولة بين شراسة الهدّامين ورحمة الإسلام
أطفالنا وسيّئات المجتمع
شبابنا في وجه الإعصار الغربي
الشباب الإسلامي : الفاعلية والعوائق
اعترافات طالبة ماركسية تائبة
الفتاة المسلمة ومعاناة الإلتزام في مجتمع التغريب
"الإسلاميون والمرأة : مشروع الإضطهاد" : دراسة موضوعية أم سفاهة يسارية؟
ردا على تصريح حركة تحرير المرأة في الجزائر
هل تلطّخ الرحلات الفضائية بالممارسات الجنسية؟
بعد نصف عام من تركيز القناة الفرنسية بتونس : الإستفزاز الجنسي مستمر والعلمانيون يفلسفون الضرورة(1/111)